نظام العدالة بين الفيلسوف كانت والفيلسوف جون رولز

     شغلت فكرة العدالة اهتمام الفلاسفة منذ أقدم العصور؛ لأنها أسمى قيمة اجتماعية في الحياة. وقد ربط بعض المفكرين بين فكرة المجتمع المثالي والمجتمع الذي تسود فيه العدالة؛ إذ تشكل "العدالة" المدلول الحقيقي لجميع القيم والمثل التي تنظم علاقة الفرد بالمجتمع. والعدالة– بصفة عامة – تكمن في صميم فلسفة الأخلاق والسياسة، وهي الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية، على حد قول الفيلسوف الأمريكي جون رولز (1921 –2002) (1)، إن لم تكن هي الفضيلة الوحيدة؛ بمعنى أنها فضيلة أساسية للأفراد في تعاملهم مع الآخرين (2)؛ أي أنها فضيلة شخصية واجتماعية في آن واحد. وهذا هو ما جعل سقراط (470 – 399 B.C) يثور في وجه السوفسطائيين، ويرفض نسبية الفضيلة، مؤكداً أن الفضيلة واحدة رغم تعدد مسمياتها، وهي تكمن في الضمير الإنساني الحي الذي يرشدنا دائماً إلى الخير؛ أي في سلوك الصدق والابتعاد عن الكذب، وطريق الأمانة والعدل. وهكذا فرغم تعدد أسماء الفضائل إلا أنها في جوهرها فضيلة واحدة، هي الطريقة التي تكمن في تعاملنا مع الأفراد والمجتم.  
 ولقد حظي مفهوم "العدالة الاجتماعية" بقدر كبير من الأهمية على المستويات الثقافية والاجتماعية والسياسية، كما استحوذ على حيز كبير من الجدل على مستوى الفكر الاقتصادي، حتى أضحى من المفاهيم الشائعة الاستخدام في الأدبيات السياسية الحديثة، وفي الخطابات المعاصرة، وتقارير المؤسسات والمنظمات الدولية والوطني. ومن هذا المنطلق، تعدّ العدالة قاعدة اجتماعية أساسية لاستمرار حياة البشر بعضهم مع بعض؛ فهي محور مهم في الأخلاق وفي الحقوق وفي الفلسفة الاجتماعية؛ حيث تنطلق منها بحوث إيجاد المقاييس والمعايير الأخلاقية والقانونية. العدالة إذن فضيلة شخصية سامية، وهي موجودة دائماً في سياق اجتماعي معين.

والحقيقة أن الرؤية السياسية لمحاورة "الجمهورية" لأفلاطون (427 – 347 B.C) يمكن أن نراها تخطيطاً لذلك السياق الاجتماعي نفسه؛ فأفلاطون هو صاحب أول نظرية اجتماعية وتاريخية واضحة المعالم في تاريخ الفكر الغربي، وهو واحد من أوائل العلماء الاجتماعيين، وأقواهم تأثيراً، حيث طبق منهجه المثالي بنجاح على تحليل حياة الإنسان الاجتماعية وقوانين تطورها؛ فضلاً عن شروط استقرارها(5). وقد عبّر أفلاطون عن ذلك في الكتاب الرابع من "محاورة الجمهورية" بقوله: "إن أعظم أسباب كمال الدولة هو تلك الفضيلة التي تجعل كلاً من الأطفال والنساء والعبيد والأحرار والصناع والحاكمين والمحكومين يؤدي عمله دون أن يتدخل في عمل غيره". وفي الموضع ذاته يقول: "العدالة هي أن يمتلك المرء ما ينتمي فعلاً إليه، ويؤدي الوظيفة الخاصة به"(6).
 ولقد نشأ نزاع حول مفهوم "العدالة" الاجتماعية خاصة في التعامل مع قضايا مثل: توزيع الدخل، والسيطرة، واستخدام الموارد الطبيعية، وتوزيع الفرص التعليمية والوظيفية التي انتشرت على نطاق واسع في مجتمعاتنا، وقام عدد من الفلاسفة بتقديم رؤى مختلفة حول مفهوم العدالة، وارتباطها الوثيق بالأخلاق والقانون؛ وذلك من أجل الحفاظ على الحقوق والواجبات والالتزامات بما يتماشى مع روح كل عصر. ومن هؤلاء الفلاسفة جون رولز، حيث أكد في مواضع كثيرة من كتاباته على أن المفهومين الأساسيين في مبحث "الأخلاق" هما مفهوما "العدل" و"الخير"، يقول في كتابه "نظرية في العدالة

“أعتقد أن مفهوم “الشخص الأخلاقي” ذاته قد تم استنباطه من مفهومي “العدل” و”الخير”، وهكذا تتحدد البينة لنظرية أخلاقية من خلال الطريقة التي تنتظم بوساطتها الصلة بين هذين المفهومين

 من هذا المنطلق، بدأ تصور رولز للعدالة من معارضته لتصورات "الفلسفة النفعية" التي بلورها عدد من الفلاسفة النفعيين أمثال: "جيرمي بنتام". (1748 –1832)، و"جون ستيوارت مل" (1806 –1873) .... وآخرين، والتي سيطرت على الفكر السياسي والأخلاقي في العالم الغربي. وقد تبنت هذه الفلسفة مبدأ المنفعة بوصفه غاية لكل سلوك أخلاقي، وعلقت أخلاقية الأفعال الإنسانية على مدى ما تحقق من منافع أو تدفع أضرار (أعظم قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس)، وأقرت بأن الأفعال تكون صائبة إذا كانت تميل إلى تحقيق السعادة، وتكون خاطئة إذا مالت إلى الشقاء والتعاسة

