كلمات القرآن وعدد ذكرها في القرآن الكريم


الدنيا – 115 الآخرة – 115
الملائكة – 88 شياطين – 88
محمد – 4 شريعة – 4
الناس – 50 أنبياء – 50
صلاح – 50 فساد – 50
ابليس – 11 الاستعاذة منه – 11
رجل – 24 امرأة – 24
الحياة – 145 الموت – 145
الصالحات – 167 السيئات – 167
الجهر – 16 الكتمان – 16
المصيبة – 75 الشكر – 75
الهدى – 79 الرحمة – 79
لاحظوا الكلمة وضدها

وهناك بعض الكلمات تضاعف عدد ورودها لحكمة إلهية
جزاء – 117 المغفرة – 234
يعني الضعف ، لماذا؟ لأن رحمة الله وغفرانه يسعان كل شي
العسر – 12 اليسر – 36
يعني 3 أضعاف، لماذا؟ لأنه لن يغلب عسر يسرين

ومن الملاحظات الهامة في الاحصائيات:
كلمة (الصلاة) ذكرت 5 مرات
والصلوات 5 مرات باليوم
وكلمة (يوم) ذكرت 365 مرة
وفي السنة 365 يوما

ومن المعجزات الالهية في القرآن:
كلمة (أرض) ذكرت 13 مرة و(بحر) 32 مرة
وإذا حاولنا إيجاد نسبة مئوية للتكرار في الحالتين فإننا نجد أن تكرار كلمة (بحر) تعادل 71% أما كلمة (أرض) 29% وهي النسب الفعلية لنسبة البحار إلى اليابسة على سطح كوكبنا
سبحانك ما اعظمك يااربي

“التأصيل القرآني لعلم العقيدة عند أشاعرة الغرب الإسلامي بين القرنين 6-9 ه واستثماره في تجديد الدرس العقدي بالمغرب_د. عبدالحميد مومن

يقول د. عبدالحميد مؤمن، تمت مناقشة أطروحتي التي تقدمت بها قصد نيل شهادة الدكتوراه تحت عنوان “التأصيل القرآني لعلم العقيدة عند أشاعرة الغرب الإسلامي بين القرنين 6-9 ه واستثماره في تجديد الدرس العقدي بالمغرب”
وقد ضمت لجنة المناقشة كلا من الأستاذة المشرفة د.فريدة زمرد رئيسا؛ ود.سعيد شبار عضوا، ود.جمال علال البختي عضوا، ود.أحمد السنوني عضوا، ود.عبد العظيم صغيري عضوا،
وقد قررت اللجنة منحي شهادة الدكتوراه بميزة مشرف جدا مع التوصية بالطبع،
وبهذه المناسبة أتقدم بالشكر الجزيل للأستاذة المشرفة التي أشهد الله أنها رعت هذه الأطروحة رعاية خاصة منذ أن كانت فكرة؛ فدافعت عنها إلى أن قبلت من قبل اللجنة العلمية بدار الحديث الحسنية، ثم استمرت هذه العناية إلى أن استوت الأطروحة فتخيرت لها من رجالات العلم من أساتذتنا من ناقشها مناقشة دقيقة مفصلة أحمد الله تعالى أن رزقنيها.
كما أشكر لجنة المناقشة لما أهدوه لي من ملاحظات وتقويمات فرحت بها كثيرا نظرا لدقتها وتغطيتها كل أجزاء البحث.
كما أشكر من حضر من أساتذتي الأفاضل د.عبد المجيد الصغير ود.فؤاد بن أحمد Fouad Ben Ahmed ود.محمد الصادقي الذي شرفني بقدومه من فاس قصد حضور المناقشة ود. عمر مباركي ود.عبد الحميد عشاق ود.عبد المنعم الشقيري.
وأشكر من حضر من زملائي وأصدقائي كل باسمه وجميل وسمه.
كما أشكر والدي ووالدتي وإخوتي وزوجتي الذين ساندوني في جميع مراحل بحوثي الجامعية.
وإذا كانت هذه الأطروحة قد تلقتها لجنة المناقشة بالقبول وأشادت بالمجهود المبذول في إنجازها؛ فما ذلك إلا نتيجة طبيعية لبيئة أسهم في توفيرها كل من أساتذتي وزملائي وعائلتي الصغيرة والكبيرة.
جزاكم الله عني خيرا وجعلني عند حسن ظنكم.

وهذه بعض إرتسامات الأستاذة المُشرفة على الأطروحة وبعض الأساتذة الفضلاء :

موت الغرب..

هو أخطر كتاب لكاتب أمريكي اسمه موت الغرب للمؤلف الأمريكي باتريك جيه بوكانن.
ولمن ﻻ يعرف الكاتب، فهو سياسي ومفكر أمريكي معروف، عمل في منصب مستشار لثلاثة رؤساء أمريكيين، وهو كاتب لعمود صحافي دائم في عدد من الصحف الأمريكية، ومؤسس لثلاثة من أشهر برامج التلفزيون في أكبر قناتين أمريكيتين ( إن. بي. سي) و(سي. إن. إن).
ألف عديدا من الكتب، منها :

  • يوم الحساب
  • حالة طارئة
  • عندما يصير الصواب خطيئة
  • الخيانة العظمى.
    والكتابان المشهوران جدا :
  • محق منذ البداية
  • جمهورية لا إمبراطورية
    واللذان كانا من أكثر الكتب مبيعاً في الولايات المتّحدة.
    والكتاب الذي نحن بصدده “موت الغرب”، هو كتاب مهم وعلى جميع النخب في العالم الاطلاع عليه وقراءته.
    فهو يبشر بموت وإنتهاء الغرب. والمؤلِّف في هذا الكتاب ينبه إلى أن الموت الذي يلوح في أفق الغرب هو في الواقع موتان:
    موت أخلاقي بسبب السقوط الأخلاقي الذي ألغى كل القيم التربوية والأسرية والأخلاقية التقليدية، وموت ديموغرافي وبيولجي (النقص السكاني بالموت الطبيعي).
    ويظهر بوضوح في العائلة وفي السجلات الحكومية التي تشير إلى اضمحلال القوى البشرية في الغرب وإصابة ما تبقى منها بشيخوخة لا شفاء منها إلا باستقدام مزيد من المهاجرين الشبان، أو بالقيام بثورة حضارية مضادة تعيد القيم الدينية والأخلاقية إلى مكانتها التي كانت من قبل.
    ويقول الكاتب: إن الموت المقبل مريع ومخيف، لأنه وباء ومرض من صنع أيدينا ومن صناعة أفكارنا، وليس بسبب خارجي، مما يجعل هذا الموت أسوأ بكثير من الوباء الأسود الذي قتل ثلث سكان أوروبا في القرن الرابع عشر.
    فالوباء الجديد لا يقتل إلا الشباب، مما يحول الغرب عموما وأوروبا بشكل خاص إلى “قارة للعجائز” !!

القصة ليست مجرد تخمينات أو توقعات أو احتمالات، وإنما هي حقيقة واقعة، وسوف تصدمك لشدة وضوحها، خاصة عندما تبدأ الأرقام بالحديث !!

فوفقا للإحصاءات الحديثة، فقد هبط معدل الخصوبة عند المرأة الأوروبية إلى طفل واحد لكل امراة، علما أن الحاجة تدعو إلى معدل طفلين كحد أدني لتعويض وفيات السكان الموجودين الآن، دون الحديث عن زيادة عددهم. وإذا بقيت معدلات الخصوبة الحالية على ما هي عليه، فإن سكان أوروبا البالغ عددهم 728 مليون نسمة بحسب إحصاء عام 2000م سيتقلصون إلى 207 ملايين في نهاية هذا القرن إلى أقل من الثلث.
وفي المقابل، ففي الوقت الذي تموت فيه أوروبا لنقص المواليد، يشهد العالم الثالت الهند والصين ودول أمريكا اللاتينية، وخاصة المسلمين، انفجارا سكانيا لم يسبق له مثيل بمعدل 80 مليونا كل عام. ومع حلول عام 2050م, سيبلغ مجمل نموهم السكاني 4 مليارات إضافية، وهكذا، يصبح كابوس الغرب حقيقة وتصبح أوروبا بكل بساطة ملكا لهوﻻء بعد وقت ليس بالبعيد!

ويقول المؤلف:إن الأرقام تصبح مخيفة أكثر عند تناولها لتشخيص مرض النقص السكاني على مستوى الدول والأمم بعد 50 عاما من الآن.

ففي ألمانيا، سيهبط التعداد السكاني من 82 مليونا إلى 59 مليون نسمة، وسيشكل عدد المسنين ممن تجاوزوا الـ 65 عاما أكثر من ثلث السكان.
أما إيطاليا، فستشهد تقلص عدد سكانها البالغ 57 مليونا إلى 41 مليونا، وستصبح نسبة المسنين 40 % من التعداد العام للسكان.
وفي إسبانيا، ستكون نسبة الهبوط 25%.
وستشهد روسيا تناقص قواها البشرية من 147 مليونا إلى 114 مليون نسمة.
ولا تتخلف اليابان كثيرا في اللحاق بمسيرة الموت السكاني، فقد هبط معدل المواليد في اليابان إلى النصف مقارنة بعام 1950 وينتظر اليابانيون تناقص أعدادهم من 127 مليون نسمة إلى 104 ملايين عام 2050م.

أرقام مخيفة لكن السؤال المحير: لماذا توقفت أمم أوروبا وشعوبها عن إنجاب الأطفال وبدأت تتقبل فكرة اختفائها عن هذه الأرض بمثل هذه اللامبالاة؟
يقول المؤلف: إن الجواب يكمن في النتائج المميتة لهذه الثقافة الجديدة في الغرب، والموت الأخلاقي الذي جرته هذه الثقافة على الغربيين هو الذي صنع موتهم البيولوجي.

فانهيار القيمة الأساسية الأولى في المجتمع (وهي الأسرة)، وانحسار الأعراف الأخلاقية الدينية التي كانت فيما مضى، تشكل سدا في وجه منع الحمل والإجهاض والعلاقات الجنسية خارج إطار المؤسسة الزوجية، إضافة إلى تبرير، لا، بل تشجيع العلاقات الشاذة المنحرفه بين أبناء الجنس الواحد، كل هذا دمر بشكل تدريجي الخلية المركزية للمجتمع وأساس استمراره، ألا وهي الأسرة.
وتبدو لغة الأرقام هنا أكثر هولا!
فقد ارتفع الرقم السنوي لعمليات الإجهاض في الولايات المتحدة من ستة آلاف حالة سنويا عام 1966 إلى 600 ألف عام 1976 بعد أن سمح بالإجهاض واعتبرت عملية قتل الأجنة حقا للمرأة يحميه الدستور!
وبعد عشر سنوات، وصل الرقم إلى مليون ونصف حالة إجهاض في العام الواحد.

أما نسبة الأطفال غير الشرعيين، فهي تبلغ اليوم 25 في المائة من العدد الإجمالي للأطفال الأمريكيين، ويعيش ثلث أطفال أمريكا في منازل دون أحد الأبوين (إما بدون الأب وهو الغالب، وإما بدون الأم).

ومؤشر آخر خطير!
فقد بلغ عدد حالات الانتحار بين المراهقين الأمريكيين ثلاثة أضعاف ما كانت عليه عام 1960.

أما عدد مدمني المخدرات (المدمنين وليس المتعاطين)، فقد بلغ أكثر من ستة ملايين شخص في الولايات المتحدة وحدها!
وقد تناقص كثيرا أعداد الشبان والشابات الراغبين في الزواج.

ومن الطبيعي لمجتمع يسمح بالحرية الجنسية الكاملة، ويتيح المساكنة بين الرجل والمرأة دون أي رابط شرعي أو قانوني في بيت واحد، وخوف الرجل من قانون الأحوال الشخصية الظالم، حين تأخذ الزوجة نصف ثروته في حالة الطلاق، واضطرار المرأة للقبول بالمساكنة بدون زواج بسبب حاجتها إلى رجل يقف معها ويحميها، ناهيك عن الحاجة البيولوجية ، أن يصل لهكذا نهاية!

أما قضية الشذوذ الجنسي وقانون الزواج بين أبناء الجنس الواحد، فحدث ولا حرج حيث بلغت حدا لم يكن ممكنا مجرد تخيله في السابق!
وقد كانت هيلاري كلنتون المتعجرفة أول سيدة أولى في البيت الأبيض تمشي في تظاهرة لـ (مثليين) لإبداء تعاطفها مع قضيتهم ومطالبهم المشروعة!

وأخيرا، يخلص المؤلف إلى القول: إن هذه هي إحصاءات مجتمع منحط وحضارة تحتضر وتموت، وإن بلدا مثل هذا لا يمكن أن يكون حرا. فلا وجود للحرية دون فضيلة ولا وجود للفضيلة بغياب الإيمان.٪


هذا باختصار ملخص النقاط المهمة في الكتاب…
ما أجمل أن يكون هذا الكتاب صرخة للوعي العربي عندما نتمسك بالقيم الأخلاقية بعيدا عن التعصب الأعمى بكل أشكاله ليكون “موت الغرب وحياة المسلمين”.
(اتضح ان الدين والتدين ليس رفاهية او من الكماليات في حياة الانسان، إنما هو ضرورة حياة) .

ذ. خالد البورقادي،يحصل على شهادة الدكتوراه

تم اليوم: الثلاثاء 16 نونبر 2021 بحمد الله؛ مناقشة أطروحتي للدكتوراه برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية فاس- سايس، في موضوع: “منهاج تدريس أصول الفقه بالجامعة المغربية”. وقد تكونت لجنة المناقشة من السادة الأساتذة الفضلاء:
الدكتور سعيد حليم مشرفا؛
الدكتور عمر جدية رئيسا؛
الدكتورة ماجدولين النهيبي عضوة؛
الدكتور مصطفى صادقي عضوا؛
الدكتور محماد رفيع عضوا.


وبعد المناقشة، والمداولة؛ منحت اللجنة الباحث شهادة الدكتوراه في أصول الفقه ومناهج التدريس بميزة: مشرف جدا مع التوصية بالطبع.


