رؤية نقدية لفلسفة ديفيد هيوم.. ماهي ملامح ريبية هيوم وشكوكه ؟

إذا كان النقد هو الفعل الأصيل للعقل الإنسانيِّ فإنَّ عودتنا للحظة هيوم التاريخيَّة تجعلنا ندرك شروط إمكان قوله وتوجُّهه الفلسفيِّ، ومدى صواب هذا التوجُّه لأنَّ فلسفته تبقى بالضرورة رهينة واقعها التاريخيِّ. فالفيلسوف لا يغادر عصره رغم أنَّه يصبو إلى مطلق ما يتجاوز من خلاله ضرورة الزمان والمكان اللَّذين أنتجاه.

قد تبدو محاولة الريبيِّين تقويض العقل بالحجاج والعقلنة هوسًا مفرطًا على الرغم من أن هذا التقويض هو المرمى الأكبر لكلِّ مباحثهم ومنازعاتهم. فهم يجهدون للعثور على الاعتراضات ضدَّ تعليلاتنا التجريديَّة كما ضدّ تلك التي تعود إلى الوقائع والوجود»
فما هي طبيعة ريبيَّة هيوم وإلى أيِّ حدٍّ يمكن اعتبارها أحد عناصر البناء الغربيِّ للفكر الحديث؟ إذ لا أحد ينكر دور فلسفته النقديَّة في بناء العقل الحديث وما توصَّل إليه من نتائج نظريَّة وعمليَّة. وهل يمكن أن نعتبر هذه الريبيَّة مؤشرًا نفهم من خلاله طبيعة الحداثة الغربيَّة التي جعلت من نفسها نموذجًا مُعولَمًا فكرًا وسياسة وأخلاقًا.

ما هي ملامح ريبيَّة هيوم وشكوكه؟

تقوم فلسفة هيوم على فكرة كثيرة التكرار في مؤلَّفاته ألا وهي فكرة الطبيعة الإنسانيَّة، ويربط هذه الطبيعة بفكرة الاعتقاد والإدراك والتفكير وغيرها من المفاهيم التي يحاول تفكيكها دومًا من خلال العودة إلى فكرة الطبيعة الإنسانيَّة. كما نلاحظ أنه يقيم دومًا مقارنة بين حياة الإنسان العاديَّة أو الطبيعيَّة والاعتقادات التي يحملها في حياته اليوميَّة والعمليَّة وحياة الفيلسوف الفكريَّة التي تتجاوز اعتقادات الإنسان اليوميَّة لبناء الأنساق الفلسفيَّة التي تريد احتلال مكان الاعتقادات القائمة فعلًا في الممارسة والحياة.

ونلاحظ تهكُّم هيوم من هذه الفلسفات التي يراها غريبة الأطوار غير مجدية وغير نافعة لأنَّها منحت العقل مقامًا لا ينسجم مع طبيعته، وسمحت له بنسج عوالم خياليَّة فكريَّة لا واقع لها ولا حجَّة.

«ماذا نعني بريبيِّ؟ وإلى أيِّ حدٍّ يمكن أن ندفع مبادئ الشكِّ والحيرة الفلسفيَّة؟»[2]. بهذا السؤال يوجِّه هيوم بحثه في معنى الريبيِّ وينتهي بنا إلى أهميَّة الاعتدال في الريبيَّة ضدَّ الريبيَّة المغالية المتطرِّفة التي تؤدِّي إلى استحالة النظر والعمل وضدَّ الدوغمائيَّات الفلسفيَّة التي تبني أنظمة فكريَّة وتعتبرها يقينيَّات حقيقيَّة لا يمكن أن ينال منها ريب الريبيِّين. ولا شكَّ في أنَّه لا يوافق على هذين التصوُّرين للفلسفة الريبيَّة من جهة والفلسفة الدوغمائيَّة من جهة أخرى. إنَّه إذن ينادي بضرورة ممارسة ريبيَّة معتدلة تسمح للعقل بالنقد ومراجعة أفكاره باستمرار.

«يجب الإقرار بأنَّ هذا النوع من الريبيَّة حين يكون أكثر اعتدالًا يمكن أن يفهم بمعنى معقول جدًا»[3]. وهذه الريبيَّة التي يسمِّيها معندلة تقف وسطًا بين دوغمائية الفلاسفة وريبيَّة القدامى. ريبيَّة معتدلة يشرَّع لها ليجعل من مشروعه الفلسفيِّ مشروعًا معتدلًا رغم ريبيَّته التي سمَّاها ريبيَّة معندلة أيضًا. وليؤكِّد صدق توجُهه هذا يستدعي هيوم ثلاثة أنواع من التيَّارات القائمة:

  • التيَّار الأوَّل يمثِّله الإنسان العاميُّ الحامل لاعتقاداته الحسيَّة والفكريَّة في رؤيته للعالم وعدم التشكُّك فيه.
  • التيَّار الثَّاني يمثِّله الفلاسفة الذين ينقدون التصوُّر العاميُّ ويبيِّنون تهافته باعتبار أنَّ الحواسَّ لا تعطينا إلَّا تمظهُرات خاطئة لا يمكن الثقة فيه. ومن ثمَّ فإنَّ الحقيقة الفعليَّة هي التي يبنيها العقل إذ ليس العالم في حقيقته إلَّا ما استطاع العقل أن يتمثَّله ويتصوَّره.
  • التيَّار الثالث هو تيَّارٌ ريبيٌّ قديمٌ وعميقٌ ينتسب إلى البيرونيَّة أي المدرسة الريبيَّة الأولى التي عرفها اليونان. يقدم إلينا جميع الحجج للتشكيك في قدرات الحسِّ والعقل معًا، وأنَّ المعرفة غير ممكنة مطلقًا.»لا يكن لأيِّ بيرونيٍّ أن يتوقَّع لفلسفته أيَّ تأثير على الذِّهن أو يكون تأثيرها إن وُجد مفيدًا للمجتمع، ويجب عليه على العكس أن يُقرَّ بأنَّ كلَّ الحياة البشريَّة ستفنى إن سارت مبادئه بصورة كليَّة وثابتة.
  • وسيتوقف كلُّ حوار وكلُّ فعل على الفور، وسيبقى الناس في سبات كامل إلى حين يضع عدم إشباع الحاجات الطبيعيَّة نهاية لحياتهم البائسة «

بهذا تتأكَّد نزعة هيوم الرافضة للريبيَّة البيرونيَّة المطلَقة، ومعياره في هذا الرفض هو النفع الواقعيُّ والحياتيّْ. وهو معيار لا ندري من أين استقاه إذا استبعدنا طبيعة الحياة الإنسانيَّة الواقعيَّة التي يعتبرها مرجعًا مهمًّا في تقرير كل شيء.
يمكن من خلال ما تقدَّم من تعبير عن موقف هيوم من الريبيَّة نفسها أن نتصوَّر قناعاته التي انطلق منها ليبرِّر ريبيَّته المتعدلة كما أراد أن يسمِّيها. إنَّه يرى نفسه ريبيًّا يواجه دوغمائيَّة الأنساق الفلسفيَّة من جهة، ويرى نفسه في الوقت نفسه حاملًا لمشروع في المعرفة أو نظريَّة خاصة في المعرفة. والحامل لنظريَّة في المعرفة لا يكون ريبيًّا فكيف يسمِّيها ريبيَّة إذن؟

«هناك حقًّا ريبيَّة أكثر اعتدالًا، فلسفة أكاديميَّة يمكن أن تدوم وأن تكون مفيدة في الوقت عينه، ويمكن أن تتحصَّل جزئيًّا عن البيرونيَّة أو الريبيَّة المتطرِّفة عندما نجري فيها بواسطة الحسِّ العامِّ والتفكير بعض التصحيح في شكوكها غير المتمايزة»

ينطلق هيوم إذن من مسلَّمة الريبيِّين ويكلِّف نفسه تعديلها لتجني تطرُّفها تحقيقًا للفائدة والمنفعة الطبيعيَّة والإنسانيَّة لمواجهة كلِّ أشكال الوثوقيَّة التي بَنَتها الفلسفات قديمًا وحديثًا وبمختلف مدارسها

. ويضع لنفسه معيارًا مهمًّا هو الحياة الطبيعيَّة والنفع:» فالطبيعة هي أبدًا فائقة القوَّة من أجل مبادئها».