أراد رولز أن يقدم بديلاً عن “المذهب النفعي”؛ لأنه لا يقدم تفسيراً مرضِياً للحقوق والحريات الأساسية للمواطنين كأفراد أحرار ومتساوين، وهو مطلب – على حد قوله – “ذو أهمية أولى مطلقة من أجل تفسير المؤسسات الديمقراطية

وعلى صعيد آخر، تناول كانط (1724 – 1804) مفهوم العدالة على خلاف "المذهب النفعي"؛ حيث تقوم الأخلاق عنده على العقل وحده، مادام هو مصدر الإلزام الخلقي، ومن هنا نسب كانط إلى الأخلاق صفة "الضرورة المطلقة"، ونادى بوجود قوانين أولية كلية وضرورية في مضمار السلوك الإنساني. وفي كتاب "تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق" يقدم أوجه الإختلاف بين المبادئ الأخلاقية وقوانين الطبيعة، ويذهب إلى أن الاختلاف بينهما يكمن في إحساسنا الذاتي بالإلزام بطاعة القوانين الأخلاقية. يقول: "إن كل إنسان لابد أن يسلم بالقانون الأخلاقي، أعني قاعدة الإلزام... هذه القاعدة لا ينبغي أن تلتمس في طبيعة الإنسان ولا في ظروف العالم الذي وُضع فيه، بل لابد من البحث عنها بطريقة قبلية في تصورات العقل الخالص وحدها

وترتبط القوانين الأخلاقية عند كانط بمفاهيم “الحرية” التي تفرض حدوداً على التصرفات الخارجية للناس، وعلى نواياهم الداخلية، ويعتمد أساس هذه النظرية على مبدأ “الحق”، وهو شامل لجميع البشر، ومستمد من الحتمية المطلقة من خلال مفهوم “الإرادة الخيرة” التي توجه الإنسان نحو غايات وأهداف عامة تصحح مبدأ السلوك كله. ومن هنا رأى كانط أن “القانون” يعُد أمراً واجباً، ومن الضروري فرضه وإجبار الآخرين على طاعته، لأنه مجموع الشروط التي تلائم بين حريتنا وحرية الغير، وفقاً لناموس شامل للحرية، أو على حد قوله: “القانون هو مجموع الشروط التي يمكن أن توحد حرية الفرد مع حرية الآخر وفقاً لقانون كلي للحرية

. كذلك رأى كانط أن السيادة لا يمكن تقسيمها، ولا يمكن حماية وضع الفرد كإنسان عاقل ومستقل إلا من خلال وجود دولة مدنية.
لذلك ومن كل ما سبق، نحاول في هذه الدراسة رصد محاولات الفيلسوف الأمريكي جون رولز فيما يخص تصوره لنظام العدالة ونظام حكم القانون، ومحاولته الفريدة لطرح تنظير سياسي اجتماعي أخلاقي يدعم استقرار المجتمعات على نحو متكافئ ومتساو، خاصة بعد إصدار كتابه: “نظرية في العدالة”؛ إذ أثار -هذا الكتاب -جملة من التساؤلات التي تميزت بكثافتها أكثر مما أثارته أية نظرية أخرى في العدالة الاجتماعية خلال القرن العشرين. وكذلك الدور الذي أداه التصور الكانطي لنظرية “الحق” و”استقلالية الذات”، و”مبدأ الأمر المطلق”، و”نظرية الواجب” التي تقوم على تأكيد أولوية الحق على الخير؛ بخلاف “الفلسفة النفعية” السائدة في المجتمعات الغربية الليبرالية. كما أراد رولز أن تنال الشعوب حقها من خلال عدم المساس بمصالحها وذلك باحترام القانون العادل، ويتحقق هذا عندما يُعامل المجتمع أفراده كشخصيات أخلاقية، وقد أطلق عليه “قانون الشعوب”، ومعناه أن تلتزم كل الشعوب بأهداف “قانون الشعوب” ومبادئه في علاقاتها المتبادلة. وفكرة مجتمع الشعوب – كما عبر عنها رولز – هي فكرة يوتوبية واقعية تصور نظاماً اجتماعياً قابلاً للتطبيق، يكفل الحقوق والعدالة السياسية لجميع الشعوب

، كذلك كما صرح “كانط”: “يجب أن يقوم قانون الشعوب على أساس اتحادي بين دول حرة”.

مبادئ العدالة

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

 تُعد نظرية العدالة عند رولز أهم محاولة فلسفية لبناء قاعدة نظرية للممارسة الليبرالية، فقد أكد على أن هدفه هو "تقديم تصور للعدالة يمكن من خلاله رفع مستوى التجريد لنظرية العقد الاجتماعي الشهيرة، كما وجدت في أعمال لوك، وروسو، وكانط"

. معنى ذلك أن هدف رولز الذي يسترشد به هو التوصل إلى نظرية في العدالة قابلة للتطبيق وبديلة عن التصورات النفعية الكلاسيكية والحدسية للعدالة، والتي سادت التقليد الفلسفي فترة طويلة من الزمن. وقد بدأ بتعريف العدالة بأنها: “الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية، كما هي الحقيقة للأنظمة الفكرية. ومهما كانت النظرية متسقة ومقتصدة لابد من رفضها إذا كانت غير صادقة، كذلك الأمر بالنسبة إلى القوانين والمؤسسات، مهما كانت درجة كفاءتها وجديتها لابد من إصلاحها أو إبطالها إذا كانت غير عادلة”

. العدالة إذن هي أساس الهيكل الاجتماعي، لذا وجب أن تتفق سائر الإجراءات التشريعية والسياسية مع ما تقضي به مبادئ العدالة. ومن هنا يتعين – في نظر رولز – تحديد القواعد والمبادئ التي تسيٌر المؤسسات الاجتماعية للعدالة

