الاخلاق والدين عند براتند راسل

أسهم راسل إسهامًا كبيرًا في المناقشات التي دارت حول الأخلاق والسياسة والدين والتعليم وقضايا الحرب والسلام. ولم يَرَ هذه الإسهامات باعتبارها إسهامات فلسفية بالمعنى الضيق للكلمة. فكما يوضح الفصل السابق، كان يرى الفلسفة باعتبارها فرعًا فنيًّا من فروع المعرفة يتناول الأسئلة المجردة التي تُعنَى بالمنطق والمعرفة والميتافيزيقا. وهذه المناقشات الأخرى في المقابل — في رأيه — عبارة عن قضايا تتعلق بالعاطفة والرأي، وترتبط بالنواحي العملية للحياة. وقد أقر راسل بإمكانية وجود تحليلٍ للخطاب الأخلاقي والسياسي في إطارٍ صوري؛ أي كدراسة منهجية تتناول منطق الخطابات الأخلاقية والسياسية بدلًا من جوهرها؛ ولكن ما كان يهمه هو القضايا العملية والمشكلات الواقعية، خاصةً بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى.
ومع ذلك تصدى راسل في بعض كتاباته لعرض أساس الأخلاق. لم يكن يحاول صياغة نظرية جديدة، بل اكتفى بوجهات النظر الثانوية التي (بعد أن أصبح اهتمامه بالقضايا العملية اهتمامًا جديًّا) كانت تتَّسم بطابع «نظرية العواقبية»؛ أي إنها كانت ترى أنه يجب الحكم على القيمة الأخلاقية لأفعال الناس والحكومات بالنتائج. وفي الوقت نفسه — وليس على نحوٍ متسق مطلقًا — كان يكتب وكأنه كان يؤمن بالقيمة الأخلاقية الجوهرية لأشياء معينة، مثل الخصال الشخصية كالشجاعة والشهامة والأمانة. وقدم كذلك — في بعض كتاباته الأولى — وجهة نظر غير متسقة كذلك مع هذه الآراء، مفادها أن الأحكام الأخلاقية عبارة عن أقوال مُضمرة معبرة عن الموقف الذاتي. والمشكلة الأساسية التي واجهت راسل هي كيفية التوفيق بين جانبين متعارضين: من ناحيةٍ، الإخلاص لمعتقدات أخلاقية يؤمن بها بثبات وحماس، ومن ناحيةٍ أخرى، ما يبدو من انعدام وجود مبررات للحكم الأخلاقي. وازدادت الصعوبة التي تواجهه في تحقيق هذا التوفيق بفعل موقفه المتشكك حول ما إذا كانت المعرفة الأخلاقية موجودة أساسًا.
لعل أفضل طريقة لوصف إسهام راسل في المجال الأخلاقي هو القول بأنه كان معلمًا أخلاقيًّا معنيًّا برفع مستوى الأخلاق عند الناس أكثر مما كان فيلسوفًا أخلاقيًّا. وكان شأنه شأن أرسطو من قبله يرى الأخلاق والسياسة مستمرين؛ فلا فارق في النوع بين الحكم الأخلاقي أن الحرب شر والمطلب السياسي لتحقيق السلام؛ من ثَمَّ نجد أن فكر راسل عن الأخلاق والسياسة والمجتمع يتَّسم بالسلاسة والاتساق؛ مما يفسر سبب تناولها معًا في أشمل كتبه عن هذه المسائل، وهو كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة».
وفي السياسة كان راسل طيلة حياته راديكاليًّا وليبراليًّا من دون مغالاة. وبعد الحرب العالمية الأولى أصبح عضوًا في حزب العمال وترشَّح في سباقَين انتخابيَّين كمرشح للحزب. وقد مزَّق بطاقة العضوية في ستينيات القرن العشرين في استياء من دعم هارولد ويلسون للحرب التي شنتها أمريكا في فيتنام. ولكنه لم يكن اشتراكيًّا بالمعنى العتيق للكلمة؛ إذ لم تقنعه الماركسية حين درسها في ألمانيا في تسعينيات القرن التاسع عشر أثناء الإعداد لكتابه الأول: «الديمقراطية الاجتماعية الألمانية» (كانت «الديمقراطية الاجتماعية» تعني الماركسية آنذاك). وكان معارضًا بالفطرة للاتجاه للمركزية الذي تنادي به الاشتراكية حسب مفهومها آنذاك — وكانت تلك هي السمة الوحيدة تقريبًا للاشتراكية التي طُبقت بالكامل في الدول السوفييتية — ولذلك جذبته أكثرَ الاشتراكيةُ النقابية، وهي شكل لا مركزي من الملكية والسيطرة التعاونية يحكم الناس أنفسهم بموجبه في ظروف — على المستوى المثالي — تدمج حياتهم الاجتماعية والترفيهية والعملية.

كان راسل في أفضل حالاته حين انتقد الأحوال الأخلاقية والسياسية المعاصرة. وكانت البدائل الإيجابية التي طرحها تبدو عادةً غير مقنعة؛ إذ كانت عادةً إما مثالية إلى حدٍّ خيالي أو على أقل تقدير — إذا أخذنا بعين الاعتبار الظروف التي قدَّمها فيها — غير عملية إلى حدٍّ ما. ولكن كناقد شديد القسوة لاذع الكلمات، كان في مكانة سقراط وفولتير نفسها.
لا أحد يحتاج إلى عذر أو رخصة للإسهام في المناقشات التي تتناول القضايا المهمة في المجتمع، وهي قضايا السياسة والأخلاق والتعليم. إنه واجب كل مواطن أن يشارك عن معرفة وفهم. إذنْ فأنشطة راسل في هذه المجالات لا تتطلب أي تبرير. ولكن يوجد سبب وجيه يفسر لماذا تتَّسم إسهاماته بقوة إقناع معينة. ولم يكن سبب ذلك أنه كان وريثًا لتراث جليل تميَّزَ به حزب الأحرار البريطاني في المشاركة في الشئون العامة، مع أن هذا بلا شك حفز اهتمامه بالشئون العامة وإحساسه بواجب المشاركة؛ بل كان السبب هو أن اهتمامه وإحساسه بالواجب كان يدعمهما أربع مميزات قيمة: ذكاء نادر، وفصاحة واضحة الأسلوب، ومعرفة واسعة بالتاريخ، وجرأة كبيرة في وجه المعارضة؛ مما جعله مناقشًا مَهيبًا. ولم يَبْدُ أسلوبه مفرطًا في التذمر وغير ملائم إلا عند نهاية حياته، حين كان الآخرون من حوله يتحدثون ويكتبون باسمه.
لم تَجِدْ بعضُ أفكاره — مثل الإيمان بالحكومة العالمية — حتى الآن أي دعم يُذكر. وساعدت بعض الأفكار الأخرى في تغيير وجه المشهد الاجتماعي في العالم الغربي، كما في مواقفه تجاه الزواج والأخلاق الجنسية، على سبيل المثال. وفي مجالات أخرى أيضًا — تتعلق بالدين بالأخص — ساعد راسل على تحرير عقول كثيرة، ولكنه لم يكن ليندهش — عند الأخذ في عين الاعتبار فهمه للطبيعة البشرية — إذا اكتشف أن التفكير الخرافي يزدهر حاليًّا أكثر مما كان في عصره، وأن المعتقدات الدوجمائية — «الإيمان هو ما أموت من أجله، أما معتقداتي الدوجمائية فهي ما أقتل من أجلها.» — قد عادت بقوة.

الأخلاق النظرية

يتضح من الفكر المبكر لراسل عن الأخلاق أنه كان يؤمن بوجهة النظر الرومانتيكية الهيجلية القائلة بأن الكون خيِّر في حد ذاته وأنه هدف مناسب «للمحبة الفكرية». وكان ماك تاجارت هو من أوحى له بقبول وجهة النظر هذه، ولكنها لم تسيطر عليه لمدة طويلة. وتوضح أول مناقشة جادة للقضايا الأخلاقية يتصدى لها راسل — وعرضها في بحثه المعنون «عناصر الأخلاق» ونشره في عام ١٩١٠ — أنه يتبع التعاليم الواردة في كتاب «المبادئ الأخلاقية» من تأليف جي إي مور، ويؤكد فيه مور أن الصلاح خاصية غير قابلة للتعريف وغير قابلة للتحليل ولكنها خاصية موضوعية لوصف الأشياء والأفعال والبشر، وأننا ندرك الصلاح عن طريق فعل قائم على حدْس أخلاقي مباشر. كان مور يؤمن بشكلٍ من أشكال مذهب النفعية، ويمكن إيجازه بأنه وجهة النظر القائلة بأن الصواب الذي نفعله في أي حالة معينة هو أي فعل من شأنه أن يؤديَ إلى زيادة نسبة الخير على الشر في تلك الحالة. وأثرت آراء مور في أعضاء جماعة بلومزبري، وخصوصًا في تعزيز الفكرة الجذابة القائلة بأن الصداقة والاستمتاع بالجمال هما أسمى القيم الأخلاقية. (ادَّعى الخبثاء ممن انتقدوا الفكرة أن أعضاء جماعة بلومزبري أعجبتهم وجهة النظر هذه لأنها أتاحت لهم فرصة التوفير — إذا جاز التعبير — بأن يكون لديهم أصدقاء يتميزون بالجمال.)
تُطرح الصعوبات نفسها على الفور فيما يتصل بوجهة النظر النفعية. ومن بين هذه الصعوبات أنه يتعذر علينا معرفة العواقب المترتبة على التصرف بطريقة معينة بدلًا من طريقة أخرى؛ ومن ثَمَّ قد نتسبَّب دون قصد في عواقب سيئة كنتيجة للتفكير المضطرب أو الأفكار الحدْسية الكاذبة. ويقر راسل بهذا في رؤيته لوجهة نظر مور، ولكنه يؤكد أننا نكون قد تصرفنا تصرفًا صحيحًا حين نشعر بالرضا؛ لأننا أمعنَّا التفكير في الأمور بعناية، وبذلنا كل ما في وسعنا باستخدام المعلومات المتاحة. ومع ذلك، الادِّعاء بأن الصلاح أمر موضوعي هو أمر مختلف، ولم يستطع راسل أن يشعر بالرضا عن وجهة النظر هذه لمدةٍ طويلة، فمع أنها — إن شئنا الدقة — ربما يتعذَّر دحضها، فلا يمكن إثبات صحتها كذلك، وخصوصًا في مواجهة شخص يختلف بلا مواربة مع الفكرة الحدْسية التي أعلنها غيره، والقائلة بأن الصلاح موجود في فعل بعينه أو موقف بعينه.
دفعت هذه الصعوبة راسل إلى اتخاذ وجهة النظر — التي عبَّر عنها في كتاب «موجز للفلسفة» (١٩٢٧) — القائلة بأن الأحكام الأخلاقية ليست موضوعية — بمعنى أنها ليست صحيحة ولا كاذبة — بل إنها جُمل دالة على أمر أو جُمل دالة على التمني أو جُمل دالة على الموقف. والجملة الدالة على الأمر هي أمر، مثل «لا تكذب.» والجملة الدالة على التمني عبارة عن خيار أو أُمنية — كما يختار المرء شيئًا بدلًا من شيء آخر — في الحالة الأخلاقية ترمز إليها جملة «ليت لا أحد يكذب.» أما جملة «أرفض الكذب» فهي قول معبر عن موقف قائلها من الكذب. ومن الواضح أن الجُمل الدالة على الأمر والجُمل الدالة على التمني تفتقر إلى قيمة الصواب. ومع أن الأمر يكون بخلاف ذلك فيما يتعلق بالأقوال المعبرة عن الموقف، فهذا فقط لأنها عبارة عن أوصاف للحقيقة النفسية ذات الصلة الخاصة بقائليها؛ فلا يُقال شيء صادق أو كاذب عن القيمة الأخلاقية للكذب، فما يقال يتعلَّق فقط برأي القائل في الكذب.
ربما يُطلق على هذا الرأي — في مقابل «الموضوعية» التي كان يؤمن بها مور — «الذاتانية». وهذا المذهب يتسم بمشكلات جسيمة هو الآخر، وأهمها أنه منفر بدرجةٍ كبيرة. فلنتأمل مثلًا جريمة المحرقة النازية. فمن غير المقبول القول بأن مبرر المرء للحكم أن المحرقة النازية شر هو أنه يستنكرها فقط. شعر راسل بهذه الصعوبة بشدة؛ ولذلك حاول في مناقشته الأخيرة والمستفيضة لهذه القضايا (في كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة») أن يصل إلى موقف يمثل حلًّا وسطًا بين الموضوعية والذاتانية يحتفظ بالمميزات ولكن يتجنب الصعوبات الموجودة في وجهتَي النظر كلتيهما.
ويؤكد راسل في كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة» أن الأحكام الأخلاقية هي في الواقع تتعلق بخير المجتمع وأفراده. وهذه الأحكام تشمل أو تعبر عن الشعور السائد إلى حدٍّ ما في مجتمعٍ معين حيال ما يصب عمومًا في مصلحة الجميع. وهذا موضوع من الممكن أن تدور حوله مناقشة عاقلة بِناءً على فهْم علمي أو على الأقل منطقي للعالم. وكثيرًا ما كاد راسل يفقد هذا الإيمان بإمكانية الحلول المنطقية للمعضلات الأخلاقية حين كان يتأمل حماقة الإنسان، ولكنه مع ذلك ظل يتمسك به.
يقول راسل إن البيانات الأساسية للأخلاق هي المشاعر والانفعالات. ووفقًا لذلك فإن الأحكام الأخلاقية هي عبارة عن مشاعر متخفية تعبر عن آمالنا أو مخاوفنا أو رغباتنا أو الأشياء التي نكرهها؛ فنحن نحكم على الأشياء بأنها صالحة حين تلبِّي رغباتنا؛ ومن ثَمَّ فإن الخير العام — أي خير المجتمع ككلٍّ — يكمن في تلبية الرغبة تلبيةً كاملة، بصرف النظر عمن يتمتع بها. وعلى المنوال نفسه يكمن خير أي قسم من المجتمع في تلبية رغبات أفراده تلبيةً كاملة، ويكمن خير الفرد في تلبية رغباته الشخصية. وعلى هذا الأساس يمكن تعريف التصرف الصائب بالقول إنه أي شيء — في أي مناسبة معينة — من المرجح أن يؤديَ إلى الخير العام (أو إذا كان يتعلق بفرد واحد فحسب، خير الفرد)؛ وهذا بدوره يمنحنا تفسيرًا للواجب الأخلاقي، فكرة أنه يوجد أشياء «يجب» أن يفعلها المرء؛ وهو أنه يجب على المرء أن يفعل التصرف الصائب حسب هذا الفهم (المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ص٢٥، ٥١، ٦٠، ٧٢).
يقر راسل بالطبع بوجود مشكلات في هذا الوصف، ويناقش عددًا منها. فعلى سبيل المثال: يتسبب تعريف «الخير» بأنه «تلبية للرغبة» في توجيه انتقادٍ منطقي بأن بعض الرغبات شر، وأن تلبيتها شر أسوأ. ويتأمل راسل مثال القسوة. هل من الممكن أن يكون من الخير أن يتمنى شخصٌ ما أن يتسبب في معاناة شخص آخر؟ وأليس من الأسوأ أن ينجح في تنفيذ أمنيته؟ يقول راسل إن تعريفه لا يقتضي ضمنًا أن مثل هذه المواقف من قبيل الخير؛ أولًا: لأن ذلك يتضمن إحباط رغبات الضحية؛ لأن الضحية بالطبع ترغب في تجنُّب المعاناة على أيدي المتسبِّب فيها، وثانيًا: لأن المجتمع ككلٍّ لا يريد عمومًا أن يقع أفراده ضحايا للقسوة، وسيؤدي ذلك إلى إحباط رغباته أيضًا في هذا الصدد؛ ومن ثَمَّ سيؤدي ذلك إلى زيادة هائلة في الرغبات غير المحققة عند ارتكاب فعل يتَّسم بالقسوة؛ مما يجعل ذلك الفعل سيئًا.
ومن الصعوبات الأخرى التي يتَّسم بها الوصف الذي يقدمه راسل أن الرغبات قد تتعارض. ويجيب راسل عن ذلك بقوله إن هذا يتطلَّب منَّا أن نختار الرغبات التي يقل احتمال تنافسها بعضها مع بعض. ويستعير راسل مصطلحًا فنيًّا من لايبنتس، فيطلق على الاتساق بين الرغبات أنه «التوافق» بينها. إذنْ يمكن تعريف الرغبات الصالحة والسيئة على أنها الرغبات المتوافقة — بالترتيب — مع أكبر عدد وأقل عدد ممكن من الرغبات الأخرى.
يخصص راسل فصلًا يناقش فيه السؤال المتعلق بما إذا كانت الأحكام مثل «القسوة خاطئة» ليست إلا تعبيرات متخفية تعبر عن موقف ذاتي. وكما سبق وذكرنا، هذا السؤال مهم، وقد أزعج راسل بشدة. وتوصل راسل إلى ما قد يُطلق عليه إجابته المبنية على علم الاجتماع — أن القيمة الأخلاقية هي نتاج نوعٍ من الإجماع الاجتماعي — بعد دراسةٍ في الاحتمالات البديلة التي تقدمها المناقشة الأخلاقية.
من الممكن عرض المشكلة بأن نذكر أن الاختلاف الأساسي بين الخطاب الواقعي العادي والخطاب الأخلاقي يكمن في وجود مصطلحات مثل «يجب» و«الخير» ومرادفاتها في الخطاب الأخلاقي. هل هذه المصطلحات جزء من «المفردات الأساسية» للأخلاق، بمعنى أنها غير قابلة للتعريف وأساسية لأي فهم للمفاهيم الأخلاقية؟ أم هل يمكن تعريفها في إطار شيء آخر، كالمشاعر والانفعالات مثلًا؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب عن السؤال الأخير، فهل العواطف التي نحن بصددها هي عواطف الفرد الذي يصدر حكمًا أخلاقيًّا؟ أم لها مرجعية أشمل، تعود إلى الرغبات والمشاعر البشرية؟ (المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ص١١٠-١١).
يذكر راسل أثناء مناقشة هذه الأسئلة أنه عند دراسة الخلافات الأخلاقية المتعلقة بما يجب فعله في حالة معينة، نجد أن الكثير من تلك الخلافات ينشأ من النزاع حول النتيجة التي ستنشأ من هذا الخيار أو ذاك. ويُثبت هذا أن التقييمات الأخلاقية تعتمد على تقديرات النتائج، وأنه لذلك يمكننا تعريف «يجب» بالقول إنه يجب تنفيذ فعلٍ ما — من بين كل الأفعال الممكنة في تلك الحالة — إذا كان هو الفعل الذي من المرجح أن يؤديَ إلى أكبر قدرٍ من «القيمة الجوهرية» (وهو تعبير يستخدمه راسل كبديل أدقَّ عن كلمة «الخير»).
هل «القيمة الجوهرية» قابلة للتعريف؟ يعتقد راسل أنها كذلك؛ إذ يقول: «حين ندرس الأشياء التي نميل لأن نرى فيها قيمة جوهرية نجد أنها هي كل الأشياء التي نرغب فيها أو نستمتع بها؛ فمن الصعب أن نصدق أن أي شيء من الممكن أن يحمل قيمة جوهرية في كونٍ مجردٍ من الوعي الأوَّلي. ويوحي ذلك بأن «القيمة الجوهرية» قد تكون قابلة للتعريف في إطار الرغبة أو المتعة أو كلتيهما» (المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ص١١٣). وما دام يتعذَّر أن تكون كل الرغبات ذات قيمة جوهرية لأن الرغبات تتعارض، ينقح راسل المفهوم بحيث تُفهم القيمة الجوهرية باعتبارها سمة ﻟ «حالات مزاجية» يرغب فيها من يتعرضون لها.
وبهذا التعديل يقدِّم راسل الموجزَ الآتي لوجهة نظره. إن استحساننا أو استقباحنا لأفعالٍ معينة عادةً ما يتوقف على العواقب التي نعتقد أنه من المُرجح أن تنتج عنها. ونسمي عواقب الأفعال التي نوافق عليها «صالحة»، ونسمي العواقب التي نرفضها «سيئة». ونسمي الأفعال نفسها «صائبة» و«خاطئة» بالترتيب. وما «يجب» أن نفعله هو كل فعل صحيح في هذه الحالة، بمعنى كل ما مِن شأنه أن يؤديَ إلى زيادة نسبة الخير.
ومن بين هذه النقاط تحمل النقطة الأولى القدر الأكبر من الأهمية. إذا كان التقييم الأخلاقي مسألة تعتمد على ما يوافق عليه الناس وما يرفضونه، أَفَلَسْنَا عالقين في المعضلة الذاتانية، دون أسس منطقية لتوريط أنفسنا في خطأ العنصرية والتعصب والقسوة وغيرها؟ وإجابة راسل هي أنه في واقع الأمر يوافق الناس موافقةً واسعة الانتشار على كل ما هو مرغوب. ويتفق مع هنري سيدجويك في أن الأفعال التي عادةً ما يوافق عليها الناس هي الأفعال التي تؤدي إلى أكبر قدْر من السعادة أو المُتع. وإذا كان هذا يشمل تلبية الاهتمامات الفكرية والجمالية («إذا اقتنعنا فعلًا بأن الخنازير أسعد من البشر، فلا ينبغي لذلك السبب أن نرحب بالخدمات التي قدمتها الساحرة سيرسي التي جاء ذكرها في الأساطير الإغريقية.» فبعض المُتع مفضلة «فطريًّا» عن غيرها)، يصبح لدينا وسيلة للإفلات من الذاتانية؛ إذ إن وجهة النظر هذه تمنحنا إفادات عما يجب فعله، وهي ليست جُملًا دالة على التمني أو أوامر متخفية؛ ومن ثَمَّ تحمل قيمة صواب؛ ولكنها تستند إلى وقائع تتعلق بمشاعرنا وبتلبية رغباتنا؛ فالوقائع المتعلقة بمشاعرنا هي أساس تعريف «الصواب» و«الخطأ»، والوقائع المتعلقة بتلبية رغباتنا هي أساس تعريف «القيمة الجوهرية». وهكذا يحقق راسل نجاحًا في صياغة موقف وسيط يقع بين الموضوعية والذاتانية، ويحمل نجاحه — في الوقت نفسه — شهادة معتمدة عملية على نحوٍ دقيق إلى حدٍّ ما؛ إذ يوفر سبيلًا ليس فقط لتقييم الأفعال من النوع الذي يكون عادةً محلَّ خلاف في المناقشات الأخلاقية، بل كذلك العادات الاجتماعية والقوانين والسياسات الحكومية.
بالرغم من تفاؤل راسل حيال وجهة النظر هذه، فهي تتضمن عددًا من الصعوبات؛ إذ تقول في الواقع إن أساس التقييم هو إجماع الرغبات. ولكن هذا معناه أنه إذا كانت الأكثرية في مجتمعٍ معينٍ مستاءةً من المثلية الجنسية — مثلًا — فإن المثلية الجنسية إذنْ تُعد سيئة، فيما إذا كانت الأكثرية في مجتمع أكثر تسامحًا يسري فيه إجماع مختلف، فلن تكون المثلية الجنسية سيئة. هل النسبية الأخلاقية من هذه الدرجة جديرة بالتصديق؟ وتتصل هذه الصعوبة بصعوبةٍ أخرى، وهي أنه ما دامت قيمة العواقب تقاس بقدر الرغبات التي تلبيها، فإن درجة الشر التي تتسم بها المحرقة النازية تصبح نتيجة متوقفة على درجة تفوُّق نسبة إحباط رغبات ضحايا النازيين ورغبات السواد الأعظم من سكان العالم — ممن قد لا يريدون أن يشيع القتل الجماعي (ربما تحسبًا لاحتمال أن يقعوا هم ضحايا له) — على نسبة تلبية رغبات النازيين. وكان راسل نفسه يشعر بوجود شيء أكثر إقناعًا يكمن خلف الهلع الأخلاقي الذي نشعر به حيال المحرقة النازية، ولكن مبادئه لا تشرحه.
إن أي قدر من الإلمام بالمناقشات المتعلقة بالأخلاق يوضح أن جهود راسل في هذا المجال سطحية؛ فحتى في كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة» تتسم المناقشة بطابع نُصحي أكثر منه فلسفيًّا. ويقوم كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة» على عموميات سيكولوجية شاملة، ولا يحتوي إلا على إشارة واحدة عن الدقة، وهدف الكتاب هو إقناعنا بقَبول منهجٍ عملي للتقييم الأخلاقي بدلًا من تقديم الأخلاق مدعمة بأساسٍ نظري. ويعود جزء من سبب ذلك — كما ذُكر فيما سبق — إلى أن راسل لم يكن يعتقد أنه يمكن تطبيق الدقة على مناقشة الأخلاق؛ فكان من المقرر في البداية أن تكون الفصول التي تتناول الأخلاق في كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة» عبارة عن تكملةٍ لكتاب «المعرفة البشرية»، ولكنه لم يدرجها في الكتاب، لعدم رضاه عنها، ولم ينشرها — مدعمة بفصولٍ عن المسائل السياسية — إلا بعد أن قرر أخيرًا أنه لم يستطع عرض الحجج التي تحتويها عرضًا منهجيًّا أكثر. ولكنه لم يشكُ من ذلك؛ فهدفه الأساسي من الأخلاق — كما هي الحال بخصوص كل المسائل الاجتماعية التي تصدَّى لها — كان على كلٍّ هو الجدل. كان يتمنَّى أن يكون مؤثرًا في طريقة حياة الناس، وكان راضيًا لتوريط نفسه في مجال الدفاع عن قضايا معينة والإقناع لبلوغ تلك الغاية.

المُثُل الأخلاقية العملية

نال راسل جائزة نوبل في فرع الآداب، وكان الكتاب الذي ورد في حيثيات نيل الجائزة هو كتاب «الزواج والأخلاق». ألَّف راسل الكثير عن المسائل المتعلقة بالمُثل الأخلاقية العملية، ونجد بعض أفضل ما ألَّفه في هذا المجال في عشرات المقالات القصيرة التي كان يكتبها للصُّحف، وأهمها المقالات التي نشرتها دار نشر هيرست بريس في أمريكا إبان أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين. وفي هذه المقالات (دائمًا ما كانت لا تزيد عن ٧٥٠ كلمة، حسبما يتطلب حجم العمود المخصص لها في صفحة الجريدة) يمنحنا راسل انطباعًا بأنه سريع الملاحظة ومتسامح وعطوف ومتعقل، ولم يكن يسبق عصره فقط، بل وعصرنا نحن أيضًا في الكثير من المسائل.

فلنأخذ مثلًا مقاله «عن اللباقة». يقول في هذا المقال إننا نخصص للباقة والصدق مكانَين منفصلَين تمامًا، ولكن يأتي هذا على حساب أمرٍ آخر:

كنت أمرُّ أحيانًا بجوار أطفال يلعبون في الحديقة العامة، فأسمعهم يقولون بصوتٍ عالٍ واضح: «ماما، من ذلك العجوز المضحك؟» فأسمع من يرد بصوتٍ هامس مرتاع: «اسكت! اسكت!» فيدرك الأطفال إدراكًا مبهمًا أنهم ارتكبوا شيئًا خاطئًا، ولكنهم يعجزون تمامًا عن تصوُّر كنه ذلك الخطأ. يتلقَّى كل الأطفال من آنٍ إلى آخر هدايا لا تعجبهم ويلقنهم آباؤهم أنه يجب أن يبدوَ عليهم وكأنهم فرحوا بالهدايا. وحين يأمرونهم كذلك بأنه يجب عليهم ألا يكذبوا، يؤدي ذلك إلى تشوُّش أخلاقي.

(«عن اللباقة»، في كتاب «البشر وغيرهم» (ألين وأنوين، ١٩٧٥) ص١٥٨)

تتحدث هذه الفقرة عن التربية القائمة على اللباقة. ويقول راسل إن اللباقة من الفضائل يقينًا، ولكن لا يفصلها عن النفاق إلا خيطٌ رفيع للغاية. ويتوقف الفارق بينهما على الدافع. فإذا كان العطف يدفعنا لإرضاء شخصٍ ما في ظروف قد تؤدي الفظاظة فيها إلى إزعاجه، تصبح اللباقة ملائمة؛ ولكنها تصبح أقل لطفًا حين يكون الدافع هو الخوف من الإساءة، أو الرغبة في الحصول على ميزة بالتملُّق. ولا تعجب اللباقة من يتسمون بالجدية الشديدة؛ فحين زار بيتهوفن جوته في مدينة فايمار صُعق حين رآه يتصرف بأدب مع مجموعة من المتملِّقين الحمقى. إن من يواظبون على الصدق ولا يكذبون قط بدافع التهذيب عادةً ما يحظَوْن بالتقدير، ولكن يقول راسل إن هذا سببه أن الصادقين الحقيقيين مجردون من الحسد والحقد والتفاهة. «معظمنا يدخل في تكوينه شيء من هذه الرذائل؛ ولذلك علينا أن نستخدم اللباقة لتجنُّب الإساءة للغير. وليس من الممكن أن نصبح جميعًا من القديسين، وإذا كان بلوغ مرتبة القديسين أمرًا مستحيلًا، فلنا أن نحاول على الأقل أن نتجنب أن نكون سيئي الطبع.»

ربما تبدو هذه مادة سطحية واهية، ولكنها تتسم بالأثر العميق، وتطرح نقاطًا جديرة بالدراسة والتأمل؛ فكتابات راسل الصحفية عن المسائل الاجتماعية ذات طابع ممتع ومسلٍّ ومثَقِّف، وهو ما تميز به.
ويتناول كتاب «الزواج والأخلاق» مسائل أكبر وأكثر إلحاحًا؛ فهو يركز على الجنس والحياة الأسرية. ومن وجهة نظر راسل، للمُثل الأخلاقية الجنسية مصدران أساسيان: رغبة الرجال في التيقن من أنهم حقًّا آباء الأطفال الذين تلدُهم زوجاتهم، والاعتقاد الديني بأن الجنس آثم. كان راسل مستعدًّا دائمًا لتلقِّي الإرشاد من العلم في عصره، وفي هذه الحالة لجأ إلى علم البيولوجيا (الأحياء) للبحث عن تفسيرٍ لأصول تلك العادة. وقد دفعه علم الأحياء إلى الاعتقاد بأن المُثل الأخلاقية الجنسية في العصور القديمة كان الغرض البيولوجي منها هو توفير حماية الأبوين لكل طفل، وهو دافع يحرص راسل على الموافقة على أنه دافع وجيه. ويقول إن الكثير من الضغوط تهدد الحياة الأسرية في العصر الحديث ويجب التصدي لها؛ فالأطفال بحاجة إلى عاطفة كلا الأبوين؛ أما البديل المتمثل في ترك تنشئة الأطفال جزئيًّا أو حتى كليًّا للدولة — كما تمنَّى أفلاطون — فليس مستحسنًا؛ فإذا تولَّت الدولة تنشئة الأطفال، فسينتج عن ذلك قدْر مفرط من التماثل، وربما قدْر مفرط من القسوة؛ ومن الممكن استغلال الأطفال الذين يُربَّوْن بهذه الطريقة ليصيروا أتباعًا مخلصين لمروجي الدعاية السياسية ومثيري الفتنة والاضطرابات.
ولكن فيما يتصل بالمُثل الأخلاقية الجنسية — من وجهة نظر راسل — فالاتجاه الحديث نحو زيادة حرية التعبير والسلوك أمر طيب؛ فالآراء الأكثر تحررًا تنشأ من تراخي قبضة المُثل الأخلاقية التقليدية، ولا سيما المُثل الأخلاقية الدينية؛ ويصبح السلوك الأكثر تحررًا ممكنًا بفعل التطورات التي حدثت بخصوص منع الحمل؛ مما وضع النساء على قدم المساواة مع الرجال من حيث التحكم في حياتهن الجنسية.
في رأي راسل، تسببت العقيدة القائلة بأن الجنس آثم في ضررٍ فادح، ويبدأ الضرر في الطفولة ويستمر حتى النضج في صورة النواهي وما تسببه من ضغوط. يؤدي كبت الدوافع الجنسية إلى تسبب المُثل الأخلاقية التقليدية في إفساد أنواع الشعور الودي الأخرى أيضًا؛ مما يجعل الناس أقل تسامحًا وعطفًا، وأكثر ميلًا إلى القسوة والأنانية. لا بد بالطبع من أن يحكم الجنسَ مبدأٌ أخلاقيٌّ، كما هي الحال مع التجارة أو الرياضة، ولكن لا ينبغي أن يقوم «على محظورات عتيقة يعرضها غير المتعلمين في مجتمع يختلف تمامًا عن مجتمعنا»، ويقصد راسل بهذا تعاليم آباء الكنيسة القدماء. «ففي الجنس، كما هي الحال في الاقتصاد والسياسة، ما زال مبدؤنا الأخلاقي تهيمن عليه المخاوف التي جعلتها الاكتشافات الحديثة غير منطقية» (الزواج والأخلاق، ص١٩٦-١٩٧).
لا بد من مُثل أخلاقية جديدة قوامها رفض المذهب البيوريتاني المتزمِّت، على أن تُبنى على الاعتقاد بضرورة تدريب الغريزة وليس التصدي لها. ولا ينطوي الموقف الأكثر تحررًا تجاه الحياة الجنسية على أنه من المسموح لنا أن نطيع دوافعنا ونتصرف كما نشاء؛ وذلك لأنه لا بد من وجود اتساق في الحياة، ومن بين أهم جهودنا المفيدةِ الجهودُ الموجهة نحو الأهداف الطويلة المدى؛ مما يقتضي تأجيل المتع القصيرة المدى. أيضًا، لا بد من مراعاة الآخرين و«قواعد الاستقامة». ولكن ضبط النفس — كما يؤكد راسل — ليس غاية في حد ذاته، وينبغي أن تضمن الأعراف الأخلاقية أن تكون ضرورة اللجوء إليه في حدها الأدنى لا الأقصى. ومن الممكن اللجوء إلى ضبط النفس إلى الحد الأدنى في حالة حسن توجيه الغرائز بدءًا من الطفولة وإلى المراحل التي تليها. ولأن الغرائز الجنسية قوية للغاية، فإن دعاة علم الأخلاق التقليديين يرَوْن أنه لا بد من كبحها بشدةٍ في الطفولة، خوفًا من أن تصير فوضوية وبذيئة. ولكن لا يمكن أن تُبنى حياة رغدة على المخاوف والمحظورات.
ومن ثَمَّ، فإن المبادئ العامة التي يعتقد راسل بأن المُثل الأخلاقية الجنسية يجب أن تقوم عليها بسيطة وقليلة. أولًا: ينبغي أن تقوم العلاقات الجنسية «بقدر الإمكان على تلك المحبة العميقة الجادة بين الرجل والمرأة التي تشمل الشخصية الكاملة لكلٍّ منهما، وتؤدي إلى اندماجٍ يثري كلًّا منهما». وثانيًا: إذا نتج أطفال عن تلك العلاقات، ينبغي رعايتهم بدنيًّا ونفسيًّا على نحوٍ مناسب. ويعلق راسل متهكمًا بأن أيًّا من هذين المبدأين ليس شديد الفظاعة؛ إذ يدرك الخزي الذي لحق به لما عُرف عنه من زنًا وطلاقٍ ومساكنة دون زواج وبسبب لا مبالاته بإخفاء كل ذلك عن العيون، وكانت كلها سلوكيات فاضحة إلى حدٍّ فادح آنذاك. ولكن المبدأين معًا يعنيان ضمنًا أن مجموعة القوانين الأخلاقية التقليدية قد طرأت عليها تعديلات مهمة معينة.
أحد هذه التعديلات هو أنها تسمح بدرجةٍ مما يُطلق عليه عادةً «الخيانة». فإذا لم ينشأ الناس وهم يرَوْن أن الجنس تقيده المحرمات، وإذا لم تكن الغيرة تحمل موافقة المعلمين المعنيين بعلم الأخلاق، لَاستطاع الناس أن يتعاملوا بعضهم مع بعضٍ بمزيد من الإخلاص والتسامح؛ فالغيرة تدفع الحبيبين إلى حبس كلٍّ منهما للآخر في سجن مشترك، وكأنها منحت كلًّا منهما حقًّا في السيطرة على كيان الآخر واحتياجاته. كتب راسل يقول: «لا ينبغي تناول الخيانة على أنها أمر فظيع.» إذ إن وجود «ثقة في القوة المطلقة لعاطفة عميقة ودائمة» هو رابطة أفضل بكثير من الغيرة (الزواج والأخلاق، ص٢٠٠-٢٠١). ويؤكد راسل في مواضع أخرى أنه لا يوجد مبرر للاعتراض على الزواج المفتوح — كما يُطلَق أحيانًا على ذلك النظام — بشرط ألا تُنجب المرأة أطفالًا من عشيق وتتوقع أن يربيهم زوجها. وقد انتهى زواجه هو ودورا جزئيًّا بسبب هذه المشكلة.
ويختتم راسل كتاب «الزواج والأخلاق» بالقول إن المبدأ الذي يقدمه — رغم هذه التعليقات التي تتناول الخيانة — ليس مبدأً يقوم على الفسق؛ فهو يشمل حقًّا قدر ضبط النفس عينه تقريبًا الذي تطالب به المُثل الأخلاقية التقليدية، والفارق الملحوظ هو أن ممارسة ضبط النفس تكون بالامتناع عن التدخل في حرية الآخرين بدلًا من كبت حريتنا نحن. وكتب راسل يقول: «من المأمول — في رأيي — أنه عن طريق التعليم المناسب من البداية يصبح هذا الاحترام للهوية الشخصية وحرية الآخرين سهلًا بعض الشيء؛ ولكن من وجهة نظر مَن نشأ منَّا وهو يرى أنه يحق لنا أن نعترض على تصرفات الآخرين باسم الفضيلة، فلا شك أنه من الصعب الامتناع عن ممارسة هذا النوع المحبب من الاضطهاد.» إن جوهر الزواج الناجح هو الاحترام المتبادل والأُلفة العميقة؛ فعند وجود هذه العناصر، يصبح الحب الحقيقي بين الرجل والمرأة هو «أكثر تجربة مثمرة من بين كل التجارب الإنسانية»؛ وهذا هو الهدف الذي ينبغي أن يشجعه كل من يتأملون في الزواج والأخلاق (الزواج والأخلاق، ص٢٠٢-٢٠٣).
وقد شعر الكثيرون آنذاك بأن آراء راسل شائنة إلى حدٍّ مروِّع. وتسبب كتاب «الزواج والأخلاق» في فقدانه وظيفته في نيويورك في عام ١٩٤٠ (مع أنه أدَّى إلى فوزه بجائزة نوبل بعد ذلك بعشر سنوات — كما ذُكر آنفًا — وهو ما يوضح كيف من الممكن أن تكون الحياة متقلبة وغير متوقعة)، وأوحى الكتاب — وكذلك سمعته بحب صحبة النساء — إلى الكثيرين للربط بينه وبين شخصية الرجل الشهواني. ولكن ربما يمكن أن نذكر نقطتين عن هذه الآراء؛ أولاهما هي ما تتسم به من عقلانية هادئة ومتسامحة، والأخرى هي أن آراءه لم تنشأ من فراغ؛ فهي في الواقع تعبر عن موقف يشاركه فيه طليعة المثقفين اليساريين إبان عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته؛ إذ كانوا يرَوْن أن حرية العلاقات الجنسية ورفض الغيرة الجنسية بمنزلة مبادئ غير مكتوبة. كان راسل يمتلك الشجاعة والفصاحة المنطقية الجازمة، وهو ما يلزم للدفاع عن هذه الأفكار أملًا في تغيير وجه مجالٍ من مجالات الحياة في أمسِّ الحاجة إلى ذلك. ومع التغير الجذري الذي طرأ على الاتجاهات والعادات بعد ذلك بجيل — الذي أسهم فيه جزئيًّا نشاط راسل — فإن حججه ما زالت تستحقُّ القراءة كعلاج فعَّال ضد الرجعية.
كثيرًا ما تتكرر في آراء راسل عن العلاقات الإنسانية ثلاثة موضوعات؛ أولها: هو ضرر الدين، والثاني: هو ضرورة التعليم الجيد، والثالث: هو الحرية الفردية. وكلٌّ منها عبارة عن فكرة رئيسة ثابتة في فكر راسل الاجتماعي، وقد أولى راسل كلًّا منها اهتمامًا كبيرًا. وسأعرض لهذه الموضوعات بالترتيب.

الدين

يفاجأ الناس حين يعلمون أن راسل لم يكن ملحدًا؛ إذ كان بالأحرى لاأدريًّا. وقد دفعه الثبات على المبدأ إلى قبول «الاحتمال» القائل بأنه ربما يكون للكون إله، ولكنه كان يعتقد أن وجود شيء من هذا القبيل مستبعد للغاية، وأنه لو كان يوجد شيء من هذا القبيل — خاصَّةً إذا كان أقرب إلى فكرة الله في المعتقد التقليدي للمسيحية — لكان النفور الأخلاقي للكون أكبر مما هو عليه؛ لأنه في تلك الحالة سنُضطَرُّ إلى قبول فكرة أن كيانًا قادرًا على كل شيء يسمح — أو يشاء — بوجود الشر الطبيعي والأخلاقي في العالم («الشر الطبيعي» يعني المرض والكوارث مثل الزلازل والبراكين، وما شابه). ومن وجهة نظر راسل، ينبغي أن تكفيَ زيارة واحدة إلى عنابر أي مستشفًى للأطفال لتجعلنا نشعر إما بأنه من غير المحتمل وجود إله، أو أنه إذا كان يوجد إله فعلًا، فإنه قاسٍ.
سُئل راسل ذات مرة في واقعةٍ شهيرة عما عساه أن يفعل إذا اكتشف عند موته أن الله موجود على كلٍّ؛ فرد أنه سيلوم الله لأنه لم يقدم أدلة كافية على وجوده. وسُئل كذلك عن رأيه في «رهان باسكال»، وهو الرأي القائل بأننا ينبغي أن نؤمن بالله حتى لو كانت أدلة وجوده واهية للغاية، لأن فائدة الإيمان بالله — في حالة وجود الله — تفوق بكثيرٍ الخسارة في حالة عدم وجوده. ورد راسل بأنه إذا كان الله موجودًا لَاستحسن موقف غير المؤمنين لأنهم استخدموا عقولهم ووجدوا أن الأدلة التي تدعم الإيمان غير كافية.
وكان من الأساليب التي درج راسل على استخدامها رفضُ قبول أي قضية إلا في حالة وجود سبب وجيه يقنعه بذلك. ومن أهم أركان الحجة المستخدمة في اللاهوت الطبيعي لدعم قضية وجود الله («اللاهوت الطبيعي» معناه مناقشة مفهوم الإله بمعزلٍ عن أي وحيٍ معين ورد في كتب مقدسة أو تجربة صوفية) مجموعةٌ معروفة من «البراهين على وجود الله». وقد ناقش راسل هذه البراهين في كتابه «لماذا لستُ مسيحيًّا؟» (نُشر في عام ١٩٥٧، وكان عبارة عن مجموعة محاضرات ألقاها للمرة الأولى في عام ١٩٢٧).
أحد هذه البراهين هو حجة السبب الأول، وتقول بأن لكل شيء سببًا؛ إذنْ لا بد من وجود سبب أول. ولكن هذه الحجة — كما يقول راسل — متناقضة مع نفسها؛ لأنه إذا كان لكل شيء سبب فكيف يمكن أن يكون السبب الأول بلا مسبب؟ حسب بعض وجهات النظر، فإن الله هو السبب المسبب بذاته (حسب أرسطو، المحرِّك بذاته)، ولكن هذا المفهوم غير مترابط، وإذا دلَّ على شيء ممكن، إذنْ فإما يكون مبدأ السببية الكلية الذي تستند إليه الحجة بأكملها مبدأً باطلًا إذا اتضح أنه لا بد أن تكون الأسباب غير نتائجها (كما يوحي المبدأ فعلًا فيما يبدو)، أو إذا كان من المحتمل أن تكون الأسباب هي مسبباتها نفسها، فلماذا يكون من المحتمل وجود سبب واحد فقط؟
وتوجد حجة ثانية تستنتج من مظاهر التدبير في الكون نتيجة مفادها أنه لا بد من وجود مدبِّر. ولكن من ناحيةٍ، مظاهر الخلق في الأشياء تعللها على نحوٍ أفضل نظريةُ التطور، وهي نظرية لا تتضمَّن كيانات إضافية في الكون، وتتفق مع البيانات التجريبية؛ ومن ناحيةٍ أخرى، لا يوجد على أي حال أي أدلة على وجود تدبير «كلي» في العالم؛ حيث توحي الوقائع — باتساقٍ مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية، الذي يخبرنا بأن العالم يتحلل في حقيقة الأمر — بعكس ذلك تمامًا.
لدينا أيضًا حجة ثالثة تقول إنه لا بد من وجود إلهٍ كي يوجد مبرِّر للمُثل الأخلاقية. ومع ذلك، فهذه الحجة لا تفيد؛ لأنه كما يؤكد راسل في مكان آخر بإيجاز، قائلًا: «لطالما لقَّنَنَا علماء اللاهوت أن الأحكام التي يقدِّرها الله خير، وأنه لا سبيل لإنكار صحة هذه الحقيقة؛ إذ يترتب على ذلك أن الخير مستقل منطقيًّا عن أحكام الله» (المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ص٤٨). وربما نضيف أنه إذا اعتبرنا أن مشيئة الإله مبرر للمُثل الأخلاقية، إذنْ يصبح السبب الذي يدفعنا إلى التحلي بالأخلاق هو الحذر من عواقب أفعالنا؛ إذ يكمن في الرغبة في الإفلات من العقاب. ولكن هذا المبرر ليس أبدًا أساسًا مقنعًا لتقوم عليه الحياة الأخلاقية، والتهديدات ليست على أي حال مقدمات مقنعة «من الناحية المنطقية» لأي حجة.
وتقول حجة ذات صلة — استخدمها كانط — إنه لا بد من وجود إله لإثابة الفضيلة وعقاب الشر؛ لأنه يتضح لنا من التجربة أن الفضيلة في هذه الحياة لا تُقابَل دائمًا أو حتى كثيرًا بالثواب. ولكن هذا — كما يقول راسل — أشبه بالقول إنه ما دام كل البرتقال الموجود أعلى صندوق الفاكهة فاسدًا، فلا بد أن البرتقال الموجود تحته في الصندوق طيب؛ وهو استنتاج منافٍ للعقل.
يهاجم الكثيرون من مناهضي الدين الأثر المضر للدين في العالم باعتباره يتسبب في الاضطهاد والشقاق، ومع ذلك يرَوْن أن المسيح شخصية جذابة، ولكن موقف راسل كان مختلفًا؛ إذ كان يعتبره أقل لطفًا ورأفةً من بوذا وأدنى منزلةً بكثير من سقراط فكرًا وخُلقًا. ويرى راسل أن بعض تصرفاته غير لطيفة؛ فمثلًا حين أذبل شجرة التين — ولم يكن ليفيد أن تصير الشجرة غير مثمرة، ما دامت في غير أوان التين — وهدد بإصابة من رفضوا أن يؤمنوا به بالكرب الأبدي. ولفت راسل إلى أنه على مدى قرونٍ طويلة ظل الناس يُلقَّنون أن يؤمنوا حرفيًّا بصحة هذه التحذيرات الوحشية، ما دام ذلك كان يخدم مصالح الكنيسة. ولكن حين أشار المنتقدون في عصرٍ أكثر إنسانيةً إلى مدى قبحها، بدأت الكنيسة في تغيير موقفها بالقول إنه ينبغي فهم التحذيرات فهمًا مجازيًّا.
ولكن راسل كان يوجه معظم انتقاداته ضد المسيحية نفسها كظاهرة «منظمة». وكان يكره الإيمان بالمعتقدات الخرافية — «تعتقد الكنيسة الكاثوليكية أن القس يمكنه تحويل كسرة خبز إلى جسد المسيح ودمه بالتحدث إليها باللاتينية» — وسخفه المطبق؛ فمثلًا «هم يأمروننا بألا نعمل في أيام السبت، ويفهم البروتستانت هذا على أن معناه أنه ليس لنا أن نلهوَ في أيام الآحاد.» يرى راسل أن المسيحية تتميز على الأديان الأخرى بميلها إلى الاضطهاد؛ فالمسيحيون ضايقوا وقتلوا المنشقِّين واليهود والملحدين وبعضهم بعضًا؛ وأغرقوا آلاف البريئات وأحرقوهن وقتلوهن بطرقٍ أخرى بتهمة «السحر»؛ وأزهقوا حياة مئات الملايين من البشر بِناءً على عقائدهم المنافية للعقل المتعلقة بالخطيئة والسلوك الجنسي.
استخدم راسل في حربه على الدين أسلحة تتألف غالبًا من التهكم والازدراء. كان ملمًّا بالكتاب المقدس على نحوٍ يفوق الكثيرين من خصومه، وكان باستطاعته أن يفحمهم باقتباسٍ مناسب؛ ومثال ذلك حين يقول — وهو يناقش المزايا المقارنة بين الدين والعلم — إن «الكتاب المقدس يخبرنا أن الأرنب الوحشي يمضغ الطعام المجتر»؛ مما يسبب صعوبات للأصوليين عند مواجهتهم بعلم الحيوان. وفعلًا لم يكن التباين بين العلم والدين ليكون على نحوٍ أشد وضوحًا. يتناول الدين حقائق مطلقة ولا تقبل الجدل تظل سارية إلى الأبد؛ أما العلم فهو أشد حذرًا وترددًا. يفرض الدين قيودًا على الفكر، ويحرم الاستقصاء حين يتعارض مع ما تسنه الكنيسة؛ أما العلم فيتسم بسعة الأفق (الدين والعلم، ص١٤–١٦). وهذه اختلافات لافتة؛ ففي مواجهة المنطق العلمي أفضل ما يستطيع الدين أن يفعله — حين لا يحاول أن يظل أصوليًّا على نحوٍ متعنت — هو إعادة تفسير النصوص المقدسة بأسلوب مجازي، والتخفي خلف الادِّعاء بأن الحقائق الدينية تتخطى الفهم البشري.

ولكن مع أن راسل كان معاديًا للدين، فقد كان رجلًا متدينًا، وهذا تناقض ظاهري فحسب؛ فمن الجائز أن يكون للمرء موقف متدين للحياة دون الإيمان بوجود كائنات وأحداث خارقة للطبيعة. وفي هذا الموقف يؤدي تذوق الفن والحب والمعرفة إلى تعضيد الروح الإنسانية، وينطوي على شعور بالإجلال حيال العالم وأحبائنا، وينطوي كذلك على شعور مصاحب من الرحابة التي يكون المرء جزءًا منها. وفي مقال شهير وإن كان يتسم بأسلوب متكلف — بعنوان «عبادة الإنسان الحر» — كتبه راسل تحت تأثير فشل زواجه الأول وما صاحَب ذلك من تغيرات في نظرته للأمور، يعرض هذه الرؤية بعينها. ولكن كلماته تحمل بعض التحفظات المبهمة إذ يقول:

حين يتضح في البداية تعارض الوقائع والمُثل العليا، يصبح من الحتمي التحلي بروحٍ يفيض بالتمرد الناري وبكراهية جارفة للآلهة للدفاع عن الحرية. فأن نتحدى عالمًا معاديًا بإخلاص كإخلاص بروميثيوس وأن نراقب شروره دومًا، ونظل نكرهه دومًا، وأن نرفض الألم الذي قد ينزله أذى السلطة المتعمد؛ هو فيما يبدو واجب كل من يرفضون الاستسلام للمحتوم. ولكن السخط ما زال قيدًا، إذ يجبر أفكارنا على الانشغال بعالم خبيث؛ وفي خضم ضراوة الرغبة التي ينبع منها التمرد يوجد نوع من توكيد الذات الذي يجب على الحكماء التغلب عليه؛ فالسخط هو خضوع أفكارنا ولكن ليس رغباتنا؛ والحرية المنزهة عن الانفعال بالفرح أو الترح التي تكمن فيها الحكمة نجدها في خضوع رغباتنا، وليس أفكارنا. وتنشأ من خضوع رغباتنا فضيلة التسليم بالقضاء؛ وينشأ من حرية أفكارنا عالم الفن والفلسفة بأكمله، والقدرة على رؤية الجمال الذي من خلاله نتمكن من استعادة العالم النافر.

(مقال «عبادة الإنسان الحر»، ١٩٠٣، أعيد طبعه في كتاب «التصوف والمنطق»)

وكما يتضح، كان راسل يرى دائمًا أن التوق إلى السموِّ — لحلم الفيلسوف سبينوزا بفهم واضح ونزيه وشامل تمامًا لكل الأشياء التي من شأنها أن تحرر المرء — تلطفه الوقائع القاسية للمعاناة في العالم. وفي ديباجة سيرته الذاتية يكتب قائلًا: كان الحب والمعرفة — بقدر توافرهما — يرفعانِنِي إلى سماء الفردوس. ولكن الشفقة دائمًا ما كانت تعيدني إلى الأرض. ومن ثَمَّ، كان راسل يَتُوقُ بأسلوبه اللاأدري إلى الفردوس، وسعى إلى اكتشاف السُّبل التي من شأنها أن تقود البشر إلى هناك.

التعليم

كان راسل يأمل أن يكون أهم تلك السبل هو التعليم، الذي كان يرى أنه يتناول السؤال المتعلق بالكيفية التي ينبغي بها إعداد البشر للحياة. ولم يتناول راسل التفاصيل الإدارية المتعلقة بإعداد المدارس والجامعات وتدريب المعلمين — مثلما كان من الممكن أن يفعل سيدني وبياتريس ويب — ولكنه تحدَّث بدلًا من ذلك عما قد نسمِّيه الأهداف الروحية (بمعنًى علماني) للتعليم. وكتب راسل أن ما يهدف إليه التعليم هو بناء الخُلق؛ وأن أفضل خُلق هو الحيوية والشجاعة ورهافة الحس والذكاء، على أن تكون كلها «بأعلى مرتبة». وهكذا يعبر عن الموضوع في كتاب «عن التعليم»، الذي نُشر في عام ١٩٢٦، وذلك قبل أن يؤسس هو ودورا مدرسة بيكون هيل بعام واحد. ويتناول هذا الكتاب أساسًا سنوات الطفولة المبكرة، ويُقِرُّ راسل في سيرته الذاتية أنه كان «مفرطًا في التفاؤل حيال علم النفس»، وأنه كان أيضًا في بعض النواحي «مفرطًا في القسوة» في المناهج التي اقترحها. ومن أمثلة ذلك وجهة النظر — التي اتخذها من مبادئ مونتيسوري — القائلة بأنه إذا كان أحد الأطفال سيئ السلوك فينبغي فصله عن غيره من الأطفال حتى يتعلم أن يصبح صالحًا. وبات راسل يرى لاحقًا أن هذا نمط قاسٍ من قواعد ضبط السلوك.
ومع ذلك يحتوي الكتاب على بعض النصائح الوجيهة. ويبدأ راسل بالأطفال الصغار في سنٍّ مبكرة جدًّا، فيؤكد بأنه ينبغي وضع روتين منتظم للأطفال الرضع وإمدادهم بأكبر عدد ممكن من فرص التعلم، وأنه ينبغي إخفاء أي قلق يبديه الأبوان حتى لا «ينتقل القلق إلى الطفل بالإيحاء». وتعكس هذه العقيدة إيمان راسل بأنه ما دام القلق ليس فطريًّا بين الثدييات العليا الأخرى، فلا بد أن ظهوره على الأطفال يأتي نتيجةً لتأثرهم بالبالغين. وذكَّر قُرَّاءه في الوقت نفسه بأنه لا داعي لتعذيب أنفسهم في سبيل أداء واجبهم كآباء، بل أن يحرصوا على الموازنة بين مصالحهم ومصالح أطفالهم.
كان راسل يرى أن المعرفة في حد ذاتها تعمل كأداةٍ للتحرير.