ما هو علم الأنثروبولوجيا ؟ ….أقسامه…..نشأته…..علاقته بالعلوم الأخرى؟


مقدمة :
لم تكن ألانثروبولوجيا مُنذ نزعتها ألاولى في القرن الثامن عشر قد أحدثت دوياً عالياً في الاوساط العلمية، نتيجة عدم توفر الإمكانيات والمستلزمات الكافية لاستقلاليتها. أو لربما قدرها المحتوم الذي جعلها تشابهُ علم الإجتماع إلى الحد الذي لا يستطيع الباحث التمييز بينهما كعلمين منفصلين عن بعضهما.مما أدى إلى عدم ألاهتمام بها كسائر العلوم الاخرى.على الرغم من أن القرن الثامن عشر، يعتبر نقطة الإنطلاقة التي سارت بها الانثروبولوجيا. إلا أنه لم يمثلها تمثيلاً حقيقيا.
كثيراً ما يتردد ” وخاصة ونحن في القرن الواحد والعشرون” الحديث عن ألانثروبولوجيا وبحوثها التي بدأت تزخر بها مكتباتنا اليوم.
إلا أنها لم ترَ النور بين طلابنا ومثقفينا، او لعل البعض منا لم يعرف ما هي الانثروبولوجيا ؟ أو بالاحرى لم يسمع بها سابقا. وهذا بالطبع ناتجٌ عن شحة الكتب التي تعّرف الانثروبوجيا من جهة، وتجاهلنا لهذا العلم- وإفتقار جامعاتنا له من الجهة أخرى.
شهدَ القرن العشرين ظهوراً رائعاً للانثروبولوجيا آثار إنتباه المثقفين والباحثين والمهتمين بالعلوم الإجتماعية. وهذا الظهور تمثل بمؤلفات العديد من عباقرة الانثروبولوجيا ومنهم : البروفيسور آدم كوبر، وتالكوت بارسونز، وبرجس ولوك، وأميل دروكايم، والعلامّة راد كلف براون، ومالينوفسكي.
لقد كانَ لظهور هؤلاء العباقرة في القرن العشرين أثراً بالغاً في ألاوساط العلمية، حيث إستطاعوا أن يحدثوا تغييراً جذرياً أو نقلة مرحلية أفاقت ألانثروبولوجيا من رقدتها، وأخرجتها من ظلامها الدامس.
أما من عباقرتنا العرب فتمثلت نهضة ألانثروبولوجيا بأسماء عباقرة كثيرين ومنهم: د. قيس النوري، ود. شاكر مصطفى سليم، ود. علي الوردي. وآخرين.
وبذكري للدكتور علي الوردي سيعترض هنا مُعترض أو سائل ويقول : إن الدكتور علي الوردي عالمُ أجتماع ؟ فما إرتباطهُ بالإنثروبولوجيا ؟.
في حقيقة ألامر إننا نوافق هذا الاعتراض، لكننا نود أن نشيرَ إلى أن مؤلفاتَ الوردي كانت ذات صبغة أو طابع أنثروبولوجي أكثر مما هو سوسيولوجي.فالإنصاف يحتم علينا أن نعتبر الدكتور علي الوردي باحثٌ أجتماعي وانثروبولوجي بوقتٍ واحد، وهذا يظهر بوضوح لدى المتتبع لمؤلفات الوردي.
تفتقر ألانثرولوجيا في الوطن العربي إلى الشهرة فقط، بعدما توفرت جميع المستلزمات التي تؤهلها كعلم مستقل في جامعاتنا.واليوم نشهد هذا الافتقار بجلاء بعد ملاحضاتنا الدقيقة لما يجري في الاوساط العلمية.
هذا ولم يكن للانثروبولوجيا نصيبٌ وافٍ في جامعاتنا. حيث نجدها في بعض جامعات المملكة العربية السعودية ومصر والاردن وتونس والعراق.
وهذا بحد ذاته يثبت تأخر العرب عن أقرانهم الغرب، في مجال نشوء وتطور ألانثروبولوجيا.
تأريخ الانثروبولوجيا في العراق :
مما تجدر الإشارة إليه إن عهدَ الانثروبولوجيا في العراق لم يبدأ الا قبل سنواتٍ عدة. وهذا ناتجٌ عن إنعزال العراق وتخلفهِ عن الركب الذي سارت بهِ أغلب الدول العربية، على الرغم من إنها متأخرة كثيراً ، هذا إذا ما قورنت بالدول الغربية.
بدأت جامعة بغداد بأدخال ألانثروبولوجيا لها.حيث ينشطر قسم علم الإجتماع في جامعة بغداد – إبتداءاً من المرحلة الثالثة الى ثلاث فروع هي : علم الإجتماع- والخدمة الإجتماعيّة – ومن ثم أضيف لها فرع ألانثروبولوجيا. وقد إبتدأ هذا عام 1988.
وفي عام (2003- 2004) أي بعد سقوط النظام السابق، تم إفتتاح قسم ألانثروبولوجيا التطبيقية في الجامعة المستنصرية في بغداد كقسم مُستقل وهو القسم الوحيد في العراق الذي يحمل هذا الاسم.
إننا نأمل أن يتم إعلاء شأن الانثروبولوجيا والإهتمام بها كسائر العلوم الإنسانية الاخرى.وهذا لا يتم الا بفتح المجال الواسع لها في جامعاتنا وتشجيع الدراسات الميدانية التي تجري وفقاً لمتطلبات هذا العلم.

  • ما هي الانثروبولوجيا ؟
    ألانثروبولوجيا هي علمُ الإنسان. وقد نحُتت الكلمة من كلمتين يونانيتين هما:
    ((anthropos ومعناها ” الانسان” ، و (logos) ومعناها ” علم”.
    وعليهِ فأن المعنى اللفظي لإصطلاح ألانثروبولوجيا (anthropology) هو علمُ الإنسان.
    وتعُرّف ألانثروبولوجيا تعريفاتٌ عدة أشهرها :
    1- علمُ الإنسان
    2- علمُ الإنسان وأعماله وسلوكه.
    3- علمُ الجماعات البشرية وسلوكها وإنتاجها.
    4- علمُ الإنسان من حيث هو كائنٌ طبيعي وإجتماعي وحضاري.
    5- علمُ الحضارات والمجتمعات البشرية.
    هذهِ التعريفات هي ل ” الانثروبولوجيا العامّة”، ويمكنُ من خلال التعريف الرابع أن نعرفَ ” ألانثروبولوجيا الإجتماعية ” : بأنها علم الإنسان من حيث هو كائنٌ إجتماعي. (1)
  • أقسام ألانثروبولوجيا العامّة :
    تقسم ألانثروبولوجيا إلى أربعة أقسام رئيسة من وجهةِ نظر ألانثروبولوجييّن في بريطانيا، وهذهِ ألاقسام هي :
    1- ألانثروبولوجيا الطبيعية: physical anthropology
    يرتبط هذا القسم بالعلوم الطبيعية وخاصة علم التشريح وعلم وظائف ألاعضاء ” physiology ” ، وعلم الحياة “”Biology. وينتمي هذا القسم إلى طائفة العلوم الطبيعية، وأهم تخصصاتهُ علم العظام “Osteology” ، وعلم البناء الإنساني Human Morphology””، ومقاييس جسم الإنسان anthropometry” “، ودراسة مقاييس ألاجسام الحية “Biometrics” ، وعلم الجراحة الإنساني “Humanserology”.
    ويُدرّس هذا القسم في كلياتِ الطب والعلوم ومعظم المتخصصينَ فيهِ من ألاطباء وعُلماءَ الحياة، ولكنهُ يدرّس أيضاً في كلياتِ العلوم الإجتماعية في أقسام ألانثروبولوجيا.(2)
    وتتناول ألانثروبولوجيا الطبيعية دراسة ظهور الإنسان على ألارض كسلالةٍ مُتميزة، وأكتسابه صفات خاصة كالسير منتصا، والقدرة على إستعمال اليدين، والقدرة على الكلام، وكبر الدماغ، ثم تدرس تطوره حياتيا. وإنتشاره على ألارض، وتدرس السلالات البشرية القديمة وصفاتها، والعناصر البشرية المُعاصرة وصفاتها وأوصافها الجسمّية المُختلفة، وتوزيع تلكَ العناصر على قارات ألارض، وتضع مقاييس وضوابط لتلكَ العناصر، كطول القامة، وشكل الجمجمة، ولون الشعر وكثافته، ولون العين وأشكالها، ولون البشرة، وأشكال ألانوف. وتدرس الوراثة، وإنتقال ميزات الجنس البشري من جيلٍ لآخر.(3)
    2- ألانثروبولوجيا ألإجتماعيّة:
    وتتركز الدراساتُ فيها على المُجتمعات البدائية. ومُنذ الحرب العالمية الثانية أخذت تدرس المجتمعات الريفية والحضرية في الدول النامية والمُتقدمِة. فتدرس البناء ألإجتماعي والعلاقات ألإجتماعية والنظم ألإجتماعية مثل العائلة، والفخذ، والعشيرة، والقرابة، والزواج، والطبقات والطوائف ألإجتماعية، والنظم الإقتصادية، كالإنتاج ، والتوزيع، والإستهلاك، والمقايضة، والنقود، والنظم السياسية، كالقوانين، والعقوبات، والسلطة والحكومة، والنظم العقائدية، كالسحر والدين. كما تدرس النسق الإيكولوجي.(4)
    يهتم فرع ألانثروبولوجيا الإجتماعيّة بتحليل البناء ألإجتماعي للمجتمعات الإنسانية وخاصة المُجتمعات البدائية التي يظهر فيها بوضوح تكامل ووحدة البناء ألإجتماعي، وهكذا يتركز إهتمام هذا الفرع بالقطاع ألإجتماعي للحضارة، ويتمّيز بالدراسة العميقة التفصيلية للبناء ألإجتماعي وتوضيح الترابط والتأثير المتبادل بين النظم ألإجتماعية ” النظرية الوظيفية” للعلامة “راد كليف براون”، وأساسها إن النظمَ ألإجتماعية في مجتمع ما،هي نسيجٌ متشابك العناصر – يُؤثر كل عنصر في العناصر ألاخُرى، وتعمل تلكَ العناصر على خلق وحدة إجتماعية تسمح للمجتمع بالإستمرار والبقاء، ولا تهتم ألانثروبولوجيا ألاجتماعية المُعاصرة بتأريخ النظم ألإجتماعية، لإن تأريخ النظام الإجتماعي لا يفسر طبيعتهُ وإنما تفسر تلكَ الطبيعة عن طريق تحديد وظيفة النظام ألإجتماعي الواحد في البناء ألإجتماعي للمجتمع.(5)
    3- ألانثروبولوجيا الحضارية ( أو الثقافية) :
    وتدرس مُخترعات الشعوب البدائية، وأدواتها، وأجهزتها، وأسلحتها، وطرُز المساكن، وأنواع ألالبسة، ووسائل الزينة، والفنون، وألآداب، والقصص، والخرافات، أي كافة إنتاج الشعب البدائي المادي والروحي.
    كما تركز على ألإتصال الحضاري بين الشعب ومن يتصل بهِ من الشعوب. وما يقتبسهُ منهم، والتطور الحضاري، والتغير ألإجتماعي.
    ومُنذ الحرب العالمية الثانية أخذت تدرس المجتمعات الريفية والحضرية في الدول المتقدمة والنامية.(6)
    4- ألانثروبولوجيا التطبيقية :
    وحينَ إتصل ألاوربيونَ عن طريق التجارة والتبشير وألإستعمار بالشعوب البدائية، نشأت الحاجة إلى فهم الشعوب البدائية بقدر ما تقتضيهِ مصلحة ألاوربيين في حكم الشعوب وإستغلالها، وفي حالاتٍ نادرة جداً بقدر ما تقتضيهِ مساعدة تلكَ الشعوب وأعانتها على اللحاق بقافلة المدنية الحديثة. فنشأ فرعٌ جديدٌ من ألانثروبولوجيا يدرس مشاكل ألإتصال بتلكَ الشعوب البدائية ومعضلات أدارتها وتصريف شؤونها ووجوه تحسينها.
    ويُدعى هذا الفرع ” ألانثروبولوجيا التطبيقية “. (7)
    وقد تطورَ هذا الفرع ” ألانثروبولوجيا التطبيقية ” كثيراً ، خاصة مُنذ الحرب العالمية الثانية، وتنوّعت مجالاتهُ بتطور أقسام ألانثروبولوجيا وفروعها، إذ إنهُ يمثل الجانب التطبيقي لهذهِ ألاقسام والفروع، ولا يعد فرعاً مُستقلاً عنها وإنما هو ألاداة الرئيسة لتطبيق نتائج بحوث كل فروع ألانثروبولوجيا والتي تجد طموحاتها لخدمة الإنسان والمُجتمع.
    وقد شملت تطبيقاتهُ مجالات كثيرة أهمها :
    التربية والتعليم، والتحضّر والسُكان، والتنمية الإجتماعية والإقتصادية، خاصة تنمية المُجتمعات المحلية، والمجالات الطبية والصحة العامّة، والنفسية، والإعلام، وألإتصال وبرامج الإذاعة والتلفزيون، والتأليف الروائي والمسرحي، والفن، ومجال الفلكلور ” التراث الشعبي”، والمتاحف ألاثنولوجية، إضافة إلى المجالات الصناعيّة،والعسكرية والحرب النفسية، والسياسة ومُشكلات ألادارة والحكم،والجريمة والسجون….الخ.
    ومن تطور هذا القسم ( ألانثروبولوجيا التطبيقية) وإزدياد البحوث فيهِ ظهرت فروع حديثة للانثروبولوجيا الحضارية والإجتماعية حيث أختص كل فرع منها بمجال معين مما ورد اعلاه
    •علاقة الانثروبولوجيا ببعض العلوم الإجتماعية (9):
    للانثروبولوجيا علاقة وثيقة ببعض العلوم الإجتماعية من أهمها:
    1-ألاثنولوجيا : وهي علم تأريخ الحضارات والعلاقات الحضارية بين الشعوب، وتصنيف الحضارات وتوزيعها وإنتشارها في العالم.
    2-ألاثنوغرافيا : وهي الدراسة الوصفية للمجتمعات وحضاراتها.
    3-الآركيولوجيا : ( علم الآثار) وهي الدراسة ألاثنولوجّية وألاثنوغرافية لحضارات شعوبٍ بائدة من ألآثار التي يجدها العلماء في الحفريات.
    4-علم الإجتماع: وهو دراسة الظواهر التي تنبثق عن العلاقات بين المجموعات البشرية، ودراسة العلاقة بين الإنسان وبيئته البشرية. ويركز علم الإجتماع الحديث في دراساتهِ على الظواهر الإجتماعية ألاكثر تقدماً، أي على مشكلاتِ المُجتمعات المعقدة والمتطورة.
    •نشأة ألانثروبولوجيا وتطورها منذ القرن الثامن عشر حتى الوقت الحاضر(10) :
    يُمكننا أن نعتبرَ ألانثروبولوجيا علماً حديثاً يقرب عمرهُ من قرن وربع القرن تقريباً، كما نستطيع. بعين الوقت، أن نعتبرها من أقدم علوم البشر.
    فالجامعات لم تبدأ بتدريس ألانثروبولوجيا إلا حديثاً جداً. فلقد عيّن أول أستاذٍ لها في جامعة أوكسفورد، وهو ” السر أدورد تايلور” عام 1884، وفي جامعة كمبرج، وهو ألاستاذ ” هادن” في عام 1900، وفي جامعة لفربول، وهو ” السر جيمس فريزر” في عام 1907.
    وعيّن أول أسُتاذٍ لها في جامعة لندن في عام 1908، وفي الجامعات ألامريكية في عام 1886.
    ولأن الانثروبولوجيا تعنى بدراسة النظريات التي تتعلق بطبيعة المُجتمعات البشرية، فأننا نستطيع أن نعتبرها، من جهة أخرى، من أقدم العلوم . إذ هي بدأت مع أقدم تأمّلات الإنسان حول تلكَ الموضوعات. فلقد قالوا مثلاً إن المؤرّخ الإغريقي ( هيرودوتس) ” أبو الانثروبولوجيا” كما هو أبو التاريخ، لأنهُ وصفَ لنا بأسهاب، التكوين الجسمي لأقوام قديمة ك ( السيثيين) وقدماءَ المصريين وغيرهم من الشعوب القديمة، وصور أخلاقهم وعاداتهم.
    كما كتب المؤرخ الروماني ( تاكيتس) دراستهُ المشهورة عن القبائل الجرمانية.
    حتى البابليون قبل ” هيرودوتس” بزمن طويل، جمعوا في متاحفَ خاصة بعض ما تركهُ السومريون من أدواتٍ ومخلفات.
    إننا نستطيع أن نعتبرَ القرن الثامن عشر نقطة بدءٍ مناسبة للانثروبولوجيا. نشهد بعدها ظهور العناصر المكونة لهذا العلم. فآراء مونتسكيو في كتابهِ الشهير ( روح القوانين) عن المجتمع وأسسه وطبيعته. وكتابات ( سان سيمون) وإدعاؤه وجود علم للمجتمع، وآراء (يفيد هيوم) و( آدم سمث) ونظرتهما الى المجتمعات بأعتبارها تتكون من أنساق طبيعية، وإعتقادهما بالتطور غير المحدود، وبوجود قوانين لذلكَ التطور، كل تلكَ التأمّلات والآراء حوت لا بلا شك البذرات الصالحة والمكونات الاساسية التي نمت في القرن التاسع عشر، فكونت المدراس الانثروبولوجيّة الكبيرة.
    وبعدَ مُنتصف القرن التاسع عشر بدأت الكتب القديمة في ألانثروبولوجيا بالظهور في أوروبا وأمريكا. وكانَ أبرز تلكَ الكتب كتاب ( السر هنرى مين) ” القانون القديم ” عام 1861وكتابه عن ( المجتمعات القروية في الشرق والغرب) (1861)، وكتاب (باخوفن) عن (حق ألام) عام 1861 وكتاب ( فوستل دو كولانج) عن ( المدينة القديمة) 1864 وكتاب ( ماكلينان) عن ” الزواج البدائي” عام 1865 وكتاب (السر أدورد تايلور) المُُسمى ” أبحاث في التأريخ القديم للجنس البشري” عام 1865 وكتابه الآخر عن ” الحضارة البدائية” عام 1871، ومن ثم (لوس موركن ) عن ” أنساق روابط الدم والمصاهرة في العائلة الإنسانية) عام 1870.
    كما ظهرت “بعين الوقت” مدرستان كبيرتان من مدراس هذا العلم، هما ” مدرسة القانون المقارن” و ” المدرسة التطورية” . فأفاد رجال المدرسة ألاولى ألانثروبولوجيا كثيراً حين إنصرفوا إلى دراسة القانون المقارن. حيث إهتموا بصورة خاصة بالقانون القديم وقوانيين الشعوب البدائية. كما تأثرَ رجال المدرسة الثانية ” التطورية” بنظريات (لامارك) و( دارون) في التطور الحياتي.فأقاموا نظرياتهم في التطور الإجتماعي على عين الاسس.
    وفي مطلع القرن العشرين برزت في ألانثروبولوجيا أسماء ضخمة مثل ” السر جيمس فريزر”، و”أميل دوركايم”، و” راد كلف براون”، و” مالينوفسكي “، و” البوث سمث”، و” رفرز”. كما ظهرت مدارس إنثروبولوجية هامّة مثل ( مدرسة الإنتشار الحضاري) و ( المدرسة الوظيفية). وكلاهما هاجمتا ودحضتا ” المدرسة التطورية “، هذا إلى جانب ” المدرسة البيئية” ، وهي مدرسة قديمة مستمرة الوجود.
    إننا نستطيع أن نعتبرَ نقطة البدء الحقيقية للانثروبولوجيا هي القرن العشرين، التي تمثلت بظهور أسماء ضخمة من عباقرة الانثروبولوجيا، أضافة الى مؤلفاتهم في ذلك الشأن. ناهيكَ عن المدارس الانثروبولوجية المهمة التي ساعدت في نمو وتطوير هذا العلم.
    ثمة قضية معينة أود أن أنقلها للقارئ الكريم، وهي إن علم الإجتماع والانثروبولوجيا علمين متقاربين متشابهين، بحيث لا يمكن للباحث الفصل أو التمييز بين هذين العلمين.لدرجة تقاربهما، لذلكَ فأن من الانسب لي وللقارئ تعيين نقاط الإختلاف بين هذين العلمين لمعرفة أتجاه كلاً من هذين العلمين في الدراسات الإجتماعية.
    •علاقة علم الإجتماع بالانثروبولوجيا ( علم الإنسان) :
    علمُ الإجتماع هو علمٌ قريبٌ جداً من ألانثروبولوجيا لأنهُ يدرس العلاقات الإجتماعية بين المجموعات البشرية، ولكنهُ يختلفُ عن ألانثروبولوجيا من ثلاث نواح :
    الناحية ألاولى: إن علمَ الإجتماع يركز في دراساتهِ على موضوعاتٍ مختارة مثل السحر أو الدين أو البطالة أو الزواج أو ما يشبه ذلك، ولا يدرس مجتمعات كاملة دراسة شاملة كما تدرسها الانثروبولوجيا.
    والناحية الثانية: إنهُ لا يقصر دراساته على المجتمعات البدائية بل يتخذ من كل المجتمعات البدائية والغير بدائية ميداناً لدراساته.مع ميل قوي للتركيز على دراسة معضلات المجتمعات المتطورة والمعقدة. بينما كانت ألانثروبولوجيا تركز على دراسة المجتمعات البدائية قبل الحرب العالمية الثانية.
    أما بعدَ هذه الحرب ” العالمية الثانية” فأن الانثروبولوجيا أخذت تدرسُ المجتمعات المتطورة والمعقدة أيضا، مع ميل قوي للتركيز على دراسة المجتمعات البدائية والنامية.
    أما الناحية الثالثة فهي إختلاف العلمين بمنهج البحث المُتبع في دراسة كل منهما، وهذا أهم إختلاف بينهما.
    ✅ منقول

أفضل مائة كتاب في علم الاجتماع


نشر (آي سي أي) الإتحاد الدولي لعلم الإجتماع، وهو اتحاد معروف بحرفيته الأكاديمية. وقد كانت على رأس القائمة الكتب المنشورة باللغة الإنكليزية وفيها ثمانية عشر كتابا راقيا، وتليها بالدرجة الثانية الألمانية، ثم تليها بالدرجة الثالثة بالفرنسية، وذلك بمعدل ثمانية عشر كتابا لكل لغة.
أما الكتب اليابانية والروسية والسويدية فهي في ذيل القائمة حيث تم نشر كتابين لكل من هذه اللغات الثلاث.
كما كان هناك تنوع بالنسبة للغات الأخرى كالإسبانية والبرتغالية والهولندية والإيطالية كما يلاحظ في القائمة المنشورة التي ننشرها أدناه.
1 – Economy and Society by Max Weber.
الاقتصاد والمجتمع؛ ماكس فيبر. (الاقتصاد والمجتمع)
2- The Sociological Imagination by C. Wright Mills.
الخيال العلمي الاجتماعي؛ تشارلز رايت ميلز
3- Social Theory and Social Structure by Robert Merton.
النظرية الاجتماعية والبناء الاجتماعي؛ روبرت ميرتون.
4- The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism by Max Weber.
الأخلاق البروتستانتينية وروح الرأسمالية؛ ماكس فيبر
5- The Social Construction of Reality by Luckmann & Berger.
البناء الاجتماعي للواقع؛ بيركغر ولوكمان.
6- Distinction: A Social Critique of the Judgment of Taste by Pierre Bourdieu.
النقد الاجتماعي لحُكم الذوق؛ بيير بورديو.
7- The Civilizing Process by Norbert Elias.
عملية التمدّن؛ نوربرت إلياس.
8- The Theory of Communicative Action
نظرية الفعل التواصلي؛ يورغن هابرماس
9- The Structure of Social Action by Talcott Parsons.
بناء الفعل الاجتماعي؛ تالكوت بارسونز.
10- The Presentation of Self in Everyday Life by Erving Goffman.
تقديم الذات في الحياة اليومية؛ إرفين جوفمان.
11- Mind, Self and Society by George Mead.
العقل، النفس والمجتمع؛ جورج ميد.
12- The Social System by Talcott Parsons.
النظام الاجتماعي؛ تالكوت بارسونز.
13- The Elementary Forms of Religious Life by Emile Durkheim.
الأشكال الأساسية للحياة الدينية؛ إميل دوركايم.
14- The Constitution of Society by Anthony Giddens.
دستور المجتمع؛ أنتوني جيدنز.
15- The Modern World-System by Immanuel Wallerstein.
نظام العالم المعاصر؛ عمانوئيل والرستين.
16- Discipline and Punish : the Birth of the Prison by Michel Foucault.
المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن؛ ميشيل فوكو.
17- The Structure of Scientific Revolutions by Thomas Kuhn.
بناء الثورات العلمية؛ طوماس كوهن.
18- Sociology by Georg Simmel.
علم الاجتماع؛ جورج زيمل.
19- Risk Society by Ulrich Beck.
المجتمع الخطر؛ أولريش بيك. (تتوفر ترجمة)
20- Labour and Monopoly Capital by Harry Braverman.
العمل واحتكار رأس المال؛ هاري بريفمان.
21- Dialectic of Enlightenment by Adorno & Horkheimer.
جدلية التنوير؛ أدورنو وهوركهايمر.
22- Prison Notebooks by Antonio Gramsci.
دفاتر السجن؛ أنتونيو غرامشي.
23- Foundations of Social Theory by James Coleman.
أسس النظرية الاجتماعية؛ جيمس كولمان.
24- Knowledge and Human Interests by Jürgen Habermas.
المعرفة والمصلحة؛ يورغن هابرماس.
25- The Social Origins of Dictatorship and Democracy by Barrington Moore.
الجذور الاجتماعية للديكتاتورية والديموقراطية؛ بارينغتن مور.
26- The Great Transformation by Karl Polanyi.
التحوّل العظيم؛ كارل بولاني.
27- The American Occupational Structure by Blau & Duncan.
الهيكل الوظيفي الأمريكي؛ بلاو ودونكان.
28- The Coming Crisis of Western Sociology by Alvin Gouldner.
الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربي؛ ألفين غولدنر.
29- Social Systems by Niklas Luhmann.
الأنساق الاجتماعية؛ نيكلاس لومان.
30- Ideology and Utopia by Karl Mannheim.
الأيديولوجيا والطوباوية؛ كارل مانهايم.
31- Outsiders: Studies in the Sociology of Deviance by Howard Backer.
الخارجون: دراسات في علم اجتماع الانحراف؛ هوارد بيكر.
32- Capital. A Critique of Political Economy by Karl Marx.
رأس المال. نقد الاقتصاد السياسي؛ كارل ماركس.
33- The logic of Collective Action by Mancur Olson.
منطق الفعل الجمعي؛ مانكور أولسن.
34- The Division of Labor in Society by Emile Durkheim.
تقسيم العمل في المجتمع؛ إميل دوركايم
35- The Rules of Sociological Method by Emile Durkheim.
قوانين المنهج الاجتماعي؛ إميل دوركايم.
36- Studies in Ethnomethodology by Harold Garfinkel.
دراسات في الإثنوميثودولوجي؛ هارولد غارنفنكل.
37- Asylums by Erving Goffman.
المصحات؛ إيرفن جوفمان.
38- Political Man by Seymour Martin Lipset.
الرجل السياسي؛ سينامور ليبست.
39- The Power Elite by Charles Wright Mills.
الصفوة الحاكمة؛ تشالز رايت ميلز.
40- The Logic of Practice by Pierre Bourdieu.
منطق الممارسة؛ بيير بورديو.
41- Dependency and Development in Latin America by Cardoso & Faletto.
التبعية والتنمية في أمريكا اللاتينية؛ كاردوسو وفاليتو.
42- Class and Class Conflict in an Industrial Society by Ralf Dahrendorf.
الطبقة والصراع الطبقي في المجتمع الصناعي؛ رالف دارندورف.
43- The Consequences of Modernity by Anthony Giddens.
آثار الحداثة؛ أنتوني جيدنز.
44- Stigma by Erving Goffman.
الوصمة؛ إيرفن جوفمان.
45- Men and Women of the Corporation by Rosabeth Moss Kanter.
رجال ونساء الشركة؛ روزابث موس كانتر.
46- The Phenomenology of the Social World by Alfred Schütz.
ظواهر العالم الاجتماعي؛ ألفرد شوتز.
47- Invitation to Sociology by Peter Berger.
دعوة إلى علم الاجتماع؛ بيتر بيرغر.
48- Reproduction in Education, Society and Culture by Bourdieu & Passeron.
إعادة إنتاج التعليم والمجتمع والثقافة؛ بيير بوردو. (تتوفر ترجمة عربية)
49- The Active Society by Amitai Etzioni.
المجتمع النشط؛ أميتاي إتزيوني.
50- The Discovery of Grounded Theory by Glaser & Sreauss.
اكتشاف التجذير النظري؛ جليسر وشتراوس.
51- The Structural Transformation of the Public Sphere by Jürgen Habermas.
التحولات الهيكلية في المجال العام؛ يورغن هابرماس.
52- Social and Cultural Dynamics by Pitrim Sorokin.
الديناميكا الاجتماعية والثقافية؛ بتريم سوروكن.
53- The Self-Production of the Society by Alain Toutaine.
الانتاج الذاتي للمجتمع؛ ألين تورين.
54- Sociology of Religion by Max Weber.
علم الاجتماع الديني؛ ماكس فيبر. (تتوفر ترجمة عربية)
55- The Methodology of the Social Sciences by Max Weber.
مناهج العلوم الاجتماعية؛ ماكس فيبر.
56- The Origins of Totalitarianism by Hannah Arendt.
أسس الديكتاتورية؛ حنة آرندت. (تتوفر ترجمة عربية)
57- The Logic of Social Action by Raymond Boudon.
منطق الفعل الاجتماعي؛ ريموند بودن.
58- Civilization and Capitalism by Fernand Braudel.
الحضارة والرأسمالية؛ فرناند برودل. (تتوفر ترجمة عربية)
59- The Suicide by Emile Durkheim.
الانتحار؛ إميل دوركايم. (تتوفر ترجمة عربية)
60- The Interpretation of Cultures by Clifford Geertz.
تأويل الثقافات؛ كليفورد جيرتز. (تتوفر ترجمة عربية)
61- Sociology by Anthony Giddens.
علم الاجتماع؛ أنتوني جيدنز. (تتوفر ترجمة عربية)
62- The professional Soldier by Janowitz Morris.
الجندي المهني؛ جانويتز موريس.
63- The Language of Social Research by Lazarsfeld & Rosenberg.
لغة البحث الاجتماعي؛ لازرفيلد وروزنبيرغ.
64- History and Class Consciousness by Georg Lukács.
التاريخ والوعي الطبقي؛ جورج لوكاش. (تتوفر ترجمة عربية)
65- Patriarchy and Accumulation on World Scale.
النظام الأبوي (الذكورية) والتراكم على مقياس العالم؛ ماريا ميز.
66- The Sociological Tradition by Robert Nisbet.
التقليد الاجتماعي؛ روبرت نسبت.
67- The Making of English Labour Class by Eric Thompson.
نشأة طبقة العمال الإنجليزية؛ إريك طومسون.
68- The Lonely Crowd by David Reisman.
الحشد الوحيد؛ ديفد ريسمان.
69- Collected Papers by Alfred Schütz.
مجموعة أعمال؛ ألفرد سكوتز.
70- The Philosophy of Money by Georg Simmel.
فلسفة المال؛ جورج زيمل.
71- Street Corner Society by William Whyte.
مجتمع ركن الشارع؛ ويليام وايت.
72- Theoretical Logic in Sociology by Jeffrey Alexander.
المنطق النظري في علم الاجتماع؛ جفري ألكسندر.
73- Reading Capital by Louis Althusser.
قراءة رأس المال؛ لويس ألتوسير. (تتوفر ترجمة عربية)
74- Imagined Communities by Benedict Anderson.
المجتمعات المُتخيَّلة؛ بيندكت أندريسون. (تتوفر ترجمة عربية)
75- The Human Condition by Hannah Arendt.
حال الإنسان؛ حنة آرندت.
76- Postmodern Ethics by Zaygmunt Baumann.
أخلاقيات مابعد الحداثة؛ زيجمونت باومان.
77- The Second Sex by Simone de Beauvoir.
الجنس الثاني؛ سيمون دو بوفوار. (تتوفر ترجمة عربية)
78- Patterns of Culture by Ruth Benedict.
أنماط الثقافة؛ روث بيندكت.
79- Symbolic Interactionism. Perspective and Method by Herbert Blumer.
التفاعلية الرمزية: المنظور والمنهج؛ هيربرت بلومر.
80- The Unintended Consequences of Social Action by Raymond Boudon.
نتائج الأفعال الاجتماعية الغير مقصودة؛ ريموند بودون.
81- Outline of a Theory Practice by Pierre Bourdieu.
الخطوط العريضة للممارسة النظرية؛ بيير بوردو.
82- The Urban Question by Manuel Castells.
السؤال الحضري؛ مانويل كاستيلز.
83- The Bureaucratic Phenomenon by Michel Crozier.
ظاهرة البيروقراطية؛ مايكل كروزير.
84- Actors and Systems by Crozier & Friedberg.
الممثلون والنظم؛ كروزير وفريدبيردغ.
85- The Wretched of the Earth by Frantz Fanon.
المعذبون في الأرض؛ فرانز فانون. (تتوفر ترجمة عربية)
86- Human Problems of Industrial Mechanization by Georges Friedmann.
المشاكل البشرية لميكنة الصناعة (الصناعة الميكانيكية)؛ لجرجس فريدمان.
87- The Urban Villagers by Herbert Gans.
القرويون المعاصرون؛ هربرت جانز.
88- From Max Weber: Essays in Sociology by Gerth & Mills.
من ماكس فيبر: مقالات في علم الاجتماع؛ غيرث وميلز.
89- New Rules of the Sociological Method by Anthony Giddens.
قوانين جديدة للمنهج الاجتماعي؛ أنتوني جيدنز. (تتوفر ترجمة عربية)
90- Modernity and Self-Identity by Anthony Giddens.
الحداثة والهوية الذاتية؛ آنثوني جيدنز.
91- Frame Analysis by Erving Goffman.
تحليل الإطار؛ إرفنج جوفمان.
92- The Sociological Eye by Everett Hughes.
العين الاجتماعية؛ إفريت هوغز.
93- The Sources of Social Power by Michael Mann.
مصادر السلطة الاجتماعية؛ ميخائيل مان.
94- Economic and Philosophic Manuscripts of 1844 by Karl Marx.
مخطوطات 1844 الفلسفية والاقتصادية؛ كارل ماركس. (تتوفر ترجمة عربية)
95- The Gift by Marcel Mauss,
الهدية؛ مارسيل موس.
96- The Logic of Scientific Discovery by Karl Popper.
منطق الاكتشاف العلمي؛ كارل بوبر. (تتوفر ترجمة عربية)
97- Political Power and Social Class by Nicos Poulantzas.
السلطة السياسية والطبقة الاجتماعية؛ نيكوس بولانتاس. (تتوفر ترجمة عربية)
98- Social and Cultural Mobility by Pitrim Sorokin.
الحراك الثقافي والاجتماعي؛ بيتريم سوروكن.
99- The Polish Peasant in Europe and America by Thomas & Znaniecki.
الفلاحون البولنديون في أوربا وأمريكا؛ طوماس وزنانيكي.
100- Philosophical Investigations by Ludwig Wittgenstein.
تحقيقات فلسفية؛ لودفيك ويتغينستين. (تتوفر ترجمة عربية)

  • منقول .
    تحياتي لكم .
    د. حسام الدين فياض

العلوم الاجتماعية وإشكالية البحث عن المنهج العلمي…

تقديـــــــــــــم

لقد جاءت العلوم الإنسانية متأخرة النشأة قياسا بالعلوم الدقيقة، كما جاءت تلك النشأة، كنتيجة لما بدأت المجتمعات الحديثة تعرفه من قضايا نفسية واجتماعية جديدة ارتبطت بتطورها السريع.. هكذا أصبحت هذه العلوم تسعى إلى تحويل الإنسان إلى ظاهرة قابلة للدراسة العلمية الموضوعية. إلا أن تميز الإنسان واختلافه عن الظواهر الطبيعة جعل العلوم الإنسانية تعرف مشاكل إبيستيمولوجية من نوع خاص، ومن ثم بدأ العلماء يتساءلون حول مدى قدرة هذه العلوم على بلوغ دقة العلوم الطبيعية.

يظهر أن العلوم الاجتماعية عرفت تطورا عميقا و متواصلا سواء في مضمونها المعرفي أو في مناهجها التي تبعها للإجابة عن اشكاليتها التي تطرحها للبحث و للسؤال. هكذا، نلاحظ توسعا لمجال التحليل و التطرق لمواضيع جديدة و بأدوات ووسائل منهجية حديثة، سواء نتيجة اجتهادات الباحثين فيها أو بفعل ما يقومون به من اقتباس من مكتسبات معرفية و منهجية من علوم أخرى قريبة. وقد طرح كثير من فلاسفة العلم مسالة علميتها ، بل تساءل جلنر عالم الانثربلوجبا عن إمكانية دخول العلوم الاجتماعية إلى حظيرة العلوم الطبيعية، كما ناقش البعض منهم حول خصوصيتها المعرفية و المنهجية.

لقد حققت العلوم الطبيعية نجاحا كبيرا بفضل استخدامها المنهج التجريبي و قوانين الحتمية، فهل يمكن أن يتحقق ذلك مع العلوم الإنسانيـــة؟ بمعنى هل يمكن دراسة الظواهر الإنسانية بطريقة تجريبية تماما كما يحدث في العلوم الفيزيائة و الكيميائية؟

صحيح أن العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع أو علم النفس أو الانثربلوجيا أو علم الاقتصاد، حديثة النشأة في القرن التاسع عشر، بيد أن الدراسات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية قد وجدت دوما مبثوثة في ثنايا المصنفات الفلسفية؛ بل إننا إذا تأملنا علما إنسانيا خاصا هو علم التاريخ نجده علما قديما كقدم علم الرياضيات نفسه. ولكننا نلاحظ أيضا أن علم التاريخ نفسه ورغم عراقته لم يطرح وجوده أية إشكالية منهجية أو ابستملوجية إلا منذ القرن الثامن عشر. لماذا؟

لقد تزامن ذلك مع الميلاد الحديث للعلوم التجريبية التي قدمت نموذجا باهرا للعلمية سواء من حيث دقة المناهج والنتائج أو نجاعتها لما وفرته من قدرة على التحكم في الظواهر الطبيعية، ولن يكف هذا النموذج عن ممارسة تأثيره وجاذبيته منذ ذلك الوقت..

1-مسالة تحديد معنى العلوم الاجتماعية و أسباب تأخرها في تبني المنهج الوضعي

1-1-إشكالية التسمية

لقد اختلف الباحثون في توحيد إطلاق اسم موحد على كل المعارف المرتبطة بالإنسان و المجتمع.

+ إذ نجد تسميات متعددة منها علوم الإنسان Sciences de L’ Homme و العلوم الإنسانية Sci. Humaines و العلوم الاجتماعية. Sci. Sociales

+و تسمى أيضا بالعلوم المعنوية وهي تتخذ من أحوال الناس وسلوكاتهم موضوع الدراسة وفق منهج منظم ،إنها تدرس واقع الإنسان و كل ما يصدر عنه من سلوكات من مختلف أبعاده ، النفسية والاجتماعية و التاريخيــــــة

كما نجد فرقا بينها وبين العلوم المعيارية :

+أن العلوم الإنسانية S.Humaines تدرس الحالة الراهنة للسلوك أي ما هو كائن أما العلوم المعياريةAxiologie فهي تهتم بما يجب أن يكون أي بما تحمله الأماني كعلم االمنطق Logique الذي يبحث في قوانين التفكير الصحيح .وعلم الجمال Esthétique الذي يدرس الفرق بين القبيح و الجميل و أسس التعبير الجمالي وعلم الأخـــــــــلاق Ethique التي تبحث في القواعد و القيم التي ينشأ عليها السلوك الفاضل و على أساسها يتم التمييز بين الخير و الشر.

+ لقد حددها المعجم العربي الأساسي في ” أنها هي العلوم التي تختص بدراسة تصرفات الناس

و سلوكهم أفرادا أو جماعات و تقابلها” العلوم الطبيعية”. و هذا يعني أن العلوم الإنسانية و الاجتماعية شيء واحد.

كلود ليفي شتراوس اقترح التمييز التالي:

علوم الإنسان أو العلوم الإنسانية تهدف إلى تحليل واقع الإنسان فردا و مجتمعا كالانثربلوجيا و علم النفس و المنطق و اللسانيات و الابستملوجيا

العلوم الاجتماعية التي تهتم بقضايا المجتمع تحليلا و موضوعا كالاقتصاد و الاجتماع و الجغرافيا الاجتماعية

أما قاموس اوكسفورد فيميز بين العلوم الاجتماعية و الإنسانية:

أن العلوم الاجتماعية هي العلوم التي تهتم بالدراسة العلمية للمجتمع البشري و ما يتعلق به من علاقات و سياسة و اقتصاد و جغرافيا بشرية

أما الإنسانيات هي التي يقصد بها الآداب و الفنون و التاريخ و الفلسفة و ما يتعلق بفلسفة الإنسان.

بصفة عامة، العلوم الإنسانية أو علوم الإنسان أو العلوم الاجتماعية هي مجموعة علوم غير محددة من حيث العدد و هي التي تتطرق بشكل مباشر اوغير مباشر الى الإنسان و إلى ثقافته و انجازاته لتشمل علوم الانثربولوجيا و الاقتصاد و السوسيولوجيا و النفس و التاريخ و الجغرافيا والسياسة و الاركيلوجيا و الإدارة

ولضبط مفهوم العلوم الاجتماعية تطرح الملاحظات الآتية:

الاصل في ازدواجية الانتماء .سيكون وجود العلوم الإنسانية موسوما منذ البداية بالتوتر بين قطبين موجودين أصلا في الاسم نفسه “علوم / إنسانية

+”علوم” يحيل هذا المكون بشكل لا مفر منه على العلوم التجريبية التي تمثل كما أسلفنا- النموذج المثالي للعلمية؛

+ “إنسانية”: يحيل هذا النعت إلى الفلسفة من حيث أن هذه الأخيرة تتخذ بدورها الإنسان كموضوع لها

غموض و عدم دقة المفهوم. إذ أن وفرة ميادين الحقل المعرفي الخاص بهذه العلوم تفرض تحديد المعايير المستعملة لتحديد هذه العلوم فيما بينها و فيما بينها و بين العلوم الدقيقة الطبيعية الأخرى، و بالتالي ، نلاحظ أن مشكل علوم الإنسان أصبح يتحدد في طبيعة المعرفة المستعملة و قيمتها العلمية.

صعوبة تحديد و استخلاص مميزات مشتركة لكل العلوم الإنسانية. فهناك تخصصات في ميدان معرفي تتطرق لموضوع قريب قد ينتمي للعلوم الطبيعية. فالمناخ تخصص جغرافي له ارتباط بعلم الأرصاد الجوية ، و علم الاجتماع له علاقة بعلم الاجتماع الإحيائيSociobiologie المنتمي لعلم البيولوجيا

كما تطرح بنية المجال العقلاني لكل تخصص إنساني خصوصا بنيتها الداخلية و منطقها المعرفي.

بصفة عامة، لم يتفق أقطاب التفكير الابستمولوجي بعد حول اجتماع تام حول الهوية المعرفية للعلوم الإنسانية ، حيث لم يستطيعوا الحسم في مستوى الروح العلمية لفروعها.

1-2- السياق الفكري لمشكلة المنهجية في العلوم الاجتماعية وعوامل تأخرها

1-2-1 –السياق الفكري للمشكلة

الواقع أن الحديث عن إشكالية المنهج في العلوم الإنسانية له تاريخ طويل في الفكر الأوروبي حيث عاش المجتمع هذه الإشكالية منذ العصور المظلمة (عصر محاربة الكنيسة للعلم ) إلى أن تمكن العلم بمناهجه وتجاربه من إن يثبت جدارته وصدقه ويتغلب بذلك علي الأفكار اللاهوتية و الميتافيزيقية التي جعلت من أوروبا تعيش زمناً طويلاً من الجهل والظلام ،أن الإنسان له عقل وفكر قادر على التفكير بطريقة علمية مكنته من أن يصنع ويخترع ويخطط من خلال ما يستخدم من مناهج تساعده في ذلك (المنهج الكيفية المتمثلة في المنهج الهرمنوطيقي )والمنهج العلمي التجريبي ،وقد ظهرت المدرسة الوضعية(العلمية) على يد أوجست كونت الذي نادي بوحدانية المنهج بمعني دراسة الظواهر الإنسانية مثل دراسة الظواهر الطبيعية(ومن هنا ظهرت أول شرارة للحرب بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية وبين المناهج الوضعية التجريبية والمناهج الكيفية ) وقبل ذلك كانت الإشكالية المنهجية –عند المفكرين السابقين –حيث كان ديكارت يرى أن أسس المنهج تكون عقلية ،وعلى النقيض منه يرى بيكون أن أسس المنهج يجب أن تكون تجريبية ، وبعد ما طرح كونت إشكالية المناهج في العلوم الإنسانية وأصبح لدينا فريقين من العلماء والمفكرين فريق يرى أن العلوم الإنسانية يمكن دراستها بالمناهج التي تدرس بها العلوم الطبيعية (المناهج التجريبية ) وفريق على النقيض من ذلك يرون أن المناهج المستخدمة في العلوم الطبيعية غير صالحة لكي تستخدم مع الظواهر الإنسانية وذلك نظراً لاختلاف الظواهر الطبيعية عن الإنسانية-العلوم الطبيعية تدرس العالم الخارجي والعلوم الإنسانية تدرس العالم الداخلي – حيث ظهرت العديد من الاتجاهات التي نادت برفض الوضعية وتبني الاتجاهات العقلية في دراسة الظواهر الإنسانية وظهرت في كتابات العلماء (دلتاي –هوسرل –فندلباند –وريكرت ) وظهرت العديد من المناهج في هذا المجال مثل المنهج الظاهراتي والهرمنوطيقي والمنهج الابستمولوجي (منهج علم اجتماع المعرفة) والمنهج النقدي الذي ظهر على يد علماء مدرسة فرنكفورت ، وظهرت العديد من الانتقادات الموجهة للمدرسة الوضعية منها ما يلى (أنها اختزلت العلم إلي مجرد علم للوقائع –وإنها نفت الأسئلة المتعلقة بالإنسان من قاموسها فهي تشيء الإنسان و تموضعه وتجرده من إنسانيته –كما أنها تحاول تجريد الإنسان من إنسانيته ،). ومن أهم الانتقادات الموجهة للمدرسة الوضعية في ثلاثة نقاط رئيسه :

أولاً :موضوع تاريخ العلم :فهي تغيب البعد التاريخي وترفض الجدل فيه ، فهي تميل الى النظر سكونياً إلي النظرية العلمية ،بمعني أنها لا تراها بوصفها عضوية تاريخية متنامية كماً وكيفاً،فهي لاتسأل نفسها كيف تنشأ النظرية العلمية وتزدهر وربما كيف تضمر وتنتهي

ثانياً:: المفهوم النقدي للعلم :تغفل الوضعية نقد الفكر ونقد الواقع أي نقد للمجتمع الرأسمالي البرجوازي

1-أ2-2-أسباب تأخر العلوم الاجتماعية في اكتساب المنهج العلمي

يرى جون بياجي أن موضعة الظاهرة أكثر تعقيدا نظرا لتداخل الذات والموضوع على أكثر من صعيد.

فالذات الملاحظة بقدر ما تلاحظ غيرها وتجرب على غيرها، فإنها في نفس الوقت تلاحظ ذاتها وتجرب على ذاتها، وينتج عن ذلك أن تفاعل الذات والموضوع في فعل الدراسة يؤثر في سير الظاهرة المدروسة مثلما يؤثر في الذات الدارسة

غالبا ما تكون الذات الدارسة حاملة لمعرفة عفوية، مسبقة وحدسية حول الظاهرة المدروسة. لأن الدارس وقبل أن يكون عالم اجتماع مثلا فهو فاعل اجتماعي يتعرض لتأثير المعرفة الاجتماعية المتداولة. نقول إذن إن تحقيق القطيعة الابستملوجية بين المعرفة العفوية والمعرفة العلمية ليس بالأمر اليسير كما هو حال في علوم الطبيعة

يضاف إلى كل ما سبق الالتزام الفلسفي أو الايديلوجي لعالم الإنسانيات بحيث قد يميل إلى التبرير أو الإدانة ويجانب الحياد فيتجاوز الوصف إلى التقييم، وهو ما يسمى بمشكلة “أحكام القيمة

الحادثة التاريخية لها طبيعة معنوية كالحروب الصليبية أو الحرب الباردة ، لا تلاحظ بالعين المجردة أو بالأجهزة كما نلاحظ الظواهر الطبيعية ، و ما يمكن ملاحظته فقط آثارها غير المباشرة و هذا يعني أن الخطوة الأولى في المنهج التجريبي منعدمة.

انها حادثة من انتاج الإنسان و تخطيطه، لذلك يصعب تحديد أسبابها بدقة ، و نتائجها و أبعادها وقت حدوثها ، فالكثير من الحروب تقع بطريقة غير مفهومة ، يخفي مقرروها أسبابها الحقيقية .

انها ظاهرة بشرية ، من صنع الإنسان و ترتبط بحياته الخاصة و العامة ، و الإنسان كما نعلم يتصرف بحرية له القدرة على إبداع مظاهر سلوكية غير معهودة و غير متوقعة ، كما أنه لا يستقر على حالة واحدة و عليه لا يمكن اخضاعها لقوانين الحتمية ، مثلا اذا وقع الطلاق بين زوجين لأسباب معينة ، فان نفس الأسباب قد نجدها في عائلة أخرى دون ان يحدث الطلاق ، نفس الشيئ بالنسبة لظاهرة الانتحار و العنف و غيرها ، و هذا ما يضيق دائرة التنبؤ بشكل كبير

عائق الذاتيــــــــــة و هو من أكبر العوائق الابستيمولوجية في العلوم الإنسانية ، لأن المؤرخ لا يواجه في هذه الحالة ظواهر طبيعية مستقلة ، بل سيواجه حقائق تتعلق بكيانه الشخصي و الوطني و الاديولوجي ، فيكون هو الدارس و المدروس في نفس الوقت ، يتأثر حتما بانتمائه السياسي و الديني . إن المؤرخ بصفة عامة بدل أن يلتزم الحياد و الموضوعية و يفسر الحادثة كما وقعت يقوم بتأويلها و يصدر بشأنها أحكاما تقييمية ، فتراه يضخم الوقائع التي تخدم قضيته ، و يتغاضى عن الوقائع التي تسيئ اليها . و في جميع الحالات تزييف للحقيقة .

انها ظواهر خاصة تنطوي على عوامل و محركات ذاتية ، كعوامل الطلاق و الانتحار و الهجرة ،و ما هو ذاتي لا يكون قابلا للدراسات التجريبية لانعدام الملاحظة الخارجية ، و لايكون قابلا أيضا للتحليل الرياضي الدقيق .

1- انها ظواهر داخلية يدركها صاحبها ، ولا تدرك من الخارج ، فنحن لا نرى الشعور و اللاشعور ، أو الحب و الكراهية و الانانية و غيرها ، لا مكان لها ، و لا حجم . فعندما يتحول الحزن الى فرح لا ندري المكان الذي اختفى فيه الحزن ، و لا المصدر الذي جاء منه الفرح

إنها ظواهر خاصة تتعلق بمقومات الشخصية ، وما دامت هذه المقومات مختلفة من شخص لآخر يتعذرفيها التعميم ، كل واحد و انفعالاته ، و اهتماماته ، و قناعته ، و لذلك يستحيل تعميم النتائج ، و هذا يعني أن مبدأ الاستقراء المعروف في العلوم التجريبية غير قابل للتطبيق في الدراسات النفسية.

انها ظواهر كيفية ، تقبل الوصف لا تقبل التقدير الكمي ، فإذا كان العلم قادرا على قياس درجة حرارة الجسم أو ارتفاع ضغط الدم بالوسائل التقنية ،فان هذه الوسائل غير قادرة على قياس درجة القلق أو الحب الإيمان و غيرها..، يقول الكسيس كاريل ان تقنياتنا عاجزة عن تناول ما لا بعد له و لا وزن و عن قياس درجة الغرور و الأنانية ، و الحب و الكراهية .

إنها ظواهر شديدة التداخل و الاختلاط : أي أنها ظواهر معقدة، متعددة ومتداخلة الأبعاد يصعب عزلها بيسر أو تعيين دور كل منها في تحديد الظاهرة..

انها ظواهر متشعبة تتدخل فيها عوامل كثيرة ، اقتصادية و اجتماعية و سياسية و عقائدية و تاريخية ، فقد يقول البعض أن سبب الهجرة إلى الخارج اقتصادي محض ، لكن يمكن أن يكون سياسي أو اديولوجي و بذلك تنعدم الدقة النتائج المتوصل إليها

غياب وضوح المنهج الذي يقود السبب إلى نتيجة مما يسمح بتأويلات للسببية المقترحة و نفس الشيء يرتبط بتعقد المفاهيم و غموضها التي تدخل في اللعبة .

القيام بالتجارب المتكررة في ظروف مشابهة غير ممكنة . لهذا وجب تحديد طرق القيام بها لتكون مقبولة. إذ يصعب تطبيق التجريب في العلوم الإنسانية لعدم خضوع الإنسان و المجتمع للتجريب. فالتجريب يقتضي عزل مؤشرات محددة و إخضاعها للتجربة بالملاحظة، وهذا غير ممكن عموما ( عدا في علم النفس بقياس الذاكرة…)

إن الحادثة االبشرية فريدة من نوعها لا تتكرر فهي غير قابلة للتكرار وما يستخلص من دراسة ظاهرة واحدة يصعب تعميمه لندرة الظواهر المماثلة لأن الزمن او المكان الذي حدثت فيه لا يعود من جديد ، و الإطار الاجتماعي الذي اكتنفها يكون قد تغير و لذلك لا يمكن للمؤرخ إخضاعها للتجريب عن طريق اصطناع حرب تجريبية حتى يتحقق من صحة فرضياته ، ثم أنها ظواهر لا تمتثل لقوانين الحتمية ، إن أسباب وقوع حرب ماضية قد تجتمع حاليا ولا تقع الحرب قد تلجأ الأطراف المتنازعة إلى السلم بدل الحرب ، وما دام الإنسان يتصرف عادة بحرية فان التنبؤ بأحواله يكون شبه مستحيل

إنها ظواهر لا تتكرر بنفس الطريقة و نفس الشعور و نفس الأثر ، فلا يمكن للباحث أن يصطنع الحب و الكره أو التفاؤل و التشاؤم حتى يتحقق من صحة فرضياته ، فهي ظواهر تفلت من قبضة الإرادة و المنطق.

في ميدان الملاحظة، هنا لا يمكن ملاحظة الظواهر في شموليتها إما لان الظاهرة واسعة جدا( كالهجرة في العالم، العائلة…) أو أنها قد تكون خاصة و خفية( ما هي الدوافع التي تكون زوجا بين بني الإنسان) أو أنها غير محسوسة و غير ملموسة ( كيف يتم تدبير المقاولة في قطاع اقتصادي ما).

أمام هذه الصعوبات يمكن عزل بعض المتغيرات و تحديد ميدان البحث لن هذه العملية تقود إلى عدم فهم الظاهرة و إلى تدخل تأويلات موجهة ذات قصد ذاتي. و هنا نسقط في التحليل و ليس في الملاحظة.

في مسألة التحقق ودحض التجربة أحيانا و لأسباب أخلاقية لا يمكن إن نخضع الإنسان لتجارب في حدود قصوى ( التجريب في الطلاق أو الانتحار….)

إنها لا تقترح إلا قوانين تقريبية و أحيانا نجد أن التنبؤات غير دقيقة. فالتنبؤات الاقتصادية غير صحيحة دائما.

1-3- صعوبات الخطاب العلمي الاجتماعي

الموقف المعارض يؤكد انه لا يمكن إخضاع الظواهر الإنسانية للتجريب ، وبالتالي لا يمكن أن تكون موضوعا لمعرفة علمية نظرا للعوائق الابستيمولوجية .

إن الخطاب الذي يهم الأنشطة البشرية لا يدور حول تفسير و فهم الوقائع الاجتماعية، لكن يهدف إلى اقتراح قواعد و معايير normes. بمعنى أن هذه الأنشطة يجب أن تكون منظمة و مرتبة لصالح ولخير الفرد و الجماعة و الدولة. يبحث هذا الخطاب المعياري Discours normatif لاكتشاف ما يمكن أن تصله البشرية إلى مستوى الخير و القيم. ذلك أ ن الظاهرة الاجتماعية تعطى لها قيمة بل حكم قيمة Jugement de valeur، أي الواقعة الاجتماعية تتضمن اتخاذ موقف( الخير و الشر، القبيح و الجميل، الشيء المفيد و المضر…) .إذن ، هذه الواقعة معيارية تتخذ مكانتها ضمن المعايير و القيم.

إن المرور من الخطاب المعياري إلى الخطاب التفسيري المعروف عند العلوم الدقيقة يتميز بصعوبات منهجية كبيرة، إذ أن الطابع التقريبي للقوانين التي تقترحه العلوم الإنسانية مخالف لدقة القوانين التي تبنيها و تهيكلها العلوم الطبيعية و بالخصوص الفيزياء و كذا دقة التفسير التي تتجلى في مؤشر التنبؤ وهي جزء من المنهج العلمي.و في هذا الاتجاه لا يمكن أن تتقدم العلوم الاجتماعية بتفسيرات أدق عدا البعض منها كالديموغرافيا.

لقد تعرض المنهج لتشككات حول مدى قابليته بالنسبة للظواهر التي تهم البشر و سلوكه و تنظيمه.

في كل العلوم الاجتماعية، نرى أن كل مدرسة علمية أو باحث يعمل على أن يؤسس مشروعا علميا خاصا به اعتمادا على صدق و صلاحية النتائج العلمية التي توصل إليها. مع الرغبة في إبراز لاعلمية الاتجاهات الفكرية الأخرى المنافسة. من هنا نرى أ ن هناك مؤشرين أساسين يمكن استخلاصهما و هما مؤشرا السببية و الموضوعية:

+السببية و مشكل الصدفة:السبب كما قلنا سابقا ( انظر الفصل الأول)هو العلة أو الواقعة أو الحدث أو الفعل الذي يقود إلى إحداث تأثيرات تترجم من خلال تغيير و ضع بالإضافة فيه أو بالنقصان منه أو تغيير مساره.

إن العلوم الطبيعية تأخذ بمبدأ السببية المادية أو الواقعية التي تتجلى في أن كل حركة أو تغيير تنتج عنه حركة أو تغيير آخر. بينما تعتمد العلوم الاجتماعية على أسباب متعددة ( صورية وخفية…).

لهذا ، هذه السببية يجب أن ننظر إليها من زاوية النسبية التي تجعل كل الظواهر و تفسيراتها خاضعة لمحدودية الاجتهاد العقلي البشري.

+الموضوعية: إن البحث الاجتماعي يتميز بمرتبة مزدوجة لأنه إنسان و بالتالي يخضع إلى بعد ذاتي ( ثقافته سلوكه و تكوينه) و في نفس الوقت يرغب في القيام بدراسة موضوعية !

إن هذا المشكل هو من أسباب تأخر العلوم الاجتماعية في تبنيها للطابع العلمي. فالإنسان هو معطى و موضوع في نفس الوقت . إذ يصعب القيام بعملية التباعد عن ذاته و ذاتيته في البحث العلمي، ثم إن حدسه لا يسمح بان يوفر له حقائق الأشياء و إن ما يبدو له طبيعي عقلاني و عادي ليس إلا ما يلاحظه و يعيشه عادة فهو يبني المعايير و طرق العيش و التصرفات و التمثلات كأشياء مطلقة وهي فقط من إنتاج المجتمع الذي ينتمي إليه مما يقود إلى إمكانيات الفهم فحسب.

لقد أبدى ماكس فيبر Max Weber المؤرخ و السوسيولوجي شكوكه في الموضوعية العلمية للعلوم الاجتماعية. وأكد على أن معرفة الظواهر الاجتماعية تفرض الوقوف على معناها.و لبلوغ هذا المعنى، يجب محاولة معايشة الواقع بالطريقة التي يعيشها الأفراد، أي أن الباحث يضع نفسه في مكان العناصر التي تهمها الظاهرة مقترحا أن فهم تطور في وقت ما الرأسمالية يكون عوض تفسيرها واضعا السؤال لماذا نشأت الرأسمالية في وقت معين و بين وجود طبقات اجتماعية معينة ،و الإجابة يرى أن القيم البروتستانتية التي انتشرت في أوساط اجتماعية بورجوازية هي التي فرضت سلوكا معينا يرمي إلى محاولة بلوغ النجاة الروحي عن الطريق النجاح المادي. إذن هذا التفسير لا يقترح قانونا عاما صالحا للتعميم الشمولي و لكنه طريقة لفهم و واقع معين و في مكان معين هو أوروبا الشمالية.

يطرح لوسيان غولدمان إشكالية الفهم الموضوعي للواقع في العلوم الإنسانية، حيث يقر هذا الأخير بعجز العلوم الإنسانية عن التحرر من سيطرة الإرث الفلسفي التأملي نظرا لعدم استيفائها شرط الموضوعية ومرد هذا أن الباحث في مجال العلوم الإنسانية أثناء معالجته لظاهرة إنسانية يعجز عن التخلص من مواقفه المضمرة وأحكامه القبلية، أي المسبقة ثم نوازعه اللاواعية، أي استحالة تجرد الباحث في العلوم الإنسانية من املاءات اللاوعي، وقبليات الحس المشترك، كما يتطرق كولدمان إلى بعض العوائق التي تحول دون تأسيس معرفة موضوعية في العلوم الإنسانية، ولتدعيم أطروحته هاته يعزز كما يذيل موقفه بالاستناد إلى بعض الحجج التي تصبو إلى إثبات مذكرته، وذلك من خلال إبرازه لمناحي الاختلاف بين شروط عمل الفيزيائي أو الكيميائي يجد منطلقه في اتفاق فعلي أو ضمني بين سائر الطبقات التي تكون المجتمع المعاصر، حول قيمته وطبيعته ومقصده، كما يرى كولدمان أن المعرفة العلمية هي الأكثر مطابقة للواقع الفيزيائي والأكثر فعالية ونجاعة، وفي هذا السياق لا يمكن غزو الشخصية في قبيل غياب روح النسقية، ثم انعدام الرؤية النافذة، وكذا الغرور والانطباع الانفعالي، وفي أقصى الأحوال غياب النزاهة الفكرية، على النقيض من ذلك نجد بأن وضعية العلوم الإنسانية تختلف عن المعرفة التي تشكل أرضية أو أساس العلوم الفيزيائية – الكيميائية، فبدلا من الإجماع الضمني أو الصريح بين أحكام القيمة حول البحث العلمي فإننا نجد في العلوم الإنسانية اختلافات جذرية في المواقف .من هنا يبرز لنا لوسيان غولدمان انعدام الفهم الموضوعي في واقع العلوم الإنسانية ثم استحالة تجرد الباحث في العلوم الإنسانية مما هو قبلي أو تبني المواقف الذاتية، لان الباحث يتصدى في غالب الأحيان للوقائع مزودا بمفاهيم قبلية ومقولات مضمرة ولا واعية تسد عليه طريق الفهم الموضوعي بشكل قبلي، في هذا الإطار نجد بأن إيميل دوركايم يقر بأن الظواهر الاجتماعية في ذاتها هي ظواهر مستقلة عن الذوات الواعية التي تتمثلها وبالتالي يجب دراستها من الخارج، من هنا نستشف أن الإنسان ليس ذاتا للمعرفة وموضوعا لها في الآن نفسه، في هذا النطاق تبرز فكرة جوهرية مفادها أن العلوم الانسانية بالرغم من نشأتها، وإرساء أسسها، في القرن 19، في سياق ابيستمولوجي خاص يصغي إلى الارتقاء إلى مستوى تطبيق النموذج الفيزيائي التجريبي على دراسة الإنسان، فإنها عجزت أن تفي بشرط الموضوعية لأسباب مبدئية تتصل أو رهنية إن صح القول- بطبيعة الظواهر الإنسانية المبحوثة ذاتها، من هنا يتبين لنا جليا أن بعض الباحثين يطرح مشكلة الموضوعية في العلوم الإنسانية بين التصور الوضعي والتصور النقدي، حيث يرى أن المعرفة التي يكونها الإنسان عن نفسه تبقى دائما، وبعيدا عن أن تكون محايدة، مشبعة بالذاتية، كما أن النظرة التي تشكل علم النفس هي ظاهرة نفسانية، كذا علم الاجتماع هو ظاهرة سوسيولوجية تخص العالم الحديث، وبالتالي يستحيل مبدئيا أن تتمكن العلوم الإنسانية من الوصول أو بلوغ الموضوعية المطلقة، أو التخلي عن جزء من أهدافها وغاياتها ثم الاكتفاء بدراسة المظاهر الأولية من الحقيقة أو الواقعة الإنسانية.

في هذا الإطار نجد بأن ميشيل فوكو يلتقي مع لوسيان غولدمان، حين يقر بأن مسألة العلوم الإنسانية، في علاقتها بالعلوم الأخرى، سعيا وراء إبراز خصوصية الظاهرة الإنسانية- باعتبارها ظاهرة معقدة وبالتالي متعددة الأبعاد ونقطة لتقاطع مجموعة من العلوم، مما يجعل دراستها أمرا صعبا، كما يعالج ليڤي ستروس فكرة جوهرية في هذا السياق مفادها أن مسألة الظاهرة الإنسانية وكيفية موضعتها أمام الصعوبة التي تطرحها ثنائية الملاحظ والملاحظ،، وكذا كيفية الحفاظ على خصوصية هذه الظاهرة الإنسانية وكيفية تناولها من طرف علوم الإنسان من جهة، ومن طرف الفلسفة من جهة أخرى.

وفي نفس السياق ، يقدم جون پياجي في إبستمولوجية العلوم الإنسانية (1970) تصورا متكاملا عن الإشكالات الإبستمولوجية التي تواجهها العلوم الإنسانية وتحقيق العلمية في دراستها، حيث يرى بأن وضعية العلوم الإنسانية لهي أشد تعقيدا، وذلك لأن الذات هي التي تلاحظ أو تجرب على ذاتها أو على غيرها من الذوات قد تعترضها تحولات أخرى صادرة عن الظواهر الملاحظة يصعب ضبطها، بل وبشأن سياق هذه الظواهر، بل وبشأن طبيعتها تظهر صعوبات إضافية بالقياس إلى وضعية العلوم الطبيعية التي يمكن الفصل فيها، بوجه عام بين الذات والموضوع.

ويقدم “فرنسوا باستيان” تحليلا لرهانات العلوم الاجتماعية أو الإنسانية في ضوء تعقد الموضوع وتداخل المناهج (مفارقة علاقة الذات بالموضوع) حيث تتمثل المفارقة غير القابلة للاختزال لدى الباحث الاجتماعي في كونه لا يستطيع الانفصال كلية عن مجتمعه الذي هو موضوع دراسته، في حين يعتبر هذا الانفصال مبدأ كل علم موضوعي. غير أن هذا التوجه الوضعي الذي استلهم المنهج التجريبي، والذي أثبت نجاحه في العلوم التجريبية بإمكانية بناء الظاهرة الإنسانية، واجه انتقادات تصب كلها في إثارة إشكال التداخل بين الذات والموضوع. وهذا الإشكال هو الذي يجعل كل موضعة الموضوع الانساني، بالمعنى التجريبي، صعبة المنال، إن لم نقل مستحيلة، وفي هذا النطاق تنكشف طبيعة هذا التدخل وما يطرحه يتبين من خلال هذه العناصر أنه لا يمكن الحسم بخصوص موضعة الظاهرة الإنسانية، فالقول بذلك يفيد التماثل بين بنية الذات- الموضوع في العلوم الحقة وبنية علاقة الذات- الموضوع في العلوم الإنسانية، وهو تماثل لا يصمد أمام الانتقادات الموجهة له، وما ينتج عن ذلك من تأثير سلبي على مكانتي كل من التفسير والفهم، الشيء الذي يطرح إشكالية يمكن إدراجها على النحو الآتي: – كيف تتحدد وظيفة النظرية العلمية؟

1-4- العلوم الإنسانية أمام نموذج علوم الطبيعة: مشكلة الفهم والتفسير

بعد تعيين العلوم الإنسانية لموضوعها، كيف لها أن تقاربه؟ وهل تستوفي هذه المقاربة شرط العلمية وعن أي شرط نتحدث ؟ إذا كان النموذج الذي أتبث فائدته وجدواه لمقاربة الظواهر هو نموذج العلوم التجريبية، فهل للعلوم الإنسانية أن تقتبس هذا المنهج، أم أنها مطالبة بالتمرد ضد صلابة نموذج علوم الطبيعة لتشق لنفسها طريقها المنهجي الخاص بها والذي يلائم خصوصية الظواهر الإنسانية؟

العلوم الإنسانية ومنهج التفسير:

يقصد بالتفسير هنا كشف العلاقات الثابتة الموجودة بين حادثتين أو أكثر، وإقامة علاقات سببية بينها بموجب ذلك. وهذا هو التفسير السببي، أما التفسير الغائي فقد أهمله العلم. ولا يلائم التفسير السببي سوى الظواهر المتماثلة المطردة والقابلة للتكرار ليتم التعميم ( تفسير سقوط الأجسام بقانون الجاذبية)

وقد ارتبط منهج التفسير بالاتجاه الوضعي وخصوصا لدى المدرسة السوسيولوجية الفرنسية مع دوركايم ومارسيل موس. في محاولتها الرقي بعلم الاجتماع إلى مصاف العلم الدقيق بعيدا عن المناهج التأملية.

وبما أن التفسير يقوم – كما أسلفنا – على ربط ظاهرة بأخرى ربطا سببيا، فإننا نعثر في دراسة دوركايم لظاهرة “الانتحار” على حالة تكاد تكون نموذجية لمنهج التفسير في العلوم الإنسانية: فبناءا على إحصائيات الانتحار في عدد من الدول الأوروبية، خلص إلى أن معدلات الانتحار تتناسب عكسيا مع درجة التماسك الديني، لذلك ينتحر البروتستانت أكثر من الكاثوليك؛ و مع درجة التماسك الأسري، لذلك ينتحر العازبون أكثر من المتزوجين، والمتزوجون بدون أطفال أكثر من ذوي الأطفال؛ وأخيرا مع درجة التماسك السياسي، إذ ترتفع معدلات الانتحار في أوقات الهدوء السياسي والسلم الاجتماعي أكثر من فترات الحروب والأزمات الدبلوماسية .

مثال2: ينحصر موضوع علم النفس ، حسب المدرسة السلوكية، في دراسة السلوك الإنساني القابل للملاحظة، منظورا إليه كرد فعل على مثيرات قابلة للملاحظة بدورها، وكشف القوانين المتحكمة في علاقات المثيرات بالاستجابات، والامتناع عن صياغة فرضيات حول ما يقع داخل العلبة السوداء أي الوعي الإنساني

عوائق منهج التفسير وامكانيات منهج الفهم:

لقد لجأ دوركايم إلى المقاربة الإحصائية لظاهرة الانتحار من أجل غربلة المحددات الذاتية، والفردية للظاهرة والاحتفاظ فقط بالمكون الجمعي للظاهرة الذي يهم السوسيولوجيا، والذي يمكن الوصول بصدده إلى تفسير سببي قابل للتعميم.

ولكن ألا يؤدي تحليل الظواهر الإنسانية على غرار الظواهر الطبيعية إلى إفراغ الأولى من أهم مقوماتها، من مكونها الداخلي أي الدلالات والنوايا والمقاصد والاكتفاء بالمحددات الخارجية للفعل ؟

بهذه الأسئلة ننفتح على دعاة المنهج المقابل، منهج الفهم والذي صاغته عبارة ديلتاي الشهيرة: ” إننا نفسر الطبيعة، لكننا أيضا نفهم ظواهر الروح

ولكن ماذا نقصد أولا بالفهم؟

لأن الفاعل الإنساني يمنح دلالة لأفعاله وللعالم من حوله ويسلك وقف غاية من حيث هو كائن واع، فالمقصود بالفهم – في مناهج العلوم أو الميتودلوجيا – إدراك الدلالة التي يتخذها الفعل بالنسبة للفاعل، وتتكون هذه الدلالات من المقاصد والنوايا والغايات التي تصاحب الفعل وتتحدد بالقيم التي توجهه، وغالبا ما يتم النفاذ إلى هذه الدلالات بواسطة فعل “التأويل”، الذي اقترن ظهوره بالدراسات اللاهوتية في سعيها إلى استكناه مقاصد النصوص المقدسة ودلالاتها الخفية.

ويقدم لنا التحليل النفسي مثالا نموذجيا لعلم إنساني يكاد يعتمد كلية على الفهم بمعنى التأويل : إذ تُتناول مختلف الظواهر النفسية السوية منها والمرضية، بما في ذلك الأحلام كعلامات حاملة لدلالات يتعين تأويلها وذلك بتجاوز المعاني الظاهرة والمقاصد الواعية، لدرجة دفعت الكثيرين إلى التساؤل عما إذا كان التحليل النفسي علما أو فنا في نهاية المطاف !

أما في علم الاجتماع، فيقدم لنا ماكس فيبر في دراسته الرائدة حول “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” مثالا آخر لتطبيق منهج الفهم يتركيزه على القيم المشتركة بين كل من السلوك الرأسمالي والموقف الأخلاقي البروتستانتي. وليس غريبا أن يقع اختيار فيبر على ظاهرة فريدة هي نشأة الرأسمالية في أوروبا، لأن منهج الفهم لا يهدف أصلا إلى اكتشاف انتظامات أوعلاقات سببية قابلة للتعميم على نطاق واسع.

حدود منهج الفهم وعوائقه:

يستدعي منا منهج الفهم بدوره بعض الملاحظات النقدية، وأهمها لامبالاته تجاه ضرورة التمييز، الذي يحرص منهج التفسير على إقامته، بين الذات والموضوع، ومادام الفهم ينصب على الدلالات ويقوم على ضرب من التعاطف والمشاركة الوجدانية بين الدارس وموضوع دراسته، ألا يخشى أن يسقط الدارس قيمه ودلالاته الخاصة على الظاهرة ؟ وكيف لنا آنذاك أن نميز بين دلالات الفعل لدى الفاعل/موضوع الدراسة ودلالاتها لدى الدارس؟

لعل هذا هو ما حذا بغاستون غرانجي إلى تشبيه منهج الفهم بالتفكير الأسطوري السحري حيث تسقط الذات خصائصها على الموضوع، وتنصهر فيه.

2- البحث عن منهج علمي اجتماعي متميز

لقد حاولت العلوم لاجتماعية أن تتبنى مكتسبات المنهج العلمي المستوحى من العلوم الطبيعية بتوافرها على شروط نظرية مقبولة مما جنبها الوصف المبالغ فيه و غير العلمي. لهذا نجد اجتهادات في هذا الاتجاه.

يقصد بالموضعة مختلف الإجراءات المنهجية الهادفة إلى تعيين ظاهرة ما أو طائفة من الظواهر كموضوع علمي متمايز عن الذات الدارسة.

كيف يمكن للظاهرة الإنسانية أن تغدو موضوعا للعلم أي موضوعا لدراسة منهجية ؟ والحال أنها ظاهرة واعية والدارس والمدروس معا هو الإنسان.

2-1-في سبيل موضعة الظاهرة الإنسانية:

غالبا ما تطرح إشكالية الموضعة في مرحلة نشأة علم ما، عندما ينشغل رواده بتعريف موضوع علمهم ليتسنى لهم دراسته. في هذا الإطار نفهم تعريف إميل دوركايم لموضوع السوسيولوجيا بوصفه مرافعة من أجل موضعة الظاهرة الإنسانية. يرى دوركايم أن هذه الموضعة ممكنة لأن الظاهرة الاجتماعية شيء كباقي الأشياء. وتعريف الشيء عنده هو الموجود وجودا خارجيا بحيث يعطى للملاحظة؛ ولذلك تنص أولى قواعد المنهج السوسيولوجي على معاملة الظواهر الاجتماعية كأشياء مادامت تتميز بالخارجية والوجود المستقل عن وعي الأفراد الذين يعونها ويتمثلونها ويخضعون لقسرها ولا يسعهم اختراعها أو تغييرها. وبذلك تتحقق مسافة وانفصال منهجي بين الذات ( عالم الاجتماع) و الموضوع وهو هنا الظاهرة الاجتماعية: إن ظاهرة الزواج مثلا أو الظاهرة الدينية وغيرها من ضروب السلوك والتفكير والشعور الاجتماعي لا توجد فقط خارج وعي الفرد، بل إنها تمتاز أيضا بقوة آمرة قاهرة بحيث تفرض نفسها على الأفراد.

وبذلك يظهر ان دوركايم يراهن على تحييد الوعي أي إفراغ الظواهر الإنسانية من خاصية الوعي ليتسنى موضعتها، لأن الوعي “عدو العلم” كما يقول ليفي شتروس.

2-2- بناء عدة موضوعيات في الظاهرة الإنسانية

يمكن إبراز عدة عقلانيات و تصرفات بشرية بدون إن تكون متعارضة و لان تكون غير منسجمة فيما بينها الإيمان بتعددها ليس رفضا للتقدم العلمي الذي قاد إلى توحيد النظريات. الحال إذا برزت عقلانية العالم الفيزيائي فهذا على حساب واقعتين:

تطبيقات تنفيذية للعلم لفائدة الجميع باكتشاف العقلانية الكلية للعالم الفيزيائي. وهذا يعني ا ن هناك ظواهر غير مفسر التي يدرسها الفيزيائيون أنفسهم و الذين يعرفون أنهم أنفسهم يجهلون هذه العقلانية.إن كل ثورة علمية- و التي تقوم بتأكيد موضوعية النظريات- تقوم بتعويض عقلانية أخرى، و هذا يعني أن عقلانية الواقع الفيزيائي نسبية و غير مطلقة ووحيدة. و نفس الشيء يمكن قوله في عقلانيات العلوم الاجتماعية.

هذه العقلانيات هي متعددة تهتم بدراسة أنشطة الإنسان و بالتالي تهتم بمختلف المعارف الإنسانية

ويظهر منا إن هناك تعدد في التصرفات و العلاقات و الغايات و بالتالي في العقلانيات و تعددا بالتالي في الموضوعيات في عمالية التطرق إليها في الخطاب العلمي لهذه العلوم.

وهذا يعني أيضا عدم انسجام عقلاني و تمفصلهما غير موجود لتناقض الواقع مما يطرح مشكلة البحث عن توحيد نظري لهذه العقلانيات التي تتطور في كل الاتجاهات الخاصة بها دون إن تلتقي مع بعضها

إذ إن كل فرع علمي يشيد موضوعية و عقلانية خاصة به وهذا يعني تجزؤا للمعارف حول الواقع الإنساني نرى إن التوحيد العلمي للنظريات العلمية في العلوم الاجتماعية غير ممكن و الحل الممكن هو تفضيل احد العقلانيات و التي تقود إلى المعرفة العلمية.غير أن الاحتفاظ و الادعاء بتوحيد النظرية الاجتماعية و بعد احترام المقاربات الأخرى غير منطقي و هو اتجاه لاستبداد المعرفة الوحيدة فالعقلانية الفردية التي اعتبرت هي الصحيحة و الوحيدة مرتكزة على فلسفة ليبرالية و اغتنت بمكتسبات علمية لا تناقش لهذه العقلانية. أما العقلانية الجبرية التي ترتكز على فلسفة حتمية ميكانيكية ترى أنها أن الإنسان ليس إلا لعبة آليات لا يتحكم فيها احد. و بالمقابل، قوت الإسهامات العلمية لهذه المقاربة من نظرة العلم. بذلك ازدهرت فلسفات موت الإنسان. بالفعل تبحث الفلسفة الهادفة إلى شمولية الكون و الباحثة عن وحدة الظاهرة الإنسانية و انطلاقا من معارف متنوعة:

نوع ينبني على إحدى العقلانيات المذكورة اللبرالية و البنيويات و الماديات و بعض الفلسفات التبسيطية للتاريخ كلها تشترك في فهم الإنسان و الإحاطة بقضاياه المعقدة و لكنها في العمق بسيطة غير تفسيرية مدعية عقلانية تحاول أن تكون موضوعية.

+الجدلية تتطرق للشمولية و التناقضات وكلها تعتمد على الجدلية كمسلسل لفهم الحل الواقعي للتناقضات.

هناك من أكد على أن المنهج الامبريقي يطبق في عدة علوم اجتماعية كعلم النفس التجريبي و اللسانيات و الاقتصاد الانثربلوجيا و الجغرافيا الثقافية و السلوكية، وهي تدرس تصرفات فردية و اجتماعية. فعلم النفس التجريبي يهم بالمؤثر و بالجواب لكن بدون البحث عن معرفة لماذا يظهر هذا الجواب أو ذاك و الملائم لهذا المؤثر.فعلم الاقتصاد يبحث عن آليات النشاط الاقتصادي لكن لا يبحث عن معرفة إذا كانت هذه الآليات تحمل دلالات وقيما تؤطر هذه التصرفات.

من هنا يمكن البحث في هذه الدلالات إزاء هذه التصرفات الفردية و الجماعية،و كذا القيم التي تحملها و الأفعال و المؤسسات و المسلسلات الاجتماعية و الثقافية ، لكن بشرط قبول المعنى الذي أعطاه إياه الفاعل. فعلى سبيل المثال، نجد أن العامل الاقتصادي في المادية التاريخية يقود إلى تفسير الظواهر الواقعية بإبراز دلالاتها العميقة و المخفية من طرف دلالات أخرى و أسباب أخرى التي تظهر آنية. و يمكن أن نطلق على هذه المنهجية بالمنهجية التأويليةMéthode interprétative وهي تعتبر الآثار المرئية كنص يجب تفكيكه و الذي يقود إلى خطاب مستتر ذي نص مقفول codé ، ثم أنها تسمح بربط الظواهر المرئية بمسلسلات غير مرئية غير ملموسة و لكنها مفهومة و تقدم قراءة لها. و هنا يصل المنهج التأويلي درجة تشبع التأويل حينما ينجح في الاندماج في شمولية منسجمة مع النصوص المدروسة كحالة تفكيك تاريخ المجتمع على أساس العامل الاقتصادي. و لكن العيب فيه انه غير مبشر بالتنبؤ المستقبلي.

و من جهة أخرى أكد ماكس فيبر على مشكل القيم في العلوم الاجتماعية مبرزا أن القيم توجد في أصل المنهج العلمي و تحاول أن تهيء موضوعية علمية حقيقية. و بالتالي يمكن معالجة هذه القيم كوقائع بالشروط العلمية.

لقد عملت العلوم الاجتماعية على الاقتراب من العلوم الدقيقة من خلال استغلال تقنيات حديثة كالإعلاميات و الإحصائيات وأساسا الإحصائيات الاستنتاجية les Statistiques différentielles

خاتمة عامة

إن التسليم بعلمية العلوم الاجتماعية، لا يلغي عمليا الإشكالية التي تنتصب أمام الباحث ، ألا وهي إشكالية العلاقة بين الذات والموضوع، أو بتعبير آخر إشكالية الموضوعية في العلوم الاجتماعية والناجمة عن كون هو نفسه جزء من المشهد الاجتماعي الذي يقوم بدراسته، وبالتالي فإنه من الصعوبة بمكان، أن يكون المرء باحثا محايدا وبريئا، لأنه يمثل هنا كلا من موضوع و منهج في آن واحد وهو ما ترتب عليه:

انطباع العلوم الاجتماعية بالطابع الأيديولوجي،

تباين انعكاس الواقع في الوعي تبعا لتبدل الزمان والمكان،

التداخل البنيوي بين الذات والموضوع في الظاهرة الاجتماعية،

الحاجة إلى إجراءات منهجية معينة لمعالجة هذه الإشكالية، والاقتراب – إن لم يكن الوصول – إلى النتيجة العلمية المطلوبة.

لقد حاولت العلوم لاجتماعية أن تكتسب الصفات العلمية بتوافرها على شروط نظرية مقبولة مما جنبها الوصف المبالغ فيه و غير العلمي كدراسة واحة فجيج( بوب و بنشريفة) .

لكنها لم تذهب بعيدا في طابعا العلمي الصارم إسوة بالعلوم الدقيقة الأخرى .إذ أن طرق الوصف الدقيقة من الناحية الكمية لا تكون مصحوبة بنظرية مقنعة مساعدة على التنبؤ، أن النماذج المجردة غير قابلة للتجربة. أيضا نرى أن النماذج و النظريات ليست إجماعية و إنما تحدث في دائرة مجتمعات علمية صغيرة ولا يمكن التيقن من الاستمرار في تقدم البحث فيها و إنما قد يمكن الرجوع إلى الوراء إلى نموذج سابق( جلنر).

لا ينكر احد مدى تعقيد الظواهر الإنسانية سواء كانت تاريخية او اجتماعية أو نفسية و الناتج عن خصوصيتها كظواهر معنوية ، لكن يمكن دراستها بطريقة علمية موضوعية وفق مناهج خاصة تنسجم مع طبيعتها.ويكون التجريب المكيف أفضل طريقة للدراسات الإنسانية.

بأي معنى وضمن أية شروط يمكن الحديث عن “علوم إنسانية” ؟ يحاول بعض علماء الإنسانيات استلهام مناهج العلوم الطبيعية التي أثبتت فعاليتها، بينما يرافع آخرون من أجل ابتكار منهج أصيل بدعوى عدم وجود معيار أو نموذج وحيد للعلمية. وبعبارة أخرى، يسعى البعض إلى الاستفادة من المكتسبات المنهجية للعلوم الحقة، بينما يجتهد آخرون لتأسيس نموذج مغاير للعلمية. إن هذه الإشكالات الميتودولوجية التي تعترض العلوم الإنسانية نابعة أساسا من خصوصية الموضوع وهو الظاهرة الإنسانية.

إن السعي الحثيث لعلماء الإنسانيات من أجل تعريف موضوع علمهم وتحيييد الوعي وابتكار تقنيات لتحقيق القطيعة مع المعرفة العفوية و الذاتية لدليل على خصوصية الموضوع وما تطرحه موضعته من عوائق.

سيكولوجية الجماهير – غوستاف لوبون

قراءة في كتاب سيكولوجية الجماهير – غوستاف لوبون
الجزء الأول : الطالبة حنان السملالي
الجزء الثاني : الطالب أسامة البحري
الجزء الثالث : الطالبة رشيدة رخوخي
طلبة شعبة علم الاجتماع – بني ملال – جامعة السلطان مولاي سليمان
سيكولوجيا الجماهير “الجزء الأول”
بقلم الطالبة حنان السملالي
في ما مضى كانت السياسة التقليدية للدول و المنافسة بين الحكام هي التي تشكل العوامل الأساسية التي تحرك الأحداث ، و لم يكن لرأي الشعوب في الغالب الأعم قيمة ، و لكن بدخول الطبقات الشعبية في الحياة الساسية و تحولها بالتدريج إلى طبقات قوية قائدة أصبح صوتها راجعا و غالبا بل قادرا على قلب الموازين ، تلك القوة استمدت عن طريق نشر بعض الأفكار التي زرعت في النفوس ثم رويدا رويدا ، بواسطة تجمع و احتكاك و تكتل الأفراد من خلال الروابط و الجمعيات تجسدت مفاهيم التي كانت مجرد نظرية ، فأصبحت المطالب واضحة أكثر فأكثر و تميل الى قلب و تدمير المجتمع الحالي ، فالعقائد الجديدة سوف تكتسب قريبا نفس قوة العقائد القديمة ، لذلك يكفي القيام بتمعن شديد و فاحص للأحداث التي تمخضت عنها التحولات العظمى ، ليتضح ان السبب الحقيقي الكامن وراء ما يبدو كأسباب ضاهرية هو في الحقيقة تغير عميق يصيب الشعب ، فصح القول إذن “انما تتناقله كتب التاريخ ليس سوى آثار مرئية لمتغريات لا مرئية يصيب عواطف البشر ” و في نهاية القرن التاسع عشر تزايد عدد الجماهير على سطح المسرح الاوروبي ، و راحت اعمالهم المباغتة ، فبدأ الباحثون و المفكرون الفرنسيون الايطاليون ، يتحدثون عن ظاهرة الجماهير المجرمة ، المجرمون الجماعيون الذين يهددون امن الدولة ، النظام الاجتماعي القائم و طمأنينة اىمواطنين و شلامتهم ، هكذا أصبحت الدراسة العلمية للجماهير تمر من خلال علم القانون الجماهيري ، و كان سيكهبل اول من بلور هذه النظرية و خلع مفهوم تقنيا عن الجماهير ، و حسبه هي كل الحركات الإجتماعية ، و المجموعات السياسية من الفوضوية إلى الإشتراكية ، زد على ذلك العمال في حالة الاضراب ، علاوة على ذلك التجمعات الحاصلة في الشوارع ، فتبلورت بذلك ثلاث أجوبة : 1 : جماهير ضد المؤسسات القائمة :
أشخاص شادون عن المجتمع فصار الجمهور = رعاع / اوباش ، 2 : جماهير مجنونة بطبيعتها : ان تعلقت او احبت شيئا او شخصا تبعته و تابعته حتى الموت ، 3: جماهير مجرمة = بما أنها مؤلفة من رعاعو أوغاذ (الحاقدين) فذلك معناه : عنف – سب – شتم – عصيان – جنوح عن القانون ، لكن لوبون و هو يراكم تجربته التي دمج فيها كل النظريات البيولوجية / الانثربولوجية / السيكولوجية ، راح شيئا فشيىأ يبلور نظريته المعلقة بسيكولوجياالشعوب / نفسية الشعوب و الأعراق البشرية ، فاثناء دراسته لقضايا علم النفس ، اصطدم بظاهرة الجماهير (الحركات الشعبية و الارهاب ، فكان ذكيافي طريقة تناوله لهذا الموضوع من وجهة نظر لم تكن سائدة ، فبنى نظرية متكاملة و متماسكة بدأ بتشخيص أوضاع الديموقراطية البرلمانية التي تولدت عن الثورة الفرنسية لم يقل بأن الحل في الرجوع الى الماضي و لا الى الاشتراكية و انما اصلاح النظام البرلماني بشكل يناسب اوضاع الجمهور المستجدة ، ثم اكد ان قوى الحاكم و الحكم تؤدي الى استقرار النظام الاجتماعي و انعدام القوة تؤدي الى الفوضى و الى احتلال الاوضاع ، فمنهجيته التحليلة لم يجدها في التاريخ و الاقتصاد ، بل في “علم النفس ” فحسب و في هذا الصدد يقول “علم النفس يعلمنا ان هناك روحا للجماهير ” ، روح مكونة من الانفعالات البدائية و مكرسة بواسطة العقائد الايمانية القوية و البعيدة عن التفكير العقلاني و المنطقي فكرته الاساسية بسيطة جدا : كل الكوارث الماضوية التي بليت بها فرنسا و كل هزائمها تع الى هجوم الجماهير على مسرح التاريخ ، فضعف النظام البرلماني الديمقراطي اذن راجع الى الجهل بقوانين علم النفس و طرائق تسيير الجماهير ، و بين عشية و ضحاها اصبح لوبون الاستاذ الفكري لمرحلة كاملة باسرها و حافظ عليها حتى نهاية حياتخ “المديدة” و مادمنا نتناوله بالتحليل في هذه الاثناء فاكيد ان كتابه منح لصاحبه خلودا فكريا ، فكان بذلك بنثابة المانيفيست الذي دشن علم النفس الاجتماعي و الجماعي كما قال “موسكوفيتشي” ، بهذا نال غوستاف لوبون : شهرة واسعة و مكانة رفيعة ، فصار كتابه هذا المرجع الوحيد الذي قررته الجامعة في برامجها حول علم النفس الاجتماعي ، و من خلال ما سلف ، يتضح ان : معرفة نفسية الجماهير تشكل المصدر الاساسي لرجل الدولة الذي لا يريد ان يحلم كليا من قبلها ، زد على ذلك ان نفسية الجماهير تبين مدى ضعف تأثير القوانين و المؤسسات على طبيعتها الغرائزية ، و بهذا فقد تطرق لوبون في فصله الاول من عمله سيكولوجية الجماهير ، لكلمة الجمهور ، فهي تعني في المعنى العادي تجمعا لمجموعة من الافراد ايا كانت هيوتهم القومية / مهنتهم ، لكن من وجهة نظر علم النفس الاجتماعي ” جمهور ” يصبح له معنى اخر ، ففي ظروف معينة يمكن لتكتل ما من البشر ان يمتلك خصائص جديدة مختلفة تماما عت خصاىص كل فرد يشكله ، انذاك تنطمس الشخصية الواعية للفرد و تصبح عواطف / افكار الوحدات الصغرى المشكلة للجمهور في نفس الاتجاه ، فتتشكل روح جماعية مؤقتة . بدون شك لكنها تنفتح بخصائص متبلورة تماما عندئذ ستصبح هذه الجماعة : جمهورا حسب لوبون منظما / جمهورا نفسيا ، فتتشكل بذلك “كينونة واحدة ” و تصبح خاضعة “لقانون الوحدة العقلية للجماهير ” ، فأي تجمع عن طريق الصدفة لا تخلع عليهم خصائص الجمهور المنظم ، فألف فرد مجتمعون بالمصادفة على الساحة العمومية بدون هدف محدد لايشكلون إطلاقا جمهورا نفسيا ، لكن هذا لا يتطلب بالضرورة الحضور المتزامن للعديد من الأفراد في نقطة واحدة / شعب بأكمله قد يصبح جمهورا نفسيا بدون تجمع مرئي ، فما أن يتكون الجمهور النفسي حتى يكتسب خصائص عامة و مؤقتة و قابلة للفرز فتنضاف خصائص متغيرة خاصة بحسب العناصر التي يتألف منها و التي يمكن أن تعدل بنية العقلية ، و هذا يدل أن الجماهير قابلة للتصنيف، هذا الأخير سيبين لنا أن هناك خصائص مشتركة بين الجماهير
المتجانسة و الغير متجانسة و الأكيد أن هناك إلى جانب ما هو مشترك هناك ، خصوصيات تتيح لنا إقامة التمايز بينهاة، و لهذا فليس من السهل دراسة روح الجماهير ، ذلك لأن تركيبتها تختلف ليس فقط بحسب : العرق البشري / تشكيلة الجماعات ،
غوستاف لوبون – سيكولوجيا الجماهير ” الجزء الثاني “
بقلم الطالب أسامة البحري – شعبة علم الاجتماع – بني ملال
يرى لوبون في بداية الكتاب الثاني من عمله سيكولوجية الجماهير أن هناك عاملين أساسين يؤثران في الجماعة ، عامل بعيد : و يعني المؤثرات الخارجية ، كما نجد في علاقة الثورة الفرنسية بأعمال المفكرين و الفلاسفة ، ثم عوامل مباشرة : التي تعني تكدس كل المؤثرات الخارجية في قبضة واحدة ، مما يدفع بالجماهير الى إحداث عامل مباشر و هو الثورة (فصل الدين عن الساسية مثلا)، و من بين العوامل البعيدة ، نجد : التقاليد الموروثة ” العرق / الزمن / المؤسسات / التربية / التعليم ، فالعرق حسب لوبون هو عبارة عن سلسلة تاريخية تلتبس البيئة الحاضراتية (تقسيم العمل داخل المنازل مثلا : المطبخ و السرير للانثى – المنزل باكمله للذكر ، التقاليد الموروثة : يعرفها غوستاف لوبون ، بانها ” الافكار و الحاجيات و العواطف الخاصة بالماضي فهي تمثل خلاصة العرق و تضغط بكل ثقل علينا 1″ فما تفعله هذه الاجزاء الماضوية حسب لوبون ، هو تكوينها لكائن فوق عضوي يسيطرعلى المخيال الإجتماعي ، ففي هذا الصدد يقول ” نرى ان الشعب هو عبارة عن كائن عضوي مخلوق من قبل الماضي ” ، فهذه الاجزاء الماضوية حسبه، تكون شبكة من التقاليد ، تطبع كل الافراد بما تحمله داخلها من افكار و مفاهيم : كحشومة – عيب الخ .. و يرى لوبون أيضا أنه بدون هذه التقاليد لا يمكن ان توجد حضارة و بدون اصلاح هذه التقاليد بالمنطق يستحيل أن يكون هناك تقدم ، الزمن ، فالبعد التاريخي / المفتوح الأمد يفتح عوالم التلاشي و التطور حينما يحضر الوعي ، فالحضارة أمام الوعي تتغير بتغير محتويات الماضي ، فإنها تتطور لتفتح عوالم التلاشي و التطور مرة أخرى ، و محور هذا التطور هي العلاقة التجاذبية التي يحققها الوعي بين الرأي و المعتقد ، و بهذا يقول لوبون :” ان التوكيد لا يلبث بعد ان يكرر تكرارا كافيا أن يحدث رأيا ثم معتقدا 2 ” ،و بهذا يكون الرأي هو المحدد للسلوك الفردي و الإجتماعي ، عن طريق تكراره بكل مواضع الجسد الإجتماعي مما يجعله معتقدا doxa ، يحافظ على مشروعية بقائه عبر جل المؤسسات الإجتماعية و السياسية، و في هذا الصدد يعرفها لوبون بأنها ” بنت الافكار و العواطف و الأخلاق و الطبائع التاريخية المكونة للثقافة ” لأنه بفعل ترسخها في الذهن ، بها ينظر الفرد إلى الوجود ، و بفعلها يجيب الفرد عن كل مثير يثيرلجسد بالواقع الإجتماعي ، و في هذا الصدد يرى لوبون ان التعليم دخل في دوامة الادلجة عبر فكرة التلقين التي غزت المخيال التدريسي ، و ” هكذا نجد ان الشابة او الشاب ما ينفكون منذ السنة الاولى ابتدائية و حتى الدكتوراه او شهادة التبريز ، ييتلع مضمون الكتب بدون ان يشغل عقله أو رأيه الشخصي ، فالتعليم بالنسبة له يتمثل في الحفظ و الطباعة 5″ ، فما يفعله هذا النظام المؤدلج حسب غوستاف لوبون هو تكوين ” إنسان مصنوع 6″
1 : غوستاف لوبون – سيكولوجية الجماهير – ص : 1012 : المرجع ذاته – الصفحة ذاته3 :غوستاف لوبون – الآراء و المعتقدات – ص : 1994 : غوستاف لوبون – سيكولوجية الجماهير – ص : 1055 : المرجع ذاته – ص : 1086 : المرجع ذاته – ص : 111
ففي هذا الصدد يقول لوبون “الانسان المدجن و المتزوج و المستسلم يدور في حلقة مفرغة الى ما لا نهاية ، فهو منغلق داخل وظيفته الضيقة 1″ ، و من خلال هذه الاحاطة بعلاقة الذات مع محيطها ، سينتقل بنا لوبون الى العوامل المباشرة في الفصل الثاني من الكتاب الثاني ، و بهذا فقد تكلم لوبون في بداية هذا الفصل ، عن دور الكلمة في اخضاع العقول ، فالكلمة حسب لوبون تشكل صورة في الذهن ، و تتشكل في صورة بالمجتمع ، كالرسومات على المدارس (امرأة تضع الخمار ، رجل يلبس اللباس التقليدي …. )، فهذه الصور حسب لوبون تعزز وجود الصورة الذهنية التي تمخضت عن جملة او كلمة ترسخت في المخيال بالتكرار ، و عندما تشعر الجماهير بنفور عميق من الصور التي تثيرها بعض الكلمات و” ذلك على أثر الانقلابات السياسية و المتغيرات التي اصابت العقائد ، فإن الواجب الأول لرجل الدولة الحقيقي هو تغيير هذه الكلمات 2″ ، ” و لهذا فيكفي على القادة أن يعرفوا اختيار الكلمات لكي يجعلوا الجماهير تقبل ابشع انواع الأشياء 3″ ، علاوة على ذلك الاوهام : فمن بين العوامل التي تخذر الاذهان حسب لوبون هي الوهم ، فقد ظهر لاول مرة بالمعابد ، ثم استخدمت الأصنام للتلاعب بالعقول ، ثم انتقل الى الدين ثم الى الفلسفة ثم الى الجسد الاجتماعي باكمله
1 : غوستاف لوبون – سيكولوجية الجماهير – ص : 112
: المرجع ذاته – ص : 1193 : المرجع ذاته – الصفحة ذاتها
سيكولوجية الجماهير – غوستاف لوبون ” الجزء الثالث” بقلم الطالبة رشيدة الرخوخي – شعبة علم الاجتماع – بني ملال
الفصل الأول: تصنيف الجماهير
هذا الكتاب يهم الخصائص الخصوصية التي تميز مختلف فئات الجماهير البشرية، ولكن قبل ذلك أقدم تصنيفا مختصرا لأنواع الجماهير البشرية، فيمكن تقسيمها إلى :
جماهير غير متجانسة وجماهير متجانسة :
— الجماهير الغير متجانسة تتألف من مجموعة من الأفراد بغض النظر عن مهنهم وثقافاتهم ….. وتنقسم بدورها إلى :

  • جماهير مغفلة : وتتمثل في جماهير الشارع وتتميز بغياب حس المسؤولية ، مثال : ثورات الربيع الديمقراطي ، الجماهير التي خرقت قانون الطوارئ الصحية بالمغرب.
  • جماهير الغير المغفلة : وهي المجالس البرلمانية ، وهيئات المحلفين.وتتميز بكونها أكثر تطورا ، ولها كذلك حس عالي بالمسؤولية .
    — فيما يخص الجماهير المتجانسة فتتألف من :
  • الطائفة : وهي المرحلة الأولى من مراحل تشكل الجماهير ، وتضم أفرادا مع اختلاف ثقافاتهم ومهنهم ، ومستوياتهم الاجتماعية، والذي يجمع بين أفرادها هو العقيدة أو الإيمان ، مثال : الطوائف الدينية ، الطوائف السياسية .
  • الزمرة : تشكل أعلى درجات التنظيم التي يمكن أن يصل إليها الجمهور ، وتحتوي على أفراد من أوساط متقاربة، ويمتهنون المهنة نفسها. مثال : الزمرة العسكرية ، الزمرة الكهنوتية .
  • الطبقة : تتشكل من أفراد ذوي أصول مختلفة وتجمع بينهم المصالح ، وبعض عادات الحياة ، والتربية المشتركة ، مثال : الطبقة البورجوازية ، الطبقة الزراعية.
    الفصل الثاني : الجماهير المدعوة بالمجرمة
    عندما تزول حالة الهيجان والانقياد الآلي التي تخضع لها الجماهير حينذاك يصعب وصفها بالمجرمة ، لكن هذه الصفة تلازمها وتلاحقها من طرف البحوث النفسية . فالجرائم التي ترتكبها الجماهير ناتجة عن تحريض ضخم ، يشعر معه المرتكب لهذه الجريمة أنه أدى واجبا وطنيا كبيرا ، وهذا ما لا يكون في حالة المجرم العادي.
    وكمثال موضح لما سبق : مقتل مدير سجن الباستيل بفرنسا ، السيد دولوني :
    في خطوة أولى استولت الجماهير على السجن وأخذوا يضربون المدير ، هناك من اقترح شنقه ، وآخرون يرون بسحله في الشارع، ووسط تخبطه بين أيديهم ضرب رجلا برجله دون قصد ، آنذاك اقترح أحدهم أن يكون قتل هذا المدير من نصيب ذلك الرجل ، ويروي أحد الشهود أن هذا الرجل كان طباخا متجولا ونصف متسكع ، وقد ذهب إلى الباستيل ليرى ماذا يحدث هناك ، ولما اتفق الجميع على قيامه بهذه المهمة ، ظن أنه بإنجازها سيؤدي عملا وطنيا ، قد يستحق أن يكافأ من أجله ، أعاروه سيفا ولكنه لم يكن مشحوذا بما يكفي لقطع رقبة المدير ، فأخرج سكينا من جيبه كان يستخدمه لتقطيع اللحم فأتم مهمته بنجاح.
    القوة الجماهيرية تؤثر بشكل كبير في عملية التحريض ، والاستحسان الجماعي للفعل يوحي إلى القاتل بأنه قام بعمل طبيعي ، بل عظيم ، ومثل هذا العمل هو إجرامي من الناحية القانونية ، لكن ليس من الناحية النفسية .
    الجماهير المدعوة بالمجرمة لها نفس الخصائص التي لدى جميع أنواع الجماهير ، كقابلية التحريض فمهما كان الفرد واعيا فإنه يقبل أن يحرض داخل جماعة الجمهور ، وكذلك السذاجة ، وسرعة التصديق ، فلا مجال لأن يتحرى الأفراد صدق الأخبار المنقولة بينهم من زيفها.
    الخصائص التي تحدثنا عنها نلمسها لدى هذا النوع من الجماهير، والتي تركت ذكريات بشعة ، وتعتبر الأكثر إجراما. جماعة سبتمبر، الذين شاركوا في مذابح شتنبر في فرنسا سنة 1792.
    الوقائع كما يحكيها الفيلسوف “تين” ، في هذه الأحداث لا أحد يعلم من أعطى الأوامر لارتكاب تلك المجازر، وقد ابتدأ الاقتراح التحريضي من تفريغ السجون عن طريق قتل المساجين وهذا الاقتراح الذي تلقاه الجمهور المكلف بعملية القتل والذي يتكون من ثلاثمائة شخص وهنا نشير إلى أنه نمط نموذجي على الجمهور الغير متجانس وكان يتألف من الحرفيين المختلفين ،والحدادين، والإسكافيين،والبنائين والموظفين،والوسطاء التجاريين ،وأصحاب الدكاكين،والحلاقين . فقد اقتنعوا أنهم يؤدون واجبا وطنيا كما سبق مع الطباخ آنفا،فهم لايعتبرون أنفسهم مجرمين بل هم القضاة والجلادين في آن واحد.
    في البداية سيتخلصون من النبلاء والكهنة والضباط باعتبار أن مهنهم تشكل جريمة في حد ذاتها ، ثم بعد ذلك يقتلون الآخرين.وفي خضم هذه المجازر يخيم على الجميع نوع من الفرح اللطيف ابتهاجا بمقتل الارستقراطيين ، فهم يغنون ويرقصون حول الجثث . وعندما انتبهوا إلى أن بعض النساء اللاتي يجلسن بعيدا نسبيا لا يرين المشهد جيدا ،أخذوا يمررون الضحايا بشكل بطئ بين صفين من الذباحين الذين يضربون بظهر السيف لكي يطيلوا مدة التعذيب قدر الإمكان.استمر ذلك لمدة نصف ساعة ،وبعد أن يرى الكل المشهد يجهزون عليهم بشق بطونهم.
    من صفات أولئك الجزارين أنهم صارمين، وأكثر دقة، وأمناء أيضا،فكل الذهب والجواهر التي يجدونها في جيوب الضحايا يقدمونها إلى اللجان.
    كما أن روح الجماهير تتميز أيضا بأشكال بدائية من المحاكمة العقلية. فبعد قتلهم لما يزيد عن اثني عشر ألفا من أعداء الأمة اقترح أحدهم أحدهم قتل العديد من الأفواه الجائعة والغير المفيدة والتي تتمثل في عدد كبير من المسجونين الشحاذين،والمتسكعين،وقد قبل اقتراحه . إضافة إلى العديد من أعداء الشعب الذين يقبعون في السجون أيضا،وقد قتلوا الجميع بما فيهم خمسين طفلا ماداموا سيصبحون أعداءا للشعب أيضا.
    وبعد أسبوع من العمل انتهت هذه المهمات كلها وذهب الجزارون إلى الاستراحة ، فهم مقتنعون أنهم قدموا خدمة كبيرة للوطن ويستحقون التنويه والمكافأة.
    الفصل الثالث : محلفوا محكمة الجنايات
    تعتبر فئة محلفوا محكمة الجنايات الفئة الأهم من بين فئات المحلفين ،وتعتبر أيضا نموذجا للجمهور الغير متجانس وغير المغفل،وتتميز بخصائص أساسية كالقابلية للتحريض،وهيمنة العواطف اللاواعية،وضعف القدرة على المحاكمة العقلية،وتأثير القادة والمحركين.
    هيئة المحلفين كجمهور لا يستطيعون اتخاذ القرارات باستخدام العقل ، فالذكاء لا يلعب أي دور ، وكمثال على ذلك أن مجمع العلماء والفنانين لا يصدر حول القوانين العامة أحكاما مختلفة جدا الأحكام التي تصدرها جمعيات البنائين والأميين . والإحصائيات تبين أن القرارات المتخذة من طرف هيئة المحلفين المؤلفة من الأساتذة والموظفين والأدباء …..، متماثلة مع القرارات المتخذة من طرف هيئة المحلفين المكونة من التجار الصغار ، وأرباب العمل الصغار …..
    وفي ما يلي ما قاله السيد بيرار دي غلاجو بهذا الصدد وهو رئيس سابق لمحكمة الجنايات:”في الواقع أن اختيار الهيئة المحلفة اليوم هو في أيدي أعضاء مجلس البلدية . وهم ينتقون الشخص أو يحذفونه بحسب هواهم وطبقا للمصالح السياسية والانتخابية الخاصة بوضعهم. وأغلبية المنتخبين مؤلفة من تجار أقل أهمية من أولئك الذين يختارون في الماضي ، من موظفي بعض الإدارات ….. وكل الآراء تمتزج بكل المهن في الدور الذي يقوم به القاضي، فالكثيرون يتمتعون بالحماسة التي يتمتع بها المعتنق الجديد للدين. والرجال ذوو النية الطيبة يتلاقون في الحالات الأكثر تواضعا ، ولكن روح لجنة التحكيم لم تتغير بقيت هي هي “.
    ويبدو أن المحامون والقضاة لا يفهمون جيدا نفسية الجماهير وكدليل على ذلك القصة التي يرويها السيد دي غلاجو ومفادها أن السيد لاشو- وهو من أشهر المحامين – كان يستخدم كثيرا حق الطعن اتجاه كل الأشخاص الأذكياء الذين يمارسون دورهم كأعضاء اللجنة، ولكن مع توالي التجارب استنتج المحامي أنه لا جدوى من هذا الطعن ومن هنا كانت ملاحظة السيد دي غلاجو التي مؤداها أن الأحكام الصادرة لم تتغير.
    المحلفين أيضا يتأثرون جدا بالعواطف كسائر أنواع الجماهير ويتسامحون في الجرائم المدعوة بالغرامية والعاطفية ،فهم يشعرون أن مثل هذه الجرائم ليست خطيرة بالنسبة للمجتمع ، غير أنهم لا يبدون أي شفقة أو رحمة اتجاه الجرائم التي تنال منهم أو التي تشكل خطرا على المجتمع.
    ككل أنواع الجماهير هيئة المحلفين لا يصدرون الأحكام بشكل عقلاني ، وبالتالي فالمحامي الناجح هوالذي ينجح في التأثير على عواطف المحلفين .
    محامي انجليزي كان يعرف بمرافعاته الناجحة ، كان يراقب هيئة المحلفين ، فيقرأ على تقاسيم وجوههم تأثير كل عبارة يقولها ، وبالتالي يميز بين الأعضاء المؤيدين له والمعارضين،وفي مرحلة ثانية يحاول فهم سبب معارضتهم للمتهم الذي يدافع عنه.
    كل هدا يدل على تميز المحامين بفن الخطابة ، هذا الفن الذي يرتكز على الإبقاء جانبا بالخطابات الجاهزة ، وتعديل الكلمات والعبارات في كل لحظة تماشيا مع ردود أفعال المخاطبين .
    ويكفي أن يقتنع القادة المحركين الذين يتحكمون في الرأي العام ، وهذا يغني عن محاولة إقناع كل أعضاء هيئة المحلفين.
    رغم أنها تمثل الحماية الوحيدة ، إلا أن بعض الكتاب قد حاربوا هيئة المحلفين ، بحجة أن هذه الهيئة يجب أن تتألف من الطبقات المستنيرة ،لكننا قد برهنا سابقا أن الأحكام الصادرة من الهيئة متماثلة رغم اختلاف نوعية أعضائها.
    وتجدر الإشارة أيضا إلى أن هيئة المحلفين هي القادرة على التخفيف من قساوة القانون الذي لا يعترف بالظروف أو الحالات الإستثنائية ، فالقاضي لا يعترف إلا بالنصوص القانونية ، ولا يفرق بين مجرم قاتل وبين قاتل دفعته الظروف القاسية لفعل ذلك.ناهيك عن الأخطاء التي يرتكبها القضاة والذين لا تمارس عليهم أية رقابة.
    الفصل الرابع : الجماهير الانتخابية
    الجماهير الانتخابية هي الجماهير المدعوة لانتخاب المسؤولين ، وتشكل جماهير غير متجانسة .وتتميز بضعف القابلية للتفكير العقلاني ، انعدام الروح النقدية ، سرعة الغضب ، السذاجة وسرعة التصديق…..
    هذه الجماهير يمكن إغراؤها بمجموعة من الأساليب، كالهيبة الشخصية التي يمتلكها المرشح للانتخابات ، فبها يفرض نفسه دون الحاجة إلى مناقشة شيئ آخر أكثر أهمية ، فالناخبون من الفلاحين والعمال نادرا ما يختارون شخصا من بينهم ليمثلهم في مجلس النواب ، لأن الشخصيات النابعة من أوساطهم ليست لها أي هيبة شخصية.
    من الوسائل أيضا المغرية ، التملق لرغبات الناخب وغمره بأكبر الوعود. وكذلك سحق المرشح المنافس بتكريس الاتهامات عن طريق تكرارها وتأكيدها ، بغض النظر عن صحتها أوزيفها.وإذا كان هذا المرشح المنافس لا يعرف نفسية الجماهير فإنه سيرد بالمحاجات العقلية والتبرير وإلا فعليه أن يرد باتهامات مضادة أيضا.
    هناك وسيلة أخرى للإغراء وهي برنامج المرشح سواءا المكتوب أو الشفهي ، فعلى المرشح أن يعد الناخبين بإصلاحات ضخمة دون الخوف من عدم تحققها لأن الناخبين سرعان ما ينسون هذه الأمور رغم أن نتائج الانتخابات قد حسمت علة هذا الأساس.
    الكلمات والشعارات أيضا لها تأثير على نفوس الجماهير ، فهناك خطابات رغم أنها استهلكت من كثرة الاستخدام إلا أنها تولد دائما نفس الآثار الإيجابية لدى المتلقين ، مثال : المستغلين الحقيرين ، الرأسمال الكريه ، العامل الرائع ، التوزيع الاشتراكي للثروات……
    فيما يخص التأثير الذي قد تحدثه المحاجات العقلانية على نفسية الناخبين ، فينبغي قراءة محضر جلسة عن الإجتماعات الانتخابية ، ففيها يتبادلون الآراء القاطعة ، الشتائم ،واللطمات في بعض الأحيان ، من دون أن يتبادلوا المحاجات العقلانية.
    وهذه المناقشات ليست حكرا على الطبقات الاجتماعية المتدنية وإنما نجد الأسلوب نفسه والكلمات نفسها في التجمعات المؤلفة من الأدباء والمثقفين.
    وفي صفوف الطلاب أيضا ، جاء في أحد المحاضر أن الصخب يزداد كلما زادت السهرة في التقدم ، وقد لا يستطيع خطيب أن يقول كلمتين متتاليتين دون أن يقاطعه أحد، ثم راحت المناقشات العنيفة تندلع ، بعد ذلك ارتفعت أصوات العصي ضاربة الأرض في شكل من التهديد.
    في ظل هذه الأجواء يمكننا أن نتساءل عن الطريقة التي يتشكل بها رأي الناخب.وهنا نقيس درجة الحرية التي يتمتع بها الجمهور أو الجماعة. فالواقع أن للجماهير آراء مفروضة وليست ناتجة أبدا عن أي جهد ذهني أو محاكمة عقلية. وهذه الآراء تظل بين يدي اللجان الانتخابية التي يقودها المحركون ، والذين هم في الغالب فئة من تجار الخمور ، ولهم تأثير كبير على العمال لأنهم يقرضونهم بعض المال.
    لا يمكن جهل مساوئ التصويت العام ، فالحضارات قد صنعت أقلية في أعلى الهرم ، وكلما نزلنا نحو القاعدة تتسع الطبقات وتنقص القيمة العقلية ، وبالتالي لايمكن أن نسمح للقاعدة أو العناصر الدنيا من الأمة أن تصوت في الانتخابات لأنها لا تمثل سوى كثرة عددية.
    هذه الأمور النظرية تفقد قوتها عمليا، فعندما تتحول الأفكار إلى عقائد إيمانية فإن قوتها تكون جبارة لا تقهر.فعقيدة السيادة الجماهيرية لا يمكن الدفاع عنها من الناحية الفلسفية وهي تنطبق على الأفكار الدينية التي كانت سائدة في القرون الوسطى، وبالتالي فمن المستحيل مهاجمتها اليوم كما كان مستحيلا مهاجمة الأفكار الدينية في الماضي.
    هل يمكننا أن نفترض أن التصويت ينبغي أن يحصر في النخبة وبالتالي يحسن صوت الجماهير ، لا يمكن ذلك لسبب بسيط وهو أن في الجمهور يتساوى البشر كلهم ، وعليه فإن نتائج التصويت لن تكون أفضل مما هي عليه الآن.
    وسواءا كان التصويت محصورا بفئة ضيقة أو عاما يشمل الجميع ، وسواءا طبق في بلد ملكي أو جمهوري فإن تصويت الجمهور سيظل هو هو، ويعبر غالبا عن آمال العرق وحاجياته اللاواعية . وهنا نجد أنفسنا أمام حقيقة وهي أن المؤسسات والحكومات تلعب دورا ضعيفا جدا في حياة الشعوب، فهذه الشعوب بشكل خاض تتحكم فيها روح عرقها.
    الفصل الخامس : المجالس النيابية
    المجالس النيابية تشكل جماهير غير متجانسة وغير مغفلة ، وهي تتشابه بصفاتها وخصائصها على الرغم من اختلاف طرق انتخابها على مر العصور.
    هذا النظام البرلماني هو مثال حقيقي للفكرة التي تقول بأن اتخاذ قرار حكيم ومستقل بخصوص موضوع ما، يكون في تجمع العدد الكبير من الناس أكثر قدرة من التجمع الذي يحتوي على عدد أصغر.
    من خصائص المجالس النيابية ، التبسيطية في الأفكار ، النزق وسرعة الغضب ، القابلية للتحريض.. . والحاجة للقادة المحركين شيء لا جدال فيه لأننا نجدهم في كل بلدان العالم تحت اسم رؤساء المجموعات النيابية ، إنهم الملوك الحقيقيون للمجالس النيابية ، والناس المنخرطون في الجمهور لا يمكنهم الاستغناء عن زعيم أو سيد ، وبالتالي فالتصويت الجاري في مجلس نيابي ما لا يعبر عموما إلا على رأي قلة قليلة.
    إن القادة المحركين ، يتحركون قليلا جدا بواسطة العقل ، والمحاكمة العقلية ، وكثيرا جدا بواسطة هيبتهم الشخصية ، وإذا ما عرتهم منها حالة ظرفية ما فإنهم يفقدون كل تأثير ونفوذ.وتجدر الإشارة إلى أن هذه الهيبة التي يتمتع بها القادة المحركون فردية ولا علاقة لها لا بالشهرة ولا بالاسم.
    المجالس النيابية هي الرقعة الجغرافية التي لا مجال فيها للعبقرية، فأهم شيء هو الفصاحة اللغوية والخدمات المقدمة للأحزاب السياسية لا للوطن، أما الجمهور فهو يتابع حركة القائد المحرك دون أن يتدخل فيها.
    ولكي يحسن المحركون استعمال وسائل الإقناع لابد أن يفهموا أعماق نفسية الجماهير لكي يستطيعوا استعمال الكلمات المناسبة والشعارات والصور والإيحاءات،وكذلك الفصاحة اللغوية والكلمات القاطعة.
    ومن مصلحة المحركين أن يبالغوا في الأمور ويضخموها إلى أبعد حد ، ففي خطاب أحد المحركين في المجالس النيابية استطاع أن يؤكد بدون أن يثير كثير احتجاج بأن أصحاب المصارف والكهنة يستأجرون قاذفي القنابل للعمل لصالحهم ، وبأن مديري الشركات المالية الكبرى يستحقون نفس العقوبات كما الفوضويين.
    ومثل هذه الأساليب تؤثر دائما على الجماهير، فمهما يكن التأكيد مبالغا فيه لا يكون غاضبا بما فيه الكفاية ، ولا الخطابة مهددة بما فيه الكفاية أيضا ، وينبغي دائما تقديم المزيد منهما ، ولم يعد هناك أي شيء يخيف السامعين ، فهم إذا ما احتجوا خافوا من اتهامهم بالخيانة أو التواطؤ.
    عودة إلى الفصاحة اللغوية ، فقد هيمنت على المجالس النيابية وتزداد حدتها في الفترات الحرجة . وإذا ما كان القائد ذكيا ومثقفا فإن ذلك يضره أكثر مما ينفعه ، لأن المثقف يحتاج إلى كثير من التفسير والشرح للأمور المعقدة ، وذلك ما يجعله متسامحا وبالتالي ضعيفا ، وإذا ما تأملنا فسنجد أن المؤثرين والقادة المحركين عبر العصور وخاصة الذين برزوا في الثورة الفرنسية فسننتهي إلى أنهم كانوا محدودي العقل جدا ، ومع ذلك فقد مارسوا تأثيرا كبيرا.
    والجماهير تعرف أولئك القادة بالغريزة ،وترى فيهم السيد المطاع ،والرجل ذا التصميم العنيد الذي يلزمها.وفي المجالس النيابية أيضا نجاح الخطاب يعتمد على الهيبة الشخصية وليس على الحجج والمقترحات.
    إن المجالس النيابية في حال هيجانها فأنها تتحول إلى جماهير غير متجانسة ، بحيث في لحظة من اللحظات قد تنجز إنجازات مبهرة وفي أحيان أخرى قد ترتكب أبشع الأخطاء. وتصبح جماهيرا بهذا المعنى في بعض الأوقات فقط لأن أفرادها يحافظون على فردانيتهم في أحيان كثيرة جدا ، والقوانين التي تصوت عليها الجماعة في المجلس النيابي إنما هي صنع لفرد واحد ،وهذه القوانين تعتبر الأفضل.
    وعلى الرغم من صعوبة تسييرها فإن المجالس النيابية هي أفضل طريقة وجدتها الشعوب حتى الآن ، من أجل حكم ذاتها ، وخصوصا من أجل التخلص من الاستبداد .
    ويهدد هذه المجالس خطران رئيسيان:
    الأول هو التبذير الإجباري للميزانية ، أي عندما يقترح أي عندما يقترح أحد النواب بسن تعويضات للعمال أو الزيادة في أجورهم ، فإن باقي النواب يصادقون على المقترح لكي يرضوا الجماهير الانتخابية ، ولو كان هذا القرار يضر بميزانية الدولة .
    أما الخطر الثاني فهو تقييد الحريات الفردية ، وهو لا يظهر جليا ، ولأن المجالس النيابية لها روحا تبسيطية فهي لا ترى انعكاسات القرارات التي تقيد الحرية ، بالتالي فهي تصادق عليها .
    سن القوانين باستمرار قد يعقد أعمال الحياة وبالتالي تقييد دائرة حركة المواطنين ، والشعوب إذ تزن بأن عدد القوانين المسنونة تزيد من الحرية والمساواة ، فهي تقع في وهم كبير ، وهذا ما يجعلها تقبل بإكراهات قسرية جديدة في كل يوم ، وبالتالي يعتادون على تحمل كل العبوديات بعدها يصيرون كالآلات بدون إرادة أو قدرة ، وهذا العجز سيؤدي إلى ازدياد دور الحكومات ، وتصبح الدولة مسؤولة عن كل شيء.
    نختم بدراسة نشأة ، عظمة ، وانحطاط الحضارات:
    في البداية تتكون من مجموعة من الرجال المنتمين إلى أصول متفرقة ، وليس بينهم أي رابط مشترك ، ويجمعهم قانون الزعيم المعترف به ، وفي هذا الخليط نجد الصفات النفسية للجماهيرفي أعلى درجاتها، ومع مرور الزمن وبفعل البيئة المشتركة والتقاطع بين الحاجيات المشتركة أيضا ، تبدأ هذه الوحدات الغير متجانسة في الانصهار لكي تشكل عرقا واحدا في نهاية المطاف، وهكذا يصبح الجمهور شعبا.
    المرحلة الثانية في قضية الانصهار تقتضي خروج الشعب من مرحلة البربرة ، بفعل حدوث مخاض داخل الشعب لتحديد المثل الأعلى الذي يهتدى ويقتدى به ،ومن ثمة يمكن أن تولد حضارة بشكل مؤسساتي.
    وبعد أن تصل الحضارة إلى مستوى معين من القوة فإنها تتوقف عن النمو ، وحينذاك يتسلل إليها الانحطاط السريع فتدق ساعة شيخوختها. ومن صفات هذه الساعة أن يصاب المثل الأعلى بالوهن والضعف وبالتالي تتأثر المؤسسات،فيفقد العرق أسباب قوته وتماسكه أكثر فأكثر، فتزداد مظاهر الفر دانية ،والأنانية، باعتماد كل شخص على ذكائه،وبالتالي تضعف القابلية للانخراط والاندماج ، فيعيش الأفراد من دون رابط يجمعهم إلا وحدة شكلية تنادي بمن يحكمها.
    وفي مرحلة أخيرة يفقد العرق روحه ، ويعود ليصبح ذرات متناثرة كما كانت في البداية ، أي جمهورا ، وهنا يمثل كل خصائص الجمهور العابرة واللامتماسكة والتي سرعان ما تتلاشى.

علم الإجتماع القروي. نشأة علم الاجتماع الريفي وتطوره :


إن نشأة علم الاجتماع الريفي social rural أو مايطلق عليه علم قوانين تطور المجتمع
ً ترجع إلى العصر الحديث . إلا أن فكرة المجتمع الريفي
الريفي ، هي نشأة حديثة جدا
قعقشم سخؤهفغ هي فكرة قديمة قدم المجتمع الريفي ذاته . وقد ظلت مجموعة
المعارف والحقائق العلمية التي تم جمعها عن المجتمع الريفي لفترة طويلة من الزمن
تدخل ضمن نطاق المعارف والحقائق اتي تشملها عوامل اجتماعية أخرى وذلك لتنوع
ثقافات واهتمامات ومجالات نشاط المهتمين بالدراسات الريفية من جغرافيين
واقتصاديين وسياسيين وعلماء اجتماع وغيهم ، ونظرة كل منهم إلى المسائل الريفية من
زاوية اهتمامه الخاصة .
ففي الماضي قام المفكرون الاجتماعيون بمحاولات عديدة لفهم عمليات الحياة في
المجتمع الريفي ، وتقديم الحلول للمشكلات التي ظهرت في مجتمعاتهم . كما ظهرت في
العهود السابقة المسوح الشاملة التي تعبر عن وجهات نظر لبعض المفكرين البارزين الذين
ينتمون لأقطار مختلفة ، توضح الحياة الريفية وتغيرها طبقا لتغير المجتمع الريفي
وتطوره عبر مراحل مختلفة .
وفي منتصف القرن التاسع عشر تقدمت الملاحظات المنظمة observation systematic
عن أصل المجتمع الريفي والتحولات التي طرأت عليه . كما أدى تأثير الحضارة الصناعية
الرأسمالية ، وبخاصة على الاقتصاد الريفي والبناء الاجتماعي – في الأجزاء المختلفة من
العالم – إلى جذب انتباه الدارسين والباحثين لدراسة اتجاهات التطور الاجتماعي الريفي .
فأصبح البحث في موضوع أصل وطبيعة المجتمعات المحلية القروية يخضع للتحولات
التي طرأت على تلك المجتمعات .
ومن ثم يعتبر كل من ألوفشن Olufsen ومورير maurer وماين وهكسوسن
Hexthauausen وجيرك Gierk والتون Elton وسيتمان Stemann واينو Innes وآخرون
غيرهم من أهم الدراسين البارزين الذين ألقوا الضوء على المجتمع الريفي من وجهات نظر
مختلفة . كما ظهرت فيما بعد في العديد من الأقطار اهتمام الأساتذة والدارسين بظواهر
الحياة من جوانبها المختلفة .
ومع ذلك فإن علم الاجتماع الريفي كنظام واع محدد ومتطور ، ترجع أصوله إلى فترات
حديثة . ولأسباب تاريخية نشأ هذا العلم في الولايات المتحدة الأمريكية وأخذ ينتشر
منها ببطء إلى أماكن أخرى . فأثناء مايطلق عليه في المجتمع الريفي (بفترة الاستغلال)
1920 – 1890 Period Exploiter ، وهي الفترة التي شهد فيها المجتمع الأمريكي فسادا
كبيرا ، ومن ثم توجه الاهتمام إلى دراسة المجتمع المحلي الريفي ، فأخذ التراث الهام
يصف ويحلل ارتفاع المشاكل ونمو الأزمة بصورة كبيرة ، ومع ذلك لم يستطع هذا التراث
اكتشاف وتحديد ، بل وصياغة القوانين الأساسية التي تحكم تطور المجتمع الريفي ،
ولكنه مازال غير قادر على خلق هذا العلم بصورة مكتملة .
لذلك فإن بداية علم الاجتماع الريفي ترجع إلى تدفق هذه المنشورات والتي يمكن
تمييزها في ثلاثة منشورات أساسية هي :1-يمثل تقرير الرئيس الأمريكي ثيودور
روزفيلت Roodevelt عن الحياة الريفية عام 1907 أول عمل ذا قيمة في هذا الموضوع ،
حيث ذهب الرئيس الأمريكي إلى القول بأن نمو وازدهار الثروة والمدنية لا يقلل من شأن
المجتمع الريفي الذي له أهمية كبيرة في المجتمع . ومن ثم قام بتكوين فريق أو لجنة
لبحث ودراسة المجتمع الريفي . وأكدت لجنة البحث أن المشكلة الأساسية تتمثل في
الحفاظ على المجتمع الريفي على ماهو عليه الآن ، بمعنى وقف التدهور المستمر في
المجتمع الريفي ، ثم محاولة تطويره من أجل بناء مجتمع ريفي أفضل ، عن طريقزيادة
إنتاجية الأرض الزراعية وتطور الحياة الريفية لإقامة مجتمع ريفي واعي
لقد قامت لجنة بحث الحياة الريفية Commission life Country The برئاسة دين بايلي
Baliey Dean – العالم المهتم بدراسة المشاكل الريفية – بنشر 000,500 استفتاء للفلاحين
وقادة الحياة الريفية ، علاوة على الاجتماعات ، تسلم منها حوالي 000,100 جواب ، وعلى
أساس هذا البحث نشرت اللجنة تقريرا حاولت فيه تحليل وتشخيص الخلل والتشوه الذي
أصاب المجتمع الريفي . وتوصلت اللجنة إلى أن هناك خمسة أشياء ضارة بالمجتمع
الريفي هي :
1 -عدم وجود معاهد علمية متخصصة وكافية
2 -عدم وجود وسائل نقل كافية
3 -ليست هناك وسائل اتصال كافية
4 -نقص في رؤوس الأموال
5 -ليست هناك منظمات خاصة لسكان الريف أو الفلاحين .
وفي الواقع يعد هذا التقرير مايمكن أن نطلق عليه دستور علم الاجتماع الريفي .
2 -الدرجات العلمية ، حيث اعتمدت عدد من درجات الدكتوراه على دراسة المجتمع
المحلي الريفي ، وتضمنت تراث هام يتناول مشكلات الحياة الريفية ، علاوة على أبحاث
سوء التكيف في الحياة الريفية التي قام بها أفراد الطائفة الريفية Church Rural.
3 -الدراسات المدرسية studies School التي تمثل التيار الثالث من هذه المنشورات .
حيث تعد كل من جيمس وليامز Williams.M.J عن “المدينة الأمريكية” American An
Town ودراسة وران ويلسون Sime.L Newell عن “Village Hoosier A “من أهم الدراسات
عن المجتمع المحلي الريفي الأمريكي.
فتوقف إسهامات ايطاليا “باريتو” تحت الحكم الفاشي ، وتوقف إسهامات ألمانيا “ماكس
فيبر” تحت الحكم النازي .
إلا أننا حينما نقول علم الاجتماع الريفي ، بالمعنى الأمريكي ، لم يعرف في أوروبا إلا
متاخرا فإن ذلك لا يعني أن لم تكن هناك معرفة منظمة بالحياة الريفية ، أو إن مثل هذه
المعرفة كانت مفتقدة تماما . فقد ظهرت تلك المعرفة العلمية بالحياة الريفية ولكن تحت
نطاق فروع أخرى مثل الجغرافيا البشرية (في فرنسا) التي اهتمت بدراسة الحياة الريفية
، وكذلك السياسة الزراعية (في ألمانيا) وأجريت عدة دراسات في هولنده عن المناطق
الريفية للحصول على درجة الدكتوراه . كما كانت هناك تقارير وصفية عن الحياة الريفية
نشرت هنا وهناك وهي تعد الآن بمثاببة وثائق في غاية الأهمية عن التاريخ الريفي .
لكن هذه الظروف قد تغيرت بعد الحرب العالمية الثانية حيث حدث اتصال وثيق بين
العلماء الأوروبيين والأمريكيين ، وأغرقت المؤلفات الاجتماعية الأوروبية العلمية بما في
ذلك منشورات علم الاجتماع الريفي ، وأحاط الأوروبيون علما بهذا الوضع الجديد لعلم
الاجتماع وترتب على هذا الاتصال أن بدأ العلماء الأوروبيون يعيدون النظر في الوضع
الأكاديمي لعلم الاجتماع . وقد ساعد هذا التكامل بين التصور الأوروبي لعلم الاجتماع
والتصور الأمريكي له على نمو “علم الاجتماع الريفي” مضاف إلى ذلك ظهور مشكلات
جديدة في النطاق الاجتماعي . وتغيرت نظرة الحاكم والمحليين والمخططين وواضعي
السياسة إلى علم الاجتماع مما ترتب عليه الوعي بأهمية المعرفة المنظمة في حل هذه
المشكلات ومعالجتها . إلا أن التيار الأوروبي يختلف في بعض جوانبه عنه في الولايات
المتحدة فهو أي الأوروبي مازال يهتم بثقافة المجتمعات الريفية وقيمها اهتماما كبيرا
حيث تعالج موضوعات مثل الانشار .
ولم تتوقف المجتمعات الأوروبية على “تيار علم الاجتماع الريفي” بالمفهوم الأمريكي ،
بل بدأت تظهر دراسات ريفية أخرى قام بإجرائها متخصصون في علم الاجتماع العام
والانثربولوجيا الاجتماعية في أوروبا من ناحية ، وأن هناك مدارس علمية نمت في بعض
الجامعات الأوروبية وقادة حركة الدراسة العلمية للمجتمع القروي في مختلف أنحاء
العالم وبخاصة في الدول النامية من ناحية أخرى.

ما معنى تعدد الزوجات؟

‏تعدد الزوجات يعني
‏إختفاء الزنا
‏إختفاء الأرامل
‏إختفاء المطلقات
‏إختفاء أولاد الشوارع
‏إختفاء الدعارة
‏إختفاء الخيانة
‏إختفاء التبرج
‏إختفاء العنوسة
‏إنها صيدلية الإسلام
‏ هي الحل الوحيد
‏ للقضاء على كل آفات المجتمع
الرجل يستحق امرأة تنافس امه في تدليله
ليس انثى تنافس الزمن في اذلاله..

قراءة لسرقة كبش العيد من منظور سوسيولوجي عبد الرحيم العطري

الأستاذ الباحث عبد الرحيم العطري يقدم قراءة لسرقة الكبش من منظور سوسيولوجي

تحويل مسارات الصراع
في مجتمع تراتبي قائم على الصراع المعلن والمضمر بين من يملك ومن لا يملك، يتم العمل باستمرار على تحوير وتحويل مسارات الصراع، عبر آليات الإدماج والتهميش والتطبيع، فالنسق يفترض فيه أن يحافظ على توزانه المختل،وأن يدبر تناقضاته بأقل الخسائر الممكنة. علما بأن ما يتم الاشتغال عليه، باستمرار، هو محو إمكانات المواجهة بين الفوق والتحت، وهو ما يدفع الى تحويل المسارات العنفية والصراعية من الزوج العلائقي تحت/فوق، إلى زوج علائقي آخر هو تحت/تحت. ومنه نفهم ” التطاحن الاجتماعي” الذي يتواصل بين آل القاع الاجتماعي، وفق صياغات واحتمالات متعددة، ولن تكون واقعة نهب الأكباش من فلاحين بسطاء، إلا واحدة منها، تنضاف إلى حالة مدمن الأقراص المهلوسة الذي يعترض سبيل العاملة الكادحة، ليسلبها أجرتها الشهرية، تحت تهديد السلاح الأبيض.
فبدل أن يدبر الصراع القائم بين مالكي وسائل الانتاج والاكراه، وفاقدي او محدودي الرساميل الرمزية والمادية، بدل أن يدبر هذا الصراع بالتاءات ( تنوير، تحرير، تغيير) والعيون (عدل، علم، عمل) الثلاث، فإنه وللأسف، يدبر اليوم بصيغتين فاشلتين على الأقل، الأولى وهي تحويل الصراع من التحت/فوق الى التحت/تحت، وهو ما يمكن أن ينتج بعدا، حربا أهلية غير معلنة، تنكشف مؤشراتها في عصيان مدني واستهتار بالاحترازات الصحية ومهاجمة لسد قضائي ونهب للمواشي من سوق رسمية. وأما الصيغة الثانية فهي “فردنة الأزمة” بالتوكيد عن طريق الاعلام والكوتشينغ المعطوب وباقي الاجهزة الايديولوجية، أن المشكل في الفرد لا النظام السياسي، وأن كل ما يحدث لا علاقة بالسياقات السوسيوسياسية، التي أوصلتنا الى هذه الحالة البائسة من الاحتباس القيمي والبؤس المجتمعي.
كما قلت قبلا، إننا نحصد ما زرعناه من تهميش وتبخيس، فمن يزرع الريح يحصد العاصفة، وما نعيشه اليوم من وقائع صادمة، ما هي الا الجزء الظاهر من جبل الجليد العائم. إننا وفي ظل هذه الجائحة، نريد مواطنا صالحا في خمسة أيام، ولم نقدم له قبلا، لا إعلاما تنويريا ولا عدالة اجتماعية ولا عملا دامجا، نريده مواطنا صالحا، وفي ظرف خمسة أيام وكل ما قدمناه له هو التفقير والتجهيل والتبخيس. فما حدث، لا يمكن اعتباره معزولا، إنه يدين السياسي والديني والاقتصادي والاجتماعي. إنه يدين النسق برمته.

التفكك الأسرى، مظاهره، أسبابه، نتائجه وسبل الوقاية منه…

بجد.. وحزن..!
اعلم صديقي رعاك الله أني لا أتحرك على مواقع التواصل الإجتماعي ( الفيسبوك أو اليوتوب) إلا مخططا ومفكرا.. ولله الحمد..!
فلعلك تسأل: ما الذي يدفعني إلى هذه التدوينات مؤخرا عن الزواج..؟
تدوينات تبدو الطرافة واضحة في صياغتها.. لكن تحتها ألم كبير يعصر قلبي ويدك نفسي لكثرة الشكاوى والمظالم التي تصلني عبر وسائط التواصل الاجتماعي..
شباب طالما رجونا زواجهم ودعونا لهم باليسر فيه.. فلما أقبلوا.. إذا بعواصف هوجاء تحطم أحلامهم الجميلة.. أتألم لأني أكون حريصا على مشاركتهم البهجة فأحضر مناسبات زواجهم وألقي كلمة سعادة وحبور بين الضيوف.. وتكون من أسعد أوقاتي.. فما تلبث أن تمر شهور قليلة حتى يتحطم المركب ويغرق الجميع.. أتألم لأنني لا أفتأ أحرض الشباب على الزواج ليحصنوا أنفسهم ويقبلوا على حياة الجد والمسؤولية.. لكني أصدم بأخبار الخصام ومسلسل الطلاق.. أحيانا كثيرة تكون الأسباب تافهة لا تستحق إهدار الزواج.. وأحيانا تكون المشاكل عويصة معقدة..
أخاف أن يهجر الشباب فكرة الزواج نهائيا بسبب فشل التجارب الأولى.. فيتكرس ما خفناه من عزوف عن الزواج وضياع للأبناء والبنات..
دع عنك قصص الكهول والشيوخ الذين يغرقون في مشاكل أسرية بآخرة من أعمارهم.. وعندي منها عشرات وعشرات..

هذه بسمات في تدوينات ليقبلها الأعزاء وليستسيغها الأصدقاء.. لكن تحتها جمر من الحرقة والحسرة يشتعل حينما يبكي أمامي أبنائي الشباب وهم يرون أحلامهم الجميلة تتطاير في مهب الريح..
كل تدوينة تقرأها مبتسما.. سمعتُ فيها حكاية مبكية..!
فالله المستعان.. وهو الهادي إلى سواء السبيل..

من صفقة القرن إلى كورونا من يُقامر بمصير العالم؟- د عبد الرحيم العطري.

ألا نعيش زمن “البلطجة الدولية”؟ ألا نختبر حالياً قانون الغاب، في أبشع تجلياته؟ ألم تعد الدول والأوطان والهويات، مجرد صفقات قابلة للمضاربة في بورصة البشاعة والجشع؟

أهذا هو النظام العالمي الجديد الذي بشرت به “أطروحة” نهاية التاريخ؟ أم هو “نظام العالم الجديد” وعهد السيطرة المطلقة لصالح قوى الشر، لا غير؟

لا نكاد نتفاوض مع كارثة حتى نَنْصَفِع بأخرى أكثر إيلاماً، وما أن نقول بأن صوت الحكمة قد انتصر، ولم ينزلق “الكبار” نحو حرب إقليمية/عالمية أخرى، حتى يلوح “التنفيذ الإجرائي” لصفقة القرن، ويرعبنا الفيروس القاتل “كورونا”، في تأشير إلى الموت القادم إلينا من الشرق الأقصى.

لا شيء يعلو على أخبار الموت والقتل والحرب والاحتلال، لا شيء يعلو على “البلطجة الدولية” في الهنا والهناك. فمن يحكم هذا العالم المنفلت؟ من يدير لعبة “الروليت”؟ من يقامر بحقنا في السلام والأمن العالميين؟ من يدفع بهذا “الكون المشترك” إلى أفظع المآلات وأوسخ الاحتمالات؟ حتماً هناك مستفيدون مما يحدث ويتواصل، ألماً وموتاً وتقتيلاً، حتماً هناك مستفيدون من هذه الأزمات والكوارث والجوائح.

لا نميل إلى نظرية المؤامرة، التي تنبني على اعتقاد مركزي قوامه، ألا شيء يحدث بالصدفة، ولا شيء يكون كما يبدو عليه، وكل شيء مرتبط ببعض، وفقاً لما انتهى إليه مايكل باركون، ومع ذلك فما يتسارع حالياً في المشهد الدولي يوجب استدعاء هذه النظرية، طلباً للفهم، فالجاري فوق مسرح الأحداث يدفع إلى الاقتناع بأن هناك ما/من يحرك اللعبة بدهاء تام ويتلاعب بمصائر الشعوب ويشعل الحرائق وينشر الأمراض، ويفيد من حالات الالتباس والرعب واللا استقرار.

يوماً ما طرح نعوم تشومسكي نفس السؤال: من يحكم العالم؟ وإن كان قد نبه إلى أن الإجابة تستوجب العودة إلى آدم سميت، الذي أكد في كتابه “ثروة الأمم”، أن “التجار وأصحاب المصانع والشركات” هم “أسياد البشرية”.

فمن يحكم العالم اليوم؟ هم هؤلاء الأسياد الذين باتوا اليوم، مُلَّاكاً لكبريات “التكتلات والشركات المتعددة الجنسيات”؟ من الذين يتحكمون في “خيرات” العالم، ويتحكمون في “مصائر” الحكومات والشعوب؟ هؤلاء هم “الأسياد الجدد”، الذين ينتصرون لمبدأ واحد وهو “المال”، والذي يمكنهم، من أجل إثرائه واكتنازه، أن ينتجوا الفيروسات ويشعلوا الحروب ويغرقوا الجميع في تفاهة التفاهة.

في كل أزمة يعيشها العالم، وبدل أن ننشغل بالأطراف، علينا أن ننصرف إلى التفكير في “المستفيدين”، حتى تنكشف مسارات الفهم والتأويل، فمن يفيد من بيع “مضادات الفيروسات المعلوماتية”، هو من يحتضن المتخصصين في “تصنيع” الفيروسات ذاتها، وعليه، فمن يصب الزيت على نار الحرب، هو المستفيد الأول من صفقات السلاح ومشاريع الإعمار واتفاقات الحماية التي تسبق وتلي أي أزمة عسكرية.

والأمر ذاته ينطبق على الجوائح والأوبئة، ففي السنوات القليلة الماضية، حققت شركات: “روش هولدينغ” السويسرية و”غلاكسو سميت كلاين” البريطانية و”باكستر” و”إيفر غرين” و”نوفاريكس” الأمريكية أعلى الأرباح، بحكم احتكارها لبيع الأمصال المضادة لفيروسي أنفلونزا الطيور، وأنفلونزا الخنازير، بدعم من منظمة الصحة العالمية، والتي أرغمت الدول على إبرام صفقات بالملايين، مع الشركات ذاتها، مُعتمدةً في ضغطها هذا على حملة ترعيب وهلع غير مسبوقة، حققت المطلوب منها وأكثر.

لا شيء يمنع السؤال عن دلالة الوقائع والأشياء، خصوصاً وأن التوقيت له معناه ومبناه في “زمن البلطجة الدولية”، ولا شيء يمنع من إقامة علائق ممكنة ومستحيلة، بين فيروس كورونا في الصين، والصراع الأمريكي الصيني، وصفقة القرن، و”السياسة الترمبية”، وربيع الشعوب المغتال، كل ذلك في اتصال مباشر مع شركات السلاح والأدوية والميديا، وصفقات الاستبداديات السياسية والعسكرية. ثمة خيط رفيع، لا مرئي في الغالب، يصل هذا بذاك، ويؤكد أن المقامرة بمصير العالم مستمرة، وبدم بارد.

لقد أشار الباحث والإعلامي نبيل عودة، غير ما مرة، من خلال موقع TRT، إلى أن الحرب القادمة، لن تكون إلا عبر الألياف البصرية الحاملة للمعلومات، بحيث يمكن لفيروس بسيط أن يدمر دولة ما، بواسطة نقرة على الماوس، ويمكن أن نضيف بأن الحرب القادمة، ولربما الراهنة، يمكن أن تتم عبر “هجومات فيروسية بيولوجية”، تضرب العدو المفترض في مقتل، ومن غير تحريك، لا للجيوش البرية ولا الأساطيل البحرية.

فهل يصير، والحالة هاته، فيروس كورونا، استكمالاً للحرب الاقتصادية والسياسية ضد الصين؟ أم هو “ترهيب” جديد للعالم، للتغطية على صفقة القرن؟ أم هو “صفقة” تجارية لإنعاش مداخيل شركات الأدوية والتأمينات والخدمات الكبرى؟

لقد اتهمت وزيرة الصحة الفنلندية السابقة روني كيلدا، الولايات المتحدة الأمريكية والشركات متعددة الجنسيات مباشرة، بالوقوف وراء اختراع فيروس إنفلونزا الخنازير، وإن كان تصريحها هذا قد كلفها الإقالة من دفة التدبير الحكومي، فإنه فتح باب النقاش على مصراعيه أمام تأثيرات اللقاحات المعروضة للبيع، والأبعاد الجيواستراتيجية لهذه الصفقات والتهويلات التي يُساق إليها العالم، بإيعاز من “قوى الشر” الخفية والمعلنة.

لقد تعودت الرأسمالية المتوحشة، ومنذ أزمة الخميس الأسود لسنة 1929، أن تلجأ إلى خيار التدمير والإهدار، لتجديد الدورة الاقتصادية، وإعادة التوازن ومراكمة الأرباح، ولا يهم أن يكون التدمير باتجاه الخيرات الطبيعية أو الموارد البشرية، فما يهم بالنسبة للنيوليبرالية المتوحشة، هو الربح، ولو كان من طريق الفجيعة والمقامرة بصحة الشعوب.

لنعد قليلاً إلى الوراء، ونستحضر كل التهويل الذي رافق “الجمرة الخبيثة” و”الحمى القلاعية” و”جنون البقر” و”أنفلونزا الطيور”، ولنتساءل عن حجم ضحايا كل هذه الفيروسات، إن كان قد وصل إلى عدد ضحايا العراق وفلسطين واليمن وليبيا وسوريا وأفغانستان؟ أو أنه وصل إلى عدد ضحايا الإبادة العرقية في الشيشان والبوسنة والهرسك؟ فلماذا لا نصادف ذات “الضجيج الدولي” عندما يتعلق الأمر بضحايا العالم العربي والإسلامي؟ لماذا تنخرس هذه “الآلة الدولية” لما تنتهك البلاد العربية والإسلامية، من طرف القوى الغربية، ويغتصب تاريخها وتسرق خيراتها؟

إن المقامرة الجارية حالياً، تستهدف صرف الانتباه العام، عما يُحاك ضد فلسطين المحتلة، من “بلطجة دولية” تروم “تهويد” القدس، لأجل استكمال بنود صفقة القرن المقيتة، وفي الآن ذاته، تستهدف إعادة ترتيب الأوراق، على أساس الفارقية الغربية والتبعية العربية، وكذا القطبية الغربية في مقابل “الذيلية” الشرقية، ولو تعلق الأمر بقوى كبرى كالصين، فالكل يفترض فيه أن يكون دائراً في فلك “نظام العالم الجديد”، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المال والسلاح والدواء والفيروسات والنرد ودوران لعبة الروليت.

إلى ذلك كله، ليس مطلوباً، من الدول العربية والإفريقية على وجه التحديد، إلا أن تكون “مختبراً” للفيروسات و”مطرحاً” للنفايات و”طاولة قمار” لتجريب السيناريوهات الاستبدادية وإعادة إنتاج السلطوية، من أجل مزيد من التحكم في مصائر شعوبها، عن طريق الشركات متعددة الجنسيات، و”الدول الكبرى” الراعية لفسادها و”فيروساتها” والمسوقة لأمصالها ومخططاتها.

وعلى طول هذا المسار المرعب والمربك، لن يكون في مقدورنا إلا توقع، ما يصرف الانتباه عن الخطر السياسي الذي يحيق بنا، وما يبعدنا عن صفقة القرن ويغرقنا في الخطر الصحي، وما يشغلنا عن الخطر الاقتصادي، ويرعبنا بكورونا والأنفلونزا؛ فأسياد البشرية بحاجة إلى إلهائنا وترويعنا، لينعموا باغتصاب تاريخنا وهوياتنا، واستنزاف ثرواتنا وخيراتنا، وبدم بارد. ولا عجب، إنها المقامرة والبلطجة الدولية.

عبد الرحيم العطري كاتب وباحث مغربي،

أستاذ علم الاجتماع بجامعة سيدي محمد بن عبد الله في فاس.

نشر عددا من الكتب تراوحت بين القصة والشعر وأدب الرحلة والمقالة والدراسات الاجتماعية..

الباحثون “الشَنَّاقَةُ “و”النَّدوجيون”: آفة تكرس العبث وضعف البحث العلمي… أيمن فلاق

*أيمن فلاق أستاذ باحث بجامعة ابن زهر أكادير :
يقتضي الحفاظ على ما تبقى من بحث علمي رصين وإعادة بنائه للالتحاق بركب من سبقونا في هذا المجال القطع الفوري مع مجموعة من الظواهر العبثية المنتشرة بشكل لا يمكن حصره، ومنها ظاهرة الشَنَّاقة “الباحثين”، فإذا كان التزام الباحثين تجاه مجتمعاتهم يقتضي التحلي بروح المسؤولية والأمانة وتطوير البحث العلمي للرقي والتسلق في سلم التنمية الذي نتذيله لسنوات، فإن هذه الفئة ببلادنا -على قلتها- أسهمت ولا تزال في إحداث تشوهات وعاهات علمية، بمخالفتها لأخلاقيات البحث العلمي أولا، وإنتاجها للرداءة ثانيا. وهكذا لم تعد ظاهرة الشناقة المرتبطة بسوق البهائم مقتصرة على محترفي عملية المضاربة الذين يسعون لإفساد البيع أو التغرير بالمشتري –من منظور عامي- بل تعدت ذلك لتطال مجال البحث العلمي، فظهر الشنَّاقة الذين يحشرون أنفسهم في مختلف المواضيع التي تظهر في الساحة العلمية وإن كانت خارج تخصصاتهم، ليتسابقوا ويحكموا قبضتهم عليها، وحيث ما دارت فهم يدورون. إنهم صنف يسقطون أي موضوع كان في حديقتهم المؤثثة بكثرة شهادات المشاركة والحضور والتنظيم…، والتي يجمعونها من كل التظاهرات سواء تلك التي تنظم داخل الفضاءات العلمية، أو من خارجها في المهرجانات أو جمعيات أو النوادي والمقاهي بل أحيانا في أماكن يستحيل توقعها، ولا تمت إلى فضاءات العلم والثقافة بصلة. وبقدرة قادر فهم مستعدون للخوض في أي موضوع ظهر كمهنة موسمية تنعش الرواج العلمي الرديء. : إن محاولة الإدلاء بدلوهم المثقوب أصلا في كل جديد، مع عدم مراعاة مبدأ التخصص والمشاركة المبنية على التراكم العلمي والمعرفي والمستندة على نتائج البحث الرصين ومقايضة ما لديهم مع الآخر الذي بنى ما لديه لسنوات على أسس متينة، لا يسهم إلا في إنتاج التعجيف الفكري والتوجهات الجوفاء الغارقة في الترقيع والمعالجات السطحية الهزيلة، وغير المبنية على أسس وقواعد علمية رصينة. وهم بذلك يؤطرون ويستقطبون أشخاصا من صنفهم، لهم قابلية بسبب ضعف التأطير، يجندونهم لتكريس الرداءة العلمية والمعرفية، والتي من بين نتائجها كثرة الإصدارات على شكل كتب ومؤلفات جماعية رقمية أو منشورة، حيث يكفي أن يؤدي الكاتب مساهمته المادية التي يتطلبها النشر لعرض بضاعته دون تحكيم علمي، وهنا لا أعمم. إن هذه الظاهرة الموسومة بالوصولية والبحث عن وهم النجاح السهل يشكل بيئة خصبة لتفريخ أشباه الباحثين، والاستمرار في هذا التهور والضلال من شأنه أن يؤثر بشكل مميت على جودة البحث العلمي وكبح عجلة التنمية بالبلاد، وهو ما يفرض وضع حد فاصل بين الجد والعبث. وفي سياق هذا الانحطاط، ظهرت فئة جديدة –قديمة: إنهم “الندوجيون” الممتهنون للندوات، مشاركة وتنظيما، فالندوجي هو ذاك الذي يهرول بين أكبر عدد ممكن من اللقاءات العلمية والندوات في حقله المعرفي أو خارجه وبعيدا عنه دونما اعتبار للتخصص. وقد يحدث أن يشارك في ندوتين في اليوم الواحد، همه في ذلك انتزاع شهادة المشاركة التي قد يسأل عنها في جلسة الافتتاح، كما تجده أحيانا يشارك بأكثر من مداخلة في الندوة الواحدة في إطار عملية “تويزة” مع متدخلين آخرين قد يتجاوزون الخمسة. ولا عجب في بعض الحالات أن تجد اسمه يتكرر في البرنامج لأكثر من سبع مرات، في التنسيق، واللجنتين التنظيمية والعلمية، والمداخلات الشفهية والملصقات، ويختمها بالإشراف العام، دون أن ننسى الصفة التي يتقمصها في كل ندوة: فهو حربائي، يكون خبيرا هنا، ومتخصصا هناك، ودكتورا في مناسبة أخرى، فلكل مقام مقال كما يقال. كل هذا خلف مزاجا عاما مطبوعا بالاشمئزاز والتشاؤم لدى المتتبعين وكل ذي إدراك. :

وكما هو معروف ويوثقه الواقع اليوم، انتشرت بشكل كبير ولأسباب واضحة مرتبطة بالفراغ الذي ترتب عن الحجر الصحي موضة الندوات واللقاءات التفاعلية عن بعد. فالمتتبع يجد أن الكثير منها فعلا هو بعيد كل البعد عن أدبيات وأبجديات الندوات العلمية بأهدافها وعناصرها، وهي بذلك لا تعدو أن تكون مجرد “بريكولاج”، فأصبحنا نتفاجئ بالإعلان عن برامج للندوات بعناوين كبرى، دونما الإعلان عن دعوات المشاركة المتضمنة للورقات المنظمة والتأطيرية وإتاحة الفرصة للمهتمين بالمشاركة، وهذا لا يجد إلا تفسيرا واحدا، هو أن ذوي هذه السلوكات لا يرغبون في مشاركة مأدبتهم إلا مع أصحاب نعمتهم أو المقربين منهم من مستواهم طبعا. وهكذا تناسلت الغرف الالكترونية التي تتميز بالعفوية التي تسمح بتمرير كل ما يخطر على بال مستعمليها، تناقش كل شيء وتستضيف أيا كان، فيتوارى بعضهم لتقمص صفات لا يمكن أن يتقمصها إلا من وراء الشاشات الالكترونية في مثل هذه المناسبات داخل العالم الافتراضي. فبرزت على الساحة مهنة الهندسة الرقمية، لا ندري كيف يحصل أصحابها على شهادة تضاف لملفات ترقيتهم. كل هذا يكرس لوضع الفوضى العلمية التي باتت جزءا من واقع جامعتنا ومؤسساتنا البحثية والثقافية، فضربت عرض الحائط أخلاقيات البحث العلمي التي من سماتها التواضع والرصانة والموضوعية، والصبر والتأني والنقد البناء الذي يغيب بشكل كبير في مثل هذه المناسبات. فهذه السلوكيات لا تضرب مصداقية أصحابها وحدهم، بل أيضا مؤسساتهم العلمية التي ينتمون إليها بشكل يضر صورتها. إن التصدي لهذه الآفة موكول بالأساس إلى الباحثين أنفسهم للقطع مع هذا النوع، من خلال احترام الضوابط الأخلاقية للبحث والتركيز على المواضيع النافعة، وتطويع ما أتيح من إمكانيات لتحقيق التقدم المجتمعي الذي تشكل جودة البحث العلمي ركيزته الأساسية، وحفاظا على قيم العقل والمعرفة والعلم. هناك مرص ما ينخر جسم البحث العلمي، يفوق خطورة ومدى كوفيد19.