وذلك من خلال وضع نظام للعدالة مُنصف يتم تطبيقه على البنية الأساسية للمجتمع؛ أي على “المؤسسات السياسية والاجتماعية الرئيسة وبطريقة تلاؤمهما مع بعضهما مع بعض في ترسيمة نظام تعاوني موحد”

إن المادة الأولية للعدالة عند رولز هي البنية الأساسية للمجتمع، بمعنى آخر: "هي الطريقة التي تُوزع من خلالها المؤسسات الاجتماعية الرئيسة الحقوق والواجبات الأساسية، وتحدد تقسيم المنافع الناتجة عن الشراكة الاجتماعية"

والمقصود بالمؤسسات الرئيسة الدستور السياسي والترتيبات الاقتصادية والاجتماعية، ومنها ما يدل على الحماية القانونية لحرية التفكير، والأسواق التنافسية، والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. ومن هنا يرى رولز أن “أحد الأهداف العملية للعدالة كإنصاف هو توفير أساس فلسفي وأخلاقي مقبول للمؤسسات الديمقراطية، ولتحقيق هذا الهدف يبحث – رولز – في الثقافة السياسية العامة لمجتمع ديمقراطي، وفي تقاليد التأويل الخاصة بدستوره وقوانينه الأساسية، طلباً لأفكار مألوفة معينة يمكن صياغتها في مفهوم للعدالة السياسية”

. ويعتقد رولز أن بعض هذه الأفكار أكثر أساسية؛ من بعضها الآخر، وأكثرها أساسية هي فكرة المجتمع بوصفه نظاماً منصفاً من التعاون الاجتماعي الزمني من جيل إلى الجيل الذي يليه؛ والتي يعدها رولز فكرة منظمة ومركزية لتطوير مفهوم سياسي لعدالة نظام ديمقراطي.
وفي هذا الشأن، يؤكد رولز أنه من غير الممكن أن يتفق المواطنون على سلطة أخلاقية مثل: نص مقدس، أو مؤسسة دينية، أو تقليد من التقاليد؛ أو حتى بالرجوع ما عدّه بعضهم (قانوناً طبيعياً) لذلك لا يوجد بديل – عنده – أفضل من الاتفاق على “فكرة منظمة للمجتمع”، أي نظامٍ منصفٍ من التعاون بين أشخاص أحرار ومتساوين”

. وهذا ما يسمى “بالوضع الأصلي” الذي يجتمع من خلاله أشخاص أحرار لاختيار القواعد والمبادئ التي ينبغي أن تقود المجتمع، لا سيما توزيع الخيرات الأساسية كالحقوق، والحريات، والثروات…الخ وإعادة هيكلة المكاسب والتكاليف التي تنجم عن التعاون الاجتماعي

.
من هذا المنطلق، يتساءل رولز: ما هي مبادئ العدالة التي تنطبق بشكل رئيس على البينة الأساسية للمجتمع، وتحكم التخصيص للحقوق والواجبات، وتنظم التوزيع للمنافع الاجتماعية والاقتصادية؟ يرى رولز أن مبادئ العدالة التي تحكم المجتمع هي “المبادئ التي سوف يقبلها أشخاص أحرار وعقلانيون يهتمون بتحقيق مصالحهم الذاتية في وضع مبدئي من المساواة، ويجب أن تنظم هذه المبادئ جميع الاتفاقيات الأخرى، وتعين أنماط الشراكة الاجتماعية وأشكال الحكومات التي يمكن تأسيسها”

. وقد صاغ مبدأين رئيسين للعدالة هما: المبدأ الأول: يجب أن يتمتع كل شخص بحق متساو لغيره ضمن أوسع نسق من الحريات؛ أي أن “لكل شخص الحق ذاته -والذي لا يمكن إلغاؤه- في ترسيمة من الحريات الأساسية المتساوية الكافية، وهذه الترسيمة متسقة مع نظام الحريات ذاته”. المبدأ الثاني، يجب أن تنظم أشكال التفاوت الاجتماعي والاقتصادي بطريقة تضمن في آن واحد أن نتوقع عقلياً أن تكون في مصلحة كل واحد، وأن تكون متعلقة بمواقع ووظائف مفتوحة للجميع، بمعنى آخر: “يجب أن تحقق ظواهر اللا مساواة الاجتماعية والاقتصادية شرطين: أولهما: يفيد أن اللا مساواة يجب أن تتعلق بالوظائف والمراكز التي تكون مفتوحة للجميع في شروط مساوية منصفة للفرص، وثانيهما: يقتضي أن يكون ظواهر اللا مساواة محققة أكبر مصلحة لأعضاء المجتمع الذين هم أقل مركزاً (وهذا هو مبدأ الفرق)

.
ويرى رولز ضرورة أن يعرض هذان المبدآن على وفق ترتيب ملزم؛ أي أنهما يعرضان بحسب معيار الأولوية؛ فيجب أن يستوفي مبدأ الحريات المتساوية قبل الركون إلى مبدأ مساواة الفرص المنصفة، ويجب تطبيق مبدأ مساواة الفرص المنصفة قبل اللجوء إلى مبدأ الفرق

. فيقول: “والمبدأ الأول سابق للمبدأ الثاني، وكذلك تسبق المساواة المنصفة بالفرص في المبدأ الثاني مبدأ الفرق”

وعلى ذلك، يجب أن نرتب هذه المبادئ في ترتيب تسلسلي، هذا الترتيب – كما عبر عنه رولز – “يعني أنه لا يمكن تبرير انتهاكات الحريات الأساسية المتساوية المصانة بواسطة المبدأ الأول أو التعويض عنها من خلال منافع اقتصادية واجتماعية أكبر

.
والواقع أن التركيز الشديد من جانب رولز على الأسس العقلانية في المفاضلة بين المبادئ المختلفة للتوصل إلى تلك المبادئ التي يقبلها الإنسان ويعدّها ملزمة له، إنما هو أمر يذكرنا بالمنهج الكانطي في التوصل إلى الأمر الأخلاقي المطلق، فالأمر المطلق عند كانط هو ذلك المبدأ الذي ينبع من طبيعة الإنسان بوصفه كائناً عاقلاً حر الإرادة، ومن ثم فهو ينطبق على البشر جميعاً بوصفهم كذلك؛ ويميزهم عما سواهم من الكائنات والموجودات. يقول كانط في هذا الشأن: “كل شيء في الطبيعة يخضع لقوانين، والكائن العاقل وحده هو الذي يملك المقدرة على السلوك بحسب تصور القوانين، أي بحسب مبادئ، أو بعبارة أخرى: هو الكائن الذي يملك الإرادة لذلك”. ويقول في الموضع ذاته: ” إن العلاقة التي تربط القوانين الموضوعية بإرادة لم يتمكن منها الخير تماماً يمكن التعبير عنها بأنها تعيين إرادة كائن عاقل بوساطة مبادئ عقلية حقاً، ولكن لا تستطيع هذه الإرادة بطبيعتها أن تطيعها بالضرورة. ولذلك فإن تمثل مبدأ موضوعي من حيث إنه ملزم للإرادة يدعى أمراً (عقلياً)، والصورة التي يصاغ فيها هذا الأمر يطلق عليه الأمر المطلق”

.
والجدير بالملاحظة أن من أهم الانتقادات التي وجُهت إلى كانط في هذا الخصوص، هو أن الأمر المطلق الذي يقول به ويُحدد خصائصه لا يوضح لنا – على وجه التحديد – ما المبادئ الفعلية التي تنطبق عليها هذه السمات والخصائص؛ أي أن الأمر الكانطي المطلق يحدد لنا ما الذي يتعين علينا فعله في الواقع. وهذا هو في الحقيقة ما استطاع أن ينجو منه رولز، فالوضع الأصلي هو في جوهره مفهوم يوضح لنا ما تلك المبادئ التي يختارها أشخاص أحرار يتسمون بالعقلانية وحرية الإرادة، في حين أن العقل الخالص عند كانط هو الذي يمدنا بالمبادئ الأخلاقية؛ هذه المبادئ ممثلة في مبادئ العدالة عند رولز، التي يتم اشتقاقها من مقدمات معينة تتمثل في شروط الوضع الأصلي، التي تمتزج فيها عوامل عدة منها: الحقائق السيكولوجية والتفاعل الاجتماعي في سياق من الندرة والمطالب التنافسية. وهكذا، ينأى رولز عن الطابع العقلاني الخالص الذي اتسم به كانط، في الوقت الذي تظل فيه نظريته تردد في أعماقها النغمة الكانطية المميزة نفسها