الفائدة والمنفعة مبدآن مهمَّان عند هيوم ينطلق منهما لتقرير موافقته لأمر أو رفضه. وإلى جانب هذه القيمة يضع لنا مرجع نظر للتحقُّق من صدق تفكيرنا.

إنَّه الوجود الخارجيُّ والواقع على الرغم من وعيه بالشكوك العديدة والاعتراضات الكثيرة التي قدَّمها الفلاسفة قبلَه والذي شكَّك طويلًا في مدى موضوعيَّة الواقع الخارجيِّ واستقلاله عن إدراكاتنا، فلعلَّ العالم الخارجيَّ ليس له إلَّا وجود في الذِّهن الَّذي لولاه لما كان للعالم الخارجيِّ وجود. ويمكن أن نؤكِّد هذا التصوُّر حين نعرف أنَّ هيوم استفاد كثيرًا من أعمال فيلسوفين مهمَّين هما جون لوك والأب بركلي.
أمَّا لوك فلا شكَّ في أنَّه الأب الأوَّل للتوجُّه التجريبيِّ في نظريَّة المعرفة الغربيَّة الحديثة. ولا شكَّ في أنَّه في اتِّجاهه إلى ديكارت أب الحداثة الغربيَّة والعقلانيَّة القائمة على الكوجيتو يحاول التخلُّص من وطأة الكوجيتو المتعالي ليُرجع العقل إلى فضائه الأول الأصليِّ أي الواقع الحسِّيِّ الحاضر أمام أدواتنا الإدراكيَّة الظاهرة أي الحواسَّ محاورًا ديكارت ومن سار سيره في تشكيكهم في قدرات الحسِّ المخادع حسب تصوُّرهم، وأنَّ وهم الخداع هذا هو الذي أوقعنا في وهم العقلانيَّة المتعالية التي وضعها الكوجيتو فما كان على لوك إلَّا أن يعيد للتجربة الحسِّيَّة مكانتها الأصليَّة وفاعليَّتها الحقيقيَّة في بناء المعرفة.

ولا شكَّ أيضًا في أنَّ تجريبيَّة لوك الفلسفيَّة التي استعاد فيها منزلة الإدراكات الحسِّيَّة مخلِّصًا العقل من أوهام الكوجيتو الفطريَّة[8]، لم يتوقَّف عند حدود التجربة الحسِّيَّة، ولم يحبس الفكر في دائرة هذه التجربة وإنَّما وسَّع أفقها لأنه اعترف بالدين والمسيحيَّة والإيمان متحرِّرًا في الوقت نفسه من سلطة رجال الدين الكاثوليك ليبني رسالة في التسامح يفصل فيها بين الأمر الإلهيِّ والسلطة البشريَّة باعتبار مدنيَّة سلطة الإنسان التي لا تستطيع أن تتحوَّل إلى سلطة إلهيَّة مطلقة لا يستأثر بها إلَّا الله نفسه الذي لم يكلِّف أحدًا أو جهة لمثل سلطانه على الأرض.»لو أنَّ ممارسة الدين تُترك بسلام للاختيار الشخصيِّ ولو يسمح لكلِّ فرد أن يمارس العبادة الدينيَّة بطريقته الخاصَّة فلا يتظاهر بدافع الزهو الشديد بذاته بأنَّه أكثر معرفة وأكثر اهتمامًا بروح غيره من البشر وخلاصهم الأبديِّ أكثر من اهتمامه بنفسه فهذا من شأنه حقًّا أن يهدِّد السلام في العالم»[9]. ومؤرِّخو الفلسفة يعلمون جيَّدًا أنَّ لوك لم يوضح لنا في فلسفته كيف يمكن أن نحقِّق هذا الإيمان إذا سلَّمنا بنظريَّته في المعرفة القائمة على أساسٍ تجريبيٍّ خالص.

والمعروف أنَّ لوك كان محافظًا على عقيدته الإيمانيَّة رغم خصامه الصريح مع السلطات الكنسيَّة ودعوته لمقاومة الإكراه الدينيِّ وإزالة السلطة الدينيَّة. ففي أوائل 1596 قبل أن يشرع في كتابة أيٍّ من مؤلَّفاته الرسميَّة، وضع بحماسة وتخيُّل تصوُّرًا للعلاقة بين معتقدات الإنسان ورغباته التي ينظر فيها إلى العقل بوضوح بوصفه عبدًا للعواطف، فبدلًا من أن يسيطر العقل ببساطة على أفعال الإنسان وتصرُّفاته فإنَّه لا يعدو أن يكون مجرَّد وسيلة لتبرير رغباته.[10]. ومع ذلك فإنَّ لوك يعتقد أنَّ «تصوُّرَه لنطاق الفهم البشريِّ وحدوده الذي طرحه في «مقال في الفهم البشريِّ» هو المفهومَ الذي أقرَّ هو نفسه بأنَّه رائعته الفكريَّة؛ وكان هذا هو نفسه المفهوم الذي عَلِقَ في مخيِّلة الأجيال القادمة.[11]وبهذا استطاع وضع تجربة فلسفيَّة جديدة في أوروبا الأنكليزيَّة تقوم أولًا على تجريبيَّة المعرفة وحدودها، وذاتيَّة الإيمان وخصوصيَّته، وتسامح السياسة ومدنيَّتها، وسلطان الإله المطلَق الذي لا يمثِّله أحد في الأرض إلا حالة المؤمن به الذي اختاره طوعًا وتعبُّدًا.
وأما بركلي فقد سار في اتِّجاه آخر رغم أنه دعَّم الموقف التجريبيَّ، اتِّجاه يهدف إلى إثبات وجود الله بصورة مغايِرة لما هو سائد عند من سبقه من رجال الدين والفلاسفة. ورغم أنَّ مهمَّته القصوى ترمي إلى هذه الغاية أي إثبات وجود الله إلَّا أنَّه أكَّد على الطابع الحسِّيِّ للمعرفة بشكل مغاير لمذهب الحسِّيين والتجريبيِّين قبله الأمر الذي جعل بركلي متميِّزًا ومختلفًا عمَّن جاء قبله من أصحاب نظريَّات المعرفة العقليَّة والمثاليَّة والمادِّيَّة والحسِّيَّة وغيرهم. وقد انطلق مذهبه في المعرفة من فرضيَّة أولى مهمَّة هي أنَّ الإدراك لا يكون إلَّا حسِّيًّا لأنه الوسيلة الوحيدة التي تطلعنا على العالم الخارجيِّ إلَّا أنَّه يجب أن نميِّز «بين ما تدركه الحواسُّ وبين ما نستدلُّه من ذلك الإدراك بالعقل والذاكرة ما يعني في النهاية أنَّنا ندرك فحسب أفكارنا وتصوُّراتنا. ففي البدء كانت الفكرة أو الصورة وفي النهاية أيضًا كانت الفكرة أو الصورة»[12]، وأساس هذا التصوُّر وضامنه هو الوجود الإلهيّْ، فكلُّ شيء ندركه إنَّما يأتي من قِبَل الله وليس من مصدر آخر.