فكل الشكر والتقدير للمشرف القدير د. سعيد حليم، ولأعضاء اللجنة العلمية الموقرة. كما نشكر كل من حضر، وآزر، واتصل، وهنأ. فلكم مني كل الاحترام والتقدير.

منقول من صفحة ذ. خالد البورقادي

وفاة آرون ت. بيك_أب العلاج المعرفي

01 نوفمبر 2021.. في هذا اليوم توفي الأمريكي آرون ت.بيك عن عمر يناهز 100 عامًا…

إنه أب العلاج المعرفي، وهو نهج تم تطويره من الستينيات وأحدث ثورة في الطب النفسي.

توفي في الولايات المتحدة ، في منزله في فيلادلفيا ، ابنته جوديث بيك ، رئيسة معهد بيك ، التي دربت الآلاف من المهنيين في العلاجات السلوكية والمعرفية (CBT).

قالت: “لقد كرس والدي حياته لتطوير واختبار العلاجات لتحسين حياة عدد لا يحصى من الأشخاص حول العالم الذين يواجهون مشاكل صحية، لقد غير حقًا مجال الصحة العقلية”.

رحيل آخر أباطرة علم النفس
اليوم نَعَت عالِمَة النفس الدكتورة جوديث بيك Judith Beck – رئيسة معهد بيك للعلاج السلوكي المعرفي – أبيها المرجِع الكبير عالِم النفس الإكلينيكي العظيم آرون بيك Aaron Beck (1921-2021)، قائِلَة: “اليوم معهدنا ومجتمعنا وعائلتنا في حداد على فقدان أبي الاستثنائي، الدكتور آرون بيك توفي بسلام في منزله عن عمر يناهز المئة سنة، بعد أن كرَّس حياته لتطوير واختبار العلاجات المُساهِمَة في تحسين حياة عدد لا يحصى من الأشخاص في جميع أنحاء العالم من الذين يواجهون تحديات صحية نفسيَّة. لقد غير بالفعل مجال الصحة النفسيَّة من خلال تطويره وعقود من البحث في العلاج السلوكي المعرفي. وقد شاركته في تأسيس معهد بيك للعلاج السلوكي المعرفي لتوفير التدريب لممارسي العلاج المعرفي السلوكي في جميع أنحاء العالم، وكان حلمنا هو إنشاء مؤسسة من شأنها أن تسمح للعلاج المعرفي السلوكي بالتطور والازدهار، وقد نجحنا بما يفوق توقعاتنا، ونحن الآن نكرم إرثه من خلال مواصلة عمله وتعزيز مهمته في مساعدة الأفراد على عيش حياة أكثر صحة وسعادة ووضوح”.
بيك من أهم وأخطر علماء النفس على الإطلاق، ابتكر وأسس العلاج المعرفي وجعَل مِنه قوة كبرى في العالَم، واشتغل بحماسة منقطعة النظير حتى أخريات أيامِهِ، يبحث ويدرس ويحاضر في مختلف المحافِل العلميَّة العالميَّة، ليشكل إيقونَة كبيرة للإنسان الحقيقي، الذي لم يكن وجوده طارِئاً وهامشياً على الحياة، بل أنجز وغيَّر العالَم نحو الأفضَل، فخلَّف مؤسسات وحركات ومؤلفات وسيل هائِل من الدراسات ساهَمَت – ولا زالت وستبقى – في تخفيف معاناة الناس وتطوير حياتهم وجعلهم أكثر اتزاناً وعقلانيَّة.
لعل من أخطَر مفاهيمه: التشوهات المعرفيَّة Cognitive Distoryions، حيث أكد أن الاضطرابات النفسية تنتج عن تحكُّم أنساق ونظم وأساليب معرفية مشوَّهة في تفكير الفرد، مما يؤثر بقوة وبسلبية على المشاعر والسلوكيات. وأهم تلك التشوهات: التفكير الثنائي (التفكير بأن الشيء إما أن يكون كما نريد بالضبط أو لا يكون)، والتجريد الانتقائي (انتقاء حدث أو فكرة لدعم تفكيره الاكتئابي أو السلبي)، والاستنتاج الاعتباطي (قراءة العقل، أو الاعتقاد بمعرفة ما يفكر فيه الآخر، والتنبؤ السلبي، بمعنى اعتقاد الفرد بأن شيئاً سيئاً سيحدث، رغم عدم وجود دليل على ذلك)، والكوارثيَّة (التركيز على حدث واحد، وتضخيمه، حتى يصبح كارثياً)، والتعميم المفرط (اشتقاق قاعدة من احداث سلبية قليلة)، والنعت المختل (النعت السلبي للذات بالاعتماد على بعض الاخطاء والاخفاقات)، والتمجيد والاختزال (تمجيد العيوب وتقليل قيمة النقاط الجيدة)، والشخصنة (ربط الحدث غير المتصل بالفرد وجعله ذي معنى شخصي).
سيدي الكبير، ستبقى علامَة فارِقَة في تاريخ العالَم، وسنبقى تلاميذك، ننحني لعبقريتك ولإنسانيَّتك.

فما أجمل الحياة حين تترك بعدها مثل هؤلاء الأبناء، ومثل هذه الكلمات…

تبعية الانحراف في كتاب (( السيدة مريم في القرآن الكريم ))د. حُسن عبود

عنون الكاتب الفرنسي «غي سورمان» لكتابه المترجم عن «المؤسسة العربية للأبحاث والنشر» الدائر حول الحداثيين في العالم الإسلامي بــ«أبناء رفاعة الطهطاوي»، ولو أردنا العنونة للنسب الفكري لأرباب القراءة الحداثية الأدبية للقرآن الكريم لعنونا له بــ«أبناء المستشرقين».

فما زال الاستشراق الكلاسيكي والمعاصر كلاهما موردًا تستقي منه القراءات الحداثية العربية للقرآن الكريم، وتعد القراءة الأدبية التي تعمد إلى التسوية بين النص القرآني والنص الأدبي، التي قدمها طه حسين في كتابه «في الشعر الجاهلي» موظِفًا فيها المنهج التاريخي الغربي، أولى تلك القراءات وأشهرها على الإطلاق. وعلى نهج طه حسين تشكلت الكتابات اللاحقة والموصوفة بالمحاولات التجديدية، من مثل كتابات أمين الخولي وتلميذه محمد أحمد خلف الله ومن نحا نحوهم مع اختلافات بين تلك القراءات لا تمس منطلقاتها الأساسية.

ومن أحدث القراءات الأدبية المعاصرة للقرآن الكريم والمصنَّفة ضمن القراءات الحداثية التجديدية للقرآن الكريم دراسة للباحثة اللبنانية حُسن عبود، وهي نسوية وناشطة في الحوار الإسلامي المسيحي. نُشرت الدراسة بعنوان: «السيدة مريم في القرآن الكريم: دراسة أدبية». وأصل الدراسة رسالة دكتوراه قدمتها الباحثة في جامعة تورنتو في كندا، وترجمتها المؤلفة بنفسها إلى اللغة العربية وطبعت في كتاب أصدرته دار الساقي عام 2010م، وذكرت فيه المؤلفة من سبقوها لهذا النوع من الدراسات كأمين الخولي ونصر حامد أبو زيد، كما صرحت فيه المؤلفة بإضافتها الجديدة للمحاولات السابقة حيث تعلَّق اختيارها لموضوع الدراسة بالنسوية والجندر وتجديد نظرة المسلمين للجندر.

الاستشراق منطلقًا ومضمارًا:

لم تتردد المؤلفة في إبراز مرجعيتها الاستشراقية وعرضت مستنداتها الاستشراقية باعتبارها مراجع موضوعية، متجاهلةً الاعتراضات النقدية الإسلامية والغربية لما تضمنته تلك المراجع من أخطاء منهجية وتاريخية حول القرآن الكريم، فذكرت المؤلفة عددًا من المؤلفات والمقالات الاستشراقية الكلاسيكية التي تعد بحسب قولها: «من أهم المراجع الغربية الأساسية لطلاب وطالبات علوم القرآن»، كالفيلولوجي التاريخاني ثيودور نودلكه في كتابه «تاريخ القرآن»، ومقالة ألفورد ولش «القرآن» في الموسوعة الإسلامية، ومقدمة بال وواط للقرآن، وكتاب آرثر جفري «القرآن ككتاب مقدس» الذي وصفته بـ«الرائد».

كما اعتمدت بصورة أساسية على مؤلفات المستشرقة الألمانية المعاصرة أنجليكا نويفرت، فأقرت حُسن عبود أنها حذت حذوها في تحليلها الكولومتري للآيات القرآنية المستخدم أصلًا في تحليل الإنشاد الديني اليوناني، وفي قراءاتها للآيات المكية، وسنشير في المحاور المقبلة لتواصل عبود المستمر مع رؤى أنجليكا وتنزيلها على قراءتها لقصة مريم في القرآن، والجدير بالذكر أن أنجليكا قدمت من ألمانيا إلى كندا لمناقشة رسالة عبود.

أما بقية مراجع عبود المصنفة ضمن التراث الإسلامي وغيره، ككتابات السيوطي والشعر العربي فموظفة في خدمة الرؤية الاستشراقية ولا تخرج عن مضمارها قيد فكرة، وحين تختلف المؤلفة مع آراء بعض المستشرقين فاختلافها كاختلاف المقلدين للمجتهدين داخل المذهب نفسه، وينسحب هذا على توظيفها للأناجيل الرسمية والمنحولة وأساطير الثقافات الوثنية، في دراستها للقرآن الكريم فكلها تُستَحضر لتأكيد المقولات الاستشراقية حوله.

ولا تخفي المؤلفة بالمثل عتادها المنهجي، فتعترف بتطبيق النظريات الحداثية على النص القرآني، وعلى رأسها المنهج التاريخي الذي يسوي بين النص القرآني والنصوص الأدبية، كما تطبق نظرية التناص بصياغة جوليا كريستيفا بين النص القرآني ونصوص الأناجيل الرسمية والمنحولة، وتتخذ من الجندر[1] معيارًا تحليليًّا في قصة مريم عليها السلام في القرآن الكريم، وتوظف النقد النسوي الذي عبرت عنه أيضًا بالشك النسوي في الموقف الثقافي من نبوة مريم، الأمر الذي وصفته المؤلفة بمشاركة مريم على أعلى مستوى ديني، كما تطبق المؤلفة التحليل النفسي في قراءتها للنص القرآني. وسنعرض في المحاور التالية أبرز الانحرافات التي تضمنها الكتاب، إذ لن تفي الصفحات المقبلة بذكر كل ما حواه الكتاب من أخطاء ومغالطات وتناقضات علمية وشرعية وتاريخية.

أصول الانحراف:

تتبدى الانحرافات التي تضمنها كتاب السيدة مريم في القرآن الكريم في المقولات التي تأسست عليها الدراسة، والنتائج المترتبة عليها. وتتمثل تلك المقولات في الرؤى الاستشراقية التي انطلقت منها المؤلفة ومن أبرزها وأخطرها، مقولتان:

المقولة الأولى: بشرية النص القرآني: نفي المصدر الإلهي للقرآن ونسبته للرسول صلى الله وعليه وسلم مقولة استشراقية شهيرة، وقد قال بها – من مراجع حسن عبود من المستشرقين – كل من بال وآرثر جيفري وكذا نولدكه شيخ المستشرقين الألمان الذي تصفه المستشرقة أنجليكا وينفرت بـ«حجر كنيستنا»، والذي يرى أن النص القرآني وضعه وطوَّره محمد (صلى الله وعليه وسلم)، وهذا ما قالت به أنجليكا وينفرت زاعمة أن القرآن الكريم مثله مثل العهدين (التوراة والإنجيل) «كلام نبوي».

ويُلحظ أثر هذه المقولة جليًّا في تصريح حسن عبود الحذِر والمشكك في أكثر من موضع في كتابها بتطوير النبي صلى الله وعليه وسلم للقرآن، ومنه نقلها لكلام أنجليكا حول المصادر المتعددة للقرآن، ثم تعقيب عبود بقولها: «بغرض الاستفادة والاستنتاج… نتساءل عما نعرفه عن دور صاحب البلاغ الرسول محمد (صلى الله وعليه وسلم) حين كان يجمع الوحي بنفسه ويطوره في مرحلة متأخرة ليشكل السور الطويلة للمصحف المكتوب».

ويبدو تلبيس عبود واضحًا في خلطها بين مسألة ترتيب النبي صلى الله وعليه وسلم للآيات في السور وهي مسألة أجمع فيها المسلمون على أن ترتيب الآيات بتوقيفه صلى الله وعليه وسلم، وبين مقولة المستشرقين بتطوير النبي صلى الله وعليه وسلم للقرآن، أي التدخل في مضامينه، وهي مقولة باطلة بلا شك.

المقولة الثانية: تعدد المصادر التي تكوّن منها النص القرآني: يدعي المستشرقون أن النبي صلى الله وعليه وسلم تأثر بالبيئة والوسط الثقافي الذي كان يعيش فيه وقد تركت هذه البيئة بصماتها في القرآن المنسوب للنبي صلى الله وعليه وسلم، وزعم بعضهم أن القرآن ما هو إلا اقتباسات من التوراة والإنجيل، ومنهم من زعم تضمن القرآن للأساطير الوثنية، وتضيف أنجليكا إلى من سبقها من المستشرقين كنودلكه الذي تمثل امتدادًا له قولها أن النص القرآني نصٌ حواري تواصلي «بين نبي قائل كريزمائي والمتلقي جمهوره المؤمن»، وليس نصًا أحادي الصوت كما يرى نودلكه أي صوت محمد فقط، بل حوى أصواتًا متعددة عبَّرت عن الجماعة والتاريخ والثقافات المختلفة في ذلك العصر.

وعلى النهج الأنجليكي نفسه سارت حُسن عبود وجهدت في إثباته، فتراها تقول عن الإعاذة في قوله تعالى: {أُعِيذُهَابِكَوَذُرِّيَّتَهَامِنَالشَّيْطَانِالرَّجِيمِ} [آلعمران36] إنها تعني العصمة من الخطيئة الأولى وهي «فكرة تولدت من الفترة المسيحية المبكرة».

وتدعي بعد مقارنة قصة مريم في القرآن والأناجيل المنحولة أن الإضافة الوحيدة للقرآن في هذا الشأن هي ولادة عيسى تحت الشجرة والتي تعتبر «إضافة قرآنية جديدة إلى الموتيفات المسيحية وإبداعًا من جانب القرآن الكريم».

أما كيفية ظهور الأثر المسيحي في القرآن فيعود بحسب قول المؤلفة «إلى نوع البيئة الثقافية المسيحية التي تفاعل معها المسلمون الأوائل وصاحب البلاغ خاصة في محيط مكة»، والتي كشف عنها البحث من خلال «أسماء الشخصيات الكتابية في غريب القرآن في سورة مريم»، ويبدو أن المؤلفة قد حذفت الجزء الذي تناولت فيه أسماء تلك الشخصيات من البحث في الترجمة العربية لعدم تطرقها إليه في الكتاب!

وجوه الانحراف: التسوية بين القرآن والنصوص الأخرى:

القارئ لكتاب السيدة مريم لحُسن عبود لا يلحظ فحسب تسوية في التعبير عن الله سبحانه وتعالى متكلمًا بالقرآن وبين أصحاب النصوص الأخرى، حيث تم التعبير عنهم جميعًا بـ«صوت السرد»، بل يلحظ كذلك ثلاثة أنواع من التسوية بين القرآن والنصوص الأخرى، وهي: التسوية بين القرآن والأدب الجاهلي، والتسوية بين القرآن والكتب السماوية المحرفة، والتسوية بين القرآن والأسطورة.

ففي ربط المؤلفة بين قصة مريم والتراث العربي الجاهلي تذكر عبود أن تمني مريم للموت ودعاءها على نفسها به «يستعيد تراثًا أدبيًّا رثائيًّا قديمًا لرجال ونساء العرب الشعراء والشواعر والخنساء واحدة منهن».

لكنها تهتم بشكل خاص بالتفسير الميثي (الأسطوري) لقصة مريم وتطوراته اللغوية في القرآن فتراها تقول في قوله تعالى: {فَأَجَاءَهَاالْـمَخَاضُإلَىجِذْعِالنَّخْلَةِ} [مريم23«يمثل المخاض أو جذع النخلة كمحرك للفعل، مرحلة في اللغة عندما كانت المفاهيم الميثية (الأسطورية) تُلقي صفات إنسانية على النبات والملائكة والآلهة».

كما تطرح المؤلفة من المنظور نفسه تأويلًا أسطوريًّا متوسلةً بالتحليل اللغوي لكلمة غلام في قوله تعالى: {لأَهَبَلَكِغُلامًازَكِيًّا} [مريم19حيث يعني الجذر غلم: طلب النكاح، وعليه فإن «استخدام النص لمصطلح غلام مرتين في القصة يشير بطريقة غير مباشرة إلى قوة الخصوبة» كما تذكر المؤلفة، لتلفت النظر بعدئذ للارتباط الواقع بين «الأنثى والشجرة والمياه» في الحضارات القديمة، باعتبار هذا الارتباط ممثلًا لأقدم صورة من صور الخصوبة في تلك الحضارات، والذي يبدو في التصاوير الجدارية الفرعونية الوثنية.

وتضيف المؤلفة: «تقوم مريم برحلة منفردة لتحمل بأمر من الله {قَالَكَذَلِكَقَالَرَبُّكَ} [مريم٩]، ولتلد وحدها في مكان قفر لنحتفل بالنهاية بالأم المثال، تحت الشجرة التي تعطي الرطب وفوق المياه التي تتفجر ينابيعها، لتبقى الأنثى على مستوى الواقع كما الميثي الأسطوري، صورة قوية لغلبة الخصوبة على الجفاف، أو نصرة الحياة أمام الموت. فتقوم مريم برحلة تفجر خصوبة الأنثى التي تعتبر مقدسة عند العرب كما يظهر ذلك في الشعر العربي الجاهلي».

وتؤكد المؤلفة الحضور الأسطوري في سورة مريم بقولها: «إن موتيف قصة مريم الذي حول الصحراء إلى واحة ارتبط في سياق السورة ببنية ميثية».

وتشرح هذه الفكرة ممارسة التأويل الإسقاطي الخيالي بقولها: «تدمج مريم الأنثى وهي تهز الشجرة لإطعام نفسها بقوة الشجرة التي تعطي أيضًا الثمر والحياة. ونستطيع أن نتخيل هذا الإدماج بين مريم والنخلة في صورة للآلهة التي تعطي ثمرها في عمل فني مصري من السلالة الثامنة عشرة تعتبر من أكثر الصور دراماتيكية للدلالة على أمومة الشجرة».

كما تقدم المؤلفة تأويلًا من أساطير مصر القديمة لقوله تعالى: {فَنَادَاهَامِنتَحْتِهَا} [مريم24بأن المراد بتحتها في الآية هو من (بطنها)؛ ذلك أن «التكليم من بطن الأم ورد كثيرًا في مصر القديمة حين كان يتكلم الملِك الجنين من بطن الأم».

وتتبع حُسن عبود خطى أنجليكا حذو القذة بالقذة، فتضيف بصراحة تامة قولها بعد ما وصفته بمنطق التضاد في سورة مريم: «نتذكر في شرح منطق التضاد هذا كلمات نورثروب فراي الذي يعلمنا أن البُنى الميثية الأسطورية تستمر بإعطاء شكل الاستعارات والبلاغة لأنواع متأخرة من البُنى، مع أن رصيد الكتب المقدسة كما تقول الأستاذة نويفرت، هو في وساطتها كوسيلة لإزاحة الأسطرة بامتياز».

وتنتهي المؤلفة في خاتمة كتابها بذكر رأيها الصريح حول بشرية القرآن الكريم، فتقول: «نستطيع أن نصف نوع السورة بأنه مزيج من اللترجيا المسيحية والشعرية الدينية العربية. وهذا الذوبان المدهش لا يمكن أن يولد إلا في محيط ثقافي يعتمد على الشفاهية مصدرًا (للوحي) والمعرفة».

وتترتب على هذه المقولات الاستشراقية التي تأسس عليها كتاب السيدة مريم في القرآن الكريم نتائج متعددة، أبرزها:

1- رفع القداسة عن القرآن: القول ببشرية القرآن وأنه نتاج محيط متعدد الثقافات ينتهي إلى رفع القداسة عنه، وهذا ما أكدته أستاذة حُسن عبود أنجليكا نويفرت على المستوى النظري في كتابها: «القرآن بوصفه نصًا من العصور الكلاسيكية المتأخرة: قراءة أوروبية»، والذي وصفه الباحث المغربي رشيد بو طيب في مقالته المنشورة في صحيفة الحياة بأنه ممارسة لهرمنيوطيقا الأصل، وعلَّق عليه بقوله: «إن كتاب نويفيرت وعلى رغم ادعائه أنه يطلب تجاوز المركزيتين الإسلامية والغربية، ينتمي في رأيي إلى القرن التاسع عشر الأوروبي وروحه الوضعية، مع بعض توابل ما بعد حداثية يفرضها السياق، وبلغة أخرى إنه ينتمي إلى أدبيات الإلحاد».

أما على المستوى العملي فتتبنى أنجليكا مشروع: «الأرشيف الضائع» الذي يحاول اكتشاف النسخ الأخرى للقرآن، بحثًا عن أدلة تثبت أن القرآن نص يعود إلى أصل غير إلهي أو أصل غير مفارق وقابل للتغيير، وذلك لإعطاء القرآن القيمة التاريخية التي أعطيت للتوراة.

وهذا الهدف هو ما اشتغلت عليه حُسن عبود في كتابها، وإن حذفت جزءًا من رسالتها في الترجمة العربية ومزجت تصريحاتها المنشورة في الكتاب بكلام موهم، وهذه النتيجة هي ما يتوصل إليه قارئ كتاب عبود، وهي أيضًا ما أشار إليه مقدم كتابها رضوان السيد بقوله: «هناك أحداث أو وقائع أو رموز متشابهة، لكن التركيب مختلف، والتوظيفات مختلفة، والأولويات مختلفة، والنتائج مختلفة، بيد أن الأساس (الإنساني) العميق يظل واحدًا».

2- تغييب الإعجاز الغيبي في القرآن: فما دام القرآن مجرد صدى للكتب المقدسة والأساطير الوثنية فما الجديد الذي جاء به القرآن، وما قيمة تصحيح القرآن للعقائد الباطلة المنبنية على روايات باطلة للإنجيل حول ألوهية عيسى بن مريم عليه السلام، ما دام القرآن بحسب دراسة عبود ليس سوى وعاء يحوي مزيجًا من الثقافة الشفوية لمحيطه، وما جاء به من حقائق مخالفة للكتب الأخرى ليس إلا انحرافًا أخيرًا عنها في مسار الرواية.

وهذا يعيدنا لأستاذة حُسن عبود مرة أخرى فأنجليكا نويفرت ترى أن القرآن نص شفوي ولذا تلفت النظر إلى الثقافة الشفوية السائدة في محيطه، وهي تعيد بهذا إنتاج تهمة المستشرقين للنبي صلى الله وعليه وسلم بالنقل من كتب السابقين لاصطدام هذه التهمة بأميته صلى الله وعليه وسلم فتعيد أنجليكا صياغة الشبهة وطرحها مجددًا لتثبتها عن طريق الثقافة الشفوية التي لا يحتاج الأمي في تداولها لتعلم القراءة والكتابة، وهذا الرأي فضلًا عن كونه تكذيبًا لقوله سبحانه: {ذَلِكَمِنْأَنْبَاءِالْغَيْبِنُوحِيهِ} [آلعمران٤٤]،وقوله: {تِلْكَمِنْأَنْبَاءِالْغَيْبِنُوحِيهَاإلَيْكَمَاكُنتَتَعْلَمُهَاأَنتَوَلاقَوْمُكَ} [هود49]، فهو مخالف للواقع التاريخي، وفي هذا يقول ابن تيميه – رحمه الله -: «وقد علم بالتواتر أن المشركين من قريش وغيرهم، لم يكونوا يعرفون هذه القصص، ولو قدر أنهم كانوا يعرفونها، فهم أول من دعاهم إلى دينه فعادوه وكذبوه، فلو كان فيهم من علمه أو يعلم أنه تعلم من غيره لأظهر ذلك، ولو كانت هذه القصص المتنوعة قد تعلمها صلى الله وعليه وسلم من أهل الكتاب مع عدوانهم له، لكانوا يخبرون بذلك ويظهرونه ولو أظهروا ذلك، لنقل ذلك وعرف، فإن هذا من الحوادث التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها».

أما حديث عبود عن قوة الخصوبة ورموزها الوثنية وحول تقديس العرب لقوة الخصوبة فقراءة تأويلية إسقاطية لا ترقى لمرتبة الحجة، وأما رموز المياه والشجر فأيقونات طبيعية للبيئة المحيطة بالإنسان التي كان يعظمها الوثنيون وينسبون إليها قوى خارقة، ووجودها في القرآن لا يزيح أساطيرهم ليستوعبها ويعيد صياغتها بصورة أخرى كما تشير المؤلفة السائرة على نهج أستاذتها المستشرقة، وهو كوجود الشمس في القرآن، فهل كل حديث عن المخلوقات الكونية المحيطة بالإنسان في القرآن يؤوَّل هذا التأويل الاستشراقي الساذج، ليصبح القرآن مزيجًا من البوذية واليهودية والنصرانية وكل ديانة وثنية ساقطة أيضًا، مع فارق كون تلك المخلوقات المذكورة في القرآن مخلوقة لله ومسخرة للإنسان وبين كونها معبودات للمشركين. إن إسقاط التفاسير الأسطورية على القرآن أو أسطرة القرآن ليس جديدًا وهو أنسنة واضحة للنص القرآني وهبوط بمستواه إلى أدنى مرتبة من مراتب النصوص الإنسانية، فلا تضع المؤلفة القرآن بمصاف النصوص الإنسانية العبقرية ولا الإبداعية، بل بمرتبة النصوص الأسطورية البدائية التي تدعي عبود أن القرآن يستبطنها محاولًا تجاوزها، وذلك عبر تتبع المؤلفة للطُرز البدائية في النص القرآني أو ما سمته بـ«الأرختايب» وهي الأنساق العميقة اللاواعية لدى الإنسان ومن ذلك أرختايب «الأُم».

3- نسبة النقص والضعف التاريخي والفني للقرآن: ومرد النقص والضعف التاريخي لعدم اهتمام القرآن بالتسلسل الزمني (الكرونولوجي) للأنبياء، وهذه الرؤية ليست نتاج بحث المؤلفة بل هي مقولة استشراقية معروفة لدى الباحثين في الأدبيات الاستشراقية، وقد تشكلت هذه المقولة نتيجة جعل التوراة والإنجيل مقياسًا يحاكم إليه القرآن الفريد والمعجز بأسلوبه وحقائقه، وأما الضعف الفني فلأن القصص أو السرد الفني ليس هدفًا مجردًا للقرآن وله أغراض أخرى كما تذكر المؤلفة، وتضيف أن القرآن «يجهض متعة السرد بهدف الحجاج العقدي»، ولذا فتتمة القصة وتفاصيلها المطوية في القرآن برأي المؤلفة لا تُطلب من القرآن وحده ولا بد من طلبها في المصادر الأخرى التي شكَّلت النص القرآني، لعدة أسباب تذكرها بقولها: «نخبرك مسبقًا بأن سيناريو القصة في هذا القرآن جاء مختصرًا عما هو عليه في إنجيل يعقوب التمهيدي، إما لأن القرآن يفترض أن القصة كاملة وهي معروفة عند المتلقي، أو لأن هناك أسبابًا أخرى تستدعي الحذف والإيجاز اللذين يعدان أصلًا ميزة أسلوب خطاب السرد القرآني».

وهذه المقولة الاستشراقية التي تلبس حقًا بباطل لا تختلف كثيرًا عما أجابت به أنجليكا محاورها حين سُئلت في حوار صحفي أجري معها بوصفها خبيرة في القرآن وتفسيره، وتم نشر الحوار في موقع قنطرة الألماني، ما هي النصيحة التي تقدمينها لشخص لم يطلع حتى الآن على الدين الإسلامي ويود الانشغال بالقرآن للمرة الأولى؟

فقالت: «هذه نقطة انطلاق غير مواتية أبدًا إن لم يكن مطلعًا على الكتب المقدسة الأخرى، للأسف لم تعد عمومًا لدى القارئ المعرفة التي كان يملكها من استمعوا إلى النبي، فهؤلاء كانوا مثقفين، وكانت لديهم دراية بمعارف الإنجيل ومعارف زمنهم الفلسفية التي لا نملكها اليوم».

وهذه مغالطة تاريخية مفضوحة، فلم يكن العلم بمعارف الإنجيل والمعارف الفلسفية الأخرى غالبًا على العرب الذي عُرفوا بكونهم أمة أمية في ذلك الوقت.

4- اتهام القرآن بالتحيز ضد المرأة: مفهوم النظام الأبوي والمفهوم المقابل له المعروف بالنظام الأمومي من المفاهيم التحليلية الأساسية في الأدبيات النسوية، ويعرَّف النظام الأبوي بأنه: «نظام يسوده الرجل، وتُفرض فيه السلطة من خلال المؤسسات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والدينية»، وقد وظفته النسويات في تتبع سيطرة الرجال على النساء في المجتمعات الإنسانية. وفي مشابهة لنهج نسويات أخريات وبناء على المعطيات الاستشراقية نفسها ترى حُسن عبود أن النسب الأمومي المرتبط بالنظام الأمومي هو الغالب على مجتمع الجزيرة قبل الإسلام، وأن النظام الأبوي حلَّ محل النظام الأمومي بعد هجرة النبي صلى الله وعليه وسلم إلى المدينة المنورة ويمكن ملاحظة هذا التحول بالنظر في السور المنزلة في العهد المكي فـ«مع إقامة المجتمع الإسلامي الأول في المدينة ربما جاء الأمر بالتشديد على النسب الأبوي لأول مرة».

وحول ما تصفه عبود بالتحيز اللغوي في قوله تعالى: {وَلَيْسَالذَّكَرُكَالأُنثَى} [آلعمران36تقول: «وما يلفت النظر في هذه الجملة الاعتراضية أنها لا تبدأ كما تقتضي القاعدة منطقيًّا بتشبيه الأنقص بالأكمل، كأن يقال وليست الأنثى كالذكر، بل تبدأ بالذكر لتلغي تشبيهه بالأنثى كما يظهر في التشبيه {لَسْتُنَّكَأَحَدٍمِّنَالنِّسَاءِ} [الأحزاب32]، ويُبرر اللغويون هذا التركيب بأن ذكر الأنثى قبل الذكر في تركيب الجملة غير مستحب في بناء جملة التشبيه، ويدل هذا الموقف المتحيز للذكر في التحرير على واقع عرفي سرعان ما يلغى بسبب قبول الله لمريم في المحراب كقبول الذكر، مما يعني أن اللغة تعي جيدًا صناعة مدلولاتها».

وحول التركيب النحوي للقرآن تقول: «التركيب النحوي للغة القرآنية يعكس ربما حركة التفكير للمتلقين للغة، والتي لها علاقة بالمركب الاجتماعي (جندر) وهذا التوضيح ضروري بالنسبة لدراسة النصوص التي تعكس مواقف لغوية ونفسية وأنثروبولوجية تميز بها بين الأنثى والذكر».

وتضيف: «ونتعجب بصدد هذا التحسس الجندري، هذا التحسس في نفي الأنوثة عن الملائكة يدفعنا إلى التساؤل عن عدم التشدد في ذكر الملَك بالمفرد لا بالجمع، والمقصود أن اللغة أبطأ على التغيير في مفاهيمها من الفكر السابق على التغيير في مفاهيمه، وهذا يفسر الحضور القوي للأنثوي في السور المكية».

ما الذي تعنيه المؤلفة بهذه الكلمات؟ تعني هذه الكلمات باختصار أن السور المكية التي نزلت قبل احتكاك النبي صلى الله وعليه وسلم باليهود في المدينة كانت تعبر عن نظام أمومي أي عن ثقافة تقديس الأنثى الغالبة على الثقافة العربية قبل الإسلام كما ادعت المؤلفة، وحين انتقل النبي للمدينة تأثر باليهود ذوي الثقافة الأبوية الذكورية المتحيزة للذكر، أي أن القرآن الذي وضعه النبي صلى الله وعليه وسلم وطوره تأثر بتلك الثقافة وسجل تقهقرًا واضحًا في موقفه من المرأة على صعيد اللغة والمفاهيم.

5- الإشارة إلى تفوق الأناجيل المنحولة على القرآن تجاه المرأة: وهذا ما ذكرته حُسن عبود بوضوح لا يتطلب مزيد بيان بعد عرضها نصًا إنجيليًّا منحولًا، ونصًا من القرآن، بشأن امرأة عمران، وقالت: «الفرق بين النصين المعنيين أن صوت السرد في الأول يقدم نذر حنة لله سيان عندها أكان المولود ذكرًا أم أنثى فهو نذير، بينما يعترض صوت السرد في الثاني ليعرض مسألة تفضيل الذكر على الأنثى في النذر مما يدل على أن الخطاب القرآني يأخذ في الاعتبار عرفًا من الأعراف الموجودة في اللاوعي الجماعي العربي».

6- تاريخية النص القرآني: تفترض جميع المقولات السابقة أن النص القرآني مثله مثل التوراة والإنجيل نصٌ محصور بالتاريخ والجماعة والتقاليد الثقافية التي احتضنته، والتي تفاعل معها النبي صلى الله وعليه وسلم وأسهمت في إنتاج النص وتطوره، ولذا فقد شهد القرآن تحولًا من عصر أمومي مجَّد المرأة إلى آخر أخذ بتعزيز قيم النظام الأبوي، لكن القرآن لم يفقد طاقته التأويلية ومازال قابلًا لأن يُقرأ قراءة تأويلية لصالح المرأة، ولذا عادت حُسن عبود لتنفي نسبة التحيز الذي أثبتته في قوله سبحانه: {وَلَيْسَالذَّكَرُكَالأُنثَى} لتخبرنا بأنه مراعاة لعرف اجتماعي وليست كلمة الله النهائية على حد وصفها.

القراءة التأويلية البديلة:

كل تلك العيوب والنقائص الاستشراقية والنسوية التي ألصقتها حُسن عبود بالنص القرآني لم تدفعها لنبذه والتخلي عن فكرة استثماره وتوظيفه، ولذا طرحت المؤلفة تأويلًا بديلًا يجعل النص ينطق بقيم العصر الحداثي ويشهد للأفكار النسوية الغربية، عبر عدة تأويلات منها:

1- قوة التسمية والنسب الأمومي: ترى المؤلفة أن منح القرآن قوة التسمية لامرأة عمران والتي أعطيت بالمثل لمريم التي ألحقت ابنها باسمها ليصبح نسب الأم هو الذي يُذكر به اسم عيسى عليه السلام، «إذ إن آل إبراهيم ومن ضمنهم بنو إسرائيل الذين يعودون إلى نظام أبوي ليسوا وحدهم في هذا الاصطفاء، وهذا ما قد يثير حساسية بين القيم الأبوية والقيم الأمومية التي أفضل ما صُوِّرت في الصلاة القرآنية التي تتناص مع صلاة التعظيم المريمية اللوقاوية في: {اللّهُمَّمَالِكَالْـمُلْكِتُؤْتِيالْـمُلْكَمَنتَشَاءُ} [آلعمران26وهو دعاء لقلب الموازين ربما لمصلحة النسب الأمومي الذي له شرعية النسب الأبوي». وتبالغ المؤلفة في تأويلها فتقول: «إن مريم تعطي صورة آسرة لقوة الأمومي الذي يستطيع أن يربط الذرية بعضها ببعض في النسب العائلي الديني، بمعنى تأسيس نسب أمومي له اصطفاؤه كاصطفاء آل إبراهيم، فإن كان سؤال الخصب في سورة مريم هو الجواب عن السؤال الأبدي لجدلية الموت جدلية الحياة بين العقم والذرية، فإن مفهوم الأمومة في سورة آل عمران هو الجواب عن توالد النصوص المقدسة من الكتاب السماوي كما الذرية النبوية بعضها من بعض من أصل واحد هو الأم، فأرحام (الأمهات) و(أم الكتاب) هي واحدة في أصل العائلة المقدسة وأصل العائلة السماوي، وهذه الصورة المجازية رائعة بالنسبة إلى إبراز (دور الأم المقدس) الذي يقع في صميم النسب الأمومي لآل عمران».

على أن المؤلفة لا تحتفي بالمرأة الأم إلا بما يخدم قضيتها النسوية فتضيف: «وقد ينظر التحليل النسوي المعاصر إلى هذه الفكرة القديمة بعين الناقد لأنها تحد المرأة في دور الخصوبة وتصور المرأة أمام الطبيعة والجوهري الذي فيها، إلا أننا سنرى في سورة لاحقة صورة المرأة أمام الاجتماعي والمركب حين تناقش مسألة قبول الأنثى في المحراب».

وهذه الصورة المتلائمة مع المزاج النسوي هي ما تولت المؤلفة بيانه في النقطة التالية.

2 – إسقاط الفروق بين الذكر والأنثى: ترى المؤلفة أن قبول مريم في المحراب خروجًا عن العرف السائد يلغي الفروق الاجتماعية بين الجنسين، كما أن قصة الطواف والسعي في شعيرة الحج تربط برمزيتها بين نظام أبوي يمثله الطواف في قصة إبراهيم عليه السلام ونظام أمومي يمثله السعي في قصة أم إسماعيل عليه السلام، و«هذه المحاكاة للتجربتين الأبوة والأمومة معًا تجعل الرجل والمرأة يعيشان لحظة الطواف والسعي بتبادل الأدوار وعيًا (بالآخر) وأهمية تجربته، وهي قمة المساواة بين الجنسين في الإسلام». وتبادل الأدوار هنا يُقرأ في ضوء المصطلحات النسوية التي لا ترى أن للمرأة دورًا جوهريًّا والتي تجسدت في عبارة اتفاقية السيداو الشهيرة «الأمومة وظيفة اجتماعية».

3 – مساواة النبوة: ترى المؤلفة أسوة بنسويات أخريات أن التفسيرات الذكورية التاريخية والنسبية أبقت صورة الزواج التراتبي الذي يمنح الرجل القوامة والحق بالطلاق وغيره، وأسهمت تلك التفسيرات في إزاحة المرأة عن السلطة، ومنها التفسير القائل بعدم نبوة مريم، «فبإقصاء مريم من النبوة قد أقصى هؤلاء المفسرون النساء من سلطة دينية تتعلق بالتفسير الذي ساوى بين الرجال والنساء فتوارت الشخصية المريمية إلى خلف الحدث القرآني». وعليه فقد تولت المؤلفة نقد تلك التفاسير وإظهار تحيزها ضد المرأة لعدم قول مفسريها بنبوة مريم، كما سجلت إعجابها بتفسير ابن حزم رحمه الله لنبوة مريم واعتبرته نسويًّا، ودفعت فكرة اقتصار النبوة على الرجال.

وترى المؤلفة أن «عرض مسألة نبوة مريم وتقديم الحجج على إثباتها والعصر ليس عصر نبوات له ما يبرره»، وهو بيان مقام مريم الرفيع في الإسلام، وتوظيف هذه المعرفة لتعزيز حقوق المرأة ومن أهمها المساواة مع نظيرها الرجل.

تهافت الأسس المعرفية للقراءة التأويلية البديلة للقرآن:

ذكرت حُسن عبود في خاتمة كتابها أنها لم تكن مهتمة بالمواقف المختلفة من النظريات التي استخدمتها في دراستها ما دامت تلك النظريات قد آتت أكلها.

والواقع أن فرارها من مناقشة تلك النظريات يعود لتهافت أسسها المعرفية ولعدم ارتقائها لمنزلة البراهين العلمية.

واللجوء إلى النظريات الفضفاضة والفرضيات غير المبرهنة هو في واقع الأمر نقل للمناهج الوضعية من حقل العلوم التجريبية إلى حقل العلوم الإنسانية برغم اختلاف الموضوع في كل من الحقلين؛ ولذا لا يمكن فصل الأساس الفرضي للمناهج الغربية في العلوم الاجتماعية عن المنظومة الفكرية للحداثة بوجه عام، ولا عن النزعة الإنسانوية بوجه خاص، فما دام الإنسان يحتل مكانة مركزية في المعرفة والتفسير فله أن يبتكر أدواته ومناهجه استنادًا للمرجعية الإنسانوية ذاتها.

وينسحب هذا على فلاسفة ما بعد الحداثة الذين يقفون ضد المركزية الإنسانية فقد ابتكروا هم أيضًا فرضيات وطرحوها وفسروا بها الظواهر الكبرى كظهور ثقافات واندثارها دون أي يستدلوا لفرضياتهم بأي برهان علمي.

ومن أبرز المفاهيم الإجرائية المستخدمة في النقد النسوي ما يعرف بـ«النظام الأمومي» السابق على النظام الأبوي، وهذا المفهوم لا يعدو كونه مجرد فرضية، مما حدا بـ«غيردا ليرنر» للقول في بحثها الذي استغرق إنجازه سبع سنوات: «إن هجر البحث عن ماض داعم (البحث عن النظام الأمومي) هو الخطوة الأولى في الاتجاه الصحيح، ذلك أن إبداع أساطير تعويضية عن الماضي البعيد للنساء لن يحررهن في الحاضر والمستقبل».

وبناء على ما سبق تقترح ليرنر تغيير السؤال من البحث عن النظام الأمومي إلى البحث في تاريخ النظام الأبوي، لكنها وبرغم حرصها على عدم السقوط في فخ التبسيط بتخليها عن التفسيرات التي ترجع الأمور لعامل واحد، فقد اعترفت ليرنر بأن ما تقدمه مجرد فرضية بقولها: «يهدف البناء الفرضي الذي سأقدمه إلى أن يكون واحدًا من بين عدد من النماذج الممكنة فحسب».

كما أشارت مؤلفة كتاب «الكأس المقدسة وحد السكين» إلى الجدل الدائر في الغرب حول وجود نظام أمومي وعلقت قائلة: «ثقافتنا تتميز بمبدأ (إذا لم يكن هذا فسيكون ذاك)، وهو مبدأ حذر الفلاسفة القدماء من أنه قد يؤدي لقراءة مغلوطة حتى لأبسط الوقائع».

وبرغم محاولة صاحبة كتاب الكأس المقدسة صياغة نظرية تمسك بها العصا من المنتصف بتمسكها بفرضية وجود نظام أمومي لكنها لم تستطع أكثر من القول بأن الحفريات لا تدل على سيطرة حقيقية للأم، بل كان المجتمع الأمومي مجتمعً تشاركيًّا، وتضيف: «ولا يعني هذا أن الرجال كانوا يعاملون كتابعين أو يعتبرون تابعين لأن كلًا من الرجال والأطفال كانوا أطفالًا للآلهة كما هم أطفال المرأة التي ترأست العائلات والعشائر، وفي حين أن هذا الأمر أعطى النساء مزيدًا من القوة فإن مشابهتنا للعلاقة التي تقوم اليوم بين الأم وطفلها تدعونا للاعتقاد بأن هذه القوة كانت قوة ترتبط بالمسؤولية والرعاية أكثر من ارتباطها بالقمع والامتياز والخوف».

ومن جهة أخرى، استخدمت «روث رودد» مفهوم النظام الأبوي بوصفه أداة تحليلية رئيسة في نقدها النسوي للثقافة الإسلامية والتي تصنفها النسويات ضمن الثقافات الأبوية بلا جدال، وكان أن توصلت رودد في دراستها حول النساء في التراجم الإسلامية إلى نتائج إيجابية فيما يتعلق بأهمية ما يسمى بالنسب «شبه الأمومي» في التراجم الإسلامية برهنت عليه رودد من خلال عدة نتائج تتلخص في الاهتمام بنسب الشخصية المترجم لها من جهة المرأة (الأم، والجدة …)، لكن رودد لم تدعِ ما ادعته حسن عبود من أن هذا النسب كان غالبًا على الثقافة العربية قبل الإسلام، بل شككت وذكرت الشكوك المحتفة بأحد الأعمال المصدرية القائلة أصلًا بوجود نظام أمومي في الجزيرة العربية قبل الإسلام، ومنها كتاب روبرتسون سميث «الزواج والقرابة في الجزيرة العربية القديمة»، والذي لا يزال مؤثرًا إلى اليوم بحسبها، فتقول: «وغالبًا ما تهمل حقيقة أن تحليل سميث الرائع دون شك يفتقر إلى دليل ملموس، وكما أشار متخصصون في الإسلاميات في زمانه إلى أن تأويله لبعض الحقائق موضع شك».

وقد سبق وأن شككت كذلك الفليسوفة الوجودية «سيمون دي بوفوار» في هذه الفرضية من الأساس في كتابها الموصوف بـ«إنجيل الحركة النسوية»، إذ ذكرت فيه هذه الفرضية التي عرضها باشوفين، ونقلها عنه إنجلز معتبرًا أن الانتقال من عهد سيطرة الأم إلى عهد سيطرة الأب انكسار تاريخي كبير للجنس النسائي، وقد سخرت سيمون دي بوفوار من افتراض وجود سيطرة حقيقية للنساء في الأزمنة البدائية فالمجتمع كان دومًا مذكرًا والسلطة السياسية كانت بأيدي الرجال، وتؤكد ذلك بقولها: «والحقيقة أن هذه الفترة الذهبية من تاريخ المرأة ليست سوى أسطورة».

كما ذكرت باحثة نسوية أمريكية من أصول عربية، وهي زينب البحراني أستاذة الفنون القديمة وعلم الآثار في جامعة كولومبيا ما توصلت إليه عبر تخصصها في علم الآثار ودراساتها ومشاركاتها الميدانية الحديثة في التنقيب الأثري في كل من العراق وسوريا، أن العودة النسوية إلى ماضٍ أمومي متخيَّل ومكتنز بقيم مثالية هو ما قاد الباحثات النسويات الغربيات إلى الشرق الأدنى وإلى بلاد ما بين النهرين باعتبار هذه المناطق تمثل حدود الزمن التاريخي ومنها ينبع التاريخ بحسب الرواية التاريخية المعروفة، ومن هنا تجسدت أهمية استرجاع تصاوير الإلاهات الأنثويات بوصفها الدليل على النفوذ القديم للمرأة، ومثلت هذه التصاوير والتماثيل البرهان الأركيولوجي (الأثري) الذي يجري الاستشهاد به من قبل الباحثات النسويات لإثبات وجود نظام أمومي في الماضي تنتفي فيه التراتبية وتتحقق المساواة ويمكِّنهن من الإطاحة بما هو قائم، فإثبات وجود هذا النظام بوصفه حقيقة تاريخية في العصر القديم يمكن النسويات من إظهار الاضطهاد الواقع على المرأه باعتباره وضعًا تاريخيًّا طارئًا وليس حالة طبيعية، لكن الحجج الأثرية التي ساقتها النسويات لم تسلم من الانتقادات، وقد ذكرت الباحثة جانبًا من الانتقادات الغربية الموجهة للحجج الأثرية التي تسوقها الباحثات النسويات، ومن تلك الانتقادات المنهجية الانتقائية المتمثلة في إهمالهن التماثيل الصغيرة التي جمعت بين المقدس والمدنس في الأنثى والتي لا تخدم فكرة الأنثى المقدسة، وقالت: «في كل الانتقادات المذكورة رُفضت فكرة إسباغ صفة الألوهية على تلك التماثيل، وعُدَّ ذلك مجرد أسطورة معاصرة، فلا توجد أية أدلة أركيولوجية على أن تلك المجتمعات القديمة كانت في واقع الأمر أمومية، كما لا توجد أية أدلة على أن تلك الإلهات كُنَّ يُعبدن على نحو حصري، وإذا كانت تلك التصاوير هي فعلًا للإلهات، فبالإمكان القول أن الآلهة الذكور كانوا يُعبدون في الوقت نفسه مع الإلهات الأمهات».

وينتظم موقف هذه الباحثة ضمن الموقف النقدي الغربي للنظام الأمومي والدائر داخل الدائرة النسوية وما بعد النسوية الرافض للنظام الأمومي ما قبل التاريخي والذي اعتُبر بُنية أسطورية عُدَّت هي ذاتها جزءًا من سردية النظام الأبوي الذي ترغب النسويات بالإطاحة به.

والمفارقة الباعثة على التأمل أن الباحثات النسويات في العالم الإسلامي لم يساورهن شكٌ حيال تلك الفرضيات التي كانت محلًا للشك في البيئة الثقافية المنتجة لها، بل أخضعن التراث الإسلامي بمجمله لهذه الفرضيات الواهية كفاطمة المرنيسي التي بنت مقولاتها في كتاب «ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعية» على مقولات سميث، بل سحبها بعضهن على لغة النص القرآني نفسه، والذي يبقى ما ورد فيه حول موقع كل من الذكر والأنثى «موضوع مساءلة» كما ذهبت حُسن عبود في قراءتها التأويلية للقرآن، أما الفرضيات العاملة في خطابهن فقد أخرجنها من نطاق المساءلة، برغم وعي بعض النسويات بالمآلات الخطيرة المترتبة على القول بالنظام الأبوي الذي ربطنه بالأديان السماوية واعتبرن رفض أحدهما رفضًا للآخر، وقد تجلى هذا في ثورة النسويات على اللغة التي كُتبت بها الكتب المقدسة والمتأثرة بذلك النظام المعبِّر عن الله بوصفه (مذكرًا) – برأيهن – والمطالَبة بإعادة صياغتها واستخدام ضمائر محايدة، وقد تحققت هذه المطالبة في عام 1994م بإصدار نسخة جديدة من الكتاب المقدس (العهد القديم والعهد الجديد) سميت بالطبعة المصححة، حيث استخدمت فيها الضمائر المحايدة، وانتهى رفض النظام الأبوي بطائفة من اللاهوتيات المسيحيات إلى رفض فكرة «الله» أو الإلحاد بصفة أدق عند وصولهن إلى مرحلة «ما بعد الأبوية» في مسيراتهن الفكرية، كما وصل الحال بمعظمهن إلى رفض العلاقات الطبيعية بين الجنسين والحمل والولادة باعتبارها مؤسسات أبوية تستعبد المرأة.

الحصاد المرتقب للقراءة الأدبية للقرآن:

ظهر الاتجاه الداعي لعلمنة الدين في الغرب كما هو معروف، ومن أبرز الدعوات الغربية الحديثة للتصالح مع الدين عبر علمنته دعوة «هابرماس»، التي وردت في كتاب «قوة الدين في المجال العام»، والتي طالب فيها المتدينين بترجمة الإمكانات الدلالية القادمة من التقاليد الدينية إلى لغة علمانية وإلى لغة متاحة للجميع.

وعلمنة الإسلام بإخضاع القرآن لمصير مشابه للتوراة والإنجيل، مما يدخل في صميم اشتغالات الاتجاه النسوي في العالم الإسلامي، والقراءة الأدبية للقرآن ليست إلا طريقًا من طرقه.

ووحده الساذج من تخدعه التصريحات الغربية حول استنارة الإسلام، ويظنه تحولًا في الموقف الاستشراقي من الإسلام كتصريح أنجليكا وينفرت الذي ذكرت فيه أن «ادعاء افتقار الإسلام إلى التنوير، كليشيه غربي قديم».

ويذكرنا هذا التصريح بما ذكره الباحث المغربي رشيد بو طيب في مقالته المشار إليها سابقًا والتي ذكر فيها أن ما تقوم به أنجليكا نويفرت لا يختلف عما يقوم به هابرماس في مطالبته للمتدينين بترجمة لغتهم إلى لغة دنيوية، ويرى بو طيب أن هذه المطالبات تلغي الآخر لكن باسم الديموقراطية.

ولا نحتاج إلى طويل تأمل لندرك خدمة القراءة الأدبية للطرح السابق واشتباكها معه، فحُسن عبود تكرر مقولة أمين الخولي لتؤكد أن القراءة الأدبية للقرآن يجب أن تتقدم على كل دراسة أخرى، وبعبارة أخرى تقدم بوصفها بديلًا عن التفسير التقليدي للقرآن «فالقرآن الكريم بكلام الشيخ أمين الخولي هو كتاب العربية الأكبر الذي يحتاج إلى تجاوز المنهج التقليدي للمفسرين». ودعوة الخولي مع الأسف جعلت تفسير القرآن «أرضًا مباحة لكل ذي علم أو جهل ولكل ذي نحلة إلهية أو بشرية» كما قال الباحث المغربي حسن بوتبيا في كتابه «القراءة الأدبية للقرآن».

ويجب أن ندرك هنا أن القراءة البديلة التي قدمتها حُسن عبود ليست هدفًا أدبيًّا ولا معرفيًّا بحتًا، وإنما وسيلة لتغيير البُنى والمفاهيم الذهنية، وما يترتب عليها من تغيير اجتماعي، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين الجنسين.

ومما يجب استحضاره هنا أن القراءة الأدبية وسيلة لتذويب الهوية الإسلامية عبر ما يسمى بالحوار المسيحي الإسلامي، وهذا ما لم تعلنه المؤلفة الناشطة في هذا الحوار، ومما ذكرته في ثنايا كتابها في هذا الشأن إشارتها لأهمية استثمار الإشارة المريمية في القرآن كما وجه لذلك المستشرق لويس ماسينون، ولذا فالحفاظ على التميز العقائدي الإسلامي فضلًا عن إبرازه ليس هدفًا يشغل المؤلفة بل تهدف المؤلفة لتوظيف دراستها في البحث عن المشتركات أو عن كل ما يشي بالذوبان القرآني في المسيحية فتقول بلغة استشراقية تذكرنا بلغة المستشرق بلانشو: «في بحث كهذا ليس مهمًا أن نستخدم قواميس اللغة السامية وغير السامية فحسب، إنما من المهم أيضًا أن نعترف بالتراث الشعائري والأدبي المشترك والذي بدا لنا أن القرآن يستحضره في الصلوات والترانيم والقصص». وتدعي المؤلفة أن سورة آل عمران تحتوي مصطلحات وأنغامًا مسيحية وتعبر عن إعجاب خافت بالديانة المسيحية، ثم تذكر أن الآيات التي تمثل الحجاج في سورة آل عمران لا يمكن أن تكون موجهة للنصارى، والحجاج في السورة يتوجه لفئة واحدة من الذين أوتوا الكتاب هي اليهود لأن القرآن عبر عن إعجاب بشخصيات مسيحية كامرأة عمران وزكريا ومريم وعيسى، أما الذين كفروا فيراد بهم اليهود ومشركو العرب، ولهذا تشدد حُسن عبود على أهمية التناص في سورة مريم لأهميته اللاهوتية والروحية والنسوية.

منهجية التأليف بين المتنافرات وحصاد الهشيم:

برغم انطلاق حُسن عبود من مقولات أنجليكا نويفرت التي لا تعترف بالمصدر الإلهي للقرآن، وتنبني نظريتها التأويلية للقرآن على بشرية القرآن وسائر الكتب المقدسة، فقد حاولت المؤلفة استثمار النظرية الأنجليكية مع استبقاء لفظي للصفة السماوية للقرآن، والواقع أن تطبيق نظرية أنجليكا كما لاحظنا أعلاه يعود بالمؤلفة للقول بمقدمتها، أي إلى تأكيد بشرية القرآن وكونه محض منتج ثقافي، وهو ما استفرغت المؤلفة جهدها في تأكيده واصطناع شواهده صفحة بعد صفحة، وهذا التناقض الكبير هو نتاج التلفيق بين مقولتين متضادتين هما المقولة الإسلامية التي تعتبر القرآن كلام الله المحفوظ من التغيير والتحريف والتبديل والمقولة الاستشراقية القائلة بالعكس تمامًا.

كما أن المؤلفة عرضت الاختلاف بين القرآن التوراة والأناجيل بجميع نسخها المعترف بها والمنحولة وكأنه اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وتتحدث عن الأناجيل وكأنها تنقل روايات متعددة من كتاب واحد، وتشير إلى السلالة الواحدة للكتب السماوية مرة بعد مرة دون تمييز مطلقًا بين الرواية الموثوقة للقرآن وبين التوراة والإنجيل بوصفهما كتابين محرفين، وإذا ما تجاوزنا النقد الإسلامي لفكرة التسوية بين القرآن والكتب المحرفة واكتفينا بالرد على هذه الفكرة من الأدبيات الاستشراقية الغربية، فالفرق بين تلك الكتب والقرآن نجده لدى المستشرق «موريس بوكاي» الذي انتهى في كتابه «التوراة والإنجيل والقرآن والعلم» إلى أن التوراة عبارة عن أعمال أدبية كتبت على مدى فترة زمنية تقارب تسعة قرون بأيدي كتاب متعددين مما أدى لتغير مضامينها، وشبهها بفسيفساء تفتقد الانسجام، وأما الأناجيل الأربعة فهي برأيه كتابات أشخاص لم يعاصروا المسيح ولم يشاهدوا أفعاله، وكُتب بعضها بعد زمن طويل من وفاة المسيح، فظهرت في تلك الكتابات تناقضات بحسب ميول كل كاتب، بخلاف الوحي القرآني الذي نزل على مدى عشرين عامًا وتم تسجيله وكتابته أثناء حياة الرسول صلى الله وعليه وسلم، وتم تدقيقه من قبل عثمان رضي الله عنه مما يجعل للقرآن أصالة بين الكتب السماوية الأخرى.

أما الأناجيل المنحولة فيكفي فيها تعريف المؤلفة نفسها لها بأنها تعرف بالكتابات المنحولة أي الكتابات الخفية المكتومة، وهي التي لم تعترف الكنيسة لا بأصالتها ولا بقانونيتها وتميل إلى التفاصيل والتضخيم بالأفكار والأعاجيب الخارقة.

ولا شك أن هناك فرقًا بين كون القرآن {مُصَدِّقًالِّـمَابَيْنَيَدَيْهِمِنَالْكِتَابِوَمُهَيْمِنًاعَلَيْهِ} [المائدة48] وبين أن يكون ناقلًا عنهما أو أحدهما مع اختلاف تفترق فيه الكتب في الخواتيم.

وما فعلته مؤلفة كتاب «السيدة مريم في القرآن الكريم»، هو محاولة بائسة لزحزحة القرآن من مكانته بوصفه مهيمِنًا على الكتب السابقة ليصبح مهيمَنًا عليه من قبلها.

وهذه الزحزحة يردها ما ذكره أهل العلم في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَاإلَيْكَالْكِتَابَبِالْـحَقِّمُصَدِّقًالِّـمَابَيْنَيَدَيْهِمِنَالْكِتَابِوَمُهَيْمِنًاعَلَيْهِ} [المائدة48«أي حاكمًا على ما قبله من الكتب»، قاله ابن عباس رضي الله عنه. وقال الفخر الرازي رحمه الله: «إنما كان القرآن مهيمنًا على الكتب لأنه الكتاب الذي لا يصير منسوخًا البتة، ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف على ما قال تعالى:{إنَّانَحْنُنَزَّلْنَاالذِّكْرَوَإنَّالَهُلَـحَافِظُونَ} [الحجر٩]. وقال ابن تيمية رحمه الله: «السلف كلهم متفقون على أن القرآن هو المهيمن المؤتمن الشاهد على ما بين يديه من الكتب».

والهيمنة البديلة التي اصطنعتها المؤلفة لتلك الكتب المحرفة، تتبعها هيمنة الثقافة الغالبة ليصبح القرآن ناطقًا بثقافتها شاهدًا لنظمها وقيمها، ومنها قيم النسوية التي وصفتها المؤلفة في أحد بحوثها بالعقيدة، لا ليكون القرآن شاهدًا عليها فضلًا عن أن يكون حاكمًا عليها.

وما أحسن ما قاله مصطفى الرافعي رحمه الله في كتابه «تحت راية القرآن» ردًا على القراءة الأدبية الأولى للقرآن التي اجترحها طه حسين: «إن القرآن عند هذا الرجل كتاب أشبه بالكتب التي يضعها المؤلفون فتكون تمثيلًا للعصر الذي وضعت فيه لأنها صادرة عن فكر متأثر بالأسباب الكثيرة التي أنشأت العصر نشأته الخاصة والمميزة له، مؤثرة بهذه الأسباب عينها فيما يضعه ويؤلفه، كما ترى في إلياذة هوميروس مثلًا، وإذًا فلم يبق معنى لما ورد فيه من أنه {لايَأْتِيهِالْبَاطِلُمِنْبَيْنِيَدَيْهِوَلامِنْخَلْفِهِتَنزِيلٌمِّنْحَكِيمٍحَمِيدٍ} [فصلت42ويلتحق هذا بالأساطير التي استغلها الإسلام لسبب ديني»، ثم بَّين الرافعي ما تعنيه هذه الآية التي وصفها بالبلاغة المعجزة بقوله: «إن معناها يا أستاذ الجامعة أن القرآن لا يشخِّص عصرًا ولا يمثله، بل هو كتاب كل عصر، وهو الثابت على كل علم وكل بحث وكل اختراع واستكشاف على مرِّ الأزمنة، في أيها جاء مما يستأنفه التاريخ وهذا معنى {مِنْبَيْنِيَدَيْهِ}، وأيها ذهب مما يطويه الماضي، وهذا معنى {مِنْخَلْفِهِ}، وليس يخفى أن العصور يصحح بعضها بعضًا ويكشف بعضها خطأ بعض، وقد يتقرر في زمن ما يثبت بعد أزمان طويلة أنه كان خطأ، فقوله {لايَأْتِيهِالْبَاطِلُمِنْبَيْنِيَدَيْهِوَلامِنْخَلْفِهِ} من الكلمات التي لا تخطر بفكر إنساني يظن أنه يشخص العصر الجاهلي، بل هي علم من لا يعلم غيره أن ستجدُّ أمور، وتحدث علوم، وتمحص تواريخ، وتنشأ مخترعات، فلو فهم الجاهل لما تكلم إلا الفاهم، وقد قال الله في أشباه طه حسين: {وَجَاءَتْهُمْرُسُلُهُمبِالْبَيِّنَاتِوَمَاكَانُوالِيُؤْمِنُوا} [يونس13]».


[1] حول مفهوم الجندر وآثاره التطبيقية على القرآن، راجع مقالة: «القراءة الجندرية للقرآن ومقالات التسول الثقافي»، لملاك الجهني على موقع نماء للدراسات والبحوث على الشبكة.

جواد التباعي،ينال شهادة الدكتوراة في التاريخ بميزة مشرف جدا

بعد مسار علمي متميز، ختمه الصديق، والزميل في المهنة، الأستاذ جواد التباعي، اليوم الأربعاء فاتح يوليوز 2021. بحصوله على شهادة الدكتوراه، برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس، جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس.

موضوع الأطروحة: نماذج من التراث الثقافي ببلاد إيان من العصر الوسيط إلى الزمن الراهن: دراسة وتثمين.

وقد أثنت اللجنة العلمية المشرفة على المجهود العلمي الذي بذله الدكتور جواد التباعي، ومنحته ميزة مشرف جدا، مع توصية بالطبع.

هنيئا لابن أجلموس، ومزيدا من التألق لأبناء بلدنا..

يقول الأستاذ جواد التباعي في هذا الصدد:

تمت بحمد الله صبيحة اليوم مناقشة أطروحتي لنيل شهادة الدكتوراه في موضوع “نماذج من التراث الثقافي ببلاد زيان من العصر الوسيط إلى الزمن الراهن: دراسة وتثمين”. بكلية الآداب سايس؛ والتي حصلت فيها على ميزة مشرف جدا مع توصية بالطبع وتنويه خاص من لجنة المناقشة.
وهي مناسبة اغتنمها لتقديم الشكر الجزيل لكل اساتذتي بماستر التراث والتنمية واستاذي المشرف الدكتور الحاج موسى عوني ولكل أعضاء اللجنة ولعائلتي الكبيرة والصغيرة ولكافة الأصدقاء الذين دعموني بفكرة أو تصويب أو دعم معنوي طيلة السنوات الست الماضية ولكافة الزيانيين أينما كانوا.
مع تجديد الاعتذار للذين لم يتمكنوا من الحضور للظروف المعروفة.

النفس الإنسانية بين الشيخ محي الدين بن عربي والغزالي والتحليل النفسي

جابت الصوفية الأروقة الروحانية والخبايا الداخلية في داخل النفس البشرية واللاشعور البشري، كانت قد سبقت فرويد في تحليل “اللاوعي” ضمن مسمى “اللاشعور”. الصوفية وعلم النفس -وتحديدا العالم النفسي سيغموند فرويد- تسبر غور النفس والروح وآثار اللاوعي عليها. في القرن العشرين، عمل المسلمون على ربط الصوفية بالفرويدية حيث أوضحوا أوجه التشابه العميقة بينهما. فما وجه الشبه بين هذين المصطلحين اللذين قد يبدوان متضاربين ومتنافرين للوهلة الأولى؟

حتى بين صفوف المفكرين الثوريين، سوف تجدون ما هو مألوف على غير العادة؛ وسيغموند فرويد** ليس استثناء لذلك، حيث تعرف العرب على أفكار الهيكل الفكري لفرويد المتأثرة بالمفكرين الإسلاميين التقليديين. في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، عندما ترجم المثقفون أعمال فرويد إلى العربية، كانوا قد توصلوا إلى محي الدين بن عربي الفيلسوف الصوفي العظيم الذي يعود تاريخه إلى القرن الثاني عشر والثالث عشر. ويورد الكاتب المسرحي والروائي المصري توفيق الحكيم أن الدافع لمزج التقاليد يعود إلى زمن غزو الإسكندر لسورية وترجمة الأعمال الفلسفية من اليونانية إلى السريانية لاحقا.

تحت الحكم الروماني، كانت مصر مركزا للتعلم وجزءا من عالم فكري كلاسيكي مشترك وشمل ذلك العالم الإسكندرية بقدر ما فعلت أثينا وروما. وفي وقت لاحق، تمت ترجمة الفلسفة اليونانية، ولا سيما أعمال أفلاطون وأرسطو إلى اللغة العربية في بداية الفترة الإسلامية المبكرة، مما ساهم في حراك الفلسفة الهيلينية. وفقا لتوفيق الحكيم، تم صب الأفكار اليونانية في قالب الفلسفة الإسلامية؛ كانت هذه العملية واضحة أيضا في عمله نفسه الذي يجمع بين المأساة اليونانية والأساطير الإسلامية من أجل التأثير على ما أسماه “التزاوج بين طبقتين وعقليتين”. بالنظر إلى هذا الميل للاستفادة من التقاليد المشتركة، ليس من المفاجئ على الإطلاق لجوء المفكرين العرب إلى مفردات إسلامية روحانية “صوفية” عند ترجمة فرويد في منتصف القرن العشرين.

المصطلحات النفسية الفرويدية وتأثرها بابن عربي

ابتداء من عام ألف وتسعمئة وخمسة وأربعين 1945، نشر يوسف مراد -عالم النفس الأكاديمي والمزود بتقاليد الفرويديين والتحليل النفسي- قاموسا لمصطلحات في مجالات علم النفس والتحليل النفسي مرادفة للمصطلحات الإنجليزية والفرنسية والألمانية باللغة العربية. يستحق مفهوم فرويد (unconscious) “اللاشعور” أو “اللاوعي” اهتماما خاصا، حيث أن “اللاشعور” مصطلح ناقشه محي الدين بن عربي في كتابه الكلاسيكي “فصوص الحكم”. كان عمل ابن عربي الشعري و الإهليجي قد فتن القراء لقرون عديدة، تماما كما كان يفتن فرويديي العرب في القرن العشرين. في “فصوص الحكم”، يربط ابن عربي قصة سيدنا إبراهيم -في باب: “فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية”– الذي يزوره الله في الحلم ويخبره بالتضحية بابنه. وفقا لابن عربي، فإن النوم والأحلام تحدث في مستوى الخيال (حضرة الخيال) ويجب أن تخضع للتفسير.

وكما قال ابن عربي، قال الله لإبراهيم: “أنت تؤمن برؤيا” يفهمها ابن عربي كخطأ إبراهيم الجوهري. يعتقد ابن عربي أن إبراهيم يخطئ في أخذ الرؤيا حرفيا عندما كان يجب عليه تفسيرها بدلا من ذلك. أو كما صاغها المحلل النفسي الفرنسي جان ميشيل هيرت في عام ألفين وتسعة 2009، فإن المعضلة هي “ما إذا كان يعتقد أو يفسر حلم المرء”. وكان ذلك تحديدا باعتباره غير مدرك أو غير واع (اللاوعي- اللاشعور) في الواقع، يتابع ابن عربي: “الحقيقة ليست ‘اللاوعي أو اللاشعور‘ لأي شيء، في حين أن الخادم غير واع بالضرورة لمثل هذا الأمر فيما يتعلق ببعضه البعض”. وفي وقت لاحق اعتمد مترجمو اللغة العربية على فكرة “اللاواعي” عند فرويد أو “غير العارف”، باعتبارهما يشيران إلى وجود امرئ غير واع.

توفر قصة إبراهيم وابنه [إسماعيل] مادة غنية من وجهة نظر فرويدية؛ يتردد صداها بشكل عميق في المفاهيم والاهتمامات الفرويدية بالإضافة إلى فكرة اللاواعي لدى المرء. فمثلا توضح هذه القصة الحاجة إلى تفسير الأحلام. إن فهم الأحلام في الثقافات العربية والإسلامية هو جزء من تقاليد قديمة جدا وغنية بتفسير الأحلام. الأحلام كالنصوص؛ لها معان (ظاهرة) ومعان كامنة مستترة (مبطنة أو معنى باطن بعكس الظاهر). يمكن فهم المعاني الكامنة للأحلام بمساعدة العلامات (الآيات) والتلميحات (الإشارات). هنالك مثال كلاسيكي من القرآن الكريم وهو وصف يوسف لأبيه: {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين}. بالنسبة إلى يوسف، يمكن تفسير هذه الرؤيا بشكل رمزي حيث تمثل الكواكب إخوته الذين سجدوا أمامه في الواقع في وقت لاحق عندما أصبح ذا سلطة في مركز عظيم في مصر.

 الشيخ  الأكبر  محي الدين بن عربي

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧◇♧♧◇

يجد ابن عربي هذا التفسير مفتقرا إلى حد بعيد، ويقترح -بدلا من ذلك- أن يوسف لا يدرك أنه في الحقيقة ما زال يحلم، حتى عندما يرى إخوته في مصر لاحقا. يؤمن يوسف برؤياه، وبالتالي يكون دور التفسير قد انتهى. لكن كما أشار الباحث في الدراسات الإسلامية هنري كوربن، فإن ابن عربي يقترح بدلا من ذلك التقليد التنبئي: “البشر نائمون؛ وعند موتهم يستيقظون”. يشير ابن عربي إلى أن: “الوجود على الأرض حلم داخل حلم”. وكما أشار العالم الياباني توشيهيكو إيزوتسو في كتابه: “الصوفية والطاوية” الصادر عام ألف وتسعمئة وثلاثة وثمانين 1983، فإن هذا يكشف عن “نقطة البداية في التفكير الأنطولوجي [والأنطولوجيا هي علم الوجود وتعتبر أحد الأفرع الأكثر أصالة وأهمية في الميتافيزيقيا] عند ابن عربي، أي أن ما يسمى بـ ‘الواقع، ليس سوى حلم … غير واقعي”، لكن هذا لا يعني أنه خيال ذاتي، بل يمكننا أن ننظر إليه كما يقول إيزوتسو على أنه: “وهم ‘موضوعي‘”.

هذا المفهوم للواقع رغم كونه غير واقعي بحد ذاته، إلا أنه في الوقت نفسه ليس وهما مطلقا، فهو يسلط الضوء على مفهوم آخر مرتبط ارتباطا وثيقا بالتحليل النفسي؛ وهو مفهوم التخيل. تم تصوير هذا الخيال بشكل كبير في التقليد التحليلي في وقت لاحق، وعلى الأخص من قبل جاك لاكان؛ كان لاكان قد قرأ عن ابن عربي عن طريق كوربن. وكما يشرح الباحث في الدراسات الدينية ويليام تشيتك، فإن ابن عربي كان ينظر إلى عالم الخيال على أنه عالم وسيط، وهو عالم بين الروحانية والمادية. وضع ابن عربي مثال انعكاس المرء في المرآة ضمن نظرية، وهو ما فعله لاكان لاحقا. حيث تساءل في هذه النظرية: هل صورتي في المرآة حقيقية أو غير حقيقية؟ من ناحية ما، نعم، ومن ناحية أخرى، ليست كذلك؛ هذا يوضح طبيعة الخيالية، على أنها موجودة وغير موجودة في آن واحد.

الصلات بين الصوفية في الإسلام والفكر الفرويدي واضحة وعميقة. لكن هل أوجد المفكرون الإسلاميون هذه الروابط بين التحليل النفسي والإسلام؟ لقد فعلوا ذلك، مشيرين في كثير من الأحيان إلى التقاليد المشتركة لتفسير الأحلام، بالإضافة إلى الأسلوب المشترك لفهم النصوص والأحلام من خلال العلاقة بين المعنى الكامن والظاهر ضمن المعرفة الدينية. كما أدرك المفكرون الإسلاميون التشابه الغريب بين علاقة المحلل والمحلل (النفسيين) وبين الشيخ (أو المعلم الروحاني) وتلميذه في الصوفية. قام أبو الوفا الغنيمي التفتازاني -وهو شيخ صوفي من أواسط القرن العشرين وأستاذ في الفلسفة الإسلامية والصوفية في جامعة القاهرة- بالكتابة عن الصوفية في الخمسينيات. كان له قراء على نطاق واسع في مصر وخارجها، وكان غالبا يقارن الصوفية والتقاليد التحليلية النفسية.

سعد الدين التفتازاني والتحليل النفسي

♧♧♧♧♧◇◇◇◇◇◇◇♧♧♧♧♧♧

أشار التفتازاني -تحديدا- إلى أن الصوفية والتحليل النفسي يعتمدان على أسلوب متعمق ومتفحص؛ كلاهما لا يتعاملان مع المحتوى الظاهر في النفس أو الروح، ولكن مع المحتوى الكامن “الداخلي”، وهو مجال غالبا ما يتميز بالرغبات الجنسية. الأهم من ذلك، أظهر كلاهما الاهتمام بالباطن أو عالم المعنى الخفي، وكذلك بالنسبة للخبايا الداخلية للاوعي (اللاشعور). إن الشيخ الصوفي يشبه إلى حد كبير المحلل “النفسي”، حيث يراقب ويلاحظ إلى أن يتأكد من الأفكار والرغبات اللاواعية لدى تلميذه من أجل تسهيل تحول الذات. كانت الصوفية والفرويدية مرتبطتين بشكل وثيق؛ فعبد الحليم محمود -عالم الصوفية الذي أصبح في نهاية المطاف الإمام الأكبر للأزهر- أشار إلى أن “كل معلم صوفي هو ‘طبيب نفساني‘ إذا جاز التعبير”. إن العلاقة بين شيخ الصوفية وتلاميذه هي علاقة اتساق تنطوي على تحول نفساني.

فهم المفكرون الصوفيون كفاحهم ليكونوا جزءا من معركة أكبر بين نزعات الإنسان النبيلة والرذيلة. وأكد التفتازاني أن الصوفية تهدف إلى الحصول على المعرفة المباشرة ومحبة الله. سعوا إلى اتحاد روحاني مع الله، وإبادة النفس الأنانية التي لا يزال الله فيها بمثابة فائض سامي. أشار التفتازاني إلى أن ما سبق ليس استكشافا ذاتيا فرديا، بل كان اتحادا مقدسا مع الملكوت السماوي. من المرجح أن فرويد قد رأى الصوفية “لا شيء سوى علم نفس مسقط على العالم الخارجي”، ولكن بالنسبة للتفتازاني وغيره، كان ذلك بمثابة مسار أخلاقي نحو الله.

إن تفاعل التفتازاني مع التقليد الفرويدي هو مجرد أحد الأمثلة من العالم العربي في منتصف القرن العشرين للتبادل بين التحليل النفسي والإسلام. كان تبادلا متعاطفا وإبداعيا يتضمن اعترافا متبادلا، وبني على صلات عميقة مشتركة

الفيلسوف الصوفيّ أبو حامد الغزالي

♧♧♧◇◇◇◇♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

لو تأمّلنا في فهم الإمام أبي حامد الغزالي، أحد أشهر الفلاسفة الصوفيين، من وجهة نظر علم النفس الحديث، لا سيّما مدرسة التحليل النفسيّ، لوجدنا أنّه استطاع سبر أغوار النفس وأُثر اللاوعي أو اللاشعور عليها من خلال التركيز على ثلاثة محاور أساسية؛ هي طبيعة النفس وأمراضها وطرق علاجها. ولذلك، لم يكنْ غريبًا على المترجمين العرب أنْ لجؤوا إلى المصطلحات الصوفية حين أرادوا ترجمة كتب سيغموند فرويد في منتصف القرن الماضي.

وقد تنوعت مصادر العلماء العرب والإسلاميين في فهمهم للنفس الإنسانية وأحوالها ومشكلاتها واضطراباتها، لعلّ أهمها هي ما كتبه شيوخ الصوفية وكبار فلاسفتها مثل أبي حامد الغزالي وابن عربيّ والترمذي وابن سينا وغيرهم الكثير.

النفس عند فرويد وأبي حامد الغزالي

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

قام فرويد بتقسيم “النفس” إلى أقسامها الثلاثة المشهورة؛ الأنا والهو والأنا العليا، على أنّ الهو هو الجزء المسؤول عن الغرائز المكبوتة التي تمنعها الأنا من الظهور، ويعمل الهو وفق مبدأ اللذة وتجنب الألم ولا يراعي المنطق والأخلاق والواقع. أما الأنا العليا فهي الجزء من الشخصية الذي يلتزم بالخير والأخلاق المكتسبة من الأسرة والمجتمع ويحاول الالتزام بها. والأنا تمثّل الشخصية الأكثر اعتدالًا ما بين الهو والأنا العليا وتسعى للتكيّف والتوافق، أي أنها حالة وسطية بين الخير والشر، بين الأخلاق وانعدامها، بين الملائكية والحيوانية، وهكذا.

عرّف الغزالي النفس على أنها المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوةٍ في الإنسان، أو أنها اللطيفة التي هي حقيقة الإنسان وذاته

أمّا الغزالي فقد عرّف النفس على أنها المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوةٍ في الإنسان، أو أنها اللطيفة التي هي حقيقة الإنسان وذاته. وقد قام بتقسيمها إلى أيضًا إلى ثلاثة أقسام أساسية، النفس الشهوانية التي تسيطر عليها الشهوات والغرائز والأهواء، والنفس اللوامة، أي الجزء من النفس الذي يكون في صراعٍ دائمٍ بين الأضداد كالشهوة والعقل، وهناك النفس المطمئنة أو العاقلة وهي التي تعارض الشهوات والغرائز وترضى بحكم العقل.

ولذلك يقول الغزالي:

“لقد جمعت في باطنك صفات منها صفات البهائم ومنها صفات السباع ومنها صفات الملائكة؛ فالروح حقيقة جوهرك وغيرها غريب عنك، وعارية عندك. فالواجب عليك أن تعرف هذا، وتعرف أن لكل واحد من هؤلاء غذاء وسعادة. فإنّ سعادة البهائم في الأكل والشرب والنوم والنكاح، فإن كنت منهم فاجتهد في أعمال الجوف والفرج، وسعادة السباع في الضرب والفتك، وسعادة الشياطين في المكر والشر والحيل، فإن كنت منهم فاشتغل بأشغالهم، وسعادة الملائكة في مشاهدة جمال الحضرة الربوبية وليس للغضب والشهوة إليهم طريق، فإن كنت من جوهر الملائكة فاجتهد في معرفة أصلك حتى تعرف الطريق إلى الحضرة الإلهية، وتبلغ إلى مشاهدة الجلال والجمال، وتخلص نفسك من قيد الشهوة والغضب.”

وبالتالي، نستطيع القول أنّ كلًا من الغزالي وفرويد توصّلا إلى حقيقةٍ مفادها أنّ النفس تنقسم في ذاتها إلى عدة أقسام أو مكوّنات، منها ما يتبع الغرائز والشهوات ولا يتبع أي منطقٍ أو أخلاق، ومنها ما يلتزم بالخير والأخلاق ويسعى إليهما، ومنها ما يوازن بين تلك الأخلاق دون إغفال النزوات والشهوات والرغبات، وهذا هو بالأساس ما بنيت عليه فلسفة الغزالي ونظرية فرويد للنفس لاحقًا.

يؤمن الغزالي بأثر التربية العميق في توجيه الغرائز وتهذيبها، إلا أنه في الوقت نفسه لا ينكر دور الطبيعة والوراثة في عمليات التعلّم والتربية والتطبّع

إذ يرى الغزالي أنّ الاعتدال في الأخلاق والصفات هو دليلٌ على صحّة النفس، أمّا الانحراف عنهما فهو علامة مرض النفس وسقمها، تمامًا كما يرى فرويد أنّ المرض النفسيّ هو نتيجة للصراع العقيم ما بين مكوّنات النفس الثلاثة، أمّا الصحة النفسية فهي نتاج التوازن والاعتدال فيما بينها.

كما يعتقد الغزالي أنّ النفس خالية من أيّ نقش؛ فإنْ تعوّد صاحبها على الخير نشأ عليه، وإنْ تعوّد على الشرّ سار عليه. ومن جهةٍ أخرى، فيؤمن بأثر التربية العميق في توجيه الغرائز وتهذيبها، إلا أنه في الوقت نفسه لا ينكر دور الطبيعة والوراثة في عمليات التعلّم والتربية والتطبّع، ليلتقي مع الكثيرين من علماء النفس الحديثين فيما يتعلّق بالنقاش الكلاسيكي القديم حول دور الطبيعة والوراثة في الإنسان، والمعروف بثنائية “الطبع-التطبّع”

كيف يتشابه كلٌّ من الشيخ ا لغزالي والمحلّل النفسيّ؟

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

في الصوفية، تُعتبر العلاقة الثنائية بين التلميذ والمعلّم أو الشيخ عاملًا مهمًّا في سيرورة عملية التعلّم والتهذيب. إذ يبدأ التلميذ بالبحث عن شيخٍ يرتاده بعد أن يشعر بنقصه الخاص وتتولّد لديه الرغبة بالوصول إلى الكمال. وعندما يجده، يسلّم التلميذ نفسه لإرادة شيخه ليمرّ من خلاله عبر مراحل الوصول إلى “الإنسان الكامل”. وتُعرف هذه العلاقة باسم “الإرادة” ويهدف المريد من خلالها تزكية نفسه من أجل بلوغ أهداف هامة من خلال سيره وسلوكه الذي يتمّ توجيهه من قبل الشيخ والمعلّم.

الشيخ الصوفي يشبه إلى حد كبير المحلل النفسي، حيث يعمل كلاهما على مراقبة وتحليل الأفكار والرغبات اللاوعية لكلٍ من التلميذ والمريض من أجل تسهيل عملية التحوّل النفسانيّ

أما في التحليل النفسيّ، فتُعتبر العلاقة بين المريض والمحلّل النفسيّ أمرًا عنصر حاسمٌ في العملية العلاجية التي أطلق عليها فرويد اسم “التحويل”، وهي ظاهرة نفسية يقوم فيها اللاوعي بإعادة توجيه المشاعر من شخص إلى آخر، أي من المريض إلى المحلّل النفسي خلال جلسات العلاج، حيث يصبح الأوّل مطيعًا للثاني وواثقًا فيه. إذ يُنظر إلى المحلل على أنه شخص يمكن الاعتماد عليه وعادةً ما تحدث هذه العلاقة بشكلٍ عفوي في مرحلة ما من مسار العلاج ولا غنى عنها لأي تقدّم علاجي حقيقي وناجح.

وبالتالي، يمكننا القول أنّ الشيخ الصوفي يشبه إلى حد كبير المحلل النفسي، حيث يعمل كلاهما على مراقبة وتحليل الأفكار والرغبات اللاوعية لكلٍ من التلميذ والمريض من أجل تسهيل عملية التحوّل النفسانيّ، إلا أنّ عملية الإرادة تتطلّب من التلميذ أن يصبح مستمعًا مؤهلًا للتعلّم من شيخه وأستاذه، أما عملية التحويل النفسيّ فتتطلب من الطبيب أو المحلّل أن يكون هو المناسب للاستماع الجيد.

وهكذا، نستطيع القول أنّ كلًا من الصوفية وعلم النفس تسعيان بشكلٍ أو بآخر إلى الغوص في خبايا النفس البشرية، وعلى اختلاف أهداف ذلك والمساعي المرتبطة به، إلا أنّ ثمة تشابه كبير في مواضيع عديدة مثل اللاوعي واللاشعور والأحلام والأمراض النفسية مثل القلق والاكتئاب وطرق علاجها، وتحقيق الذات والوصول إلى الكمال وغيرها الكثير من المواضيع العديدة.

—————————-

هوامش

** سيغموند فرويد هو طبيب أعصاب نمساوي أسس مدرسة التحليل النفسي وعلم النفس الحديث، واشتهر بنظريات العقل واللاواعي.

————————————

فلسطين تقاوم وتنتصر..

انتصرت غزة على الكيان الصيوني

النصر والهزيمة
والنجاح والفشل
يقاس بمعايير كثيرة أهمها:
” تحقيق الأهداف”

والآن لنقيّم من انتصر في هذه الجولة:

أهداف الكيان الصهيوني:
كسر المقاومة
التخلص من سلاحها
قتل قادتها
فرض السيطرة على الأقصى
التهجير عند الرغبة
كسر إرادة الشعب الفلسطيني

وكلها أهداف لم تتحقق.

أهداف المقاومة:
كسر هيبة الصهاينة
اثبات وحشيتهم للعالم
زرع الخوف في شعبهم
هز اقتصادهم
حماية الأقصى
منع التهجير
حشد الأمة مع المقاومة
استئناف الدعم المالي الذي انقطع
التمثيل الحقيقي للشعب الفلسطيني
تحريك كل أطياف الشعب حتى ٤٨
ايقاف قطار التطبيع والخيانة

ومعظمها أهداف قد تحققت

فيحق للمقاومة الاحتفال بالنصر في هذه الجولة، وها أنا من أوائل المهنئين

أما النصر الشامل وتحرير فلسطين فيحتاج لكل الأمة، وتحرك الجيوش الرسمية وليس المقاومة وحدها،
وهذا يحتاج إلى حكام مخلصين وجادين

ومع احتفالاتنا بالنصر لا ننسى الدعاء للشهداء الذين هم أحياء عند ربهم يرزقون وكذلك الجرحى والمصابين في سبيل الله تعالى،
ونسأل الله تعالى أن يتقبلهم في عليين ، وعلى الأمة أن تقوم بواجبها بأن تخلفهم خيراً في أهلهم وتعوض كل أسرة فقدت معيلها أو بيتها أو مصدر رزقها.

ومعاً نحو النصر أو الشهادة
ونقول لأعداء الحق والإنسانية:

“قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا
فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ”

فلسطين تقاوم وتنتصر..

ما يسمى بالهدنة أو التهدئة و وقف إطلاق (دون شروط) بين المقاومة وسلطة الاحتلال ، يشكل انتصارا للشعب الفلسطيني، يجب أن يتبع بوقف العدوان والتصعيد و الاستفزاز و الاستيطان والتهويد والتهجير.

بالمقابل يجب أن يستمر الشعب الفلسطيني في كفاحه ودفاعه عن مقدساته وحقه في إقامة دولته المستقلة و عاصمتها القدس التزاما بالوعد والعهد مع الشهداء والجرحى والأسرى وكل أحرار العالم.

على الشعوب العربية الحرة أن تضغط على آنظمتها لوقف التطبيع بحثا عن سلام وهمي على حساب الشعب الفلسطيني مع محتل لم يتخلى عن حلمه في تحقيق دولة صهيونية تمتد من النيل إلى الفرات.

هي مجرد معركة قاوم فيها الشعب الفلسطيني وانتصر لنفسه، معركة كشفت عن الأحرار والعملاء الأشرار، لكن الحرب مستمرة بين الحق والظلم حتى تحقيق الدولة الفلسطينية المستقلة من النهر إلى البحر ..

كيف أجاب ابن سينا على «معضلة الشر»؟

الشر في فكر ابن سينا
منهج ابن سينا في معضلة الشر

كيف أجاب ابن سينا على «معضلة الشر»؟

لماذا توجد الأمراض والفقر والكوارث؟

ما الذي يدفع البشر نحو العدوان والحرب والاستبداد؟

لماذا وُجدت «المعاناة» في حياتنا؟

بعبارة أخرى: لماذا يوجد الشر في هذا العالم؟

هل هو من صُنع الإنسان، أم هو من مسببات الطبيعة، أم هي الإرادة الإلهية ولا شيء سواها؟

وطالما كنّا نؤمن أن جميع الموجودات تخضع لإرادة إلهية عُليا تسيّر الأحداث وتدبّر أفعال العباد، فكيفَ يستقيم إيماننا بأن تلك الإرادة هي إرادة خيّرة، ومع ذلك فإنها تأمر – أو تسمح – بأفعال الإنسان الشريرة ونوائب الدهر المؤلمة؟

لطالما مثلت مسألة «الشر» معضلة إنسانية كبرى للإنسان، ليس فقط لأنه يتألم إذ يعاين أحداثه، ويصير ضحية لهذا الشر، بل لأنه وجد دومـًا إشكالية في فهمه، ولم يستطع كثيرًا أن يُفسّر أسباب وجوده أو يدرك الغاية من ورائه، وهو الأمر الذي يبعث على التشاؤم إزاء أمر لا يقبل الفهم ولا الاستئصال، ولا نستطيع حتى – في كثير من الأحيان – التخفيف من وطأته.

الخير أصل الموجودات: كيف عرّف ابن سينا الشر؟

يرتبط تعريف الشر عند ابن سينا بثنائية «الوجود والعدم»،

فيُقال للشيء «شرًا» عندما يترتب عليه حرمان الموجودات من الكمال، فالعمى يُعد شرًا لأنه يحرم حاسة الإبصار من كمالها ومن سلامتها التامة التي هي البصر، وهذا الشر ذاتي وليس بالقياس إلى أي شيء آخر.

أما إذا كانت الأمور التي نحكم عليها بأنها «شرور» وجودية، أي موجودة في الواقع وليست مجرد إعدام لأشياء أو ظواهر، فإن ابن سينا يرى أنها «ليست شرورًا بذاتها، بل لأنها تتضمن عدم أمور ضرورية أو نافعة» (المباحث المشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات، ٢/٥٢٠)، فهي شر بالنسبة إلى من وقع عليه الضرر، شر بالنسبة لفاعلها.

مثال على ذلك القتل، فهو – من حيث قدرة القاتل على استعمال آلة القتل – يعد كمالًا له، كما يُعد كمالًا للآلة، فيما هو شر للمقتول لأنه يتضمن زوال حياته، فالخير هو الوجود والشر هو العدم، ومن هنا الشر لا يصيب الكمال المطلق (مثل الخالق تعالى أو الأنبياء ذوي الفطر الكاملة)، كما أن الشر لا يتجسد في مخلوقات بعينها، لأن العدم المطلق لا وجود له، ومن ثم فليس لما يُعرف بـ «الشر المطلق» وجود.

كما أن ابن سينا يرى أن الشر مرتبط بالمادة، فالأشياء إما أن تكون لا مادية، وبالتالي لا شر فيها إذ لا نقص يعتريها، وإما أن تكون مادية، موجودة بالقوة ومعرضة بالنقص، وترتيبًا على كل ما سبق يكون حاصل تعريف الشيخ هو تحديد الخير كما ذكرنا بأنه هو الموجود، بينما الشر هو العدم، فيصبح الأصل في الأشياء هو الخير، ويضحى الشر حدثًا عارضًا، وإن وجد في هذا العالم، فهو موجود بصورة محدودة، ومقترنًا دائمًا بالخير.

ويمكننا أن نميز مع ابن سينا في الشر بين:

– الشر الطبيعي: ويتعلق بما يؤذي الإنسان ويُلحق ضررًا بسلامته وبرغباته، ووسيلتا الإنسان لتمييزه هما اللذة والألم.- الشر الأخلاقي: ويتعلق بما يراه العقل ضارًا أو مؤذيًا من الأفعال الاختيارية للإنسان.- الشر الميتافيزيقي: ويتعلق بالنقص الذي يمس الموجودات ويمنعها أن تصل إلى درجة الكمال وهو نقص طبيعي وصميم.

الحكمة الإلهية من وجود الشر

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

حتى لو كان وجود الشر محدودًا وعرضيًا، فإن وجوده في عالم تحكمه إرادة الله «الخيّرة» يظل أمرًا باعثًا على التساؤل والتعجب.

بالنسبة لفيلسوف من العصر الوسيط الإسلامي مثل ابن سينا، فإنه –

وإن أقر بنصيب من المسؤولية الأخلاقية للإنسان- فإنه لا يستطيع أن يفصله عن الدين والميتافيزيقا، بل يربط الشر بالإرادة الإلهية، ويجعل وجوده محدودًا وعرضيًا على نحو ما ذكرنا سابقًا، لتتناسب محدودية وجوده مع خيرية الإرادة الإلهية التي خلقت المخلوقات بالأساس لأجل أن تبلغ كمالها الواجب.

ولا يجعل ابن سينا الباري سبحانه وتعالى سببًا مباشرًا أو فاعلًا للشر أو متصفًا به،

فالله تعالى لم يخلق مخلوقات شريرة شرًا مطلقًا، ولا عَالَمَا يهيمن عليه الشر، بل يغلب خيره شره، كما لو أنه قصد ابتداء ألا يخلق إلا المخلوقات الخيرة، لكن الضرورة اقتضت ألا توجد هذه الموجودات وألا تدوم خيريتها إلا بأن يعرض عليها بعض الأفعال الشريرة، فالله تعالى مريد للشر مقدر له، لكن «بالعرض وليس بإرادة ابتدائية».

المسؤول عن الشر إذا ليس العلة الفاعلة -أي الله تعالى- بل العلة القابلة -أي الأشخاص والموجودات-، وسبب الشر كما يرى الشيخ أن المادة لا تقبل أبدًا الكمال المطلق، بل لحق الشر بها إما بسبب بعض الأشياء التي أثرت في ابتداء تشكّلها، وإما بسبب المؤثرات الخارجية التي منعت عن الموجود كماله.

فالشر إذا يحدث – بحسب ابن سينا – ليس بوصفه أمرًا وجوديًا صادرًا عن الباري الذي لا يصدر عنه إلا الخير والكمال، بل بسبب عجز الموجودات نفسها عن قبول الفيض الصادر عن واجب الوجود. والشر مع ذلك صادر بموجب الحكمة الإلهية وليس أمرًا منفلتًا، وإن كان غير مقصود لذاته فهو مقصود لأجل السير العام للموجودات، ولو لم يحدث لما حصلت الموجودات علي كمالها الواجب، فغرق الناس في الماء مثلًا هو نتيجة عارضة، ولكنها لازمة لانتفاء سائر الموجودات الحية بالماء، ولا يليق بالحكمة الإلهية أن تمنع وجوده نهائيًا لأجل ألا يغرق فيه أحد.

الشر في الموجودات قليل، محصور في الجزئيات لا الكليات، فيصيب أشخاصًا محددين في أزمنة محددة، ولا يصيب النوع البشري بأكمله مثلا، وهو يعمل على تبرير بوجوده بتحفيز الموجودات على السعي نحو الكمال، فيصير كل سعي نحو الكمال هو تخلص من شر.

لكن سنسأل سؤالًا أخيرًا، واضحًا وجليًا؛ لماذا كل هذا العناء؟

لم لم يخلُق الله العالم خاليًا من الشر ابتداء، فلا تحتاج في بلوغ خيريتها إلى هذا الشر القليل القسري؟

لماذا لا تكون النار مثلًا سببًا للخير المطلق ويمتنع وجودها عندما تكون سببًا للشر؟

وجواب ابن سينا أن الأشياء لو خلقت على هذا النحو لكنا نتحدث ببساطة عن عالم غير العالم، لكنا نتحدث عن عالم من الخير المطلق والكمال اللا محدود، وليس ذلك بحال بالأمر الممكن، لأن ما كان منزهًا عن كل شر لن يكون مخلوقًا بل خالقًا، أما العالم المادي فلا مفر إلا أن يكون ناقصًا قابلًا إلى أن يُساكنه الشر، بعبارة أخرى، ما دمنا نتحدث عن عالم من المخلوقات لا الخالقين، فليس بإمكاننا ابتداء افتراض إمكانية خلو هذا العالم من النقائص.

نحن إذًا لسنا مخيرين في هذا العالم بين عالم تام الخير وآخر ناقص، بل بين عالم أكثر شرًا وآخر أقل شرًا، ونحن نعيش بالفعل في العالم الأقل شرًا على نحو ما فسرناه سابقًا، فضلًا عن انتفاء وجود الشر يجعل من سعي الموجودات الممكنة نحو الخير أمرًا غير ذي معنى، فوجودية الشر هو الدافع للنفس أن تسعى دومًا نحو التخلص من النقص والعدم.

ويمكن لنا ان نختم ونلخص بما يلي :

يبدو الشر غير مفهوم وغير مستساغ لو نظرنا إليه من زاوية عاطفية غير عقلانية هي زاوية طموحات الإنسان وأمانيه،أو من زاوية علمية تجريبية بحتة لا تأخذ في الحسبان غائية الطبيعة، أو من زاوية أخلاقية وضعية لا تراعي إلا حرية الإرادة، ولكن عندما ندرج الكل ضمن رؤية ميتافيزيقية، تنضبط الدلالة وتزول التناقضات.