 القانون بين العام والخاص

يُعد كتاب كانط "المبادئ الميتافيزيقية لنظرية الحق" من أهم الكتب التي تناولت فلسفة القانون في مجال السياسة والأخلاق. وقد عالج موضوع "الحق"(30) في كثير من محاضراته، خاصة ما يتعلق بالحق الطبيعي أو القانون الطبيعي، فضلاً عن إشاراته إليه في ثنايا حديثه عن الفلسفة الأخلاقية بوجه عام. وفي مستهل حديثه عن نظرية القانون يتساءل كانط: ما القانون؟ (31) يجيب: القانون -بحسب العقل- لا يتعلق إلا بالعلاقة الخارجية العملية القائمة بين الأشخاص بعضهم ببعض، من حيث إنهم بأفعالهم يؤثر بعضهم في بعض تأثيراً مباشراً؛ إنه لا يحدد علاقة الحرية للواحد مع الرغبة أو الحاجة للآخر، بل علاقة حرية الفاعل مع حرية غيره. وفي هذه العلاقة المتبادلة بين الحريات لا يُنظر في مادة الإرادة؛ أي في الغاية التي ينحو إليها كل واحد، بل يُنظر فقط في الشكل الذي تتخذه هذه العلاقة. وعلى هذا فإن القانون هو مجموع الشروط التي يخضع لها ملكة الفعل الحرة لكل شخص إذا كانت قاعدته تُمكن من مثل هذا الاتفاق، ومن هنا جاءت القاعدة الأساسية: " افعل خارجياً بحيث يمكن للاستعمال الحر لإرادتك أن يتفق مع حرية الجميع وفقاً لقانون كلي"(32). إن المسألة الجوهرية في هذه القاعدة – كما يرى كانط – هي تبرير استعمال القسر لمنع الناس من التعدي على حرية الآخرين، وهذا القسر الذي يفرض بشكل قانوني لا يمكن تبريره إلا لضمان الحرية.
ويتألف كتاب "نظرية الحق" عند كانط من قسمين: الأول يتناول القانون الخاص، والثاني القانون العام. في القسم الأول يعالج العلاقة بين القانون الخاص أو الطبيعي، وبين القانون العام خاصة القانون السياسي. ويتناول القانون الخاص ما يتعلق بالملكية، أو -على حد تعبير كانط – "ما لي" و "ما لك"، ولهذا يبدأ بحثه في النظرية العامة للقانون الخاص بتعريف الملكية على النحو التالي: "ما لي بحسب القانون هو ما أنا مرتبط به إلى درجة أن استعمال الغير له دون موافقتي من شأنه أن يضر بي. والملكية هي الشرط الذاتي لإمكان الاستعمال بوجه عام"(33). ويُدرج ضمن موضوعات القانون الخاص: التعاملات والعقود التي أصبحت مألوفة في الوقت الحاضر.
ويتطرق كانط أيضاً إلى مناقشة الحقوق التي يتعين على الأشخاص القيام بها، وتتضمن الحقوق الواجبة على الأشخاص مثل: حقوق الزوج على زوجته، وحقوق الوالدين على أبنائهما، وحقوق صاحب المنزل على من يعمل في خدمته. وفي القسم الثاني يتناول القانون العام، أو القانون السياسي؛ أي العلاقة القانونية بين المواطن من ناحية والوطن من ناحية أخرى، أو الدولة. ولا يمكن أن يكون هناك حق خاص خارج نطاق الوضع المدني، بمعنى أدق خارج نطاق دولة ذات قدرة على فرض أساليب قسرية تستطيع بها ضمان الحقوق الخاصة للمواطنين. ويرى كانط أنه لا يمكن أن تتحقق العدالة في علاقات البشر بعضهم مع بعض إلا في ظل مجتمع يشكل دولة مدنية (34).
 أما رولز، فقد رأى أن الحقوق السياسية والمدنية للفرد حقوق لها حرمه لا تُنتزع، وأن أكثر سمة تميز الطبيعة البشرية هو قدرتنا على أن نختار بحرية الغايات التي نسعى إلى تحقيقها. لقد آمن رولز – مقتفياً خطى كانط – أن أكثر سمة تميز الطبيعة البشرية هو قدرتنا على أن نختار بحرية الغايات التي نسعى إلى تحقيقها.  ويترتب على ذلك أن الواجب الأول للدولة تجاه مواطنيها هو أن تحترم هذه القدرة على الاستقلال الذاتي، وأن تترك للمواطنين حرية العيش وفقاً لاختياراتهم الذاتية، وأن تعاملهم، وفقاً لعبارة كانط، كغايات وليس كوسائل. يقول كانط: "إن الكائنات العاقلة تخضع جميعاً للقانون الذي يقضي ألا يعامل كل منهم نفسه وغيره من البشر كوسيلة أبداً، بل أن تكون المعاملة لهم دائماً وفي الوقت نفسه كغايات في ذاتها"(35). الواجب الأول للدولة الليبرالية– عند رولز -هو أن تحمي الحريات المدنية الأساسية للفرد، والتي لا يوجد شيء يمكن أن يُعوض عنها(36). وعلى هذا الأساس عنى رولز بما يسمى "حق الشعوب"، عدَّه مفهوماً سياسياً يختص بمبادئ القانون الدولي ومعاييره. ويتوازى مع هذا المفهوم مفهوم آخر، وهو "مجتمع الشعوب" التي تتبنى مُثل ومبادئ حق الشعوب في علاقاتها المتبادلة.

قانون الشعوب
يسعى رولز في كتابه ” قانون الشعوب”(37) الصادر عام 1999، إلى أن يوسع نطاق أفكاره حول العدالة لتشمل الساحة الدولية، وقد حاول أن يبين موقف الليبرالية من إمكانية العلاقة مع الآخر غير الليبرالي؛ وحجة رولز هي أن” قانون الشعوب” لا يقضي بأن تكون جميع المجتمعات ليبرالية؛ بل يكفي أن تحترم الحد الأدنى من الليبراليات التقليدية فقط؛ مثل: حرية التعبير، وحرية العقيدة الدينية؛ يقول: “إن قانون الشعوب يؤمن بوجهة نظر سمحة وإن لم تكن ليبرالية، ومن القضايا الجوهرية في السياسة الخارجية للمجتمعات الليبرالية أن تقرر إلى أي حد يمكن قبول الشعوب غير الليبرالية”(38).
ويستعمل رولز كلمة “شعوب” بدل كلمة “دول”؛ لأنه وجد في الشعوب سمات تختلف عن سمات الدول منها: أن الشعوب لا تحركها منافعها الخاصة، بل تحدد مصالحها الأساسية بشكل معقول دون المساس بمصالح الشعوب الأخرى؛ أي أن الشعوب تمتلك جانباً أخلاقياً، بخلاف الدول، التي دأبت أن تكسب مصالحها، حتى وإن كانت على حساب مصالح دول أخرى؛ وأن الشعوب لا تمتلك السيادة حتى في التعامل مع مواطنيها، مما يعنى أن الدول الكبرى والمنظمات الدولية تمتلك كامل الحرية في التدخل في شؤونها (39). و”الدول هي الطرف الفاعل في العديد من نظريات السياسة الدولية حول أسباب الحرب والحفاظ على السلام. وكثيراً ما يُنظر إلى الدول على أنها عقلانية شديدة الحرص على قوتها – أي قدرتها (عسكرياً واقتصادياً ودبلوماسياً) على التأثير على الدول الأخرى – وتعمل دائماً على تحقيق مصالحها الأساسية”(40).
وهذا يذكرنا برأي كانط في كتابه “مشروع للسلام الدائم” الذي نشره عام 1795 ، والذي أعلن فيه أن إنشاء “حلف بين الشعوب” هو السبيل الوحيد للقضاء على شرور الحرب وويلاتها. ولابد من الاعتراف –على حد قوله –”بأن الدول ما زالت في علاقاتها الدولية على حال من الهمجية والانحطاط البهيمي، وأن الوسيلة الوحيدة للخلاص من هذا الوضع هو اقتلاع الداء من جذوره والاستعاضة في كافة العلاقات الدولية عن حالة الطبيعة بحالة الشريعة وتنظيم الأمم جميعاً عن طريق تعاقد حر بين الأفراد؛ أي جمع هذه الأمم في تحالف سلمي”(41).
ويقدم رولز مفهوم “قانون الشعوب” من خلال نظريتين هما: “النظرية المثالية” التي تشمل مجتمع الشعوب الديمقراطية الليبرالية والشعوب السمحة(42) التي تتمتع بسمات معينة تجعلها مقبولة لتصبح جزءاً من مجتمع الشعوب. والنظرية الأخرى هي “النظرية اللا مثالية” ويندرج تحت هذه النظرية نوعان من المجتمعات: النوع الأول: مجتمعات ترفض فيها الحكومات أن تحترم قانوناً معقولاً للشعوب، يطلق عليها تسمية الدول الخارجة على القانون، ويناقش رولز فيها الإجراءات التي يمكن للشعوب الليبرالية والشعوب السمحة أن تلجأ إليها في مواجهتها لمثل هذه الدول. النوع الثاني من المجتمعات التي يندرج تحت النظرية اللا مثالية هو المجتمعات المغلوبة على أمرها، مجتمعات مثقلة الكاهل بظروف غير مواتية؛ أي مجتمعات لها ظروف اقتصادية واجتماعية وتاريخية تجعل من الصعب – وربما من المستحيل – أن تصبح مجتمعات جيدة التنظيم سواء ليبرالية أو سمحة(43).
ويحدد رولز مبادئ المساواة بين الشعوب مؤكداً أن مثل هذه المبادئ سوف تفسح المجال لأشكال متعددة للروابط التعاونية والاتجاهات بين الشعوب، إلا أنها لم تصل إلى قيام ما يسمى “بالدولة العالمية”. وهنا يوافق رولز ما ذهب إليه كانط في الاعتقاد بأن الحكومة العالمية سوف تكون حكومة هشة ممزقة بحروب مدنية مستمرة، عندما تحاول الثقافات المنفصلة أن تكسب استقلالها السياسي(44). يقول كانط: “إن فكرة قانون الشعوب تقتضي الانفصال بين الكثير من الدول المجاورة المستقلة، وهي في نظر العقل أفضل من ضم تلك الدول تحت لواء دولة واحدة، تطغى على سائرها، وتصير ملوكية شاملة، فالواقع أنه كلما اتسعت رقعة الدولة ضعفت قوة القوانين”(45).
من هذا المنطلق يحدد رولز المبادئ المتعارف عليها للعدالة بين شعوب حرة وديمقراطية، وهي ثمانية مبادئ على النحو الآتي:
1- الشعوب حرة ومستقلة، كل شعب يحترم حريات الشعوب الأخرى واستقلالها.
2- يجب على الشعوب أن تحترم المعاهدات والتعهدات.
3- الشعوب على قدم المساواة، وهي أطراف في الاتفاقيات التي تلتزم بها.
4- تحترم الشعوب واجب عدم التدخل.
5- الشعوب لها الحق في الدفاع عن النفس، ولكن ليس لها الحق في شنِّ الحرب، أو التحريض عليه لأسباب غير الدفاع عن النفس.
6- تحترم الشعوب حقوق الإنسان.
7- تلتزم الشعوب بقيود محددة في ممارسة الحرب.
8- يجب على الشعوب مساعدة الشعوب المغلوبة على أمرها، التي تعيش تحت وطأة ظروف غير مواتية، تمنعها من أن يكون لها نظام اجتماعي وسياسي عادل أو سمح (46).
يرى رولز أن هذه المبادئ تتطلب الكثير من الشرح والتفسير، وبعضها غير ضروري في مجتمع شعوب جيدة التنظيم كالمبدأ السابع الخاص بالسلوك في الحرب، والمبدأ السادس حول حقوق الإنسان. أما المبدأ الرابع (مبدأ عدم التدخل) نجد أن رولز يعتقد بوجوب تقييده بضوابط وقيود في الحالة العامة للدول الخارجة على القانون، وعلى الرغم من أن هذا المبدأ مناسب لشعوب منظمة بصورة جيدة ؛ فإنه لا يصلح لمجتمعات شعوب غير منظمة، تكثر فيها الحروب والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان.

الانتقادات التي وُجهت إلى نظرية العدالة
يُعد مايكل ساندل (5 مارس – 1953) من أهم المفكرين المعاصرين الذين تحدثوا عن معنى المساواة والحرية والعدالة التوزيعية، ومن أبرز الذين تناولوا طرح رولز عن العدالة والليبرالية السياسية التي يمثلها بالدراسة والنقد في كتابه: “الليبرالية وحدود العدالة”؛ حيث ينطلق ساندل من النظر في مدى صحة المقولة التي ترى أن المجتمع الليبرالي مجتمع يحرص على عدم إملاء أي طريقة معينة في الحياة على أفراده، تاركاً لهم أكبر حرية ممكنة في تحديد القيم التي يتبنونها والغايات التي يسعون إليها في الحياة. وعلى الرغم من أن ساندل رأى أن ليبرالية رولز مدينة لكانط في معظم آرائها الفلسفية، كما أنها جاءت معارضة للتصورات النفعية من حيث قولها بأسبقية الحق على الخير؛ فإنه رأى عيب هذه الليبرالية المعاصرة في كونها لم تأخذ بعين الاهتمام مسألة الجماعة، بل اهتمت بتفرد الذات بشكل قبلي، بمعنى أن لا ذات عند رولز إلا الذات التي يفترض مسبقاً أنها منفردة بنفسها؛ لكن الذات – كما يراها ساندل – هي ذات مجسدة ضمن نسيج من العلاقات الاجتماعية والإنسانية(47).
وصف “ساندل” وصفاً دقيقاً – في معرض حديثه لنقد الليبرالية – غياب المساواة والعدالة في النظام الليبرالي الغربي، بالرغم من كل التطور الذي لحق به، فقد رأى أن ثمة جماعات تتعرض للظلم (كجماعة وليس كأفراد)، وأن الطبقة المهيمنة في النظام الجديد – لحظة التأسيس – تبقى مسيطرة في جميع اللحظات التي تليها، مادام النظام الليبرالي يقدم الحرية في تحقيق أعلى ربح على العدالة الاجتماعية؛ ولا يسعى إلى محاربة سوء توزيع الثروة أو توسيع المستفيدين من الخير العام.
أما أمارتيا صن (3 نوفمبر – 1933) فقد أقر- عند نقده لرولز – بأن مفاهيمه الأساسية ظلت تقدم له الكثير عند بحثه في مشكلة العدالة، وبأن أعمال رولز تُعد تحولاً مهماً في الفلسفة السياسية والأخلاقية المعاصرة، يقول “صن”: “لا يسعني البدء بانتقاد رولز دون الإقرار أولاً بعظيم أثره في فهمي الخاص للعدالة والفلسفة السياسية عموماً، وعظيم الدَّيْن الذي أدين له به. فقد أشعل في نفسي جذوة الاهتمام الفلسفي بموضوع العدالة”(48).
لقد رأى “صن” أن نظرية العدالة تشتمل على متطلبات إعمال العقل في تحليل مفهومي “العدل والظلم”، وقد حاول الذين كتبوا في مفهوم العدالة -على مدى مئات السنين في مختلف أرجاء العالم- تقديم أساس فكري للانتقال من الإحساس العام بالظلم إلى التحليل الفكري الدقيق له، ومن ثم تطرقوا إلى تحليل المعنى الخاص بإعلاء قيمة العدل. ومن هنا، يعتقد صن أن الاشتغال على مستوى المؤسسات، في التنظير للعدالة، الذي يطلق عليه “المقاربة المؤسسية الما-فوقية”، المرتبطة بنمط تفكير العقد الاجتماعي السائد بتأثير من رولز، ومن تأثر بهم، كروسو وكانط (في الفلسفة السياسية المعاصرة فيما يخص مفهوم العدالة)- يظل قاصراً من ناحية عدم اهتمامه بالسلوك الفعلي للناس. بمعنى آخر: إن المؤسسية الما فوقية -في بحثها عن الكمال، تركز – في المقام الأول – على الوصول إلى المؤسسات العادلة، ولا تهتم مباشرة بالمجتمعات الفعلية التي ستنبثق في النهاية من تلك المؤسسات؛ إذ لابد لطبيعة المجتمع الذي سينتج عن أي مجموعة معينة من المؤسسات أن تعتمد على سمات لا مؤسسية، كأنماط السلوك الفعلي للناس وتعاملاتهم الاجتماعية(49).
ولا شك أن القائلين بمذهب “المؤسسية الما فوقية” الباحثين عن مؤسسات عادلة تماماً -فيما يرى “صن”- قد قدموا تحليلات مضيئة للواجبات الأخلاقية والسياسية التي ينطوي عليها السلوك المناسب اجتماعياً؛ مثل: كانط، ورولز. فكلاهما شارك في البحث المؤسسي الما فوقي، لكنهما قدما تحليلات بعيدة الأثر لمتطلبات المعايير السلوكية. وبالرغم من أنهما ركزا على الخيارات المؤسسية؛ فإنهما أغفلا السلوك الفعلي للناس المرتبط بما هو واقع؛ أي ما يطلق عليه “المقاربة الما تحتية” التي تركز على الواقع الفعلي للمجتمعات

وتُعد الانتقادات والردود المتبادلة التي قامت بين رولز ويورجين هابرماس (18 يونيو – 1929) من أهم المناقشات المعاصرة التي أثارتها نظرية العدالة بوصفها إنصافاً، خاصٌة ما يتعلق بالمقاربة الليبرالية السياسية التي تقيدت بحدودها وتأسست على مقولاتها. وقد ارتكزت انتقادات هابرماس الرئيسة لنظرية رولز في العدالة على ثلاث مسائل هي: أولاً، التشكيك في قدرة الوضع الأصلي – كما جاء في العدالة بوصفها إنصافاً – عن التعبير عن حكم أخلاقي موضوعي حيادي واجبي بشأن مبادئ العدالة، ثانياً: الإخفاق في عدم توضيح الشروط والضوابط التي يتعين على الأطراف المشاركة في التفاوض التوصل من خلالها إلى مفهوم سياسي للعدالة يمكنه أن يقوم على أساس أخلاقي ملائم. ثالثاً: الإخفاق في تحقيق الهدف المتمثل في المواءمة بين الحريات والحقوق الليبرالية الجوهرية وفق المفهوم الليبرالي المعاصر وبين مفهومها عند القدماء

 يرى هابرماس أنه لا يمكن للمواطنين الذين يُفترض أنهم يتمتعون بالاستقلال الذاتي أن يمثلوا عبر الأطراف المفتقرين لهذا الاستقلال، فالمواطنون ذوو قوة أخلاقية بوصفهم أعضاء في مجتمع ديمقراطي مثالي حسن التنظيم، ولهم حس بقيمة العدالة والقيم السياسية الأخلاقية عموماً. إذن، فكيف لمبادئ العدالة – التي جرى التعاقد عليها – أن تتناسب مع شروط تفكير غير موافقة لعقل المواطنين العام؟ كيف لهذه المبادئ أن تعبر عن الشرعية السياسية الليبرالية؟

ولا شك – فيما يرى هابرماس – أن الحقوق والحريات الليبرالية السياسية -بوصفها رؤية مثالية -هي تنظيم للعلاقات بين مواطنين متفاعلين قادرين على اتخاذ قرارات وأحكام حقيقية. ومن ثم فإن رولز لا يقدم حلاً كافياً لمشكلات الاستقرار في ظل واقع التعددية، فالحريات والحقوق الأساسية مثل: الضمير والملكية -وغير ذلك، مما عده رولز أولوية دستورية لا تنازل عنها ولا مقايضة لها بغيرها -تبدو غير منسجمة مع المقاربة الجمهورية التي تقول بأولوية المشاركة السياسية بوصفها حقاً يجعل المواطن مستقلاً ومؤكداً ذاته كعضو في الجمهورية، ولخيره السياسي العام المتمثل في الاستقرار الاجتماعي السياسي. وبناء عليه، فإن ليبرالية رولز السياسية غير قادرة على التعامل مع واقع التعددية بشكل ملائم(53).
ورغم جميع هذه الانتقادات يمكن رؤية تأثير “جون رولز” ومن قبله “كانط” في أعمال معاصرة أخرى تخص مفهوم العدالة، منها أعمال: توماس ناجل (4 يوليو – 1937)، وتوماس سكانلون (1940)، وروبرت نوزيك (1938 – 2002)، وكثير غيرهم الذين تأثرت تحليلاتهم لمشكلات العدالة تأثراً قوياً بنظرية “كانط” و “جون رولز”.

المراجع والمصادر:
(1) يُعد “جون رولز” من أبرز فلاسفة الفكر الليبرالي السياسي المعاصر، فقد أثارت كتاباته كثيراً من القضايا المتداولة على الساحة الدولية اليوم، ويحتدم في الغرب حوار وجدل مستمران بشأن موضوعات مثل: العدالة والإنصاف، والليبرالية السياسية، وحقوق الإنسان، وقضايا المجتمع المدني، والديمقراطية، وغيرها من المفاهيم التي أصبحت متداولة في الفكر السياسي المعاصر. وقد حاول “رولز” عبر مؤلفاته ترسيخ الأسس التي بُنيَت عليها النظرية الليبرالية بأبعادها المختلفة، وأكَد الحرية الفردية وتنمية قدرات الإنسان الذاتية.
– يُنظر إلى: جان مارك فيري، فلسفة التواصل، ترجمة وتقديم د. عمر مهيبل، الدار العربية للعلوم – ناشرون، المركز الثقافي العربي، الجزائر، 2006، ص 111.
محمد العمراوي، العدالة الاجتماعية: مقاربة معرفية للمفهوم والأبعاد، مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، المغرب، 2015.
محاورة الجمهورية لأفلاطون، دراسة وترجمة د. فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1985، ص 83 من دراسة المترجم.

 الواقع أن "جون رولز" كان اسماً مجهولاً خارج الأوساط الأكاديمية ، أو على وجه الدقة : خارج دائرة قراء البحوث الفلسفية المتخصصة؛ لكنه بعد صدور كتابه: "نظرية في العدالة" أصبح من ألمع أعلام الفلسفة المعاصرة لدى جميع المثقفين في معظم أنحاء العالم. وقد وصف كتابه بعض المفكرين السياسيين بأنه "تحفة فريدة"، وإسهام لا نظير له في مجال الفلسفة السياسية؛ وربطوا بين هذا الكتاب وبين الأعمال العظيمة الخالدة "لأفلاطون" و"جون ستيوارت مل" و"كانط".
  - يُنظر إلى: أنطوني دي كرسبني، وكينيث مينوج، أعلام الفلسفة السياسية المعاصرة، ترجمة ودراسة د. نصار عبد الله، منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1996،  ص 132 -131 .               
 جون رولز، نظرية في العدالة، ترجمة ليلي الطويل، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الث، نظرية في العدالة، ص 12.
  إمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة د. عبد الغفار مكاوي، مراجعة د. عبد الرحمن بدوى،  الهيئة المصرية العامة للكتاب، 
   - يُنظر أيضاً إلى: د. عبد الرحمن بدوي، إمانويل كنت. فلسفة القانون والسياسة، وكالة المطبوعات، الكويت، 1979        ،  ص26.   
  جون رولز، قانون الشعوب وعود إلى فكرة العقل العام، ترجمة محمد خليل، المشروع القومي للترجمة،   عدد(1074)، 2007، ص 20.                                      
  كانت، مشروع للسلام الدائم، ترجمة د. عثمان أمين، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1952، ص 51.  
  جون رولز، نظرية في العدالة، ص 38.

 بومدين بوزيد، فلسفة العدالة في عصر العولمة، الدار العربية للعلوم ناشرون، الجزائر، 2009، ص 146.  
   - أيضاً: عادل صابر راضي، الفكر الليبرالي السياسي المعاصر (جون رولز أنموذجاً)، مجلة الفلسفة، العدد                          العاشر، 2013، ص 95.      
  جون رولز، العدالة كإنصاف: إعادة صياغة، ترجمة د. حيدر حاج إسماعيل، مراجعة ربيع شلهوب، المنظمة       العربية للترجمة، بيروت - لبنان، 2009، ص 90.

الكاتب: admin

ذ. بضاض محمد Pr. BADADE Med باحث في:علم النفس،علوم التربية،والعلوم الشرعية. خريج جامعة سيدي محمد بن عبد الله-كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز-فاس خريج جامعة مولاي اسماعيل-كلية الآداب والعلوم الإنسانية-مكناس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *