فلسفة الجمال ومفهومه في فلسفة شوبنهاور(1788-1860)

آرثر شوبنهور (1788 – 1860) فيلسوف ألماني،
معروف بفلسفته التشاؤمية يرى في الحياة شر مطلق فهو يبجل العدم، وقد كتب كتاب (العالم إرادة وتمثل) الذي سطر فيه فلسفته فلذلك تراه يربط بين العلاقة بين الإرادة والعقل فيرى أن العقل أداة بيد الإرادة وتابع لها. في كتاب (تاريخ الفلسفة الحديثة) للفيلسوف الأمريكي (ويليم كيلي رايت)، قام الأخير بسرد فصل يشرح فيه أفكار (شوبنهور) حول علم الجمال أو الاستطيقيا، مستندًا في شرحه على كتاب (شوبنهور) المذكور مسبقًا. يقول (ويليم كيلي رايت) مبتدئًا كلامه:

إن الأفكار، كما رأينا، أزلية، وتقف بين الإرادة من حيث إنها شيء في ذاته والأشياء الفردية المتغيرة التي تتمثل فيها الأفكار. وتظل المعرفة، عادة، خاضعة للإرادة ؛ فنحن لا نعرف إلا لكي ننفذ رغباتنا التي تنبثق من الإرادة. ومثل هذا الخضوع ثابت في حالة الحيوانات. ومع ذلك يستطيع الإنسان في خبرات استاطيقية مختصرة أن يلغي الخضوع للإرادة، ويركز تأمله مباشرة في الأفكار، بغض النظر عن إشباع الرغبات. وعندما يفعل ذلك، يخفي التمييز بالنسبة له بين الذات والموضوع، لأن هذا التمييز لا يوجد إلا في أفراد يتميز بعضهم عن بعض عن طريق مبدأ العلّة الكافية، ولا يتمسك بالأفكار التي تسبق هذا التمييز. ففي العالم فقط من حيث إنه تمثل، أي عالم الموضوعات المدركة، تكون الذات متميزة عن الموضوعات التي تدركها. ومن يصبح مستغرقًا في إدراك الطبيعة التي يفقدها كل إحساس بالفردية، ينتبه إلى معرفة أنه هو والطبيعة أصلًا شيئًا واحدًا.

ثم يقول عن معنى الفن وقيمة الفنان عند (شوبنهور):

إن أحداث العالم، بالنسبة لأي شخص يفهم تلك الحقيقة، ليس لها أهمية إلا من حيث إنها الحروف التي نقرأ بها الأفكار. وهذا النوع من المعرفة، الذي يهتم بالأفكار، التي تكون المضامين الثابتة لكل الأشياء المتغيرة، هو الفن. فهو ينتج من جديد الأفكار الأزلية في وسيط مادي، مثل النحت، والتصوير، والشعر، والموسيقى. والإنسان الذي ينتج الأفكار أو يدركها في عمل من أعمال الفن يكون عبقريًا ؛ لأن أعمال الفن الفعلية هي في الغالب الأعم نسخ غير كاملة من الأفكار، وهي تفتن عبقريًا ذا خيال لكي يقوم بتمييز الفكرة فيها. ويظهر العبقري غالبًا، للناس العاديين القاصرين في التخيل، ولا يدركون موضوعات عادية بينما يرى العبقري فكرة، إنسانًا مجنونًا، وذلك ما يبينه (أفلاطون) في أسطورة الكهف وفي أماكن أخرى، وأشار إليه شعراء كثيرون. وفي حين أن معظمنا ليسوا عباقرة، إلا أن كل إنسان لديه القدرة على المتعة الأستاطيقية يمتلك مقدرة قليلة لإدراك الأفكار التي تكون أساسًا لموضوعات الطبيعة والفن التي ينتجها من جديد.

ثم يتحدث بتفصيل عن عدد من أشكال الفنون، اخترنا لكم بعضًا منها، فنون العمارة مثلًا:

ويوضح فن العمارة، من حيث إنه فن جميل، بعضًا من الأفكار التي تؤلف الدرجات الدنيا من تموضع الإرادة في الثقا والتماسك، والصلابة، والصلادة – الصفات الكلية للحجر، وتجليات الإرادة الأكثر بساطة وإبهامًا. والموضوع الوحيد لجماليات العمارة هو الصراع بين الثقل والصلابة، الذي يكشف عنه الفن بتمييز تام بالنسبة إلى الضوء. واستطاع الفنان المعماري أن ينتج هذه الآثار بحُرّية أكثر في المناخ المعتدل في الهند، ومصر، واليونان، وروما. أما في أوروبا الشمالية فقد قيّد المناخ القاسي حريته، ولابد من تزيين عربات الذخيرة الحربية، والأسطح المحددة، وأبراج العمارة القوطية بزخرفات مستعارة من فن النحت.

يتطرق بعد ذلك إلى فن آخر، وهو الشِعر عند (شوبنهور). يقول:

الشعر هو أعلى الفنون التي تكشف عن الأفكار، الذي يصور الناس في سلسلة مترابطة من مجهوداتهم وأفعالهم. إن الشاعر يصور الخصائص التي لها مغزى ودلالة في أفعال لها مغزى، ويكون أكثر نجاحًا في الكشف الحقيقي عن الأفكار من المؤرخ، الذي يكون مجبرًا على اختيار أشخاص وظروف كما تأتي في علاقاتها المتشابكة والمؤقتة من علل ومعلولات. ولذلك لابد أن ننسب حقيقة داخلية حقيقية بالفعل إلى الشعر أكثر من التاريخ. ويدرك الشاعر في الشعر الغنائي، والأغاني، حالته الداخلية الخاصة ويصفها. […] ويتوارى الشاعر بصورة كبيرة أو قليلة وراء تمثلاته في أنواع أخرى من الشعر، إلى حد ما في القصيدة الروائية، وبصورة كلية في الدراما الشعرية، التي تكون الصورة الأكثر موضوعية، وكمالًا وصعوبة في الشعر. إن الشاعر هو مرآة البشرية، ويجلب إلى وعيها ما تشعر به، وما تفعله.

وبطبيعة (شوبنهور) المتشائمة، فقد تطرق بشكل أكبر إلى التراجيديا، وهي الأعمال الفنية الدرامية المائلة إلى التصوير المأساوي. فيقول عنها:

التراجيديا هي ذروة الفن الشعري، بسبب عظمة تأثيرها، وصعوبة إنجازها. فهي تصور الجانب المرعب من الحياة، تصور الألم الذي يتعذر التعبير عنه، وشكوى البشر، وانتصار الشر، وسقوط البريء العادل. إنها صراع الإرادة مع نفسها، والمعنى الحقيقي للتراجيديا هو أن البطل يُكفِّر، لا عن خطيئته الفردية الخاصة، وإنما عن جريمة الوجود الفردي، وتحطم الإرادة إلى أشخاص منفصلين.

وفي النهاية يذكر الموسيقى كأحد أنواع الفنون:

أما الموسيقى فهي تقف وحدها، مختلفة عن كل الفنون الأخرى. لأن الفنون الأخرى تكشف عن الأفكار، في حين أن الموسيقى تنفذ وراء الأفكار وتكشف عن الإرادة من حيث هي شيء في ذاته. وتصور النغمات المنخفضة، في انسجام الألحان، الدرجات الدنيا لتموضع الإرادة، أي الطبيعة غير العضوية، وضخامة كوكب الأرض، في حين أن النغمات العالية تصور عالم النباتات والحيوانات. وتسير فواصل السلم الموسيقي في موازاة مع درجات التموضع في الطبيعة، أي الأنواع المختلفة.

وأخيرًا يختتم كلماته بالحديث عن المتعة، وعلاقتها بالجمال:

وتمكننا المتعة التي نستقبلها من الجمال بأسره، والعزاء الذي يقدمه لنا الفنان من أن نستغرق لحظة فيما كتب وننسى أنفسنا من حيث أننا أفراد، وننسى كل همومنا الشخصية. وندرك أننا واحد مع الطبيعة بأسرها من حيث إنها تعبير عن الإرادة، وندرك أن كل حياة، وليست حياتنا الخاصة، معاناة تذهب سدى. ويقدم لنا نسيان أنفسنا بهذه الطريقة راحة مؤقتة من الآلام المضنية لرغبات فردية تعي ذاتها.

الفن بالنسبه لشوبنهاور تحرر من الواقع ليعيش حياه متساميه وهذه هي اول قضيه يقول بها شوبنهاور ( الهروب من الواقع)
الفكر الذى يضعها هنا شوبنهاور ان الواقع هو الفن ولكنه لايضعه كما هو بل يقوم بتهذيبه وتعزيزه والتركيز على العواطف والافكار، فهو يوجد واقع متساميا يوازي الواقع الحقيقي، ام ينفي شوبنهاور الواقع من الفن بل قد ارتفع به إلى مستوى أعلى.

يرى شوبنهاور أن سمو الفن يحرر الإنسان من عبوديته، في الفن نجد حريتنا لأن الانسان له مخاوف كثيره مثل الموت…. الخ
وهي تؤثر كفنان وكمتلقى من ناحيه، والأخلاق والتهذيب مثل البخل….
اي ان الفنان يحاول ان يعكس مشاكله بالفن.

*التأمل الجمالي بالنسبه لشوبنهاور حاله واحده لاتنفصل عن التأمل وعن الادراك، لأن الادراك هي عمليه التجربه او العمل الفنى ومن ثم ندخل التأمل الى العمل الفنى والجمالي.

الإدراك في الفن يؤدى الى التأمل والتأمل يؤدى الى حاله من السمو والتعالى عن الواقع.

تعتمد الاشياء الجميله ولكن بشكل متفاوت، الاشياء الجميله قياسا الى ادراكها بالادراك والنوع وبالإراده (الإنسان بلا إراده لاشي)

الجمال عند شوبنهاور

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

الجمال عنده مشروط بالإراده والنوع والفكر وليس مطلق.
الجمال نسبه صفه للعالم عندما نتأمل العالم لذاته وليس لأي سبب اخر.
اي التأمل في ذاته ليس لأي شئ اخر.
اي لانربطه بأسباب اخرى ولكن هذا لايعنى ان نجرد الجمال او التأمل بالإراده والنوع والفكره لأن الغير عاقل او عديم الإراده لايمكنه ان يدرك حتى وجود الله.
مثل: الله جميل لذاته
وليس جميل للعالم

يرى ان الانسان يحاول ان يكمل النقص الموجود في الطبيعه
يربط شوبنهاور بين الأخلاق والفن، مثل ان هناك فرق بين الطيب والشرير، فالشرير في وجهه نظر شوبنهاور هو الشخص الذي يقبع السجين في مقبره مملكه الاوهام اي ان الانسان يبتعد عن الحقيقه “الحق” اي يخلو من التسامى.

والفن من وجهه نظر شوبنهاور منطلق الى القداسه لكن الشعور بالشفقه والرحمه لايتسم بها الا الطيب.
الذي يدرك ماوراء الظواهر فهو متأمل يشفق على الناس الذين يعانون ويسببون المعاناه.

فالطيب فنان في الأساس، هنا شوبنهاور متأثر بإحاديه الكون وتناسخ الأرواح وبالأساطير الهنديه.

التحول من الشر الى الخير عند شوبنهاور مشروط بالتخلى عن الفرديه، الطيب يتسامى على الواقع الظاهري فيدرك ان المحبه والتعاطف فتقل معاناته عندما يتوحد مع العالم ولكي يتوحد مع العالم يخلص نفسه من كل الاشياء السلبيه كالرغبات والهموم الدنيويه ويصبح اقرب الى القديس والإراده هي الأداه لذلك اداه إلقاء رغبات الحياه والجسد.
كانت لشوبنهاور نظره سلبيه وهي انه شرع الإنتحار.
تجاوز الواقع وبنفس الوقت الاحتفاظ بالواقع فهذين الحالتين المتناقضتين لاتحدث الا بالفن.
التامل الخالص في الفن هو ارتفاع سمو فوق كل مانرغب فيه او نخاف منه.

جمال الفن عند شوبنهاور جمال عارض اي جزئى لأن المتأمل للفن لاينتصر كليا على طبيعته.
يجمع شوبنهاور مابين العبقري والمجنون، الشئ المشترك بينهما هو النسيان المؤقت للواقع بينما عند المجنون نسيان مطلق وعند المبدع مؤقت.
ويضع شوبنهاور الموسيقى في قائمه الفن لانها تخلص كامل الشعور لانها خياليه من كل مضمون ملموس او محسوس بعيده عن الواقع.
فأفكاره في الفن والفلسفه تشاؤميه لانه عاش مجموعه من الأزمات الشخصيه ولكنه وجد في عصر رومنسي.
كان شوبنهاور على خلاف مع جيله الذي في عصره وأهمل النظريات الفلسفيه من البعد الأجتماعي وركز على الأخلاق.

سر الجمال لدى أرثر شوبنهاور

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

الفن والفلسفة توأمان لدى شوبنهاور في وظيفتهما الإدراكية لماهية الوجود، إذا كان التفلسف يمارس الوعي بالحياة عن طريق التصورات فإن الفنّ يمارس الوعي بالحياة عن طريق المُثل، وإذا كانت إرادة الحياة ذات طبيعة باطنية عمياء لأنها تندفع بلا سبب وتتحرك دون هدف فإن الفن هو السبيل الوحيد للتحرر من عبثيتها، عالم الحياة هو محل اشتغال الإرادة التي تتجسّد في الصراع الشامل في الطبيعة وتتسبب بانتشار العذابات والآلام، لكن عالم المثل التي يُعيد الفنان اكتشافها عن طريق التأمل فخالٍ من الألم لخلوه من الإرادة، يقول شوبنهاور: “في التأمل الفني يصير الشيء الجزئي صورة نوعه دفعة واحدة، ويستحيل الفرد المتأمل إلى ذات عارفة خالصة”.

في العلم يتم الانطلاق من الكلي من أجل استتباع الجزئي لكن في الفن تكون البداية من الجزئي لمحاولة احتواء الكلي، العلم يتطلب البرهان ويصل لهدفه بالتجربة بينما الفن لا يتطلب سوى الموهبة وعادة ما يصل لمبتغاه بالبصيرة، نسيان الأنا هو شرط المتعة الجمالية إذْ لا تتحقق إلا بالتسامي الذي لا يخدش الإحساس بالجلال مع إجالة النظر في غضبة الطبيعة، ولا يكتمل إلا بالاتصال بين الذات والموضوع ليصبح التأمل في الحقيقة عملا لاإراديا، الجمال يتحقق في أتم صورة وأبهى حلة في النوع الإنساني لأنه يمثل أعلى مراتب تحقق الإرادة في هذا العالم، إعادة اكتشاف المثال الذي تتجسد أشكاله في الطبيعة عن طريق التأمل العميق هو ما يتيح للفنان التعبير عنه بصورة تفوق نظيرها الموجود في الطبيعة.

إذا كان الجمال لدى كانط ينصرف إلى ما تروق لنا صورته وليس إلى ما تروق لنا مادته فإن الشعور بالجمال لدى شوبنهاور “يأتي بواسطة عيان خالص تُدرك فيه الصور المتحققة في الموضوعات المحسوسة”، لذا كان الفن المعماري لدى شوبنهاور هو أدنى درجات الجمال لأنه لا يتجاوز مجرد الانسجام الهندسي، ثم يليه فن النحت والتصوير حيث يميل الأول لتوكيد إرادة الحياة وتحققها في الزمان والمكان بينما يميل الثاني لإنكارها لأنه ينحو لاستخلاص طابع إنساني عام من خلال الفرد باعتبار أن كل إنسان يساهم في مثال الإنسانية.

ثم يليه فن الشعر بوصفه إدراكا للذات من داخلها واستثارةً للخيال بواسطة الكلمات على حد تعبير شوبنهاور، الشعر يستوعب المُثل بكل درجاتها، لذا كانت القصيدة رمزا لتفوق الإنسان الروحي وأهم مظاهر التعبير الجمالي، الشاعر “مرآة الإنسانية” لقدرته على النفاذ إلى سر الوجود وملامسة الجوهر ومغالبة الخواء الداخلي، ثم يليه فن الموسيقى التي يراها شوبنهاور من أوضح تعبيرات الشيء في ذاته الذي لم يعد محجوبا بأشكال أخرى للتكييف المعرفي، وبخلاف حال الفنون الأخرى تبدو الموسيقى من أشد التعبيرات الفنية عن الوجود في وحدته المطلقة، للموسيقى كينونة مستقلة عن العالم وهذا يُكسبها أهمية ميتافيزيقية، خصوصا أن الطابع المتجدد للألحان يشبه الطابع المتجدد للطبيعة من خلال تنوع الأفراد، رؤية شوبنهاور للموسيقى تجسدت في الموسيقار ريتشارد فاغنر الذي وجد فيه نيتشه “فلسفة شوبنهاور وهي حية تسعى على قدمين”.

لقد وضع شوبنهاور قيمة الجمال في أعلى مرتبة ممكنة لأنه كان يتغيا بواسطتها الوصول إلى ما يشبه “الفناء التام” التي تحققه إرادة الفنان، يقول شوبنهاور:” لو استطاع الإنسان، مدفوعاً بقوة العقل أن يطلق الطريق المألوف في رؤية الأشياء… لو توقف عن اعتبار ما في الأشياء من متى وأين ولماذا، وتطلّع إليها ببساطة كما هي فقط، لو حال بين فكره المجرد وفكر التصورات… فترك وعيه في تأمل هادئ للموضوع المتمثل أمامه، منظراً كان أو شجرة أو جبلاً أو بناية … الخ . فلو كان له ذلك لتخلص الموضوع من كل رابط يشدّه إلى غيره، ولتخلصت الذات من كل رابط يشدها إلى الإرادة، وما سندركه حين ذلك لن يكون هذا الشيء الجزئي أو ذلك، وانما هي فكرة الصورة السرمدية، والتمثل المباشر للإرادة في درجة ما، وفي إدراك كهذا يتخلص الإنسان من كل فردية، فيغدو ذاتاً من المعرفة الخالصة وأعلى من الإرادة والألم والزمن

الفيلسوف كارل ياسبرز بين الفلسفة والسياسة

ماذا تعرف عن الفيلسوف الألماني “كارل ياسبرز” ؟ –

كارل ياسبرز (يَسْپَرْز) Karl Jaspers عالم نفس وفيلسوف ألماني، والممثل الأكبر للوجودية[ر] الألمانية بعد مارتين هايدغر [ر]، وإن كان قد رفض هذه التسمية. ولد في أولدنبورغ لعائلة ثرية محافظة متأثرة بالثقافة السياسية التحررية لألمانيا الشمالية، صبغت أفكاره بطابع ديمقراطي تحرري وبنفحة دينية متشددة. تُوفي فِّي بال (سويسرا). حظي برعاية خاصة من ذويه بسبب مرضه منذ الطفولة بالرئتين ثم بنقص التروية. وهذا أثّر بصورة مباشرة في توجهه الفكري نحو العلوم الإنسانية، فاهتم منذ الصغر بالفلسفة، وكان يرهب اتخاذها حرفة في الحياة، فتوجه إلى دراسة علم النفس وطب الأمراض العقلية ، وحاز الدكتوراه من جامعة هايدلبرغ عام 1908، وعيّن أستاذاً لعلم النفس سنة 1916، ثم أستاذاً للفلسفة سنة 1921 في الجامعة نفسها إلى أن أقصته الحكومة النازية عن التدريس في الجامعة بدعوى أن زوجته يهودية، ولم يعد إلى الجامعة إلا بعد انتهاء الحرب سنة 1945.

لم يكن ياسبرز يهتم بالسياسة ولا الأحوال الاجتماعية، بل كان يركز كل تفكيره في البحث العلمي في ميدان العلوم النفسية والأمراض العقلية. وتفادت أعماله النقاشات السياسية، وركزت على الجوانب الفلسفية إلى أن جاءت الحرب العالمية الأولى 1914، فأدرك أهمية المشكلات السياسية والتاريخية والاجتماعية في حياة الإنسان. وأحس بمرارة ذلك ولاسيما بعد أن اشتد الخلاف بينه وبين هايدغر الذي أعلن صراحة دعمه للنازية ـ ثم جاء إيقافه عن التدريس في الجامعة بسبب زوجته ـ وارتباطه بسياسيين وفلاسفة تحرريين أمثال ماكس ڤيبر، فكتب مؤلفه السياسي «الشرط الروحي للعصر» ت(1931)، الذي نشره في السنوات الأخيرة لجمهورية ڤايمار[، ينتقد فيه الديمقراطية البرلمانية، ويعزز انتماءه الفكري لماكس ڤيبر بغرض حفظ النظام السياسي في ألمانيا. ويعلن ـ خلافاً لهايدغرـ معارضته للاشتراكية الوطنية

.كارل ياسبرز بين الفلسفة والسياسة

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

•••
في كتاب «الموقف الروحي للعصر» — الذي ألَّفه ياسبرز عام ١٩٣٠م — يتخذ المؤلف موقف المفكر الناقد للحضارة المعاصرة، ويحاول طوال الكتاب أن يهتدي إلى مكان للإنسان وسط الآلية الشاملة التي أصبحت تحاصر حياتنا من كل جانب. وحين يتحدث ياسبرز عن الحضارة، فهو إنما يعني الحضارة الغربية، أما غير ذلك من الحضارات فلا تهمه في قليل أو كثير، بل إنه في الحالات القليلة التي يتحدث فيها عن الحضارات الشرقية أو الزنجية مثلًا يردِّد تلك الأحكام السطحية المحفوظة المألوفة التي لا تنم عن تعمُّق في الموضوع أو اهتمام به؛ فالعصر كله — في رأيه — عصرُ الغرب، والقيم السائدة في العالم بأسره هي قيمُ الغرب، وفي الغرب سيتقرر مصير الإنسان ويتحدَّد شكل حياته في المستقبل.

وربما كان للمرء أن يلتمس لياسبرز العذرَ في إغفاله كلَّ ما عدا الغرب في الفترة التي ألَّف فيها هذا الكتاب، حين كان الغرب وحدَه هو المحور الذي تدور حوله كلُّ أحداث العالم، ولكن كتابات ياسبرز المتأخرة تكشف عن نفس هذا التجاهل الغريب لأي نمط للحياة غير النمط الغربي، وهي تفعل ذلك في الوقت الذي أصبح الاعتراف فيه عامًّا بالعالم الثالث كقوة لها وزنها في العالم، وكأسلوب في الحياة له نمطه المميز، وفي الوقت الذي ظهرت فيه في الشرق الأقصى على الأقل — أعني في الصين — وكوريا وفيتنام (ومن قبلهما اليابان)، رُوح جديدة سَرَت في شعوبٍ ذات حضارات عريقة، وهي رُوح لا يعود من الصعب معها — لكل مفكر فاحص — أن يتنبأ بالمكان الذي ستبلغ فيه حضارة المستقبل أوجَ ازدهارها.

وعلى أية حال فإن ياسبرز يحدِّد — في مقدمة كتابه هذا — المشكلة التي يسعى إلى مواجهتها، فيقول إن غرور الإنسان المعاصر قد هيَّأ له الاعتقاد بأنه قادر على فهْم العالم بأسره، والسيطرة عليه وفقًا لرغباته، ولكنه سرعان ما يدرك الحدود التي لا يستطيع أن يتعداها، فيتولَّد لديه شعور بالعجز، ومن هنا يأخذ ياسبرز على عاتقه مهمةَ تحليل أسباب هذا الإحساس بالعجز وفقدان الحيلة، وبيان الوسيلة التي يستطيع بها الإنسان أن يسترد ذاته وسط هذا الضياع العام المحيط به من كل جانب.

وحين يحدِّد ياسبرز السمات التي تميِّز العصر الحاضر، يجد أن أهمها هو ذلك التقدُّم التكنولوجي السريع، الذي يخضع للعقلانية الصارمة والحساب الدقيق وقابلية التنبؤ، وهي سمةٌ تباعد بين الإنسان وبين منابع الإحساس والشعور في حياته. كذلك يتسم عصرنا بسيطرة الجماهير، وهو يعني بالجماهير ذلك التجمُّع العفوي العابر المفتقَر إلى التنظيم، الذي يَسهُل التأثير فيه، وينقاد بسهولة للانفعالات، ويميل بطبيعته إلى العنف، ويتشابه أفرادُه ولا يقوم بينهم أي نوع من التمايز، هذه الجماهير أو الدهماء هي المسيطرة على عصرنا الراهن، وهي التي تفرض عليه أذواقها ورغباتها، ويتملَّقها الحكام ويتقرَّب إليها قادة الرأي العام.
ولقد أصبحت حياة الإنسان ذاتها — في عصرنا الحاضر — تُنظَّم على نمط أسلوب العمل في المصانع؛ ففي المصنع يتمُّ كلُّ شيء في موعده، ولا يضيع أي شيء هباءً، ويستحيل أن يكون في جميع عملياته أي عنصر لا يمكن التنبؤ به، بل يخضع كل شيء للحساب الدقيق وللتخطيط المنظم. وهكذا أصبحت حياتنا؛ فلم تَعُد الآلةُ أسلوبًا في الإنتاج فحسب، بل أصبحت أيضًا أسلوبًا في الحياة، أما الوجود الإنساني الحق فقد ضاع وسط هذا التنظيم التكنيكي لحياة الناس.
لقد أصبح العمل اليومي رتيبًا متكررًا مملًّا لا هدف له، «أصبح الإنسان محرومًا من العالَم، إن جاز التعبير»؛ فوجود الإنسان أصبح مجرَّد وظيفة يؤديها للمجتمع ككل، ولكن الوظيفة — مهما اتسع معناها — لا يمكن أن تستوعب الإنسان ككل، من حيث هو شخصية أصيلة متميزة، وهكذا يقوم الصراع بين إرادة تحقيق الذات في الإنسان، وبين التنظيم الشامل الذي تقتضيه الحياة الحديثة.

إن العصر الحاضر يَرُدُّ الوجود البشري كله إلى «العام»، وفيه يفقد الإنسانُ لذة الاستمتاع بالتجارِب الشخصية الفريدة التي لا تتكرر، أما الحياة الخاصة التي يمكن أن تُتاح للإنسان في عالمٍ كهذا فما هي إلا سلسلة من حالات الإثارة والتعب والرغبة في التجديد ثم نسيان الجديد بدوره، وذلك في تعاقُبٍ أشبهَ ما يكون بلقطاتٍ متقطعة في شريط سينمائي يُعرض في سرعة لاهثة.

فهل نجد للفرد مكانًا في مثل هذا العالم الآلي؟ لقد أصبح الفرد قابلًا لأن يُسْتَغْنَى عنه، ويمكن أن يَحُلَّ أي فرد آخرَ محله، ما دامت ماهيته لم تَعُد شخصيته الفريدة المميزة، أو كِيانه الحق الذي لا يُسْتَبْدَل به أحد، بل أصبحت هي الوظيفة التي يؤديها من أجل الكل، في مثل هذا العالم يختفي الأفراد المتميزون، وتصبح السيادة لأوساط الناس، وتَحُل الكفاءة والفعالية — أيْ حُسْن أداء الوظيفة — محلَّ العبقرية.
ولكن هل جلب هذا التنظيم الآلي للحياة الاطمئنانَ للناس حتى الأوساط منهم؟ حسبنا أن نلقي نظرة حولنا؛ لنجد الناسَ أبعد ما يكونون عن راحة البال وهدوء النفس. إن القلق هو الشعور المسيطر على حياة الإنسان في هذا العصر، إنه قلقٌ ينتابه في كل ساعاته، ويحاصره من كل جوانبه، قلق على الحياة، على المركز والعمل، على الصحة؛ «فالوجود كله ليس إلا قلقًا»، والإحساس الغالب على الإنسان هو الإحساس بهُوَّة سحيقة يخشى في كل لحظة من حياته أن تبتلعه.
•••
لست أود أن أستطرد طويلًا في عرض الملامح العامة للصورة القاتمة التي رسمها ياسبرز — في أول الثلاثينيات — للعصر الحاضر، وللإنسان الضائع في عالمٍ لا يكترث به، ولا يحرص إلا على استمرار سير الآلية الشاملة بدقة وانتظام، إنها — على أية حال — صورةٌ مألوفة، انضم بفضلها ياسبرز إلى صفوف أولئك الذين يرون في الحضارة الصناعية شرًّا مستطيرًا يهدِّد الوجود الحق للإنسان بالضياع، أو يفضي به إلى السطحية. وعلى الرغم من أنني لا أريد أن أنساق وراء الرغبة الشديدة في مهاجمة هذا اللون الشائع من ألوان التفكير، فإني أود مع ذلك أن أشير إلى بعض المآخذ التي ينبغي أن ينتبه إليها المرء قبل أن ينزلق مع ياسبرز وأشياعه في طريقة التفكير هذه التي تجمع بين الجاذبية والخطورة في آنٍ واحد.
هذه الطريقة في التفكير تتسم بتجاهلٍ غريب للأمر الواقع، أو بالدخول معه في معركة خاسرة لا تؤدي في نهاية الأمر إلا إلى شعور الإنسان بالعجز والحسرة إزاء عالم موجود بالفعل، ويستحيل إنكار حقيقته، والواقع أن مهمة الفكر الحقيقية ليست في رأيي محاربة هذا الأمر الواقع، الذي يتمثَّل في التقدُّم التكنولوجي والتنظيم العقلاني لحياة الإنسان، بل هي قبوله والترحيب به، والسعي بقدْرِ الإمكان إلى الإفادة منه في تعميق حياة الإنسان الروحية؛ فالتقدُّم التكنولوجي قد وُجِدَ ليبقى، وليس ثمَّة وسيلة لإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، والمفكر الذي يفهم عصره حقًّا هو ذلك الذي يعترف بهذه الحقيقة، ويرتفع بالوجود الإنساني الأصيل إلى مستواها، أما موقف العناد والتحامل على الواقع الذي لا سبيل إلى الرجوع فيه، فهو أشبه بمناطحةِ صخرةٍ نعلم مقدمًا أنها لن تتحطم.
على أن هذا لا يعني أنَّ نقْدَ العصر محرَّمٌ على المفكر الأصيل، أو أن من واجب مثل هذا المفكر أن يقبل عصره بكل جوانبه الإيجابية والسلبية؛ فكل مفكر كبير كان ناقدًا لعصره بمعنًى ما، ولكن هذا النقد ينبغي أن ينصبَّ على الأسباب الحقيقية لنقائص العصر، لا على العصر ذاته ككل، ولا جدالَ في أن أي تفكير موضوعي نزيه في أسباب انهيار الإنسان في هذا العصر، كفيلٌ بأن يوصلنا إلى نتيجةٍ ضرورية هي أن التنظيم التكنولوجي ليس هو الآفة، بل إن هذا التنظيم يمكن أن يكون مصدر خير عميم للبشر، لو عرفنا كيف نستغله لصالح الإنسان.

فمن الممكن أن يكون للتنظيم التكنولوجي تأثيرٌ إيجابيٌّ على حياة الروح ذاتها، وعلى تحقيق الإنسان لوجوده الأصيل، وهو جانب أغفله ياسبرز إغفالًا تامًّا، ولنضربْ لذلك مثلًا واحدًا؛ فبفضل التكنولوجيا استطاع الإنسان أن يُدْخِلَ في بيته روائعَ الأعمال الفنية، كالنُّسَخ الدقيقة للوحات العالمية أو روائع الموسيقى الكلاسيكية، وبذلك أُتيحت لأكبر عدد ممكن من الناس فرصةٌ الاستمتاع بتجارِبَ روحيةٍ عميقة لم تكن متاحة من قبلُ إلا لأقلية محظوظة من البشر، وما هذا إلا مَثَلٌ واحد للتأثير الإيجابي الذي يمكن أن تُحْدِثَه التكنولوجيا في الوجود الإنساني الأصيل. أما ياسبرز فقد أسقط هذا التأثير من حسابه، واكتفى بأن تصوَّر تضادًّا زائفًا بين التنظيم التكنولوجي وبين عمق الوجود الإنساني، وهو تضاد يعكس التقابل التقليدي الحاد بين الروحي والمادي، الذي يبدو أن ياسبرز قد سلَّم به — في هذا المجال على الأقل — دون نقد أو تحليل.

على أن الخطأ الأكبر الذي يقع فيه هذا النمط الفكري الذي مثَّله ياسبرز هو أنه حين يحمل على الحاضر، يفترض ضمنًا أن الماضي كان أفضل منه، دون أن يكون قد توافر لديه من الشواهدِ ما يكفي لإثبات صحة هذه الدعوى؛ فكل نقْدٍ يوجَّه إلى حياة الإنسان الآلية السطحية الرتيبة في العصر الحاضر، يفترض أن الماضي — في جميع عهوده، أو في عهدٍ واحد منه على الأقل — كان يتصف بكلِّ ما يفتقر إليه الحاضر من قدرةٍ على تحقيق إمكانات الشخصية الإنسانية، ومن عنايةٍ بالجانب الروحي لحياة الإنسان، ولكن هل يستطيع المرء أن يحدِّد فترةً معيَّنةً في التاريخ توافرت فيها هذه الصفات بدرجةٍ تكفي لكي نقول مطمئنين، إنها تفوق درجة توافرها في العصر الحاضر؟ في اعتقادي أن الإجابة عن هذا السؤال لا يمكن إلا أن تكون نفيًا قاطعًا.
وأحسب أن أهم أسباب هذا الخطأ هو أنه كلما رجع المرء بفكره إلى الماضي، اختفت من ذهنه التفاصيل، ولم تبقَ إلا المعالم البارزة، وهذه المعالم البارزة ذاتُ طابع إيجابي في أغلب الأحيان؛ فنحن لا نذكر من العصور الماضية إلا ثقافتها وشخصياتها الهامة وتراثها الروحي وآثارها الفنية، أما الحياة اليومية — بما فيها من تعاسة وفقر ومرض ومجاعات وظلم وجهل — فلا يدركها إلا المؤرخ المتخصِّص المتعمق، إذا استطاع. ومن هنا كانت المقارنة بين الحاضر والماضي غيرَ سليمة من حيث المبدأ؛ إذ إننا نتناول من الحاضر تفاصيله وننقدها، على حين أننا لا نأخذ من الماضي إلا معالمه البارزة فلا نجد فيه إلا ما يستحق المدح، وتلك — بلا شك — نظرةٌ رومانتيكية إلى الماضي، تؤدي حتمًا إلى تضاؤل قيمة العصر الحاضر والتحامل عليه إذا ما قُورن بأي عصر سابق.
في عصرنا هذا يحتل العلم مكانة خاصة؛ فهو «إله العصر»، يتصور الإنسان أنه يستطيع عن طريقه أن يجتاز كلَّ ما يصادفه وسيصادفه من عقبات. ولكن العلم — في رأي ياسبرز — لا بُدَّ أن يكون قاصرًا محدودًا، إنه لا يستطيع أن يكتفي بنفسه، بل هو محاط بنوع من «الإيمان» في كل جوانبه؛ فالقوة التي تدفع الإنسان إلى البحث العلمي لا تنتمي إلى مجال العلم ذاته، وإنما هي نوع من الإيمان، والهدف الذي يكتسب الإنسانُ المعرفةَ العلمية من أجله لا يُسْتَمَد من مجال العلم، بل من مجال الإيمان.

وهكذا يمضي ياسبرز في كتابه «الإيمان الفلسفي» في نقد الروح العلمية، فيبيِّن حدودها التي لا تستطيع أن تتعداها، ويؤكد أنها لا تستطيع أن تستوعب كل جوانب الروح الإنسانية، بل هي في حاجةٍ دائمةٍ إلى إيمانٍ يكملها، ولا بأس من أي نقد كهذا حين يكون الهدف منه هو تنبيه العقل العلمي إلى فضيلة التواضع، وإقناعه بأن لحياة الإنسان جوانبَ أخرى لا يستوعبها العلم كلها، ولكن ياسبرز يمضي في هذا النقد إلى حدٍّ يَحُسُّ معه المرء بأنه يتحول تدريجيًّا إلى شخصٍ معادٍ للعلم، وبأنه يسعى عامدًا إلى تضييق رقعة العلم لكي يوسِّع رقعة الإيمان، وبالفعل يخرج المرء من كتابه «الإيمان الفلسفي» هذا — وكذلك من كتابه الذي أشرنا إليه من قبلُ — بانطباعٍ عام هو أن العلم يحاول أن يكون موضوعيًّا ولكنه يعجز عن ذلك؛ لأن القوى التي تتحكم فيه غير موضوعية، ويحاول أن يكون شاملًا ولكنه يعجز عن ذلك؛ لأن الحياة أوسعُ من أن ينتظمها كلها العلم. ومجمل القول أن ياسبرز — في نقده للعقل العلمي — يعطي المرء إحساسًا بأنه ينقد وقد عقد العزم على الهدم لا على البناء.

ولكن الغريب في أمر فيلسوفنا هذا هو أنه حين يصادف فلسفاتٍ من النوع الذي يعاديه، يوجِّه إليها نقده باسم الدفاع عن العلم، ويستعين في ذلك بفهمٍ للعلم مضاد لذلك الذي عرضه صراحةً في كتبه التي أشرنا إليها؛ ففي كتيِّب بعنوان «العقل واللاعقل في عصرنا» — وهو كتيِّب ينتمي إلى فترةِ ما بعد الحرب العالمية الثانية — يوجِّه ياسبرز هجومه إلى اتجاهين فلسفيين يرى كلًّا منهما مفتقرًا إلى «الموضوعية» العلمية، ومرتكزًا على إيمانٍ متنكِّر في ثوب العلم والمعرفة، هذان الاتجاهان هما الماركسية والتحليل النفسي، اللذان يقعان في خطأ الارتفاع بمعرفةٍ محدودة إلى مرتبة العلم الكلي المطلق.

فكلُّ علم محدود بطبيعته، ولا يمكن أن يكون مطلقًا، وتعبير «العلم الشامل» تناقضٌ في الألفاظ؛ إذ إن الفلسفة وحدَها هي التي تستطيع أن تصل إلى تكوينٍ مركَّب شامل للمعرفة، أما العلم فهو نوعٌ من المنهجية المنظَّمة التي تعلِّمنا كيف نكتشف هذا الموضوع المحدَّد أو ذاك، هذا الفهم للعلم يعصمنا من خطأ الارتفاع بمستوى المطلق الذي نعرفه مقدمًا ونوجِّه أبحاثنا نحوه، وهو الخطأ الذي يقع فيه كل اتجاه فكري يستخدم العلمَ أداةً للوصول إلى معرفة شاملة بالعالم أو بالتاريخ أو بالحضارة الإنسانية، كما هي الحال في التحليل النفسي أو الماركسية.
على أن العلم نفسه لا يكتفي بذاته، ونحن أنفسنا لا نكتفي به بل نحاول تجاوُزَ حدوده، والوصول إلى الحقيقة في كليتها، لا إلى موضوعات في العالم يستطيع العلم أن ينتقل من الواحد منها إلى الآخر إلى غير حد؛ فنحن نبحث دائمًا من وراء العلم عما هو «أكثر» من العلم، ولكن المشكلة هي: هل نبحث عن هذا «الأكثر» بالعقل أم باللاعقل؟ إن الكثيرين قد اتخذوا من «اللاعقل» وسيلةً لإكمال ما يعجز عنه العلم، وقد اتخذ هذا اللاعقل — في رأي ياسبرز — أشكالًا متباينة؛ فهو قد اتخذ طابعًا شاعريًّا عند نيتشه أو علميًّا عند ماركس، وفي كلتا الحالتين نجد المفكِّر أشبهَ بالساحر الذي يخلب ألباب الناس ويجمع حوله أنصارًا كثيرين، ولكنه لا يبذل جهدًا كبيرًا في إقناع العقول، ويلجأ في سبيل نشر دعوته إلى نفس الوسيلة على الدوام، وهي تقديم نظرة كلية شاملة إلى الأشياء، يكون هو ذاته مركزها ومحورها.
ولكن هل يحق لياسبرز — في ضوء نظرته المعروفة إلى العلم — أن يوجِّه إلى خصومه نقدًا كهذا؟ إن هذا النقد يفترض مقدمًا إيمانًا بالعلم يتجاوز بكثير نطاقَ الثقة المحدودة التي كان ياسبرز يوليها للعلم طَوال تفكيره الفلسفي، وعلى حين أن ارتكاز العلم على الإيمان كان في نظره على الدوام جزءًا من ماهية العلم ذاته، فإنه يصبح الآن مظهرًا من مظاهر ضَعف الروح العلمية وافتقارها إلى الموضوعية، وهكذا يبدو أن ياسبرز حين يواجه خصومًا ينسبون إلى تفكيرهم صفة العلمية يلجأ في محاربته لهم إلى تأكيد موضوعية العلم ومنهجيته الدقيقة، أما حين يقارن بين مجال العلم ومجال الإيمان فإنه عندئذٍ يميل إلى تضييق نطاق العلم وتأكيد عجزه عن تحقيق ما يدعيه لنفسه من أهداف، والموقف الثاني — على أية حال — هو الذي يغلب على تفكير ياسبرز.
•••
مثل هذا الاتجاه الفكري، ومثل هذا الموقف من العلم ومن التكنولوجيا ومن التقدُّم الحضاري بوجه عام، يوحي بأننا إزاء فيلسوف يغلب على تفكيره النزعة المحافظة؛ ذلك لأن أنصار التجديد والتغيير هم — في أغلب الأحيان — مؤمنون بالعلم وبقدرته على بسط سلطانه إلى كل الآفاق، وهم لا يقبلون أن يجعلوا من فلسفتهم أداةً لتكبيل العلم وتضييق نطاقه، وحتى لو كانوا على يقين من أن العلم في مرحلته الراهنة عاجزٌ في مجالات كثيرة، فإنهم يميلون إلى جانب التفاؤل، ويؤمنون بأن المستقبل كفيل بأن يمنح العلم القدرة على إثبات وجوده في المجالات التي يقف أمامها اليوم عاجزًا، فلو حكمنا على ياسبرز بناءً على فلسفته النظرية وحدَها؛ لكان من المحتم أن نستنتج أن فكره يسير في الاتجاه المحافظ.
على أن ياسبرز ذاته قد كفانا مئونة الاستنتاج، وأعرب في كثير من المواضع (ولا سيما في الفترة الثانية من تفكيره، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية) عن اتجاهاته السياسية على نحوٍ لا لبس فيه ولا غموض، فإذا بها اتجاهاتٌ تندرج قطعًا ضمن الفئة التي يُطْلَق عليها في المصطلح السياسي اسم اليمين المتطرف.
ولسنا نود أن نتحدَّث عن كتابه الذي أثار ضجة كبيرة، وهو «القنبلة الذرية ومستقبل البشرية»؛ إذ إن هذا الموضوع قد عُولج في بلادنا بما فيه الكفاية، بل إن هناك كتابًا آخرَ يلقي على آرائه السياسية ضوءًا ساطعًا، ويعرض اتجاهاته إزاء صراع القوى في عالمنا المعاصر بما لا يحتاج إلى مزيد من الوضوح، ذلك هو كتاب «الحرية وإعادة التوحيد» الذي يتناول المشكلة الألمانية، والذي يُعَدُّ من أواخر ما كتب.

كان ياسبرز قد أدلى بحديثٍ تليفزيوني مع صحفي ألماني اسمه «تيلو كوخ »، وأثار هذا الحديث ضجة كبرى نظرًا إلى ما تضمنه من آراءٍ غير مألوفة عن المشكلة الألمانية، فكتب ياسبرز بضع مقالات في مجلة Die Zeit الألمانية عام ١٩٦٠م لكي يبرر الآراء التي عرضها في هذا الحديث، وهذه المقالات — بالإضافة إلى الحديث الأصلي — هي التي تؤلِّف مادة هذا الكتاب.

ومنذ صفحات الكتاب الأولى نجد ياسبرز يقسِّم العالم إلى كتلتين: كتلة المذهب الشمولي، الذي يفتقر إلى الحرية، والكتلة الغربية التي هي في رأيه الكتلة الحرة بالمعنى الصحيح، الأولى عدوانية تقدِّم إلى الجماهير الغفيرة وعودًا لا تحقِّقها، والثانية حاملة لواء الحرية والكرامة الإنسانية.
والموضوع المباشر الذي يتصدَّى له ياسبرز هو موضوع إعادة توحيد ألمانيا؛ فهو يرى أن من واجب ألمانيا الغربية أن تتخلَّى عن فكرة إعادة التوحيد، وأن تتنازل عن إعادة ألمانيا إلى حدودها التي اكتسبتها منذ أيام بسمارك؛ لأن تلك — على أية حال — حدودٌ حديثة نسبيًّا، لا ترجع إلى أكثرَ من سبعين عامًا (قبيل الحرب العالمية الثانية)، والمشكلة الكبرى في رأيه ليست إعادة التوحيد بل «الحرية»؛ فعلى الألمان أن يركِّزوا جهودهم على تحقيق الحرية لإخوانهم في الشرق، أما محاولة ضمهم إليهم مرة أخرى فهي هدف يستحيل تحقيقه في ظروف العالم الراهنة.
إن ياسبرز ينظر إلى ألمانيا الشرقية لا على أنها دولة، بل على أنها «إقليمٌ اعتدَت على استقلاله سلطةٌ أجنبية»، ثم يتساءل: «كيف يمكن إنقاذ إخواننا في الشرق من العبودية؟ أليس هناك طريق سوى إعادة التوحيد؟» إن هذا الطريق يؤدي إلى ظهور النزعات الوطنية المتطرفة التي عانت منها ألمانيا في أيام هتلر؛ ولذلك يَرُدُّ ياسبرز بقوله: «إن الوحدة التي تهمنا اليوم هي الوحدة الكونفدرالية لأوروبا، ووحدة أوروبا مع أمريكا» (ص٢٥ من الترجمة الفرنسية).
وفي رأي ياسبرز أن الوضع الحالي في ألمانيا، وإن كان قد ترتَّب على الحرب، فإنه لا يمكن أن يتغيَّر بالحرب؛ لأن القنبلة الذرية ستقضي عندئذٍ على الجميع (ومعنى ذلك أنه لو لم تكن هناك قنبلة ذرية، لكان من الجائز أن يدعو ياسبرز إلى تغيُّر هذا الوضع بالحرب!) إن وضع التقسيم هذا هو الجزاء الذي استحقه الألمان نتيجة لتعاونهم مع هتلر، وعلى الألمان أن يتحملوا مسئوليتهم من ذلك، ولا يحاولوا إعادة دولة بسمارك، وإلا تسببوا في فناء البشرية، كما كانوا منذ عام ١٩٣٣م سببًا في تعاستها.
وفي هذا الصَّدد ينبغي أن نعود إلى الرأي الذي عرضه ياسبرز في كتابٍ آخرَ ظهر بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، هو «الذنب الألماني». في هذا الكتاب يفرِّق ياسبرز بين مفهومين رئيسيين متعلقين بفكرة الذنب؛ فهناك الخطأ الأخلاقي والجريمة من جهة، والمسئولية السياسية من جهةٍ أخرى، أما الخطأ الأخلاقي فلا يمكن أن يُنْسَبَ إلا إلى عدد قليل من الألمان، والجريمة بالذات لم يقترفها إلا عدد قليل جدًّا منهم! وأما المسئولية السياسية فشيء يختلف عن ذلك كلَّ الاختلاف، «فمَنْ كان يعيش في بلد، ولم يهاجر بحيث لا يعود متضامنًا مع الدولة، ومَنْ لم يتصدَّ لمنع الجريمة في هذا البلد مسئولٌ سياسيًّا، ويجب أن يتحمل تبعات مسئوليته مع المذنبين الآخرين.» وإذن فعلى الألمان أن يتحملوا انقسامهم بوصفه نتيجةً ضرورية لمسئوليتهم السياسية عن العهد النازي.
فإعادة التوحيد إذن مطلبٌ ثانوي نسبي، أما الحرية فهي المطلب المطلق، وإذا لم يكن ثمَّة مفر من الاختيار بين الأمرين، فإن للحرية الأولوية دون أدنى شك، ومع ذلك فإن الألمان في رأي ياسبرز يحتاجون إلى مران طويل على الحرية؛ لأنهم اعتادوا الاستبداد وأيدوه طويلًا، وقد أورد ياسبرز في كتابه نصَّ محادثةٍ عجيبة دارت بينه وبين أحد المسئولين الأمريكيين، سأله فيها هذا الأخير عن رأيه في إدخال نظام برلماني في ألمانيا بعد الحرب مباشرة، فكان من رأي ياسبرز أن الحرية ينبغي أن تُمْنَحَ بالتدريج لشعبٍ لا يقدِّرها ولم يعتدْها بعدُ، وأن الحرية المفاجئة قد تؤدي إلى هدم بذور الحرية الأولى في نفس هذا الشعب، بينما كان رد الأمريكي (الذي وجدها فرصةً لا تُعَوَّض) هو أن الأمريكيين لا يستطيعون الانتظار طويلًا في منح الحرية؛ لأن هذا «ضد مبادئهم» (ص١٠٣–١٠٥).
ويلخِّص ياسبرز موقفه في هذا الصدد فيقول: «لو تعاونَّا دون قيد أو شرط مع الغرب بأكمله — تحت السيطرة الفعلية لأمريكا — لأمكننا أن نضمن الحرية السياسية الداخلية، وأن نضمن كذلك أمنًا نسبيًّا، هو الوحيد المتاح لنا في الموقف العالمي الراهن؛ فالحد من سيادتنا هو شرط بقائنا، وهو وحدَه الذي يحمينا من روسيا، وكذلك من القوى التي تفجَّرت داخلنا أيام حكم هتلر» (ص١١١). ومن هنا كان ياسبرز يعارض الأصوات التي دعت — من بين صفوف اليمين ذاته — إلى وقوف أوروبا ضد أمريكا، أو استقلالها عنها مثل ديجول، ويتخذ من أديناور في تهالكه على أمريكا مثلًا أعلى له.
والحق أن الضجة التي أثارتها آراء ياسبرز هذه إنما تدل على أنه برغم خضوعه الذليل للغرب ولأمريكا بالذات، التي يؤكد أنها هي مصدر نعمة ألمانيا الغربية («أننا في ألمانيا الغربية أحرارٌ بفضل كرم المنتصرين لا بفضلنا نحن»)؛ برغم هذا كله، لم يستطِع أن يحظى باحترام مواطنيه أنفسهم، حتى لقد علَّق مراسل إحدى الصحف على آرائه بقوله: «لقد أطلق كارل ياسبرز في مقابلته التليفزيونية قوى المعارضة الساخطة من الأحزاب والمنظمات السياسية والجرائد اليومية في الجمهورية الاتحادية، والواقع أن خروشوف نفسه لم ينجح أبدًا في أن يثير ضده مظاهرة إجماعية كهذه!»
تلك المقارنة بينه وبين خروشوف — الخصم الأكبر لألمانيا الغربية في ذلك الحين — ليست مجرد مبالغة كلامية، بل هي تحمل دلالة ضمنية عميقة، هي الفرق بين الاحترام الذي يلقاه الخصم العنيد المتمسك بموقفه، والازدراء الذي يقابل به النصير حين يكون متهالكًا متداعيًا، «ملكيًّا أكثر من الملك». ألم يصل حقد ياسبرز إلى حد التفكير في أمورٍ لا تجلب عليه سوى السخرية والازدراء؟ لقد أعرب مثلًا عن خوفه من أن تؤدي قلة الأيدي العاملة في ألمانيا الشرقية (التي يسميها دائمًا بالمنطقة المحتلة أو ما شابه ذلك من الأسماء) إلى قيام الروس بجلب عدة ملايين من الصينيين للعمل فيها، فيكون في ذلك أيضًا حلٌّ لمشكلة زيادة السكان في الصين (ص١٢٩).
•••
إن مشكلة ياسبرز الكبرى في هذا الصدد هي أنه — برغم كل قدراته الفكرية التحليلية — لم يحاول لحظة واحدة أن يتوقَّف ليسائل نفسه عن معنى «الحرية» السائدة في العالم الغربي، ولم يبذل أي جهد لتحليل هذا المفهوم، وهو الذي كتب من الصفحات ألوفًا مؤلفة في تحليلِ مفاهيمَ أقلَّ أهميةً بكثير من هذا المفهوم الحيوي. حقًّا إنه حلَّل معنى الحرية في مواضعَ أخرى، ولا سيما في كتابه الأكبر «الفلسفة»، ولكن ما كان يعنيه عندئذٍ كان الحرية الوجودية، التي هي جزءٌ من كِيان الإنسان، لا الحرية السياسية أو الاجتماعية التي يكتسبها بعض الناس ويفقدها البعض الآخر، والتي يحتاج بلوغها إلى جهد وكفاح.
ولم يحاول ياسبرز أن يتجاوز نطاق الحرية الشكلية الظاهرية في العالم الغربي لينفذ إلى العوامل الخفية المعقَّدة التي تتحكم في تشكيل الرأي العام الغربي دون وعي منه، بحيث يبدو هذا الرأي العام معبرًا عن نفسه وهو في حقيقة الأمر يردد آراء القوى الخفية التي تتحكم في الصحافة والإذاعة ووسائط التعبير المختلفة، عن طريق الإعلان والسيطرة المالية والإدارية.
لم يحاول ياسبرز أن يقارن بين حرية الغرب المزعومة داخل بلاده، وبين استعباده للشعوب المستعمرَة، واستنزافه لموارد الشعوب شبه المستعمرة، ولم يرتفع له صوتٌ يندِّد بهذا النوع من العبودية والاسترقاق، بل إن بكاءه كله لم ينصب إلا على «مواطنيه في الشرق»!
لم يحاول ياسبرز أن يفكِّر بعمق في معنى تلك الحرية التي تكون حصيلتها النهائية هي شن الحروب وإحاقة الكوارث بالشعوب. وإنصافًا له أقول إنه تنبَّه في أحد مواضع كتابه إلى الفارق بين الديمقراطية الشكلية والديمقراطية الحقيقية، وكان ذلك في صدد الحديث عن تلك الأغلبية التي اقترعت في ألمانيا لصالح هتلر، فقال: «عندما تقوم أغلبية بهدم الحرية ذاتها، وتجعل شخصًا خارجًا عن القانون يفعل ما يحلو له، لا تعود تلك الأغلبية ديمقراطية.» وهذا رأي صحيح كلُّ الصحة، ولو طبقناه على تلك الأغلبية التي اقترعت لصالح جونسون؛ لأصبح الكلام متسقًا كلَّ الاتِّساق، ولانطبق بدقةٍ على موقف الناخب الأمريكي الذي يظن نفسه «حرًّا» إزاء سفاح فيتنام، ومنكر الحقوق المشروعة للفلسطينيين، ولكن ياسبرز — للأسف البالغ — لم يقُم بهذا التطبيق.
وعلى أية حال فقد عاش ياسبرز ليشهد أعنفَ مراحل حرب فيتنام وأكثرها وحشية، ولم يرتفع له صوتٌ باستنكارها، وكذلك عاش ياسبرز ليشهد أبشع فصول المأساة الفلسطينية، ولكن هذه — على أية حال — قصة أخرى؛ فقد كانت زوجته يهودية، وكان لها عليه — فيما يبدو — سلطان غير قليل.
•••
إنني لعلى يقين من أن الكثيرين من قراء هذه المقال سوف يحتجون بصمت لأني حاسبت ياسبرز فيه على آرائه السياسية في الوقت الذي كانت رسالته فيه — طوال الجزء الأكبر من حياته الفكرية — فلسفيةً قبل كل شيء، على أن ياسبرز ذاته كفيلٌ بالرد على هذا الاحتجاج؛ إذ هو يدافع بقوةٍ عن تدخل الفلسفة في السياسة، مؤكدًا أن الفيلسوف قد لا ينجح في أمور السياسة اليومية التفصيلية، ولكنه قادر على أن يلقي ضوءًا ساطعًا على السياسة البعيدة المدى، والاتجاهات العامة لشئون الحكم، وهو يرفض بشدة الرأي الذي يتهم الفلسفة بأنها خيالية واهمة، تشيد قصورًا في الهواء، ويدافع عن حق الفيلسوف في أن يتدخل في الأمور السياسية، بل يؤكد أن من واجب الفلسفة أن تواجه الواقع وتتغلغل في صميم الحياة (ص١٨، ١٩).
ولقد أكد ياسبرز — في مستهل الحديث التليفزيوني الذي أشرت إليه من قبلُ — أن الفلاسفة كانوا على الدوام يُبْدُون آراءهم في السياسة، وأن هذا يَصدُق على أعظم الفلاسفة في التاريخ، مثل «كانْت» وهيجل ونيتشه (ومن قبلهم أفلاطون بالطبع)، ولنستمعْ إليه وهو يقول: «لقد بَدَتْ لي الفلسفة منذ شبابي شيئًا مختلفًا كلَّ الاختلاف عن مجرد قراءة كتب بديعة أو البقاء بمعزل عن العالم؛ فهي — على عكس ذلك — بدت لي شيئًا يرشدني ويبعث فيَّ القوة عن طريق فهْم الواقع الحاضر لعالمي ولذاتي … ففي الوقت الحالي — وبالنسبة لي على الأقل — يبدو لي من الواضح أن الأرستقراطية (الفكرية) أصبحت اليوم عتيقة بالية، وأن الإنسان الذي يفكر ويريد أن يفعل شيئًا ينبغي له أن يسير في الطرقات إن جاز هذا التعبير، وأن الفلسفة يجب أن تُثبِت — من الآن فصاعدًا — أنها قادرة على الاهتداء إلى الصيغ أو بعث المشاعر الدافقة التي يمكنها أن تنتشر بين الناس» (ص١٩٥-٦).
ذلك هو رأي ياسبرز في العلاقة بين الفلسفة والسياسة، فهل يمكن أن تكون النتيجة الوحيدة التي توصَّل إليها فلسفة «تسير في الطرقات» هي أن الغرب — بزعامة أمريكا — هو وحدَه حامي حمى الحرية في العالم المعاصر؟ هل هذه هي الصيغة التي يمكن حقًّا أن «تنتشر بين الناس»؟ ذلك — على أية حال — هو المدى الذي بلغه تفكير ياسبرز السياسي.

المطلق ومفهومه عند الفيلسوف هيغل

المثالية المطلقة هي أفكار هيغل و فريدريش شيلينغ ، وهما فلاسفة ألمان من رواد الفلسفة المثالية من القرن 19، وجوزايا رويس، وهو فيلسوف أمريكي، وآخرون لكن في الأساس هي من بنات أفكار هيغل”.
أطلق هيغل في نهاية المطاف مفهوم أنه يمكن فهم الوجود ككل شمولي مطلق. أكد هيغل أن الوجود العاقل (العقل أو الوعي) ليكون قادرا على معرفة الوجود (العالم) في كل شيء، يجب أن يكون هناك هوية للفكر و للوجود. وإلا فإن هذا العاقل لن يستطيع الوصول إلى الكائن و لا إلى اليقين في معرفة العالم. ولملاحظة الفروقات بين الفكر والوجود، وثرائهما وتنوعهما لا يمكن التعبير عن وحدتهما بأنهما الهوية المتجردة مثل القول إن “أ=أ”. المثالية المطلقة هي محاولة لإثبات هذه الوحدة باستخدام مبادئ واساليب تأملية فلسفية جديدة الذي يتطلب مفاهيم وقواعد منطق جديدة.
وفقا لهيغل فإن أرضية الوجود المطلق هو كونه أساسا ديناميكي العملية التاريخية الضرورة التي تتكشف من تلقاء نفسه في شكل من أشكال معقدة على نحو متزايد من الوعي التي تؤدي في نهاية المطاف إلى كل هذا التنوع في العالم و في المفاهيم التي تفسر منطقيا هذا العالم. كانت المثالية المطلقة المبدأ السائد في القرن التاسع عشر في كل من إنجلترا و ألمانيا، في حين كان له تأثيرا أقل في الولايات المتحدة. ينبغي التفريق بين مباديء الشخص المثالي المطلق وبين الذاتية المثالية التي تادت بها جماعة بيركلي وبين المثالية التجاوزية لكانط، أو بين المثالية المتعالية لفيشت ا لشيلينغ في أعماله المبكرة.

الفلسفة الهيغلية

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

الفلسفة الهيجلية هي رفض لكل علو، وهي محاولة إنشاء فلسفة محكمة في حدود وجود متضمن في ذاته لا تنفصل عنه، ليس هناك عالم آخر، وليس هناك شيء في ذاته، وليس هناك علو..ومن هنا “فليس الإنسان هو الذي يقول الوجود قولاً سديداً، كثيراً، أو قليلاً، إنما الوجود هو الذي يعبر عن ذاته في الإنسان قولاً )

  • هربرت ماركوز –

يرتكب العديد من شراح فلسفة هيغل و نقادها خطأ جسيما حين يستخدمون مصطلح (المطلق) الهيجلي كمفهوم مرادف في المعنى والدلالة للمفهوم الله في فلسفته .
و لعلنا نجد في عنوان بحثنا هذا تفسيرا موجزا للتفريق بين المفهومين من حيث ان مصطلح ( المطلق) في فلسفة هيجل يمثل على نحو قاطع محاولة منطقية وفلسفية عميقة لانقاذ مفهوم الله من التصور الديني اليهودي – المسيحي له باستبدال هذا المفهوم بتصور خاص وجديد هو ( المطلق ).
حيث كان هيجل (لا يتوانى في كل موضع من مؤلفاته عن إقامة التفرقة الواضحة بين روحه المطلق و إله مذهب الالوهية الديني … و مما يدعو للسخرية حقا أن معظم اتباعه نسوا هذا التمييز الاساسي بين الله والمطلق الهيجلي … فليس الله أكثر من نسخة دينية غير متكافئة مع المطلق ) كما يقول كولينز في كتابه الله في الفلسفة الغربية – ص 282- 329.
ومن أجل أن نوضح معنى مفهوم المطلق في فلسفة هيجل، لابد لنا من الاطلاع عن كثب على التفاصيل التالية .

تاريخ المصطلح:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

في معجم مصطلحات هيجل، نقرأ: إن الكلمة الألمانية الدالة على المطلق تكون صفة وظرفا في آن معا، وتستخدم تقريبا بالطريقة نفسها التي تستخدم بها كلمة “مطلق ” الانجليزية- وهي مشتقة من الكلمة اللاتينية التي تعني: طليق، منفصل، كامل.
وهو بذلك يعني : لايعتمد على، وليس مشروطا بـ، ولا هو بالنسبة إلى، أو مقيدا بأي شيء آخر، فهو ما يشمل ذاته، الكامل والمكتمل.
أما عن تاريخ هذا المصطلح وأول استخدام له، فيخبرنا المعجم نفسه، أن نيقولا دي كوزا، وهو لاهوتي ألماني عاش بين (1401- 1464) هو أول من استخدم هذا المصطلح كـ(إسم) في كتابه (الجهل الحكيم) عام 1440، للاشارة به إلى “الله” بوصفه الموجود غير المشروط بشيء، ولا المحدود بشيء ولايمكن مقارنته بشيء آخر.
ثم استخدم الفلاسفة الألمان بعد كانط بانتظام مصطلح المطلق للاشارة إلى الحقيقة النهائية غير المشروطة وقد يكون لهذه الحقيقة السمات التي ترتبط عادة بالله.

خصائص المطلق الهيجلي

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

أما عن خصائص المصطلح لدى هيجل وخصوصية استخدامه، فان لها ما يميزها على نحو فريد من كل ما تم لنا بيانه في ذلك العرض، وعلى النحو الاتي :
أولاً: المطلق بوصفه تجليا (التفصيل الأول)

يقول آنوود مفصلا على نحو دقيق خصائص (مطلق) هيجل:
إن نظرية المطلق تفترض ثلاثة أنواع من الكائنات:
1- المطلق.

2- عالم الظاهر “الصخور، والأشجار، والحيوانات.. الخ”.
3- المعرفة البشرية برقم “1” و “2” والعلاقة بينهما.(

إن معاينة وتحليلا دقيقا لمكونات نظرية المطلق الهيجلي، تسفر عما يأتي:

أ- إن النظرية- عند حدّها هذا- تفترض وجود كائنات ثلاثة، هي المطلق أولا، ثم المجموع الكامل المؤلـّف للطبيعة: الصخور بدلالتها على الجماد من الأشياء، والأشجار بدلالتها على الكائنات النباتية، والحيوانات بدلالتها على الكائنات الحية التي يقع الإنسان بضمنها.
ب- لا تشير النظرية – عند هذا الحد – إلى أي نوع من العلاقة بين المطلق والطبيعة، بمفردهما، إنما تشير إلى العلاقة بينهما حسب، من خلال طرف ثالث هو المعرفة البشرية بهما، أي المعرفة البشرية بعلاقة المطلق بالطبيعة “بمكوناتها الثلاث آنفة الذكر”.
ومعنى هذا أن المعرفة البشرية، وهي العنصر الذي يكشف عن هذه العلاقة، يدخل في صميم تركيب بنية المطلق، من حيث انه هو الذي يضفي هذه العلاقة على المطلق والطبيعة، فـ ” الوجود يعقل نفسه ويقول نفسه، وهذا يعني انه هو نفسه يملك نفسه ويقول نفسه في الإنسان الذي هو ترجمانه”.

وأن “اللسان البشري هو لوغوس التجربة المعاشة، بل يمكن القول انه لوغوس الوجود وتجليه تجلياً كلياً”.

ولما كانت “المعرفة البشرية” خاصة بالإنسان وحده، من جهة، وكان الإنسان، من جهة أخرى، مُدرجاً بحسب فرضية النظرية ضمن الرقم “2” أي ضمن الطبيعة، ومستقلا ضمن الرقم “3”, فان مهمته ودوره سيتمثل هنا بعملية الربط بين المطلق والطبيعة من خلال المعرفة البشرية المرتبطة بهما على نحو جوهري.
بعبارة أخرى توضّح القصد كله من هذه الفقرة، إن هيجل يبتدئ نظريته في المطلق، بالربط بين المعرفة (الإنسانية)، والوجود، وجود المطلق، ووجود الطبيعة، بل انه يوقفُ أهمية العلاقة بين الإطراف الثلاثة كلها على هذه المعرفة نفسها.
ومن الضروري جدا، أن نشير هنا، وعلى أن تبقى هذه الإشارة نفسها حاضرة على الدوام في أذهاننا خلال مسيرتنا لفهم مطلق هيجل ,أن “الكلي أو المطلق، هو فكر، ونوع الوجود الذي يمكن أن ينسب له، هو الوجود المنطقي”.

فهو إذن وجود فكري محض، في رتبة العلة أو المقدمة المنطقية التي ستصدر عنها نتائجها، الطبيعة والروح الإنساني بوصفهما فكرا أيضا.
ثم نشير من بعد “إن الفلسفة المثالية حين تقول إن الحقيقة النهائية عبارة عن فكر، فإنها لا تعني بذلك الفكر بمعناه المألوف أي الفكر الذاتي أو العمليات النفسية كما يحدث في ذهن فرد من الأفراد… ولكننا نقصد العقل أو الروح الموضوعي الحقيقي.. والروح التي نتحدث عنها, هي نسق من الفكر الكلي الذي تتألف منه الحقيقة، فهي ليست روحا جزئيا، كروحي أو روحك، وإنما هي العقل الأول الذي صدر عنه الكون كله”.

ومعنى هذا أولا “إن العالم الذي سنتحدث عنه يعتمد على الفكر وهو نتيجة للفكر، بل هو فكر وهو فكر موضوعي لا ذاتي”.

لكن “وعلى الرغم من أن العقل الموضوعي هو الذي نبحث عنه، فان هذا العقل الموضوعي مع ذلك، متحد مع عقلنا الذاتي، فليس ثمة إلاّ عقل واحد، فينا وفي العالم”.

ومعناه من بعد, أن المطلق الذي نبحث فيه “هو روح كلي، روح مجرد، انه العقل المؤثر في العالم، وهذا القول هو جوهر النظرية اللاهوتية عن التدبير الإلهي أو حكم الله للعالم، لكن هذا العقل يؤثر في العالم، لا خارجه، انه العلة في الأشياء، أو هو علة الأشياء، ولكنه ليس علة مفارقة خارجية عن الأشياء، توجد منفصلة عنها، كما يوجد العقل البشري منفصلا عن الأشياء التي يدركها”.

نحن إذن نتحرك في وسط فكري ونبحث في علاقة بين إطراف ثلاثة، يؤلف الفكر ماهيتها جميعا، فالمطلق فكر، والطبيعة فكر موضوعي، ونحن فكر ذاتي غير منفصل عنهما ومهمته هي تعيين العلاقة بين هذه الإطراف الفكرية الثلاثة.
ولئن بدا هنا، أن ثمة توحيدا بين الفكر والوجود، فمثل هذه المسألة هي إحدى الحقائق التي سعى هيجل إلى إثباتها بكل وسائله الفلسفية، والمنطقية العاملة

، ولذا فإننا سنتعامل مع هذه الحقيقة هنا – حقيقة وحدة الفكر والوجود- بوصفها بالنسبة لنا، مسلّمة، قناعةً منا بتلك الوسائل والحجج والبراهين التي ساقها هيجل لإثبات هذه المسألة، ولأن إثبات هذه المسألة عبر تفصيلاتها الأساسية ليست هي مهمة بحثنا الأولى هاهنا.
سنقول إن ربط المعرفة البشرية بالمطلق، بوصفها معرفة المطلق بنفسه، من خلال العقل الإنساني ذاته، يعدّ إحدى الدعامات الأساسية في مذهب هيجل كله، من حيث انه يرى، – كما سنبين ذلك – إن المعرفة الحقيقية للإنسان بالمطلق، أولا، وبأشياء الطبيعة من بعد، لا يمكن أن تصدر من الإنسان نفسه، أي انطلاقا منه حسب، لان هذه المعرفة بالمطلق، هي جزء من تجلي المطلق نفسه.

  • المطلق بوصفه تجليا ( التفصيل الثاني)

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

“المطلق وحده “1”، لا يمكن أن يكون هو المطلق، ما لم يتجلَ في صورة “2” و”3″.
إن تجلي المطلق هو وحده الذي يجعل منه مطلقا، أو أن “1” هو وحده التطور إذا ظلت جميع العوامل والعناصر الأخرى بغير تعديل: فرخ الضفدع لابدّ أن يصبح ضفدعا بالفعل وذلك يستوجب منا تصنيفها على انه فرخ الضفدع”.

وكذلك المطلق “1” يعتمد على تجلياته بقدر ما تعتمد تجلياته عليه، وهكذا فان “1” وحدها، مادامت تعتمد على “2” و “3” ليست هي المطلق.. لان المطلق هو بالأحرى “1”، “2”، “3” معاً”.

تشير النقطة هذه إلى خصيصة جوهرية لمطلق هيجل، من حيث أنها تنظر إليه، بوصفه تجلياً، إلى كل من الطبيعة والمعرفة الإنسانية. إنها تضع في الحقيقة شرطا صارما لاكتسابه حقيقة كونه مطلقا، وهذا الشرط هو على وجه التحديد، قدرته على التجلي إلى كل من الطبيعة، والمعرفة البشرية، فما لم يتجل المطلق إلى هاتين اللحظتين منه، فلا يمكن أن يُعدّ مطلقاً.

أما عن نوع هذا التجلي , فان العبارة تحدده بدقة متناهية إذ تقول: يتجلى في “صورة” “2” و “3” أي في صورة الطبيعة والمعرفة، ووجه الأهمية والدقة في العبارة هو:

إن صورة المطلق هذا نفسها، هي التي تتحول إلى صورتي الطبيعة والمعرفة، الأمر الذي يعني بعبارة أخرى: ان الطبيعة والمعرفة، هما صورتا المطلق في لحظة متقدمة من حركته، أو أن المطلق، هو كل من الطبيعة والمعرفة البشرية، في لحظات متطورة من تجليه “فإذا وضع المطلق عموما نفسه في صورة الوجود الخارجي وجب أن يضع نفسه, أي يمثل، في ثنائية الصورة لان الظهور والانقسام ليسا إلا شيئا واحدا”.

بعبارة توضح القصد كله، إن هذا المطلق، ليس ساكنا أو متعالياً، معزولا عن الطبيعة والإنسان، انه متحرك باتجاههما, ولما كانا معاً في حقيقتيهما ليسا سوى صورتين له، فان المطلق هنا لا يتحرك باتجاه شيء مغاير له في الطبيعة الجوهرية، أو يتحرك باتجاه شيء خارجي بالنسبة له، إنما يتحرك في الحقيقة باتجاه نفسه، أو بعبارة هيجلية “إن الحقيقة الواقعية هي عبارة عن عقل مطلق يفضّ نفسه في العالم”.

أي في كل من الطبيعة والمعرفة البشرية، اللذين هما من نفس طبيعته، من حيث كونهما تجلياً له، وهكذا، إذا نظرنا إلى المطلق، بوصفه الأصل والكل، من جهة، ونظرنا إلى الطبيعة والإنسان، بكل ما فيهما من كثرة وتنوع- بوصفهما تجلياً له، أمكن القول كنتيجة وخلاصة لذلك، أن “الكل واحد” وليست العبارة هذه “الكل واحد” مقحمة في سياق بحثنا، من اجل غايات توافقية، إذ “إن كل شيء يجري وكأن المقولة الوحيدة الفريدة، مقولة المطلق- والمطلق يعني هنا وحدة الكل- تتنوع وتنمو هي نفسها حتى تستنفذ غناها، أنها دوما المقولة نفسها- والفكر المطلق في الوجود نفسه، الذي ينمو ويتحدد حتى اللحظة التي يستطيع فيها أن يسوّغ نقطة انطلاقه”.

وما يريده هيجل هنا هو أن “يبين أن الواقع ليس تجليَ مطلقٍ يكون متميزا عنه، بل أن التجلي لا يُظهر إلا نفسه، انه ما يظهره إلى نفسه ولنفسه”.

وهكذا يمكن لنا أن نفهم، من خلال النصين أن هذه المقولة – في أعلى تجريد لمقولات هيجل كلها – هي مقولة “الكل واحد” من حيث كونها المحرك الداخلي الذي يتحكم في صيرورة المطلق كلها.
يقول هيجل بهذا الصدد “إن اهتمام العقل البشري الوحيد، هو في أن يرفع التناقض..”.

وعملية تحقيق هذا الهدف تسمى لدى هيجل “الفلسفة النظرية”، “أي النظر إلى الكل في واحد”.

في حقيقة الأمر أن هذه الفقرة تقول شيئا آخر مفاده: إن تجلي المطلق هو وحده الذي يجعل منه مطلقا, أو انه هو وحده التطور, إذا ظلت جميع العوامل والعناصر الأخرى بغير تعديل. ووجه الأهمية في هذه العبارة، وثقل معناها مستمد من مفردة “وحدهُ” التي تعيّن المضمون كله. من حيث أنها ترهن فاعلية التجلي وتنسبها إليه وحدهُ كخصيصة جوهرية، لن يكون (مطلقا) بعطله عنها، وهذه المزية تخص طبيعته وحدها، دون شمول الإطراف الأخرى بها، بمعنى انه “وحده” هو الحقيقي، وان ما يتجلى ويصدر عنه وما يتحول هو إلى صورته “الطبيعة والإنسان” لا حقيقة لهما مستقلة عنه، ولايمكن النظر إليهما بوصفها عناصر مستقلة حقيقية قائمة بنفسها، أو تستمد حقيقتها على نحو كامل من نفسها.

فـ”الطبيعة ليست كاملة، وليست مستقلة، إنها لا توجد في، ومن اجل نفسها، أنها على العكس من ذلك، تتمثل حقيقتها في أن تصبح مجرد شيئا”

ذلك لأن “الله هو الجوهر المطلق، هو الحقيقة الواقعية الوحيدة وكل ما سواه، مما هو حقيقي، ليس حقيقيا في ذاته انه لا يمتلك وجوداً حقيقياً لنفسه، إن الحقيقة المطلقة الوحيدة هي الله، وبذلك فهو الجوهر المطلق.”

والله ” وحده هو الانسجام التام بين الفكرة الشاملة والواقع، أما جميع الأشياء المتناهية فهي تحمل جانبا باطلا غير حقيقي فهي لها فكرة شاملة ووجود فعلي، غير أن وجودها لا يفي بمتطلبات الفكرة الشاملة، وهي لهذا السبب لابد ان تفنى”.

“الحق هوالكل”.

إذن،
و”الكلي هو الوجود الماهوي والحقيقي والموضوعي للأشياء”.

و”الله ليس مدينا بوجوده لشيء آخر، ومن ثم فهو حقيقي، لكن العالم مدين بوجوده لله، الذي منحه هذا الوجود، ومن ثم فهذا العالم عبارة عن ظاهر”.

وهذه الفكرة نفسها نجدها لدى الهنود إذ أنهم “لا يعتقدون ان الله خلق العالم كله دفعة واحدة، ثم تركه لنفسه، بل يرون ان العالم ليس خلقا لله وإنما هو تجل له ومعنى ذلك ان العالم في كل لحظة من لحظات وجوده يعتمد اعتمادا تاما على الله، وبدونه لابد ان ينهار ولذلك فان من الطبيعي ان ينظر العقل الهندي إلى العالم على انه عبارة عن ظاهر أو مايا أي وهم”.

لذا “فان تجلي المطلق” هو حقيقته الخاصة به وحده، حتى وان “ظلت جميع العوامل والعناصر الأخرى بغير تعديل” لان التجلي لا يصدر عنها، ولا تسهم في فعله، كـ”تجل” بأي مقدار، ان فعل التجلي هو فاعلية المطلق، على نحو مطلق، وهو خصيصته الجوهرية التي بامتلاكه لها يصبح مطلقا تماما، مثلما “ان فرخ الضفدع لابد ان يصبح ضفدعاً بالفعل، لكي يستوجب تصنيفها على انه فرخ الضفدع”.

بعبارة “أرسطية – هيجلية” ان الطبيعة والمعرفة البشرية، عنصران موجودان “بالقوة” حسب أرسطو و”ضمنا” حسب هيجل- في رحم المطلق، وان تحققهما “بالفعل”، حسب أرسطو و”علنا” حسب هيجل- واعتمادا على فاعلية المطلق وحده بوصفها تجلياً، هو الذي يكسبهما لحظة التحقق الفعلي لهما هذه.
من المهم الإشارة هنا، إلى ان هذا التجلي الذي هو خصيصة أصيلة للمطلق، هو حركة باتجاهين متداخلين، أحداهما، انطولوجية الطابع، والأخرى ابستمولوجية، الأولى هي تجلي الأشياء كلها- والإنسان بضمنها، كموجودات، تجليا انطولوجيا. والثانية تجلي المعرفة ابتداء من اللوغوس باتجاه الإنسان، ومثل هذا التجلي هو الأكثر أهمية ومنزلة في مذهب هيجل، ولذا فانه يضع حقيقة أخرى لمطلقه غاية في الأهمية- لأن عملية الكشف عن علاقة التجلي كلها بأطرافها جميعا رهينة به وحده- حقيقة يمكن تسميتها على نحو كلي، التجلي المعرفي للمطلق،أو المعرفة البشرية بوصفها تجليا للمطلق وعنصرا جوهريا من عناصره، مهمته، الكشف عن لحظات تجلي المطلق كلها، وصولا إلى تحققه الكلي الكامل في الواقع الإنساني.
المطلق إذن، هو الأصل وهو العلة وهو الكلي وما يؤلف وحده حقيقة الأشياء التي يتجلى إليها، انه ماهيتها الحقيقية وهو الفكر الداخلي الذي يتحكم بصيرورتها وموقعها من عملية الوجود كله.

  • المطلق بوصفه تجلّيا (التفصيل الثالث)

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

بالرجوع إلى آنوود، وبغية إدراك المعنى الكامل لخصائص مطلق هيجل نقرأ في الفقرة نفسها، :”كذلك المطلق “1” يعتمد على تجلياته بقدر ما تعتمد تجلياته عليه، وهكذا فأن “1” وحدها، مادامت تعتمد على “2” و “3” ليست هي المطلق، لأن المطلق هو بالأحرى “1” و “2” و “3” معا “.
إذا كان القسم الأعظم من مضمون فقرة التجلي يولي اهتمامه وعنايته بعنصر المطلق مؤكداً على أهميته الخاصة في العلاقة مع العناصر الأخرى في النظام ذاته، فإننا نشهد في عبارة “وكذلك المطلق يعتمد على تجلياته بقدر ما تعتمد تجلياته عليه ” تحولاً معرفيا يُظهر هذه المرة أهمية العناصر الأخرى (الإنسان والطبيعة) في مقدار تحقيق المطلق لذاته، ولعلنا نجد التعبير الأمثل لهذه الأهمية متمثلا بقول هيجل ” إن الله من دون العالم ليس الله”.

وفي حقيقة الأمر ان مضمون هذه الأهمية جوهري هو الآخر، بل انه يدخل في صميم علاقة التصور الهيجلي للمطلق، وقد افرد هيجل في مؤلفاته كافة حيزاً خاصاً بهذا القدر أو ذاك لتأكيد مضمون هذه الحقيقة التي تأخذ عنده أشكالا معرفية ووجودية شتى، سواء في تفسيراته الدينية اللاهوتية لمفهوم المطلق، أو التفسير الفلسفي له على حد سواء.
فـ “هذا المطلق لا يوجد في ما وراء الموجود، ولكن بمقدار ماهو أصل له يجعل هذا الموجود ينبثق منه، وبقدر ماهو هوية أصلية يعطي أولاً لكل وجود، الوحدة التي تضم الأضداد والمطلق من حيث انه وحده يكون حاضرا في كل تغاير الموجود”.

والعقل “لا يكون كل الواقع في ذاته، إلا لأنه يصير هذا الواقع، أو بالأحرى يبرهن على انه كذلك”.

ذلك لان “الفلسفة الهيجلية هي رفض لكل علو، وهي محاولة إنشاء فلسفة محكمة في حدود وجود متضمن في ذاته لا تنفصل عنه، ليس هناك عالم آخر، وليس هناك شيء في ذاته، وليس هناك علو”.

ومن هنا “فليس الإنسان هو الذي يقول الوجود قولاً سديداً، كثيراً، أو قليلاً، إنما الوجود هو الذي يعبر عن ذاته في الإنسان قولاً”.

لذا فان “كمال هذا الكل البسيط كمالا فعليا، إنما يقوم في تلك الأشكال المختلفة والصور المنوعة التي أصبحت لحظات له”.

  • المطلق بوصفه تجليا ابستيمولوجيا (التفصيل الرابع)

☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆

يقول آنوود، “المطلق بالمعنى رقم “1” ليس هو المطلق أو غير المشروط ابستمولوجياً “معرفياً” فمعرفتنا به ليست مباشرة، وغير مشروطة، على نحو ما تقول به نظرة الحدس العقلي عند شلنج، وإنما هي تتضمن عملية طويلة من البحث من جانب الفرد والبشرية ككل في آن واحد، ولا يمكن للمطلق ان يظل ساكنا وبسيطا، بل لابد ان يعكس تطور معرفتنا به “3” مادامت هذه المعرفة هي “بموجب المعنى 3 فيما سبق” لا تتمايز عن المطلق – وإنما هي اعلي شكل له.

من المهم ان نقول هنا – إنصافا لهيجل- ان مجموعة الخصائص الفريدة هذه التي ينسبها إلى مطلقه، ليست وليدة انبثاق فكري مفاجئ أو تأمل عقلي معزول أدى إليها، إذ أنها في حقيقتها نتائج لصراع نقدي عميق لم يتورع هيجل في خضمّه عن توجيه اقسي عبارات التقريع والنقد لخصومه من الفلاسفة السابقين عليه، ديكارت وياكوبي وشلنج وسواهم.

فأفكار هيجل ورفضه القاطع لان تكون وسيلة التعرف على “الله” حدسية مباشرة- وهذا هو مضمون القسم الأول من فقرة أنوود – هو في حقيقته جهد نقدي مضنٍ وصراع فكري خاضه مع خصومه في هذه المسألة من أجل ان يتم النظر إلى المطلق – وهذا هو مضمون القسم الثاني من فقرة أنوود- بوصفه “عملية طويلة من البحث من جانب الفرد والبشرية في آن واحد” من حيث ان هذه المعرفة- وهذه هي النقطة الأكثر أهمية- ليست على وجه الدقة “معرفتنا” نحن إنما هي في حقيقتها العميقة، انعكاس لتطور المطلق نفسه، يتم النظر خلاله إلى هذه المعرفة، بوصفها “اعلي شكل له”.

يقول هيجل بهذا الصدد “ان الفلسفة تنظر إلى العقل بوصفه ذلك الجزء من الروح الإنساني الذي يكشف الله فيه عن نفسه، والمعرفة في صيغتها المباشرة لا تذهب ابعد من القول بأننا نعرف ان الله موجود، ولكنها لا تعرف ماهو، ما محتواه، ان المعنى الكامل لفكرة الله مجهول، ولسنا نعني بالمعرفة الفلسفية، ان الموضوع موجود حسب- إنما نعرف أيضا ماهو عليه.. ان الله لا يمثل أمامنا بوصفه موضوعا للمعرفة إنما علاقة مع الله، علاقتنا به هي الموضوع”.

ومن هنا “فإن مسار التاريخ لا يمثل بكل بساطة- عملية أو صيرورة يأتي بواسطتها الإنسان إلى وعي الله والعالم، إنما هي أيضا صيرورة يأتي عن طريقها الله إلى الوعي لإدراك نفسه”.

ولأننا نعقد أهمية بالغة في فهم احد جوانب فلسفة هيجل انطلاقا من هذه العلاقة، أجد من المفيد هنا ان نوجز الأفكار الأساسية التي يفنّد هيجل من خلالها إمكان القول بمعرفة حدسية أو مباشرة لله، وهو الرأي الذي ذهب إليه كل من ديكارت وياكوبي، حيث حدد الأخير المعرفة بأنها تعني “معرفة المتناهي وحده، فهي عملية ينتقل فيها الفكر من شرط إلى شرط في سلسلة طويلة, كل حلقة من حلقاتها شرط ومشروط في آن معا، والوصول إلى الفكرة الشاملة لشيء ما، وتفسير هذا الشيء، يعني طبقا لهذه الوجهة، ان نبين انه مشتق من شيء آخر، وبالتالي فان ما تقدمت به هذه المعرفة، أياً كان نوعه، فهو متميز جزئي متناه يعتمد على شيء آخر، أما اللامتناهي أو الحق، اعني الله، فهو يقع خارج نطاق الارتباطات الميكانيكية الآلية التي قيل ان المعرفة تنحصر بها”.

ومن هنا فقد أيّد ياكوبي بقوة، النظرية التي تقول ان الحقيقة توجد أمام الروح وحدها، كما أعلن انه بالعقل وحده يحيا الإنسان، وهذا العقل هو معرفة الله، لكن مادامت المعرفة المشتقة “أو المتوسطة” محصورة في نطاق الوقائع المتناهية فحسب، فان العقل هو معرفة غير مشتقة أو غير متوسطة: انه الإيمان.

وتعتمد هذه المعرفة المباشرة، على ان تعرّف: اللامتناهي والأزلي والله الذي نعتقد انه موجود بالفعل، أو قل أنها تؤكد انه يوجد في وعينا ارتباط مباشر لا ينفصم يربط بين هذه الفكرة، وبين اليقين بوجوده بالفعل.

أما ديكارت فقد كان المبدأ الذي أعلنه)أنا أفكر إذن أنا موجود( يمثل “حقيقة مباشرة أو واضحة بذاتها”.

فقد كانت فلسفته “تتقدم من هذه المسلمات غير المبرهنة التي تفترض انه لا يمكن البرهنة عليها”.

وهكذا يفنّد هيجل المزاعم الفلسفية لكل من ياكوبي وديكارت، عبر ملاحظات نقدية متعددة, أهمها “ان المعرفة المباشرة بالله لا تسير أبعد من القول بأن الله موجود، أما ان تقول لنا ماهو؟ فذلك فعل له أفعال الإدراك يتطلب توسطاً”.

وتبدو خطورة الركون إلى المعرفة المباشرة وسيلة للتعرف إلى الله متمثلة لدى هيجل بقوله “ان المعرفة المباشرة، تجعل الكلي مجرد تجريد خارجي للجزئيات وتجعل من الله وجوداً بغير صفة معينة، لكن الله لا يمكن ان يسمى روحا إلا إذا عُرف على انه البداية والنهاية والوسيلة في آن معاً في عملية التوسط، وبغير هذا التوحيد للعناصر فانه لن يكون عينياً، ولا حياً، ولا روحاً، ومن هنا فان معرفة الله على انه روح تتضمن بالضرورة توسطاً”.

فضلا عن ذلك وهذه هي الحجة الأكثر عمقا وإقناعا ان صورة المباشرة “تضفي على الجزئي طابع الاستقلال أو الوجود القائم بذاته – غير ان هذه الصفات أنفسها تناقض ماهية الجزئي الذي من خاصيته نفسها انه يشير إلى شيء آخر خارجه، فهذه الصفات بهذا الشكل تضفي على المتناهي طابع المطلق.

إننا حين ندرك ان المضمون – أو الجزئي لا يقوم بذاته – بل هو مشتق من شيء آخر عندئذ فقط يتضح لنا تناهيه وعدم حقيقته في ضوئها الصحيح، ومثل هذا الإدراك، الذي يتبين فيه ان المضمون يحمل معه أساس طبيعته المفتقرة إلى شيء آخر، هو معرفة تتضمن توسطا، والمضمون الوحيد الذي يقال عنه انه حقيقة، هو مضمون لا يتوسطه شيء آخر، ولا تحده أشياء أخرى، أو بعبارة أخرى انه المضمون الذي يتوسط نفسه حيث يلتقي التوسط والمباشرة على صعيد واحد”.

وهكذا يخلص هيجل إلى القول: “انه ليس صحيحاً ان هناك معرفة مباشرة- اعني معرفة بدون توسط، أما بواسطة شيء آخر، أو بواسطة الشيء نفسه”.

ولذا فان علينا ان نرفض التعارض والمقابلة بين المباشرة المستقلة في مضامين ووقائع الوعي، وبين التوسط المستقل أيضا والذي يفترض عدم اتفاقه مع المباشرة، فعدم الاتفاق هذا هو افتراض محض وزعم تعسفي، إذ ان جميع المزاعم والمسلمات الأولى ينبغي ان نخلفها وراءنا عند مدخل الفلسفة سواء أكانت مستمدة من العقل أم من الخيال، ذلك لان الفلسفة هي العلم الذي يجب ان تخضع فيه أمثال هذه القضايا للتدقيق كما يخضع معناها وأضدادها للتثبت”.( 44)
الخصيصة الثانية للمطلق الهيجلي – كما تفصلها الفقرة الثانية – ترتبط على نحو مباشر بالخصيصة التي سبق لآنوود أن ذكرها, وبجمع الفقرتين معاً، نحصل على ما يأتي:

لا يمكن لمعرفتنا بالمطلق ان تكون حدسية مباشرة لان هذا النوع من المعرفة يبقي المطلق ساكنا وبسيطا، لذا فلا بد للمطلق ان يعكس تطور معرفتنا به، مادامت هذه المعرفة، لا تتمايز منه، أولا، ومادامت هي ممثلة لأعلى شكل له.

المعرفة المباشرة تجعل من المطلق “شيئا يكمن خلف الظواهر” وتجعل منه ساكنا غير متطور، وغير قادر على التجلي لا في مستويات عليا من الطبيعة ولا في تقدم المعرفة البشرية عبر التاريخ.

ولأن المطلق بالنسبة لهيجل، أو كما يريده هو لغايةٍ بالغة الندرة والخصوصية، متحرك، ومتجل، ولان معرفتنا به هي جزء من صيرورته وتجليه، الصيرورة العقلية التي تتجلى في عقول الفلاسفة جميعا وصولا إلى فلسفة هيجل، بوصفها آخر وأكمل فلسفة تصل إليها صيرورة المطلق.

لكل ذلك، يرفض هيجل المعرفة المباشرة بالمطلق، كما يرفض سكونه، وعطله عن التجلي، لان النظر إليه بهذه المواصفات الخاصة، يحرم هيجل ويحول دون تحقيقه لغاية مذهبه كلها، وهي، ان فلسفته هو بالتحديد، هي اللحظة النهائية التي يبلغ فيها المطلق كمال تحققه الفعلي الواقعي وعيانيته وامتلاءه.

ثانياً : المطلق بوصفه تمزقاً أصيلا

☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆

يعيّن هيجل خلال عدد من مؤلفاته “المطلق” أو “الروح” بوصفه تمزقا جوهرياً، ولكي نفهم هذه الخصيصة يتعين علينا النظر في النصوص المعرّفة الآتية:

أ‌- “لا تكون قوة الروح عظيمة إلا بمقدار التعبير عنها، كما يعتمد أو يتوقف عمقها على جرأتها في الانتشار خارج نفسها وضياع نفسها في هذا الانتشار”.

ب‌- ان “حياة الروح ليست هي تلك الحياة التي تفزع أمام الموت وتصون نفسها من الدمار، وإنما هي بالأحرى الحياة التي تتحمل الموت وتدعم نفسها من خلاله، ولا تظفر الروح بحقيقتها إلا عندما تجد نفسها في تمزق تام- ان الروح لا تكون هذه القوة إلا من خلال مواجهتها للسلبي وتوقفها عنده.”

ج‌- “ليس المطلق وجوداً معطى مرة واحدة والى الأبد وإنما هو عملية جدلية تحقق نفسها تدريجيا، فيصير آخر غير ذاته، لكنه يظل ذاته في هذه الآخرية، لأنه التوسط بين حالته المباشرة وتحولاته الذاتية لكنه يصير ماهو عليه”.

د- ان “الطابع التركيبي في ذاته للمقولة الخالصة قد عرّفه هيجل، إذن بوصفه مساواة للذات في الآخرية… وابتداء من هذا التعريف نستطيع ان نقول ما هي النقطة القصوى في الفلسفة الهيجلية التي لم نستطع ان نرقى إلى ما بعدها، فالوجود نفسه طابعه الأساسي انه ممزق مقسم مهشم في ذاته، انه لا “يكون” إلا في كونه كمساواة للذات في التحول والتغير، انه يحمل سلبه معه، انه ليس إلا سلباً وذلك وفقا لماهية في أعمق مراتبها ولكن هذا التمزق الجوهري للوجود، وهذا الانقسام الجوهري، هما أساس الوجود بوصفه قابلية للحركة فهذا الانقسام وحده هو الذي يؤسس تكرار الموجود باعتباره أنماط متنوعة للوجود، وتلك الأنماط ليست سوى أنماط مختلفة لمساواة الذات في الآخرية، أنماط لإضفاء العينية على الاختلاف المطلق، لعملية تمثل الانقسام الماهوية وتسويته وتحقيقه، وهي لذلك على وجه الدقة أنماط لقابلية الحركة”.

هـ- “الحياة الروحية لا تتسم بأنها مجرى متصل محض من النزوع، وإنما هي تنقسم على نفسها لكي تحقق نفسها، غير ان وضع الحياة المنقسمة هذا لابد، بدوره ان يُطمس فتشق الروح بنشاطها الخاص طريقاً جديداً لكي تتوافق مرة أخرى، ومن ثم يكون الاتفاق النهائي اتفاقاً روحياً: اعني ان مبدأ العودة إنما يكون في الفكر، وفي الفكر وحده، فاليد التي أحدثت الجرح هي نفسها التي تداويه”.

على الرغم من وضوح هذه النصوص بنفسها، يمكن إيجاز أفكارها الأساسية على النحو التالي: ان الوجود أو الروح، أو المطلق، في لحظة أولى له، هو وجود بسيط مباشر، مساو لنفسه، غير ان لحظة الوجود هذه، ليست هي حقيقية، ولن يمكن لنا ابداً، ان نستخرج منه أية لحظة أخرى يتعدّى لها، ومن هنا توجب استخراج لحظة أخرى من هذه المباشرة نفسها، وسيتم لهيجل شرح هذه اللحظة بالتفصيل في كتابه علم المنطق، في أول مثلث جدلي له أي مثلث، “الوجود، والعدم والصيرورة” حيث يكون مفهوم الوجود الخالص غير المتعين ابداً، مساوياً تماماً لمعنى العدم، وهكذا يستخرج هيجل من الوحدة المباشرة للوجود نقيضها الذي هو العدم ومعنى هذا ان الوجود يتحول إلى العدم هنا، والعدم يتحول إلى الوجود، أيضا، ومن هنا تنبثق اللحظة الثالثة، التي هي الصيرورة بوصفها مركب كل من الوجود والعدم

.
وليست هذه التفاصيل بذات أهمية كبرى بالنسبة لموضوعنا الآن، لأن المهم هو القول، ان لحظة الوجود البسيط المباشر، تضم في جوفها جميع لحظات التجلي القادمة للوجود نفسه، اللحظات التي ستظهر عبر عملية جدلية تحقق نفسها تدريجياً فيصير آخر غير ذاته، لكنه يظل ذاته في هذه الآخرية.

ومن هنا ينبغي النظر لا إلى الطابع المباشر للوجود حسب، إنما ينبغي النظر إلى الطابع التركيبي الكامن في هذه المباشرة نفسها. أي ينبغي النظر إلى هذه المباشرة، بوصفها انقساما داخليا كامنا في جوهرها، من حيث ان هذا التمزق الجوهري للوجود وهذا الانقسام الجوهري، هما أساس الوجود بوصفه قابلية للحركة، فهذا الانقسام هو وحده الذي يؤسس تكثر الموجود بوصفه أنماطا متنوعة للوجود, وقدرته على إظهار نفسه نفسها في لحظات أخر، لحظات عينية متحققة بالفعل، ومن هنا، فهذا التخارج أو التجلي هو حركة، انه صيرورة.

ولأن هذه الصيرورة هي حركة مستمرة لنقل الوجود خارج ذاته، فان هذا يعني، انه تمزق مستمر للمطلق في لحظاته النسبية، تخارج للامتناهي في لحظاته المتناهية.

ومن المهم ان نذكر هنا ان هذه العملية برمتها، وفي لحظاتها جميعا هي عملية روحية، عقلية تحدث في الفكر وحده، ولذا فان صيغة تمثّل هيجل لها قد تمت في أساليب منطقية على الرغم من إتحاد هذا المنطق الهيجلي بالوجود وتعبيره عن لحظاته، من حيث انه منطق وجودي وليس منطقاً صوريا.

ولذلك يقول هيجل في آخر نص من المجموعة التي تم لنا انتخابها لهذه الغاية ان وضع الحياة المنقسم هذا لابد بدوره ان يطمس فتشق الروح بنشاطها الخاص طريقاً جديداً، لكي تتوافق مرة أخرى ومن ثم يكون الاتفاق النهائي روحيا، اعني ان مبدأ العودة إنما يكون في الفكر، وفي الفكر وحده، “فاليد التي أحدثت الجرح هي نفسها التي تداويه.”

بمعنى ان عملية النظر إلى مباشرة الوجود بوصفها انقساما إنما كانت في حقيقتها عملية فكرية في جوهرها، ولذا فان مبدأ العودة من حالة الانقسام التي ولّدها الفكر ينبغي ان يكون المبدأ نفسه، أي الفكر أيضا.

ان صياغة موجزة للأفكار الأساسية مما تقدم كله، يمكن التعبير عنها على وفق الصيغة الآتية:
ثمة وجود محض مطلق، يحمل في جوفه، جميع لحظات تجليه القادمة، الأمر الذي يعني ان الوجود منقسم في ذاته جوهريا، غير ان لحظات الوجود التي سيشقها بفاعلية الذاتية، ليست في حقيقتها سوى الوجود نفسه في هذه المرحلة أو تلك من تجليه، وهكذا، يتم النظر إلى النسق كله بوصفه، :لحظة أولى هي لحظة الهوية، تظهر اختلافها من داخلها، ثم تعود إلى الاتحاد باختلافها روحياً في وحدة نهائية تعبّر عن لحظاتها الثلاث كلها، لكن لا بوصفها وحدة فارغة بسيطة تشبه تلك التي كأنها الوجود في المرة الأولى، بل بوصفها وحدة ممتلئة، عيانية، تشمل اللحظات الثلاثة لحظة المباشرة الأولى، ولحظة تجلي أو انقسام هذه المباشرة في الطبيعة والإنسان، ولحظة استرجاع الوجود لوجوده بعد تجليه وانقسامه وتعدّيه إلى آخره.

ان ما يهم هنا ولتبقى هذه المعلومة حاضرة على الدوام في أذهاننا، هو أننا أمام (نموذج) للتصور الهيجلي لبناء مذهبه، مفاده:

وحدة بسيطة تضم في جوفها جميع لحظاتها المختلفة بالقوة، وان هذه الوحدة نفسها ستتجلى بفاعليتها الخاصة، إلى لحظات أخر، هي نفس تلك الوحدة بالفعل،لكن في لحظات متقدمة لها، وصولا إلى تحقيق غايتها النهائية، أي لحظتها الأخيرة، في مذهب هيجل.

أما وجه الأهمية في هذه المعلومة فإنما يتمثل في استخدام هيجل، هذا (الأنموذج) ذاته، لا في بناء مذهبه على غراره، على نحو مطلق حسب، بل في بناء تصوره للتاريخ وللفلسفة، ولفلسفة التاريخ والمنطق أيضا.

ثالثاً : المطلق بوصفه ذاتاً

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ثمة خصيصة أخرى ينسبها هيجل إلى مطلقه، نستطيع ان نتبيّن أهميتها من خلال وصف هيبوليت لها، إذ يقول” وإذا أمكن الحديث أيضا عن الذاتية، فسيكون عن ذاتية هي الوجود ذاته، الأمر الذي عناه هيجل عندما قال ان فلسفته كلها تتلخص في هذه الجملة:

المطلق ذات وليس جوهر”.

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ويمكن لنا ان نتبين هذه الأهمية نفسها من خلال السياق الذي وردت فيه هذه العبارة بحسب النص الهيجلي , من حيث انه لم يقل في حقيقة الأمر، “ان المطلق ذات وليس جوهر” إنما قال شيئاً آخر، نصه: “في رأيي، وهو رأي لا يمكن تسويغه إلا بعرض المذهب ذاته، ان كل شيء يعتمد على إدراك “الحق” لا بوصفه جوهراً، بل أيضا بوصفه ذاتا”.

وفي بحثنا عما يمكن ان يعنيه، هيجل بقوله، ان المطلق ذات أيضا وليس جوهرا، نعثر على مجموعة النصوص هذه التي توضح لنا معنى حقيقة المطلق هذه, المضافة لكونه جوهرا.
أ‌- “لا بوصفه جوهرا كما هي الحال عند سيبنوز ولا بوصفه ذاتاً كما هي الحال عند فشتة”.

ب‌- إن “الجوهر الحي، هو الوجود، الذي هو في الحقيقة ذات، أو ان شئنا التعبير بصيغة أخرى، هو الوجود الذي لا يتحقق بالفعل إلا من حيث هو حركة تضع نفسها أو هو توسط آخر الذات مع نفسه، فالجوهر من حيث هو ذات، فهو سلب بسيط خال، ولهذا السبب نفسه فهو تشعب البسيط إلى شعبتين: انه المزدوج الذي يضع ضده، ثم يعود من جديد إلى سلب هذا التنوع المحايد ونقيضه، أي البساطة المباشرة- هذا التماثل أو التشابه التام الذي يستعيد نفسه أو هذا الانعكاس على الذات في الآخرية- هو “الحق”، لا الوحدة المباشرة بما هي كذلك، فالحق هو عمليه صيرورة الذاتية، الدائرة التي تفترض مقدماً ان مفاهيمها هي هدفها وغايتها، والتي لا تتحقق فعلياً، مادامت نهايتها هي أيضا بدايتها، إلا من خلال انجاز مهمتها”.

ومعنى هذا النص بشرح هيبوليت الذي ينقله لنا مترجم الكتاب، “ليس المطلق وجودا معطى مرة واحدة والى الأبد، وإنما هو عملية جدلية تحقق نفسها تدريجيا”.

ج- “أما القول بأن الحق لا يتحقق فعلا إلا من خلال النسق أو المذهب، أو ان الجوهر هو بطبيعته ذات، فهو ما يعبّر عنه تمثل المطلق بوصفه روحاً… فالروحي هو وحده المتحقق فعلاً، فهو الماهية، وهو ذلك الذي يربط نفسه بنفسه ويكون متعينا، انه ما يكون وجودا من أجل الآخر، ووجوداً من اجل ذاته في هذا التعيين، أو ما يبقى في ذاته إثناء تخارجه الذاتي، أو هو بعبارة أخرى ما يكون في ذاته ولذاته في آن معاً”

.
د- “ان الروح باختصار- ليست مباشرة، أشياء الطبيعة، هي المباشرة وستبقى هكذا في شرط الوجود المباشر، أما وجود الروح، فليس له هذه المباشرة، إنما يوجد فقط، كإنتاج لنفسه، كصانع لنفسه من اجل نفسه عن طريق السلب بوصفه ذاتاً، وإلا فانه سيصبح جوهراً فقط”.

هـ- “ان الروح ليست من ناحية أخرى، جوهراً حسب، إنما هي أيضا تحدد ذاتي، بوصفها ذات”.

و”ان الله هو الوجود المطلق، الواحد المكتفي بذاته، وفي الجوهر، لا نجد تمايزاً، ولا عنصر اختلاف”.

و- “ان لوغوس الوجود هذا، هو الوجود ذاته، بوصفه عقل ذاته، وهذا العلم المطلق، هذا المنطق الانطولوجي، يكتمل بتسويغ للفينولوجيا، فهو يبين في الواقع، ان المطلق ذات، وبالتالي يعقل ذاته، وان هذه الدلالة في اسمي صورها, هي ظاهرها الشعور البشري ذاته”.

ز- ان” المذهب وهذا ما يجب تكراره- يظل كلمة ميتة “وحبراً على ورق” إذا لم يشر إلى نمط تكوينه وإذا لم يعيّن مجال تطبيقه النظري، والكلمة الميتة لا يمكن لها ان تكون الكلمة الحقة، “الحقيقة هي الكل” الكل وقد بدت مفاصله، أي اللحظات المختلفة التي بها ينشئ ذاته كلاً. بهذا المعنى يكون المطلق “أو الحقيقة” “ذاتاً” فلا يوجد الذات “حيث المعرفة” في جهة والجوهر في جهة أخرى، ان الحق أو المطلق هو موضوع نموه الذاتي، والذات في نهاية المطاف تلتقي مع نفسها وقد جعلتها الصيرورة ماهي عليه”.

وإذا كان “المطلق ذاتاً فان هذا يعني انه الوحدة المشخصة بين المباشر والوساطة وبين الحدس والقول”.

ان “الله هو الروح، وليست الروح شيئا يمتلك وجودا مفردا إنما هي روح فقط، عندما تغدو موضوعية بالنسبة إلى نفسها وعندما تنظر نفسها في الآخر، بوصفه نفسها، ان الحقيقة الأعلى للروح هي الوعي الذاتي، الوعي الذي يتضمن الموضوعية في نفسه، ان الله كفكرة، هو ذاتي بالنسبة لما هو موضوعي، وانه موضوعي بالنسبة لما هو ذاتي”

ان السؤال الذي ينبغي طرحه هنا، هو: ما الذي تعنيه هذه الإضافة، اعني إضافة حقيقة “الذات” إلى المطلق ليصبح بهذه الإضافة كما عبّرت عنه جملة هيجل: ان المطلق ليس جوهرا، بل هو ذات أيضا؟ أو بفهم أكثر دقة لهذه الإضافة انه “ذات وليس جوهرا” بحسب عبارة هيبوليت من حيث انه يعتقد، ان صفة الذات ستتضمن معنى الجوهر، وتنسخه إلى معنى جديد له:
ومن اجل ان نفهم ذلك على نحو قريب، يتعين علينا الآن ان نحصي في نص واحد معنى ان يكون المطلق ذاتاً وليس جوهراً “حسب”.

في حقيقة الأمر، ان هذا التعيين الجديد للمطلق بوصفه ذاتاً، يعني اختزالاً وتمثلاً لجميع خصائص المطلق الهيجلي تلك التي سبق لنا التعرّف عليها، وهذا هو بالتحديد وجه الأهمية ومعناها أيضا، في قول هيجل، ان كل شيء يتوقـّف على إدراك ان الحق ذات.
من حيث ان هذه الخصيصة, وسننظر إليها الآن بوصفها النواة التي تصدر عنها وتلتقي عندها جميع الخصائص الأخرى لمطلق هيجل – هي:
أولاً: وهذا إيجاز لمضمون النقطة ب, تعني صفة الحياة والحركة التي تضع نفسها، وهي توسط آخر الذات مع نفسه، وهي سلب بسيط خال، وهي المزدوج الذي يضع هذه الذات، ثم يعود إلى سلب هذا التنوع، وهي عملية صيرورة المطلق الذاتية- وهي الدائرة التي تفترض مقدماً غايتها ونهايتها.

باختصار ان هذه الإضافة – النظر إلى المطلق بوصفه ذاتاً- توفّر لهيجل ان ينظر إلى المطلق, أولا ,بوصفه مباشرا بسيطا يضع ضده من خلال حركته الذاتية ثم يعود بفاعليته الخاصة ليمتص هذا الضد في وحدة أعلى، أي ان هذا الخصيصة توفر لهيجل ان يتحرك في وسط جدلي قادر على تحقيق غايته النهائية انطلاقا من النظر إلى المطلق بوصفه ذاتاً حية تحقق مشروع نفسها من حيث كونه قدرة ذاتية على التجلي إلى الآخر، إلى ضده، الذي هو في الوقت نفسه، آخره الخاص.
أو هو لحظة متطورة للذات نفسها عندما ترى نفسها في لحظة موضوعية وهذا هو المعنى الذي يؤكده هيبوليت بقوله الذي مرّ بنا:

“ليس المطلق وجوداً معطى مرة واحدة والى الأبد، وإنما هو عملية جدلية تحقق نفسها تدريجيا”.
ثانيا: ان النظر إلى المطلق بوصفه ذاتاً، يعني انه روح ,من حيث ان الروحي قادر بصفة الحياة التي يمتلكها على ان يحقق ذاته، في الآخر، آخره، فهو وجود من اجل الآخر، -الطبيعة والإنسان- ووجود من اجل ذاته أيضا، أو بعبارة جامعة هو “ما يكون في ذاته ولذاته في آن معاً، وهذا إيجاز للفقرة “ج” و “د”.
ثالثا: ان النظر إلى المطلق بوصفه جوهرا فقط، لا يمكـّن هيجل من النظر إليه، بوصفه متمايزاً يحتوي في ذاته، على عنصر ضمني يختلف عن ذاته، وهذا يعني انه غير قادر على النمو، والتجلي، من حيث ان لحظة التمايز والاختلاف والتوسط، هي مبدأ الحركة والتحول، في مطلق هيجل، اللحظة التي سيبقى من دونها، عاطلاً ساكناً لا حياة فيه ولا حركة داخلية تنطلق من فاعليته لتحقيق ذاته.
رابعا: ان حقيقة المطلق هذه بوصفه ذاتاً، تمنحه صفة العقل، عقل ذاته وعقل الآخر الذي يصدر عنه فضلا عن تعيينها لغايته، من حيث كونه ذاتاً عاقلة تمضي في صيرورة واعية لإدراك نفسها.
ذات هي الأصل، من حيث كونها مكتفية بنفسها ولا تستمد حقيقتها من شيء آخر، وهذا هو إيجاز مضمون النقطتين “د” و “هـ”.
خامسا: ان المذهب الذي تتمثل حقيقته القصوى وغايته النهائية في قول هيجل “الحقيقة هي الكل” لا يمكن بناؤه ولا يمكن النظر إلى حقيقته بوصفها الكل، إلا من خلال النظر إلى المطلق بوصفه هذه الذات التي تؤلّف مضمون حياة الكل بأجمعه.

إذ أنها ليست ذاتا ميتة، أو مذهبا صوْريا، إنما هو ذات متحققة، يشهد على صيرورتها واكتمالها الروح الإنساني نفسه، وقد تحققت فيه وبلغت لحظته في نهاية مطافها، وهذا الجزء الأخير من صيرورة المطلق، وهو المعرفة البشرية بحقيقة صيرورته, لا ينفصل عن صيرورة الذات نفسها، انه لحظة تتويجه وبلوغه لنهايته في مذهب فلسفي، هو مذهب هيجل نفسه، وهذا هو إيجاز لمضمون النقطة الأخيرة.

حقيقة الذات إذن، بنسبتها إلى المطلق تعني، وكما مر بنا: إنه أصل وروح وحياة، وقدرة على التجلي، وانه مباشر بسيط ومنقسم، وانه حركة جدلية ,وصيرورة لها غايتها، وهو نمو ذاتي، وانه يعقل نفسه، ويعقل الآخر، الطبيعة والإنسان – ثم يتوج غايته النهائية ببلوغه إلى لحظة الوعي البشري بمسيرته هذه كلها، وهي نوع معرفة، إذ تؤكد عدم الانفصال بين الوجود والمعرفة ,لا من حيث ان هذه المعرفة هي توثيق لصيرورة الوجود وهو يتجلى انطولوجيا ومعرفيا في آن واحد حسب، ولا من حيث ان الإنسان هو جزء من الصيرورة الانطولوجية للمطلق أيضا، بل من حيث ان الإنسان هو الشاهد والناطق باسم هذه الصيرورة كلها، صيرورة المطلق، الذي يبلغ الآن لحظة تحققه الكاملة في الإنسان نفسه.

حتى إذا أردنا إيجازا آخر لمعنى ان يكون المطلق ذاتا، وجدناه على نحو جلي في دراسة للدكتور زكريا ابراهيم، يفرّق فيها بين فهم هيجل للمطلق بوصفه ذاتا وفهم شلنج له بوصفه جوهرا حسب، يقول زكريا ابراهيم “لقد بقي شلنج اسبينوزي النزعة لأنه لم يستطع ان يتصور المطلق “الحقيقة الكلية باعتبارها ذاتا، اعني باعتبارها تطورا روحيا، وانعكاسا للروح على نفسها” والواقع ان مفهوم المطلق عند هيجل ينطوي منذ البداية على إحالة إلى الآخر، فهو يستلزم عملية الخروج من الذات من اجل إدراك الذات خلال انعكاسها على الطبيعة، على اعتبار ان معرفة الآخر، هي في الوقت نفسه معرفة للذات”.

وعن طبيعة الفرق بين مفهومي الذات والجوهر بوصفهما صنفين للمطلق، يقول د.ابراهيم: “وحين يأخذ هيجل على شلنج انه لم يفطن إلى ان المطلق روح أو ذات، فهو يعني بذلك ان شلنج لم يفهم المطلق على حقيقته باعتباره قدرة على التمييز والتوحيد، وبهذا المعنى يمكننا ان نقول ان عجز شلنج عن فهم المطلق باعتباره ذاتا هو الذي حدا به إلى تصور الحقيقة الكلية بصورة الجوهر الخاوي الذي لا ينطوي على أي فوارق ولا يحتوي على أي تنوع، ومن هنا فقد بقي المطلق عند شلنج حقيقة كلية مجردة، بدلا من ان يكون بمثابة الروح الحية الباطنة في الأشياء”.

أما عن موقع “الطبيعة” من حيث علاقتها بالمطلق، في حال كونه ذاتا أو جوهرا، فيحدده زكريا ابراهيم على النحو الآتي “ان الطبيعة في نظر شلنج كانت بمثابة حقيقة مستقلة تملك مركزها في نفسها، وكأن للطبيعة بنيتها الخاصة التي تجعل منها حقيقة باطنية مستقلة عن الحقيقة الباطنية للروح، في حين نجد ان الطبيعة عند هيجل قد فقدت هذا الاستقلال فأصبحت بمثابة خارج لا داخل له، أو بالأحرى نجد أن الروح عند هيجل هي بمثابة الداخل الذي يستحيل إلى خارج في صميم الطبيعة.. بل أصبحت حياة الكون بأسره مرهونة بحياة الروح”.

يضيف الدكتور ابراهيم ان المطلق على نحو ما يتصوره هيجل “حقيقة دينامية تتولد وتتحقق وتصدع وتتألم ومن ثم فهي تستحيل إلى شيء مباين لنفسها مع بقائها في الوقت نفسه هي بعينها في صميم ذلك التباين نفسه، ومعنى هذا ان هيجل يدخل فهمه للمطلق معاني السلب والتناقض والصراع فيجعل من المطلق، صيرورة حية يتمثل وجودها في علاقة الوساطة القائمة بين ماهي عليه الآن وما ستصير إليه، وتبعا لذلك فان وجود المطلق ليس مجرد هوية مع الذات، بل هو علاقة بالآخر وتباين مع الذات واغتراب في الطبيعة وارتداد إلى الذات في خاتمة المطاف”.

وهكذا يخلص الدكتور زكريا ابراهيم إلى القول: “ان نقد هيجل لنظرية شلنج في المطلق، قد أدى به إلى القول بثلاث نظريات مهمة: أولها ان المطلق لا مجرد جوهر، وثانيها ان المطلق ينطوي على سلب أو تناقض وثالثها ان الحقيقة الكلية هي في صميمها صيرورة، والصلة وثيقة بين هذه النظريات الثلاث لأنها جميعا تؤكد حقيقة واحدة إلا وهي ان المطلق ليس بمثابة كلي مجرد، بل هو كلي متجسد، يحقق ذاته، ويخرج من ذاته، ويتحامل على ذاته ويحقق ضربا من الهوية بين ماهو عليه وما هو صائر إليه…
وحسبنا القول ان فيلسوفنا قد أفسح مجالا واسعا – في تصوره للمطلق- لمعاني الألم والتناقض والصراع، والشر والسلب، فلم يعد المطلق حقيقة غير متحددة لا مكترثة عديمة المبالاة، بل أصبح ذاتا متجسدة، أو روحا حية، يدخل السلب في صميم حياتها، ويعمل التناقض عمله في صميم تطورها”.

المصادر

ينظر أنوود، ميخائيل: معجم مصطلحات هيجل، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ص 59.

هيبوليت: ماركس وهيجل ,مصدر سابق، ص 212.

وولتر ستيس: فلسفة هيجل، ص50.

ينظر على سبيل المثال ,هيجل : الموسوعة ج2, ص 28-29.
أنوود: معجم مصطلحات هيجل، ص 60.
ماركوز: نظرية الوجود ص 61.
هيجل: الظاهريات، ص 29 تعليق المترجم.

هيجل: الموسوعة: ج1، ص106.

الفكر السياسي عند الفيلسوف فولتير، 1778-1694 «(Voltaire )

واسمه الحقيقي »فرانسوا له « مكانة خاصة في حياة فرنسا الفكرية في القرن الثامن عشر. ّ وقد خلد تاريخ الثقافة اسمه كاتباً كبيراً وفيلسوفاً للحضارة والتاريخ
)1 )فقال عنه الشاعر الفرنسي الكبير » فيكتور هيغو«
)-1802 1885« : )إذا ذكرنا اسم فولتير فكأننا
حددنا مواصفات القرن الثامن عشر كله، ووعينا بكلمة واحدة السمات التاريخية واألدينية المزدوجة لذلك العصر الذي كان، مهما قيل فيه، عصر انتقال للمجتمع كما للشعر«.)
ولد في عهد لويس الرابع عشر في اسرة فرنسية تنتمي الى الطبقة البرجوازية وتعمل في التجارة وبيع األقمشة تلقى علومه في معهد يشرف عليه اآلباء اليسوعيون وقد أهله ذكاؤه وعلمه ومكانة أسرته الكتساب شهرة واسعة وسط اجملتمع األرستقراطي وجعله ذلك يعتمد في آرائه وتفكيره على أساس من أرستقراطية الفكر. نُفي الى اجنلترا عام 1726 اثر خالف بينه وبني أحد النبالء حيث بقي فيها قرابة ثالث سنوات اُستقبل خاللها بحفاو البلاط المللكي وفي األوساط األدبية والتجارية .)

وكانت حياة فولتير كلها تناقضات، فهو يزدري بني الانسان، لكنه شديد الاهتمام بأفراد هذا الجنس، وهو يهزأ برجال الكنيسة ، لكنه يهدي أحد كتبه إلى البابا، وهو يسخر بالملكية لكنه يقبل معاشاً من ملك بروسيا »فريدريك األكبر« )1712 – 1786 ، )وهو يمقت التعصب،

لكنه تعصب في عدائه لليهود، وهو يتهكم على باطل
الثروة،وعدم غنائها، لكنه يجمع ثروة طائلة بأساليب
ليست شريفة دائماً.)

وكانت حكومة جنيف منعت فولتير« من تمثيل مسرحياته ومن إنشاء مسرح فيها، وأيد المفكر الكبير »جان جاك روسو » )-1712 1778 )موقف الحكومة السويسرية، فتسبب هذا في قطع الصداقة بني هذين المفكرين الكبيرين، وحدث ذلك في عام )1758. ) اُعتبر »فولتير« فيلسوفاً سياسياً، فلم يكتب كتابة والنظرية علمية ولم يعالج نظريات فلسفية ميكن دراستها كوحدة، أي أننا ال نستطيع أن نكون من أفكاره أو نزعاته السياسية وحدة منهجية أو مذهب متسق، ولكننا نعثر في ثنايا بحوثه على عبارات ونصوص تشهد مبيوله سياسية ونزعاته اإلصالحية. كما أن »فولتير« لم يكن فيلسوفاً أصيالً في ما عاجله من بحوث، بل كان تلميذاً كثير من األساتذة السابقني عليه، بيد أنه كان تلميذاً مستقالً أقوى من أساتذته من بعض الوجوه. فصحيح أن
»فولتير« لم يبدع آراء فلسفية جديدة،ولكنه أسهم
بقسط كبير في إشاعة التنوير الفلسفي باجملتمع
الفرنسي . كما كان له فضل كبير هو« وجان جاك
روسو« في االنتقال السياسي واالقتصادي الكبير
من حكم النظام االرستقراطي اإلقطاعي إلى حكم
الطبقة املتوسطة . حتى أن »لويس السادس عشر«
)1774 ــ 1793 )قال في سجنه بعد أن رأى نتيجة
أعمال »فولتير« »وروسو«: » لقد دمر هذان الرجالن
فرنسا «، ويعني بذلك تدميره وتدمير النظام امللكي في فرنسا.)5)
ويتفق مؤرخو الفكر على موضعة القطيعة
اإلبستمولوجية الكبرى في منتصف القرن الثامن
عشر: أي في الوقت الذي ظهرت فيه مؤلفاته األساسية باللضافة إلى مؤلفات روسو وديدرو وجماعة الملوسوني. عندئذ حصل االنقالب احلقيقي وانتقلت البشرية األوروبية من عقلية القرون الوسطى الكهنوتية اإلقطاعية، إلى عقلية العصور احلديثة العلمانية الدميقراطية. فقد ّر حلزب الفالسفة أو حلزب التنوير. وكان كان الرأس املدب يعتقد أن التنوير سوف يصعد رويداً رويداً حتى يشمل كل الظواهر، وكل القضايا، وكل العقول. عندئذ تخرج البشرية من املرحلة الطائفية الهمجية، لكي تدخل المرلحلة احلضارية العقالنية. وعندئذ يتم القضاء على التعصب الديني الذي يشبه األخطبوط األفعواني والذي كان يشكل عدوه األول. ومعلوم ان هذا التعصب كان سبب اجملازر واحلروب االهلية املدمرة التي جرت بني
املذاهب املسيحية آنذاك. ليس غريباً، واحلالة هذه، أن يكون نيتشه – املعروف بصعوبة مزاجه- قد أهداه كتابه المعروف »فيما وراء اخلير والشر« قائالً: إلى فولتير، أحد ِّري الروح البشرية.)

نظرت «فولتير« أن الطبيعة اإلنسانية واحدة في كل زمان يُقر مع ذلك أن الناس يختلفون في وفي كل مكان، ولكنه يمقدرتهم الذاتية وفي رغباتهم، وكفاياتهم الشخصية، ومن هنا ضرورة قيام نظام الطبقات االجتماعية، فهو ليس ضد هذا النظام وإمنا يراه من مستلزمات الحياة في الجمتمع الانساني، وهو الي يتصور قيام مجتمع تنعدم فيه الطبقا و تسود فيه طبقة واحدة كما يزعم لشيوعيون. ففي كل مجتمع البد من قيام األغنياء من جهة والفقراء من جهة أخرى، ولكن قيام هذه الطبقات ليس معناه ظلم األغنياء للفقراء وأن يفرضوا عليهم الذل والحرمان والعوز وإنما يجب أن يكون هناك عدالة اجتماعية وإنصاف جمعي فيما بينهم فلا تطغى طبقة على أخرى. ومن هذا يتضح أن »فولتير« يقول بحق الملكية الفردية ، لان وجود أفراد كثرين لا يميتلكون شيئاً يسهل توزيع العمال وتقسيمها فيما بينهم، وبغير هذا سيصعب إيجاد من يؤدي بعض الاعمال الضرورية. ومع أن »فولتير« يؤيد حق المُلكية الفردية الا أنه لا يقر أن يكون هذا الحق انحرافاً ووسيلة مرذولة للطغيان من جهة الاغنياء والحرمان من جهة الفقراء، ولهذا ينادي بإصالح هذا الحق ومراقبته دائماً حتى لا يخرج عن حدوده المشروعة المعقولة ويكون سبباً
للمشاحنات الاجتماعية وعدم الاستقرار الاجتماعي.
فحق المُلكية ضرورة اجتماعية تتعلق بشرف الانسان عند فولتير.)إن »فولتير« لا يتخطى حدود المجتمع البرجوازي عندما يتكلم عن المساواة فهو يقول : »من المستحيل في عالمنا التعيس الا ينقسم البشر الذين يعيشون في مجتمع إلى طبقتني، طبقة أغنياء وطبقة فقراء يخدمون«. وهذا الانقسام ينجم، في منظور »فولتير« عن طبيعة الامور، فهو يقول : »لو كانت هذه األارض كما كان ينبغي أن تكون، لو كان الانسان يجد في كل مكان فيها قوتاً مؤمناً وسهل المنال… فمن المستحال طبعاً على أي إنسان أن يستعبد آخر«.
لكن »فولتير« الذي ينكر إمكانية حتقيق المساواة
في األملك والثروات، يدين بشدة مع ذلك اللاامساواة
الاجتماعية في ظل النظام اإلقطاعي، وامتيازات النبلاء .

آراؤه في نشأة الدولة :

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

اختلف »فولتير« مع القائلني بنظرية العقد اإلجتماعي
كأساس لنشوء الدولة، ويرى أن الدولة بشكلها البدائي
لم تقم إال نتيجة إلحتاد األسر بعضها.)8 )فهو مييل
إلى اإلعتقاد بأن اجلمهورية، املنبثقة عن احتاد األسر، هي
الشكل البدائي للدولة، فتلك هي في نظرة مسيرة
التطور الطبيعي.
وهو يقول : »أنه ليس من قبيل املصادفة أن كل
األوروبني الذين قصدوا أمريكا لم يجدوا فيها، حيثما
اجتهوا تقريباً، سوى اجلمهوريات«. وكذلك األمر في
أفريقيا، وفي العالم القد

٨ما كان »فولتير« يتبنى إذن نظرية العقد االجتماعي
كنظرية لظهور الدولة، فقد ولدت الدولة، تاريخياً، من
اإلكراه، ال من التعاقد. لكن خالفاً للحق التاريخي، فإن احلق
الفعلي احلقيقي، الميكن أن يقوم اإل على أساس االرتضاء
احلر.
احلكم األفضل عند فولتير:
كان يرى أن مكان السلطة في أيدي من هو مؤهل لقيادة
اجملتمع نحو السعادة،وهذه األيدي ما هي إال أيدي امللك،ألنه
هو الوحيد الذي ميلك القوة ليصل بالدولة إلى الهدف
املطلوب .
لقد كانت ثقته تتجه أكثر فأكثر نحو نظام قوي، معتبراً
أن عهود امللك »هنري الرابع« و »لويس اخلامس عشر«
الذين حكموا بأنفسهم كانت من أسعد سنوات امللكية،
وكان يتأفف من الدور الذي كانت حتاول أن تؤديه البرملانات
في فرنسا، ويصفها بأنها »نوع من احملاكم«.
وقد حاول أن يعطي انطباعاً حسناً عن النظام امللكي
املستنير، شأنه شأن مفكري الطبقة البرجوازية في
عصره، معتبراً أنه النظام الوحيد القادر على انتشال فرنسا
من حالة الفاسد، والتردي عبر اإلصالحات التي بإمكانه
القيام بها، فالنظام امللكي املستنير له فضائله التاريخية
الناجمة عن صراعه مع فوضى النظام اإلقطاعي، أما
النظام الدميوقراطي فلم ير فيه سوى أنه مجرد سلطة
عددية.فهولم يخف إعجابه بالنظام امللكي التمثيلي
واحملدود في إجنلترا والذي يضمن احلريات السياسية واملدنية
التي كانت غير مضمونة في فرنسا ، بل لقد عمل على
الترويج لها وكافح لتحقيقها.)9)
فقد قام فولتير أثناء نفيه إلى بريطانيا, بدراسة
الدستور البريطانى, الذى يكفل احلرية والتسامح لكل
الطبقات. ودرس بعمق مسرح شكسبير وفلسفة
»لوك« ونظريات »نيوتن« العلمية. وتأثر تأثرا كبيرا
بكتاب »الفهم اإلنسانى« »جلون لوك«, ومعقولية
»فرانسيس بيكون«, وأفكار اإلصالح »لتيندال«.
لقد حلق فولتيرفى عالم آخر من القيم الرفيعة الراقية.
وهنا أصبح الشاعر, مؤرخا وفيلسوفا. بعد أن إتسع أفقه.
ومعه, إتسع أفق القارة األوروبية كلها. وقال عنه »جورج
برانديس«: »أعطته إجنلترا نقطة إرتكاز أرشميدس خارج
فرنسا, ومنها استطاع أن يرفع فرنسا ومعها القارة
كلها«
وكان أهم شيء هو إحساسه باحلرية فى بلد حر دميوقراطى.
احلرية اإلجنليزية أصبحت بالنسبة له مثال أعلى. هنا,

ال أحد ميكن أن يفقد حريته بأي سلطة من السلطات.
وال أحد ميكن أن يعاقب بدون محاكمة. هنا حرية كاملة
للكتابة واخلطابة والصحافة. وتسامح دينى كامل بني
األديان اخملتلفة. لقد رأى اآلن الفرق بني نظامني. بدا واضحا
فى كتابه »رسائل عن إجنلترا« التى تعتبر نقطة انطالق,
وبداية الثورة الفرنسية.
فقد كتب, عن احلرية الدينية عند اإلجنليز, أن الرجل
اإلجنليزى, يذهب إلى اجلنة عن طريق الدرب الذى يختاره
هو مبحض حريته. وبالنسبة للحرية السياسية, يقول
أن إجنلترا هى البلد الوحيد على سطح الكرة األرضية
الذى حتجم سلطة امللوك فيه. فاحلاكم تترك له كل
السلطة لفعل اخلير, وفى نفس الوقت تكبل يديه عن
فعل الشر)10.)
هذه هي األفكار العامة التي مهد بها »فولتير« لقيام
الثورة الفرنسية عام )1798 ،)فقد نفذ بقوة إلى قلوب
معاصريه بفضل حمالته البليغة ضد النظم القائمة،
مطالباً باإلصالح وداعياً بفضل حمالته البليغة ضد النظم
القائمة، مطالباً باإلصالح وداعياً إلى الهدم والتدمير، ولم
يحاول أن يضع خطة إنشائية إيجابية، فكان يدعو إلى
التفويض من األساس ألنه كان ميقت احلاضر، بيد أنه لم
يفكر فيما ينبغي له أن يكون عليه املستقبل. وبالرغم
من الدور الهام الذي لعبه »فولتير« في التمهيد للثورة
الفرنسية فقد كان »روسو« هو فيلسوفها األول بال
شك )2 . )وكان كتابه »العقد االجتماعي«، هو إجنيلها
ودستورها.

ملامح من الفكر السياسي عند فولتير

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ولا يُعتبر «فولتير» فيلسوفاً سياسياً، فلم يكتب كتابة نظرية علمية ولم يعالج نظريات فلسفية يمكن دراستها كوحدة، أي أننا لا نستطيع أن نكون من أفكاره أو نزعاته السياسية وحدة منهجية أو مذهب متسق، ولكننا نعثر في ثنايا بحوثه على عبارات ونصوص تشهد بميوله السياسية ونزعاته الإصلاحية، كما أن «فولتير» لم يكن فيلسوفاً أصيلاً فيما عالجه من بحوث، بل كان تلميذاً لكثير من الأساتذة السابقين عليه، بيد أنه كان تلميذاً مستقلاً أقوى من أساتذته من بعض الوجوه.

فصحيح أن فولتير لم يبدع آراء فلسفية جديدة، ولكنه أسهم بقسط كبير في إشاعة التنوير الفلسفي بالمجتمع الفرنسي.

كما كان له فضل كبير هو وجان جاك روسو في الانتقال السياسي والاقتصادي الكبير من حكم النظام الارستقراطي الإقطاعي إلى حكم الطبقة المتوسطة.

حتى أن لويس السادس عشر (1774- 1793 م) قال في سجنه بعد أن رأى نتيجة أعمال فولتير وروسو: لقد دمر هذان الرجلان فرنسا، ويعني بذلك تدميره وتدمير النظام الملكي في فرنسا.

ويتفق مؤرخو الفكر على موضعة القطيعة الإبستمولوجية الكبرى في منتصف القرن الثامن عشر: أي في الوقت الذي ظهرت فيه مؤلفاته الأساسية بالإضافة إلى مؤلفات روسو وديدرو وجماعة الموسوعيين، عندئذ حصل الانقلاب الحقيقي وانتقلت البشرية الأوروبية من عقلية القرون الوسطى الكهنوتية الإقطاعية، إلى عقلية العصور الحديثة العلمانية الديمقراطية.

فقد كان الرأس المدبّر لحزب الفلاسفة أو لحزب التنوير، وكان يعتقد أن التنوير سوف يصعد رويداً رويداً حتى يشمل كل الظواهر، وكل القضايا، وكل العقول، عندئذ تخرج البشرية من المرحلة الطائفية الهمجية، لكي تدخل في المرحلة الحضارية العقلانية.

وعندئذ يتم القضاء على التعصب الديني الذي يشبه الأخطبوط الأفعواني والذي كان يشكل عدوه الأول، ومعلوم أن هذا التعصب كان سبب المجازر والحروب الأهلية المدمرة التي جرت بين المذاهب المسيحية آنذاك؛ ليس غريباً، والحالة هذه، أن يكون نيتشه -المعروف بصعوبة مزاجه- قد أهداه كتابه المعروف «فيما وراء الخير والشر» قائلًا: إلى فولتير، أحد كبار محرِّري الروح البشرية.

نظرته إلى الملُكية والمساواة

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

يُقر فولتير أن الطبيعة الإنسانية واحدة في كل زمان وفي كل مكان، ولكنه يُقر مع ذلك أن الناس يختلفون في مقدرتهم الذاتية وفي رغباتهم، وكفاياتهم الشخصية، ومن هنا ضرورة قيام نظام الطبقات الاجتماعية، فهو ليس ضد هذا النظام وإنما يراه من مستلزمات الحياة في المجتمع الإنساني، وهو لا يتصور قيام مجتمع تنعدم فيه الطبقات أو تسود فيه طبقة واحدة كما يزعم الشيوعيون.

ففي كل مجتمع لابد من قيام الأغنياء من جهة والفقراء من جهة أخرى، ولكن قيام هذه الطبقات ليس معناه ظلم الأغنياء للفقراء وأن يفرضوا عليهم الذل والحرمان والعوز وإنما يجب أن يكون هناك عدالة اجتماعية وإنصاف جمعي فيما بينهم فلا تطغى طبقة على أخرى.

ومن هذا يتضح أن «فولتير» يقول بحق الملكية الفردية، لأن وجود أفراد كثيرين لا يمتلكون شيئاً يسهل توزيع الأعمال وتقسيمها فيما بينهم، وبغير هذا سيصعب إيجاد من يؤدي بعض الأعمال الضرورية.

ومع أن «فولتير» يؤيد حق ا لملكية الفردية إلا أنه لا يقر أن يكون هذا الحق انحرافاً ووسيلة مرذولة للطغيان من جهة الأغنياء والحرمان من جهة الفقراء، ولهذا ينادي بإصلاح هذا الحق ومراقبته دائماً حتى لا يخرج عن حدوده المشروعة المعقولة ويكون سبباً للمشاحنات الاجتماعية وعدم الاستقرار الاجتماعي.

فحق الملكية ضرورة اجتماعية تتعلق بشرف الإنسان عند فولتير.

إن «فولتير» لا يتخطى حدود المجتمع البرجوازي عندما يتكلم عن المساواة فهو يقول: «من المستحيل في عالمنا التعيس ألا ينقسم البشر الذين يعيشون في مجتمع إلى طبقتين، طبقة أغنياء وطبقة فقراء يخدمون».

وهذا الانقسام ينجم، في منظور «فولتير» عن طبيعة الأمور، فهو يقول: «لو كانت هذه الأرض كما كان ينبغي أن تكون، لو كان الإنسان يجد في كل مكان فيها قوتاً مؤمناً وسهل المنال… لاستحال طبعاً على أي إنسان أن يستعبد آخر».

لكن «فولتير» الذي ينكر إمكانية تحقيق المساواة في الأملاك والثروات، يدين بشدة مع ذلك اللامساواة الاجتماعية في ظل النظام الإقطاعي، وامتيازات النبلاء.

آراؤه في نشأة الدولة

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

اختلف «فولتير» مع القائلين بنظرية العقد الاجتماعي كأساس لنشوء الدولة، ويرى أن الدولة بشكلها البدائي لم تقم إلا نتيجة لاتحاد الأسر بعضها.[١٢]

فهو يميل إلى الاعتقاد بأن الجمهورية، المنبثقة عن اتحاد الأسر، هي الشكل البدائي للدولة، فتلك هي في نظرة مسيرة التطور الطبيعي.

وهو يقول: «أنه ليس من قبيل المصادفة أن كل الأوروبين الذين قصدوا أمريكا لم يجدوا فيها، حيثما اتجهوا تقريباً، سوى الجمهوريات»، وكذلك الأمر في أفريقيا، وفي العالم القديم.

ما كان «فولتير» يتبنى إذن نظرية العقد الاجتماعي كنظرية لظهور الدولة، فقد ولدت الدولة، تاريخياً، من الإكراه، لا من التعاقد. لكن خلافاً للحق التاريخي، فإن الحق الفعلي الحقيقي، لا يمكن أن يقوم إلا على أساس الارتضاء الحر.

الحكم الأفضل عند فولتير

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

كان يرى أن مكان السلطة في أيدي من هو مؤهل لقيادة المجتمع نحو السعادة، وهذه الأيدي ما هي إلا أيدي الملك، لأنه هو الوحيد الذي يملك القوة ليصل بالدولة إلى الهدف المطلوب.

لقد كانت ثقته تتجه أكثر فأكثر نحو نظام قوي، معتبراً أن عهود الملك «هنري الرابع» و«لويس الخامس عشر» الذين حكموا بأنفسهم كانت من أسعد سنوات الملكية، وكان يتأفف من الدور الذي كانت تحاول أن تؤديه البرلمانات في فرنسا، ويصفها بأنها «نوع من المحاكم».

وقد حاول أن يعطي انطباعاً حسناً عن النظام الملكي المستنير، شأنه شأن مفكري الطبقة البرجوازية في عصره، معتبراً أنه النظام الوحيد القادر على انتشال فرنسا من حالة الفساد، والتردي عبر الإصلاحات التي بإمكانه القيام بها، فالنظام الملكي المستنير له فضائله التاريخية الناجمة عن صراعه مع فوضى النظام الإقطاعي، أما النظام الديموقراطي فلم ير فيه سوى أنه مجرد سلطة عددية.

فهو لم يخف إعجابه بالنظام الملكي التمثيلي والمحدود في إنجلترا والذي يضمن الحريات السياسية والمدنية التي كانت غير مضمونة في فرنسا، بل لقد عمل على الترويج لها وكافح لتحقيقها.

فقد قام فولتير أثناء نفيه إلى بريطانيا بدراسة الدستور البريطاني الذي يكفل الحرية والتسامح لكل الطبقات.

ودرس بعمق مسرح شكسبير وفلسفة لوك ونظريات «نيوتن» العلمية، وتأثر تأثرًا كبيرًا بكتاب الفهم الإنساني لجون لوك، ومعقولية «فرانسيس بيكون»، وأفكار الإصلاح «لتيندال».

لقد رأى الآن الفرق بين نظامين، بدا واضحًا فى كتابه «رسائل عن إنجلترا» التى تعتبر نقطة انطلاق، وبداية الثورة الفرنسية، فقد كتب عن الحرية الدينية عند الإنجليز، أن الرجل الإنجليزي يذهب إلى الجنة عن طريق الدرب الذى يختاره هو بمحض حريته، وبالنسبة للحرية السياسية، يقول أن إنجلترا هي البلد الوحيد على سطح الكرة الأرضية الذى تحجم سلطة الملوك فيه، فالحاكم تترك له كل السلطة لفعل الخير، وفي نفس الوقت تكبل يديه عن فعل الشر.[١٥]

هذه هي الأفكار العامة التي مهد بها «فولتير» لقيام الثورة الفرنسية عام (1798 م)، فقد نفذ بقوة إلى قلوب معاصريه بفضل حملاته البليغة ضد النظم القائمة، مطالباً بالإصلاح وداعياً بفضل حملاته البليغة ضد النظم القائمة، مطالباً بالإصلاح وداعياً إلى الهدم والتدمير، ولم يحاول أن يضع خطة إنشائية إيجابية، فكان يدعو إلى التفويض من الأساس لأنه كان يمقت الحاضر، بيد أنه لم يفكر فيما ينبغي له أن يكون عليه المستقبل.

وبالرغم من الدور الهام الذي لعبه «فولتير» في التمهيد للثورة الفرنسية فقد كان «روسو» هو فيلسوفها الأول بلا شك وكان كتابه «العقد الاجتماعي»، هو إنجيلها ودستورها.

ظروف عصر فولتير واثرها

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

عاش فولتير في عصر الأنوار أو التنوير -كما يحلو للبعض تسميته- هذا العصر الذي شكل تيارًا شاملًا حرك كامل أوربَّا، وهو عصر الإيمان بالعلم والطبيعة والتقدم ومعاداة الكنيسة وسلطة الملكية وضد الجهل والفقر والخرافة.

فبحلول هذا العصر عرفت أوربا مرحلة تاريخية جديدة تميزت بالعقلانية ورفض القديم باعتباره أوهاما ضالة، هذه المرحلة تحتكم إلى العقل بدل الدين، هذا العقل الذي اعتبر إلها بكل ما تحمله الكلمة من معنى، هذا العقل لم يعد يقبل شيئا دون نقد.

وعلى كل حال تميز هذا العصر بالعديد من الخصائص أهمها:

بروز النزعة العقلانية بشكل واضح فالعقل أصبح منتج العلم والمعرفة وبواسطته يقرر الإنسان مصيره، ويحقق رفاهيته وتقدمه، إضافة إلى بروز النزعة الإنسانية وكذا التطور العلمي المواكب لهما بسبب الثورة الصناعية في ق (75) وما ارتبط بها من انتشار التعليم.

الانتقال من التفكير الخاضع للخوارق والغيبيات إلى التفكير العقلي العلمي فبعد أن كان الفكر في العصور الوسطى يرتكز على اليقين اللاهوتي المطلق الذي لا يناقش ولا يمس أصبح يرتكز على أساس آخر هو العقل الفلسفي ولا شيء غيره.

بروز اتجاه التقدم الذي يقوم على فكرة أن العقل البشري قادر على التطور والتغير والتقدم نحو الأحسن والأفضل.

مواصلة الثورة على ما بقي من الرواسب الباقية من فترة سيطرة الكنيسة حيث تحرر الأوربيون من فكرة النزعة الأخروية التي سادت في العصور الوسطى.

إن هذه أبرز السمات التي طبعت عصر التنوير والتي لخصها فيلسوف عصر التنوير كانط بقوله قرننا هو بشكل خاص قرن النقد الذي ينبغي أن يخضع له كل شي وحده الدين محتجًّا بقداسته والتشريع القانوني متذرعًا بجلالته يريدان أن ينفذا منه ولكنهما يثيران عندئذ الظنون والشكوك الحقة حولهما ولا يمكنهما أن يحوذا على تقديرنا الصادق لأن العقل لا يقدم هذا التقدير إلا للأشياء التي تقبل بأن يطبق عليها التفحص الحر النقدي.

فالعقل لا يفتأ يزداد انتشارًا، وقد عبر فولتير عن هذا المعنى في كتابه رسالة في التسامح بقوله: وتغلغلا في فرنسا يوما بعد يوم في حوانيت التجار كما في قصور النبلاء، المطلوب إذن رعاية ثمرات هذا العقل ولا سيما أنه بات يستحيل الحؤول دون تفتحها.

إن كل هذه التطورات التي تميز بها القرن (17) كان لا بد أن تؤثر على شخص فولتير من منطلق أن الفكر الفلسفي ابن زمانه بتعبير هيجل، فقد حاول فولتير تأسيس التاريخ على العقل وتحريره من الخرافات والأساطير استنادًا إلى النزعة العقلانية التي طبعت عصر التنوير، إذ حاول فولتير تنظيف التاريخ من الشوائب وإعادة تأسيسه بشكل جديد، وتعميقه فلسفيًّا لكي يتماشى مع روح عصر التنوير، عصر النقد الذي يجب أن يخضع له كل شي، وعصر الانتصار العظيم للعلم والعقل، فقد فهم فولتير أن العقل ينبغي أن يكون سيد الموقف في دراسة التاريخ حيث يقول في ليس الذنب ذنبي بأن كان هذا القرن مستنير وإذا كان رسالة إلى صديقه الشخصي دارجنتال العقل قد تغلغل حتى إلى الكهوف والمغارات.

إذن نستنتج من كل هذا أن النزعة العقلانية التي اتسم بها عصر التنوير قد أثرت تأثيرًا بليغًا في تصور فولتير للتاريخ حيث أكد فولتير بأن موضوع التاريخ يجب أن يكون تتبع سير العقل والفكر البشري عبر التاريخ.

نقد التاريخ لفولتير

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

لقد عمل فولتير على انتقاد تاريخ سابقيه لأن ما وصل إليه من تاريخ، مكتوب في ظروف سيطرت فيها الكنيسة والملكية، ولذا فقد جاء هذا التاريخ مليئا بالخرافة والأسطورة والتعصب إذ يقول عنه أنه ثمرة العقلية الخرافية الأكثر بشاعة في تاريخ البشرية.

فما سبق من تاريخ البشرية هو لا يعدو أن يكون شعوذة وظلامًا، ومن ثمة لا تستحق العصور الماضية أن يفرد لها صفحات عند المؤرخ ولا هي جديرة حتى بكلمة تاريخ.

وقد هاجم فولتير تاريخ العصور الوسطى ووصف تلك العصور بالجهل والغيبية وترويج الأضاليل والقصص الخيالية، فجميع الأساطير المنقولة لنا هي بدع ابتدعها الكهنة الذين كافحوا من أجل جعل الناس يؤمنون بخزعبلات هدفها المحافظة على احترام الناس.

كما انتقد فولتير سابقيه عندما جعلوا التاريخ السياسي والعسكري هو لب التاريخ، فهذا التاريخ هو صورة عن الجرائم والكوارث والحروب ليس إلا، كما هاجم مؤرخي عصره لاستنادهم إلى قصص العهد القديم واتخاذها أساسًا للتاريخ، ليس لمبالغة هذه القصص في الاهتمام بالعبرانيين واحتقار شعوب الشرق الأخرى فحسب، بل لأن هذه القصص موضع شك من الناحية التاريخية.

وينتهي إلى القول بأن التاريخ في عصره لا شيء سوى مجموعة من الأباطيل والخدع التي نكذب ونلعب بها عن الأموات ونحاول الماضي ليتناسب مع رغباتنا في الحاضر والمستقبل، ول ديورانت، قصة الفلسفة، ترجمة فتح الله محمد المشعشع، ط (3)، مكتبة المعارف، بيروت، (7155)، ص (2184).

لقد فهم فولتير بأن العقل ينبغي أن يكون سيد الموقف وليس التكرار والنقل فلا شيء ينبغي أن يفلت من تفحصه النقدي ولا شيء ينبغي أن يقبل قبل أن يوزن بميزان العقل وهذا الكلام ينطبق على أقوال الأوليين، والتعاليم الدينية مثلما ينطبق على المواضيع الدنيوية.

التسامح عند فولتير

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

صحیح أن فولتیر قد انطلق في دعوته إلى التسامح، وحربه ضد التعصب من الدفاع عن قضیة كالاس، وهي الأسرة الفرنسیة التي تعرضت للظلم من طرف الحكومة والتي كان ضحیتها، أب حكم علیه بالإعدام على الدولاب، وأخ یجز في السجن، وأم وشقیقتان یتعرضن للنفي، والسبب هو انتحار ابنهم واتهامهم بقتله، لم یكن السبب في هذا هو حرص الحكومة الفرنسیة على أمن العائلة، أكید، ولم یكن ابن هذه العائلة أول من ینتحر في فرنسا أو یقتل، ولكن السبب هو العداء الذي كان بین الكاثولیك والبروتستانت؛ فكالاس كان ینتمي للدیانة الكاثولیكیة، وكانص ابنه مولعًا بالبروتستانت، فعندما انتحر ولأسباب معینة جعلت الحكومة هذا ذریعة لتشعل نار اضطهاد جدیدة بین المذهبین. لم یكن هدف فولتیر هو تبرئة العائلة فقط، بل كان یسعى إلى نشر رسالة عالمیة، بتحقیق تسامح عالمي بین البشر.

یري فولتیر أنه لم یقم بالجهد الكبیر، أو البلاغة المتكلفة في إثبات ضرورة التسامح بین المسیحیین، لكن جعل هذا التسامح عامًّا وعالمیًّا بین البشر جمیعًا، هنا تكمن الصعوبة؛ فكان یدعوا إلى التسامح الشقیقي؟ وكذلك المسلم أننا قد نرد علیه: أیكون التركي: باعتبار البشر جمیعًا إخوة لنا؛ فیقول الصیني؟ والیهودي ؟ والسیامي؟ أجل بلا ریب: أفلسنا جمیعا أبناء أب واحد، ومخلوقات إله واحد!

ففولتیر لا یضع حدود للتسامح ویعتبره قیمة إنسانیة، یجب أن تسود العالم، على اختلاف أشخاصه ولغاته وأماكنه ودیاناته وعاداته …؛ فیجب أن یكون التسامح تسامح مطلق، ویجب أن یعم سلام هذه الكرة الأرضیة الصغیرة كلي ودائم للكون، والسبب في هذا كما یقول في بحثه في التسامح التي لیست إلا نقطة تدور في المكان، مثلها مثل كرات أخرى ونحن تائهون في هذا المكان الهائل، إن الإنسان و قامته طولها خمس أقدام، هو قطعا شيء هین في الخلیقة، وواحد من هذه الكائنات التي لا یمكن إبصارها، یقول لبعض جیرانه في الجزیرة العربیة أو في بلاد الكفار، أصغ إلي إلى كل هذه العوالم؛ قد بصرني: یوجد تسعمائة ملیون من النمل الصغیر مثلنا على سطح الأرض، لكن قریة نمل هي وحدها الأثیرة عند الله، أما سائرها فإن الله یكرهها منذ الأزل، وقریتي وحدها هي التي ستكون سعیدة، بینما سائر القرى ستكون تعیسة إلى الأبد وهذه الدعوة هي شيء من الجنون و غیر المعقول، لأنه من غیر الممكن أن یخلقنا متساوين ثم یفرق بیننا السلام الدائم حسب فولتیر لن یتحقق مالم یتسامح الناس مع بعضهم البعض، ویتعلم كل واحد منهم كیف یتسامح مع من یخالفه في الأمور الدینیة السیاسیة و الفكریة، فالقضاء على السلطة الكنسیة التي تعیش في أرضها جذور التعصب هو الخطوة الأولى لبناء مجتمع سلیم متسامح.

ختم فولتیر رسالته في التسامح بمقالة عنوانها (صلاة إلى الله)، وهي دعوة ورجاء وجهه إلى الله لكي یعم السلام في الأرض، متخطیًا فوارق اللغات والأماكن والأجناس، یقول فیها: إذن لم أعد إلى البشر أتوجه بل إلیك یأرب جمیع الكائنات والعوالم والأزمان:

فهو أن تلطف وتنظر بعین الرحمة والشفقة إلى الأخطاء والضلالات المترتبة على طبیعتنا، ولا تسمح بأن تكون هذه الأخطاء والضلالات سبب هلاكنا، أنت لم تمنحنا قلبًا كي نبغض بعضنا بعضًا،

لا تسمح بأن تغدو هذه الفوارق الطفیفة التي هي من السمات الممیزة لتلك الذرات المسماة بشرًا، علامات حقد اضطهاد.

حبذا لو تذكر البشر قاطبة، أنهم إخوة، ويالیتهم یمقتون الاستبداد الذي یثقل باهظ وطأته على النفوس تماما كما یمقتون اللصوصیة التي تحرم بالقوة العاملین وأصحاب الحرف المسالمین من ثمرة عملهم.

فلو تأملنا في تاریخ الأدیان لوجدنا مؤسسیها یشیدون بالمطالب الأخلاقیة ذاتها دومًا، فالعقائد تختلف من دیانة إلى أخرى بینما الأخلاق واحدة وثابتة لدي جمیع الناس، لكن الفرق هو في استخدام عقلنا في إدراكها؛ فمحمد وزرادشت وبوذا والمسیح، یدعون إلى الأخلاق ذاتها، فلماذا إذن التعصب والظلم مدمنا نشترك ونخضع للقانون الأخلاقي ذاته، وهو صالح وعام لجمیع البلدان وجمیع الناس وهو بدیهي لو تأملنا لوجدناه داخل نفوسنا.

النقد والتقويم

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

لقد زرع فولتیر في الوعي القومي الفرنسي والأوروبي إن لم نقل العالمي حب الحریة والتسامح ومقت التعصب والخرافة والاضطهاد، وتعتبر فلسفته أكثر فلسفة حدیثة مستنیرة عن روح عصر الأنوار.

إن فلسفة فولتیر الحقیقیة، كانت تحمل طابع عصره بوضوح، تمتاز بـ:

هي فهم للحیاة وحكمة عملیة، وفن العیش بسعادة مع التلذذ بخيرات الحضارة.

وهي تقریظ متحمس لاستعمال المناهج التجریبیة ضد اللاهوتیین من جهة، ومن جهة أخرى ضد العقلانیین الذین یفكرون على طریقة دیكارت التقلیدیة.

وهي نقد للتعالیم القدیمة وأمل في مستقبل أفضل للبشر في سبیل العدالة والتسامح، وبالرغم من المكانة التي وصلت إلیها أفكار فولتیر التنویریة والسلام الذي نشرته رسائله، إلا أن أسلوبه الساخر من أهم القضایا ووقفته في وجه أهم مؤسسات الدولة الدینیة والكنسیة، جعله لا یسلم من النقد أحیانًا إن لم نقل دائمًا.

فقد نظر إلى فولتیر أن أعماله لم تكن ابتكارًا ولا إبداعًا إلا نوعًا ما، اعتبرت دعوته لتسامح مثل الذي كان سائدًا عند الإنجلیز ورفضه للنظام الدیني والسیاسي في فرنسا ومحاربته له واتهامه له بالفساد.

كان فولتیر في المجال السیاسي والظلم، برغبة منه في السلطة والوصول إلى الحكم بطریقة لینة.

یتمنى لفرنسا الحریات التي كان الإنجلیز من الطبقات المتوسطة یتمتعون بها، ولم یعتقد فیما یبدو أنه یجب تقلید شكل الحكومة البریطانیة، ولكنه كان یأمل بالأحرى في أن یحكم البلد بنیة حسنة، حكومة ملكیة مستنیرة، وقد تأثر المستبدون المستنیرون في عصر التنویر في بلاد أخرى بأفكار فولتیر.

فقد انتقدت كتابات فولتیر أیضًا من ناحیة أنها جعلت من عامة الناس یجعلون من الكنیسة وأنظمة الدولة مدعاة للسخریة؛ أي أنها شجعت على التقلیل من شأن ومكانة المؤسسات الدینیة والسیاسیة في الدولة وجعلتها محل سخریة من طرف عامة الشعب التي كانت معظم كتاباته موجهة إلیهم، كرسالته في التسامح ومعظم روایاته وأعماله الأدبیة والمسرحیة.

كما شبه فولتیر بطغاة الشرق القدامى، لأنه عالج مسالة المسیحیة والكتاب المقدس بالطریقة التقلیدیة متبعًا في ذلك خطي معظم فلاسفة عصره الذین نظروا للأناجیل أنها تعسف من طرف الملوك والرهبان؛ كما تجاهل المكانة الفكریة التي تحملها الأناجیل من قیم فكریة وأخلاقیة التي كان باستطاعته بفضل ذكائه وفكره الفذ أن ینظر إلیها نظرة أكثر إیجابیة وعملیة.

ونجد فولتیر یدعو من ناحیة إلى التسامح الدیني بین الناس، ومن ناحیة أخرى یجادل ضد الدیانة المسیحیة، كما دعا إلى الإیمان بالله الواحد منظم هذا الكون، وناقض فولتیر في هذا فلسفة الأنوار التي تدعوا إلى الانفتاح والمادیة والإبعاد عن كل ما هو دیني، كما حارب المسیحیة باعتبارها أحد أكبر دعائم التعصب ومنبع الفتن وسبب الحروب، ولكن من جهة أخرى دعا إلى التسامح، وبهذا یكون قد نفى مكانة الدین وضرورته داخل المجتمعات، وكأن الرسل و الأنبیاء و الدیانات عبر التاریخ قد جاءت عبثًا.

الــــهـــــوامش
مؤجز تاريخ الفلسفة, ترجمة:د.توفيق سلوم،ط1،بيروت:دار
الفارابي،1989،ص 197
جورج طرابيشي، معجم الفلاسفة،ط1،بيروت:دار
الطليعة،1987،ص 438
د.أحمد محمد األصبحي،قراءة في تطور الفكر السياسي،ج3 ،
ط،1،بيروت:مؤسسة الرسالة,عمان:دارالبشير،2000،ص1285
د.مصطفى الخشاب،تاريخ الفلسفة والنظريات
السياسية,ط1،القاهرة:جلنة البيان العربي،1953،ص 431

هاشم صالح،“فولتير : زعيم األنوار األوروبية“، صحيفة الشرق
األوسط،،2008/2/6

محمد زكريا توفيق،“فولتير رائد من رواد فلسفة التنوير

كانديد / فولتير
رسائل فلسفية / فولتير

مشكلة الاستقراء عند كارل بويرKarl Popper

انشغل بوبر Karl Popper كثيرا بمشكلة الاستقراء، في علاقتها الوطيدة بمشكلة الفصل، طوال حياته العلمية. ففي كتابه المعرفة الموضوعية، اعترف بأن هذه المشكلة استقطبت اهتمامه، بل ووجد لها حلا، منذ فترة متقدمة من حياته العلمية. فبهذا الصدد كتب: «سبق لي، خلال شتاء 1920-1919، أن قمت بصياغة وحل مشكلة الفصل بين العلم واللاعلم، ولم أكن مقتنعا بكونه (الحل) صالحا للنشر. غير أنني، وبعد أن قمت بحل مشكلة الاستقراء، اكتشفت وجود تداخل بين هاتين المشكلتين؛ و هذا ما جعلني أولي أهمية لمشكلة الفصل. لقد شرعت في الاشتغال على مشكلة الاستقراء سنة 1923 ووجدت حلا لها حوالي سنة 1927»

وإذا كان بوبر قد توصل إلى حل لمشكلة الاستقراء حوالي سنة 1927، فإنه لم ينشره إلا في سنة 1933، في مقال مقتضب باللغة الألمانية. و في سنة 1934، أثار هذا الموضوع مجددا في كتابه التاريخي منطق البحث العلمي و منذ ذلك الحين، لم يتردد في إثارة هذا الموضوع كلما أتيحت له الفرصة، إلى درجة تسمح بالقول إن مشكلة الاستقراء شكلت، إلى جانب مشكلة الفصل، المحور الأساسي لأعماله الإبستملوجية.

وعلاوة على ذلك، شكل انشغال بوبر بمشكلة الاستقراء نقطة تحول بارزة في البحث الإبستملوجي المعاصر. فمن جهة، أمطر الاستقراء بوابل من الانتقادات الوازنة جعلت الثقة فيه تتراجع بشكل ملحوظ. ومن جهة أخرى، اقترح منهجا بديلا فضل تسميته بالمنهج الاستنباطي للمراقبة خضع، بدوره، لنقاشات كثيرة أفرزت مواقف مختلفة، بل ومتباينة أحيانا. وبالجملة، يمكن القول إن مناقشة بوبر لمشكلة الاستقراء شكلت الأرضية الخلفية لعدد لا يستهان به الأعمال الإبستملوجية التي ظهرت منذ أربعينيات القرن الماضي

بوبر ونظرية الاحتمالات

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

يمكن القول إن حساب الاحتمالات لا وزن له في منهج بوبر على العكس من المنهج الاستقرائي. في المنهج الاستقرائي المعتمد على التحقق وليس التكذيب، يرتبط صدق النظرية بزيادة درجة احتمالها، أما في منهج بوبر فمعيار قابلية النظرية للتكذيب يرتبط طرديًا باتساع المحتوى المعرفي لها، ولكن هذا الأخير يعني درجة أقل من الاحتمالية. ونظرًا لاهتمام بوبر بفكرة نمو العلم وزيادة محتواه المعرفي فهو لا يهتم بدرجة الاحتمالية المرتفعة.
أي أن النظرية العلمية الجيدة عند بوبر محتواها المعرفي واسع، وقدرتها التفسيرية من ثم كبيرة، وهذا يجعل . الرجل يكاد يكون

بالاستقراء وبحساب الاحتمالات، اللذين يرفضهما بوبر.
وإن كان الأمر لا يخلو من شبهة استقرائية، نُقد بوبر كثيرًا بسببها؛ كونه يستخدم النظريات المعززة القديمة كجزء من المعرفة الأساسية ، ويصيغ في ضوئها الفروض، ويبحث في ضوئها عن الأمثلة المكذبة لنظرية ما، وأيضًا يستدل بتلك المعرفة القديمة للوصول إلى استدلالات تنبؤية!
كما أن بوبر في مرحلة لاحقة من حياته العلمية قد اعترف بمفهوم الصدق للنظرية “الصدق هو مطابقة النظرية للوقائع”، وأنه قد تكون هناك نظرية كاذبة في جوانب وصادقة في أخرى

سعى فيلسوف العلم كارل بوبر، إلى حل مشكلة الاستقراء. حاجج أن العلم لا يستخدم الاستقراء، وأنه يمثل أسطورة في حقيقة الأمر. عوضًا عن ذلك، تتشكل المعرفة من خلال الحدوس الافتراضية، والنقد.
قابليتها للتكذيب أكبر، ولكنه على العكس يجعل فرضياتها قليلة الاحتمال! رغم أن الاحتمال المنطقي يعني الاقتراب من الصدق الشامل!
كما أن بوبر يعتبر الفروض الجريئة أكثر علمية، وليست الفروض العينية، والأخيرة هي التي تحقق درجة احتمالية مرتفعة.
ويؤكد بوبر على أن قضايا تحصيل الحاصل -كظهور أحد وجوه زهر النرد- ليست قضايا تجريبية، وهي قضايا احتمالية غير علمية لأنها غير قابلة للتكذيب؛ كونها تحدد نتيجة محددة مسبقًا.
كان اهتمام بوبر أن يجعل قضايا الاحتمال قابلة للرفض التجريبي.
ومشكلة الاحتمالات بالنسبة لبوبر أن المنطق الاستقرائي وليس الاستنباطي هو الذي يُعبِّر عن منطقة الاحتمال (ما بين الصفر والواحد)، وهي الأكثر شيوعًا وليست العلاقات التامة الموجبة أو السالبة؛ لأنه في نظرية الاحتمالات تؤثر التقديرات القديمة على تصوراتنا لما يمكن أن يحدث. أي أن الاعتقاد أو الحكم الاحتمالي يُطبق على حوادث في الواقع ليست لنا بها أي خبرة، وهذا منطق استقرائي خالص.
والاحتمال عنده هو أقرب لرغبة نفسية أو هو اعتقاد يعبر عن مقدار الثقة في القضية من خلال البيانات، مشعرًا باليقين أو عدم اليقين. وفي نظره أنه لا قيمة علمية له. فبوبر يرى نزعة ذاتية وتأويل ذاتي في نظرية الاحتمال لا تتناسب مع الموضوعية الواجب توفرها في المعرفة.
بالرغم من ذلك كان بوبر في البداية يعتمد تعريفًا للاحتمال في ضوء النظرية التكرارية بأن احتمال حادث ما هو تكرار الحدوث النسبي له، باعتباره عضوًا في سلسلة حوادث. على سبيل المثال فإنه عندما نقول إنه توجد درجة احتمال قدرها 2/1 لإحدى خاصيتيّ رمي العملة، فهي تعبر عن تكرار الحدوث النسبي داخل نطاق فئة الرميات كلها. وهي بهذا تعبر عن صورة العالم الواقعي. ويرتبط هذا التصور للاحتمال عند بوبر ببدهية واحدة وهي العشوائية، فالعشوائية هي التي تحكم سلسلة الحوادث. ولا نستطيع أن نتنبأ بنتيجة محددة لأي حالة جزئية، ولكن التجارب والملاحظات ستوضح الثبات الإحصائي.
في حين سجل بوبر اعتراضه على بدهية التقارب التي يربطها آخرون بالاحتمال في ضوء النظرية التكرارية؛ ذلك أنه رأى للتقارب نزعة استقرائية؛ حيث يُفترض أن التكرارات الملاحظة تقارب التكرارات الفعلية، وأن هناك ما يشبه التأييد التجريبي لهذا الاستنتاج.
لكن كانت المشكلة عند تقدير احتمال الحوادث المفردة، فإنه وإن كان يمكن تناوله بشكل سليم كما لو كان متعلقًا بسلسلة واقعية من الحوادث ترتبط بها درجات الاحتمال، لكن أحيانًا يتعلق الحادث بعدة سلاسل واقعية، وتتغير درجة احتماله في كل منها باختلاف الشروط المنتجة له.
أيضًا أضاف بوبر إشارة للقوى اللا حتمية الموجودة حين تعبر الاحتمالات عن تكرارات حدوث إحصائية للسلاسل.
ونظرًا لأن تصور بوبر عن الاحتمال يرتبط بالعشوائية، فقد حاول أن يضع ضوابط لهذه العشوائية، والتي هي النزوعات الطبيعية الكامنة في الحوادث القابلة للتكرار. فقد فسر بوبر قضايا الاحتمال تفسيرًا نزوعيًا، فالاحتمالات عنده هي استعدادات موضوعية، وليست أمورًا تُفسَر إحصائيًا.
وباختصار، فإن حساب الاحتمالات عند بوبر هو نظريته في “النزوع الطبيعي” التي وضعها أساسًا لتقديم تفسير موضوعي لنظرية الكم. والنزوعات هي سمات واقعية للمواقف الفردية، لا تستند إلى أي أمر غير واقعي متوهم عند تفسيرها لقضايا الاحتمال الخاصة بالتجارب المفردة، وهي بذلك تختلف عن تكرار الحدوث الذي يتناول الموقف باعتباره أمرًا غير واقعي. فالنزوعات هي حَدْس عن بنية العالم، وهي محاولة للتفسير والتنبؤ، ولكنها قابلة للتعديل أيضًا.
ويرى بوبر أن هناك علم حتمي وعلم لا حتمي، ويظهر هذا في موقفه المتذبذب من التنبؤ العلمي، والذي يمكن القول إنه -في النهاية- قد تقبله جزئيًا؛ بمعنى أن إمكانية التنبؤ قائمة، ولكنها غير تامة وغير ممكنة لجميع الأنماط الممكنة من الحوادث، فالعلم نامي ولكن هناك صعوبة في التنبؤ به.
وكذلك نزوعات بوبر هي علل حتمية ولا حتمية في آن واحد، فهي قد تكون حتمية باعتبار الاحتمال، ‏عندما تنتج عن النظام التجريبي نزوعات محددة.
كما أن بوبر يرفض الحتمية في مواضع أخرى، ويرى أن بعض الحوادث تخضع عند مستوى محدد للنزوع أكثر مما تخضع لقوى حتمية.
ولبوبر مقال شهير عن “السحب والساعات” ‏كمثالين شهيرين لنسق فيزيائي لا حتمي، وآخر حتمي.‏
وتعقيبًا على آراء بوبر فإن ميكانيكا الكم تخبرنا أن الحوادث في الطبيعة محتملة. قوانين الطبيعة مثل السقوط الحر للأجسام، هي حوادث متكررة، لذلك قوانين الطبيعة تبقى لا حتمية. بينما قوانين الفيزياء تبقى حتمية. والملاحظ هو خلط الكثير من العلماء بين قوانين الطبيعة وقوانين الفيزياء؛ حيث أن الأخيرة هي وصف للظاهرة والذي يعبر عن فهمنا لقوانين الطبيعة. كارل بوبر من الواضح أنه لم يميز هذا وخلط مثلما خلط كثيرون.

موقف بوبر من الماهوية والذرائعية والمادية

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

يرى الماهويون أن الهدف من البحث العلمي هو معرفة ماهية الأشياء بشكل كامل ونهائي، بينما لم يهتم بوبر أبدًا بالبحث في الماهية، ولا يعنيه إثباتها أو نفيها، كونه يراها لا قيمة لها! ربما يبدو هذا غريبًا للغاية بالنسبة لفيلسوف.
بوبر أيضًا لا يؤمن بالكمال العلمي، ويكثر التشكك في إمكانية التنبؤ، كما أنه قد تشكك كثيرًا في أنه ربما يؤدي ‏التمسك بعقيدة ما عن ماهية ما إلى إعاقة نمو ونشر المعرفة.‏
كما لم يتفق بوبر بتاتًا مع الذرائعيين في نظرته إلى نمو المعرفة، فبينما يراها نامية باتساع قدرتها التفسيرية، يرى الذرائعيون أن العلوم الحقيقية هي فقط العلوم التطبيقية، لأنهم يركزون على الفائدة منها، ونمو العلم يرتبط بنمو التطبيقات التكنولوجية، ولا يعطون أي أهمية لما يوجه بوبر عنايته له من اختبار نسق النظرية للحكم عليها.
بوبر أيضًا رغم أن نظريته المعرفية قد تبدو للوهلة الأولى مادية، إلا أنه قد رفض المذهب المادي من المنظورين الفلسفي والنفسي، والذي لا يعطي أصحابه –على اختلافهم- أهمية للعمليات العقلية والشعورية وأحيانًا ينكرونها، ولا يقيمون للنفس (العقل) قيمة في علاقتها بالجسد. بينما كان يؤمن بوبر بالتفاعل المتبادل بين العقل والجسد.
العوالم الثلاثة
عالم المعرفة الموضوعية عند بوبر (العالم العقلي) (العالم الثالث) ينفصل عن العالم المادي (الفيزيائي) (العالم الأول) وعن العالم النفسي (عالم الخبرات الشعورية أو العالم الذهني العقلي) (العالم الثاني)، رغم أنه المنوط بحل مشاكل العالمين الآخرين.
بالرغم من ذلك فعالم المعرفة (العالم الثالث) الذي يضم النظريات والقوانين والبراهين له درجة من الواقعية عند بوبر كونه يؤثر في العالم الأول المادي الفيزيائي، عن طريق العالم الثاني كوسيط بينهما.
والمعرفة عند بوبر أيضًا موضوعية غير ذاتية، ومستقلة عن حاجتنا لها واعتقاداتنا وتأكيداتنا حولها، بل هي أيضًا أزلية وأبدية. وإن كان بوبر رغم حديثه عن أزلية وأبدية عالم المعرفة، واعتقاده بإمكانية ذلك فإنه لا يحبذ القول به، ويرى الأفضل أن نعتبر عالم المعرفة نتاجًا للعقل الإنساني. ولكن كيف تكون المعرفة مستقلة وتكون نتاجًا للعقل في آنٍ واحد؟!
هذا التعبير الأخير “المعرفة نتاج العقل” يقصد به بوبر أن المعرفة تنتج لحظة يكتشفها العقل، فنحن لا نؤثر في المعرفة، وطالما بوبر يصر على أن منهجه العلمي قائم على الاكتشاف، فالاكتشاف يكون لشيء موجود ومستقل عني، ولكنه غائب عن إدراكي حتى اللحظة التي أدركه فيها، ولو فقدت المعرفة الاستقلال لفقدت موضوعيتها، وبهذه الرؤية لا محيص عن الإذعان بأن المعرفة أزلية، سابقة على اكتشاف العقل، لأنها لن تكون مستقلة وموضوعية بغير هذا التصور، وكونها أزلية أبدية سيحيل بدوره إلى قوة عاقلة أزلية أبدية هي مصدرها. وقطعًا لم يحبذ بوبر ذلك أيضًا. وإن كان بوبر دائم التشاغل عن تحديد مصدر المعرفة، ويدّعي أنه غير معني بتحديده!
كما أن عالم المعرفة عند بوبر يعتبر نشازًا وسط فلسفة بوبر التي تسودها النزعة الشكية.
الملفت أن بوبر قد اجتهد في فلسفته أن يصور لنا عالم المعرفة عنده بصورة تخالف تمامًا عالم الأفكار عند أفلاطون؛ فعالم أفلاطون إلهي النزعة، والأفكار عنده ثابتة وصادقة وغير قابلة للتشكيك، بينما بوبر، وإضافة لعدم استقرار المعرفة عنده، فقد أراد للمعرفة أن تكون وليدة عقل الإنسان، رغم كونها سابقة عليه!، فناقض نفسه وطعن في استقلالية المعرفة وموضوعيتها، وكأن خوفه من غائية الإله قد أوقعته في غائية أخرى للمعرفة التي هي من نتاجنا!
كما أن بوبر لم يجزم بأن المعرفة تؤثر فينا أو لا تفعل، أو ربما تتفاعل معنا عند اكتشافنا لها، وهل هذا يؤثر في دعاوى استقلاليتها.
علاقة التأثير والتأثر بين فلسفة العلم عند بوبر ونظريات علمية أخرى
يقولون: كما أن من أهم خصائص العلم التراكمية، فإن من خواصه أيضًا التكاملية. وتلك التكاملية وعلاقة التأثير والتأثر قد تتخطى فروع العلم المختلفة وتتعداها إلى فلسفة العلم.
ويمكن أن نقرر بثقة أن أفكار كارل بوبر الأساسية حول نظرية المعرفة ومنهج العلم قد تبلورت بسبب تأثره بنظريات في مجالات علمية مختلفة، اتفاقًا أو اختلافًا. وربما كانت العلاقة ارتباطية وارتباطاتها غير مباشرة بين أفكاره وتلك النظريات. بل يمكن القول إن مباديء الجِشطلتيعد كارل بوبر أشهر فلاسفة العلم في القرن العشرين، وأكثرهم تأثيرًا في مسيرة فلسفة العلم الحديثة، وسواء اتفقنا أو اختلفنا معه، يمكن القول إنه قد أحدث ثورة في المنهجية العلمية لا تقل عما أحدثه أينشتين في الفيزياء حين غيّر لنا نظرتنا إلى الزمن.
وعندما نتحدث عن نظرية المعرفة عند بوبر فنحن نريد أن نفهم طبيعة المعرفة الإنسانية ومبادئها ومصادرها وقيمتها وحدودها كما يراها كارل بوبر.
اللافت أن جانبيّ فلسفة بوبر الميثودولوجي (المنهجي) والابستمولوجي (المعرفي) يتطابقان تطابقًا تامًا في المباحث المشتركة بينهما؛ فالمنهج العلمي عند بوبر هو نفسه نظرية المعرفة.
والهدف من هذا المقال هو تحليل أهم أفكار بوبر الفلسفية، كذلك تحليل لعلاقة التأثير والتأثر بين أفكار كارل بوبر وبعض أهم النظريات العلمية السائدة في عصره، والتي ‏تبلورت أفكاره بالاتفاق والاختلاف معها.‏
نوعا الاستدلال العقلي
ينقسم الاستدلال العقلي إلى قسمين رئيسيين، هما: الاستقراء والاستنباط؛ إذ يرتبطان ‏بإقامة الحجج العقلية، وكلاهما يوصلانا إلى استنتاجات، لكن لكل منهما منهج يختلف عن ‏الآخر. فالتفكير الاستنباطي ينقلنا من العام إلى الخاص؛ بمعنى أن الاستنتاج الذي نتوصل ‏إليه نتيجة القياس المنطقي أقل عمومية من المقدمة الكبرى التي انطلقنا منها، وعلى العكس ‏منه فإن آلية الاستدلال في التفكير الاستقرائي تنقلنا من الجزئيات إلى استنتاج عام.‏
قبل كارل بوبر كان يُنظر إلى الاستقراء على أنه الأداة الرئيسية لبناء العلم؛ فماذا عساه يضيف الاستنباط للعلم؟، فالعلم بُني بالاستقراء لا بالاستنباط، لأن الاستقراء يمثل إضافة؛ كونه ينطلق من جزئيات وصولًا إلى تعميمات أوسع تضيف إلى بنية العلم، بينما الاستنباط لا يُمكِّننا سوى من التحقق من صحة نتيجة هي أضيق من المقدمة المعلومة التي انطلقنا منها.
فالمنهج العلمي كان يقوم أساسًا على الاستقراء، لكن بوبر لم يره كذلك.

الاستدلال العقلي عند بوبر استنباط فقط!

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

كان تمييز بوبر بين الاستنباط والاستقراء مناظرًا للتمييز بين المذهب العقلي والمذهب التجريبي، فالأخير كان قائمًا على الاستقراء، وتحديدًا الاستقراء الناقص، فالتجريب ما هو في حقيقته سوى وسيلة لإضافة ملاحظات يتم التعميم منها استقرائيًا للخروج باستنتاج سليم.
ولأن الاستنباط باعتباره منهج استدلال عقلي أكثر موضوعية، وأكثر توافقية وانضباطًا مع قواعد المنطق، وقدرتنا على التحقق منه أكبر بكثير من المتاحة في حال الاستقراء، فكارل بوبر يرى الاستنباط منهج الاستدلال العقلي المقبول الوحيد!، وهاجم الاستقراء كطريقة كلية بل وكعمليات صغيرة أثناء الاستدلال. كما أن بوبر يرفض الخبرة كمصدر لصدق الاستقراء لكون البرهنة عليه لا بد أن تقوم على استدلالات استقرائية!
ومفهوم نمو المعرفة هو من أهم المفاهيم التي تشيع في فلسفة بوبر العلمية، بل هو أساسها؛ فبوبر لا يقتنع بالمنهج الاستقرائي الذي يوصلنا وفقًا لملاحظاتنا إلى نظرية واحدة، من المفترض أنها تحدد ماهية المعرفة بشكل كامل، وتعطي تفسيرًا كاملًا، لن يكون قابلًا للنمو.
في رأيي أن هجوم بوبر على الاستقراء كان غريبًا. صحيح أن نتائج الاستدلال الاستنباطي تكون يقينية لأنها استنتاج من مقدمات أكبر منها، وأن الاستقراء تظل نتائجه مشكوك فيها لأنه رد صحة وصدق القضية الكلية إلى قضايا مفردة، لكن لا يمكن أن يكون الاستنباط متفردًا بالقبول المنطقي، فما بالنا بالقبول العلمي. لكن بوبر، الذي هاجم الاستقراء لم يستطع أن يستغني عنه، وكثيرًا ما نُقِد لاستخدامه عمليات استقرائية رغم ادّعائه أنها ليست كذلك. سنذكر أمثلة عليها في حينها.
ولم يركز بوبر فيما يخص الاستقراء سوى على إثبات فشله كمنهج ومبدأ، ثم كمعيار للتمييز بين النظريات العلمية. وقدّم منهجه في الكشف العلمي للرد على مشكلة الاستقراء.
وكما يرفض بوبر المنهج الاستقرائي على أساس منطقي، فهو يرفضه على أساس سيكولوجي!، فعند بوبر “ما يصدق في المنطق يصدق في علم النفس”؛ فنحن نبحث عن إطرادات لنفرضها على العالم، لأجل أن يوافق توقعاتنا. والحقيقة أن تلك الأفكار الأخيرة عن الإطرادات أو الاعتقاد بتوقعات معينة إن لم تكن استقراءً، فماذا عساها تكون؟!
لكن بوبر يدّعي أن الميل والتوقع للإطراد في الطبيعة هو اعتقاد براجماتي، إلى حد ما فطري، يرتبط بالاختيار ‏بين البدائل، وليس ناشئًا عن تكرار؛ فنظرًا لرفضه الاستقراء الذي يقود إلى نظرية واحدة، فإن منهجه قائم على الاختيار بين بدائل؛ حيث يفترض نظريات متكافئة أمامه يبحث في صحة كل منها، وصولًا لاستنتاج صحة أفضلها، والتي تبقى مع ذلك قابلة للمزيد من الفحص مع توفر بدائل أخرى.
وتتوفر تلك البدائل من خلال حدس العلماء؛ فعلى العالم أن يحْدِس (يفترض) أكثر من حَدْس، وهو تخمين ذكي لحل المشكلة، ثم باستخدام المنهجية العلمية الموضوعية يختار أفضلها؛ وبذا ينمو العلم بهذه الإضافة.
والصدق عند بوبر دائمًا مشكوك فيه، ودائمًا مؤقت. ينتظر ظهور النظرية البديلة أو الحل البديل.
في المقابل، يمكن القول إن بوبر لم يحترم الأساليب الأمبريقية كأساس لتقرير صحة نظرية أو مقارنة أفضلية عدد من النظريات أو الفرضيات المتكافئة كما كان يراها لأجل الوصول إلى نظرية أصدق وأشمل وأعمّ. وإن كان يرى أنه يمكن استخدام الأساليب الأمبريقية أحيانًا.
ويمكن تلخيص فكرته الأساسية في أنه دون خطوات استقرائية يمكن أن ينمو العلم، وذلك عن طريق وضع فرضيات، ثم اختبارها بأن نستنتج استنباطيًا ما يترتب على كل فرض، ومستعينين بالملاحظة أو التجربة نقارن تلك الاستنتاجات بالواقع، ‏فيتعزز الفرض، أو يتم ‏تكذيبه. ‏فيمكن الاختيار بين النظريات المتكافئة المطروحة وصولًا للنظرية الصحيحة.
ونلاحظ هنا أن الاستنباط عند كارل بوبر ينطلق من مقدمات غير مؤكدة، على عكس ‏الاستنباط الديكارتي؛ فمقدماته الاستنباطية هي فروض حَدْسية تخمينية مؤقتة وقابلة للتغير.‏

منهج الكشف العلمي

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

تبدأ خطوات المنهج الاستقرائي بالملاحظة والتجربة، ومن خلالهما يُكوِّن الباحث تعميم استقرائي أولي، وللتيقن منه يتم وضع الفروض، ثم التحقق من صدقها، وصولًا لإثباتها أو نفيها، ومن ثم يخلص الباحث إلى معرفة مُتحقق منها.
بينما خطوات منهج الكشف العلمي عند بوبر تبدأ بمشكلة ترتبط بنظرية ما، ثم يتم اقتراح حل لها عبارة عن فرض ونظرية جديدة، ثم استنباط واشتقاق قضايا قابلة للاختبار من النظرية الجديدة، ثم محاولة تفنيد وتكذيب تلك القضايا عن طريق اختبارها في ضوء الملاحظات والتجارب، ونظرًا لأنه عادة توجد فروض ونظريات متكافئة تم تفنيدها فإن الخطوة الأخيرة تكون تفضيل إحدى النظريات وترجيح إحداها.
في المنهج الاستقرائي يكون الاستدلال على صحة النظريات ومعيار التمييز بينها هو التحقق منها (استدلال إيجابي)، ويرتبط بالملاحظة والتجربة، وحساب الاحتمالات. وهذا يؤدي إلى استقرار وثبات للنظريات لا يتفق مع مفهوم بوبر عن نمو العلم، المرتبط باستمرار نقد النظريات.
في المقابل فإن منهج الكشف لبوبر لا يبدأ بالملاحظة والتجريب، والاستقراء منهما، بل هما وسيلتان مساعدتان فقط في اختبار النظريات والفروض، وتكذيب وتفنيد غير الجيد منها واستبعاده؛ فلا بد من فرض يحْدِس به العالم يسبق الملاحظة والتجريب وليس العكس. وهو ما يعكس الجرأة والجسارة العلمية من وجهة نظر بوبر، ولكن غيره يراه تعطيلًا عجيبًا للحواس، ورفضًا لأن تكون مدخلاتها نقطة بداية في طريق المعرفة.
وسنُفصِّل في توضيح منهج بوبر، ونقارن ما لزم الأمر بينه وبين المنهج الاستقرائي.
معيار التمييز الأساسي عند بوبر (قابلية التكذيب)
كانت لبوبر طريقته التي افترضها -بديلًا عن الاستقراء- لنمو العلم والمرتبطة بمنهجه العلمي، وبمعيار القابلية للتكذيب (الدحض) الذي وضعه للتمييز بين ما هو علمي وما هو غير علمي، وغيّر من خلاله طريقة الاستدلال على صحة النسق العلمي، من التحقق (استدلال إيجابي) إلى التكذيب (استدلال سلبي)؛ فالبيّنة (الملاحظة والتجربة) بدلًا من أن كانت تدعم فرضًا في المنهج الاستقرائي صار عليها في منهج بوبر أن ترفضه.
والاختبار العلمي للنظرية عند بوبر يتمثل في البحث عن الملاحظات المُكذِّبة؛ فإن لم تنجح البيّنة في رفض النظرية فقد نجحت النظرية في الاختبار. بل يصل الأمر أن بوبر يعتقد أن البيّنة المؤيدة لأي نظرية هي في حقيقتها كانت اختبارًا لتكذيب النظرية، ولم ينجح، وبالتالي فهي تدعم النظرية عن طريق إثباتها لصمود النظرية أمام اختبار التكذيب.
والأهم أن النظرية غير القابلة للتكذيب؛ أي التي لا يمكن التنبؤ بوقوع حادث ما يمكن أن يُكذِّبها، هي نظرية غير علمية، لأنها تفتقد شرط الاستدلال على صحتها. أما النظرية العلمية الجيدة فهي التي تحدد ما الذي لا يمكن أن يحدث لو كانت فروضها صحيحة. وتلك المُكذِّبات المحتملة للنظرية يُعطيها بوبر مصطلح “المحتوى التجريبي للنظرية”.
أما المحتوى المنطقي للنظرية فيتمثل في النتائج التي يمكن أن تُشتق من النظرية. واختبار النظرية يعتمد كثيرًا على التطبيق التجريبي للنتائج المشتقة منها. وتضم النتائج المشتقة إضافة للمُكذبات المحتملة، القضايا التي لا تناقض النظرية.
وكلما زاد المحتوى المنطقي لنظرية علمية كلما زاد المحتوى التجريبي لها “المُكذِّبات المحتملة”. أي أنه كلما أمكن اشتقاق عدد أكبر من القضايا الأساسية من النظرية كلما كانت النظرية أكثر قابلية للتكذيب.
والنزعة الشكية ظاهرة تمامًا عند بوبر، فهو لا يبحث عن اليقين، بقدر ما يسعى لتكذيب فرض، ثم البحث بعد ذلك عن فرض أفضل منه، لن يلبث أن يبحث له عن مكذبات هو الآخر. لكن شك بوبر ليس الشك المطلق الذي يدّعي استحالة الحصول على المعرفة، بل هو شك منتج ومتجدد يسعى لاختبار المعرفة وإنمائها. كما أنه يجعل العلماء في ادعائهم المعرفة الإنسانية أكثر تواضعًا.
لكن بوبر لم يفهمنا بشكل واضح ما هي الشروط التي يشترطها والتي تجعل نظرية ما كاذبة!
أسس المفاضلة الثانوية (التعزيز والصدق)
إذا وُجِدت أكثر من نظرية ذات قابلية للاختبار والتكذيب عالية، ومحتواها المعرفي واسع، فإن أساس المفاضلة عندها ينتقل عند بوبر إلى اختيار النظرية الأكثر قابلية للتعزيز والتعزيز عند بوبر يختلف عن التأييد المرتبط بالاستقراء وبحساب الاحتمالات، اللذين يرفضهما بوبر.
وإن كان الأمر لا يخلو من شبهة استقرائية، نُقد بوبر كثيرًا بسببها؛ كونه يستخدم النظريات المعززة القديمة كجزء من المعرفة الأساسية ، ويصيغ في ضوئها الفروض، ويبحث في ضوئها عن الأمثلة المكذبة لنظرية ما، وأيضًا يستدل بتلك المعرفة القديمة للوصول إلى استدلالات تنبؤية!
كما أن بوبر في مرحلة لاحقة من حياته العلمية قد اعترف بمفهوم الصدق للنظرية “الصدق هو مطابقة النظرية للوقائع”، وأنه قد تكون هناك نظرية كاذبة في جوانب وصادقة في أخرى، ونظرية أو نظريات غيرها تعاكسها. وكان عليه تحديد معيار لترجيح الصدق في ضوء أن كل نظرية من النظريتين كاذبة في بعض جوانبهما.
وكان من مرجحاته للنظرية الأفضل: إعطاء أحكام أكثر دقة تصمد أمام اختبارات أكثر دقة، وقدرة وصفية وتفسيرية أعلى للوقائع، واجتياز اختبارات، واقتراح اختبارات تجريبية جديدة، وربط مشكلات لم تكن مترابطة. وكلها معايير ترتبط بالمحتوى الأكثر ثراءً. ويؤكد بوبر أن تلك المُرجِّحات لا علاقة لها بدرجات الاحتمال أو أي شكل من أشكال الاستقراء! وهو ما لا يخلُ من شبهة هو الآخر.
“لكن تبقى قابلية التكذيب المعيار الأساسي لدى بوبر، وليست درجات التعزيز أو درجات رجحان الصدق، فالأخيران معياران تفاضليان”.
وباختصار يمكن القول إنه:
في المنهج الاستقرائي: القضايا المفردة تتجمع للتحقق وللوصول إلى القضية الكلية.
في منهج بوبر: القضايا محل الاتفاق يجب أن تكون مفردة وليست كُلية. يقوم باستغلال الاستنباط وليس الاستقراء للوصول إلى القضايا الكلية وبناء العلم؛ ذلك بأن تتجمع القضايا المفردة باعتبارها أمثلة لتكذيب القضايا الكلية، والإبقاء على القضية الكلية الصادقة منها بعد استبعاد القضايا الكاذبة.
فالنظرية العلمية تأتي من فروض العالم حول القضية الكلية وليس من استقراء الملاحظات من القضايا المفردة. ويمكن باستخدام الاستنباط التوصل إلى قضية كلية عامة باستخدام ملاحظة وحيدة.
وبوبر يستخدم الاستدلال العقلي (الاستنباطي) كما يستخدم الملاحظة والتجريب، فمصادر المعرفة عنده هي عقلية وتجريبية معًا، فلا توجد منابع مؤكدة للمعرفة، ونقد المعرفة أهم عنده من البحث في مصدرها، بالتالي هو يرفض أن يتدخل نوع المصدر في تحديد صدق المعرفة، ويصر على أن قياس الصدق يكون فقط عن طريق الفحص النقدي للمعرفة وما يترتب عليها من نتائج. كما لا يفوته أن يؤكد أن تعلم الإنسان النقد -والذي بدأ مع فلاسفة الإغريق- كان علامة فارقة في تطور ونمو المعرفة الإنسانية، وهو الذي وصل بها إلى ما هي عليه الآن.
وينبغي اللفت إلى أن منهج البحث النقدي عند بوبر أعم وأشمل من طريقة الحذف بالمحاولة والخطأ لأنه يضم إضافة إليه نمو المعرفة. ويمكن صياغة المعادلة التوضيحية الآتية:
منهج البحث النقدي لبوبر= قابلية التكذيب (معيار التمييز عند بوبر) + نمو المعرفة.
ويوجد على الانترنت مقطع فيديو شهير وقديم للغاية من زمن الأبيض والأسود للعالم الكبير ريتشارد فاينمان عن الطريقة العلمي، والتي تبدأ عنده بالافتراض، ثم يحسب ما يترتب على افتراضه، ثم مقارنة ذلك بالواقع، وتحديد ما إن كانت الفرضية صحيحة أو خاطئة بتوافقها أو عدم توافقها مع التجربة. وأيًا كان من وضع الفرضية فإن عدم توافقها يقتضي رفضها مباشرة. وطبعًا هذا يقتضي المحاولة مرة أخرى وافتراض فرضية جديدة. وهذا اتفاق كبير من فاينمان مع بوبر يوضح تأصل ذلك التصور للمنهجية العلمية لدى العلماء في العصر الحديث وليس فقط لدى فلاسفة العلم.

بوبر ونظرية الاحتمالات

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

يمكن القول إن حساب الاحتمالات لا وزن له في منهج بوبر على العكس من المنهج الاستقرائي. في المنهج الاستقرائي المعتمد على التحقق وليس التكذيب، يرتبط صدق النظرية بزيادة درجة احتمالها، أما في منهج بوبر فمعيار قابلية النظرية للتكذيب يرتبط طرديًا باتساع المحتوى المعرفي لها، ولكن هذا الأخير يعني درجة أقل من الاحتمالية. ونظرًا لاهتمام بوبر بفكرة نمو العلم وزيادة محتواه المعرفي فهو لا يهتم بدرجة الاحتمالية المرتفعة.
أي أن النظرية العلمية الجيدة عند بوبر محتواها المعرفي واسع، وقدرتها التفسيرية من ثم كبيرة، وهذا يجعل قابليتها للتكذيب أكبر، ولكنه على العكس يجعل فرضياتها قليلة الاحتمال! رغم أن الاحتمال المنطقي يعني الاقتراب من الصدق الشامل!
كما أن بوبر يعتبر الفروض الجريئة أكثر علمية، وليست الفروض العينية، والأخيرة هي التي تحقق درجة احتمالية مرتفعة.
ويؤكد بوبر على أن قضايا تحصيل الحاصل -كظهور أحد وجوه زهر النرد- ليست قضايا تجريبية، وهي قضايا احتمالية غير علمية لأنها غير قابلة للتكذيب؛ كونها تحدد نتيجة محددة مسبقًا.
كان اهتمام بوبر أن يجعل قضايا الاحتمال قابلة للرفض التجريبي.
ومشكلة الاحتمالات بالنسبة لبوبر أن المنطق الاستقرائي وليس الاستنباطي هو الذي يُعبِّر عن منطقة الاحتمال (ما بين الصفر والواحد)، وهي الأكثر شيوعًا وليست العلاقات التامة الموجبة أو السالبة؛ لأنه في نظرية الاحتمالات تؤثر التقديرات القديمة على تصوراتنا لما يمكن أن يحدث. أي أن الاعتقاد أو الحكم الاحتمالي يُطبق على حوادث في الواقع ليست لنا بها أي خبرة، وهذا منطق استقرائي خالص.
والاحتمال عنده هو أقرب لرغبة نفسية أو هو اعتقاد يعبر عن مقدار الثقة في القضية من خلال البيانات، مشعرًا باليقين أو عدم اليقين. وفي نظره أنه لا قيمة علمية له. فبوبر يرى نزعة ذاتية وتأويل ذاتي في نظرية الاحتمال لا تتناسب مع الموضوعية الواجب توفرها في المعرفة.
بالرغم من ذلك كان بوبر في البداية يعتمد تعريفًا للاحتمال في ضوء النظرية التكرارية بأن احتمال حادث ما هو تكرار الحدوث النسبي له، باعتباره عضوًا في سلسلة حوادث. على سبيل المثال فإنه عندما نقول إنه توجد درجة احتمال قدرها 2/1 لإحدى خاصيتيّ رمي العملة، فهي تعبر عن تكرار الحدوث النسبي داخل نطاق فئة الرميات كلها. وهي بهذا تعبر عن صورة العالم الواقعي. ويرتبط هذا التصور للاحتمال عند بوبر ببدهية واحدة وهي العشوائية، فالعشوائية هي التي تحكم سلسلة الحوادث. ولا نستطيع أن نتنبأ بنتيجة محددة لأي حالة جزئية، ولكن التجارب والملاحظات ستوضح الثبات الإحصائي.
في حين سجل بوبر اعتراضه على بدهية التقارب التي يربطها آخرون بالاحتمال في ضوء النظرية التكرارية؛ ذلك أنه رأى للتقارب نزعة استقرائية؛ حيث يُفترض أن التكرارات الملاحظة تقارب التكرارات الفعلية، وأن هناك ما يشبه التأييد التجريبي لهذا الاستنتاج.
لكن كانت المشكلة عند تقدير احتمال الحوادث المفردة، فإنه وإن كان يمكن تناوله بشكل سليم كما لو كان متعلقًا بسلسلة واقعية من الحوادث ترتبط بها درجات الاحتمال، لكن أحيانًا يتعلق الحادث بعدة سلاسل واقعية، وتتغير درجة احتماله في كل منها باختلاف الشروط المنتجة له.
أيضًا أضاف بوبر إشارة للقوى اللا حتمية الموجودة حين تعبر الاحتمالات عن تكرارات حدوث إحصائية للسلاسل.
ونظرًا لأن تصور بوبر عن الاحتمال يرتبط بالعشوائية، فقد حاول أن يضع ضوابط لهذه العشوائية، والتي هي النزوعات الطبيعية الكامنة في الحوادث القابلة للتكرار. فقد فسر بوبر قضايا الاحتمال تفسيرًا نزوعيًا، فالاحتمالات عنده هي استعدادات موضوعية، وليست أمورًا تُفسَر إحصائيًا.
وباختصار، فإن حساب الاحتمالات عند بوبر هو نظريته في “النزوع الطبيعي” التي وضعها أساسًا لتقديم تفسير موضوعي لنظرية الكم. والنزوعات هي سمات واقعية للمواقف الفردية، لا تستند إلى أي أمر غير واقعي متوهم عند تفسيرها لقضايا الاحتمال الخاصة بالتجارب المفردة، وهي بذلك تختلف عن تكرار الحدوث الذي يتناول الموقف باعتباره أمرًا غير واقعي. فالنزوعات هي حَدْس عن بنية العالم، وهي محاولة للتفسير والتنبؤ، ولكنها قابلة للتعديل أيضًا.
ويرى بوبر أن هناك علم حتمي وعلم لا حتمي، ويظهر هذا في موقفه المتذبذب من التنبؤ العلمي، والذي يمكن القول إنه -في النهاية- قد تقبله جزئيًا؛ بمعنى أن إمكانية التنبؤ قائمة، ولكنها غير تامة وغير ممكنة لجميع الأنماط الممكنة من الحوادث، فالعلم نامي ولكن هناك صعوبة في التنبؤ به.
وكذلك نزوعات بوبر هي علل حتمية ولا حتمية في آن واحد، فهي قد تكون حتمية باعتبار الاحتمال، ‏عندما تنتج عن النظام التجريبي نزوعات محددة.
كما أن بوبر يرفض الحتمية في مواضع أخرى، ويرى أن بعض الحوادث تخضع عند مستوى محدد للنزوع أكثر مما تخضع لقوى حتمية.
ولبوبر مقال شهير عن “السحب والساعات” ‏كمثالين شهيرين لنسق فيزيائي لا حتمي، وآخر حتمي.‏
وتعقيبًا على آراء بوبر فإن ميكانيكا الكم تخبرنا أن الحوادث في الطبيعة محتملة. قوانين الطبيعة مثل السقوط الحر للأجسام، هي حوادث متكررة، لذلك قوانين الطبيعة تبقى لا حتمية. بينما قوانين الفيزياء تبقى حتمية. والملاحظ هو خلط الكثير من العلماء بين قوانين الطبيعة وقوانين الفيزياء؛ حيث أن الأخيرة هي وصف للظاهرة والذي يعبر عن فهمنا لقوانين الطبيعة. كارل بوبر من الواضح أنه لم يميز هذا وخلط مثلما خلط كثيرون.
موقف بوبر من الماهوية والذرائعية والمادية
يرى الماهويون أن الهدف من البحث العلمي هو معرفة ماهية الأشياء بشكل كامل ونهائي، بينما لم يهتم بوبر أبدًا بالبحث في الماهية، ولا يعنيه إثباتها أو نفيها، كونه يراها لا قيمة لها! ربما يبدو هذا غريبًا للغاية بالنسبة لفيلسوف.
بوبر أيضًا لا يؤمن بالكمال العلمي، ويكثر التشكك في إمكانية التنبؤ، كما أنه قد تشكك كثيرًا في أنه ربما يؤدي ‏التمسك بعقيدة ما عن ماهية ما إلى إعاقة نمو ونشر المعرفة.‏
كما لم يتفق بوبر بتاتًا مع الذرائعيين في نظرته إلى نمو المعرفة، فبينما يراها نامية باتساع قدرتها التفسيرية، يرى الذرائعيون أن العلوم الحقيقية هي فقط العلوم التطبيقية، لأنهم يركزون على الفائدة منها، ونمو العلم يرتبط بنمو التطبيقات التكنولوجية، ولا يعطون أي أهمية لما يوجه بوبر عنايته له من اختبار نسق النظرية للحكم عليها.
بوبر أيضًا رغم أن نظريته المعرفية قد تبدو للوهلة الأولى مادية، إلا أنه قد رفض المذهب المادي من المنظورين الفلسفي والنفسي، والذي لا يعطي أصحابه –على اختلافهم- أهمية للعمليات العقلية والشعورية وأحيانًا ينكرونها، ولا يقيمون للنفس (العقل) قيمة في علاقتها بالجسد. بينما كان يؤمن بوبر بالتفاعل المتبادل بين العقل والجسد.
العوالم الثلاثة
عالم المعرفة الموضوعية عند بوبر (العالم العقلي) (العالم الثالث) ينفصل عن العالم المادي (الفيزيائي) (العالم الأول) وعن العالم النفسي (عالم الخبرات الشعورية أو العالم الذهني العقلي) (العالم الثاني)، رغم أنه المنوط بحل مشاكل العالمين الآخرين.
بالرغم من ذلك فعالم المعرفة (العالم الثالث) الذي يضم النظريات والقوانين والبراهين له درجة من الواقعية عند بوبر كونه يؤثر في العالم الأول المادي الفيزيائي، عن طريق العالم الثاني كوسيط بينهما.
والمعرفة عند بوبر أيضًا موضوعية غير ذاتية، ومستقلة عن حاجتنا لها واعتقاداتنا وتأكيداتنا حولها، بل هي أيضًا أزلية وأبدية. وإن كان بوبر رغم حديثه عن أزلية وأبدية عالم المعرفة، واعتقاده بإمكانية ذلك فإنه لا يحبذ القول به، ويرى الأفضل أن نعتبر عالم المعرفة نتاجًا للعقل الإنساني. ولكن كيف تكون المعرفة مستقلة وتكون نتاجًا للعقل في آنٍ واحد؟!
هذا التعبير الأخير “المعرفة نتاج العقل” يقصد به بوبر أن المعرفة تنتج لحظة يكتشفها العقل، فنحن لا نؤثر في المعرفة، وطالما بوبر يصر على أن منهجه العلمي قائم على الاكتشاف، فالاكتشاف يكون لشيء موجود ومستقل عني، ولكنه غائب عن إدراكي حتى اللحظة التي أدركه فيها، ولو فقدت المعرفة الاستقلال لفقدت موضوعيتها، وبهذه الرؤية لا محيص عن الإذعان بأن المعرفة أزلية، سابقة على اكتشاف العقل، لأنها لن تكون مستقلة وموضوعية بغير هذا التصور، وكونها أزلية أبدية سيحيل بدوره إلى قوة عاقلة أزلية أبدية هي مصدرها. وقطعًا لم يحبذ بوبر ذلك أيضًا. وإن كان بوبر دائم التشاغل عن تحديد مصدر المعرفة، ويدّعي أنه غير معني بتحديده!
كما أن عالم المعرفة عند بوبر يعتبر نشازًا وسط فلسفة بوبر التي تسودها النزعة الشكية.
الملفت أن بوبر قد اجتهد في فلسفته أن يصور لنا عالم المعرفة عنده بصورة تخالف تمامًا عالم الأفكار عند أفلاطون؛ فعالم أفلاطون إلهي النزعة، والأفكار عنده ثابتة وصادقة وغير قابلة للتشكيك، بينما بوبر، وإضافة لعدم استقرار المعرفة عنده، فقد أراد للمعرفة أن تكون وليدة عقل الإنسان، رغم كونها سابقة عليه!، فناقض نفسه وطعن في استقلالية المعرفة وموضوعيتها، وكأن خوفه من غائية الإله قد أوقعته في غائية أخرى للمعرفة التي هي من نتاجنا!
كما أن بوبر لم يجزم بأن المعرفة تؤثر فينا أو لا تفعل، أو ربما تتفاعل معنا عند اكتشافنا لها، وهل هذا يؤثر في دعاوى استقلاليتها.
علاقة التأثير والتأثر بين فلسفة العلم عند بوبر ونظريات علمية أخرى
يقولون: كما أن من أهم خصائص العلم التراكمية، فإن من خواصه أيضًا التكاملية. وتلك التكاملية وعلاقة التأثير والتأثر قد تتخطى فروع العلم المختلفة وتتعداها إلى فلسفة العلم.
ويمكن أن نقرر بثقة أن أفكار كارل بوبر الأساسية حول نظرية المعرفة ومنهج العلم قد تبلورت بسبب تأثره بنظريات في مجالات علمية مختلفة، اتفاقًا أو اختلافًا. وربما كانت العلاقة ارتباطية وارتباطاتها غير مباشرة بين أفكاره وتلك النظريات. بل يمكن القول إن أفكاره أولًا وآخرًا قد تبلورت للاتفاق مع نظريات راقته ورآها علمية، ونظريات أخرى لم يرها كذلك.
وربما يكون تأثر بوبر واضحًا مثلًا بنقد ديفيد هيوم للاستقراء، ولكن تأثره بآخرين في مجالات أخرى غير فلسفية لا يبدو على نفس الدرجة من الوضوح؛ لذا فإن هدفي هو تحليل لموقف كارل بوبر من النظريات العلمية التي كانت ثورة في عصره.
حل المشكلات
يبدأ بوبر منهجيته العلمية بمشكلة علمية أو فكرية تواجه صعوبات وتبحث عن حل، وليس بملاحظات متفرقة متجمعة ينبغي الاستقراء منها وصولًا لاستنتاج عام، كما هو الحال في المنهج الاستقرائي.
ويتم فرض الفروض لتفسير الظاهرة المشكلة، والفرض ما هو إلا (حَدْس) أو (توقع) لما يمكن أن يحدث تحت ظروف معينة، وبعد اختصار واستبعاد الفروض التي يظهر عدم ملاءمتها ما أمكن، نضع استنتاجات (عن طريق الاستنباط وليس الاستقراء) مترتبة على الفروض الملائمة المتبقية، وعن طريق التجريب نقارن تلك الاستنتاجات بالواقع، فإما أن تتفق فيتعزز الفرض، أو تختلف الظاهرة في الواقع عن الاستنتاجات المترتبة على الفرض، فيتم تكذيب الفرض.
وفي منهج بوبر، سنجد أنه حتى الفرضيات والنظريات الجيدة التي صمدت أمام اختبار التكذيب، يمكن أن تظهر أمامها صعوبات تفسيرية تؤدي إلى ظهور مشكلات جديدة، فيتم دحض تلك الفرضية أو النظرية بعد ذلك.
ويعبر بوبر عن ذلك رمزيًا بأربعة رموز تمثل تدرجية المراحل التي ينتقل فيها:
P1: وهي المشكلة، ثم TT وتعبر عن وضع نظرية مؤقتة، ثم EE استبعاد الخطأ باختبار النظرية، ثم نصل إلى P2 وهي مشكلة ثانية جديدة بحاجة إلى حل جديد.
وظهور مشكلة جديدة بحاجة إلى حل هو تعبير أيضًا عن مفهوم نمو المعرفة وتطورها الدائب، وهو مفهوم رئيسي عند بوبر.
وبوبر حين يتحدث في منهجه العلمي عن المشكلات وقدرة الفرضيات على حل المشكلات هو ابن عصره؛ ففي القرن العشرين أيضًا ناقش علماء كثيرون في نطاقات علمية مختلفة أسلوب حل المشكلات، وشغلهم.

التحليل النفسي (فرويد وأدلر)

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

في مطلع شبابه عمل بوبر بمستشفى (ألفرد أدلر). وقد حكى بوبر ذات مرة أنه حكى لأدلر عن حالة طفل لم يعرضها بعد عليه، وفوجيء بوبر بأدلر يُشخص الحالة قبل أن يراها في ضوء نظريته، مدّعيًا خبرته بأكثر من ألف حالة مماثلة، ولمّا كان بوبر يعرف الطفل صاحب الحالة، ومقتنعًا بأن تشخيص أدلر غير سليم، فقد كان هذا مبعثه الأول للسخرية من الدور الذي يعطيه الاستقرائيون للخبرات والتعميم منها.
التعلم بالمحاولة والخطأ في مقابل الاستبصار والإدراك عند الجِشطلت
جوهر فكرة قابلية التكذيب عند بوبر هو التعلم بالمحاولة والخطأ لثورنديك، وهي نظرية سلوكية شهيرة في علم النفس التربوي، ظهرت في أمريكا في العقد الثالث من القرن العشرين، وكانت أفكارها تقابل وتعاكس تمامًا أفكار مدرسة الجِشطلت الألمانية التي ركزت على الاستبصار الفجائي باعتباره أساسًا للتعلم.
والتعلم بالمحاولة والخطأ هو شكل من أشكال التعلم التدريجي نكتسبه من خبراتنا أثناء حل المشكلة، وعند بوبر، هو فرض تفسيرنا على الظاهرة قبل الملاحظة، وإن ظهر أنه خاطيء نضع تفسيرًا آخر ونختبره هو الآخر! فتكذيب نظرية أو فرضية ما عند بوبر تجعل العالم يقترب من الصدق ويتعلم من خطئه.
ونظرية التعلم بالمحاولة والخطأ هي نظرية توحد طريقة التعلم بين ‏الحيوانات الدنيا والعليا. وعلى العكس منها نظرية الجِشطلت للتعلم بالاستبصار، وهو شكل من أشكال التعلم لا يناسب إلا مرتفعي الذكاء. وقد بدا لي هذا عجيبًا أن يتبنى بوبر تصورًا بأن العلماء يتعلمون بنفس ‏طريقة الحيوانات الدنيا والأطفال الصغار! نتيجة رفضه التام والحاسم لأي ملاحظة واستبصار للواقع تسبق فرض الفروض! وربما كان السبب أن الاستبصار ذو نزعة استقرائية واضحة فهو يقتضي أن تنظر إلى الواقع وتلاحظه قبل أن تصل إلى الحل.
العجيب أنني اكتشفت أثناء قراءتي في السيرة الذاتية لبوبر أن كارل بوهلر، وهو عالم نفس ولغوي ألماني، وأحد أساتذة مدرسة الجِشطلت، كان أستاذه في معهد التعليم بفيينا، وكان مشرفًا على رسالته للدكتوراه! وإن كان واضحًا أن بوبر قد أخذ بتقسيم بوهلر الثلاثي حول وظائف اللغة (التعبيرية- الإشارية- الوصفية)، قبل أن يضيف إليه وظيفة المُحاججة التي هي أساس النقد، إلا أنه من الواضح أيضًا أن بوبر لم يقتنع بنظرية الجشطلت نهائيًا أثناء دراسته الجامعية؛ فأهم أفكاره جاءت انطلاقًا من رفضه لمباديء الجِشطلت؛ فموقف كارل بوبر من الكشف العلمي القائم على الحَدْس، والتعلم من خبراتنا وتعثرنا في حل المشكلة هو في حقيقته مناهضة لأفكار الجِشطلت الأساسية؛ فالمحاولة والخطأ معاكسة تمامًا للاستبصار عند الجشطلت.
فهل كان بوبر شخصًا متمردًا إلى هذا الحد؟!، فقد تمرد على دائرة فيينا الفلسفية الوضعية المنطقية، وتمرد على فكر أدلر الذي عمل في مستشفاه في شبابه، وتمرد كذلك على مباديء الجِشطلت. الرجل يكاد يكون تمرد على كل ما كان أمامه في شبابه في فيينا.
وكذا فإن رفض الاستقراء هو رفض للتسليم بمبادئ الإدراك الحسي الجِشطلتي؛ فالعقل الإنساني عند بوبر يتميز بالوعي والتركيز الشديد، وليس مجرد الإدراك الحسي. كما أن الاستقراء هو رفض لنظرية الإدراك العام Common sense في المعرفة، فالفلسفة تبدأ من نقد الإدراك العام. وبوبر يرفضها لأنها ذات طابع ذاتي وليس موضوعيًا، يختلف باختلاف ذوات ومشاعر واعتقادات أصحابه؛ بينما المعرفة عند بوبر هي معرفة مستقلة دون ذات عارفة، وهي موجودة، بغض النظر عن إدراكنا لها.
والاستقراء كما نعلم يبدأ بالمُلاحظات المرتبطة بالإدراك الحسي للمُلاحظ. وكان بوبر يركز على أن إدراكنا الحسي مهما تكرر فإنه قد يقودنا إلى استنتاجات خاطئة، مثل إدراكنا لشروق الشمس يوميًا، والذي اعتقد البشر لآلاف السنين أنه يعني أن الشمس تدور حول الأرض من الشرق إلى الغرب، بينما حقيقة الأمر أن الأرض تدور حول الشمس من الغرب إلى الشرق، فتبدو الشمس تشرق.
لكن هذا لا يمنع أن بوبر كان لا يقف في عداء تام مع معطيات الحِس بقدر ما يؤكد على ضرورة نقدها والتدقيق فيها وعدم التسليم بها كما تبدو لنا، ولكنه في الوقت ذاته ينقد نظريات الإدراك لعدم أخذها الحَدْس العقلي في الاعتبار، والذي يراه لبنة التفكير العلمي. كما أنه يلفت إلى أن مدركاتنا الحسية تكون كثيرًا هي المشكلات وليست ملاحظات قابلة للاستقراء منها! كما أن تلك المدركات تكون مرتبطة بآرائنا ومعارفنا السابقة، وبالتالي يراها بوبر تفسيرات للبيئة.

الانتخاب الطبيعي (دارون)

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

مع تحفظي الشديد، ورفضي الشخصي على أسس علمية لنظرية دارون، فإنه من الملحوظ في حديث بوبر المتكرر عن نمو المعرفة الإنسانية وتطورها، تأثره الواضح فيه بأفكار دارون عن عملية التطور الحيوي.
ولا أصدق للبرهنة على ذلك من قول بوبر إنه لا فارق بين معرفة الإنسان ومعرفة الحيوان، لأن البداية المعرفية لهما واحدة، إلا أن الإنسان أكثر تطورًا. فالإنسان وفقًا لبوبر يُعدِّل ويُطوِّر توقعاته وفرضياته ونظرياته، فتزيد المعرفة. وكما أسلفنا فهو يتبنى نظرية التعلم بالمحاولة والخطأ، وهي نظرية توحد طريقة التعلم بين الحيوانات الدنيا والعليا.
ملمح آخر لتأثر بوبر بالداروينية، وهو فكرة الفروض الجريئة الجسورة التي يجب أن يحْدِس بها العالم دون انتظار لملاحظات الواقع من حوله، فهي عنده أقرب للطفرات التي تفترض الداروينية –في مرحلتها الثانية بعد دارون- أن الأنواع الحية تحدثها لأجل التكيف والتطور. ونلاحظ أن الأنواع الحية هي التي تُحدث التغيير ولا تنتظر أن تفرضه البيئة! وكذا الفروض عند بوبر تسبق الملاحظة وليس العكس.
والحقيقة أن هذه النقطة تحديدًا تبدو غريبة في فلسفة بوبر، فهو رغم أنه يسمي منهجه منهج الكشف العلمي، يتحدث أحيانًا كما لو كان العالِم عندما يحْدِس بالفرض كأنه سيفرضه على الطبيعة، ويصير قانونًا!
بوبر أيضًا لم يعط اهتمامًا لمصادر المعرفة، وكان حديثه منصبًا عن كيفية نموها، وهو في هذا يشبه دارون الذي لم يحاول نهائيًا تفسير بداية الحياة، واقتصر على الحديث عن تطورها!
والقابلية للتكذيب وصولًا للنظرية الأكثر صحة ليس فقط تأثرًا من بوبر بنظرية التعلم بالمحاولة والخطأ لثورنديك، بل يظهر فيها أيضًا تأثر بوبر بفكرة الانتخاب الطبيعي لدارون، فاستمرار اختبار الفرضيات سيُطيح بالفرضيات غير الصحيحة أو يُعدِّلها لتبقى أصح فرضية، والتي هي بدورها قابلة للتطور، وهذا بشكل ما مرادف عقلي لفكرة البقاء للأصلح الداروينية البيولوجية.
فكرة أخرى يظهر فيها تأثر بوبر بتطور الأنواع الحية، وهي تسلسل المشاكل وتعدّلها وتغيّرها أمامًا وخلفًا، فنحن نبدأ بـ P1، وننتهي بـ P2 جديدة، والتي تشكل بعد ذلك بداية جديدة، ننتهي منها إلى P3، وهكذا. والعكس، فإن المشكلة التي بأيدينا نفترض أن هناك مشكلة سابقة عليها وقد تعدّلت منها، وهكذا، وهو نفس ما يفترضه التطوريون بخصوص الأنواع الحية.
كذلك كان مدخل بوبر في معالجة مشكلة علاقة العقل بالجسد مدخلًا تطوريًا. فاللغة، وهي أهم منتجات العقل، ترقّت بالإنسان من الوصف إلى النقد ثم العلم. كذا افترض بوبر أن البداية لترقِّي الوعي تكون شعورًا غامضًا عندما يواجه الفرد مشكلة متطلب حلها، ثم يتقدم ويتطور تدريجيًا، فينمو وعيه شيئًا فشيئًا من خلال تفاعل الفرد في خطوات حل المشكلة.
موقف بوبر أيضًا من التنبؤ وعدم لزومه كشرط على صدق النظرية العلمية كان له ارتباطه الواضح بنظرية التطور. كما أن رفض بوبر لتقييم النظرية العلمية على أساس درجة احتماليتها المنطقية هو تأثر بالجو العلمي في وقته، والذي وُجِّهت فيه سهام النقد للداروينية لأن درجة احتماليتها وفقًا لحساب الاحتمالات صفرية.
ولكن رغم محاولاته الكثيرة للتماهي مع نظرية التطور فقد فشلت النظرية في التلاؤم مع مقتضيات منهجه، وأهمها نمو العلم والقابلية للتكذيب. على سبيل المثال:
بوبر كان قد أسرف في الحديث عن القضايا من نوع تحصيل الحاصل، المعروفة بمغالطة الدور أو الاستدلال الدائري، وقال إن أيًا منها ليس علميًا، ونظرية دارون إحدى فرضياتها الرئيسية لا تخبرنا أكثر من أن “البقاء للأصلح ومن الواضح أن الأصلح هو الباقي”!، كما أن هذه الفكرة هي توقف لنمو العلم، ولا يوجد ما يمكن أن يُبنى عليها وفقًا لمنهجه.
كذلك فإن نظريته الأثيرة لم تنجح في تجاوز معياره الأهم لتكون نظرية علمية، وهو القابلية للتكذيب! لقد كانت غير قابلة للتكذيب في وقته، وجعل دوكنز وجماعته فرضياتها غير موجهة ومتعاكسة، فزادوا الطين بلّة، بحيث يستحيل تخطئتها، وليس هنا موضع التفصيل في ذلك.
نظرية الكم [اللا حتمية (بُور) واللا يقين (هايزنبرج)]
الاستقراء في جوهره اعتراف بإطراد الحوادث في الطبيعة، وسيطرة القوانين، حيث يمكن التعميم من قضايا مفردة وصولًا لقضية كلية. رغم قبول بوبر للإطراد في الطبيعة، لكن رفضه الاستقراء هو تعبير عن اعتقاده باللاحتمية تأثرًا بــــــــنيلز بُور وثورة ميكانيكا الكم.
إيمان بوبر باللا حتمية ظهر في كثير من المباحث في فلسفته، فرفض مصادر محددة للمعرفة. ومنهج الكشف العلمي ذاته هو تعبير عن حرية العالم في الافتراض، والتي سبق وأن ألمحنا أن بوبر يتحدث أحيانًا كما لو كان العالم سيفرض قانونه الذي حدس به على الطبيعة.
ومعروف مبدأ عدم التأكد “عدم التعين” لهايزنبرج، وهو أيضًا في إطار نظرية الكم، والذي على أساسه يستحيل أن نحدد موضع وكمية حركة الاكترون في وقت واحد.
وكان من تأثر بوبر بنظرية الكم، والتي تؤكد على اللاحتمية واللا يقين أن قدم نظريته في النزوع الطبيعي ليقدم من خلالها تفسيرًا لنظرية الكم.
بل إن بوبر يرفض حتى استخدام لفظ “اعتقادات” التي ترتبط دومًا بالاستقراء، ويرى أن الأصح استخدام لفظ “توقعات”، كونها مؤقتة ومتغيرة. فهو يبحث في الأفكار والفرضيات والنظريات ولا يرى ضرورة للاعتقاد بها.
ويصل الأمر أن يعتقد بوبر أن التنبؤ ليس من أهداف العلم، لأن النظريات العلمية عنده لا نستنتجها من الملاحظة والتجريب كما هو الحال في منهج الاستقراء، بل تُكتشف بالاستنباط من فروض العلماء، كما كان يؤكد بوبر على أن المعرفة مستقلة غير قصدية، نحاول اكتشافها دون تعمد ومن غير تنبؤ منا. لكنه في كتاباته الأخيرة لم ينفِ القدرة التنبؤية للنظريات. والنزوعات هي محاولة للتفسير والتنبؤ ولكنها قابلة للتعديل أيضًا.‏ وكما قلنا فعنده هناك إمكانية للتنبؤ، ولكنها ‏غير تامة وغير ممكنة لجميع الأنماط الممكنة من الحوادث.‏ ولكن كان تأكيده الدائب على مبدأ نمو المعرفة، وإن كان يصعب التنبؤ بما يمكن أن يكون عليه المحتوى المعرفي بعد نمائه.
وبوبر فوق ذلك لا يرفض السببية كما أنه لا يقبلها، وفقط هو يستبعد مبدأ السببية بوصفه مبدأ ميتافيزيقيًا.

النسبية (أينشتين)

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

كان استبدال بوبر التوقعات بالاعتقادات ليس فقط رفضًا للحتمية، بل هو تعبير عن تصوره لنسبية المعرفة، وهو بهذا ابن عصره، ابن عصر أينشتين.
يعترف بوبر في سيرته الذاتية أن نظرية أينشتين هي التي ألهمته لوضع فلسفته في العلم. وافتراضه أن أي نظرية نقبلها الآن هي ولا شك عرضة للتغير بعد ذلك وأن يطرأ ما يُكذبها غالبًا قد تأثر بما أحدثته نظرية أينشتين عندما قلبت المفاهيم النيوتينية التي كانت راسخة رسوخ الجبال رأسًا على عقب. كما أعتقد أن فكرة القابلية للتكذيب تحديدًا تبدو من بنات أفكار أينشتين، وإن كان بوبر هو من صاغها. فأينشتاين كان قد حدّد تنبؤات في ضوء نظريته، إن لم تتفق مع حساباته، فمعنى هذا أن النظرية النسبية ستكون خاطئة.
كما ان أينشتين إضافة لذلك يُنسب إليه القول بأنه لا يوجد سبيل منطقي يؤدي إلى القوانين الكلية العامة، وإنما سبيلنا إلى ذلك حَدْس يعتمد على الشغف العقلي. وهي مقولة تعكس اتفاقًا مع أفكار بوبر، فالانطلاق يكون من حَدْس، والاستدلال عن طريق الاستنباط، وليس من ملاحظات متجمعة كما في الاستقراء. فطالما اعتقد أينشتين أن القوانين يخلقها عقل الإنسان ولا يستنتجها استقراءً من الخبرات الحسية. ومعروف عن أينشتين أنه كان يضع الفروض قبل جمع الملاحظات.
وقد التقى بوبر بكلا الرجلين؛ أينشتين وبور، في رحلته لأمريكا أوائل الخمسينات وعبّر عن سعادته بهذا اللقاء.
وأختم بأن أقول إنه ولا شك كانت لأفكار كارل بوبر أثرها الكبير في مسيرة فلسفة العلم، وأثرها على النظرة لطبيعة العلم؛ بحيث أصبحت لا تعطي قيمة كبيرة للإطرادات في الطبيعة، فهي تطورية غير ثابتة، تحْدِس بالنتائج دون البحث في المقدمات!، وقابلة للتكذيب.
بل وكان لأفكاره أثرها على الفكر البشري بوجه عام، وأعتقد أن نزعته التشككية وعدم قبوله استقرار أي معرفة مهما كانت، ورفضه الخروج بتعميمات كلية من قضايا مفردة وغيرها كان له أثر كبير في انتشار الإلحاد.
لكن، وحتى يومنا هذا، لا زال المنهج الاستقرائي الذي هاجمه بوبر فاعلًا، ولا زال الاستقراء مع الاستنباط يُشكلان معًا جناحي الاستدلال العقلي.

جج بشأن الدور الرئيسي الذي تلعبه الملاحظات، والتجارب في العلم، والذي يكمن في محاولات نقد النظريات الموجودة وتفنيدها.
وفقًا لبوبر، تطرح مشكلة الاستقراء، كما نتصورها عادة، السؤال الخاطئ: إنها تسأل عن كيفية تسويغ النظريات المقدمة، والتي لا يمكن تسويغها من خلال الاستقراء. حاجج بوبر أن التسويغ غير مطلوب على الإطلاق، وأن السعي وراء التسويغ هو «طلب لإجابة استبدادية». قال بوبر بدلًا من ذلك، ما يجب القيام به هو البحث عن الأخطاء وتصحيحها. نظر بوبر إلى النظريات التي نجت من النقد باعتبارها مؤكدة بشكل أفضل، بما يتناسب مع مقدار وقوة النقد، ولكن على النقيض تمامًا من النظريات الاستقرائية في المعرفة، فليس من المرجح أن يكون ذلك صحيحًا بشكل كبير بالنسبة إلى تلك النظريات. رأى بوبر أن السعي وراء نظريات ذات احتمالية كبيرة في أن تكون صادقة، هو هدف خاطئ يتعارض مع البحث عن المعرفة. يجب على العلم أن يبحث عن النظريات التي تكون خاطئة على الأرجح، من ناحية (وهذا هو القول ذاته أنها قابلة للتكذيب إلى حد كبير، ولذا هناك العديد من الطرق التي قد يتضح أنها خاطئة)، لكن ما زالت كل المحاولات من أجل تكذيبها فاشلة حتى الآن (مؤكدة بدرجة كبيرة)

البرهان الأخلاقي ومسلك الأيمان العقلي عند كانت،مطارحات كانت في سبيل الايمان العقلي، محاولات البعض ايجاد تفسيرات بعيدة لكانت..

الحجة الأخلاقية هي واحدةٌ من الحُجج المُستخدمة لإثبات وجود الله. تستندُ الحُجج الأخلاقيّة إلى معياريّة الأخلاق أو النظام الأخلاقيّ. إذ تتعاطى الحُجج المُستندة إلى معياريّة الأخلاق مع بعض جوانب الأخلاق، لتخلُصَ إلى نتيجةٍ مفادُها أنّ الله هو التفسير الأفضل أو الوحيد لهذا، وبالتالي فإنّ الله يجبُ أن يكون موجوداً. أمّا الحُجج المُستندة إلى النظام الأخلاقيّ فإنّها مصوغةٌ للتأكيد على الحاجة الضروريّة للنظام الأخلاقيّ للوجود في الكون. وحتى يكون هذا النظام الأخلاقيّ موجوداً، فلا بُدّ أن يكون الله موجوداً حسب هذه الحُجّة. تجدرُ الإشارةُ إلى أنّه من أجل تقييم سلامة هذه الحُجج، لا بُدّ من الإلمام بالقضايا الفلسفية الأساسية في مجال الأخلاقيات الفوقية.
أسّس الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط لحُجّة أخلاقيّة مبنيّة على أساس العقل العملي. أعتقد كانط أنّ هدف الإنسان الأسمى يمتّلُ في تحقيق السعادة والفضيلة الكاملتَيْن، وحتّى يكون ذلك مُمكناً لا بُدّ من وجود الحياة الآخرة، ولتوفير ذلك يجبُ أن يكون الله موجوداً

الصيغة العامة

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

جميعُ أشكال الحُجّة الأخلاقيّة تبدأ بمُلاحظاتٍ حول الأفكار أو التجارب الأخلاقيّة وتنتهي باستنتاج وجود الله. تفترضُ بعضُ هذه الحُجج حقائق أخلاقيّة تدّعي أنّها جليّةٌ في التجربة الإنسانيّة، وأنّ الله هو التفسيرُ الأفضلُ لها. وبعضُها الآخر يتعاطى مع النهاية التي يتطلّع البشر لبلوغها، والتي بدورها تتطلب وجود الله ضرورةً.
تستندُ العديدُ من الحُجج الأخلاقيّة إلى معياريّة الأخلاق، أي إلى وجود الحقائق الأخلاقيّة الموضوعيّة التي تستمدّ سلطتها من الله واجب الوجود. يرى المُحاججون أنّ الأخلاق مُلزمةٌ، فهي ليست مُجرّد تفضيلات، بل إنّ الإنسان يشعرُ بالالتزام بها بصرف النظر عن العوامل والمصالح الأخرى. وحتّى تكون الأخلاقُ مُلزمةً لا بُدّ أن يكون الله موجوداً. تتخذُ حُجّة معياريّة الأخلاق في صيغتها الأعمّ الشكل التالي:

يُمكن مُلاحظة الشعور الإنسانيّ بالأخلاق

الله هو التفسير الأفضل أو الوحيد لهذا الشعور الأخلاقيّ

إذن الله موجود

وكذلك تُشير بعضُ الحُجج المُستندة إلى النظام الأخلاقيّ إلى بُنية الأخلاق العقلانية، ولا يُمكن لذلك أن يكون إلّا إذا وُجد نظامٌ أخلاقيٌّ في الكون. تفترضُ هذه الحُجج أنّ وجود الله وحده يُمكن أن يُفسّر وجود النظام الأخلاقيّ في الكون، لذا يجبُ أن يكون الله موجوداً. كما تفترضُ حُججٌ بديلةٌ مُستندةٌ إلى النظام الأخلاقيّ أيضاً أنّ لدينا التزاماً بتحقيق السعادة والفضيلة الكاملتَيْن، وكوننا ملزمون بفعل شيءٍ فإنّه بالضرورة مُمكن، وحتّى يكون تحقيقُ السعادة والفضيلة مُمكناً لا بُدّ من وجود النظام الأخلاقيّ الموضوعيّ، الذي بدوره يستلزمُ وجود الله، لذا وجب أن يكون الله موجوداً

العقل العلمي

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

اعتقد إيمانويل كانط أنّه لا يُمكن إثباتُ وجود الله اعتماداً على العقل وحده في كتابه الشهير نقد العقل الخالص، ولكنّه ذهب في كتابه نقد العقل العملي إلى أنّه بالرغم من عدم القدرة على إثبات وجود الله بالعقل النظري، إلّا أنّ الأخلاق تستلزمُ افتراض وجود الله عملياً. فبدل السعي إلى إثبات وجود الله، كان كانط يُحاول إثبات أنّ الفكر الأخلاقيّ برُمّته يتطلّب افتراض أن الله موجود. كان كانط يرى أنّ البشر مُلزمون بتحقيق هدفين مركزيين: الفضيلة الأخلاقيّة والسعادة، والثانية هي نتيجةٌ للأولى. وكوننا ملزمون بشيءٍ فذلك يعني بالضرورة أن يكون مُمكناً. أشار كانط إلى أنّه ليس بإمكان الإنسان تحقيق الفضيلة والسعادة، بما أنّنا لا نستطيعُ أن نضمن أن تُؤدي الفضيلةُ إلى السعادة دائماً، لذلك يجبُ أن تكون هناك قوّةٌ عُليا لديها القدرة على خلق حياة أخروية تُكافؤ الفضيلةُ فيها بالسعادة.

محاولات توظيف فلسفة كانط لغير وجهتها النقدية

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

حاول بعض خصوم الدين في الغرب توظيف فلسفة كانط لخدمة الأفكار الإلحادية ليجعلوا منها أساساً للإلحاد المعاصر. فقد استندوا في ذلك على ما قدّمه كانط حول عجز العقل عن البرهنة على وجود الله عن طريق الأدلة السابقة التي اعتمد عليها الناس ولذلك راحوا يلقون عليه التهم بأنه أسس لمقولة موت الإله قبل نيتشه وما تبعه من طرح في الإلحاد المعاصر. كما شكك بعضهم في أن كانط يقلل من قدسية الدين بربطه الدين والأخلاق بمفهوم الحرية بل عدّ الحرية أساساً للأخلاق، والأخلاق أساساً للدين.جاءت هذه الاتهامات على خلفية تفريق كانط المعرفة العلمية القائمة على التجربة عن التفكير الفلسفي المجرد، وتأكيده استحالة معرفة الأشياء في ذاتها، وأن الغيبيات هي موضوع للاعتقاد والتسليم فحسب وجعله البرهنة على وجود الله، مرهوناً بالقانون الأخلاقي مما أدى إلى انقسام المحللين واختلافهم حول فلسفة كانط بين مؤيد ومعارض. فبينما يرى بعضهم أن تلك الفلسفة التي قامت على القانون الأخلاقي بمنهج فريد هي إحدى الفلسفات التي ردت رداً عقلياً ومنطقياً وأخلاقياً على الإلحاد في ذلك العصر، نظر إليه بعضهم الآخر بوصفه واحداً من المنهجيين الملحدين ومن الناقدين الجذريين للميتافيزيقا والدين. فهل أعطى كانط مكاناً للإيمان في فلسفته؟ أو أنه وضع حجر الأساس للمذاهب الإلحادية التي جاءت بعد ذلك؟ بمعنى آخر ما موقف كانط من الإيمان وكيف كان موقفه من الإلحاد؟

لابد أن نفهم أن كانط مر بمراحل عديدة في فلسفته تبعاً لمراحله العمرية، لذلك يلزم على من يقرأ كانط ويتحدث عن فلسفته، أن يبحث في مجمل أعماله. لكن من المؤكد أنه جهر بمذهبه النقدي حينما قال: «حدث نفسك بنفسك» وهذا هو الأساس الأول الذي أقام عليه كانط رحلته الفلسفية، وهو الأساس النقدي، وسنلاحظ أن معظم كتب كانط قامت على نقد العقل للوقوف على مشكلات عصره الذي تأرجح بين الفكر الديني – ذي الصبغة اللاهوتية – المهيمن على كل نواحي الحياة، والنزعات الإلحادية في النواحي العَقَدية من ناحية والاتجاهات الفلسفية المتنوعة بين النزعة الشكية التي نتج منها الشك في مصادر المعرفة وإمكانيتها وبين النزعة الدوجماطيقية التي تبدأ بفروض تعسفية وتقرر مبادئ لا يجوز عليها التحليل أو إقامة برهان من ناحية أخرى. على أن «النزعة الشكية كانت ذات أهمية كبيرة عند كانط بالقياس إلى الدوجماطيقية لأنها تقوم على رقابة العقل، وهذه الرقابة تفضي بدورها إلى الشك»

دور هيوم في إيقاظ كانت

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

لذلك عدّ كانط أن هيوم هو الذي أيقظه من ثباته الدوجماطيقي ودفعه للشك لتخليص العقل من آفاته، ولا سيما في قضية السببية. وعلى الرغم من أهمية المرحلة الشكية بالنسبة لكانط لم تكن لترضي العقل، لأنها في الحقيقة ليست سوى رقابة سلبية على العقل. إنها رقابة على العقل ولكنها ليست نقداً له. لذا أراد كانط أن يقوِّض هذه المذاهب وكان سلاحه في ذلك النقد، وحسبنا أن نلاحظ الأسماء التى أطلقها «كانط» على مؤلفاته، كيف اشتملت على كلمة «نقد» نقد العقل الخالص، نقد العقل العملي، نقد ملكة الحكم لنعلم منذ اللحظة الأولى أنه أراد أن مشروعه الفلسفي بأجمعه قام على نقد المنظومات التي شاعت في عصره. فالطريقة النقدية هي أن «نختار من أقوال الناس في ميدان العلم أو في مجال الحياة اليومية طائفة من الأحكام التي ليس عليها خلاف، ثم نتعقبها راجعين خطوة خطوة، حتى نصل إلى المبادئ التي تكمن وراء هذه الأحكام كلها التي اخترناها»

انطلاقاً من ذلك قامت فلسفة كانط النقدية على تقييم المذاهب الفلسفية متخذاً من بعضها موقفاً إيجابياً كنقطة انطلاق لفلسفته، ومن بعضها الآخر موقفاً سلبياً سعى الى تقويضه وبناء بديل منه على أسس نقدية وعقلية صحيحة، توافق قدرات العقل الإنساني وليرسي قواعد فلسفته النقدية ليكشف من خلالها وهن الميتافزيقا التقليدية، وعجزها عن البرهنة على وجود الله، والنفس والعالم. من أجل ذلك كان عليه أن يثير العديد من الأسئلة والتي شكلت بدورها جوهر فلسفته، أهمها:

  • ما الذي يمكنني أن أعرفه؟
  • ما الذي ينبغي أن أعمله؟
  • ما الذي أستطيع أن أمله؟

هذه الأسئلة تتعلق بثلاث مشكلات تدور حول مفهوم المعرفة والبرهان الخُلقي ومفهوم الدين، فالمشكلة الأولى تتعلق بالعقل النظري (الميتافيزيقا)، بينما تخص المشكلة الثانية العقل العملي (الأخلاق)، في حين تخص المشكلة الثالثة النظري والعملي معا» (الدين). والذي يعنينا في بحثنا هذا هو موقف كانط من الدين ليتضح لنا موقفه من الإلحاد والإيمان، لذا سنقف بإيجاز عند موقفه من المعرفة والأخلاق بوصفهما الأساس الذي أرسى عليه كانط موقفه من الدين.

مفهوم المعرفة

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

افتتح كانط كتابه نقد العقل المحض بقوله: «كل معارفنا تبدأ من التجربة ولا ريب في ذلك البتة لأن قدرتنا المعرفية لن تستيقظ إلى العمل إن لم يتم ذلك من خلال موضوعات تصدم حواسنا» لذلك لا تتقدم أي «معرفة عندنا زمنياً ـ على حد تعبير كانط -على التجربة بل معها تبدأ جميعاً» . في هذا المقتبس يؤكد أولاً: كانط أن كل معرفتنا تبدأ بالتجربة، لأننا لا نستطيع أن نقوم بأي عمل إن لم يتم ذلك من خلال موضوعات تصدم حواسنا، فتؤدي إلى حدوث التصورات تلقائياً. وثانياً: لأن التجربة تحرك نشاط الفهم لدينا، لجهة مقارنتها وربطها أو فصلها، وبالتالي تتحول «جميع الانطباعات الحسية إلى معرفة بالموضوعات التي تسمى التجربة». لكنّ التجربة «لا تعطينا إلا أحاسيس وحوادث منفصلة تتغير في تعاقبها في المستقبل» الى جانب أن هناك تصورات تتصف بالضرورة والكلية كقوانين الرياضيات على سبيل المثال، فهذه لا تستطيع التجربة البرهنة عليها لأنها قوانين ثابتة، وغير خاضعة للحواس. لذلك أضاف كانط إلى معارفنا التي تبدأ بالتجربة، طريقاً أخر هو طريق العقل. ذلك أن «المعارف التي تتخطى العالم الحسي وحيث لا يمكن للتجربة أن تعدل أو تصحح فيها تقع ضمن مباحث عقلنا التي نعدها من حيث الهدف النهائي أفضل وأسمى بكثير من كل ما قد تفيدنا به الفاهمة في حقل الظاهرات» ولذا كان يلزم التفريق بين ناتج المعرفة وتلك الصور التي تتخذها المعرفة. هذا ما قال به كانط على وجه الخصوص: «من الواجب التمييز بين ما ينتج المعرفة بالفعل، والصورة التي تتخـذها تلـك المعرفـة. وعلـى ذلـك، فعلـى الـرغم مـن أن المعرفـة تنشـأ عـن طريـق التجربـة، فإنهـا لا تُسـتمد منهـا وحدها». ولذلك أصبح مصدر المعرفة عند كانط هما التجربة والعقل.وبعد أن أثبت كانط دور العقل بجانب التجربة بوصفهما مصدرين للمعرفة أوضح الدور المهم الذي يقوم به العقل النقدي في المعرفة بعيداً عن أي دوجماطيقية. يقول في هذا الصدد: «يؤدي نقد العقل إذن، في النهاية وبالضرورة إلى علم. أما استعماله الدجماطيقي فيؤدي بالمقابل إلى مزاعم لا أساس لها، يمكن أن نعارضها بأخرى» ولا يمكن تأسيس علم إلا بتعاون التجربة الحسية والإدراك العقلي اللذين يؤديان إلى المعرفة الصحيحة.

وإذن، يعتمد كانط في بناء المعرفة على العقل والتجربة معاً، وعلى الرغم من أنه فيلسوف عقلي نجد أنه «رفض العقليين الذين يعطون العقل أكثر من طاقته فيقعون في الأخطاء والمغالطات» ولكي ينأى بالتفكير الفلسفي عن المغالطات والدوجماطيقية أسس المنطق (الترانسندنتالي ، وهو حسب تعريف كانط «قانون الفاهمة (المعرفة) والعقل.. من حيث هو متعلق بالموضوعات قبلياً لا كما يتعلق المنطق العام بالمعارف العقلية التجريبة أو المحضة دون تمييز» ويقصد كانط من (المنطق الترانسندنتالي) أن يكون أورجانوناً

وقانوناً للمعرفة في الوقت نفسه، وهذا «الأورجانون» هو الذي سيضبط الحدود المشروعة التي لا يمكن تجاوزها، ليكون ضابطاً للفكر وفق حدوده وتجاربه، وفي حال تجاوزها، تصبح المعرفة غير مشروعة. وعنه فإن حدود المعرفة البشرية لا تستخدم في البحث عن الميتافيزيقا أو ما وراء الطبيعة، وبهذا يصبح منطق كانط الترانسندنتالي متعهداً وظيفة الضبط والحماية من الغلط أو الخطأ في مضمون المعرفة ذاتها، لا في مجرد شكلها المنطقي الصوري. وهو المنطق نفسه الذي سيعتمد عليه في منظومته الفلسفية في الأخلاق والدين.لذا فإن معرفة الأشياء باعتبارها وعياً بها يتأسس على الوعي بالذات في أثناء ممارستها أفعالها المعرفية المختلفة. لذا كان هذا الأورجانون هو الضابط لحدود المعرفة المعتمدة على العقل والتجربة عند كانط، وهو نفسه الذي سيغير معالم الميتافيزيقا عنده، والتي حاول جاهداً تحديدها لمواجهة الإلحاد،حيث وجد كانط الميتافيزيقا عاجزة عن تقديم أي حقيقة عن قضايا: الله، والنفس، والعالم، ولهذا رفض الميتافيزيقا التقليدية السابقة عليه. ومن خلال رفضه لها فُتحت ثغرات الإلحاد في الفلسفة الكانطية، وبخاصة أن الطريقة النقدية التي اتبعها كانت ثورة منهجية في عصره.

موقف كانط من الميتافيزيقا

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

لقد فرّق كانط «بين الظاهرة (الفينومين) والشيء في ذاته (النومين)، «منتهياً إلى أن العقل البشري محصورٌ في قدرته المعرفية على عالم الظواهر، ولا يمكن أن يعرف مجال الشيء في ذاته»

وهذه الفكرة استثمرت لاحقا من الفلسفات الناقدة للدين، حيث وظفت فلسفة كانط، على نحو مغاير لمقصوده هو نفسه؛ إذ نلاحظ أن كانط في القسم الثاني من كتابه نقد العقل المحض، والذي عنونه بـ»الديالكتيك الترانسندتالي» (الجدل المتعالي) يقف متسائلاً عن سبب نزوع العقل البشري إلى تجاوز عالم الحس والتجربة، مُذكراً بأفلاطون الذي وقف كثيراً عند نزوع العقل إلى التديُّن والتفكير فيما وراء العالم الحسي. فكانط في هذا الفصل يعترف أن هذه «المجاوزة ذات حافز طبيعي يوجد داخل كينونة العقل، وليست مجرد افتعال أو سلوك من الترف الذهني، لقد رأى أن العقل البشري عاجز عن إنتاج حقيقة فيما وراء عالم الحس، منتهياً إلى الاستحالة العقلية لتأسيس معرفي للميتافيزيقا»،

لذا سيعود في كتابه «نقد العقل العملي» إلى تأسيس الدين والميتافيزيقا على أساس أخلاقي لا أساس معرفي. لذلك كان الفكر الناقد للدين غافلاً عن فلسفته في نسقيتها وشموليتها، أي غافلاً عن النصف الآخر من فلسفته.. ذلك أن كانط اتخذ موقفين تجاه الميتافزيقا أحدهما سلبي والآخر إيجابي وهذا منهجه الدائم في النقد، تقويض الأفكار الخاطئة ثم بناء ما يراه متناسباً مع قدرة العقل البشري،وقد بدأ بالجانب السلبي بهدم قضايا الميتافيزيقا الرئيسة وبين تناقضاتها. ولا يمكن القول، عن أي ميتافيزيقا عرضت حتى الآن، إنها متحققة من حيث إن المعرفة مقصورة على عالم الحس والتجربة، وإن ما وراء الواقع لا سبيل إلى كشفه، لذلك أعلن استحالة الميتافيزيقا.» إذ إننا كائنات بشرية، وتقتصر معرفتنا على ميدان الخبرة البشرية الممكنة، ولكننا إذا حاولنا أن نتخطى حدودها، فإننا بالضرورة لا نفهم شيئاً مما نقوله أبداً « وقد حكم كانط على أن الميتافيزيقا التقليدية مستحيلة التحقق، لذلك رفض كانط أن تكون الميتافيزيقا بهذا المعنى ميتافيزيقا مشروعة لبعدها عن التجربة على الرغم من أن كل معرفتنا تبدأ مع التجربة.

في بحثه في مسألة الميتافيزيقا التي تشمل موضوعات: الله، النفس، الحرية، أكد كانط نقده الميتافيزيقا السابقة عليه؛ لأنها قدمت أجوبة عن موضوعات الميتافيزيقا من دون أي فحص لأداة المعرفة نفسها، أي من دون الالتزام بالقيام بفحص نقدي للعقل ذاته، ومن أجل ذلك أحال الميتافيزيقا إلى جانب أخر أكثر إيجابية من الميتافيزيقا التقليدية وهو ميتافيزيقا أخرى ممكنة عنينا بها: الميتافيزيقا النقدية. لهذا السبب رأى وجوب أن يكون ثمة معارف تأليفية قبلية، ذلك أن طبيعة العقل البشري تجعله غير مستغنٍ عنها، وأن عمله لا يقتصر البتة على مجرد تحليل الأفاهيم التي نكونها قبلياً عن الأشياء، ولا على شرحها تحليلياً بالتالي، بل إننا نريد أن نوسع معرفتنا قبلياً»

أصبح من الواضح أن كانط لا يهدف إلى تحطيم الميتافيزيقا على الإطلاق، بل أراد هدم نوع معين من الميتافيزيقا ليحل محله ميتافيزيقا أخرى، وكان وقد وجه كانط نقده لمحاولات المفكرين الذين حمَّلوا العقل ما لا يطيق في قضايا وجود الله، وخلود النفس، والعالم. لهذا فإن نقض الأدلة على وجود الله والنفس والعالم لا يدل على إنكارها فقد أراد كانط أن يلتمس للميتافيزيقا طريقاً آخر للبحث يجعلها علماً على غرار علمي الرياضيات والطبيعة، وهي طريقة فرض الفروض بطريق منظمة من أجل الوصول إلى النتائج، لذا ليس للميتافيزيقا من غاية خاصة لأبحاثها إلا الأفكار الثلاث «الله، والحرية، والخلود، هي تلك المشكلات التي يستهدف جهاز الميتافيزيقا حلها باعتبارها غايته النهائية والوحيدة»

حين يقرر كانط ذلك، فإنه لا يقوم بإحالة الميتافيزيقا كما هي إلى العقل العملي مباشرة. بل يفعل ذلك من خلال البرهان الأخلاقي التي يعده الأساس لمفهوم الدين ومن هنا تأتي أهمية مسألة الأخلاق في الكشف عن فلسفة الدين بما هي الغاية الأساسية في فلسفته، والتي من خلالها سنقف على الإيمان العقلي عند كانط لمواجهة ثغرات الإلحاد.

البرهان الأخلاقي (الإيمان العقلي)

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

انتقد كانط براهين الإلحاد بطرق ليست مستنبطة من الدين، بل من خطاب العقل. إذ كيف له أن يقيم برهاناً ضد الإلحاد مبنياً على أسس دينية فيما المخاطب لا يؤمن بالدين من الأساس. اتبع كانط في مناقشته المشكلة الأخلاقية ما يتلاءم مع نزعته العقلية وفلسفته النقدية. فقد رفض الأدلة النظرية على وجود الله في أنماطها الثلاثة الرئيسة: الدليل الأنطولوجي القائم على فكرة الكائن الأكمل والدليل الكوني (الكسمولوجي) القائم على الإمكان، والدليل الفيزيائي اللاهوتي المستند على الشواهد من نظام الكون. وهكذا انتهى إلى استحالة وجود دليل نظري صحيح على إثبات وجود الله، وإلى أن العقل النظري الخالص لا يستطيع بكل إمكاناته معرفة «ما إذا كان الموجود الضروري متناهياً أو غير متناهٍ. إذ لا يوجد تناقض في تصور موجود ضروري، ولكنه متناه في الوقت نفسه، أما كون هذا الموجود الضروري هو الله اللاَّمتناهي، فمسألة لا يمكن إثباتها عن طريق التحليل التصوُّري البحت» لهذا لجأ كانط الى طريق آخر هو البرهان الأخلاقي، وقد وصف الإيمان الأخلاقي في الله بأنه مصادرة (مُسلمة) من مصادرات العقل العملي، بالإضافة إلى مصادرتين أخريين:هما الحرية والخلود، وهذا الإيمان بوصفه مصادرة «يزيد عن كونه افتراضياً، ويقل عن مجرد كونه مبدأً للأخلاقية. ففي حياتنا الأخلاقية لا يتمثل لنا وجود الله بوصفه اختياراً ممكناً، بل ينبغي التسليم به» ومع ذلك لا تستند الأخلاق الكانطية إلى الاعتقاد في الله لذلك أقام كانط لاهوتاً أخلاقياً وليس أخلاقاً لاهوتية، أي إن الأخلاق هي أساس للدين وليس العكس، ويصرح بذلك كانط قائلاً: «إن الأخلاق لا تحتاج أبداً إلى الدين بل بفضل العقل العملي المحض هي مكتفية بذاتها» وقد كان هذا التصريح لكانط هو المرتكز الأساسي الذي بنى عليه الباحثون، ثغرات الإلحاد في فلسفته. لهذا أيضاً عدّوه معادياً للأديان التاريخية. لقد أراد كانط من خلال اللاهوت الأخلاقي أن يجعل معرفتنا بالله غاية إيمانية لا معرفة نظرية، لذلك رفض أي فيزياء لاهوتية وانطلق للبرهان الأخلاقي من الأساس الغائي للطبيعة، حيث تضع الطبيعة أمام التأمل النظري للعقل معطيات وفيرة بحيث يستطيع العقل البشري من خلالها الوصول لوجود سبب عاقل للعالم. ومع ذلك فالأساس الغائي لا يجعل من الله قضية إيمانية لأن غاية العقل هنا هو تفسير الطبيعة، وليس من أجل تحقيق الواجب، وهذا ما يرفضه كانط، لذا ومن أجل أن يصبح الله قضية إيمانية لا بد من العثور عليه من خلال «مفهوم مبدع أخلاقي للعالم، لأن هذا وحده يوفر الغائية النهائية التي لا نرى أنفسنا ملتزمين بها إلا بقدر ما يتصرف وفق ما يفرضه علينا القانون الأخلاقي كغاية نهائية، وهكذا يلزمنا بها، وبالنتيجة لا يكتسب مفهوم الله تمييز اعتباره قضية إيمان في إثباتنا إلا من خلال علاقتنا بموضوع واجبنا كشرط لإمكان بلوغ الغاية النهائية لهذا الواجب» . وعليه فإن غائية الطبيعة لا تكفي وحدها للبرهنة على لاهوت من دون البرهان الاخلاقي، حيث إن الأخير يحتفظ دائما بقوته، ولأنه يبرهن على وجود الله من الناحية التي لا غنى عنها للعقل وهي الناحية العملية. وللوصول الى كائن أسمى، لم يكن علينا الاعتماد على الأساس الغائي الطبيعي للبرهان، لذلك يأتي الدور المهم للغاية الأخلاقية، والتي تستند إلى مبادئ عقلية في الأساس، تستطيع التفضيل لتفضي إلى لاهوت ما يرضي غاياتنا النهائية. أما هذه الغاية فلن تكون نهائية، إلا بوجود كائن أسمى أبدي. وهكذا يبدو لنا مفهوم مبدع واحد أسمى يجمع العلم الكلي والقدرة الكلية والحضور الكلي وأبدي يناسب اللاهوت الأخلاقي. وتبعاً لذلك الإيمان العقلي، عارض كانط النظريات الأخلاقية، التي ترى أن فكرة الخير هي دعامة الأخلاق، إذ أسس فلسفته الخلقية على مفهوم الواجب والإرادة وما يتبعهما من نتائج أخلاقية وعدّ الأخلاق هي (فكرة الواجب)، فالواجب «هو ضرورة إنجاز الفعل احتراماً للقانون. أما القانون فصفته الجوهرية تكمن في أنه كلي أي صادق في الأحوال كافة، من دون استثناء. والقانون الأخلاقي هو ذلك القانون الذي يقول لنا إن الفاعل الأخلاقي يتصرف أخلاقياً إذا سيطر العقل على كل ميوله»

الواجب

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

لذلك يرى كانط أن الواجب هو ما أملاه العقل، والإرادة الخيرة هي التي تلبي النداء الأول وهو العقل وتبعد عن الأهواء. ونداء العقل هو نداء الواجب، وأمره هو الذي يجب أن يطاع، فالإنسان لا يكفيه أن يأتي الفعل مطابقاً لما يقضي به الواجب. ذلك أنه إذا «كان كل شيء في الطبيعة يتحرك بمقتضى قوانين، فإن الكائن العاقل هو وحده الذي يتحرك بمقتضى فكرة القانون، أي تصور القانون، وهذا يضعنا مباشرة أمام مبدأ الإرادة ». لذلك كان لابد من فعل الإرادة المرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الواجب، «فالإرادة التي تعمل وفقاً للواجب هي إرادة خيّرة، بالضرورة» وبالتالي فكرة سيطرة العقل. أما صيغة هذه السيطرة فإنها تسمى، بحسب كانط، وازعاً، والوازع هنا عقلي وأخلاقي في آن. وإذ يقول كانط هنا، منذ بداية القسم الأول لـ (تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق) «إن من كل ما يمكن تصوره في العالم، بل خارج العالم بصورة عامة أيضا، ليس ثمة ما يمكن أن يعد خيراً من دون حدود أو قيود، اللهم إلا الإرادة الخيِّرة» إن ما يقصده كانط في هذه العبارة هو أن الإرادة الخيِّرة هي وحدها التي يمكن أن تعد خيراً في ذاته، أو خيراً مطلقاً أو خيراً غير مشروط موضحاً أكثر أن الإرادة الخيِّرة يجب أن تكون خيِّرة في كل الظروف، ومهما كانت الأحوال، فلا تكون خيّرة في ظرف، غير خيّرة في ظرف آخر. أو خيّرة كوسيلة لغاية، وشريرة كوسيلة لغاية أخرى. وهنا ينبهنا كانط على خطر الخلط بين الإرادة الخيّرة، وبين مجرد الرغبة في الخير من دون اتخاذ الوسائل المتاحة لتحقيقه. ومن هنا اتخذ الشر مفهوماً أخلاقياً مخالفاً لما تناولته التيارات الإلحادية المتعددة، إذ رأى كانط أن هبة الله الحقيقية للإنسان هي الإرادة الحرة، لذلك تكمن حرية الاختيار إما للخير وإما للشر، فإن كان شراً فليخلع الشر ويلبس الإنسان الخير، فالإنسان يكمن بداخله نزوع للشر وليس مفطوراً عليه والحرية هي مصدر كل ما هو شر أو خير فيه، وعلى ذلك فالشر ليس خبثاً، بل هو ناتج فقط من ضعف في الطبيعة الإنسانية بما فيها من خلط للدوافع الأخلاقية وغير الأخلاقيه، والتي هي أحد عوامل نزوع الإنسان للشر . وإلى هذا يرى كانط أن «حكمة الله العليّة تهيمن وتحكم الكائنات العاقلة وتصرفا بحسب مبدأ حريتهم، وأولئك الموجودات يجب أن يتحملوا مسؤولية أيّ خير أو شر يقترفونه» ذلك أن الخير والشرعند كانط موجودان في الطبيعة البشرية حيث يوجد الخير في ماهية الإنسان بينما يوجد الشر في طبعه،ولذلك وطبقاً لمبدأ تناقضات العقل الذي قال به كانط فلا ضير أن يتعايش الخير والشر معاً داخل النفس البشرية الواحدة فهما فطريان، ويخرجان من منبع واحد هو الحرية، والحرية هنا هي حرية مرتبطة بدرع الإرادة والواجب في القانون الأخلاقي فالمرء بشكل حر لا يعني سوى «أن يغير حياته إلى حياة جديدة مطابقة للواجب» فالحرية هي حركة بعث من جديد للإنسان وتغير حالته من الشر إلى الخير، هذا التغيير يتم بالخروج «من الشر ودخوله الخير، خلع للإنسان القديم ولباس للإنسان الجديد» وهنا نجد تشابهاً بين ما جاء في الكتاب المقدس وعبارة كانط. فقد جاء في الكتاب المقدس «كما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضاً صورة السماوي» لكن كانط يستعملها كفكرة شمولية في حدود لاهوته الأخلاقي المؤسس على الإيمان العقلي وليس في حدود حدود الدين وحده، ومن هنا فخلاص البشر لا يوجد إلا «في القبول الأشد حميمية بالمبادئ الأخلاقية الأصيلة في صلب نواياهم، ولا يتم ذلك إلا من خلال الانتقال إلى مسلمات القداسة التي في تلك النّوايا» لذلك أضحت النية في فلسفة كانط هي المحدِّدة وليس الدافع إذا كان الإنسان خيِّراً أو شرِّيراً. ذلك أن من يعمل ضد هذا القبول ليس شهوة الحس المتهمة غالباً، بل هو ضرب من الانحراف المذنب في حق نفسه أو كما يريد المرء أن يسمي هذا الخبث، هو الخداع، والكذب، ومكر الشيطان، الذي منه دخل الشر إلى العالم، وهو انحراف كامن في كل إنسان ولا يقهر إلا بفكرة الخير الأخلاقي» ويظهر جلياً من تحليل كانط الشر والخير الدلالة على نظرته الإيمانيه وإلمامه بالكتاب المقدس، خلاف ما فهمه بعض الذين يتحدثون عن ثغرات للإلحاد، في الفلسفة الكانطية. إن ما مايريده كانط هو بعث الإنسان من جديد وتغيير حالته من حالة الشر إلى حالة الخير، فكما يبعث الإنسان في الآخرة ويتغير من حالة إلى حالة كما جاء في الكتاب المقدس، كذلك يستطيع الإنسان من منطلق حريته وإرادته أن ينشئ أخرويات متحققة في العالم الأرضي من خلال خلع الشر ولبس الخير، لذا يرى كانط في هذا الإطار أن جميع المفاهيم الأخلاقية تحتل مكانها وتستمد أصلها، قَبْلياً تماماً، في العقل نفسه. لهذا وجدناه يقول: «إن الأخلاق وهي تقوم على أساس مفهوم الإنسان من حيث هو كائن حر يلزم نفسه عن طريق عقله بقوانين غير مشروطة»

فكرة الحرية

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

انطلاقاً من مبدأ عقلانية الأخلاق هنا، يوصلنا كانط إلى فكرة الحرية، على أساس أنها فكرة لا يمكن فصلها أبداً عن فكرة العقل «لأن فكرة الحرية هي محور مذهب العقل الخالص – العقل النظري والعقل العملي في آن – وهو يكون، في هذا، قد مهد الطريق لتحويل سيادة العقل العملي على العقل النظري إلى علاقة عليّة جوانية» أو علاقة شرط بمشروط. وإذ يصل كانط إلى هذا يفيدنا أيضاً أن التجربة لا تفيد أبداً في عملية وضع مبادئ الأخلاق، ذلك أن القانون الأخلاقي بصفة عامة، لابد إن يكون غير ممزوج بأية إضافة غريبة لدوافع حسية، ومكتسبة من التجربة، وفي هذه الحالة سيصبح له تأثير في القلب الإنساني من طريق العقل وحده، تأثير أقوى بكثير من تأثير الدوافع الأخرى كلها، التي يمكن أن تثار في مجال التجربة لذلك يجب أن ننظر لواجباتنا «على أنها أوامر للكائن الأسمى، لأننا لا نستطيع أن نأمل في الخير الأسمى إلا استناداً إلى إرادة كاملة من الناحية الأخلاقية، ولهذا فإننا لا نستطيع أن نأمل في بلوغ الخير الأسمى إلا من خلال الانسجام مع هذه الإرادة» وتبعاً لذلك كان جوهر الدين عند كانط هو «التوافق مع…فكرة مشرِّع أخلاقي لجميع البشر هو بلا ريب متطابق مع الواجب» . وتقابلنا هنا مشكلة كبيرة جداً في كتابات كانط، فهو من ناحية يقرر أن واجباتنا الأخلاقية أوامر إلهية ومن ناحية أخرى يقرر أن الواجبات الأخلاقية صادقة بذاتها بالضرورة، ونابعة من الأمر المطلق للإرادة الإنسانية، على هذا الاعتراض يجيب كانط: «يجب أن ننظر إلى الأخلاقيات على أنها أوامر الكائن الأعلى لأننا لا نستطيع أن نأمل في الخير الأسمى إلا استنادا إلى إرادة كاملة من الناحية الأخلاقية، ولهذا فإننا لا نستطيع أن نأمل في بلوغ الخير الأسمى إلا من خلال الانسجام مع هذه الإرادة»

لذا كان المبدأ المعيّن الأعلى للإرادة، يدور بين عاملين مهمَّين، الأول:مصادرة وجود علَّة للطبيعة بأسرها، والثاني: مبدأ توافق الطبيعة، وتوافق السعادة الأخلاقية، إذاً ليس الخير الأسمى ممكناً في العالم، إلا من حيث الإقرار بأعلى للطبيعة، لذا فلو أن من الواجب تحقيق الخير الأسمى، فهو أيضاً مرتبط بوجوب الحاجة إلى افتراض إمكان هذا الخير الأسمى، ولا يتحقق هذا إلا بوجود الله، وقد أكد ذلك كانط، حين ربط ربطاً لا ينفصم افتراض هذا الوجود بالواجب، وذلك يعني أنه من الضروري أخلاقياً أن نقر بوجود الله» وهذا إقرار من كانط بأن الإقرار بوجود الله إلزام أخلاقي.

لقد كانت محاولة كانط في فلسفته الاستدلال على مشابهة قانون الأخلاق المسيحي بفكرته الناقدة للعقل المحض، بل رتب المشابهة في نقده والقانون المسيحي حتى بلغ حدّ التماثل مع اختلاف في المصطلح. فقد رأى كانط أن النية المتمثلة للقانون الأخلاقي عن احترام هي الفضيلة، وهذا هو جل الكمال الأخلاقي المقدّس الذي يستطيع الإنسان الوصول إليه، وبالتالي فإن هذا الأمر يُظهر وعياً بالدوافع المزيَّفة التي هي غير أخلاقية والتي تدعو إلى اتباع ذلك القانون. وحسب كانط فإن ما يتطلبه المخلوق لتقديس ذلك القانون هو الأبدية أو التقدم إلى اللانهائي، وقد يبدو لنا أن السعادة ليست مرتبطة ضرورة بالقانون الأخلاقي، لذا كانت السعادة هي العنصر الثاني، وكان السعي لإمكان الخير الأسمى لا غنى عنه لينبع العنصر الثاني وهو السعادة، ذاك ما يبدو جلياً حين نعلم أن جميع الكائنات العاقلة في العالم كرست نفسها للقانون الأخلاقي، وهذا لأن ملكوت الله وحده هو الذي يصل إلى هذا التناغم والانسجام ما بين الطبيعة والقانون الأخلاقي. هذا مع العلم أن كلاً منهما على حده منفرداً يبدو غريباً مستغرباً متنافراً. والنتيجة التي لا مرد لها كما يقول كانط «أن الأخلاق تقود للدين» فالدين هو الغائية النهائية للقانون الأخلاقي، وعلى الرغم من هذه النتيجة التي كانت متضمنة في فلسفة كانط الأخلاقية وصرح بها إلكنّ اعتماد كانط على الأخلاق وصولاً للدين، قد فتح على فلسفته ثغرات بدعوى أن كانط مؤسس للفكر الإلحادي في الحداثة المعاصرة، لا سيما أن المغزى الذي يستند عليه كانط لكل المسائل الفلسفية التي تناولتها فلسفته راجع إلى القانون الأخلاقي وبصفة خاصة لدى تناوله مفهوم الدين.

مفهوم الدين

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

من كل ما سبق نلاحظ أن القانون الأخلاقي قادنا إلى مفهوم «الخير الأسمى» وذلك كما يقول كانط «بوصفه موضوع العقل المحض وغايته النهائية» وبناءً عليه يتضح أن جميع الأوامر الإلهية هي واجبات وليست عقوبات، ولكي يكتمل الهدف الضروري والرئيس من الخير الأسمى الذي يفرضه العقل المحض من دون تدخل، أي من الدوافع الحسية، نصل إلى نتيجة، أخرى متمثلة في المصادرة على (خلود النفس). ذلك لأن الهدف من الاكتمال الضروري والرئيس للجزء الأول من الخير الأسمى لا يمكن أن ينجز بالكامل إلا في أبدية، وهذا القانون نفسه هو الذي يقودنا مرة أخرى إلى العنصر الثاني من الخير الأسمى، وهو السعادة، وهذا يعني أن يقود ـ العقل المحض ـ إلى افتراض علة كفءٍ لهذا المعلول، أي يجب أن يطالب بوجود الله. وهنا يأتي الارتباط ضرورياً بوجوده من أجل الخير الأسمى. وقد رأى كانط أن النية المتمثلِّة في احترام القانون الأخلاقي هي الفضيلة ولذلك «فالفضيلة هي التي تستطيع أن تشكل الفكرة التي يفهمها المرء من وراء كلمة «تقوى الله التي هي النية الدينية» وهذا هو جل الكمال الأخلاقي المقدس الذي يستطيع الإنسان الوصول إليه وعلى هذا الأساس لا يريد كانط توقيراً منفعلاً كسولاً للقانون الإلهي، بل يريد بالإنسان أن يصرف قواه الخاصة في مراعاة القانون الأخلاقي المؤسَّس على الواجب. وحين يؤسس كانط الدين على دعامة الأخلاق، فإنه يؤسسه في الوقت نفسه على دعامة العقل. لا على تأملات العقل النظري، بل على حاجات العقل العملي، التي هي النور الهادي الوحيد الذي يستطيع أن يرشدنا في متاهة الأفكار؛ وبالتالي فإنه هو الدعامة الوحيدة الممكنة لإقامة إيمان عقلي. فقد لاحظ كانط أن هذا الإيمان يشبع أيضاً اهتمام العقل الخالص نظراً لأنه يضمن قيام ترابط بين ملكوت الطبيعة وملكوت الحرية الأخلاقية. «حيث حرية الانسان لا تنبع من فوضوية، بل من أخلاق بإرادة حرة، كأنه يقول أنا لن أتكلم على الإلحاد، ولكن (الأخلاق المعاملة) وهذا واضح في عبارته «إنّ أصل حاجة البشر إلى الدّين لا يكمن في أيّ نوع من العبوديّة، بل في قدرتهم الرّائعة على الحريّة، وبالتّحديد حريّة المصير، حرية اقتراح غاية نهائية لوجودهم على الأرض، تليق بعقولهم، أي بقدرتهم على إعطاء قيمة، أو معنى لسيرتهم الخاصة في تدبيرأنفسهم» ومن ثمّة فالحاجة إلى الدّين لا تأتي إلى الأخلاق من الخارج بل هي «فكرة تنبع من الأخلاق، وليست أساساً لها»، وهذا الترادف الذي حكى عنه كانط والقسائم المشتركة التي تحدث عنها هي السبيل الأسمى لما يتحدث عنه الملحدون ولكن بمنهجه الأخلاقي القويم والغاية الأرقى، مصطلحات يتشدق بها العلمانيون من دون أسس منهجية، لا تدعو إلا فوضى وجدانية وإلحاد؛ والنتيجة حرب على الله، وخسائرها تفتيت الأخلاق، ولا مغنم فيها سوى انهيار مجتمعي في شتى المجالات والمناحي. لقد جاء الدين عند كانط بتلك الإرادة الحرة ليكون من أهم نتائجها غاية أسمى يراها في احترام الدين لاحترام أعظم وهو الله.. وحالئذٍ يبلغ الإنسان جل ما يبحث عنه بكامل حريته، فلا يصبح الإنسان متخلّقا لأنّه متديّن، بل الأمر بعين الضدّ، إنّه لا يصبح متديّناً إلاّ لأنّه متخلّق، أي إنه قادر على إعطاء قيمة أو غاية نهائية لحريته. ولهذا فهو الكائن الوحيد الذي يستطيع تجاوز ثبات القوانين التي تحكم طبيعته وحياته ليصنع لنفسه عالماً جديداً هو عالم الإنسانية التي رأها كانط في الحرية، وعليه تناول كانط مسلَّمة الحرية كحلقة وصل بين مفهومين متعاليين هما الله والخلود. فقد وضع الحرية بين مسلَّمة الله والخلود، حتى تتخطى الحس عن طريق قانون السببية، وانطلاقا من ارتباط مفهوم الحرية بمفهوم السببية من ناحية ومن ناحية أخرى ارتباطه بالمفاهيم المتعالية لا بد أن نفترض «سبباً أخلاقياً للعالم هو مبدع العالم لكي نضع أمام أنفسنا غاية نهائية تتفق مع القانون الأخلاقي وبقدر ما تكون هذه الغاية النهائية ضرورية تكون ضرورية أيضا لافتراض.. أن الله موجود» .أصالة الوجود الإلهي

لقد توصل كانط الى تصور يقوم على أن قانون الطبيعة يقضي بأن لا شيء يحصل من دون سبب متعين قبلياً تعيناً كافياً، إذن فالقضية «التي تنص على أن كل سببية ليست ممكنة إلا وفقا للقوانين الطبيعية تتناقض ذاتياً في كليتها اللاَّمحدودة، ومن المحال إذن أن نسلم بهذه السببية بوصفها السببية الوحيدة. وعليه يجب التسليم بعلية يحصل بموجبها شيء من دون أن تكون تلك العلة متعينة، وذلك بصعودنا إلى أعلى بعلة أخرى متقدمة وفقا لقوانين ضرورية»لملحوظ في منهج كانط للوصول إلى فكرة سبب أسمى محدد، هي في حد ذاتها إحدى طرق دحض الإلحاد؛ إذ لا يمكن أن نستدل لملحد على وجود فكرة السبب الأسمى من خلال ما أنزل سواء من دين أو أخلاقيات الدين (أخلاق لاهوتية) لأن الملحد لا يقبلها من البداية بل يراها ميتافيزيقيا تقليدية مرفوضة لديه، بل إن منهج التدليل على وجود وجوب أخلاقي ولاهوت أخلاقي، ملزم للارتقاء لفكرة سبب أسمى محدد، هو عين الاضطرار للعقل إلى الصعود، لذا رأى كانط أن الطريقة الأخرى سيئة، أي الطريق المعاكس، بل تعد عقلاً مقلوباً»[48]. ولا ضير كيف استخدم كانط مبدأ السببية للوصول إلى الكائن الأسمى، المهم أنه وصل إليه بطرق أخرى أفضل وأقرب إلى العقل والفهم.

التمس كانط واقعية الحرية لأنها كامنة فينا على الرغم من منهجه الترانساندتالي، لذا جعل منها نقطة التوسط بين قضيتين متعاليتين هما الله وخلود النفس، لهذا كان من اللافت تماماً في هذا أن الحرية هي من بين الأفكار الثلاث الخالصة الذي يبرهن كانط على واقعيتها الموضوعية إذ يتم تصورها كفكرة ترنسندتالية من خلال نتائجها في الواقع، وبالتالي يجعل منها إمكاناً لربط فكرتين متعاليتين وفي نفس الوقت نصعد منها إلى الدين وبذلك وصل إلى مفهوم الحرية، حيث تم البرهان على حقيقته بقانون ضروري للعقل العملي، لذلك يصفها كانط بأنها تشكل «حجر الغلق في بناء منظومة العقل المحض بكاملها» لذلك لا يتم الفعل الاخلاقي عند كانط إلا من خلال فكرة الحرية، وهي مفتاح الاستقلال الذاتي والإرادة. في المقابل نجد أن الضرورة الأخلاقية ذاتية، أي إنها حاجة، وليست موضوعية، بمعنى أنها هي نفسها ليست واجباً، وذلك لأنه لايمكن أن يكون هناك من واجب يقضي بافتراض وجود أي شيء، نظراً لأن هذا أمريتعلق بالاستخدام النظري للعقل، ولذلك «لا يعني التسليم بوجود الله كمصادرة أنه أساس لكل إلزام بصورة عامة، لأن هذا الأساس يقوم علي التشريع الذاتي للعقل نفسه» وهذه أخذها دعاة الإلحاد على كانط باعتبار هذا اللاهوت الأخلاقي هو لاهوت بلا شعائر وطقوس. لكنكانط كان يرمي من وراء ذلك رؤية الكائن «الإنساني لا باعتباره غاية طبيعية مثل أي كائن منظم بل بوصفه غاية أخيرة للطبيعة على الأرض »فا لإنسان هو الغاية الأولى والأخيرة للوجود بحكم العقل المفطور فيه من دون سائر الكائنات الأخرى، لذا أراد كانط تخليص الدين من كل أنطولوجيا أو ميتافيزيقا، بجعله ديناً تتحدد أهميته وضرورته من منطلق أخلاقي تمليه فكرة الواجب الكليِّ المنزَّه من كل غرض ومصلحة، لا مكان فيه للطقوس والشعائر، سعياً نحو غائية لا توجد إلا فيه وحده، محاولاً بذلك سد النقص والثغرة التفسيرية التي تنتج من مبدأ الآلية حينما يحاول تفسير الحياة ذاتها ضمن التصور الميكانيكي للكون، كما يأخذ موضعه أيضاً ضمن سعي العقل العملي لأنه يرى التجانس بين ما يقوم به من فعل أخلاقي وبين الخير الأعلى الذي لا يستطيع بلوغه في حياته القصيرة الفانية. ولعل النزعة العقلية النقدية التي اتبعها كانط في فلسفته هي التي أفضت إلى هذه النتيجة والتي بلغت أوْجَها من خلال شكل العبادة التي تحكم العلاقة بين الإنسان والله، وذلك من خلال التمييز بين دين العبادات والدين الخلقي من دون نفي للأول. لكن كانط استنكر ما جاء في إنجيل يوحنا «لا تؤمنوا إلا إذا رأيتم الآيات والعجائب» [تعجباً بقوله: «إذا أنتم لم تروا العلامات والمعجزات فلا تؤمنوا!»[وتساءل «هل الإيمان متوقف على رؤية العلامات والمعجزات وما دونهما لا يوجد إيمان» من هذا المنطلق وضع كانط تمييزاً جوهرياً بين مفهوم دين العبادات، ومفهوم الدين الخلقي المحض، إذ يرى أن في دين العبادات نجد الإنسان يتقرب إلى الله بأنه «يمكن أن يجعله سعيداً أبداً من دون أن يكون عليه بالضرورة أن يصير إنساناً أفضل» لا نبذ كانط التواكل والتمني من دون عمل، فلو كان كل شيء بالتمني لأصبح العالم خيِّراً من دون شر، لذلك يقول: «إن الله يمكن أن يجعل منه إنساناً أفضل من دون أن يكون هو ذاته شيئاً آخر ليفعله سوى أن يصلي من أجل ذلك، رُبّ صلاة لأنها تتم أمام كائن بصير بكل شيء لا تعدو أن تكون ضرباً من التمني وبذلك هو على الحقيقة لم يفعل شيئاً إذ لو كان ذلك شيئاً ينال بالتمني مجرداً لكان يكون كل إنسان خيراًهذا لا ينبغي حصر الدين في مجرد الطقوس التي ربما يكون منها الكثير مما لا يحمل على نقاء القلب وحسن النية. وهو ما شاع في الغرب الأوروبي حيث شكلت السلطة الكنسية أداة للإقطاع ومصدراً لشيوع الخرافات. وإذن العقل وحده حسب كانط هو الذي يستطيع مهما كان الإنسان كامل العقل أن يجد لذة مباشرة في إظهار مظاهر التشريف لهذا المعبود بكونه سيداً كبيراً للعالم وأن يناله من التمجيد والتعظيم والتشريف ما يليق به، ولكن ذلك اتباع لأمر مباشر منه، وذلك أيضاً «بوصفه شأناً يخص الله وليس الإنسان» ويدل كانط بمفهوم الدين الخلقي المحض وصفه هو الأصلح لدين عام للإنسانية وذلك لا يكون إلا عبر القوانين النظامية التي هي أوامر الله، لكن في الحقيقة ومن أجل أن يكون الإنسان قادراً على رؤية تلك القوانين التي تخصه والتي تعني بشأن الإنسان، فإنه يستطيع بقوانين الدين الخلقي المحض، ومن دون القوانين النظامية أن يستند إلى عقله الخاص وبذات نفسه أن يصل إلى أساس الدين والمتمثل في إرادة الله، لذلك يرى كانط حاجتنا تلك القوانين الأخلاقية المحضة التي «هي من حاجة العقل لأن يقبل بوجود قوة، بإمكانها أن تخلق المفعول التام، الممكن في عالم ما والموافق للغاية الأخلاقية النهائية» وذا يكون نهايته إلزامية بأن يكون هناك إله واحد، والذي يترتب عليه دين واحد، وهو أن يكون دين خلقي محض، وبذلك يحقق هذا الدين ما لم يحققه دين العبادات بقوانين نظاميه سواء عبر وحي خاص لواحد معين، أو عبر كتاب عام للناس، أو ليكون إيمان هذا الدين إيماناً تاريخياً وليس إيماناً عقلياً محضاً، لأنه بالإيمان العقلي المحض يستطيع الإنسان الوصول إلى فهم إرادة الإله. على أن كانط لا يرفض تماماً الوحي بل يحلله «هل هو بضاعة عقدية متناقلة بشكل وضعي وتاريخي، أو هو وحي العقل المحض لأنه أقدس ما يمكن أن يخطر على بال البشر عامة، لا يخلو أي وحي من معان عقلية صرفة ولذلك ليس المطلوب سوى الإنصات إلى ما هو عقلي في كل وحي وتخريجه بشكل مناسب لطبيعتنا الأخلاقية أي لحريتنا، «إن الإيمان الحر هو موقف أخلاقي باطني.. ولذلك لا معنى لأي عنف ديني» فما يريده كانط هو حماية الإنسان من تحويل الدين لمجرد مظهر خارجي بل يريد جوهر الدين، لأن الله كل شيء،لأنه معبود خارجي في أفق أنفسنا ومن ثم أكثر الأفكار العقلية حرية إلينا، فكانط لا يريد إبطال دين الشعائر كما ذهب بعضهم إلى ذلك ولكن يريد إيقاظ الضمير البشري لكيفية عبادة الله..أليس ما تعانيه مجتمعاتنا المعاصرة اتخاذ بعضهم الدين مظهراً وليس جوهراً، أليس سبب العنف والدكتاتورية المعاصرة، البعد عن جوهر العقل وإعماله في الدين؟

الايمان الاخلاقي الذي يدعو اليه كانت

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

إن الإيمان الأخلاقي الذي يدعو له كانط هو إيمان التوكل وليس التواكل المؤسس على صفاء النية ونقاء القلب، إيمان الحرية لله وحده وليس إيمان الأغراض الدنيوية الذي يسميه كانط «إيمان المرتزقة»، إيمان الحرية لا العبودية، فمعنى أن يكون الإنسان حراً «لا يعني سوى أن يغير حياته إلى حياة جديدة مطابقة للواجب» لان حر ليس هو إيمان كفارة، الإيمان الحر – كما يقصده كانط – هو إيمان العقل الذي يستطيع هو وحده «أن يحررنا من شعور الذنب وذلك ليس ثمة واجب على الأرض أقدس من سيرة حسنة وفقاً لقوانين الحرية وهو موقف لا نحصل عليه بالقيود والرهبانية المسرفة بلا جدوى بل باستعمال حريتنا وطبيعتنا البشرية ولهذا يرفض كانط أن يصنف الناس كفاراً زناديق ومؤمنين. فهناك ما يطلق عليه كانط بالاستعداد للدين الخلقي، المطمور في صلب العقل البشري، ولكن ليس يعني أنّ الإيمان العقلي الحر يرفض ويتنكر للعقائد والملل وإنما كونه لا يحتاج البتة إلى شعائر حتى يقتنع به اللاّهوتيون أن ما يريده كانط هو حماية الضمير البشري من تحويل الدين إلى كهنوت، فهو لا يهدف من الإيمان الحر إلى إبطال دين الشعائر والطقوس أو دين المعتقدات ولكنه يريد إيقاظ العقل بكيفية التعامل ولذلك فالحاجة إلى الدّين لا تأتي إلى الأخلاق من الخارج بل هي فكرة تنبع من الأخلاق، وليس أساسا لها، وهذا الترادف الذي حكى عنه كانط والقسائم المشتركة التي تحدث عنها هي السبيل الأسمى لما يتحدث عنه الملحدون ولكن بمنهجه الأخلاقي القويم والغاية الأرقى.

إنّ حاجة الإنسان إلى احترام أعظم من كل أنواع الاحترام الأخرى، هو الذي يجعله يفكر من نفسه في جعل شيء ما موضوعاً للعبادة، ومن جوهر هذا الاحترام يختم كانط كتابه نقد العقل العملي بعبارة تجمع كل فلسفته الخلقية والدينية بقوله: «شيئان يشغلان الوجدان بإعجاب وإجلال يتجددان ويزدادان على الدوام كلما أمعن الفكر التأمل فيهما، السماء ذات النجوم من فوقي والقانون الأخلاقي في صدري»[62] فلا يكون الله كل شيء لأنه معبود خارجي بل لأنه أنبل فكرة في أفق أنفسنا، ومن ثم فهو أكثر الأفكار حرية إلينا ولذلك وكما بدأنا بحثنا هذا، يكون كانط من الذين صعدوا للسماء بالأخلاق، وعليه لا يمكن الحكم على كانط إلا من خلال منطق العقل وحرية التفكير اللذين يشكلان جوهر فلسفته، ذلك بأن حاجة الإنسان إلى احترام أعظم من كل أنواع الاحترام الأخرى هو الذي يجعله يفكّر في جعل شيء ما موضوعاً للعبادة. وهذا بدوره أعطى لكانط بُعداً آخر للدين مخالفاً بعض الفلاسفة .

المصادر والمراجع

-كانط: تأسيس ميتافيزيق الأخلاق، ترجمة عبد الغفار مكاوي، مراجعةالترجمة عبد الرحمن بدوى، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، كولونيا، ألمانيا، 2002، ص15

  • جمال محمد أحمد سليمان: إيمانويل كانط «أنطولوجيا الوجود،دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع «بدون رقم طبعة «2009ص173
  • كانط: نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة،مركز الإنماء القومي، لبنان، بدون تاريخ أو رقم طبعة ص385

-ول ديورانت: قصة الفلسفة، ترجمة فتح الله محمد المشعشع، مكتبة المعارف، بيروت، الطبعة السادسة،1988،ص 335

-كانط: مقدمة لكل ميتافيزيفا مقبلة، ترجمة نازلي إسماعيل ومحمد فتحي الشنيطي، موفم للنشر،الجزائر،الطبعةالأولى، 1991ص85

-كانط: نقد ملكة الحكم ترجمة،سعيدالغانمي،ط ١،منشوراتالجمل، ٢٠٠٩،، ص،417،416

-كانط: الدين في حدود مجرد العقل، ترجمة فتحي المسكيني، جداول للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى،2012ص45.

-زكريا إبراهيم:المشكلة الخلقية، مكتبة مصر، بدون تاريخ أو رقم طبعة ص167

-كانط: نقد العقل العملي، ترجمة غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت،لبنان، الطبعة الأولى،2008 ص218.

الجاحظ المفكر المسلم الذي اكتشف التطور قبل داروين بألف عام، وموقف العلم والدين من نظرية التطور..

في البداية انا ماحبيت ادخل في هكذا موضوع للحساسية الشديدة له من بعض القراء وخاصة المتدينين ولما له علاقة بالايمان والالحاد ،لكن كثرة الطلبات والالحاح من المتصلين بي على الخاص بعمل منشور او مقالة عن نظرية التطور وداروين وموقف الاسلام منها وهل له ذكر في تراثنا العربي والاسلامي
اجبتهم الى ذلك فماكان فيه من خير وعلم فمن الله وما كان فيه من تقصير فمن نفسي ولا ادعي اني اعطيت الموضوع حقه كاملا فالكمال لله وحده

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

تعد نظرية التطور للعالم البريطاني تشارلز داروين واحدة من أهم نظريات العصر الحديث.
فقد أحدث مفهوم تغير الأنواع تدريجيا عبر ما يسمى بالانتقاء الطبيعي ثورة في فهمنا للعالم الحي.
وفي كتابه “أصل الأنواع” الذي صدر عام 1859 أوضح داروين أن التطور أدى إلى ظهور أنواع مختلفة من أصل واحد.
ولكن يبدو أن نظرية التطور ذاتها لها أصل ايضا، ويأتي من العالم الإسلامي.

الانتقاء الطبيعي

قبل داروين بنحو ألف عام، ألف الجاحظ، الفيلسوف المسلم المقيم في العراق، واسمه الحقيقي أبو عثمان عمرو بن بحر الكناني البصري،كتابه “الحيوان” عن كيفية تغير الحيوان عبر ما سماه أيضا بالانتقاء الطبيعي.
ولد الجاحظ عام 776 ميلادية في البصرة، جنوبي العراق، في الوقت الذي زاد فيه نفوذ المعتزلة، الذين كانوا ينادون بإعمال العقل وتشجيع الفكر الإنساني.
وكان ذلك في أوج العصر العباسي، وشهدت حركة الترجمة لكبار الأعمال في الفكر والفلسفة والعلوم تترجم من اليونانية إلى العربية، وكانت البصرة تشهد نقاشات وسجالات فكرية قوية عن العلوم والفلسفة، مما ساهم في تشكيل في فكر الجاحظ وساعده على صياغة أفكاره.
وعرفت البصرة الورق عن طريق التجار القادمين من الصين، وساعد وجود الورق على نشر الأفكار ونقلها، وبدأ الجاحظ منذ نعومة أظفاره في الكتابة عن العديد من القضايا والمواضيع.
وتعددت اهتمامات الجاحظ بين الكثير من القضايا، وكان من بينها العلوم والجغرافيا والفلسفة والنحو والأدب. ويعتقد أن الجاحظ ألف نحو مائتي كتاب، لم يبق منها لعصرنا الحالي إلا نحو ثلثها.

كتاب الحيوان

يعد كتاب الحيوان للجاحظ كتابا موسوعيا يقدم معلومات موسعة عن 350 حيوانا، ويقدم فيه الجاحظ أفكارا تحمل تشابها كبيرا لنظرية داروين للتطور.
ويقول الجاحظ في كتابه إن الحيوانات تشتبك في صراع على البقاء والموارد حتى تتكاثر وحتى لا تفترسها حيوانات أخرى. ويرى أن عوامل بيئية تساعد الكائنات على تطوير سمات جديدة لضمان البقاء، وبهذا تتحول إلى أنواع أخرى.
ويرى الجاحظ في كتابه الحيوان أيضا أن الحيوانات التي تبقى وتنقل صفاتها وسماتها الناجحة إلى ذريتها.
ويتضح من الكتاب إدراك الجاحظ أن الكائنات والعالم الطبيعي في صراع دائم للبقاء وأن هناك أنواع أقوى من أنواع أخرى.

وحتى تضمن البقاء، يتوجب على الحيوانات أن يكون لديها سمات تساعدها على التنافس على العثور على الطعام وعلى ألا تكون فريسة لحيوان آخر وعلى أن تتكاثر. وهذا يؤدي إلى تغيرهم من جيل إلى آخر.
وكان لفكر الجاحظ تأثير على الكثير من العلماء المسلمين الذين جاءوا بعده، حيث قرأ علماء ومفكرون مثل الفارابي والبيروني وابن خلدون أعماله.
كما يعرب محمد إقبال، “الأب الروحي” لباكستان، عن أهمية الجاحظ وتأثيره عليه في سلسلة من المحاضرات التي نشرت عام 1930، وكتب قائلا: “الجاحظ هو من أوضح التغيير الذي يحدث لحياة الحيوان بسبب الهجرة وتغيير البيئة”.

النظرية الإسلامية

وكان الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر على دراية بإسهامات العالم الإسلامي في مجال التطور. في واقع الحال، كان العالم ريتشارد دريبر، المعاصر لداروين، يتحدث عن “النظرية المحمدية للتطور” عام 1878.
ولا يوجد دليل على أن داروين ذاته كان على دراية بأعمال الجاحظ أو أنه كان يفهم اللغة العربي لاحظ داروين وجود تنوع في شكل المنقار لدى طائر الحسون اثناء رحلته البحثية الشهيرة لجزر غالاباغوس
ولكن ذلك لن يؤثر على مكانة داروين كعالم أمضى أعواما في السفر لبحث العالم الطبيعي وتأمله ودراسته التي زضعها بتفصيل غير مسبوق وبوضوح قادر على تغيير كيفية تفكيرنا عن العالم.
ولكن الصحفي العلمي إحسان مسعود، الذي أعد سلسلة لراديو بي بي سي بعنوان “الإسلام والعلوم”، يقول إن من المهم تذكر الآخرين الذين ساهموا في فكر التطور.

نظرية داروين

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

نظرية داروِن هي في الأساس نظرية علمية اعتمدت علي المنهج العلمى في البحث واستعان صاحب النظرية بنخبة من أساتذة التاريخ الطبيعي وعلماء الأحياء والنبات والجيولوجيا والحفريات لصياغة الصورة النهائية لكتاب أصل الأنواع والانتخاب الطبيعي بعد أن أستغرق دأبه في البحث العلمي فترة زمنية جاوزت ٢٨ عاماً. وكان الهدف منها أعطاء تفسير علمي لهذا الكم الهائل من التنوع والتشابه والاختلاف في الكائنات الحية و نشأتها، و تأثير المتغيرات البيئية علي تطوّرها عبر ملايين السنين..!! بعيداً عن الفكرة العقائدية والدينية لنشأة الخلق…!! ولم يكن الغرض منها تحدي الخالق أو مواجهة الأديان الإبراهيمية. إنما هي نظرية علمية عقلية، مثلها مثل أي نظرية معروفة

وقبل الخوض في نظرية التطور الداروينية يجب علينا ان نسلم بالحقائق التالية :

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

١- أنه لا توجد حتي الأن نظرية علمية قائمة علي قواعد راسخة او تفسير عقلاني ومنطقي تستطيع الصمود أمام رزانة النظرية الدارونية في تفسير نشأة المخلوقات وتنوعها! وإذا وجد تفسير أخر عقلاني ومقنع قائم علي الأدلة والشواهد، أقول هاتوا برهانكم ان كُنتُم صادقين…!
٢- الهجوم علي نظرية دارون هجوم ديني وسياسي وإعلامي ليس قائماُ على الأدلّة والبحث العلمي.
٣- التطوّر مستمر والتغيّر الى الأفضل والأحسن مواكبة للبيئة حقيقة واقعة لا بد التعايش معها.
٤- اذا كانت الأمة الأسلامية ذات المليار ونصف المليار مسلم بمتدينيها ومثقفيها وجامعاتها لا تعترف بنظرية داروِن، فهذا لا يغير من الواقع شيئاً. فنظرية داروِن التطورية فرضت نفسها في الدول التي أثرتنا بإنجازاتها واختراعاتها. وتُحظى النظرية بقبول شبه تام في المجتمع العلمي بعدما أيّدتها حزمة واسعة من البراهين والاكتشافات العلمية الدقيقة كعلم “الجينوم” (الخارطةالجينية). بل في ٢٠٠٩ أحتفلت عديد من المؤسسات الجامعية والهيئات الثقافية والعلمية في أمريكاوكندا وأوروبا وأستراليا بمرور قرنين على ميلاد عالم الأحياء تشارلز دارون (١٨٠٩-١٨٨٢)، مؤسس النظرية، والتي تتزامن مع الذكرى ١٥٠ عام لصدور كتابه (أصل الأنواع، ١٨٥٩) المثير للجدل، والذي أحدث ثورةً في فهم الانسان لعلوم الحياة ونشأة الأجناس وتطورها على الارض. كما خَصَّصَت متاحفُ التاريخ الطبيعي في لندن ونيويورك وواشنطن قاعات ضخمة لشرح التطور البيولوجي وآلياته وتسليط مزيد من الضوء على التراث العلمي لهذا الرجل…!!!

بداية التفكير في أصل و نشأة المخلوقات الحية

طاليس Thales ابو الفلسفة اليونانية في ٥٤٠ قبل الميلاد أوّل من أفترض أصلاً واحداً للحياة إذ قال ان مياه البحر هي الأم التي نشأت منها كل أنواع الحياة.

تلميذ طاليس أناكسمندر هو أول من ذكر ان الحياة نشأت من الطين وتفاعل العناصر الرطبة في جوفها نتيجة تأثير الشمس وتولدت منها اسماك شوكية انبثقت منها مخلوقات جديدة تطور منها الإنسان فيما بعد

أرسطو، في ٣٤٠، قبل الميلاد يقول بأن الحياة قد بدأت بالنباتات وتطورت الي النباتات الحيوانية ثم تطورت تدريجيا وببطء الي الانسان.

لعل الكاتب العربي أبو علي أحمد بن مسكويه في زمن الدولة البويهية (توفى ٤٢١هـ) هو أول من أستخدم عبارة النشوء والإرتقاء..يقول في كتابة (الفوز الأصغر) أن الانسان ناشئ من آخر سلسلة البهائم، وأنه قابل للأرتقاء من مراتب القرود وأشباهها التي قاربت الأنسان في خلقته وليس بينها الا اليسير الذى اذا تجاوزه صار إنساناً. ونحن بعد مرور عشرة قرون علي هذة الكتابات نهاجم دارون بسبب تصوره لصلة الأنسان بالقرود…!!

كما شرح في كتاب (تهذيب الأخلاق) تأثير البيئة والطبيعة في تطور ذكاء القرود والمجتمعات البدائية الي أن تصل الي الإنسان المتحضر.

كما أورد إخوان الصفا (في الرسالة العاشرة) مبادئ أولية ومصطلحات مثل: الوراثة، الانتخاب الطبيعي، الإنقراض..وكوّنوا سليلة من التطور تمتد من الجماد والنبات الي الحيوان

وذكر ابن خلدون ( توفي ٨٠٨ هـ) في المقدمة الثالثة، ص ٦٩، ان لون الجلد يتعلق بالمناخ وكمية الضوء وان السودان اختصوا باللون الأسود لحرارة الجو وليس كما جاء في التوراة عن انهم ولد حام الذي دعا علية أبوه نوح بالعبودية..!!

وذكر الجاحظ في كتاب (الحيوان) عن استخلاص سلالات من سلالات وظهور انواع جديدة عبر التزاوج.!!

كان لامارك ( Lamarck ) هو أول إنسان أثارت أستنتاجاته عن وجود قوانين بيولوجية وبيئية تسبب التغير في عالم الأحياء وليست نتيجة تدخل أعجازي.. نشر أراءه عام ١٨٠٩ في كتابه الفلسفة الحيوانية ..ولكن أخطأ في استنتاجه بأن الصفات المكتسبة اثناء الحياة بسبب ضغوط البيئة هي التي يمكن توريثها للذرية… وهذا طبعاً غير حقيقي لأن المسلمين واليهود رغم مئات الأجيال من عملية ختان الذكور لم ننجح في إنتاج أطفال لا يحتاجون الي ختان… “لامارك” لم يفترض وجود عامل داخلي ومحرك أساسي لتغير الصفات وتحويل الأنواع الحية.. ألا وهي الجينات..!!

نظرية التطور في ضوء القرآن وفهم السلف

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

يظن كثير من الناس أن داروين هو أول من قال بنظرية التطور، حتى نسبت النظرية إليه، فيقال:” النظرية الداروينية”، وعرف أتباع هذه النظرية بالداوريين، وهم قوم طورا نظرية التطور، وتعدوا ما قاله أستاذهم داروين، وقد سبق داروين اليوناييون وغيرهم.
وتتلخص نظرية الداروين في أن الإنسان والقرد من أصل واحد، وهي تتلخص عنه في نقاط أربعة هي:
1- الارتقاء2 – النشوء3 – البقاء للأقوى4 – الانتخاب الطبيعي
على أن نظرية التطور التي قال بها داروين لم تقف عند هذا الحد، فداروين لم يكفر بالله، فقد كان يهوديا يداهن الكنيسة، لكن نظريته أدت إلى الإلحاد واستند عليها كثير من الملحدين في الخروج عن الدين بالكلية.
كما أن داروين لم يقل إن الإنسان أصله قرد، بل قالها العالم ( هيقل)، وهو الذي أدخلها في النظرية الدارونية عام 1868م.
وقد استند عليها ماركس في إنكار وجود الله، وذلك بناء على مادية داورين.
كما تأثر كثير من المفكرين في نظريات متعددة بنظرية داورين، وبنيت عليها نظريات كثيرة جدا كانت لها مساحة في الفكر الإنساني ، مثل: نظرية ماركس في المادية، وأن الحياة قائمة على الغذاء والسكن والجنس، وعليها قائمة نظرية فرويد في التحليل النفسي، باعتبار الإنسان حيوان جنسي، وكذلك نظرية برجسون في الروحية الحديثة، ونظرية سارتر في الوجودية، وقد أدخلها هربت سبنسر إلى مجال علم الاجتماع، بل تعدت نظرية داورن إلى المجال السياسي واحتلال الدول العظمى للدول الضعيفة بناء على ما أصله دارون بأن البقاء للأقوى، وأن الحياة قائمة على الصراع، وأن هذا أمر طبيعي في هذا الكون!
ومع كل هذه الشهرة فقد انتقدت نظرية داروين من قبل كثير من العلماء، مثل: (آغاسير) في إنجلترا، و(أوين في أمريكا)، ووصفوا نظريته بالخرافة العلمية، كما وصفها العالم (كريسي موريسون) بالجهل، ووصفها ( أنتوني ستاندن) صاحب كتاب العلم بقرة مقدسة بالعجز، وغيرهم كثير.
الصحابة يناقشون نظرية التطور:
لكن من اللافت للنظر أنه قبل أن يقول داروين نظريته بألف ومائتي عام ناقش بعض الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرية التطور، لكنها عكس نظرية داروين، فقد ظن بعضهم أن القردة أصلها إنسان، فقد سأل الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هل القردة والخنازير الموجودون هم من نسل من مسخ من بني إسرائيل، فأجابهم بالنفي، وذلك في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قيل لرسول الله – صلى الله عليه وسلم-: «القردة والخنازير: هي مما مسخ؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: إن الله لم يهلك قوما [أو يعذب قوما] فيجعل لهم نسلا، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك». (مسلم)
وصرح غير واحد من فقهاء الإسلام، كالنووي وابن حجر وغيرهما أن القردة والخنازير كانت موجودة قبل زمن المسخ، فيقول:
قوله صلى الله عليه وسلم (وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك) أي قبل مسخ بني إسرائيل فدل على أنها ليست من المسخ” ( شرح النووي على مسلم (16/ 214)، و فتح الباري لابن حجر (6/ 353)،
القردة في القرآن:
وهذا المعنى يشير القرآن الكريم إليه في نفي نظرية داروين، وهي أن مجموعة من بني إسرائيل والمعروفون بأصحاب السبت ممن عصوا الله تعالى مسخوا قردة ، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]، وفي موضع آخر: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166].
بل المسخ لم يقف عند حدود القردة، بل تعداها أيضا إلى الخنازير، كما قال تعالى:
{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60].
بل يصرح القرآن الكريم أن الله تعالى خلق آدم بيده، كما قال تعالى: {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 75، 76]
بل إن إبليس رغم عداوته لآدم عليه السلام لا يقول بنظرية التطور، بل يقر بأمرين:
الأول: أن آدم مخلوق خلقه الله تعالى، وأنه خلق مستقل.
الثاني: أنه مخلوق من طين.
ومن العجيب أن هذا التخبط العلمي عاش ملايين من البشر فيه في تخبط عشواء يبحثون عن الحقيقة، والحق أن الله سبحانه وتعالى خلق البشر أمة، والقردة أمة، والخنازير أمة ، كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } [الأنعام: 38].
فالقرآن والسنة يجيبان عن الأسئلة الفلسفية الوجودية الكبيرة، وإن المسلم العامي يستطيع أن يجيب عن تلك الأسئلة الكبرى التي حار فيها كثير من الفلاسفة، ويبقى القرآن كتب المعرفة الإنسانية، وتبقى السنة شارحة لهذا الكتاب الخالد.

الاعتراضات على نظرية التطور ونقضها

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

الاعتراضات على نظرية التطور

منذ برزت الأفكار التطورية في القرن ال19 عندما نشر تشارلز داروين نظريته حول التطور في كتابه أصل الأنواع عام 1859، والفكرة أن الأنواع نشأت من خلال التوريث مع التعديل من سلف واحد مشترك في عملية يقودها الانتقاء الطبيعي إضافة إلى النظريات التي طرحها لامارك، فصادفت اعتراضات مختلفة على أسس علمية وسياسية ودينية، وأبرزها تلك الاعتراضات التي قادها جورج كوفييه الذي دافع عن الخلق المباشر، و ريتشارد أوين، واستمر خلال القرن العشرين الانتقادات من علماء مختصين وغير مختصين يقودهم دعاة التصميم الذكي القائلين أن بعض الميزات في الكون عموما وفي الكائنات الحية خصوصًا من وراءها مصمم ذكي، ويرى المنتقدون أن النظرية بنيت منذ بدايتها على أمرين هما الأدلة الافتراضية وذاك ما اعترف به تشارلز داروين بأنها غير موجودة بالفعل، والأمر الثاني من الأدلة الخاطئة مثل توريث الصفات الجسدية المكتسبة وغيرها، وقد أشار داروين في الفصل السادس من كتابه أصل الأنواع الذي عنونه بصعوبة النظرية ومن ذلك الغياب التام للحفريات الوسطية أو البينية أو الانتقالية بين الأنواع، ولا يعني ذلك إيجاد حفرية أو اثنتين بل من المفترض إيجاد الكثير من الحفريات، يقول داروين في حيرة وشك:

إذا كانت الأنواع قد انحدرت من أنواع أخرى عن طريق التسلسل الدقيق، فلماذا لا نرى في كل مكان أعدادا لا حصر لها من الأشكال الانتقالية؟ لماذا لا تكون الطبيعة كلها في حالة اختلاط بدلا من أن تكون الأنواع كما نراها محددة تحديدا واضحا؟ ولكن وفقا لما ورد في هذه النظرية، ينبغي أن يكون هناك عدد لانهائي من الأشكال الانتقالية… لماذا إذن لا نعثر عليها مطمورة بأعداد لا تعد ولا تحصى في قشرة الأرض؟ لماذا لا نجد الآن في المنطقة المتوسطة، التي تتسم بظروف حياتية متوسطة، أنواع متوسطة تربط بصفة دقيقة الأشكال البدائية بالأشكال المتقدمة؟…لقد حيرتني هذه الصعوبة منذ فترة طويلة من الوقت[

إن المشكلة الأساسية في إثبات النظرية تكمن في سجل المتحجرات أي آثار الكائنات الحية المحفوظة في التكوينات الجغرافية للأرض، فلم يكشف هذا السجل قط آثارا للأشكال المتوسطة التي افترضها داروين، وعوضا عن ذلك تظهر الأجناس وتختفي فجأة، ويدعم هذا الشذوذ حجة دعاة الخلق بأن الأنواع قد خلقها الله، كما أن الأدلة العلمية الأولية التي ارتكز عليها تشكيل وبناء التأريخ التطوري للإنسان هي مجموعة صغيرة من العظام، شبّه أحد الأنثروبولوجيين هذه المهمة بتلك التي تعيد بناء سيناريو السلم والحرب اعتمادا على 13 صفحة مختارة عشوائيا[6]، فلم يعد هناك أي مجال للاعتذار بفقر المتحجرات، إذ أصبحت هذه المتحجرات غنية إلى درجة أصبح من الصعب فرزها وتصنيفها، وأصبح الاكتشاف يسبق عمليات التوحيد والدمج، ومع ذلك فإن سجل المتحجرات لا يزال يحتوي على فجوات كبيرةولا يصح ما يعتقد البعض أن الحفريات توفر جزءا هاما من الحجة العامة لصالح التفسيرات الداروينية في تاريخ الحياة

الاستدلال الدائري

يعتقد المنتقدين أنه ليس هناك حفريات تدعم نظرية التطور بل مجرد استخدام لمغالطات الاستدلال الدائري بمعنى عكس وضع الدليل والنتيجة، حيث لا يصير الدليل هو الذي يقود إلى النتيجة كما في كل النظريات العلمية، ولكن يصير التطور أن تضع النتيجة أولا كنظرية مفروغ منها ثم يتم وضع أي أدلة أخرى، بدءا من الأدلة المزعومة في الحفريات ووصولا إلى الأدلة التي يستغل فيها اليوم علم الجينوم وارتقاء الاكتشافات المتوالية فيه خطوة بخطوة، حيث يتم أيضا استغلال الأعضاء ووظيفتها لصالح التفسير الصدفي التطوري العشوائي، كما حصل في القرن التاسع عشر عندما وضع أحد علماء الداروينية قائمة فيها حوالي 86 عضوا ضامرا أو آثريا على صحة التطور وهو يجهل وظيفتهم في الكائن الحي، ثم مع توالي الاكتشافات العلمية والتشريحية لم يتبقى من هذه القائمة عضو واحد ليس له فائدة بعكس ما افترض مؤيدوا نظرية التطور أنها من بقايا التطور وأنه ليس لها فائدة في جسم الإنسان، وكان من تلك القائمة الغدد الصماء قبل معرفة الهرمونات إلى آخر ذلك مما يعول عليه لجعل النتيجة أولا كحقيقة مفروغ منها ثم تفسير أي شيء على أنه تطور، فاتباع هذا الأسلوب لا يصح لإثبات صحة النظريات بل العكس هو الصحيح أي الدليل ثم النتيجة، فنظرية التطور لم تقدم شيئا للعلم ووصفت بأنها أكبر خدعة في تاريخ العلوم فالخطأ المنهجي في نظرية التطور في الالتجاء لمغالطة المصادرة على المطلوب، وذلك يجعل المطلوب إثباته أو النتيجة المرجو الوصول إليها هي التطور، ومقدماته أو إحداها التي يجب الاستدلال عليها هي التشابه شيئا واحدا، والمغالطة المنطقية تحصل هنا حينما يتم افتراض صحة النتيجة التي يراد البرهنة عليها في المقدمات سواء بشكل صريح أو ضمني، وحين يتم الاستدلال بالنتيجة المرجو الوصول إليها كحقيقة أولية لبناء هكذا افتراض. ولهذا فالتطور يقوم على التلفيق لإثبات صحته من بين كل العلوم والنظريات المحترمة، ولعل حادثة العثور على ضرس واحد فقط وعلى الفور تم جعل هذا الضرس دليلا على الحلقة المفقودة في تطور الإنسان وسلفه الماضي غير الموجود أصلا فأسموه رجل نيبراسكا، ثم بعد ذلك اتضح أن الضرس كان لخنزير أمريكي بري منقرض. أو مثل تلك الحادثة الأخرى عن عثورهم على جزء صغير من جمجمة والتي على الفور تم جعلها تمثل سلف الإنسان أيضا فسموه ساعتها رجل أورك ثم تبين بعد ذلك ان الجمجمة لحمار. أو تلك العظمة الأخرى التي عثر عليها ثم جعلت ترقوة لسلف الانسان فتبين بعد ذلك أنها جزء من ضلع دولفين، فيعلق على هذه الواقعة أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة كاليفورنيا تيم وايت فيقول «المشكلة مع الكثير من علماء الأنثروبولوجيا هي رغبتهم الملحة لإيجاد أسلاف الإنسان، لذلك فإن أي شظايا من العظام تصبح عظاما لأسلاف» فهذه بعينها هي مغالطة الاستدلال الدائري، التي يعتمد عليها كل التطور من أيام داروين إلى يومنا هذا، وكما اعترف بذلك العالم التطوري رونالد ويست عندما قال: «على عكس ما يكتبه معظم العلماء فإن سجل الأحافير لا يدعم نظرية داروين، لأننا نستخدم تلك النظرية لتفسير السجلات الحفرية، ولذلك فنحن مذنبون في الاستدلال الدائري حين نقول أن السجل الأحفوري يدعم هذه النظرية» فلو صح التطور لامتلأت الأرض بمليارات من حفريات الكائنات الوسيطية أو البينية بين الأنواع المختلفة أثناء تطورها ببطء عبر الزمن، وتتجلى فيها أخطاء العشوائية والتخبط الذي من المفترض أن يعمل التطور عليه وانتقائه، لكن هذا ما لم يحدث تماما كما اشتكى داروين وإلى اليوم.[بحاجة لمصدر]

حفريات تخالف نظرية التطور

آثار أقدام إنسان عصري عمرها 3.6 مليون سنة التي عثر عليها سنة 1977 في منطقة بتنزانيا، ولقد عثر على هذه الآثار في إحدى طبقات الأرض التي قُدر عمرها بنحو 3.6 مليون سنة، والأهم من ذلك أن هذه الآثار لم تكن تختلف عن آثار الأقدام التي يخلفها الإنسان العصري، وقد تمت دراسة هذه الآثار من قبل عدد من علماء علم مستحاثات البشر فجاءت النتائج أنه من دون شك أن هذه الآثار تشبه آثار أقدام الإنسان العصري، فلا تتميز عن آثار الإنسان في عصرنا، فقوس القدم مرتفع وإصبع القدم الكبير ضخم ومحاذ للإصبع الثاني، وتقبض أصابع القدم على الأرض مثلما تقبض عليها أصابع الإنسان الذي لا يرى في أشكال الحيوانات الأخرى، وقد أظهرت الدراسات التي أجريت على البنية الشكلية لآثار الأقدام مرارا وتكرارا أنه كان يجب أن تقبل بوصفها آثار أقدام الإنسان، بل أكثر من ذلك إنها آثار أقدام إنسان عصري (إنسان اليوم العاقل)، فبعد فحص هذه الآثار تبين أنها تعود لأقدام إنسان عاقل (هومو سابينز)[بحاجة لمصدر] . و من بين كل السمات الشكلية القابلة للتمييز لا يمكن التمييز بين أقدام الأفراد الذين خلقوا هذه الآثار وبين أقدام الإنسان العصري، وقد كشفت الدراسات المحايدة التي أجريت على آثار الأقدام عن أصحابها الحقيقيين، فآثار الأقدام هذه قد تكونت من عشرين أثرا متحجرا لإنسان عصري في العاشرة من عمره وعشرين أثرا لإنسان أصغر عمرا، فقد كانوا أناسا عاديين مثلنا، لقد كانت هذه الآثار مركزا للمناقشات لسنين، وقام علماء علم مستحاثات البشر من أنصار نظرية التطور بمحاولات لإيجاد تفسير للموقف لأنه كان من الصعب عليهم أن يقبلوا حقيقة أن إنسانا عصريا كان يمشي على ظهر الأرض قبل 3.6 مليون سنة، وخلال عقد التسعينات من القرن العشرين بدأ هذا التفسير يتبلور، إذ قرر دعاة نظرية التطور أن آثار الأقدام هذه كان يجب أن تكون من مخلفات القرد الجنوبي، فحسبما الورد في نظرية التطور يستحيل أن يوجد إنسان عاقل قبل 3.6 مليون سنة، واعترف بعضهم أنه في المجمل تشبه آثار الأقدام البالغة من العمر 3.5 مليون سنة والتي عثر عليها في الموقع G بمنطقة لاتولي آثار الأقدام المعتادة لإنسان عصري لا ينتعل حذاء، ولا توحي أي من سماتها أن كائنات المنطقة الشبيهة بالبشر كانت حيونات ثنائية القدمين أقل قدرة منا، ولو لم يكن معروفًا أن آثار الأقدام الموقع G قديمة جدا لاستنتج أنها تعود إلى فرد من أفراد الجنس الإنساني، ولكن حسب ادعاء الداروينية بسبب مشكلة العمر فيضطر إلى افتراض أن هذه الآثار تعود لمخلوق من نوع لوسي أي من نوع أوسترالوبيثيكوس أفارينيسيس. فمن غير الممكن أن تكون آثار الأقدام هذه التي يفترض عمرها 3.6 مليون سنة خاصة بقرد جنوبي، وكان السبب الوحيد الذي دعى إلى الاعتقاد بأن آثار الأقدام قد تخلفت عن قرد جنوبي هو الطبقة البركانية البالغة من العمر 3.6 مليون سنة التي عُثر فيها على آثار الأقدام، وقد نسبت الآثار إلى قرد جنوبي على افتراض أن البشر ليس من الممكن أن يكونوا قد عاشوا في مثل هذا العصر المبكر، وتبين لنا التأويلات بآثار الأقدام أن دعاة التطور لا يدافعون عن نظريتهم عن طريق دراسة الاكتشافات العلمية، بل رغمًا عنها، وهذه الحالة تبين نظرية يتم الدفاع عنها بغض النظر عن أي شيء، مع إهمال أو تشويه كل المكتشفات الجديدة التي تعارض النظرية لخدمة أغراضها فتم الإبقاء على النظرية رغم الملاحظة العلمية المخالفة لها..

اكتشاف كوخ يعود تاريخه إلى 1.7 مليون سنة عُثر عليه في أوائل السبعينات في منطقة في جورجيا، ففي هذه المنطقة في الطبقة الثانية من طبقات الأرض اكتشف أن أنواع القرد الجنوبي والإنسان القادر على استخدام الأدوات والإنسان منتصب القامة كانت تعيش معًا في نفس الفترة الزمنية، والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو البناء الذي عثر عليه في المنطقة نفسها، عُثر على بقايا كوخ خشبي، ويتمثل الجانب غير العادي في هذا الحدث في أن هذا البناء الذي لا يزال يستخدم في بعض أجزاء من أفريقيا ما كان يمكن لأحد بناءه غير الإنسان العاقل، ووفقا لما توصل إليه مكتشفوه فلابد أن يكون القرد الجنوبي والإنسان القادر على استخدام الأدوات والإنسان منتصب القامة والإنسان العصري قد عاشوا معًا قبل نحو 1.7 مليون سنة تقريبًا

اكتشاف عظمة بشرية تعود ل 1.84 مليون سنة، والعظمة عبارة عن خنصر في اليد اليسرى لإنسان عادي، والعظمة تتطابق مع عظام البشر الحاليين بشكل كبير ولا يمكن نسبها إلى أسلاف البشر. هذا الاكتشاف الذي سيشكل صدمة لأنصار نظرية التطور، ويعارض رواية أسلاف البشر وتطورهم، فالإنسان القديم هو نفسه الإنسان الحالي بكامل تميزه عن غيره من القرود.

حفرية ساحلنثروباس تشادينسيز وهي عبارة عن جمجمة اكتشفت في التشاد بوسط أفريقيا في صيف 2002 بعمر يصل إلى 7 مليون سنة، وتشبه الإنسان الحالي، وتعد أقدم عضو في العائلة البشرية، وتبين الجمجمة بشكل حاسم أن الفكرة القديمة المتصلة بالحلقة المفقودة ما هي إلا افتراضات لا قيمة لها، ولا بد أن يكون جليًا أن لب فكرة الحلقة المفقودة الذي كان موضع شك، لا يمكن التمسك به مطلقًا بعد هذه الحفرية وحتى بعض مؤيدي نظرية التطور اعترفوا أن هذه الجمجمة المكتشفة يمكن ان تقضي على أفكارهم بشأن تطور الإنسان، وأن لهذا الاكتشاف أثر قنبلة نووية صغيرة.

مستحاثات ديناصورات من 20 إلى 40 ألف سنة، كانت بدايتها منذ 1997 عندما تم العثور على بقايا بروتينات دم في عظام ديناصور المفترض أنه انقرض منذ 65 إلى 80 مليون سنة حسب الرواية الداروينية ثم تكرر الأمر في 2002 بالعثور على أنسجة مرنة ولينة في بقايا عظام الديناصورات وظلت الصدمة مهيمنة وتواصل الحديث عنها في المجلات العلمية من الحين لآخر في محاولة لتصعيدها على السطح مرة أخرى لغرابة التكتيم عليها، وتم تقديم 20 عينة من حفريات لديناصورات مختلفة تم فحصها بطرق معينة من الكربون-14 المشع، فأثبتت أن أعمارها ما بين 22 إلى 40 ألف سنة فقط، وقدمت كل هذه الحقائق سنة 2013.

اكتشاف حفرية في إسبانيا سنة 1995 من قبل ثلاثة علماء متخصصين في الأنثروبولوجيا القديمة، والحفرية عبارة عن وجه صبي في الحادية عشر من عمره كان يبدو مثل الإنسان العصري تمامًا، على الرغم من مرور 800 ألف سنة على وفاته أي أقدم من 200 الف التي قدر التطوريون عمر ظهور الإنسان، الأمر الذي أدهش علماء الحفريات

تزوير الحفريات لتثبيت النظرية

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

إنسان بلتداون

سمكة سيلاكانث وهي السمكة التي رأى مؤيدوا نظرية التطور في حفرياتها جسمها الممتليء وبقايا أعضاء داخلية ظنوا أنها مثل البرمائيات، وكذلك رأو زعانفها الكبيرة فتخيلوا أنها هي جد البرمائيات التي انتقلت بالأسماك إلى البر، فقالوا أنها منقرضة لأنه لم يراها أحد حية إلى اليوم وأنها عاشت مند 70 مليون سنة وأنها كانت تعيش قرب سطح الماء لكي يسهل عليها القفز إلى البر فجعلوها إحدى أدلة نظرية التطور، لكن ذلك لم يكن صحيحا ففي 22 ديسمبر من سنة 1938 حيث مع تطور أدوات الغوص والصيد في أعماق البحار والمحيطات تم اصطياد أول سمكة من هذا النوع ليتأكدوا بأنها لا زالت حية إلى اليوم، أي لم تنقرض أصلا، ولكنها تعيش في الأعماق ولذلك لم يكن يراها أحد إلى ذلك الوقت، وأن أعضائها الداخلية ليست مثل البرمائيات، ثم توالت عشرات الاصطيادات لها حول العالم، حتى أن أحد من انخدع بها في البداية وهو عالم الكيمياء التطوري جي سميث وهو الرئيس الشرفي لمتاحف أسماك جنوب إنجلترا الذي قال:«إن العثور على سمكة كويلامانث حية هو مثل العثور على ديناصور في الشارع»

أحفورة إنسان بلتداون فقد ادعى مؤيدوا نظرية التطور العثور على عظمة فك وجزء من جمجمة داخل حفرة بإنجلترا، وأن عظمة فكها أشبه بفك القرد، والأسنان والجمجمة كانتا أشبه بأسنان وجمجمة الإنسان، وزعموا أن عمرها أكثر من أربعين ألف سنة، فأعدت لها رسومات وتأويلات، وقدموها بوصفها دليلا مهما على تطور الإنسان وأنها اكتشاف مذهل عن الإنسان البدائي. وفي سنة 1949 حاول علماء المتحجرات البريطانيين تجربة طريقة اختبار الفلور لتحديد تاريخ المتحجرة، فأجري الاختبار على متحجرة إنسان بلتداون، فكانت النتيجة أن عظمة الفك لا تحتوي على أي فلور ويدل هذا على أنها لم تظل مدفونة في الأرض لأكثر من بضع سنين، أما الجمجمة التي احتوت على مقدار ضئيل من الفلور فقد تبين أن عمرها لا يتجاوز بضعة آلاف من السنين، كما اتضح أن الأسنان الموجودة في عظمة الفك تنتمي إلى الأورانجوتان قد تآكلت اصطناعيا، وأن الأدوات البدائية المكتشفة مع المتحجرات هي مجرد أدوات بسيطة مقلدة شحذت بواسطة أدوات فولاذية[46]، وبالتحليل المفصل كشف هذا التزوير للجمهور بعد 40 سنة وذلك سنة 1953، فالجمجمة تخص إنسانا عمره نحو خمسمائة سنة في حين كانت عظمة الفك السفلي تخص قردا مات مؤخرا، وقد تم ترتيب الأسنان على نحو خاص في شكل صف ثم اضيفت إلى الفك وتم حشو المفاصيل لكي يبدو الفك شبيها بفك الإنسان، وبعد ذلك تم تلطيخ كل هذه القطع بثنائي كرومات البوتاسيوم لإكسابها مظهرا عتيقا، ثم بدأت هذه اللطخ بالاختفاء عند غمسها في الحمض، فقد ظهرت الأدلة على حدوث كشط صناعي فكانت الأدلة واضحة على زيفها.

حفرية الروديستوس التي زعم أنها الحلقة الوسطى المفقودة ذات الأرجل والزعانف لتطور الحوت كما قال مكتشفها فيليب جنجريتش وهو مدير متحف الحفريات بجامعة ميشيغان بأمريكا، ففي مقابلة أجراها معه بصفته مكتشف الحفرية، كانت المفاجأة أن من أجراها معه لم يجد هيكل حفرية الروديستوس الموجود بالمتحف ولا الزعنفة الخلفية التي في الرسم، ولا الزعنفتين الأماميتين مثل الحيتان وكما رسمها جنكريخ أيضا، فسأله عن السبب فرد بأنهم وجدوا أطرافه الأمامية واليدين والذراعين الأماميين للروديستوس، وأنهم يتفهمون أنه لا يملك هذا النوع من الأذرع التي يمكن أن تنتشر مثل الزعانف التي في الحيتان حيث اعترف جنجريخ بأخطاء أخرى متعمدة في باقي الحفريات لتطور الحوت فعلق قائلا: «باسم داروين، لقد أضاف العلماء ذيل الحوت إلى حيوان عندما لم يتم العثور على ذيل له، وقد أضافوا أيضا الزعانف لنفس هذا الحيوان الأرضي عندما لم يكن له

الإنسان والقرد

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

خصائص تفرد الإنسان عن القردة

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

هناك نشوء لعدة أنظمة تميز الإنسان عن الرئيسيات العليا الأخرى على سبيل المثال

المشي على قدمين منتصبا بالترافق مع التعديل في تركيب الحوض والمخيخ، على عكس القرود التي تمشي على أربع، فالمشية المركّبة بين الأربعة أطراف منحنيا ًوبين القدمين منتصبا ليست ممكنة

استطالة الساق وقصر الذراعين، مع بصمات أصابع تمتلك حاسة لمس جيدة للغاية.

الدماغ أكبر بكثير وكذلك الجمجمة أكبر بثلاث مرات من القردة العليا

تعديل في البلعوم ينتج عنه السماح بالنطق، والتعديل في النظام العصبي المركزي خاصة في منطقة فص صدغي والتي تسمح بالتمييز المحدد للحديث.

تغير في الجهاز العضلي.

تعديلات في عضلات اليدين والشفاه واللسان.

زوال الشعر.

المساحة بين العينين قريبة بما فيه الكفاية لإدراك المسافات والرؤية المجسمة، وتقدم شبكة العين تقدم رؤية الألوان المختلفة.

الذكاء والخبرة والقدرة العقلية الفائقة والفريدة.

فكيفية تميز الإنسان بهذا هي محل تساؤل.
الاختلافات الجينية بين الإنسان والشمبانزي تصل إلى 35 مليون زوج من قواعد الحمض النووي على أقل تقدير، وقد وُجد ان الفترة الزمنية اللازمة لتثبيت طفرة واحدة فقط في أسلاف الرئيسيات هي ستة ملايين سنة، وأن الحصول على إثنين فقط من الطفرات وتثبيتها عبر التطور الدارويني المزعوم للبشر هو 100 مليون سنة، فيتضح أمر بخصوص فاعلية معدل الطفرة في التطور وفشل الداروينية في توفير الدعم النظري بعد فشل الدعم التجريبي لإثبات قصة السلف المشترك. إذا كان تاريخ الانفصال التطوري الذي حدث بين الإنسان والشمبانزي من السلف المشترك قد حدث ما بين خمس لسبع ملايين سنة مضت، وهذه الفترة التي من المفترض أن يختلف فيها الإنسان عن الشمبانزي بما مقداره 35 مليون زوج من قواعد الحمض النووي عن طريق الطفرات هي بالكاد كافية لحدوث وتثبيت طفرة واحدة فقط، علما أن تقديرات الوقت المتاح للحصول على إثنين من الطفرات اللازمة في طريق تطور البشر هي 216 مليون سنة، وهي طويلة بشكل غير واقعي، وهذا يعني أن الوقت الذي من المفترض أن تتطور فيه كل الثدييات على كوكب الأرض من ثديي بدائي عاش في هذا الوقت يتحصل فيه نموذج الوراثة السكانية على طفرتين فقط ويدور التساؤل عن كافة الاختلافات الأخرى بين البشر والشمبانزي ومدة الوقت الذي يستلزم ذلك، كما أن الكروموسوم الذكري Y بين الإنسان والشمبانزي مختلف جدا بحيث يستحيل معه أن يكونا من سلف واحد، وأثبتت فحوصات الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين أن الهوموإيركتوس ليس من أسلاف البشر الأمر الذي يجعل الإنسان والقرد ليسا من سلف مشترك وأما ما قيل بأن أبحاث الجينوم اثبتت أن التشابه بين الحمض النووي للإنسان والشمبانزي يصل إلى 98.5 في المائة فمصدره دراسة قديمة تمت على 30 إلى 40 بروتينا من أصل 100000 بروتين كما أنها تمت بطرق مثيرة للجدل حتى قام أحد العلماء بإعادة التجربة ولم يحصل على نفس النتائج وبين أن هناك تلاعبا بالنتائج الأولى، وكشفت دراسة أخرى أنها لا تتعدى 95 في المائة وعند دراسة كائنات حية أخرى يتضح عدم وجود أي علاقة جزيئية كتلك التي يدعيها أنصار التطور[وتبين هذه الحقيقة أن مبدأ التشابه ليس دليلا على التطور. فمسألة تشابه جزيئات البروتين بين الكائنات الحية هذه بديهة طبيعية وضرورة حياتية لازمة للسلسلة الغذائبة والهرم الغذائي فمثلا نسبة تشابه بين الإنسان والدجاج تكاد تكون متطابقة، ذلك أن هذه المادة المشتركة ليست نتاجا للتطور بل لتصميم مشترك

علماء يرفضون نظرية التطور

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

الكثير من العلماء ممن تصدى للتطور بردهم أنها نظرية زائفة بلا أدلة، فمن بينهم:

عالم الرياضيات والبيولوجيا الجزيئية والفلسفة ديفيد بيرلينسكي وهو أشهر من انتقد التطور الذي يرى أنه يروج بين الناس باسم العلم والحقائق، وذلك بعدما زادت شكوكه الكثيرة حوله كلما تقدمت العلوم وقد أعلن ذلك على الملأ في مجلة كومينتاري عندما قال أنه متشكك في التطور في مقال بعنوان انكار داروين عام 1996م، في السنوات الأخيرة قام بوضع كتابه الشهير وهم الشيطان عام 2008م، ولهُ حوارات مليئة باعترافاته من سخرية العلماء الحقيقيين من التطور ومليئة بالسخرية العلمية من افتراضات التطور الخيالية ونقاط ضعفها القاتلة.
وكذلك عالم الكيمياء الحيوية مايكل دنتون الذي كان يؤمن بالتطور في السابق إلى أن بدأ يكتشف بنفسه مع التقدم الرهيب في البيولوجيا الجزيئية عشرات الثغرات القاتلة عن التطور، فقام ساعتها بوضع كتابه الشهير التطور نظرية في أزمة وهو من أوائل الكتب التي قلبت نظرية التطور في العصر الحديث رأسا على عقب وذلك عام 1985، وله مشاركات عديدة في وثائقيات علمية عن الدقة المتناهية وعلامات التصميم الذكي في الحياة والأرض والكون وصولا إلى الإنسان، فقد ترجم أعماله في كتابه قدر الطبيعة عام 1986.

مايكل بيهي أحد العلماء البارزين في انتقاد نظرية التطور
مايكل بيهي وهو عالم متخصص في الكيمياء الحيوية وأستاذ في ببنسيلفانيا بأمريكا، وقد ساورته شكوك كثيرة أيضا في التطور مع تخصصه العلمي الدقيق والاكتشافات العلمية الأخيرة وخصوصا عندما قرأ كتاب التطور:نظرية في أزمة لمايكل دنتون ووجد أن كل النقاط التي ذكرها بالفعل طعنت التطور الصدفي والعشوائي فقام بتأليف كتابه الشهير صندوق داروين الأسود عام 1996 ويعتبر من أشهر من أسسوا ووضعوا قواعد التصميم الذكي أو الصنع المتقن في شكلها الأكاديمي الأخير وخصوصا نقطة التعقيد الغير قابل للإختزال ودلالاته على استحالة التطور التدريجي العشوائي عبر الزمان وعلى دلالاتها على الغائية لظهور الأعضاء المعقدة مرة واحدة من جهة مصمم ما.
وليم ديمبسكي عالم في الرياضيات وفيلسوف أمريكي ومن دعاة التصميم الذكي والمعارضين بشدة لنظرية داروين من خلال الانتقاء الطبيعي يقول ديمبسكي أن تفاصيل الكائنات الحية يمكن أن توصف بشكل مشابه. خصوصاً نماذج التتابع الجزيئي في الجزيئات البيولوجية الوظيفية مثل ال الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين والثبات من ناحية المفاهيم في نقاش ديمبسكي للتعقيدات المتخصصة كان موضع جدل داخل المجتمع العلمي، مؤيدو التصميم الذكي يعتبرونه كبرنامج للبحث العلمي يحقق في آثار المسبب الذكي فالتصميم الذكي يدرس آثار المسبب الذكي وليس المسبب الذكي نفسه. على ضوء ذلك، وبما أنه لا يمكن اختبار هوية المؤثرات خارج نظام مغلق من داخله، تقع الأسئلة التي تتعلق بهوية المصمم خارج حدود المفهوم.، وهو صاحب كتاب تصميم الحياة مشاركة مع جوناثان ويلز ويعد الكتاب من بين أقوى ما كتب في النقد العلمي للنظرية.
جوناثان ويلز وهو عالم البيولوجيا الجزيئية الأمريكي فمع دراسته للبيولوجيا الجزيئية ومع الاكتشافات الحديثة أيضا الناطقة بعلامات الغائية والخلق تراجع عن إلحاده إلى المسيحية وصار من أعداء نظرية التطور وهو صاحب الكتاب الشهير أيقونات التطور عام 2002، وأيضا له كتاب تصميم الحياة مشاركة مع ديمبسكي.
جيري فودور وماسيمو بياتيللي بالماريني الأول بروفيسور الفلسفة وعلم الإدراك بجامعة ولاية نيوجيرسي والثاني بروفيسور الفلسفة وعلم الإدراك بجامعة ولاية أريزونا بدأ الأول بالتشكيك في حقيقة وجود الانتخاب الطبيعي وذلك في كتاب لماذا لا تملك الخنازير أجنحة؟ والذي نشر سنة 2007 بمعرض لندن للكتاب، ثم شارك مع ماسيو في إصدار الكتاب الصادم وهو كتاب: عام 2011 وكتبا في مقدمته أنه نقد علمي وليس ديني أو ما شابه وذلك حين قالا: «هذا ليس كتابا عن الله، ولا عن التصميم الذكي، ولا عن الخلق، ليس أيا من أحدنا متورط في شيء من ذلك، لقد رأينا أنه من المستحسن أن نوضح هذا من البداية، لأن رأينا الأساسي فيما يقضي بأن هناك خطأ ما وربما خطأ لدرجة قاتلة في نظرية الانتخاب الطبيعي»
فيليب جونسون متخصص في القانون وكان تطوريا فتركه وأفاق بدوره على كتاب التطور نظرية في أزمة لدنتون وبدأ في التوسع في القراءة ومتابعة آخر الأخبار العلمية إلى أن تيقن تماما من أخطاء التطور وأنها لا تعدو تزييفات وتكهنات خيالية لا يدعمها أي دليل عقلي أو علمي تجريبي صحيح وعلى أثر هذا صار من أشهر من ينتقدون التطور في أمريكا، وله مجموعة كتب كذلك من بينها هزيمة الداروينية وكتاب محاكمة داروين وكتاب الاعتراضات الوجيهة للتطور وأشياء.
دوان كيش متخصص في الكيمياء الحيوية شارك في العديد من المحاضرات الجامعية والمؤتمرات الدولية للرد على نظرية التطور بأسلوب علمي وحضاري، وله عدة أبحاث التي بين فيها عدم صحة نظرية التطور، وقد جمع محاضرته في كتاب هل تعرضت لغسيل الدماغ؟ ومن كتبه أيضا المتحجرات ترد على نظرية التطور بالرفض
يدعي البعض أن التطور يتراجع مع التقدم العلمي وأن أخطاءه صارت كثيرة جدا في السنوات الأخيرة أكثر من ذي قبل، فعلماء مختصون بالآلاف يرفضونه، لذلك ظهرت أبحاث وكتب علمية تكشف عن عدم صحته وأن داروين كان مخطئا بخصوص شجرة الحياة، والعلماء يؤكدون أن شجرة التطور خاطئة ومضللة والاعتراضات التاريخية بدأت أشهر خطواتها علنا بقائمة معهد ديسكفري المكونة من 100 عالم ومتخصص يرفضون الداروينية سنة 2001 حيث ذكروا أسمائهم ودرجاتهم العلمية في أمريكا ثم تطورت الفكرة لإنشاء موقع متخصص على النت لتسجيل هؤلاء المعترضين سواءا من أمريكا أو خارجها حيث كل عالم يذكر اعتراضه ودرجته العلمية ولما انتشر الأمر وصلت لوسائل الإعلام من كندا قرابة 1000 عالم يعارضون الداروينية]، ومع مرور الوقت وصل الرافضون للداروينية التطورية إلى ثلاثة ألاف في أمريكا فقط وهناك غيرهم لم يتم تسجيلهم يخشون على مناصبهم وأسمائهم ، والأمر لا يختص بعلماء البيولوجيا فقط، لأن نظرية التطور تمس علم الإحصاء والاحتمالات والفيزياء والكيمياء وغيرهم، لذلك ظهر علماء فيزيائيون وجراحون يرفضون الداروينية بما فيها

المصادر والمراجع

أصل الانواع جارلس داروين ترجمة احمد مظهر

الحيوان من ثمانية اجزاء تاليف ابوعمرو عثمان بن بحر الجاحظ

حوار مع صديقي الملحد تاليف د مصطفى محمود

المناحي الفلسفية عند الجاحظ / علي بوملحم

تهافت نظرية داروين امام التقدم العلمي / اورخان محمد علي

داروين ونظرية التطور / شمس الدين اق يلوت دار الصحوة

الدين ومفهومه عند الفيلسوف ديفيد هيوم1711 – 1776م

ديفيد هيوم. 1711 – 1776م

فیلسوف ومؤرخ وعالم اقتصاد اسكتلندي ,نشأ في اسكتلندا وبدأ حياته كمؤرخ فكان له دور كبير في بلورة الفلسفة الغربية وهو كان قائد حرة تاريخ التنوير الاسكتلندي ، كان ديفيد هيوم مشهور في البداية كمؤرخ ولكن كتاباته الفلسفية كان لها شعبية أكثر ، فحظيت كتاباته الفلسفية بتركيز كبير من قبل الباحثين .

حازت فرنسا على إعجابه واستقر بها لفترة وفيها كتب أشهر مؤلفاته وهي ( بحث في الطبيعة البشرية ) ،ولكن هذا الكتاب لم يلقى نجاحا وقتها ، هذا الأمر جعل ديفيد هيوم يفكر في تصغير الكتاب عن طريف جعله على شكل أبحاث مصغرة مثل ( بحث في الفهم الإنساني ، وبحث في مبادئ الأخلاق

الأسس التي تقوم عليها فلسفته :

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

تقوم فلسفة (( هيوم )) على عدد من الأسس أهمها ::

أولاً : تنطلق فلسفته وآراؤه جميعها من الحس كمجال وحيد للمعرفة ، ومنبع فريد للإدراك . فالمعارف عنده تقوم على أساس حسي بحت ، والمادة الجامدة هي مصدر المعارف ، وليس هناك مصدر آخر يستقي الإنسان منه معارفه . وكل ما يتحدث عنه المتدينون من مصادر للمعرفة غير الحس والمادة ، فإنما هي أوهام لا حقيقة لها ، ولا وجود لها إلا في مخيلة أصحابها .

ثانياً : أكد على الذاتية في مقابل الواقعية

والموضوعية . وذهب إلى أن معتقدات الإنسان وآراءه عن العالم الخارجي إنما هي من وحي خيال الإنسان ومن خلق أوهامه وأنها لا ترجع إلى العالم الخارجي، وإنما ترجع في حقيقة الأمر إلى ما يتوهمه الإنسان عن العالم الخارجي ، وذلك نتيجة لما لديه من معتقدات سابقة ، ومدركات ذهنية مختزنه ، فهو يسقط كل ذلك على العالم الخارجي ويفسره بها ، فتكون الحصيلة أن يعلن عن ذاته . وعن مكونات نفسه ، ولا يعلن عن الحقائق الخارجية التي يزخر بها العالم الواقعي .

ثالثاً: استمراراً في تأكيده على الذاتية في مقابل الموضوعية ،

ونتيجة لذلك ، فقد جعل أفعال الإنسان وسلوكه إنما هي ردود أفعال لما يعتمل في نفسه من إحساس باللذة أو الألم ، واستجابة لكل ما يشعر به اتجاه الأشياء من سعادة أو شقاء ، فأفعال الإنسان تحكمها الحواس الظاهرة من الإحساس باللذة والألم ، ويتبع الحواس الظاهرة الحواس الباطنية مثل المحبة والكراهية ، أو الرجاء والخوف ، والفرق بين الحواس الظاهرة والحواس الباطنية أن الأولى مباشرة ، فاللذة والألم يحس بها الإنسان مباشرة من مصادر كل منهما . ثم يأتي رد الفعل بعد ذلك على هيئة إحساس باطني أو انفعال وجداني ، فنحب النوع الأول ، ونحرص عليه ونرجو تحقيقه ، ونكره النوع الثاني الذي هو الألم ، ونتجنبه ونفر منه .

رابعاً : تأكيدا على ماتقدم ، وتأسيسا عليه ، يذهب (( هيوم )) إلى أن الفرق بين ما هو خير ، وما هو شر ، إنما يكمن فيما ينتج من كل من لذه أو ألم ،

فالفيلسوف (( هيوم)) يربط بين اللذه والخير ، والألم والشر ، فكل ما سبب للإنسان لذة أو سعادة فهو خير ، وكل ما سبب له ألماً أو تعاسة فهو شر .وبالتالي فإن الفضيلة والرذيلة تخضعان لنفس المقياس ، مقياس اللذة والألم ، فكل ما يحقق للإنسان لذة فهو فضيلة ، وكل ما يسبب له ألماً فهو رذيلة .
ويأتي هنا سؤال هام وخطير : أين محل إرادة الإنسان من كل هذا ؟‍ ثم ما أثرها في توجيه الإنسان ما دامت أفعاله ردود أفعال؟‍
والجواب الواضح والحتمي بناء على المبادئ التي يعتنقها (( هيوم)): إن إرادة الإنسان الحرة المختارة لا وجود لها ، إن الإنسان يتحرك كآله تحركها مشاعر الألم واللذة ، وتتحكم فيها أو هامة ، وخيالاته عن العالم الخارجي ، الذي لا يتعامل معه إلا من خلال ردود الأفعال .

وهكذا قضى الرجل على الأخلاق على مرحلتين :

الأولي :

حين ربط بين الخير واللذة ، والشر والألم ، ثم ربط الفضيلة إلى اللذات ، والرذيلة إلى الآلام ، فجعل الأخلاق في أساسها تقوم على أصول حسية مادية بحتة .

الثانية :

حين جرد الإنسان من مسئوليته على أفعاله بأن جعل كل أفعاله إنما هي ردود أفعال ، وقيد إرادته الحرة التي تقوم عليها المسئولية الفردية والخلقية بما يحس به من لذة وما يحس به من ألم ، فإنه يندفع إلى الأولى بلا وعي وينفر من الثانية كذلك بلا وعي .

مفتاح شخصيته :

1- طبق الفيلسوف مبدأه في ذاتية المعارف في مقابل موضوعية العالم الخارجي على قانون السببية والعلية .
فقد أنكر أن يكون هناك قانون للسببية أو العلية ، بل إنه أنكر ما يسمى بالأسباب والعلل . مدعيا أن ما يزعمه الناس من قوانين للأسباب والمسببات ، أو العلل والمعلولات ، إنما هو من أوهام النفس وخداع الذات ، وأن الواقع أنه لا يوجد ما يسمى بالسببية أو العلىة .
أما كيف يفسر الرجل دعواه هذه؟

فإن الرجل يدعي أن ما يسمى سببا وما يسمى مسبباً ، كل منهما ظاهرة منفصلة تماما عن الأخرى ، وانه لا توجد أية علاقة حقيقية بين الظاهرتين ، كل ما هنالك أن الناس لاحظوا أن الظاهرة الثانية تأتي عقب الظاهرة الأولى ، فربطوا بينهما بسبب اقترانها في الوجود زماناً ومكانا ، وهذا الربط إنما هو افتراض ذهني ذاتي قائم على تداعي المعاني ، ولا حقيقة له فالإنسان يشعل النار ، وهذه ظاهرة ، ثم يشعر بالحرارة والدفء ، وهذه ظاهرة أخرى قد جاءت عقب الظاهرة الأولى ، ولا يوجد دليل في العقل أو الواقع على ضرورة وجود الظاهرة الثانية دائما عقب وجود الظاهرة الأولى كمالا يوجد دليل على علاقة بين الظاهرتين .

وهو يضرب مثالا بكرات (( البلياردو )) التي يضرب اللاعب بإحدى الكرات لتصطدم بالكرات الأخرى وتحركها إلى حيث يريد اللاعب .. فيقول : إنني أرى كرة البلياردو تتحرك ، فتصادم كرة أخرى ، فتتحرك الأخرى ، وليس في حركة الأولى دليل على ضرورة تحرك الثانية حين تصطدم بها الأولى . ويضرب الرجل مثالاً ثالثاُ يقوم على تحرك أعضاء الجسم تبعاً لإرادة الإنسان فيقول : نرى الإنسان يريد أن يأكل تفاحة وضعت أمامه, فتتحرك يده لتلقط التفاحة وترفعها إلى فمه, ويبدأ في قضمها مرة بعد مرة, ولا توجد علاقة بين رغبة الإنسان في أكل التفاحة ، وامتداد يده إليها ورفعها إلى فمه . فالرجل يدعي أنه لا علاقة بين إرادة الإنسان وحركة يده نحو التفاحة وحملها إلى فمه ، ويرفض أن تكون إرادة الإنسان هي السبب أو العلة في حركة اليد . ويقول :

(( أنا لا أدري كيف يمكن لفعل ذهني – يقصد إرادة الإنسان – أن يحرك عضوا ماديا ً – يقصد يد الإنسان – إني لا أدرك علاقة بين إرادة الإنسان وحركة يده ))
إن الرجل يرجع قانون العلية والسببية إلى ما سماه قوانين التشابه والتقارن في الزمان والمكان

وهو يقصد بالتقارن في الزمان والمكان ـ أن ظاهرة السبب وظاهرة المسبب قد ألف الناس اقترانها في الوجود معاً متعاقبين في نفس الزمان والمكان ، فقد ألف الناس أن اصطدام العصا باليد – في حالة الضرب بالعصا – تحدث شعورا بالألم ، وأن هناك اقترانا بين الأمرين أو الظاهرتين في الزمان والمكان . فبسبب هذا الاقتران توهموا علاقة بين الظاهرتين سموها علاقة السببية !!

وقد تحقق نفس الألم عقب الاصطدام بين العصا واليد ، في كل مرة يحدث ذلك ، فهناك تشابه في كل الحالات . وهذا ما سماه الرجل ( قانون التشابه )!
فهو يزعم أن القول بالسببية والعلية ناشئ عن هذا الاقتران والتشابه . ويسمى ذلك : قوانين التشابه والتقارن في الزمان والمكان ويسميها كذلك :

(( قوانين تداعي المعاني )) ويفسر قانون تداعي المعاني بقوله :(( إن ما يسمى بالعلة شئ كثر بعده تكرار شئ آخر حتى إن حضور الشيء الأول يجعلنا – عن طريق تداعي المعاني – دائما نفكر في حضور الشيء الثاني )).

موقف(( هيوم )) من الدين :

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ولم يكن اهتمام هیوم الدائم بالدين أسيرا للرؤى والمناهج التقليدية؛ إذ إنه سعى لتطوير نظرية وضعية في الدين، حدد فيها ما هو أساسي وطبيعي في الاعتقاد الديني، من خلال تتبع تاريخ الدين الطبيعي، الأمر الذي يعني أنه رفض التاريخ المقدس للدين، ونحى جانبا التاريخ السامي فوق الطبيعي الذي تقدمه الكتب السماوية، وفي الوقت نفسه سعى إلى تجاوز أية نظرية وضعية قبله بخصوص نشأة الدين وتطوره، وكشفت نتائج هذا السعي عن تفرد وتمیز من نوع ما في بحث الظاهرة الدينية؛ لأن هيوم أسس نظرية في الدين على ملاحظة الطبيعة الإنسانية ذاتها من حيث أهوائها، وحاجاتها، ودوافعها، وميولها، فضلا عن ملاحظة الفاعليات الاجتماعية.

ولقد أكد هيوم بوضوح على أن ” كل بحث متعلق بالدين يعد ذا أهمية قصوى ، ويطرح سؤالين في هذا المجال ، يحددان تفكيره أكثر من غيرهما ، يتعلق أحدهما بخصوص أصل الدين في العقل ، بينما يتعلق ثانيهما بأصله في الطبيعة الإنسانية ،

ويرى هيوم أن السؤال الأول ،

وهو الأعظم أهمية عنده، يتيح لنا حلا أكثر وضوحا حيث ” يدل الإطار الكلي للطبيعة على مبدع عاقل! ولا يستطيع باحث عقلانی ، بعد تأمل جاد، أن يوقف اعتقاده لحظة بشأن المبادئ الأولى للتوحيد والدين الحقيقيين

لكن السؤال الثاني المتعلق بأصل الدين

في الطبيعة الإنسانية عرضة لصعوبة أكبر من وجهة نظر هیوم، لأن تحليل الطبيعة الإنسانية لا يكشف عن كون الدين أمرا فطريا، ولا غريزة من غرائز النفس الإنسانية! فالاعتقاد في قوة عاقلة غير مرئية منتشر بشكل عام بين أفراد الجنس البشري، في كل مكان وفي كل عصر، لكنه ليس عامأ وكلية إلى الحد الذي لا يقبل استثناء ! لأنه لا يوجد حوله تماثل في المعتقدات على أي درجة من الدرجات. ذلك أن بعض الشعوب المكتشفة حديثا لا تضمر عاطفة دينية، ولا يوجد شعبان من الشعوب، بل لا يكاد يوجد اثنان من بنی الإنسان، يتفقان بدقة في مكونات العاطفة الدينية.

ولذلك فإن هيوم يعتقد “

أن هذا التصور السابق لا ينشأ من غريزة أصلية أو انطباع أولى من الطبيعة مثلما ينشأ حب الذات، والعاطفة بين الجنسين، وحب الذرية ، والعرفان بالجميل ، والامتعاض ، لأن كل غريزة من غرائز هذا الطراز راسخة بشكل كلي تماما في كل الشعوب والعصور، ولها قصد محدد بدقة ومستمر بدون تغير” ومن ثم فإن العقائد الدينية الأولى لابد أن تكون ثانوية مكتسبة وليست أولية فطرية

في ضوء هذا التأويل لمسألة أصل الدين، تفرض مجموعة من الأسئلة نفسها:

ما تلك الأسباب التي أدت إلى نشأة الاعتقاد الديني؟

وما تلك الظروف والحوادث التي أثرت في تكوينه وبنيته؟

وما طبيعة الحاجات النفسية التي يتجاوب معها الدين؟

وما النوازع والأهواء الطبيعية التي تحركه؟

وكيف يمكن تحديد ملامح نظرية وضعية عن الدين الأول الذي اعتنقه الإنسان البدائي؟

وكيف يمكن تحديد مراحل تطور الدين وارتقائه من أدنى صورة حتى أعلاها؟

وهل الدين من الأساس- أمر ممكن عقليا ؟

وما جدواه بالنسبة للإنسان على المستوى النفسي والاجتماعي والسياسي؟

تتوزع آثار هيوم على ثلاث فئات كتبت كلها من زاوية نقدية تعارض العقيدة الدينية. والفئات الثلاث هي:

نقد الأدلة العقلية على إثبات الله،

أي نقد الدين العقلاني، أوعلى حد تعبير هيوم نفسه: الدين الطبيعي.

نقد أدلة صحة الوحي المسيحي ووثاقة الكتاب المقدس
أونقد الدين المنزل أوالدين الوحياني.

البحث عن علل وأسباب ظهور العقيدة الدينية في التاريخ البشري أو اكتشاف علل الدين النفسية والاجتماعية والتاريخية.

وربما تسنى إضافة فئة أخرى إلى هذه الفئات الثلاث تتمثل في آثار هيوم التي تدرس وتنقد بعض التعاليم الأخلاقية الدينية، وكذلك تأثيرات الدين على الأخلاق.

يتبع ديفيد هيوم منهجية واحدة في كل هذه النقود المتعلقة بهذه الفئات الثلاث أوالأربع من كتاباته

. إنه يعتقد أن المنهج الصحيح لمعرفة الأمور الواقعية هوالبحث عن العلاقات العلية بين الظواهر وتشخيصها، بشرط أن يكون لدينا إدراكنا وتحليلنا الصحيح للعلاقة بين العلة والمعلول، وأن نعلم مدى اعتبار وإتقان الأحكام المبتنية على المنهج الصحيح للبحث.

اشكالية هيوم للدين

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

(( هيوم)) فيلسوف ملحد لا يؤمن إلا بالمادة وحدها ، ولا يرى وسيلة للمعرفة إلا الحس الذي يستقي معارفه ،
ويستمد علومه من المادة
. وهو يرفض الإيمان بأي شئ خارج نطاق العلم الطبعي المحسوس
. ومن ثم فقد أعلن (( هيوم)) الحرب على الدين ،

وسخر فلسفته في جانبها الأكبر والأهم لمحاربة الدين ،

وإقامة أوهامة التي اعتبرها أدلة على بطلان الدين ،

وإثبات أن الدين ما هو إلا خرافة ووهم من الأوهام التي تعود إلى الذاتية ، والتي لا حقيقة لها في الخارج .

ليس هذا فحسب ؛

بل إن المبادئ الأساسية التي تقوم عليها فلسفته إنما وضعها وأكد عليها ليصل من خلالها إلى إثبات أن الدين باطل

،وإنه من أوهام النفس وخيالات الذات .
وواضح أن الرجل بدأ ملحدا، ثم رسم لنفسه من بدايات اشتغاله بالفكر والتفلسف أن يسخر فكره وفلسفته لهدف واحد ، وهو حرب الدين ،

والقضاء عليه في نفوس المتدينين .

. ولذلك فنحن نستطيع أن نحدد نقطة الانطلاق في فكر الرجل وفلسفته ، ونبين الركيزة الأساسية التي يرتكز عليها مذهبة بأنها : الإلحاد .

الإلحاد – إذن – هو مفتاح شخصية الرجل والمحور الذي يدور عليه فكره وهذا يتضح من المجهود الذي بذله طوال حياته من خلال مؤلفاته . وإن نظرة إلى مؤلفاته يتضح منها أنه لم يكتب شيئا في الفلسفة والفكر إلا حول الإلحاد ، ومحاربة الدين .

فنحن إذا استثنينا مؤلفة : (( مقالات سياسية )) ثم مؤلفه الآخر الكبير : (( تاريخ بريطانيا العظمى )) . وهما كتابان في شئون بعيدة عن الفلسفة ، أوأن صلتها بالفلسفة صلة محدودة فإن مؤلفاته الأخرى جميعها تدور حول الإلحاد وتأكيده ، وبيان افتراءاته على الدين .

ونحن لا نهتم كثيرا بكفره بالنصرانية البروتستانتية التي يدين بها قومه –
وإن كان النصراني أفضل من الملحد –
لكن الذي يهمنا أن الرجل لم يقف حربه على النصرانية ،
ولكنه حارب الدين بكل صورة ، واخذ يركز حربه كلها وافتراءاته جميعها على وجود الله – سبحانه وتعالى عما يصفون –
ومن ثم فلم يعد الأمر وقفا على نصرانيته ( المحرفة ) ، بل أصبح الأمر عاما شاملا لكل دين ؛ حتى الدين الحق ( الإسلام ) .طبعا وفق مفهومنا والا ليس وفق مفهومه

•وقد وضع الرجل مبادئ فلسفته لهذا الهدف

.
1-فهو حين أنكر علاقة الفكر الإنساني بالواقع ، وأكد على الذاتية في مقابل الأمور الخارجية ، والحقائق الموضوعية ، واتهم الإنسان بان كل ما يدعيه من معارف إنما هي ناشئة عن أوهامة الذاتية ، إن الرجل حين وضع هذا المبدأ أو روج لهذه الفكرة ، إنما أراد أن يقرر أن المتدينين ، وكل من يعبد ربه ، وكل من يخضع لإلهه ، أيا كان ذلك الدين ، فإن هؤلاء جميعا واهمون ، وأن الدين وكل ما يتصل به من عقائد وعبادات ، إنما هي من أوهام الذات التي لا صلة لها بالواقع .
2-وهو حين أنكر قانون السببية والعلية ، فإنه فعل ذلك ليصل إلى إبطال الأدلة على وجود الله – سبحانه وتعالى ..
إن أشهر الأدلة وأقواها على وجود الله – سبحانه وتعالى – وأكثرها شيوعا بين عامة المتدينين إنما هو الدليل القائم على الانتقال من الخلق إلى الخالق ، أو من الصنعة إلى الصانع ، إن الفطرة ، وبديهية العقل ، ومسلمات الفكر وأولياته تجعل لكل فعل فاعلا، وتجعل من الفعل دليلا على فاعله ، ومن قديم والناس يستدلون على الخالق – سبحانه وتعالى – من خلال خلقه ، كما يستدلون بوجود صنعة ما على وجود صانعها ، بل إنهم ليستدلون على صفات الصانع من خلال ما يرون في الصنعة من حكمة وإبداع وإتقان فيقولون : صانع بديع حكيم
أو قد يرون في الصنعة خلاف ذلك أو عكسه ، فيصفون الصانع بما يناسب ما رأوا ، هكذا كان الناس ، وهكذا هي فطرهم التي فطرهم الله تعالى عليها ، لا غرو ، قد لفت الله – سبحانه وتعالى – الناس إلى خلقه ودعاهم إلى أن ينظروا إلى ما في ذلك الخلق من إتقان وعناية وحكمة وإبداع ثم إلى الإيمان بالخالق الذي خلق وأتقن وأبدع فإن الخلق آية وعلامة على الخالق .
يقول عز وجل :
وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون . وجعلنا فيها جنت من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون . ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون . سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون .
هذه الأدلة وغيرها قائمة على أساس من قوانين السببية والعلية ؛ بمعنى أن انتقال الإنسان من الخلق إلى الخالق ، أو من الصنعة إلى الصانع ، هو من باب انتقاله من المسبب إلى سببه أو من المعلول إلى علته .
إذا عرفنا ذلك ؛
وقد عرفنا قبل ذلك أن (( هيوم )) ملحد ، وقد نذر نفسه للانتقاض على الدين والمتدينين وسد الطريق أمام الناس الذي يصلون من خلاله إلى الاستدلال على وجود الله – سبحانه – فماذا هو فاعل ؟

لقد ،فكر وقدر ثم وجد أن أيسر الطرق إلى القضاء على الدين ، وتجفيف منابع التدين في نفوس المتدينين ، إنما هو القضاء على قانون السببية ،وإبطال كل علاقة بين السبب والمسبب حتى لا يقيم الناس من المسببات التي هي المخلوقات ، طريقا أو قنطرة يصلون من خلالها إلى المسبب أو الخالق – جل الله و عز .
إذن ؛ فكل هذه الثورة من الفيلسوف الملحد على قانون السببية ، وهو قانون فطري بدهي ، عبر عنه البدوي قديما بقوله : ( البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير ، سماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ، ألا تدل على العليم الخبير )؟
والذي ذكره العربي القديم فطرة الله في كل الخلق فهو ليس قصرًا على العربي لأنه لا يرجع إلى عروبته التي تخص جنسه ، بل يرجع إلى إنسانيته أو فطرته كإنسان ، وتلك تجمع الخلق كلهم ، فما أحس به العربي وأشار إليه من الانتقال من الفعل إلى الفاعل ، أو من المسبب إلى السبب ، فطرة الله في الخلق أجمعين ، ولذلك حينما فكر الفيلسوف أن يتوجه بالطعن إلى الأسباب والمسببات ، فيبطل العلاقة بينهما ، ثم تكون النتيجة إبطال الانتقال من المسبب إلى سببه وهكذا يقضي ذلك على شجرة المعرفة وأصلها فهو يحمل معوله ليضرب به في أصل الشجرة ، ليقطع جذعها ، وليس غصنا من أغصانها
والرجل لم ينكر ذلك . بل صرح به في كتبه كلها التي وضعها لهذا الهدف ، فهو يردد في كل ما كتب ( أن الصنعة لا يمكن أن تدل على صانع لها إلا إذا رأينا الصنعة في يد الصانع يقوم بتشكيلها ، ورأيناها تخرج من بين يديه ، إننا حكمنا بأن الساعة لها صانع ، لأنا رأينا الصانع يقوم بصنعها ، لكنا لا نستطيع أن نطبق ذلك على الكون ، لأنا لم نر الكون داخل مصنع ، والصانع يجتهد في صنعه ) !

ويقول : (( لماذا نبحث للمادة عن صانع مفارق – ولماذا لا نمد المادة إلى لا نهاية ثم نجعلها هي الله فيكون الإله أمامنا ومن بيننا ) ؟

واخيراً يقول 🙁 إذا كنا سوف نتمسك بقانون السببية ،وأن كل موجود له سبب ؛ فسوف نجد أنفسنا مطالبين بالسير في القانون إلى نهايته فنبحث عن سبب لوجود الله نفسه ) !
.

نقد آراء هيوم :

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

إن الذي يتعرض لنقد الآراء الباطلة ، والفلسفات الفاسدة ، يجد نفسه أمام نوعين ؛ منها نوع خفي البطلان ، مستور الفساد ، يحتاج من الناقد ذكاء في الذهن ، ودقة في النظر وعمقا في التحليل ، وصبرا على التنقيب بين ثنايا تلك الفلسفات ، وخبايا هذه الآراء ، حتى يستطيع أن يظهر ما كان منها خفيا ، ويكشف ما كان منها مستورا ، ويبين للناس فسادها وبطلانها ، ولكن بعد جد وجهد ومثابرة

.
والنوع الثاني : من تلك الآراء والفلسفات على عكس النوع الأول ، ظاهرة الفساد واضح البطلان، بين الزيف ، لا تحتاج من الناقد جهدا ، ولا تكلفه مشقة ، بل إن بعض هذه الفلسفات الفاسدة ، والآراء الزائفة الباطلة ، لتكون من وضوح البطلان ، وظهور الفساد إلى الحد الذي لا يجد الناقد ما يقوله فيها ، حيث يكون فسادها أوضح من أن يوضح ، وبطلانها أظهر من أن يحتاج إلى إظهار

وآراء هذا الفيلسوف التي نعرضها للنقد ، هي من النوع الثاني ، إذ هي بينه الفساد ، واضحة البطلان . لكنا نزيد ذلك بيانا ووضوحا ، فنتناول أفكارها الأساسية التي قامت عليها تلك الفلسفة بالنقد في نقاط محددة .

أولاً : إن الرجل يصدر آراءه وفلسفاته على صورة تقريره بحتة ، دون أن يكون لدية دليل على أي منها . فهي آراء وأفكار لا وجود لها إلا في ذهنه المريض فقط ، وإذا ما طالبناه بدليل على شيئ مما يقول ، لم نجد لديه سوى ادعاءاته ، وافتراضاته ، وسوف يتضح لنا ذلك من مناقشة آرائه فيما يلي .
ثانيا: ادعاؤه بأن الناس يعيشون داخل ذواتهم ، وأن صلاتهم بالعالم الخارجي مقطوعة ، وأن كل ما يعرفه الإنسان عن العالم الخارجي إنما هو أوهام من صنع نفسه ، ولا صله لها بالواقع . هذا الادعاء أوضح في البطلان من أن يوضح ، فإن العالم الذي نعيشه حقيقة واقعة ، ونحن نتعامل مع قوانينه ومعطياته في كل لحظة من لحظات حياتنا ، وليس هناك ما يختلف حوله الناس من تلك القوانين والمعطيات ، فهل يختلف الناس على أن النار محرقة ؟ وهل هذه حقيقة من الحقائق الخارجية أم أنها وهم من أوهام الذات ؟ إن الناس يأكلون ليشبعوا من جوع ، ويشربون ليرووا من ظمأ ، ويتداوون ليبرأوا من مرض ، ويبيعون ويشترون فهل كل هذه أوهام ذاتية ؟ أم أنها حقائق خارجية ؟…

ثم إن الفيلسوف نفسه عندما كان يشعر بالجوع ؛ هل كان يسارع إلى الطعام ليحفظ على نفسه حياته ؟

أم أنه كان يقول لنفسه ما يقول للناس في فلسفته :

إن شعوره بالجوع وهم من أوهام ذاته، ثم يجلس بلا طعام حتى يهلك ؟ إنه لو فعل لأراح الناس من أباطيله ، لكن سلوكه نفسه يدل بوضوح على بطلان ما يدعيه .

ثالثا : مثل ما ذكرنا في النقد السابق ، نذكر هنا في نقدنا موقف الرجل من قانون السببية ، فإن قانون السببية أمر واقع ، والجدال حوله ، والتشكيك فيه تحت أية مبررات إنما يعتبر صداما مع الواقع ، وجحدا للحقائق الموضوعية التي يزاولها الناس منذ خلقوا . وإن حياة الفيلسوف الملحد نفسها وسلوكه في كافة شئونه لتدل دلالة واضحة على كذبه وفساد آرائه . إنه كان يأكل وشرب ويتداوى ، فهل كان يفعل ذلك إلا لأن هذه أسباب تؤدي إلى مسبباتها من الشبع ومن الري ومن الشفاء ؟…

إن هذا الذي يطعن في السببية وينكرها عاش حيته ملتزما بقوانين الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات ،إنه لم يزد في فلسفته تلك على أن أعلن نفاقه وكذبه في دعاواه الباطلة ، إذ يطلع على الناس بأفكار وآراء هو أول من يكذبها ويرفض التعامل معها.

رابعا : زعمه أن الإنسان يعيش حياته شبه آلة تحركها الشهوات ، وتنحصر أفعاله كلها في ردود الأفعال تجاه ما يسبب له لذة أو ألما ، ثم ربطه الأخلاق باللذات والآلام ، وجعله الخير هو اللذة ، والشر هو الألم ، كل ذلك يتمشى معه كفيلسوف ، ويتفق مع نظريته في المعرفة التي حصرها في الحس . فالحس عند هو المصدر الوحيد للمعرفة ، ولا يقر بآي مصدر آخر للمعارف سوى هذا المصدر المادي المحدود .لكن هل جاء بشيء جديد ؟

إنه لم يزد على أن أضاف للحسيين الماديين الملاحدة دابة أخري هي من شر الدواب الذين قال الله – تعالى – فيهم : ( إن شر الدوآب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) .
فهو لم يأت في هذا الجانب بجديد ، سوى أنه حول نفسه آله حسية مادية جامدة . لا تتحرك إلا طلبا للذة الحسية المسفة ..
ورغم ذلك فإن مذاهبهم باطلة من سلوكهم أنفسهم .. أليس الواحد يتجرع الدواء المر طلبا للشفاء ؟ فلماذا أقبل عليه رغم أنه يسبب له ألما ؟ ولا يجلب له لذة حسية ؟ أليس الواحد منهم يجري عملية جراحية فيها آلام حسية ، وفيها شق اللحم وإسالة الدم بل وبتر عضو ، كل ذلك طلبا للشفاء ؟

فلم يفعلون ذلك ؟.. إن هذه السلوكيات فيها تكذيب واضح لما ادعاه الرجل ولكل ادعاءات السابقين عليه من أصحاب مدارس اللذة الحسية في فلسفة الأخلاق مثل الأبيقوريين ومن جرى مجراهم

.
خامساً : نأتي إلى أخر رحلتنا معه لنناقش فكرة وفلسفته حول وجود الله سبحانه .. ونحن لن نناقشه في عدم ايمانه ، . ولكن يهمنا هنا أن نناقش دعواه التي يقول فيها :

إن البحث عن علة للوجود المادي يدفع بنا إلى أن نبحث عن علة لله نفسه – سبحان الله وتعالى عما يصفون – .
إن الخطأ الذي وقع فيه الرجل ويقع فيه كل من على شاكلته أنهم لا يفرقون بين الأسباب الناقصة والأسباب التامة ، أو بين الأسباب الوسائطية والأسباب النهائية . أنهم يخلطون بين هذه وتلك, وعلتهم ليس في خفاء هذه الحقيقة البسيطة ، ولكن علتهم في قلوبهم المريضة ، لأن هذه الحقيقة بديهية لا تخفي على أقل الناس فهما وأدناهم ذكاء .
فالأسباب التي نزاول حياتنا من خلالها في هذا الوجود إنما هي أسباب وسائط . وخبرة مسخرة لغيرها ، ولها مسبب ومسخر. والمسببات التي تنشأ عن هذه الأسباب إنما ترجع إلى هذه الأسباب مباشرة من قريب ، لكنها ترجع في حقيقة الأمر إلى مسبب لها تام .. فنحن نأخذ الدواء . والدواء سبب في شفاء المرض . والشفاء يرجع إلى سببه المباشر وهو الدواء ، لكن الدواء سبب ناقص ، وهو في نفسه مسبب عن السبب التام ، أو الفاعل التام الذي بيده الشفاء ؛ الذي هو الله – سبحانه .
ونحن نستطيع أن نقرب القضية بمثال .. فإن الدواء سبب في الشفاء لكن الدواء نفسه مسبب وسببه هو الصيدلي الذي أعده في صيدليته ، والصيدلي نفسه لم يأت بذلك من نفسه ، بل إن السبب في إعداده الدواء هو الطبيب الذي أرسل إليه ورقة فيها تحديد الدواء المطلوب لهذا المريض ، ثم إن الطبيب نفسه مدين بعلمه ذلك لمن علمه ، فهو السبب في أن الطبيب عرف المرض ووصف الدواء … وهكذا تمشي سلسلة الأسباب والمسببات ، وكلها تترقى من مستوى إلى مستوى ، لكنها جميعها مشتركة في أنها أسباب ناقصة ، بمعنى أنها في حاجة إلى من يقف وراءها ، مثل الدواء ، فإنه سبب محتاج إلى الصيدلي ، والصيدلي سبب لكنه محتاج إلى الطيب وهكذا . تمشي تلك السلسلة ، ولا نجد من بينها سببا كافيا مكتفيا بنفسه ، بل كلها معلولات لما قبلها . وذلك هو معنى كونها أسبابا وسائط ،وهذا النقص يصل بنا إلى السبب التام ، الفاعل الكامل ، الذي هو وراء كل شيء يجري في هذا الوجود ، خالق الكل ، ومدبر الكل، ومقدر الكل، والذي بيده كل شيء ، يحتاج إليه الكل وهو غني عن الكل – سبحانه وتعالى عما يصفون ..
والفرق بين السبب الوسيط والسبب الكافي التام ، أن السبب الوسيط لا يفعل ولا ينتج إلا في إطار السبب التام . الذي هو في حقيقة الأمر مسبب جميع الأسباب ومسخرها والمتصرف فيها .
ويتضح هذا في كل شئون الحياة لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، فقد يكون أمام الطبيب الحاذق حالتان مرضيتان ، وهما متشابهتان في المرض والعلة . وإحداهما شديدة ، والأخرى بسيطة خفيفة . ويصف نفس العلاج والدواء للحالتين مع اعتقاده أن أحد المريضين حالته ( ميئوس منها) – كما يقولون عادة في مثل هذه الأحوال – والآخر حالته الصحية جيدة وسيبرأ سريعا . لكن ، يفاجأ الطبيب ومن حوله أن المريض الأول قد برأ من مرضه ، ونقه وشفي ، وأما الآخر فقد انتقل إلى الدار الآخرة !
إن هذا ليس فشلا من الأسباب الوسائط ، فالطبيب حاذق جيد ، والدواء جيد ، وطريقة العلاج موفقة , لكن الأصل في كل هذه أنها مجرد وسائط ، وتبقى الكلمة الأخيرة والمصير النهائي للسبب الكافي والفاعل التام وراء كل هذه الوسائط .. إنه الله – سبحانه – خالق كل شيء . والذي بيده مقاليد كل شيء .
.

المناحي الثورية التربوية في فلسفة جان جانك روسو الطبيعية قراءة في كتاب أميل لجان جاك روسو

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

إميل، أو في التربية، أو دراسة في التربية (بالفرنسية:Émile, ou De l’éducation) هو كتاب لجان جاك روسو ويعدّه من أفضل مؤلفاته وأكثرها أهمية،, حيث يدرس فيه طبيعة كلاً من التربية والإنسان. نُشر الكتاب عام 1762 ومُنع تداوله على الفور في باريس وجنيف كما حُرقت نسخ أولى طبعاته أمام العامة، وذلك بسبب محتوى أحد أقسام الكتاب والذي كُتب بعنوان “عقيدة الكاهن سافوا”. من الجدير بالذكر أنّ الكتاب كان سبباً لإنشاء نظامٍ تربويٍ وطنيٍ جديد في خضم أحداث الثورة الفرنسية.

يتناول هذا العمل أسئلة أساسية تخص السياسة والفلسفة تتمحور حول علاقة الفرد بالمجتمع، ويتحدث تحديداً عن تمكّن الفرد، في ظل فساد جماعته، من الحفاظ على الطبيعة البشرية الأصيلة -حسبما يسمّيها روسو- حيث استهلّ الكتاب بالعبارة التالية: “يخرج كل شيءٍ صالحاً من يد الخالق، ثم يعتوره الفساد والنقص بين يدي الإنسان”.
يرغب روسو في وصف النظام التربوي الذي من شأنه تمكين الإنسان الطبيعي الذي سبق ذكره في العقد الاجتماعي (1762) من النجاة في ظل فساد المجتمع. ولذلك وظّف الأداة الروائية متجسدةً في إميل ومعلمه لتصوير الطريقة المثلى لتربية المواطن. فكتاب إميل ليس دليلاً أبوياً مفصّلاً فحسب بل وشاملاً لبعض النصائح المحددة فيما يتعلق بتربية الأطفال.يعدّه البعض رائداً في مجال فلسفة التربية في الثقافة الغربية لِما يحمل بين طياته من محتوى متكامل، وهو أحد أول الروايات التربوية.

اقسام الكتاب

قُسِّم الكتاب بمجمله إلى خمسة كتب، خُصصت الثلاثة الأولى منها للطفل إميل، ويبحث الرابع في مرحلة مراهقته، أما الخامس فيُوجز تربية شريكته صوفي بالإضافة إلى حياته الأسرية والمدنية.

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

في مفهوم الطبيعة عند جان جاك روسو:

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

لا يستقيم البحث في نظرية روسو التربوية ولاسيما في التربية الطبيعية دون العودة إلى مفهوم الطبيعة لأن تحديد هذا المفهوم يشكل حجر الزاوية في فهم معمق لأبعاد واتجاهات نظرية روسو الطبيعية في التربية.
يحدد روسو ثلاثة تجليات لمفهوم الطبيعة، يأخذ الأول منها صورة الكون أو العالم الخارجي على نحو ما يتبدى لنا بصورة موضوعية، فالطبيعة وفقا لهذا التصور هي تقاطعات كونية في دائرتي الزمان والمكان. فالأرض وما عليها من بشر وشجر وحجر، والسماء وما فيها من كواكب ونجوم وأجرام كونية تشكلان الحدود القصوى لمفهوم الطبيعة بصورته الشمولية عند روسو.
ويتجلى المفهوم الثاني للطبيعة عند روسو في العالم الداخلي عند الإنسان، فغرائزنا وميولنا الأصيلة وما فطرنا عليه من قوى داخلية منحتنا إياها الطبيعة يمثل مفهوم الطبيعة الإنسانية. وهذه الطبيعة خيرة بكل ما تنطوي عليه من غرائز وميول وقوى داخلية لأنها صناعة كونية إلهية وليست من صنع الإنسان.
أما التصور الثالث للطبيعة فيتحدد بالطبيعة الاجتماعية للوجود البشري. لقد كان روسو يعتقد بأن الإنسانية كانت في العهود لغابرة تعيش حياة طبيعية سابقة للحضارة والثقافة وهي الحالة الطبيعية. كان الناس في حالتهم الطبيعية الاجتماعية كما يصورهم في كتابه ” مقالة في العلوم والفنون ” يعيشون حالة إنسانية تتميز بأصالتها وسموها وعظمتها إذ كانت حياة الناس البدائيين تخلو من الحقد والكراهية والحسد. إنها حياة آمنة يتفانى فيها الإنسان في خدمة الإنسان ويضحي فيها الفرد من أجل الآخر والجماعة. في هذه الحالة الطبيعية كان أفراد الجماعة الإنسانية يعيشون دونما إكراه اجتماعي، فالناس يأكلون ما يجمعون ويعيشون في ظل سمو أخلاقي يفيض عليهم بكل معاني التسامح والمحبة التي كانت قانونا كليا يحكم الوجود الإنساني برمته. إلا أنه ومع ظهور الملكية الخاصة للأرض، ومع تدجين الحيوان، ومع اللحظة التي بدأ فيها الإنسان يقول لأخيه الإنسان هذه لي وهذا لك، بدأت مرحلة الجشع والطمع والفزع وبدأ الصراع الإنساني نحو مزيد من السيطرة والتسلط والاستبداد، وظهر الحاكم القوي الذي فرض على الجماعة قوته وبسط جناح سلطانه وتحول الإنسان إلى عبد لأخيه الإنسان فظهرت المظالم والشقاء وامتد البؤس الإنساني ليضع الناس جميعا في حالة استلاب واغتراب. فالحالة الطبيعية الاجتماعية هنا قد انتهكت وفقدت طهارتها وأصالتها ونقاء انتمائها وصفاء وجودها. لقد انتهكت الطبيعة الإنسانية ودنست طهارتها مع ولادة الثقافة والملكية وصولة الطغاة وتسلط الحكام. وهذه الأفكار الطبيعية هنا تجد مدّها في كتاب روسو مقالة في أصل التفاوت بين البشر حيث يبين لنا كيف تطورت الإنسانية من حالة الطهارة والحرية إلى حالة العبودية والقهر (16) .
ومهما يكن الأمر فالخير كامن في طبقات الطبيعة بأبعادها الثلاثة: في الكون وفي الإنسان وفي المجتمع. ومن أجل خروج الإنسان من حالته المأساوية يتوجب عليه أن يبحث عن الفردوس في العودة إلى الطبيعة في الإنسان وفي الكون وفي المجتمع. لقد جاء كتابه ” العقد الاجتماعي ” دعوة مطلقة للعودة إلى حالة الطبيعة وإحياء طقوس الحرية والمساواة التي كانت تسود المجتمعات القديمة قبل أن يلفها الفساد. وفي التربية على الإنسان كي يتحرر من ربق العبودية والقهر وينتقل إلى الفضاء الأرحب للحرية أن يعمل على بناء الإنسان وفقا لمبدأ الطبيعة وروحها.

ينطلق روسو في منظومته التربوية من المبدأ الذي يقول بأن الطبيعة الإنسانية خيرة وأن فطرة الإنسان معدن كل خير، وهو وفقا لهذه الرؤية يعارض الأفكار السائدة في عصره التي تبنى على أن الشر أصيل في طبيعة الإنسان، وهي الفكرة التي يؤسس لها الفيلسوف الإنكليزي هوبز وأغلب رجال القرن الثامن عشر كما يؤسس لها رجال الدين والكنيسة في عصره. وعلى هذا الأساس كانت التربية وفقا لمبدأ الشر الأصيل في النفس، تؤكد أهمية اقتلاع الشر من النفس الإنسانية بما توفره التربية ذاتها من أدوات التسلط والقوة والقهر لاستئصال الشر الدفين في النفس الإنسانية. وعلى خلاف هذه الرؤية البائسة للطبيعة الإنسانية، كان روسو يعتقد بأن الطبيعة خيرة وخيرها يفيض بالمطلق، ولذلك فإن التربية يجب أن تنطلق على أساس الميول الطبيعة ليكون الطفل ابن الطبيعة وربيبها. ولأن الطبيعة خيرة فإن التربية الحرة يجب أن تعمل على تأكيد النمو الحر الطليق لطبيعة الإنسان ولقواه وميوله الطبيعية.

في التربية الطبيعية عند روسو:

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

يشار إلى روسو بوصفه زعيما للنزعة الطبيعة في الفلسفة والتربية الحديثة دون منازع. وقد أودع أفكاره الطبيعية هذه في مختلف أعماله ومؤلفاته بدءا من كتابه الأول ” رسالة في العلوم والفنون ” مرورا بكتابه ” مقالة في أصل التفاوت بين البشر ” ثم في سفره المشهور “العقد الاجتماعي ” وأخيرا في كتابه الذي يعرف بإنجيل التربية الحديثة ” إميل والتربية” . وفي هذه الأعمال جميعها نجد نسقا متكاملا من الأفكار والاتجاهات الطبيعية في المجتمع والتربية والسياسة والفلسفة. ويعد كتاباه “إميل” و” العقد الاجتماعي” أروع ما أهداه روسو لبني البشر . وفي هذا الصدد يقول بورجولان في كتابه المعروف “فلسفة الوجود عند روسو ” يشكل كتاب جان جاك روسو إميل أحد مفاتيح حضارتنا الحديثة”
ويأخذ كتابه إميل صورة عمل أدبي وتربوي صقله إلهام ارتجال عبقري يتضوع بالأحاسيس الإنسانية النبيلة. ولم يكن هذا الكتاب أبدا مجرد تلبية لرغبة السيدة شونسو من أجل تربية ابنها بل كان حركة عبقرية ألهمت الحضارة والإنسان في القرن الثامن عشر وفي الأزمنة الحديثة طرا “
يتضمن كتاب روسو في “إميل” منظومة عبقرية من الأفكار التربوية، وهي تشكل نظرية متكاملة في التربية حسب الطبيعية وبمقتضى الطبيعية. ويأتي هذا الكتاب بلورة منهجية لمنظومة أعمالة السابقة التي كتبها ولاسيما مقالته في العلوم والفنون وفي اصل التفاوت بين البشر.
يفتتح روسو كتابه هذا بقوله ” كل شيء صنعه خالق البرايا حسن وكل شيء يفسد بين يدي الإنسان”

. وهو في هذا القول يضع استراتيجية نظرية يؤسس عليها نظريته الطبيعية في التربية والحياة وخلاصة هذا القول تكمن في عبارة قصيرة قوامها ” الطبيعة خيرة والإنسان يفسدها”.
فالطبيعة خيرة وخيرها يتدفق بالمطلق وعلينا ” أن نؤمن إيمانا لا مرية فيه بأن الحركات الأولى للطبيعة هي دوما رشيقة وما من فساد أصيل في النفس الإنسانية أو في القلب البشري”

فالمجتمع عين الشر وينبوعه وعلينا أن نحصن الطفل ضد الشر المستطير الذي يميد بالحياة الاجتماعية. وتأسيسا على هذا الحذر الكبير من شرور المجتمع وآثامه يرى روسو أن الطبيعة هي مبدأ الخير، ومنها يجب أن ننطلق إلى بناء الخير في النفوس، وتشكيل المناعة الأخلاقية في العقول، فالطبيعة هي المبتدأ والخبر في معادلة البناء الإنساني الخيّر، وفي أحضانها يجب أن ينمو الأطفال ليكونوا في منعة وامتناع عن كل ضروب الإثم والشر في التكوين الإنساني للفرد. فإميل ” ابن الطبيعة، تربية الطبيعة وفق قواعد الطبيعة لإرضاء حاجات الطبيعة”

. ومن هنا يتدفق تمرد روسو ضد المجتمع منبع الشرور والآثام.
هذا ويعتقد روسو أن الطبيعة قادرة بذاتها على تنمية ملكات الطفل ولذلك يجب أن نوكل أمر تربيته إلى الطبيعة ذاتها. لأن الطبيعة تريد للطفل أن ينمو نموا حرا وأن يعمل بمقتضى تكوينه الطبيعي بوصفه طفلا.
إن أعظم ما قدمه روسو للتربية يتمثل في عبقرية الكشف عن طبيعة للطفل مفارقة لما هو معهود ومألوف في عصره وفي العصور التي سبقته. يرفض روسو المبدأ التربوي الذي ينظر إلى الطفل بوصفه راشدا صغيرا، وهو على خلاف ذلك يرى بأن الطفل صغير الراشد. فطبيعة الطفل مفارقة لطبيعة الراشد نوعيا وليس من الجانب الكمي. فالطفل يختلف في مستوى قدرته على الإدراك والنظر والتحليل اختلافا نوعيا عما نجده عند الكبار. يروي روسو قصة ذلك الطفل الذي حكيت له حكاية الإسكندر الكبير وطبيبه، لقد كان هذا الطفل معجبا إلى حد كبير بشخص الإسكندر وشجاعته، ولكن هل تعلمون أين كان يرى موطن هذه الشجاعة؟ كان يراها في قدرة الإسكندر على تجرع شرابا سيء الطعم، وفي هذا المثال يبين روسو أن إدراكات الطفل وطريقة نظرته إلى الوجود مختلفة كليا عن الراشد فالطفل لا يمتلك هذا التفتح الذهني الذي يمكنه من فهم العالم بما ينطوي عليه على النحو الذي يدركه الراشدون. ومن هذا المنطلق ينادي روسو بأهمية معرفة طبيعة الطفل على نحو ما تفرضه هذه الطبيعة من خصوصية مفارقة لطبيعة الراشدين. ولروسو فيض من القول في طبيعة الطفل ومن أشهر مقولاته في هذا الخصوص:”تعلموا كيف تتعرفون إلى أولادكم لأنكم يقينا تجهلونهم كل الجهل” ولماذا هذا الجهل لأن الكبار ينظرون إلى الصغار نظرة الراشد إلى الراشد وليس نظرة الكبير إلى الصغير. نحن ” نجهل الطفولة الجهل كله وكلما راودتنا الأفكار الخاطئة التي نملكها عنها ازداد ضلالنا”

. إن هدف التربية الطبيعية يتمثل في بناء الإنسان على صورة الطبيعة أي كما خلقه الله وكما يريد له أن يكون
.
وهنا نجد أن روسو غالبا ما يكرر أقواله المأثورة:” دعوا الطفولة تنمو في الأطفال”… ” دعوا الطبيعة تعمل وحدها زمنا أطول قبل أن تتدخلوا بالعمل مكانها خشية أن تعرقلوا عملها.”احترموا الطفولة ولا تتسرعوا أبدا بالحكم عليها خيرا كان أم شرا”(….) ” فالإيقاع البطيء لزمن النمو ليس شرا نحتمله بل وظيفة ضرورية للنمو “. وكثيرا ما كان يقول ” الطبيعة لا تحتاج إلى تربية، والغريزة خيرة طالما تعمل وحدها وتصبح مشبوهة عندما تتدخل المؤسسات الإنسانية وينبغي علينا أن ننظمها لا أن نقضي عليها وقد يكون تنظيمها أصعب من تدميرها “

.
تتضمن التربية الطبيعة عند روسو فيضا متدفقا بالحب والحنان على الطفولة والأطفال. وقد استلهم روسو هذا العطف على الطفولة من الحرمان العظيم والبؤس الخانق والآلام الفادحة والمدمرة التي عاناها في طفولته المعذبة. وفي حنانه هذا زفرة طفولة مقهورة وصرخة إنسانية تدعو إلى محبة الأطفال والعناية بهم. يقول روسو والقول يتدفق بأعظم معاني الحنان والحب للطفولة والأطفال: ” أحبوا الطفولة، يسروا لها ألعابها ومسراتها وفطرتها المحبوبة. من منكم لا يأسف أحيانا على تلك السنين التي لا تفارق فيها الابتسامة الشفتين(…) فلم تريدون أن تحرموا هؤلاء الصغار الأبرياء من متعة فترة تكاد من قصرها تفوتهم(…) ولم تريدون أن تملؤوا بالمرارة والآلام هذه السنوات الأولى الخاطفة التي لا تعود إليكم؟ أيها الآباء، هل تعلمون الأجل الذي ينتظر فيه الموت أبناءكم؟ قلا تتهيؤوا للندامة إذ تحرمونهم من الهنيهات القليلة التي منحتهم إياها الطبيعة. متّعوهم بلذة الوجود منذ أن يصبحوا قادرين على الاستمتاع بها حتى إذا دعتهم المنية في ساعة من الساعات، لم يموتوا قبل أن يتذوقوا الحياة ويقضوا منها وطرا”

.
ويمكن تحديد أهم المبادئ الأساسية لطبيعة الطفولة في التربية عند روسو على النحو التالي

:
1- طبيعة الطفل خيرة وليس شريرة.
2- يجب احترام ميول الطفل الطبيعية وتنميتها وفقا لمبدأ التربية السلبية.
3- التأكيد على تجربة الطفل الخاصة في اكتساب المعرفة واستبعاد دور المعلم ما أمكن ذلك.
4- تقسيم التربية إلى مراحل تتناسب مع عمر الأطفال لأن طبيعة الطفل هي التي تحدد نوع التربية الممكن.
5- العمل على فهم طبيعة الطفل ودراستها ورصد مكوناتها لكي تستقيم العملية التربوية.
التربية الحرة:

ينطوي مفهوم التربية السلبية عند روسو على شحنة ثورية هائلة وإيمان متفجر بمبدأ الحرية الإنسانية. وتتجلى هذه التربية السلبية في رفض مطلق لكل إكراهات التسلط والقهر والعبودية التي تنبث في عادات الناس وتشع في تصوراتهم وممارساتهم الإنسانية والتربوية.

يقول روسو “

الحكمة البشرية ذاتها لا تنطوي إلا على تحكمات استعبادية، فعاداتنا لا تعدوا أن تكون إذلالا واستعبادا، وكبتا وألما فالرجل المتمدن يولد ويعيش ويموت في حالة عبودية: يلف عليه القماط يوم يولد، ويزج في الكفن يوم يموت ويغلق عليه التابوت يوم يدفن، وما دام حيا فإنه يكون مقيدا بأغلال الأنظمة المختلفة “

إنه يقترح عبر مفهوم التربية السلبية ثورة تربوية عارمة تحرر الإنسان من قيوده وتحطم أغلاله وأصفاده. نادى روسو بمبدأ التربية السلبية فالتربية الأولى التي تقدم للطفل يجب أن تكون سلبية وهي لا تكون بالتلقين لمبادئ الفضيلة، ولكن قوامها المحافظة على القلب من الرذيلة والعقل من الزلل. ويعتقد روسو التربية الحقة تكون في النمو الحر الطليق لطبيعة الطفل وقواه الداخلية وميوله الفطرية. والتربية التي ينشدها ليست نفيا للتربية بل هي رفض للأساليب التربوية التقليدية السائدة التي تزج الإنسان في مدافن العبودية والإكراه. فالتربية السلبية هي التربية الحرة التي تترك للطفل أن ينمو بمقتضى فطرته وطبيعته الخيرة. إنها التربية التي تتيح للطفل أن ينمو روحيا وعقليا ونفسيا نموا حرا أصيلا خارج دوائر الإكراه والتسلط والقهر. فالتربية السائدة تربية إكراه تفقد الإنسان براءته وأصالته لأنها تستأصل قدرته على المبادهة وعلى العيش وفق قانون الطبيعة. ولذلك فإن التربية السلبية تشكل نفيا للعادات والأساليب التربوية السائدة في عصره. وهو يقول في معرض وصفه للتربية الإيجابية بأنها هذا النوع من التربية الذي يساعد على تكوين العقل قبل الأوان كما يساعد على تلقين الطفل واجبات الرجال. وهو لا يعني بالتربية السلبية حالة من السكون والكسل بل هي نوع من التربية الحرة التي لا تسبب الفضيلة ولكنها تحمي القلب من الرذيلة. وعلى خلاف ما هو معهود وسائد في عصره يؤكد روسو ألا شر أصيل في النفس الإنسانية ومن هذا المنطلق فإن طبيعة الطفل خيّرة بالمطلق وأن التربية الحقة تجري على نبض الإيقاع الداخلي لهذه الطبيعة.
التربية السلبية تعني باختصار أن نحقق للطفل نماء طبيعيا بعيدا عن تدخل الراشدين وعبثهم. وكأننا بروسو في هذا التوجه يميل إلى الاستغناء عن المربي كليا، وميلا إلى أن يوكل مهمة تربية الطفل إلى الطبيعة ذاتها وأن يدع الطفل منفردا في صدامه مع الحياة بتجاربها وعبثها ومفارقاتها. فوظيفة المربي لا تكاد تتجاوز حدود الإشراف على إميل عن بعد، وهو ليس مطالبا بالتدخل إلا حينما تقتضي الضرورة القصوى تدخله. وليس على المربي أن يحتسب الزمن والوقت في عملية نماء الطفل وتربيته بل يجب عليه أن يبدد الزمن ويهدر إمكانية الإحساس به لأن إميل يختمر ويتكوّن وكلما كان نضجه في ظرف زمني هادئ مستريح في صدر الزمن كلما كان ذلك في مصلحة البناء والتكوّين والإعداد التربوي عند إميل. والقاعدة التي يعلنها روسو في هذا الصدد تقول وتشدد القول ” بأن ليست أهم قاعدة في التربية أن نربح الوقت بل أن نضيعه”.

وانطلاقا من مقولة روسو بأن الطبيعة خيرة وأن المجتمع يفسدها فإن مفهوم التربية السلبية يرتكز إلى أمرين أساسيين:

  • حماية إميل من الفساد الاجتماعي وإبعاده تربويا عن سطوة الراشدين وتدخلهم المباشر في التربية.
  • مجاراة التطور الطبيعي في الطفل لأن الطفل يمتلك شروط نموه طبيعيا وهو ينمو وفقا لمبدأ القانونية الطبيعية.
    تنطوي التربية السلبية على ثلاثة جوانب لمفهوم الحرية الطبيعة:
  • الحرية الجسدية التي توفر للطفل كل ما يحتاجه من إيقاعات النماء الجسدي الحر الذي يأخذ مساره عبر النشاطات والفعاليات والألعاب وتترك لجسده الحرية. وهنا يجب نرفض كل ما من شأنه أن يقيد حرية الطفل الجسدية. ومن هنا جاء رفض روسو للقماط وهجومه العنيف على الأساليب التربوية التي تمنع الطفل من إمكانيات الحركة والقفز والانطلاق واللعب، وغير ذلك من هذه الحريات الجسدية الضرورية لنمو الطفل. كان روسو يعتقد بأنه لا يمكن للمرء أن يكون حرا بجسد مهزوم محاصر، لأن الحرية كينونة صماء لا تقبل التجزئة والانشطار. ولا يمكن لإنسان ما أن يكون حرا في المستوى العقلي أو العاطفي بجسد مهزوم ومحاصر.
  • الحرية العاطفية والانفعالية: إذ يتوجب إبعاد إميل عن كل ما من شأنه أن يفرض على الطفل مشاعر مقننة وعواطف جامدة معلبة أو مثلجة. فالتطور الطبيعي للطفل يكون في أن نترك لمشاعره الداخلية حرية النمو وفقا لاندفاعات إنسانية داخلية نابعة من أحاسيس الطفل وتجربته ومشاعره، وتلك هي الخصوصية التي يجب ألا تتعرض لعدوان الراشدين وتسلطهم. إن التدخل في توجيه النمو العاطفي والانفعالي هو قمع للروح الداخلية للطفل، وهو إكراه يتجاوز كل إكراه، لأن الروح، وهي أعمق وأقدس ما في الإنسان، يجب أن تترك حرة أصيلة رشيقة كما تفرضها الطبيعة. دعوا الأطفال يتذوقون العالم عبر إحساسهم الإنساني بعيدا عن كل أشكال التسلط والإكراه. فللطفل أن يشعر بحرية أن يحب ويكره ويغضب ويتسامح بحكم مشاعره الداخلية وعلى منوال ما تفرضه روحه الداخلية التي تفيض بالعطاء.
  • الحرية العقلية: ليس لنا أو علينا أن نفرض على عقل الطفل ما لا يحتمل وما لا يستسيغ. إن الاغتراب الحقيقي يكون عندما نفرض على عالم الصغار رؤانا ومعتقداتنا وأن نعلمهم وبصورة مبكرة ما نرغب من العلوم والمعارف. إن التعليم المبكر يقض مضاجع الأطفال ويحرمهم من عطاء الطبيعة بوصفهم أطفالا. وهنا يرى روسو أن القاعدة في تعليم الأطفال وتشكيل عقولهم ليست في أن نربح الوقت ونقتنص الزمن بل تكون في هدر الزمن وتضييع الوقت بالمعنى التقليدي، فتضييع الوقت وهدره في التربية الطبيعة وفقا لمفهوم روسو هو عملية استثمار عظيمة، لأن كل لحظة تبذل في سبيل التربية تجد مردودها العظيم في التكوين الخلقي والإنساني للطفل، لأن عقل الطفل يكون في المراحل الأولى في مرحلة التكوين، وهو الخاصة الإنسانية التي تنضج متأخرة. وفي هذا يقول روسو: لو كان بيدي لجعلت الطفل لا يعرف يمينه من يساره حتى الثانية عشرة من عمره. وهو بذلك يريد للطفل أن يكون قادرا على تشكيل رؤاه الخاصة للعالم وأن يكون في مرحلة يمتلك فيها زمام نفسه وعقله بحيث لا يقبل إلا ما يراه وفقا لمقتضى طبيعته بأنه صحيح وخير وأصيل. إنه ينادي بألا نهتم بالإعداد العقلي للطفل حتى بعد سن الثانية عشرة، لأن فترة الطفولة هي فترة الركود العقلي وهي مرحلة كومونية لا نستطيع أن نتصور مدى أهميتها، ولذلك يجب ألا ندفع الطفل إلى التفكير أو إلى القراءة أو إلى بذل أي مجهود عقلي في هذه المرحلة.
    وتعتمد التربية السلبية على قانون الجزاء الطبيعي، بحيث ندع الطفل يتحمل النتائج الطبيعية لأعماله دون تدخل أي إنسان. ويرى روسو في ذلك أن المربي يمكنه أن يقوّم أخلاق الطفل طالما يبين له أن العقوبة كانت طبيعية مثال: إذا أبطأ الطفل في ارتداء ملابسة للخروج للنزهة فاتركه في المنزل. وإذا أفرط في الأكل أتركه يعاني ألم التخمة. وباختصار دعه يتحمل النتائج الطبيعية لعدم خضوعه لقوانين الطبيعة.
    وباختصار شديد التربية السلبية لا تعني نفيا للتربية، بل هي تربية حرة تتوافق مع الطبيعة، وإذا كانت التربية الإيجابية تسعى إلى تكوين النفس قبل الأوان فإن التربية السلبية تسعى إلى تعبيد طريق المعرفة وجعل أدواتها جاهزة قبل إعطاء المعرفة. إنها التربية التي تسعى إلى تحقيق التوازن بين نمو العضوية والنفس والعقل عند الأطفال. وهي تنطلق من مبدأ النمو الذاتي الحرّ لطبيعة الطفل. إنها لا تعلم الفضيلة بل تجنيب القلب من الوقوع في الرذيلة وهي، في جماع عبارة واحدة، النمو الحر لطبيعة الطفل وميوله الطبيعية.
    ♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧ من الميلاد إلى الخامسة:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

يؤكد روسو على أهمية الأبوين كمربيين طبيعيين للطفل، فالأبوان هما ال أكثر قدرة على أن يمنحا الطفل الحنان الضروري لنموه إنسانيا وأخلاقيا على نحو طبيعي. فالأب هو المعلم الطبيعي والأم هي حاضنته. ويعلي روسو هنا من شأن الأم على نحو خاص في العملية التربوية، وكان يلح دائما على دور الأم بقوله “إذا أردتم أن تعيدوا كل إنسان إلى واجباته الأولى عليكم البدء بالأمهات وستعجبون لما تحدثونه من تغيرات”
في هذه المرحلة يجب على الأبوين رفض جميع الأساليب التربوية التقليدية السائدة واعتماد المنهج الطبيعي في التربية. وتكون البداية بإرضاع الطفل إرضاعا طبيعيا من صدر الأم، ويحذر من تغذية الطفل من غير صدر أمه كما كان سائدا في ذلك العصر. ويرفض روسو بمطلق الرفض أن يعهد بالأطفال إلى مربيات ومرضعات، ويهيب بالأمهات أن تقوم بواجبات الأمومة لأن غير ذلك يؤدي إلى مخاطر مذهلة يتصدع لها عقل الطفل وقلبه. وكان في هذا الصدد يرفض أن يغسل الطفل بالخمرة والنبيذ ويرفض هذا على مبدأ أن الخمرة شراب متخمر وبالتالي فإن الطبيعة لا تنتج ما هو متخمر.
يرفض روسو قطعيا وضع الطفل في القماط المعهود أو في ” المهاد” لأن المهاد يمنع عليه الحركة وتدفق الدماء ويميت قلبه الحر، ويحذر من استخدام هذه الطريقة كما يحذر من آثارها المدمرة للطفل جسديا ونفسيا. ويؤكد أهمية اللعب بمستوياته المختلفة، حيث يأخذ اللعب مستويات تتدرج وفقا لعمر الطفل في مدى وحدود هذه الفئة أي من الميلاد إلى الخامسة من العمر. فإميل في هذه المرحلة يجب أن يتكوّن جسديا على محك الألعاب الرياضية. فالرياضة المضمخة باللهو والتسلية واللعب هي الرياضة التي تناسب نمو إميل جسدا وعقلا. وهو يعتقد في هذا الصدد بأن جميع الرغبات الشهوانية تجد لها مسكنا في الأجسام الضعيفة، وكل ضعف يولد ضعفا، والطفل لا يكون سيء الخلق إلا لأنه ضعيف فإذا قويته تحسن وتم له النماء الأخلاقي والجسدي في آن واحد. يرفض روسو تلقين إميل فيضا من الكلمات والمفردات اللغوية ويريد لإميل هذا أن يحقق تناسقا بين نموه اللغوي ونموه الفكري. وباختصار فإن روسو يؤكد في هذه المرحلة العمرية على:

  • عدم استخدام القماط.
  • دعوة إلى الرضاعة الطبيعية.
  • أن تكون التربية عملية نمو داخلية عضوية.
  • الابتعاد عن الأوامر والنواهي.
  • التأكيد على التربية الجسدية.
    التربية من الخامسة إلى الثانية عشرة:
    يركز روسو على أهمية هذه المرحلة ويعتقد بأنها من أخطر المراحل التربوية في حياة الإنسان. وهو يؤسس للتربية في هذه المرحلة وفقا لمبادئ ثلاثة:
    1- على إميل أن يستمد معلوماته وخبراته عن طريق الحواس والتجربة والاحتكاك المباشر مع الطبيعة.
    2- يجب على التربية في هذه المرحلة أن تكون تربية سلبية حيث يترك الطفل في غفوة أشبه بالسبات بعيدا عن مختلف التأثيرات الخارجية. وهنا يجب على المربي عدم التدخل إلا عندما تقتضي الضرورة. لأن إميل يتكوّن تكوّنا طبيعيا في هذه المرحلة وحري بنا أن نجعل الطبيعة تفعل فعلها وتنهض بواجبها دون تدخل المربين والكبار.
    3- التربية الخلقية يجب أن تكون عن طريق الجزاء الطبيعي، فعندما يسقط إميل يتألم، وعندما يتخم يعاني من الألم، وعندما يخرج في ليلة باردة يصاب بالزكام، وعندما يضع يده على مكان لاهب يشعر بألم الحرارة ووخزها، وفي كل هذا يجب أن يشعر الطفل بأن العقاب الذي استحقه كان عقابا طبيعيا ينبع من طبيعة الأشياء ذاتها وأن هذا العقاب لم يكن انتقاما أو إكراها يمارسه الكبار. وباختصار أيضا

يؤكد روسو على المبادئ التالية في هذه المرحلة:

  • التربية السلبية في مختلف مستويات هذه المرحلة.
  • التربية الأخلاقية عن طريق النتائج الطبيعية.
  • تدريب الحواس لا تدريب العقل.
  • التعلم بالأشياء والخبرة والتجربة.
  • لا حاجة إلى القراءة والكتابة.
    التربية من سن الثانية عشر إلى الخامسة عشرة
    في هذه المرحلة تبدأ عملية تعليم إميل، لأن مرحلة الغفوة والسبات قد انتهت وقد اكتملت لإميل أسباب التعلم بعد أن نضجت ملكاته الطبيعية وبعد أن خمرته الطبيعة وسوته وهيأته لتلقي المعرفة الإنسانية وما تنطوي عليه من قيم ومعايير ثقافية. لقد آن الأوان لتعليم إميل وتزوده بالمعرفة والمعلومات والمعارف. وفي هذه الفترة كما يقول روسو تزداد فيها قوة الفرد على ما يحتاج إليه.
    ومع أهمية هذه المرحلة وضرورة التعلم فيها فإن روسو يرسم سبل التعلم والاكتساب ويحدد مساره وطريقته. فالتعلم والاكتساب يجب أن يتم عن طريق التشويق وأن يتساوق مع الرغبة في التعلم وحب الاستطلاع، وهنا يجب أن يكون ميل إميل وتعطشه للعلم والمعرفة ناجما عن رغبات طبيعية أصيلة في أعماقه.
    ومن حيث طبيعة المعرفة التي يجب أن نزودها للطفل يجب أن تكون متوافقة مع اهتمامات الطفل ولاسيما هذه التي تدفعنا غرائزنا إلى تتبعها والتي تتضح أهميتها وفائدتها العملية بالنسبة لإميل.
    على الطفل كما يؤكد روسو وينصح أن يقرأ قصة “روبنسون كروزو” لأن هذه القصة تؤكد أهمية التعلم وفهم الحياة وفقا لقوانين الطبيعة حيث تبرز أهمية الاعتماد على النفس فيها.

ويجب على إميل أن يتعلم حرفة بحد ذاتها، وذلك ليس من أجل الكسب، بل من أجل غرض أسمى من هذا، وهو التغلب على العقائد الفاسدة التي تحط من قدر هذه الحرفة؛ وعندما نؤكد من جديد على أهمية التجربة الذاتية، ويكون التعليم مناسبا لحاجات إميل وميوله، فإن إميل سيصبح شخصا مجدا هادئا صبورا مملوءا بالشجاعة والثقة، وقادرا على أداء وظيفته الحيوية والاجتماعية بصورة تجعله أكثر قدرة على التكيف والاستمتاع بحياته وتحقيق السعادة الطبيعية المنشودة.
وفيما يتعلق بالمواد الدراسية يتوجب علينا أن نعلّم إميل العلوم الطبيعية مثل الفلك والجغرافيا وخير وسيلة لتعلم الخرائط هي الأسفار والتنقل والترحال. وهو يرفض تعليم إميل النحو واللغات القديمة والتاريخ لأنه يريد لإميل أن يعيش في عزلة عن المجتمع وفي دائرة الطبيعة تحديدا.

وفي منهج التعليم، يرفض روسو مبدأ الخطب الرنانة المصقعة، ومبدأ النصح والإرشاد، ويؤكد على الأهمية الكبرى للمارسة والتجربة ويقول ” لنحوّل إحساساتنا إلى أفكار، وعلينا أن نتجنب القفز مباشرة من عالم المحسوس إلى العالم المجرد، ولنتحرك وبأناة وروّية من فكرة محسوسة إلى فكرة محسوسة، لنتعلم عن طريق الأشياء، وعلينا أن نبتعد عن معالجة الأشياء بالرمز طالما نستطيع أن نرصدها أشياء في دائرة المكان والزمان”.

من سن الخامسة عشرة إلى العشرين

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇♧◇

في هذه المرحلة تنمو استعدادات إميل وقدراته على التكيف مع الآخرين والحياة الاجتماعية، وقد آن الأوان ليصبح إميل كائنا اجتماعيا فاعلا ومشاركا في دائرة الحياة التي تنتظره في المجتمع. ومن أجل هذه الغاية يتوجب علينا أن ندربه على العلاقات الاجتماعية والتفاعل الاجتماعي مع الآخرين. في هذه المرحلة يكون إميل قد اكتمل نضجه جسديا وحسيا وعقليا، وقد آن الأوان لكي يتشكل عاطفيا وروحيا.
فالتربية في المراحل السابقة كانت تربية ذاتية تهدف إلى بناء الجسد والنفس، أما الآن فيجب إعداد إميل من أجل الحياة الاجتماعية، وعلينا أن ندربه على امتلاك شروط العلاقة الاجتماعية وفقا للمعايير الاجتماعية التي يفرضها تكيف الأنا مع الآخر.
تسعى التربية في هذه المرحلة إلى تنمية الوجدان وبناء الأخلاق الاجتماعية، حيث تنتهي في هذه المرحلة فترة التعليم أو التربية العادية أو السلبية كما يحلو لروسو أن يسميها. وهنا يؤكد روسو في هذه المرحلة على التربية الدينية والأخلاقية. ولكنه يرفض الأساليب القديمة في تشكيل إميل أخلاقيا ولاسيما أخلاق النصح والإرشاد حيث يجب على إميل أن يكتسب عمقه الأخلاقي عن طريق الممارسة ومحاكاة أبطال التاريخ.
وفي هذه المرحلة أيضا تبدأ إمكانية بناء صلة دينية بين إميل وربه، وتتوجب تربيته الدينية على قيم الحق والخير والجمال. فالطفل يمتلك القدرة في هذه المرحلة على فهم أمور الدين ويمكنه أيضا أن يدرس البلاغة والتاريخ والمسرح لأن هذه المرحلة تمكنه من تذوق الفن والاستمتاع بالقراءة والمطالعة.
فإميل يمتلك في هذا العمر رصيدا محدودا من المعرفة ولكنه يمتلك هذه المعرفة امتلاكا حقيقيا والمعرفة التي يمتلكها معرفة نابعة من صميم الأشياء وراسخة في قلب إميل وعقله، وهناك أشياء كثيرة أيضا مازال يحتاج إلى معرفتها وهناك أشياء لا يعرفها ولا يحتاج إلى معرفتها ولكنه يمتلك القدرة الكلية على معرفة كل الأشياء.

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

تربية المرأة :

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

يكرس روسو الجزء الخامس من كتابة إميل لتربية المرأة التي أطلق عليها اسم(صوفي)، وهي تظهر مباشرة في الكتاب دون تمهيد يذكر. يؤكد روسو في هذا الجزء على أهمية التربية الجسدية لصوفيا، ويرى بأنه يتوجب عليها أيضا أن تتعلم فن الطهي والتطريز والموسيقى والعناية بالطفل وعدم الاهتمام بالعلوم. وهنا نجد أن روسو كان كلاسيكيا وعدوانيا في نظرته إلى المرأة، فوظيفة المرأة هي إسعاد الرجل وإرضائه والقيام بتربية الأطفال. وهو يقف موقفا سلبيا من المرأة المثقفة التي قد تكون وبالا على زوجها وأطفالها وعائلتها. وكثيرا ما يؤخذ على روسو هذا الموقف المتوحش من المرأة، ويؤخذ عليه أيضا أن آراءه متطرفة وعنصرية وغير إنسانية فيما يتعلق بدور المرأة ووضعها الإنساني والاجتماعي. ومن أوجه الغرابة في هذا الموقف أن روسو كان في سيرة حياته كلها يدين للمرأة التي كانت عونه في مسيرته الإبداعية والفكرية والحياتية. فعبقرية روسو وحياته كانت وليدة عناية أنثوية خالصة، ولا يخفى على من يقرأ سيرة حياته أنه كان مدينا للمرأة الأم والصديقة والزوجة والعمة التي كثيرا ما كان ينهمر دمعه على عمته وعلى عدة نساء كان لهن دورا عظيما في حياته، فلمسة الحنان الوحيدة في حياته كانت هي لمسة المرأة. فصوفيا في هذا الكتاب لا تمتلك إلا على فضائل ثانوية وهي الفضائل التي تتصل بالحياة الزوجية والأسرية وهي كما يصورها روسو شخص ناقص يحتل مرتبة دنيا في عالم إميل وحياته.

مكانة روسو في الفكر الانساني العالمي

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

سجل روسو نفسه في تاريخ الفكر مربيا ومعلما وفيلسوفا وأديبا وثائرا، وكانت سيرته الحياتية والفكرية من أغرب السير التاريخية في تاريخ الفكر إن لم تكن أغربها على الإطلاق. ومن أوجه الغرابة والإدهاش في هذه السيرة أننا مع روسو نجد أنفسنا أمام عبقرية شمخت ونهضت على أعمدة القهر وعلى ثوابت الألم والهزيمة. وعلى هذا الأساس شيّد مملكته الفكرية الجبارة الفيّاضة بكل المعاني الإنسانية النبيلة والخلاقة. لقد أحدث انقلابا فكريا في عصره وفي العصور التي تتابعت بعده. ولا غرابة في ذلك فهو مؤسس التربية الحديثة وصاحب أكثر النظريات التربوية عبقرية وغرابة.
وما يدهش أن علم النفس الحديث والنظريات التربوية الحديثة قد استجابت لاندفاعات روسو العبقرية الجامحة المتمردة. ولم تستطع الانتقادات التي وجهها العلماء والمفكرون والكتاب لنظريته التربوية والاجتماعية أن تنال من شموخ هذه النظرية بل زادتها شموخا وتمردا. صحيح أن مظاهر النظرية قد تبدو غريبة مستغربة ولكن جوهرها الإنساني مازال يحلق في الأجواء الشامخة.
إن ما اكتشفه روسو بفطرته وعواطفه ونبيل إحساسه الإنساني وعبقريته الأدبية كان كشفا عن مناطق مظلمة في حياة الإنسانية فأراد أن يطرد منها العتمة ويحررها من الجمود عبر شطحات عقل ثائر متمرد. وما حمله روسو إلى البشرية عبر نظريته التربوية تارة والاجتماعية تارة أخرى لا يضاهيه عطاء. لأنه وباختصار جاء ينتصر للأطفال والضعفاء والمظلومين والمحرومين والمقهورين، جاء ليحرر الطفل من ظلمات القرون الوسطى لأن الطفل في نظريته رمز البراءة والعطاء بل هو هبة الله ولذلك فإن سعادة الأطفال يجب أن تكون هدف التربية بالمطلق.
وإذا كان عصره لم ينصفه، إذ عاش حالة التشرد والقهر مظلوما مهزوما في وطنه، فإن روسو اليوم يمثل رمزا من رموز الحضارة الإنسانية التي تفتخر به فرنسا ثقافة وحضارة، وهو الذي هجرته الأيام فعاش متوحدا حزينا مقهورا مغلوبا مطاردا من قبل رجال الأمن والسلطات في عصره. ومن من المفكرين في القرن التاسع عشر ولاحقا في القرن العشرين من لا يدين لروسو الأب الروحي للتربية الحديثة. فالتاريخ يعلمنا بأن جميع المبدعين من بعده في مجال التربية والفكر الاجتماعي يدينون له ويأخذون عنه ويتمثلون جوهر رؤيته للتربية والإنسان.
ليس غريبا أن يكون كتابه العقد الاجتماعي طفرة فكرية وجهت عمل الثورة في فرنسا وهي أعظم ثورة تشهدها أوربا ضد القهر والاستبداد والإرهاب. وليس غريبا أيضا أن يحدث ثورة تأخذ طابع الاستمرار في مجال التربية. لقد وضع روسو حجر الزاوية لانقلاب فكري تربوي أتى على كل التراث القديم في مجال التربية وأحدث انقلابا كوبرنيكيا في المفاهيم والرؤى والتصورات. وستبقى نظريته في العقد الاجتماعي ونظريته في التربية أحجارا كريمة براقة في عقد الفكر الإنساني الحر إلى الأبد.

المصادر والمراجع

☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆

جان جاك روسو، العقد الاجتماعي، ترجمة عادل زعيتر، دار المعارف، القاهرة، 1956.

  • بو منرو، المرجع في تاريخ التربية، ترجمة صالح عبد العزيز و حامد عبد القادر، مكتبة النهضة المصرية، 1949، الجزء الثاني، ص 229.
    السيد محمد بدوي، الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع، دار المعارف، القاهرة، 1980، ص 94

جان جاك روسو، إميل والتربية، ترجمة عادل زعيتر، دار المعارف، القاهرة، 1956.

  • عبد الله عبد الدايم، التربية عبر التاريخ، من العصور القديمة حتى أوائل القرن العشرين، دار العلم للملايين، بيروت، 1984، ص 377. جان جاك روسو، أصل التفاوت بين البشر، ترجمة عادل زعيتر، دار المعارف، القاهرة، 1956.

العدمية والتشائم بين أبوالعلاء المعري والفيلسوف الالماني شوبنهاور – فكرة وجود وخلاص

عندما اتخذ مؤسس الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت مبدأ الشك لليقين، كان الإمام الفيلسوف أبو حامد الغزالي قد سبقه فى ذلك بعدة قرون، وكذلك كانت أسبقية ابن خلدون على كارل ماركس فى علم الاجتماع. وإذا كان دانتي قد اقتبس فكرة “الكوميديا الإلهية” من كتاب المعري “رسالة الغفران” بعد ترجمتها إلى اللغة اللاتينية، فإن الأخير كان أيضاً سباقاً بطرح “العدمية” قبل شوبنهاور والفلسفة الوجودية عموماً وبزمن بعيد.

ولقد فضلنا المقارنة هنا بين أبي العلاء المعري “973-1057” والفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور “1788-1860”، دون سارتر وغيره، لأن القاسم المشترك فيما بينهما هو التشاؤم من جهة. وتقارب نوع ما للوضع الفردي حياتياً من جهة أخرى. وسوف نعتمد بشكل عام على ديوان “اللزوميات”، وعلى كتاب “العالم كإرادة وفكرة” الترجمة الإنكليزية. وقبل أن نحلل العدمية بين هذين الكبيرين، علينا أن نعلم بأن تشاؤمية المعري كانت أسبابها: أنه فقد بصره بعدما أُصابه الجدري وهو في سن الرابعة من عمره.

وقطع دراسته فى كبرى مكتبات طرابلس الشام بعد وفاة أبيه المفاجئ ، وكذلك ترك دراسته فى بغداد عندما سمع بمرض أمه، ثم خبر وفاتها وهو في طريق العودة إليها. علاوة على الاضطراب السياسي والحزبي بين الحمدانيين والفاطميين، والنزاعات الحربية مع الروم البيزنطيين. أما بالنسبة إلى شوبنهاور فإن أباه قد مات منتحراً عام 1805، وسلوكية أمه معه لم تكن بالموقع الحسن، حيث كانت من أروع من نبغ فى عصرها بكتابة القصة، وترفض أن يعلو شأنها الأدبي أى شخص حتى لو كان وحيدها آرثر.

فكانت تقسو عليه وتجافيه، خصوصاً بعدما أخبرها الشاعر الكبير غوته بعظمة عقلية ابنها في المستقبل. فضلاً على ذلك سلسلة الحروب النابليونية والاضطرابات السياسية التى كانت تسود أوربا على مدى عقدين من الزمن.

وهكذا طغت الصفة التشاؤمية على عقلية وتفكير المعري وشوبنهاور، إذ جمعتهما حالة متقاربة الشبه رغم الفارق بين ظرفي الزمان والمكان والوضع العائلي والتناحر السياسي ورحى الحروب الطاحنة.

لذا أمسيا ينظران إلى العالم والطبيعة والمجتمع والفرد من زاوية كالحة لا تطاق. ما الخير والسعادة عندهما إلا أمور سلبية سرعان ما تأتي سرعان ما تزول، لأن الحياة ملؤها التعب ليس فيها سكينة طوال الامتداد الزمني، والوجود كله شر. وفي هذا يقول المعري:

ألا إنما الدنيا نحوسٍ لأهلها

فما من زمانٍ أنتَ فيه سعيد

أو

نزول كما زال آباؤنا

ويبقى الزمان على ما ترى …

ويرى شوبنهاور بأن في “كل فرد حوض من الألم لا محيص عنه”، وحتى إذا فرضنا جدلاً بأن هذا الألم له نهاية، فإنه سوف “يحل مكانه على الفور عناء آخراً” وليس لدينا من ذلك لا مفر ولا محيص.

إذن فإن القاعدة الحقيقية للبشرية جمعاء داخل هذا العالم هو الألم المستديم، وإذا تساءلنا علام كل هذا التشاؤم الدامس؟ يأتينا الجواب من المعري:

فى العدمِ كنا وَحُكمُ الله أوجدنا

ثم اتفقنا على ثانٍ من العدمِ

أو

-نمرُ سراعاً بين عدمينِ مالنا

لباثُ كإنا عابرون على جسرِ

وينص شوبنهاور أيضاً على أن “الحياة تتأرجح كالبندول إلى الأمام والخلف بين الألم والسأم”، وفى كلتا الحالتين لا خير فى هذا العالم سوى حياة بائسة عافرة.

العقل

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

رغم أن المعري وشبونهور يعتبران فيلسوفين مثاليين، إلا أن المعري كونه شاعر أولاَ، لذا فإنه يمتلك ذبذبة غير مستقرة تجاه العقل، عكس شوبنهاور الذى يمتلك فكراً فلسفياً مستقراً، فإذا كان الأخير قد وضع العقل بعد الإرادة منزلة، فإن المعري نراه تارة ينظر إلى العقل على أنه المرشد الصحيح لأصول المعرفة حيث يقول:

إذا تفكرتَ فكراً لا يمازجهُ

فساد عقلٍ صحيحٍ هانَ ما صعبا

أو

ولو صفا العقل ألقى الثقلَ حاملُه

عنه ولم ترَ في الهيجاء معترِكا

وتارة أخرى يمجده أيما تمجيد ويعلو من شأن قدرته حتى يصل به إلى درجة النبوة فى عالم الغيب، وعلينا أن نشاوره وحده:

أيها الغر إن خُصصتَ بعقلٍ

فاسألنهُ فكل عقلٍ نبي

أو

فشاور العقل واترك غيره هدراً

فالعقل خير مشير ضمه النادي …

ولكن فجأةً يعود ويحط من شأنه وقدرته ويساوي بين منزلة العالِم والجاهل:

وما العلماء والجهال إلا

قريب حين تنظر من قريبِ …

هي ذي تذبذبات المعري، ولا غرابة فى ذلك لكونه شاعراً وتغلبه روح التوصية. علاوة على أنه صاحب عاهة مستديمة:

فاحذر ولا تدع الأمور مضاعة

وانظر بقلبِ مفكرٍ متبصرِ

أما شوبنهاور فالعقل عنده الأساس في البحث عن الحقيقة ويهاجم الفلسفة المادية متسائلاً: كيف نفسر العقل بأنه مادة ما دمنا لا نعلم المادة إلا بواسطة العقل؟ ..ثم لا يمكن أن نستدل عن كنه الحقيقة بالبحث عن المادة ذاتها وثم ننتقل إلى التفكير والعكس هو الصحيح عنده، حيث “أننا لن نصل إلى طبيعة الأشياء الحقيقية إذا بدأنا السير من الخارج”. لذلك أوجب معرفة طبيعة عقولنا أولاً، ثم ننظر إلى العالم الخارجي ثانياً.

وهنا يفسر لنا شوبنهاور لماذا يعتبر العقل أقل أهمية من الإرادة. وحسب تصوره، أن “أغبى إنسان ينقلب إلى مرهف الذكاء إذا ما كانت المسألة المطروحة عليه للبحث تمس رغباته مساً قريباً.

وإذا حاولنا أن نجعل العقل محل “الإرادة” فهذا خطأ يجب علينا تجنبه. لأن العقل “قد أنتجته الطبيعة ليخدم إرادة الفرد”. كما وأن شخصية الفرد تشكلها إرادته لا عقله، كون أن الإرادة “هي العنصر الوحيد الدائم الثابت”. فالعالم والطبيعة والإنسان عنصرهم الحقيقي هي الإرادة.

إذا أردنا أن نشير إلى الفارق هنا بين المعري وشوبنهاور، فإن الأول لم يتأثر بفكر فلسفي معين، ولم يبن فلسفته على أنقاض من سبقه أو يضعها مقابل من عاصره. أعني أن مبدأه في العقل نابع من إحساسه الفكري الممزوج بالروح الشعرية، بينما الثاني فقد شيد مبدأه فى العقل مقابل فكرة مواطنه عمانوئيل كانت “الشيء فى ذاته”. ومعاصره جورج هيجل في “الفكر وحدة عضوية”.

حكمة الموت

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

إن المعري وشوبنهاور ينظران إلى الموت بأنه نعيم، حيث يقطع عنا عناء الألم، بل إنه راحة أبدية ورقاد يستريح فيه الإنسان حسب قول المعري:

ضجعة الموت رقدة يستريح –

الجسم فيها والعيش مثل السهادِ

أو

موتٌ يسير معه راحةٌ

خيرٌ من اليسرِ وطول البقاء

ويذهب بعدميته بُعداً تشاؤمياً حاداً عندما يتمنى أن ينقطع النسل ويموت حتى الطفل الرضيع، ويرى العدم نعمة:

فليت وليداً ماتَ ساعة وضعهِ

ولم يرتضع من أمهِ النفساء

أو

وأرحتُ أولادي فهم في نعمة

العدمِ التي فضلت نعيمَ العاجلِ

ورغم أن شوبنهاور يعتبر الموت مروعاً مفزعاً لكنه أعظم النِعم البشرية، حيث أن حب الحياة مسألة باطلة كاذبة ويجب مقاومة إرادة النسل، إذ “أن إشباع الغريزة الجنسية هو الذي يستوجب المنع لأنه أقوى ما يثبت شهوة الحياة”.

إن هذه السوداوية المضنية إنما تعكس الوضع السلبي الذى عاناه المتشائمان المعري وشوبنهاور حياتياً واجتماعياً. فقد بقيا وحيدين دون أهل ولا أصدقاء، أو لنقل رفضا الزواج والخلان وفضلا الانطواء عن المحيط الذى لم يعزلهم.

الخلود

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

يذهب الفيلسوفان في هذا المجال بالامتداد التشاؤمي عن أمور الدنيا وما يتعلق بأمر الخلود، فالمعري، وكما معروف لنا، يخضع إلى الشحنات النفسية التي تجتاح جوانحه. فإن كانت سلبية كفر الدين والآخرين، وإن كانت إيجابية تعيده إلى ركن الإيمان. ومع ذلك نجده فى كلتا الحالتين ينفي وجود حياة بعد الموت:

حياةٌ ثم موتٌ ثم بعثٌ

حديثُ خرافةٍ يا أم عمرو

أو

-أرى هذيانا طال من كل أمة

يضمنه ايجازها وشروحها

وأوصال جسم للتراب ما لها

ولم يدر دار أين تذهب روحها ؟

ثم يخبرنا بأنه سيرحل عن هذا العالم المادي، ولكن إلى أين؟ لا يعلم! ولذلك يطالبنا بأن لا نرجو منه عودة:

سأرحل عن وشيك ولست بعالم ٍ

على أي أمرٍ لا ابالك أقدم

أو

أترجون أن أعود إليكم

لا ترجوا فإنني لا أعودُ

ولجسمي إلى التراب هبوطُ

ولروحي إلى الهواء صعودُ

إنها فعلاً حيرة مستعصية عند شاعرنا المعري، وليس له منها من محيص حيث لا يوجد من يسأله فيخبره عما سمع ورأى فى مماته:

فهل قامَ من جدثً ٍميتٍ

فيخبر عن مسمعٍ أو رأى؟

ثم:

هل فازَ بالجنةِ عمالها؟

وهل ثوى في النارِ نوبخت؟

أما شوبنهاور فيشير إلى أن “الإنسان بعد أن كون من آلامه وعذابه فكرة الجحيم رأى أن لم يبق لديه شيء يكون منه الجنة إلا الملل”. وحسب تصوره فإن الإنسان منذ نعومة أظافره يحس ويلتمس بمرارة هذا العالم الكريه المملوء شراً.

وبما أن شوبنهاور قد آمن بفكرة “النيرفانا” أو تناسخ الأرواح وفق العقيدة البوذية، والمعري يرفض هذه الفكرة.

لذا فإنه أكثر وضحاً من شوبنهاور في هذا الشأن، حيث يؤمن بقدرة الله المطلقة بإحياء الموتى وحشر الخلق:

وقدرة الله حق ليس يعجزها

حشرٌ خلقٍ ولا بعث لأجسادِ

أو

-ومتى شاء الذى صورنا

أشعر الميت نشوراً فنشرنا

كان وما يزال التشاؤم صفة شائعة بين الشعراء والأدباء على مختلف العصور؛ لم يسلم منه ابن الرومي ولا الخيام ولا نازك الملائكة حتى.. والمعري – نسبة إلى بلده معرة النعمان- أحد هؤلاء الذين اصطبغ شعرهم بهذه الصبغة حتى سمي بها حين لقبوه برهين المحبسين، محبس التشاؤم ومحبس العمى وإن كان هو نفسه في أحد أشعاره يُعدد محابسه بالثلاثة، داء العمى، واعتزال الناس، وحبس نفسه في جسد خبيث:

أَراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني
فَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ النَبيثِ
لِفَقدِيَ ناظِري وَلُزومِ بَيتي
وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيثِ
ويعدد عبد الزراق أيوب في كتابه “انعکاس الفكر السياسي على الأدب العربي في العصر العباسی” أسباب ودواعي التشاؤم عند المعري فيقول إنّه کان يعاني من فقد بصره؛ فقده بالجُدری بعد أربعة أعوام من مولده فذهب بصره، ولم يعرف من الألوان إلّا اللون الأحمر، وهو لون الثوب الذي لبسه يوم أصابه الداء، يضاف إلى ذلك موت والديه وفقره الشديد. وقد ملأ كتابه اللزوميات بهذا التشاؤم من الدنيا ووصف الحياة بأنّها دار الآلام والعذاب، ويضاف إلى ذلك أيضًا أنّه عاش في زمن مليء بالفساد بکل أشکاله وهو العصر العباسي الذي قسمه طه حسين إلى قسمين: عصر القوّة وعصر الضعف، وکان أبو العلاء يعيش في عصر الضعف والفساد.
ويضيف حنا الفاخوري إلى العمى دواع تشاؤمية أخرى بقوله إنّ المعري كان ذا خلق ذميم، قصير القامة، نحيف الجسم، واسع الجبهة مشوه الوجه بآثار الجدري؛ ويصفه مُعجبًا: “غير أنّ ذلك الثوب الرث كان يحوي نفسا كبيرة”. ويورد ابن العديم في “الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري” أنّه “کان منذ حداثته يسيئ الظن بالناس، ولا ينظر إليهم نظرة الرضی والطمأنينة، ويميل إلى الانقباض عنهم؛ وحُبّبت إليه العزلة”..
وبالنظر إلى ذلك يمكن تصنيف تشاؤم المعري في اتجاهين؛ أولهما الاتجاه النفسي المتمثل في المرض بالعمى واليتم والفاقة، وثانيهما الاتجاه الاجتماعي بعيشه في عصر کانت الحياة الاجتماعية والسياسية فيه مضطربة، وقد انعکس ذلك في كثير من شعره.
بل بلغ حد التشاؤم بالمعري أن يذم اسمه فهو أحمد بن عبد الله بن سليمان أبو العلاء التنوخي، ففي أشعاره يعكس وجهة النظر هذه بأنّ اسمه يجب أن يشتق من الذم لا الحمد وذلك لكثرة أفعاله المذمومة:

رويدك لو كشفت ما أنا مضمر
من الأمر ما سميتني أبدًا باسمي
أطهر جسمي شاتيًا ومقيظًا
وقلبي أولى بالطهارة من جسمي

ولم يقف الأمر على كره اسمه بل لحق حتى بكنيته فهو يرى أنَّ كنية أبي العلاء تتعلق بالعلو والرفعة، والأولى أن تكون بدنو المنزلة وأسفلها حيث يقول:
دُعيت أبا العلاء وذاك مَيْنٌ
ولكن الصحيح أبو النزول
لم يولد أبو العلاء كفيفا بل ولد مبصرا إلا أن الجدري الذي داهمه في سن الرابعة تسبب في فقدانه البصر، وقد حاول التعايش والتصالح مع عماه والاستفادة منه في حياته بل عدَّه نعمة تستوجب الحمد بقوله “أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر، وقد صنع لي وأحسن بي إذ كفاني رؤية الثقلاء والبغضاء”:
قالوا العمى منظر قبيح
قلت بفقدي لكم يهون
والله ما في الوجود شيء
تأسى على فقده العيون
مرد اعتزال المعري للنَّاس اعتقاده بفساد المُجتمع لغياب قيمتي العدل والمساواة، وتفشي الخيانة والبغض والظلم، ويرى أنه في مجتمع طالح كهذا يعد الإنجاب جريمة وتجنياً على القادمين الجدد، ويعزو الكاتب عمر فروخ هذه النظرة التشاؤمية إلى تأثر المعري بمذهب مزدك الفارسي ومذاهب الزهاد الهنود التي ترى أن الكون مليء بالشرور وعدم السعادة:
دُنياكَ دارُ شرورٍ لا سرورَ بها
وليسَ يَدري أخوها كيفَ يحترسُ
ويكتب إسلام محمد أنّ العقاد أوجد كثيرا من التشابه بين نزعة المعري التشاؤمية، ونزعة الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور؛ لاسيما في فلسفتهما حول النوم؛ فشوبنهاور يرى أنّ النوم سلفة مستعارة من الموت، وهذا ذات ما كتبه أبو العلاء في شعره:

ونومي موت قريب النشور
وموتي نوم طويل الكرى

وقريبا من هذا يقول في موضع آخر:

وموت المرء نوم طال جدًا
عليه، وكل عيشته سهاد

ويرى عماد الجبوري في معرض مقاربته بين المعري وشوبنهاور أن كلاهما ينظر إلى العالم والطبيعة والمجتمع من زاوية كالحة لا تطاق؛ فالخير والسعادة عندهما أمور سلبية زائلة؛ لأنّ الحياة كلها كد وتعب وليس فيها سكينة طوال الامتداد الزمني، فالوجود كله شر. وفي هذا يقول المعري:
ألا إنما الدنيا نحوسٍ لأهلها
فما من زمانٍ أنتَ فيه سعيد
ويتفق ذلك مع فلسفة شوبنهاور بأنّ “في كلّ فرد حوض من الألم لا محيص عنه”، وحتى إذا فرضنا جدلاً بأنّ هذا الألم له نهاية، فإنه سوف “يحل مكانه على الفور عناء آخراً” وليس لدينا من ذلك لا مفر ولا محيص.
ويتساءل الجبوري حول أسباب هذا التشاؤم الدامس وهذه العدمية المطلقة ليأتيه الجواب من المعري:
في العدمِ كنا وَحُكمُ الله أوجدنا
ثم اتفقنا على ثانٍ من العدمِ
ويتناص ذلك مع مقولة شوبنهاور: “الحياة تتأرجح كالبندول إلى الأمام والخلف بين الألم والسأم” وفي كلتا الحالتين لا خير في هذا العالم سوى حياة بائسة عافرة.

الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور-
ومن مواطن التشابه بينه وبين شوبنهاور أن هذا الأخير يرى أن النوم جيد باعتباره سلفة مستعارة من الموت، وأبو العلاء يقول عن هذا الاعتقاد في شعره:
ونومي موت قريب النشور … وموتي نوم طويل الكرى
وهو يقول أيضًا:
وموت المرء نوم طال جدًا … عليه، وكل عيشته سهاد