وإذا ما أقدم امرؤ ووضع هذه البديهيَّة موضع تساؤل فإنَّه ينزلق مباشرة إلى النزعة الشكِّيَّة التي اعتبرها بركلي المأزق الكبير الذي يواجه المادِّيَّة. فالأشياء عنده لا تتمتَّع بوجود حقيقيٍّ دائم إلَّا من حيث أنَّها قائمة في عقل الله، أو في العقل الَّلامتناهي. وهذه النقطة تمثِّل حجر الزاوية في فلسفة بركلي كلِّها» [13]. فالمعرفة بهذا المعنى حسِّيَّة وحقِّيَّة ما نعرفه لا يعود إلى عقلنا أو ما وصلنا من محسوسات خالصة لأنَّ المادة في آخر الأمر ليست إلَّا مجموعة من الصفات الحسِّيَّة التي يرجعها بركلي إلى مجرَّد تأثيرات ذاتيَّة غير مفرِّق في ذلك بين الصفات الثانويَّة والصفات الأوَّليَّة، وينتهي من هذا كلِّه إلى أنَّ الجوهر الماديَّ لا وجود له [14]. وإذا كان الأمر على هذا النحو فإنَّه ينتهي بالضرورة إلى التسليم بروحانيَّة النفس لأنَّ روحانيَّتها شرط وجود لمحات العقل وحدوساته، والتسليم ضرورة الإلهيَّة لكونها شرط وجود إدراكتنا نفسها لأن ما يصلنا من الحواسِّ لا يكفي لبناء فكرتنا عنها.

فالله ضامنٌ للحقيقة ولكن بمعنى مغاير للمعنى الديكارتيّْ. وهو الضامن الذي يقي العقل من الوقوع في الرَّيب. وبالتالي لا يمكن للماديِّ إلَّا أن يكون ريبيًّا بالضرورة لأنه يكتفي بإدراكاته الحسِّيَّة ولا يمنح للوجود الإلهيِّ أيَّ قيمة معرفيَّة أو وجوديَّة.
وبالعودة إلى فلسفة لوك وبركلي يتبيَّن لنا بوضوح الأسباب الفعليَّة التي وجَّهت فلسفة هيوم هذا التوجُّه. فهو من جهة يذهب مذهب الحسِّيين الذي أسَّسه لوك قبله لما اعتبر العقل صفحة بيضاء، وأنَّ كلَّ ما في العقل ليس له من مصدر إلَّا الواقع المحسوس. غير أنَّ لوك لم يصل به القول والاستننتاج إلى أبعاد الدين والإيمان بالله في نظامه الفلسفيِّ علمًا وأخلاقًا وسياسة. وهذه النقطة الأخيرة ستكون محلَّ نقد هيوم الذي يقرُّ بأنَّنا لا نستطيع التسليم بمثل هذا الأمر لأنَّ المدركات الحسِّيَّة لا توصلنا إلى ذلك بقدر نستطيع فيه أن نثق في استنتاجاتنا الثقة التامَّة. ولكنَّ هيوم من جهة أخرى كان عارفًا بالنقد الذي قام به بركلي للردِّ على المذهب الحسِّيِّ الذي أقامه لوك وعارفًا بالموقف الذي قدَّمه في خصوص طبيعة الإدراك والعقل والحقيقة، وكذلك منزلة الله ودوره في بناء اليقين والحصول عليه. بل كان عارفًا تمامًا بخطورة التنبيه الشديد الذي صرَّح به في أنَّ الماديَّ لا يمكن أن يكون إلَّا ريبًّا. هذه المعرفة اجتمعت جميعها عند هيوم ليُقدِم على بناء تصوُّر ريبيٍّ اعتبره معتدلًا ضدَّ الريبيَّة البيرونيَّة المطلَقة من خلال تأكيده على الإدراك الحسِّيِّ والاكتفاء به في جميع تصوُّراته المعرفيَّة والأخلاقيَّة والدينيَّة وغيرها.

إنَّه واعٍ تمام الوعي لقيمة مشروعه الفلسفيِّ المبنيِّ على الإدراك الحسِّيِّ والمعترف بالريبيَّة وإن كانت معتدلة، والمقبلة على موقف سلبيٍّ من المسألة الدينيَّة والإلهيَّة لكونها تخرج ضرورة من دائرة الإدراك الحسِّيِّ الذي يمثِّل منطلق هذه الفلسفة.

ما هي الطبيعة البشريَّة عند هيوم؟

أقام هيوم بناءه الفلسفيَّ على فكرة الطبيعة البشريَّة بل جعلها عنوانًا لكتابه الأشهر «رسالة في الطبيعة البشريَّة». ولتحليل هذه الطبيعة تناول المسائل التالية: تحليل الإدراك العقليِّ وتحليل العواطف وتحليل الأخلاق. ولتعريفها يقول: «يمكن للفلسفة الخلقيَّة أو علم الطبيعة الإنسانيَّة أن تُعالج بحسب كيفيَّتين مختلفتين لكلٍّ منهما مزيَّتها»

، وهذا يعني أن علم الطبيعة البشريَّة هو الفلسفة الخلقيَّة، فقد ساوى بينهما أي الفلسفة الخلقيَّة أو علم الطبيعة الإنسانيَّة. والجواب عن هذه المسألة موجود في نوعين من الفلسفات قال عنها هيوم فلسفات الفعل وفلسفات العقل. أي أنَّ فلسفة الفعل تنظر إلى الإنسان من جهة كونه إنسانًا فاعلًا أي أنَّه مولود للفعل أساسًا. وفلسفة العقل تراه عاقلًا أكثر من كونه فاعلًا. وهم يجتهدون في تربية ذهنه أكثر من تهذيب أخلاقه، إذ «يعتبرون الطبيعة الإنسانيَّة موضوعًا للتأمُّل النظريَّ ويفحصونها فحصًا دقيقًا سعيًا لإدراك تلك المبادئ التي تسيِّر أذهاننا وتثير أحاسيسنا، وتجعلنا نقبل أو ننكر موضوعًا بعينه أو فعلًا بعينه أو سلوكا بعينه»

. وبهذا التمييز يريد هيوم أن يبيِّن موقفه الصريح والواضح من الفلسفة الميتافيزيقيَّة التي يعتبرها وهمًا وشعوذة مقابل الفلسفة الأخرى التي يقول عنها إنَّها علم، وأن الميتافيزيقا تنتشر دومًا في المواقع التي لم يدخل إليها العلم والتفكير الحقيقيّْ. «إن المنهج الوحيد الذي نقدر به على تحرير المعرفة من هذه المسائل المستغلقة هو أن نجدّ في تقصِّي طبيعة الذِّهن البشريِّ وأن نبيِّن من خلال تحليل دقيق لقواه وطاقاته أنه ليس مُعدًّا بأيِّ وجه من الوجوه للخوض في مثل هذه الموضوعات القصيَّة والمستغلَقة»

. إن معرفة الطبيعة البشريَّة تقتضي نبذ الوهم الميتافيزيقيِّ، وهم القدرة على النفاذ إلى موضوعات مستغلَقة على الذهن استغلاقًا فضلًا عن وهم العلميَّة

. فإذا كانت معرفة الطبيعة البشريَّة تقتضي نبذ الوهم أي الميتافيزيقا فإنَّه بالضرورة لا بد من أن يكشف لنا هيوم كيف نخرج من الوهم إلى الحقيقة، ومغادرة الميتافيزيقا إلى العلم سيكون من خلال «معرفة الطبيعة الإنسانيَّة أي إنشاء علم الطبيعة البشريَّة هو قبل كلِّ شيء وعلى نحو رئيسيٍّ نقد لا يمكن أن يقوم به إلَّا على تحليل قوى الذِّهن وامتدادها الطبيعيّْ»

وهو تحليل فعليٌّ وواقعيٌّ لأنه يقوم على وقائع أثبتت جدواها في العلوم التي نعرفها والتي لا يخفي هيوم إعجابه بها، ونعني بهذا الفيزياء التي أرساها نيوتن ومن معه من العلماء. «وهكذا، فإنَّ مجرَّد معرفة مختلف عمليَّات الذِّهن وفصل بعضها عن البعض الأخر إلى ما يناسبها من الأبواب، وإصلاح كلِّ تلك الفوضى الظاهريَّة التي تتغشَّاها كلَّما جعلناها موضوعًا للتفكير والبحث إنما هو إقامة لجزء غير هيِّن من العلم»

يشهد هيوم بصدق العلم ويقينه منهجًا وحقائق، ويرى أنَّ هذا الصدق يمكن استعماله لفهم جغرافيا الذِّهن ومعرفة طبيعته لإبعاد أوهامه، وبهذا ينفي هيوم إمكان الشكِّ في هذه المجالات، وهو ما يؤكِّد رفضه للريبيَّة المطلَقة والمغالية واكتفائه بريبيَّة معتدلة. فما دام يحمل إمكان اليقين فهذا يخرجه ضرورة من دائرة الريبيِّين ونجاح العلوم دليل قويٌّ عنده على نجاح الذِّهن في هذا المجال وما عليه إلَّا أن ينسجم مع نفسه ولا يغادر قواه هذه نحو مبادئ عقليَّة وهميَّة من إنشاء الفلاسفة الذين يصنعون الوهم ويصدِّقونه ويروِّجونه.

«لقد ظلَّ الفلكيُّون طويلًا يكتفون بالاستدلال انطلاقًا من ملاحظة الظواهر على الحركات الحقيقيَّة التي للأجسام السماويَّة وعلى نظامها ومقاديرها حتى طلع عليهم أخيرًا فيلسوف بدا أنَّه توصَّل بأوفق البراهين إلى تحديد القوانين والقوى التي تسيِّر دورات الأفلاك وتوجِّهها»

.
يتبيَّن إذن ممَّا تقدَّم أنَّ هيوم مؤمن بقيمة ما انتجه العلماء من قوانين تفسِّر حركة الطبيعة، ومؤمن أيضًا بأنَّ منهجهم هذا هو الذي يجب اعتماده لفهم الطبيعة البشريَّة، ويعني بالطبيعة البشريَّة ذهن الإنسان في كيفيَّة عمله واشتغاله قصد القطع كليًّا مع الفلسفات الميتافيزيقيَّة التأمُّليَّة التي يراها وهميَّة. وبما أنَّ الأمر بيَّن على هذا النحو فإن َّهيوم يوجزه بقوله: «إنَّ كلِ موادِّ التفكير مشتقَّة إمَّا من إحساسنا الداخليِّ أو من إحساسنا الخارجيِّ وإنَّما إلى الذِّهن والإرادة وحدهما يرجع مزج هذه وتركيبها, وبعبارة فلسفيَّة ساقول إنَّ كلَّ أفكارنا، وهي أضعف إدراكاتنا ونسخ من انطباعاتنا، هي أقوى تلك الإدراكات»

. وبناء عليه، فإنَّ المرجعيَّة الواقعيَّة الحسِّيَّة تبقى المحكَّ الأخير للحكم على القضايا والأفكار وأنَّ أيَّ لفظ مستعمل بغير مدلول أو فكرة يتعيَّن علينا أن نتحقَّق من صدقه من خلال التحقُّق من مدى انطباقه على انطباع حسِّيٍّ ما لأنه لا بد للفكرة، أيِّ فكرة كانت، من أن تكون مشتقَّة من انطباعٍ حسِّيٍّ فإذا امتنع تعيين أيٍّ من الانطباعات مصدرًا لهذه الفكرة يحقُّ لنا أن نرتاب في صدقها ووجاهتها. وبهذا يقرُّ هيوم بأنَّ بإمكاننا التخلُّص من جميع الأفكار التي لا تعود لأيِّ انطباع حسِّيٍّ وتنتهي الخصومة نهائيًّا بين الأفكار لأنَّ المعيار صار جليَّا وواضحًا.

فلا يمكن التسليم بوجود الأفكار الفطريَّة أو الأفكار التأمُليَّة التي لا أساس حسِّيًّا لها، وفي هذا ضرب جذريٌّ لجميع النظريَّات الفلسفيَّة التي بنت نظريَّاتها في المعرفة على أساس العقل الخالص المؤمن بفطريَّة الأفكار أو بعضها، والمؤمن بأنَّ العقل هو الأداة الوحيدة القادرة على بناء المعرفة الحقَّة التي صارت في نظر هيوم معرفة وهميَّة زائفة سبب كلِّ ميتافيزيقا.

إذا كان الأمر كما بيَّنا فكيف يقرُّ هيوم بصدقيَّة المعارف العلميَّة بنوعيها: الفيزيائيِّ والرياضيِّ، خاصَّة أنَّها لا تعود جميعها إلى الانطباع الحسِّيِّ أو الوقائع الحسِّيَّة؟
يرى هيوم أنَّ الوقائع نوعان والعلاقات نوعان: علاقات الأفكار وعلاقات الوقائع. أمَّا علاقات الأفكار فتنسب إليها العلوم الرياضيَّة عمومًا من أرثمطيقا وهندسة وجبر… «، وأنَّ قضايا من هذا النوع تُكشف بالعمل البسيط للفكر من غير ما تبعيَّة لأيٍّ ممَّا يوجد في الكون. ورغم أنَّه لم يوجد قط دائرة ولا مثلَّث في الطبيعة فإنَّ الحقائق التي برهن عليها إقليدس ستظلُّ إلى الأبد حافظة على يقينها وبداهتها»

فالرياضيَّات يقينيَّة يقينًا ثابتًا دائمًا رغم أنَّها لا تعود إلى أصل حسِّيٍّ أو واقعة فعليًّا.

أما الوقائع أو علاقات الوقائع فيتسرَّب إليها الشكُّ بصورة أسهل، وقد توقعنا في أوهام ولذلك وجب الانتباه إليها أكثر وتحليلها بشكل أدقَّ وأعمق. وبما أنَّ أغلب الوقائع تعود في النهاية إلى استدلال سببيٍّ يربط بين السبب والنتيجة، فإنَّه من الضروريِّ أن ننظر في طبيعة هذا الاستدلال للتأكُّد من مدى صدقه وقوَّته حتى نتأكَّد من سلامة استنتاجاتنا العقليَّة المتَّصلة بالوقائع الفعليَّة.

وبما أنَّه لا يمكن لنا تجاوُز ما تمنحه لنا حواسُّنا أو ذاكرتنا عن حواسِّنا فإنَّ تحليلنا يجب ألَّا يتجاوز هذا المُعطى لأنَّه الأساس الذي لا يطاله ريب.

يتجلَّى إيمان هيوم والتزامه بالحسِّ كأداة واحدة فاعلة في عمليَّة الإدراك في تصوُّره للسببيَّة ونقده للمقاربات الفلسفيَّة التي سبقته في تاريخ الفلسفة الغربيَّة. ولعلَّ اهتمامه الشديد بنقد السببيَّة يعكس لنا شدَّة تمسُّكه بموقفه في نظريَّة المعرفة الحسِّيَّة، فلا شيء خارج الإدراك الحسِّيّْ. ولأنَّ الأمر على هذه الشاكلة يجب الاكتفاء بما تقدِّمه لنا الحواسُّ في هذا الأمر وعدم إضافة أيِّ أمر آخر لأنَّ أيَّ إضافة مهما كان مصدرها لا ثقة فيها إن لم نقل إنَّها وهميَّة لا قيمة علميَّة لها بل ومشوَّهة لواقعيَّة الحدث والواقعة الطبيعيَّة.

وبالنَّظر العميق والدقيق لما يحدث في الطبيعة، وملاحظة كيفيَّة ظهور الوقائع والأحداث، نرى تعاقُبًا بينها فهمه أنصار الميتافيزيقا بالعلاقة الضروريَّة بين السبب والنتيجة، وهو فهم لا يستقيم حسِّيًّا لأنَّه لا أساس له أي لا يوجد ما يؤكِّده. فما نلاحظه أمامنا لا يتجاوز حدَّ تعاقُب الأحداث واقترانها من دون أن نستطيع تجاوُز ملاحظة الاقتران والتعاقُب إلى القول بأنَّ أحدهما سبب والآخر نتيجة فضلًا عن قولنا بأنَّ الأسباب نفسها يجب أن تؤدِّي إلى النتائج نفسها، وهو المبدأ الأهمُّ في التفكير العلميِّ المعروف بمبدأ الحتميَّة.

فكلُّ ما نلاحظه في عمليَّة الاحتراق مثلًا هو اقتران النار بالاحتراق من دون أن نجد ما يؤكِّد حسِّيًّا أنَّ النار هي سبب الاحتراق، وبما أنَّ الأحداث تتكرَّر فإنَّها ترسخ عادة في أذهاننا أنه كلَّما لاحظنا النار قلنا بوجود الاحتراق، وهي إضافة ذهنيَّة لا أساس حسيًّا لها، ومن هنا يتسرَّب الوهم إلى الذِّهن حسب هيوم، لأننا نضيف إلى الوقائع ما ليس فيها. «إنَّ الأسباب والمفاعيل لا تُكتشف بالعقل وإنَّما بالتجربة»

وأنَّ الاقتران والتكرار يصنعان العادة التي تمنح فكرنا معرفة النتيجة من السبب لا لأنَّ السبب فاعل وإنما لتكرار اقترانهما. «إنَّ كل الاستنتاجات المأخوذة من التجربة إذًا هي من أثر العادة لا من أثر الاستدلال»

. وهذا يعني أنَّ العادة هي المفهوم الجديد الذي سيأخذ محلَّ الاستدلال عند هيوم لأنَّ مفهوم العادة عنده قرين التجربة وتكرارها بينما الاستدلال قرين العقل المجرَّد، وبالتالي فالاستدلال وهميٌّ بينما العادة واقعيَّة تعبِّر عن واقع فعليّْ.ويلخِّص هيوم هذا المعنى في قول واحد: «إنَّ كلَّ مفعول هو حدث مختلف عن سببه. ولا يمكننا بالنتيجة أن نكشف عنه ضمن السبب.

وعندما يعمد الذِّهن أول أمره إلى تصوُّره أو استنباطه قبليًّا فإنَّ ذلك لا يكون إلَّا تحكُّمًا»

. ويتأكَّد إيمان هيوم بفاعليَّة التجربة كأصل أول لجميع تفسيراتنا والقوانين التي ننتهي إليها باستبعاده الصريح لفاعليَّة الرياضيَّات أيضًا رغم إيمانه بيقينها، فالهندسة نفسها رغم دقَّة استدلالاتها تبقى عاجزة عن معالجة هذا الوضع وكليلة عن أن توصلنا إلى معرفة العلل القصوى».

وأنَّ الاستدلالات المجرَّدة تستعمل إمَّا لمساعدة التجربة في الكشف عن هذه القوانين، أو لتحديد تأثيرها في بعض الحالات الخاصَّة حيث يتوقَّف ذلك التأثير عن مدى تدقيق المسافة أو الكمِّيَّة»

جديربالذكر هنا أنَّ هذا المنهج في النظر إلى الواقع الحسِّيِّ يعمِّمه هيوم ليستعمله في المسألة الأخلاقيَّة والمسألة الدينيَّة ليؤكِّد سلامة توجُّهه وصدق اتصاله بالواقع الحسِّيِّ تحصينا للنفس من أيِّ وهم يمكن أن يتسلَّل إليها مثلما هو حاصل عند جميع الفلاسفة الذين يؤلِّفون الكلام والمجلَّدات ويبنون فلسفات ميتافيزيقيَّة لا تتجاوز صحَّتها صحة معاني الكلمات التي لا تحيل إلى أيِّ واقع وهي التي كانت سببًا في تعميق الوهم الفكريِّ الذي ساد قرونًا ولا يزال.

وأنَّ الموقف الريبيَّ المعتدل الذي وضعه هيوم يراه الحلَّ الأمثل لبناء نظريَّة في المعرفة قائمة على أساس متين لا يمكن أن يتسلَّل إليه الوهم. «وأنَّ العادة هي الدليل الأكبر للحياة الإنسانيَّة إذا. فهذا المبدأ وحده هو الذي يجعل تجربتنا مفيدة لنا ويجعلنا نتوقع في المستقبل نسقا من الأحداث مماثلا لتلك التي كانت ظهرت في الماضي أما بدون تأثير العادة فإنَّنا سنكون جاهلين تمامًا لكلِّ واقعة تتجاوز ما هو حاضر مباشرة للذاكرة والحواسّْ»

الواقع الحسِّيِّ ومجالا الأخلاق والدين:

يعمِّم هيوم تحليلاته في مجال الطبيعة الإنسانيَّة وسيكولوجيَّة المعرفة التي لخَّصها في مفهوم الواقع والعادة وينقلها إلى مجالَيْ الأخلاق والدين. ولا شكَّ في أنَّ تخصيصه لمجال الأخلاق مبحثًا خاصًا وكذلك للدين دليل واضح على ذلك.

إذ يبدو كما يقول «أنَّ شغفنا بالفلسفة كشغفنا بالدين معرَّض للمؤاخذة بهذه النقيصة»

وأنَّ النقد الذي وجَّهه إلى نظريَّة المعرفة هو نفسه الذي وجَّهه للأخلاق والدين. ولهذا يطرح السؤال التالي: على أيِّ أساس نقيم أحكامنا الخلقيَّة، أنُقيمها على أساس المنطق العقليِّ أم على أساس الميول الوجدانيَّة؟ هل يكون الحكم على شيء بأنه فضيلة وعلى آخر بأنه رذيلة من قبيل الحكم على شيء بأنَّه مُثبث الأضلاع، أو يكون من قبيل تأمُّلنا للشيء الجميل نختلف في الحكم على جماله باختلاف أذواقنا وطرائق النشأة التي نشأناها؟

وعلى هذا الأساس، يذهب هيوم إلى أن الحكم الأخلاقيَّ لا أساس عقليًّا له وإنما يعود إلى الذوق والعاطفة وذلك لأنَّ الجانب الأخلاقيَّ في الإنسانيِّ قوامه الإرادة والعمل «، ومعنى هذا أنَّ الخير والشر يصحبان مقولتين أساسيَّتين في الطبيعة البشريَّة مفطورتين في تلك الطبيعة فطرة الحواسِّ الأخرى من رؤية وسمع ولمس»
مقولتان مرتبطتان بحالة الشعور بالرضا إزاء الأفعال.
والأمر نفسه في الدين والمسألة الإلهيَّة يرجعها هيوم إلى القاعدة نفسها الخبرة الحسِّيَّة والطبيعة الإنسانيَّة التي لخَّصها في قوله بالعادة.

وعلى أساس هذه القاعدة ناقش الَّلاهوت المسيحيَّ في الأدلَّة التي يقدِّمونها على وجود الله، كما ناقش الفلاسفة أيضًا في المسألة نفسها ليؤكد أمرًا واحدًا هو أنَّه لا يمكن إثبات أيِّ قضيَّة بمثل هذا المنهج وأن استعمال هذه الحجج تسير ضدَّ إثبات الدين ووجود الله لأن لا قدرة للإدراك البشريِّ على فعل ذلك. «لأن الكم والعدد هما الموضوعان الوحيدان للمعرفة والبرهان «

، وإثبات حقيقة الدين أو إثبات وجود الله ليس من القضايا الرياضيَّة أي ليس من القضايا العقليَّة البرهانيَّة. ولعلَّ في محاولة هيوم الدفاع على أبيقور في المدينة الذي ثار على معتقداتها ومن ثم الأخلاقيَّات التي تقوم عليها إثبات من قبله بأنَّ الدين والاعتقاد مرتبطان بالواقع والسياسة أيضًا، وأنَّ الدفاع عن موقف أبيقور للتأكيد على أنَّ عدم اعتقاده بالاعتقادات المدينة ذاتها ليس له من غاية إلَّا سلامة المدينة وأمنها أيضًا عكس ما يدَّعيه أعداؤه، بل ربما الحجج التي يقدِّمها أبيقور أقوى من حجج أعدائه، وكأنَّ هيوم يقحم المسألة الدينيَّة فلسفيًّا في سياقَيْ المعرفة البشريَّة من جهة، والأخلاق والسياسة من جهة أخرى، وينتهي دفاعه عن أبيقور إلى إثبات خطورة حجج الخصوم على الاعتقاد بالوجود الإلهيِّ واليوم الآَّخر.وهي نتيجة مربكة لأنَّ الفلاسفة الذين يسعون لإثبات وجود الله، ويقدِّمون الحجج والبراهين على ذلك، إنَّما يفعلون ذلك دفاعًا عن الدين وتأكيدًا لفكرة وجود الله، بينما يرى هيوم أنَّهم في الحقيقة يثبتون العكس وهم لا يدركون ذلك:

«إن الفلاسفة الدينيِين، إذ لا يعتقدون بتراث أجدادكم ولا بمذهب كهنتكم يطلقون العنان لفضول متسرِّع محاولين أن يروا إلى أيِّ حدٍّ يمكنهم أن يقيموا الدين على مبادئ العقل، وهم بذلك يثيرون الشكوك التي تتولَّد طبيعيًّا من تقصٍّ فطن نفّاذ بدلًا من أن يخمدوها»

إنَّ الذين يثبتون وجود الله حسب هيوم إنما يوقعون الناس في ريبيَّة خطرة، ولتأكيد نظرته يذكِّرنا باعتماد الفلاسفة العقلانيِّين إلى نظريَّتهم العقليَّة في المعرفة والتي أثبت تهافتها، ويذكِّرنا باستعمال هؤلاء الفلاسفة الحجَّة الطبيعيَّة التي تدعونا إلى النظر في الطبيعة ودقَّة صنعتها لينتهي إلى السبب الأول أي وجود الله ويرى اعتمادا على نظريَّته في المعرفة الحسية القائمة على فهم الطبيعة البشريَّة التي تتأسَّس على الخبرة الحسِّيَّة والعادة إلى أنَّ أساس حجج الفلاسفة الدينيِّين خاطئ بالضرورة لأنَّهم يحملون العقل ما لا طاقة له به. وحريٌّ الول أنَّ قوانين الطبيعة تعود إلى أصل تجريبيٍّ خالص، واعتماد البرهان على العلم الطبيعيِّ إضعاف لفكرة وجود الله وليس تأكيدًا لها. وبهذا، فإنَّ الموقف الريبيَّ من وجود الله واليوم الآخر يصير أقوى في هذه الحالة.
إذا كان الأمر على هذا النحو، فإلى أيِّ مجال تنتمي مسألة الوجود الإلهيِّ واليوم الآخر وغيرها من المسائل المتصلة بالدين والكهنوت المسيحي الكاثوليكي الذي كان مسيطرا في ذلك العصر وما هو البديل المناسب لتعويض ضعف حجج الفلاسفة الدينيين.

فما دام الفلاسفة يعتمدون على الحجج العقليَّة النظريَّة أو التأمُّليَّة، أو الحجج القائمة على أساس النظر في النظام الطبيعيِّ فإنَّ حججهم موصلة للريبيَّة ولا تثبت شيئًا، ولهذ يصرُّ هيوم على قوله: «فمن النظام في الصنعة تستدلُّون على أنه يجب أن يوجد تخطيط وتدبير في الصانع. فإن كان لا يمكنكم إسقاط هذه النقطة يتعيّن عليكم أن تسقطوا الخلاصة. وأنتم تدَّعون أنَّكم لا تقيمون الخلاصة على مجال أوسع مما تسوِّغه ظاهرات الطبيعة. تلك هي حقوقكم وآمل أن تسجلوا النتائج»
يحاول هيوم تعميق ما ذهب إليه بمعالجته مسألة أصل الشر في العالم، وما علاقتها بصفات الكمال التي ينسبها الفلاسفة إلى الآلهة، ويرى أنَّ السبب يجب أن يكون دومًا من جنس الأثر، وإذا سلَّمنا بوجود الألهة فكيف نفسِّر وجود الشرِّ اعتمادا على المنهج نفسه والحجة نفسها، أي السبب والمفعول؟.
يلخِّص هيوم موقفه على النحو التالي: إنه يصنِّف المعارف والمجالات والقدرات الطبيعيَّة في الإنسان.
أنَّ الخبرة وحدها هي التي تعلِّمنا طبيعة السبب والأثر وحدودهما، وتجعلنا قادرين على ان نستدلَّ على وجود شيء من وجود آخر. وفي هذا السياق نجد التاريخ والجغرافيا والفلك
السياسة والفلسفة الطبيعيَّة والفيزياء والكيمياء هي العلوم التي تعالج الوقائع العامة.

الإهيَّات أو الَّلاهوت الذي يثبت وجود الله والنفس تتقاسمه مجالات أهمَّها تحليلات الوقائع الجزئيَّة وتحليلات الوقائع العامَّة وتتأسَّس على العقل بقدر ما تستند إلى الخبرة. «ولكن أفضل قاعدة وأصلبها توجد في الإيمان والوحي الإلهيّْ»

الجمال الخلقيُّ والطبيعيُّ من مجالات الذوق والشعور.
ويمكن نختم تحليلنا لفلسفة هيوم المعرفيَّة وما يتَّصل بها من مجالات السياسة والأخلاق والدين، بقول الأخير نفسه: «حين نطوف في المكتبات مزوَّدين بهذه المبادئ، ماذا علينا أن نتلف؟ إذا أخذنا بيدنا أيّ مجلّد بيدنا أي مجلّد في اللَّاهوت أو في الميتافيزيقا المدرسيَّة مثلًا، هل يتضمَّن أيَّ تعليلات تجريديَّة حول الكمِّ والعدد؟ كلَّا. هل يتضمَّن تعليلات تجريبيَّة حول وقائع ووجود؟ كلَّا. إذن إرمِه في النار لأنَّه لا يمكن أن يتضمَّن سوى سفسطات وأوهام»

رؤية نقديَّة لفلسفة هيوم:

هيوم ناقدًا لهيوم:

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

يبدو مشروع هيوم الفلسفيِّ موجَّهًا نحو هدف واحد ووحيد ألا وهو نقد الميتافيزيقا، وسايره الفيلسوف الألماني كانط بعد ذلك في مشروعه النقديّْ. ورغم الاختلاف بين الفلسفتين هيوم وكانط إلَّا أنَّنا يمكن أن نقرَّ بتشابُه في الموقف والاتِّجاه. فالعقلانيَّة النقديَّة الكانطيَّة قامت على أساس الريبيَّة اللطيفة التي أنشأها هيوم وحاول غيجاد حلول للمشاكل والصعوبات التي أثارها نقده لنظريَّة المعرفة العقليَّة والتجريبيَّة معًا من خلال دعوة لمعرفة جغرافيا الذِّهن البشريِّ ومعرفة الطبيعة البشريَّة. وقد استفادت الفلسفة الغربيَّة كثيرًا من هذا المشروع النقديِّ، وواصلت النظر في المسألة لإيجاد حلٍّ لمسألة الاستقراء، وعلاقة الاستنباط بالاستقراء، والعقل الصوريِّ رياضيًّا ومنطقيًّا بالعقل التجريبيِّ في العلوم الطبيعيَّة بمختلف أنواعها. وبقطع النظر عن الحلول التي ساقها الفلاسفة الغربيُّون بعد هيوم، فإنَّ مقاربة هيوم النقديَّة تحمل تناقضًا داخليًا لا يستطيع هيوم تجاوزه أو الخروج عنه. ويتمثل هذا التناقض في طبيعة خطابه الداخليِّ نفسه فهو يصنع خطابًا للإقناع بقوَّة موقفه ووجاهته بمنهج مغاير للمنهج الذي يدافع عنه.
ولتحليل هذا الموقف علينا أن نوضح أمرين: أولهما أنَّ هيوم يرى أن َّالعقل لا يفكّر إلَّا من خلال التجربة والحسِّ، وأنَّه لا حجَّة لمن يطلق العنان للعقل لينتج سفسطة ووهمًا وخداعًا ويعني الميتافيزيقا. فالحجَّة الحسِّيَّة هي اقوى الحجج ولا يوجد سواها. وثانيًا يقرُّ هيوم بصدق العقل الرياضيِّ في منهجه الاستنباطيِّ ويرى أنَّه لا صلة له بالعالم الطبيعيَّة وبالعمليَّات الذهنيَّة التي تريد فهم هذا العالم. ونستنتج من خلال هذين الأمرين أنَّ المنهج إمَّا حسيٌّ تجريبيٍّ أو رياضيٍّ ليكون مقبولًا بعيدًا عن كلِّ وهم وسفسطة. إذا سلَّمنا بأطروحة هيوم هذه وذهبنا معه هذا المذهب لنستتخدمه في تفكيرنا ونطبِّقه في فهمنا للمسائل التي تعترضنا، فإنَّنا سنُضطرُّ إلى نفي الصدق عن مشروع هيوم نفسه. فما كتبه وما تركه لنا من مؤلَّفات في الطبيعة البشريَّة والفاهمة والعواطف والأخلاق والدين والسياسة وغيرها فإنَّنا نجده لا يستعمل منهجه هذا. أي لا نجده يستعمل منهجه التجريبيَّ الذي لا يتجاوز العالم المحسوس ولا يستعمل أيضًا المنهج الرياضيّْ. وإذا كانت الحقيقة تسكن العالم الحسِّيَّ، حسب قوله، وإذا كان المنهج الحقيقيُّ هو المنهج الحسِّيُّ، حسب رأيه، فإنَّ منهج هيوم في جميع كتاباته ومحتواها خالية من جميع شروط الصدق التي عرضها ودافع عنها. فكلُّ قارئ لإنتاجه لا يجد الشرط الحسِّيَّ ولا التجريبيَّ ولا الرياضيَّ وإنَّما يجد تأمُّلات واستنتاجات منطقيَّة ينتقل فيها من فكرة إلى أخرى من دون أن تكون أيُّ فكرة من هذه الأفكار فكرة حسِّيَّة بل جميعها تأمُّلات عقليَّة خالصة لا واقع لها.
إنَّ هذا التناقض والتعارض الذي وقع فيه هيوم طبيعيٌّ جدًا بل ضروريٌّ ولا يستطيع تجاوُزه لأنَّ العبارة القائلة إنَّ الحقيقة تجريبيَّة ليست في الواقع تجريبيَّة وإنَّما هي عقلية مجرَّدة خالصة، ويكون مثَلُه كمَثَل من يقول إن الحقيقة لا تكون إلَّا علميَّة، فنستنتج من هذا أنَّ قوله خطأ إذن لأنه ليس قولًا علميًّا. بهذا تكون العبارة ناسفة لنفسها لما تناقض محتواها. أو من يكتب لنا بأنَّ العبارة الرياضيَّة هي العبارة الصادقة، فنستنتج من هذا أنَّ عبارته هذه ليست صادقة بالضرورة لأنَّها ليست رياضيَّة ومن ثم لا يمكن قبولها.
إن استعمالنا لمحتوى فلسفة هيوم لنقد فلسفته وكتاباته تفضي في النهاية إلى نسف فلسفته من الأساس، فلا أساسَ تجريبيًّا لكلِّ كتاباته، ولا أساسَ رياضيًّا لها أيضا، أي لا يوجد أيُّ مظهر من مظاهر الصدق التي اشترطها في كتابته نفسها. إن هذا المفكر الكاتب المتأمِّل ينسف محتوى فلسفته بنفسه وممارسته لأنَّ منهج كتابته وشروطها تناقض المنهج الذي يدعو إليه وشروطه.

نقديَّة هيوم وريبيَّته:

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

أكَّد هيوم على الطبيعة البشريَّة، وحاول تعيين جغرافيا الذِّهن البشريِّ لتطهيره من الميتافيزيقا والأوهام، كما يزعم، واطمأنَّ موقفه إلى الحواسِّ والخبرة الحسِّيَّة والتجريبيَّة، وشكَّك في فكرة السببيَّة وفي العلاقة الضروريَّة بين السبب والنتيجة، مؤكِّدًا في الوقت نفسه على فكرة العادة، وجعل هذا الأساس هو المرجع الذي يفصل في المسائل إن كانت المسألة قابلة للمعالجة الفعليَّة أم من المسائل الوهميَّة التي لا تحتاج إلى نظر لأنَّ العقل غير مؤهَّل للنظر فيها، وذهبت به قناعته التجريبيَّة إلى التشكيك في الدين والمسائل المتعلِّقة بالألوهيَّة وغيرها. وقد اعتبر الريبيَّ هذا فتحًا جديدًا في الفلسفة الغربيَّة أثَّر على جميع التيَّارات التي أتت بعده بجميع صورها، واستوى في ذلك من ينتمي إلى المدارس العقليَّة أو التجريبيَّة، وعرفت أقصى تأثيراتها في الفلسفات الوضعيَّة وغيرها. إنَّ هذا التوجُّه الجديد في الفلسفة الغربيَّة المتأثِّر بنقديَّة هيوم وريبَّيته جديد فعلًا في الفكر الغربيِّ ولكنه ليس غريبًا في تاريخ الفلسفة. إنَّ جلَّ ما ذهب إليه هيوم تمَّت معالجته في مدارس فلسفيَّة قديمة منذ أرسطو الذي آمن بأنه من فقد حسًّا فقد علمًا، وقال بالاستقراء، وبنى الأرغانون وقواعده، وتحدَّث عن صعوبات المقدِّمات التي يقوم عليها القياس نفسه بما في ذلك القياس البرهانيّْ. ولكنَّ الأهمَّ من كلِّ هذا، أنَّ ما ذهب إليه الإمام الغزاليُّ بنقده للاستقراء في كتابه «معيار العلم» من جهة، وفي نقده لفكرة السببية من جهة أخرى، ونقده لفطريَّة المبادئ العقليَّة من جهة ثالثة، جعله بالفعل يثير المسائل نفسها التي أثارتها ريبيَّة هيوم، إلَّا أنَّه رفض القول بالعلاقة الضروريَّة بين السبب والنتيجة، وقال بالاقتران بينهما وفسَّره بالعادة أيضًا، كما فسَّره هيوم، وهو انتهى في محطة أولى إلى ما انتهى إليه الأخير، وهو نقد الحجج التي تقوم على هذه المبادئ، واعتبرها متهافتة، وبيَّن تهافتها فعلًا في كتابه «تهافت الفلاسفة». إلَّا أن ما قام به الغزالي لم يستطع هيوم إنجازه وهو الخروج من حالة الشكِّ الدائم في الحقيقة واليقين، وحالة الاكتفاء بما تقدِّمه الحواسُّ من أساس تجريبيٍّ لبناء المعرفة. لئن انطلق الغزالي من منطلقات هيوم نفسها، وانتهى إلى النتائج نفسها، فإنَّ هذا العمل النقديَّ لم يكن إلَّا مقدِّمة لإعادة السؤال الفلسفيِّ الأول: ما الإنسان، وما العلم، وما حقيقته، وما أصنافه ودرجاته، وما اليقين، وكيف يمكن الحصول عليه؟ وهو ما فسَّره الغزالي في «المنقذ من الضلال» إجمالًا وحلَّله في بقيَّة مؤلَّفاته مميِّزًا بين العقل الغريزيِّ والعقل المكتَسب، وبين درجات المعرفة الحسِّيَّة والعقليَّة والصوفيَّة الإشراقيَّة.
ليس غرضُنا في هذا السياق عرض أطروحة الغزالي الفلسفيَّة والمعرفيَّة، وموقفه من الحقيقة واليقين، ومنزلة العقل وحدوده، وقيمة المنهج الإشراقيِّ في ذلك ومنزلته، وإنما غرضُنا أن نبيِّن أن هاجس هيوم النقديَّ ليس بالجديد في تاريخ الفلسفة، وأنَّه وإن وقفت معالجته في حدود ريبيَّته الَّلطيفة كما أرادها، فإنَّ الفلاسفة الآخرين قبله وبعده عرفوا كيف يعالجون المسألة نفسها ويتجاوزونها. فمحدوديَّة نظرة هيوم في تفسيره للطبيعة البشريَّة واضحة جليَّة وقد جعلته من جهة لا يرى أيَّ شيء، ومن جهة ثانية يعارضها ولا يلتزم بها لمَّا عرض فلسفته وفسرها كما بيَّنا آنفًا.

الرياضيَّات والطبيعيَّات وإشكال اليقين:

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

اعتقد هيوم في الحقيقة التجريبيَّة والحقيقة الرياضيَّة، من دون سواهما. وما يؤكِّد اعتقاده هذا نجاح العلوم في عصره التي تمثِّلها فيزياء نيوتن وبقيَّة العلماء قبله وبعده الذين جسَّموا الثورة الكوبرنيكيَّة. غير أنَّه لم يدرك قيمة الرياضيَّات في ذاتها بوصفها علمًا صوريًّا يكشف كيفيَّة عمل الذِّهن وكيفيَّة بناء براهينه. ولم يكشف العلاقة الضروريَّة بينها وبين العلوم الطبيعيَّة، فلم نرَ لها أيَّ أثر أو دور في بناء الحقيقة الطبيعيَّة التي أرادها حسِّيَّة. والغريب في الأمر أنَّه لم يتمكَّن من فهم نسق نيوتن الفيزيائيِّ الذي كشف عنه في كتابه الأشهر «المبادئ الرياضيَّة في الفلسفة الطبيعيَّة»، والذي بيَّن فيه الدور الأساس الذي يجب أن تضطلع به الرياضيَّات في بناء علم الطبيعة، فلا يستقيم علم الطبيعة خارج حدود الرياضيَّات، أي كما فهمها هيوم خطًّأ لمَّا فصلها عن الرياضيَّات وجعلها حسِّيَّة تجريبيَّة خالصة. فالعقل الفيزيائيُّ عقلٌ رياضيٌّ أولًا وتجريبيٌّ ثانيًا. وهذا ما أكَّده تاريخ العلم بعد نيوتن وهيوم، فلم تعد التجربة هي القاضي الأعلى للعلم – حسب تعبير غاستون بشلار- وأنَّ الرياضيَّات هي عقل العلم ولغته وشرط نجاح تفسيره وبناء قوانينه. وبهذا نفهم أنَّ ريبيَّة هيوم ليس لها أساسٌ علميٌّ حتى داخل العلوم التي يؤمن بها، بل إنَّ هذه العلوم نفسها دليل تهافت ريبيَّته وشكوكه وكلِّ أُسُس فلسفته ونتائجها.
إنَّ العقلانيَّة العلميَّة هي عقلانيَّة رياضيَّة بالأساس، ولعلَّها أخذت هذه الميزة من كلمة عقلانيَّة نفسها التي تعني في الِّلسان الَّلاتينيِّ الحساب أو العقل الحسابي.
إلى جانب تهافت مشروع هيوم النقديِّ الذي أدخل الفلسفة في توجُّه ريبيٍّ بسبب تناقُضه الداخليِّ وتعارُضه مع منهج العلم وبنيته التي يقرُّ هو نفسه بصحته، يمكن أن نضيف إلى هذا الأمر إشارة أخيرة مهمَّة تتمثَّل بأسلوبه في التفلسف، وهو الأسلوب الذي ناقض فيه محتوى مشروعه وخالفه لأنَّه تفلسفٌ تأمُّليٌّ صرفٌ يربط بين الأفكار، ويبني الاستنتاجات ويركِّبها ويطوِّرها ويدفعها إلى الأمام كلَّما تقدَّمت به الفكرة. وهذا يعني أنَّ العقل الفلسفيَّ ليس العقل التجريبيَّ وإنَّما هو العقل التأمُّليُّ لكونه يملك قدرات فعليَّة على تمكين العقل من كشف حقيقة نفسه وحقيقة فعله، وهذا يؤكِّد لنا أنَّ المنهج التأمُّليَّ منهجٌ مهمٌ جدًا ومناسب للعمليَّة الفلسفيَّة. أمَّا إذا أضفنا إلى هذا العقل التأمُّليِّ البُعد الإيمانيَّ الذي يقرُّ هيوم بأهمِّيَّته في بناء الدين من دون أن نرى له أثرًا في فلسفته، فإنَّنا ننتهي إلى رؤية عقليَّة تأمُّليَّة متسامية يمنحها الإيمان قدراتٍ أخرى تتجاوز حدود العقل الماديِّ أو الخبريِّ والعقل الرياضيِّ معًا. وبهذا تنفتح الفلسفة أمام آفاق أخرى لا يمكن لفلسفة هيوم تصوُّرها.

الكاتب: admin

ذ. بضاض محمد Pr. BADADE Med باحث في:علم النفس،علوم التربية،والعلوم الشرعية. خريج جامعة سيدي محمد بن عبد الله-كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز-فاس خريج جامعة مولاي اسماعيل-كلية الآداب والعلوم الإنسانية-مكناس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *