الشك المنهجي بين الامام الغزالي والفيلسوف رينيه ديكارت

إذا تأملنا المنهج الفلسفي الذي يُنسب لأبي حامد الغزالي (1050-1111) ولـديكارت (1596-1650) فسنجده يرتكز على مفهوم أساسي هو “الشك”. لذلك يوصف هذا المنهج الفلسفي في الحالتين معا بأنه “شك منهجي”، ولذلك لا بد من تناول هذا المفهوم لكي نتمكن من استيعاب مكونات المنهج ونُقيم هذه المقارنة الضرورية بين هذين الفيلسوفين الهامين سواء بالنسبة لثقافة كل واحد منهما أو بالنسبة للفكر الإنساني عموما.

فرضيتان:

ننطلق من فرضيتين حول العلاقة المفترضة بين الغزالي وديكارت:

  • الفرضية الأولى: أساس التشابهات بل والتطابقات ما بين المنهجين هو “التوافق”، أي أن ظروفَ كل واحد منهما قادته إلى إبداع ما أبدعه بدون وجود أي علاقة تأثير.
    فيما يخص الفرضية الأولى: أشرف الأستاذ راينهارد لاوت على دراسة حول علاقة الغزالي بديكارت بألمانيا، وقام المستشرق الألماني أنطون أشبيتالر بمراجعتها، وقد رفض المستشرق المذكور فكرة أن ديكارت تأثر بالغزالي وبرر التشابه بين منهجيهما “بالتوافق” أو “توارد خواطر عليهما معا” دون أن تكون هناك أية معرفة لديكارت بالغزالي.
  • الفرضية الثانية: هناك سبق تاريخي وتأثير، فكتابات الغزالي، وخصوصا (المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال) أثرت على ديكارت وكانت إحدى مصادره في إبداع منهجه الفلسفي. المعطيات التي تدعمها:
  • كتب الكاتب الألماني كريستوف فون فولستوجن مقالا تحت عنوان “هل كان الغزالي ديكارتيا قبل ديكارت؟” قال فيه أن الشك المنهجي الديكارتي يعود في أصله للفلسفة الإسلامية، وأن التطابقات بين المنهجين كما يشهد عليها كتاب “المنقذ من الضلال” للغزالي وكتاب “التأملات الميتافيزيقية” لديكارت تبين وجود علاقات قوية بينهما.
  • قال المؤرخ التونسي عثمان الكعاك أن ديكارت اطلع على أفكار الغزالي عن طريق ترجمة لاتينية لكتاب “المنقذ من الضلال”
  • وأثبت عبد الصمد الشاذلي الذي يعمل بجامعة جوتنجن بألمانيا في مقدمته للترجمة الألمانية لكتاب “المنقذ من الضلال” أن ديكارت كانت تربطه علاقة صداقة ببعض المستشرقين الذين كانت بحوزتهم نسخة عربية لكتاب “المنقذ من الضلال” مثل المستشرق جاكوب جوليوس (1596-1667) وليفينيوس فارنر ، الذيْن كان بحوزتهما مخطوط لكتاب “المنقذ من الضلال

نهما حجة الإسلام الغزالي، وأبو الفلسفة الحديثة ديكارت.
1-المنطلق:
يقول الغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال): “وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي، لا باختياري وحيلتي، حتى انحلت عني رابطة التقليد.”
ويقول ديكارت:” كنت قد انتبهت، منذ سنواتي الأولى، إلى أني قد تقبلت كمية من الآراء الخاطئة على أنها آراء حقيقية وصادقة، وإلى أن ما أقمته على هذه المبادئ غير المؤكدة، لا يمكن أن يكون إلا أمورا مشكوكا فيها وغير مؤكدة، وذلك بحيث كان علي أن أقوم مرة واحدة في حياتي، بالتخلص من كل الآراء التي تلقيتها وصدقتها إلى ذلك الوقت، وأن أبدأ كل شيء من جديد ابتداء من الأسس، وذلك إذا ما كنت أريد أن أقيم قدرا من اليقين الصلب والثابت في المعارف والعلوم.”
2-المنهج:
عن الغزالي: ما دامت الحواس تخدعنا فتلتبس علينا الأمور، فلا خلاص إلا بالاستقلال والشك بالموروث، ويعبر عن ذلك في قوله: “الشك أول مراتب اليقين” وتأكيدا أضاف: ” إن الشكوك هي الموصلة للحقائق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بات في العمى والضلال”.
عن ديكارت: يقول في كتابه (مقال عن المنهج): “لا أقبل شيئاً على أنه حق ما لم أعرف يقيناً أنه كذلك، بمعنى أن أتجنب بعناية التهور، والسبق إلى الحكم قبل النظر، وألا أدخل في أحكامي إلا ما يتمثل أمام عقلي في جلاء وتميز، بحيث لا يكون لدي أي مجال لوضعه موضع الشك”. وهكذا شك في كل شيء إلا في الشك نفسه فقال:
“أنا أفكر، إذاً، فأنا موجود”. ويزيدها إيضاحا بهذه الصيغة الفلسفية:” ونحن حين نرفض على هذا النحو كل ما يمكننا أن نشك فيه، بل وحين نخاله باطلا، يكون من الميسور لنا أن نفترض أنه لا يوجد إله ولا سماء ولا أرض، وأنه ليس لنا أبدان. لكننا لا نستطيع أن نفترض أننا غير موجودين حين نشك في حقيقة هذه الأشياء جميعا، لأن مما تأباه عقولنا أن نتصور أن من يفكر لا يكون موجودا حقا حينما يفكر. وعلى الرغم من أشد الافتراضات شططا فإننا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الاعتقاد بأن هذه النتيجة: أنا أفكر، وإذا فأنا موجود، صحيحة.
وقد عثرت على مقالة للفخر الرازي شبيهة بهذه القولة حيث قال في كتابه (أساس التقديس في علم الكلام): ” الواحد منا حال ما يكون مستغرق الفكر والرؤية، في استخراج مسألة معضلة قد يقول في نفسه: إني قد حكمت بكذا (أو عقلت كذا) فحال ما يقول في نفسه: إني (عقلت كذا): يكون عارفاً بنفسه. إذ لو لم يكن عارفاً بنفسه، لامتنع منه أن يحكم على ذاته بأنه حكم بكذا، أو عرف كذا.”
3-النتيجة:
في رحلة بحثهما عن الحقيقة كابد الرجلان مختلف ألوان المشاق، وكلفهما ذلك التهام كتب السابقين وتمحيص أفكارهم، ونغص عليهما لذيذ طعم النوم وسائر الشهوات لأنهما أدركا منذ البداية أن مهر الحقيقة غال لا يقدر على إصداقه إلا الفرسان النبلاء. فكانت النتيجة –أقصرها على المستوى العقدي تاركا غيرها لأهل التخصصات الأخرى- كالآتي:
عن الغزالي: «الكشف نور يقذفه الله في القلب وهو مفتاح أكثر العلوم ومن أنكره فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة».
عن ديكارت: “إنني أدرك بجلاء ووضوح وجود إله قدير وخيِّر لدرجة لا حدود لها.”
وإذا كان بين العلميْن تشابه كبير في الجملة فقد عزاه بعضهم لاستفادة اللاحق من السابق مثل الباحث التونسي الراحل عثمان الكعاك حيث أنه عثر على نسخة من كتاب المنقذ من الضلال للإمام الغزالي، مترجمة إلى اللاتينية، في مكتبة ديكارت الخاصة بمتحفه في باريس، وفي إحدى صفحاتها إشارة بالأحمر تحت عبارة الغزالي الشهيرة “الشك أولى مراتب اليقين”، وعليها حاشية بخط يد ديكارت بعبارة “تُنقل إلى منهجنا”. ذلك رغم أن ديكارت لم يُشر إلى الغزالي في أي من مؤلفاته.”
قلتُ: وهذا لا يفسد للود قضية ولا يغض من قيمة الرجال ولا يحط من فخامتهم وعلو كعبهم في تخصصاتهم وفيه “تكامل للعلوم” -كما نافح عنه طه عبد الرحمن- وتراكم للأفكار مع تعاقب الأجيال لأن “العلم واحد في ذاته” كما أشار ابن خلدون في المقدمة، كما يحتمل ألا يكون بينهما أي استفادة إلا الهم الإنساني المشترك في البحث عن الحق والصواب أنى وُجد لأن الإنسانية واحدة في ذاتها.
وعطفا عليه، إن بينهما فروقا في التفاصيل والتضاعيف نذكر بعضها:

-1 سبب الشك عامة عند الغزالي هو أنه قرر أن يتقصى الحقيقة بنفسه ويتوصل إلى اليقين ليصبح إيمانه قائماً على الاقتناع العقلي وليس قائماً على الوراثة أما سبب الشك عامة عند ديكارت فهو فحص المعرفة واستبعاد الأفكار الخاطئة من العقل وتأسيس اليقين على أسس واضحة لامجال للشك فيها بعد ذلك .

-2سبب الشك في العقل عند الغزالي هو أنه ربما تظهر في المستقبل قوة أكبر من العقل تثبت خطأ أحكام العقل أما سبب الشك في العقل عند ديكارت فهو وجود شيطان ماكر منذ وجوده ظل يخدعه ويصور له الوهم على أنه حقيقة لذلك قد تكون الأحكام العقلية خاطئة بسبب هذا الشيطان الماكر .

3- وسيلة اليقين عند الغزالي هي الحدس القلبي أما وسيلة اليقين عند ديكارت فهذي الحدس العقلي المباشر .

4- توصل الغزالي إلى يقين إثبات الله أولاً ثم وجود النفس ثم وجود العالم الخارجي بينما توصل ديكارت إلى يقين وجود النفس أولاً ثم وجود الله ثم وجود العالم الخارجي .
وفي الختام يطيب لي أن أؤكد تكامل العلوم وتراكم المعارف بالقولة المشهورة: “غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون”، وفي قوة الحقيقة وبلوجها بقوله تعالى: ﴿فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض﴾ [الرعد:17] لأدعو المترشحين للكتابة والتصنيف لمواصلة العطاء والإنتاج قصد تنوير الرأي وترشيد السلوك الإنساني وقهر الظلام.

☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆

الشك المنهجي حسب الغزالي:

☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆

ما هي مقومات المنهج الفلسفي، أي منهج الشك المنهجي، عند الغزالي؟
يرى الغزالي أن الشك في جميع المعارف التي يتلقاها المرء أمر ضروري لبلوغ الحقيقة. يقول في كتاب ميزان العمل: “الشكوك هي الموصلة إلى الحق فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال”، (ميزان العمل، ص 409). والبصر هنا دليل على القدرة على رفض المعرفة الخاطئة كيفما كان مصدرها، لذلك يقول في المنقذ: “ومن قلد أعمى فلا خير في متابعة العميان” (المنقذ، ص 77) ويقول في ميزان العمل: “انظر ببصرك فإن كنت أعمى فما يغني عنك السراج والشمس” (ميزان العمل، ص 228). والشك الذي يقصده الغزالي ليس ارتيابيا، وإنما منهجي لأنه يؤمن بوجود حقيقة. وما دفع الغزالي للتعاطي للشك هو كثرة المذاهب والطائف واختلافاتها وادعاءها جميعا بامتلاك الحقيقة. يقول في “المنقذ من الضلال”: “… أتفحص عن عقيدة كل فرقة وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محق وباطل” (المنقذ، ص 64). واتضح له أن سبب الآفة هو التقليد والتلقين، لذلك وجب الشك في ما ينتج عنهما من معارف، وهو لم يشك في العقيدة، وإنما شك في طرق تلقينها وتعليمها. فهو يقول من جهة: “رأيتُ صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام” (المنقذ) ويقول من جهة أخرى: “كان قد حصل معي إيمان يقيني بالله تعالى، وبالنبوة وباليوم الآخر. هذه الأصول الثلاثة من الإيمان كانت رَسَخَتْ في نفسي بأسباب وقرائن وتجاريب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلُها” (المنقذ، ص 125).
يهاجم الغزالي الحواس بسبب خداعها، ويقدم عدة أمثلة على ذلك في كتابيه “معيار العلم” و”المنقذ من الضلال”. وهكذا يتضح منذ البداية أن التخلص من التقليد والتلقين والتسلح بالشك الموصل للحقيقة ليس كافيا، فظهر أن عدو الحقيقة الآخر هو الحواس. يقول الغزالي في “المنقذ”: “من أين الثقة بالمحسوسات وأقواها حاسة البصر، وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفا غير متحرك وتحكم بنفي الحركة؟… هذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيبا لا سبيل إلى مدافعته. فقلت قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضا” (المنقذ ص 71).
ثم يتأمل الحقائق الرياضية التي تمثل المعارف العقلية خير تمثيل فيحدها هي بدورها غير يقينية، ويتصور حوارا بين المحسوسات والعقليات جاء فيه: “فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات، وقد كنت واثقا بي، فجاء حكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر في تصديقي” (المنقذ، ص 72). ويضيف موضحا هذا النقد وضرورته: “ولعل وراء إدراك العقل حاكما آخر إذا تجلى كذب العقل في حكمه، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحي في حكمه. وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته” (المنقذ، ص 72).
بل يذهب بعد تفنيده للحواس والعقل، إلى افتراض وجود من يضلنا ويغوينا (وهو ما يذكرنا بالمضل الديكارتي سواء كان إلها أو شيطانا). يقول في كتابه “الاقتصاد في الاعتقاد”: “فهب أنهم رأوا الله تعالى بأعينهم وسمعوه بآذانهم وهو يقول: (هذا رسولي ليخبركم بطريق سعادتكم وشقاوتكم)، فما الذي يؤمنكم أنه أغوى الرسول والمرسل إليه، فبمَ نعلم صدقه، فلعله يُلبِّسُ علينا ليغوينا ويهلكنا” (الاقتصاد في الاعتقاد، ص 102).
لقد اتبع الغزالي في نهجه خطوات محددة بدأت بالشك ولا بد أن تقوده لليقين، وهي لا توجد مجتمعة منظمة ومرتبة كما نجد ذلك عند ديكارت، ولكنه تطرق لها في كتبه، ويمكن إيجازها كما يلي:

  • الشك المنهجي في كل أفكار عصره وعدم قبول تعدد الحقائق لن الحقيقة لا بد أن تكون واحدة.
  • التحرر من التقاليد باسم الفطرة الأصلية ورفض العقائد العارضة بتقليد العائلة وتلقين المعلمين لأن “من عول على التقاليد هلك هلاكا مطلقا (معراج السالكين، ج 3، ص 173)
  • إتباع قواعد منهجية هي: 1) البداهة واليقين (يقول في “المنقذ”: “إن العلم اليقين هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم”). 2) المراجعة والتأكد من عدم إغفال أي جانب من جوانب المسألة المعالجة (يقول في محك النظر: “أن يتيقن بأن يقينه لا يمكن أن يكون فيه سهو ولا التباس ولا يجوز الغلط لا في تيقنه بالقضية ولا في تيقنه الثاني بصحة يقينه”، محك النظر، ص 55). 3) اجتناب التسرع واتخاذ الحكم (يقول في معيار العلم: “وأكثر الغلط يكون في المبادرة إلى تسليم مقدمات البرهان على أنها أولية، ولا تكون أولية بل ربما تكون محمودة مشهورة أو وهمية”، معيار العلم، صفحة 247). 4) عدم التناقض (يقول في معيار العلم: “فالتناقض في البراهين الجامعة للشروط التي ذكرناها محال…”، معيار العلم، ص 247). 5) الثقة في الحكم.
    فما هو الحل الذي قدمه الغزالي للخروج من الشك وبلوغ اليقين؟
    يقفز الغزالي فجأة إلى خارج العقل ليجد الحل في “النور”، نور يأتي من الله، من خارج الحواس والعقل معا. يقول الغزالي في “المنقذ من الضلال”: “وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف” (المنقذ من الضلال، ص 74).
    طبعا فالسؤال الذي يفرض نفسه بصدد هذا المخرج هو: هل الحل الذي عثر عليه الغزالي هو حل عقلي أو حل صوفي؟

الشك المنهجي حسب ديكارت:

يشبه ديكارت، كما فعل الغزالي، من لا يتفلسف، بالإنسان الذي لا يستخدم عينيه وهو يمشي، فيسترشد بشخص آخر ويغمض عينيه. كما بدأ ديكارت بنقد ورفض التقليد والعادة كمصدرين للمعرفة. يقول في المقال عن المنهج: “تعلمت ألا أعتقد اعتقادا جازما في شيء ما بحكم التقليد أو العادة، وكذلك تخلصت شيئا فشيئا من كثير من الأوهام التي تستطيع أن تخمد فينا النور الفطري” (المقال عن المنهج).
هدف ديكارت، مثله في ذلك مثل الغزالي، إلى بلوغ الحقيقة، وهذا يجعل شكه منهجيا. يقول: “كانت رغبتي شديدة دائما في أن أتعلم كيف أميز الحق من الباطل” (المقال عن المنهج). لم يتنكر ديكارت للعقيدة ولا للقواعد الأخلاقية، كان يريد بلوغ الحقيقة بقوة العقل الفطرية (وهو ما أسماع الغزالي حقيقة الفطرة الأصلية). وبعد رفضه للمعارف الناتجة عن التقليد والعادة، هاجم ديكارت الحواس، وطالب بالتخلص من جميع المعارف التي يحصل عليها المرء “من الحواس أو بواسطة الحواس” (التأملات). ويضيف قائلا: ” كل ما تلقيته حتى اليوم وآمنت بأنه من أصدق الأشياء وأوثقها، قد اكتسبته من الحواس أو بواسطة الحواس، غير أني جربت هذه الحواس في بعض الأحيان فوجدتها خداعة، ومن الحكمة ألا نطمئن كل الاطمئنان إلى من خدعونا ولو مرة واحدة” (التأملات – ص 54). وبعدما عبر عن ثقته في المعرفة العقلية مقارنة مع المعارف الناتجة عن الحواس التي تبين خداعها، عاد ليشكك في المعرفة العقلية نفسها. يقول في “التأملات”: ” ومع ذلك فإن معتقداً قد رسخ في ذهني منذ زمن طويل، وهو أن هناك إلهاً قادراً على كل شيء، وهو صانعي وخالقي على نحو ما أنا موجود، فما يدريني لعله قد قضى بأن لا يكون هناك أرض ولا سماء ولا جسم ممتد ولا شكل ولا مقدار ولا مكان، ودبَّر مع ذلك كله أن أحس هذه الأشياء جميعاً، وأن تبدو لي موجودة على نحو ما أراها؟ بل لما كنت أرى أحياناً أن أناساً يغلطون في الأمور التي يحسبون أنهم أعلم الناس بها، فما يدريني لعله قد أراد أن أغلط أنا أيضاً كلما جمعت اثنين إلى ثلاثة، أو أحصيت أضلاع مربع ما”‏ (التأملات ص 57). ويرتبط نقد العقل بفكر الكائن المضل سواء كان شيطانا أو إلها. وبما أن الله منزه مبدئيا على أن يضل الإنسان فقد افترض ديكارت أن هذا الكائن المضل هو الشيطان. يقول: ” وإذن سأفترض أن الله ليس هو من يضلني، بل شيطان خبيث ذو مكر وبأس شديدين قد استعمل ما أوتي من مهارة لإضلالي” (التأملات، ص 57).
ويمكن إيجاز منهج ديكارت في الخطوات التالية:

  • الشك المنهجي: رفض ديكارت شك الشكاك الذي لا يهدف إلى بلوغ شيء، أي رفض الشك من أجل الشك. ووضع مبدأين لخطوته هذه هما: 1) ليبحث الإنسان عن الحقيقة لا بد له أن يشك في جميع الأشياء ولو مرة واحدة في حياته. 2) على من يشك أن يعتبر جميع الأشياء التي يشك فيها غير صحيحة.
  • التحرر من جميع القيود في مجال المعرفة برفض كل فكرة ليست حقيقية.
  • وضع قواعد منهجية يجب إتباعها لبلوغ اليقين، وهي أربعة: 1) قاعدة البداهة واليقين، أي أن لا أتلقى شيئا على أنه صحيح وحقيقي ما لم يكن كذلك بالبداهة أي ما لم يتسم بالوضوح والتميز. 2) قاعدة التحليل، أي أن أقسم كل مسالة إلى أجزاء لحلها على الأوجه الأحسن. 3) قاعدة الترتيب والتركيب، أي أن ارتب أفكاري وابدأ بأبسط الأمور معرفة، وأتدرج صعودا حتى الأمر الأكثر تركيبا. 4) قاعدة الإحصاء، أن أقوم بإحصاءات كاملة ومراجعات عامة تضمن لي أنني لم أغفل شيئا.
  • وسيلتان للعقل لبلوغ الحقيقة: هما الحدس الذي هو استيعاب مباشر لطبيعة الشيء ولماهيته والاستدلال، الذي هو معرفة تعتمد على معارف سابقة أي هو نوع من الاستنتاج.
    ما هو الحل الذي اقترحه ديكارت للخروج من الشك؟
    يكمن الحل في الحقيقة البديهية الواضحة والمتميزة والتي صاغها ديكارت على النحو التالي: “أنا أفكر فأنا موجود”، فالكوجيطو الديكارتي قائم على الأنا المفكرة. يقول ديكارت في التأملات: “أنا موجود ما دمت أفكر، فقد يحصل أني متى انقطعت عن التفكير تماما انقطعت عن الوجود بتاتا. إذن فما أنا إلا كائن مفكر، أي روح أو ذهن أو عقل” (التأملات، ص 96). ويقول في المقال عن المنهج: “ولما رأيت هذه الحقيقة “أنا أفكر فأنا موجود” هي من الرسوخ بحيث لا تزعزعها فروض الشكاك، حكمت بأني أستطيع مطمئنا أن أتخذها مبدأ للفلسفة التي كنت أبحث عنها” (المقال عن المنهج، ص 143). لكن هذا الحل يرتكز في آخر المطاف على الله، يقول ديكارت: “لقد اتضح لي كل الوضوح أن يقين كل علم وحقيقته إنما يعتمدان على معرفتنا للإله الحق، بحيث يصح لي أن أقول: إني قبل أن أعرف الله ما كان بوسعي أن أعرف شيئا آخر معرفة كاملة” (التأملات، ص 56).

ما مكانة الميتافيزيقا في فلسفة ديكارت؟ إن الميتافيزيقا هي أولا معرفة الله والذات. ومعرفة الله هنا هي مجرد وسيلة وليست هدفا. فهدف ديكارت هو التوصل لأحكام يقينية عن جميع الموضوعات. ولا يمكن تحقيق ذلك دون العثور على اليقين في الله. ولقد توصل ديكارت إلى عدم وجود أي يقين بدون الارتكاز على وجود الله.
فلا وجود لليقين في الأشياء المحسوسة، ولا في الأمور الرياضية. فالشك الديكارتي، الذي هو الشك المنهجي، يحول دون الانطلاق من الأشياء المادية للوصول إلى الله.
اتبع ديكارت في شرح ميتافيزيقاه ترتيبا محددا يتضمن العناصر التالية:

  • الشك في وجود الأشياء المادية وفي يقين الرياضيات.
  • اليقين المطلق في الكوجيطو (أنا أفكر فأما موجود)
  • البرهنة على وجود الله
  • وجود الله يضمن صحة أحكامنا التي تقوم على أفكار واضحة ومتميزة.
  • اكتساب اليقين بخصوص ماهية الجسم المتمثلة في الامتداد ووجود الأشياء المادية
    إذن فميتافيزيقا ديكارت تنطلق من الشك إلى اليقين، أي تنطلق من حكم أول يقيني، هو الكوجيطو، لتصل إلى أحكام يقينية أخرى.
    إن وظيفة الكوجيطو الديكارتي مزدوجة: فهو يمثل نموذجا أساسيا لليقين من جهة، ويمهد للتمييز ما بين النفس والجسم من جهة أخرى. (التمييز وليس الفصل).
    يقتصر يقين الكوجيطو الديكارتي على وجود الفكر. والفكرة عند ديكارت هي “ما يتصورُه الذهن مباشرة” سواء تعلق الأمر بفكرة شيء ملموس أو فكرة شكل هندسي أو غيرهما.
    ويميز ديكارت بين ثلاثة أنواع من الأفكار: أ) أفكار صادرة عن الحواس تشير لموضوعات خارجية مثل اللون والصوت، ب) أفكار من صنع الخيال، ج) وأفكار فطرية نتعرف عليها مباشرة مثل فكرة الوجود والنفس والعدد والحركة والحقيقة والامتداد والله وهي أفكار لا شك فيها. وهذه الأفكار حقيقة وتوجد في الذهن موضوعيا.
    الحقيقة الديكارتية الأولى هي: “أنا أفكر فأنا موجود”، وهي حقيقة واضحة ومتميزة، ولا يمكن قبول أية حقيقة أخرى خارجها إذا افترضنا مثلا وجود من يخدعنا (الشيطان الماكر أو الله كليُّ القدرة). لذلك إذا برهنا على وجود الله فسنتمكن من الخروج من النفس إلى العالم الخارجي. وهناك ثلاثة أدلة (أو حجج) على وجود الله:
  • الدليل الوجودي أو الأنطولوجي (هكذا سمّاه كانط في كتابه نقد العقل الخالص): الله موجود لأن فكرة الله الكامل موجودة في الذهن، وبما أنه يتصف بجميع أنواع وصفات الكمال، وبما أن الوجود صفة من صفات الكمال، فهو إذن موجود. فالله الموجود في الذهن كمفهوم، لا بد أن يوجد بالفعل في الواقع لكل كامل لا يقبل النقص.
  • دليل فكرة الكمال: توجد في الذهن فكرة الكمال، وبما أن الإنسان كائن ناقص فلا يستطيع أن يكون هو مصدر فكرة الكمال، وبالتالي فمصدرها هو الله، إذن فالله موجود.
  • دليل الوجود الخاص بكل إنسان: إن الوجود الخاص بكل إنسان لا يجد سببه في الإنسان نفسه، لأنه لو كان الأمر كذلك لخلق الإنسان نفسه كاملا، وبالتالي فسبب وجود الإنسان واستمراره في الوجود يعود لكائن كامل هو الله.
    بعد أن أثبت ديكارت أنه موجود ككائن مفكر، وأن له نفسا متميزة عن البدن، وبعد أن أثبت وجود الله الذي هو ضامن كل صدق الحقائق التي تمتلكها النفس، توجّه نحو العالم الخارجي لينظر في وجوده أو عدم وجوده.
    يوجد العالم الخارجي كامتداد. فالذات المفكرة تملك أفكارا واضحة ومتميزة من جهة، وتملك أفكارا غامضة من جهة ثانية. وليست النفس هي مصدر هذه الأفكار الغامضة، وإنما مصدرها شيء آخر غيرها. وهذا دليل على أن النفس متحدة بالجسم، وبما أن النفس تشعر عبر الجسم المتحد بها بِفعل وبِتأثر أجسام أخرى، فهذا يدل على وجود الامتداد خارج الذات، الامتداد الذي هو صفة للعالم الخارجي.

استنتاجات من البحث بين الفيلسوفين ديكارت والغزالي

☆☆☆☆☆☆☆☆☆▪︎☆☆☆☆☆☆▪︎☆

يمكن تقديم مجموعة من الملاحظات المختصرة على سبيل المقارنة:

  • دعا كل من الغزالي وديكارت إلى التحرر من الأحكام المسبقة والأوهام والخيالات والتقليد من أجل الوصل لمعرفة يقينية من نتاج العقل وحده.
  • اعتمد كل من الغزالي وديكارت على منهج أساسه الشك المنهجي. وتجلي ذلك في التخلي عن المناهج الموروثة ورفض تعدد الحقائق والبحث عن حقيقة واحدة جلية.
  • ارتبط الشك المنهجي عند الغزالي وديكارت بتجربة شخصية وجهد شخصي وتأمل فلسفي.
  • انتقدا معا خداع الحواس والعقل.
  • حضرت فكرة الإله المضل والشيطان المضل بشكل أقل وضوحا عند الغزالي مقارنة بديكارت. نجد هذه الفكرة عنده بوضوح كبير.
  • لجأ الغزالي للحل الصوفي من خلال فكرة النور الذي يقذفه الله في الصدر بينما التزم ديكارت بالحدس العقلي
  • يتم الحديث في حالة ديكارت عن مرحلة المنهج، أي أن المنهج كان مركزيا في فلسفته وكان وثيقة الصلة بالعلوم والحقيقة بشكل عام . يقول نجيب بلدي أن مؤلفات مرحلة المنهج هي “القواعد لتوجيه العقل”، والمقال عن المنهج” وإجاباته عن الاعتراضات الثانية في “التأملات”. (نجيب بلدي، ديكارت، دار المعارف، ط 2، ص 48-53).
  • ارتبط المنهج الديكارتي بالعلوم عامة وبالرياضيات خاصة في حين لا جد نفس الأمر عند الغزالي الذي ركز اهتمامه على رفض تعد الحقائق كما تدعي ذلك المذاهب والطوائف الفكرية.
  • فكرة الكوجيطو عند ديكارت مركزية، بينما ليست كذلك عند الغزالي، وهو ما جعل المستشرق الإيطالي جيوفاني فورلاني G.Gurlani يقول أن ديكارت تأثر بابن سينا في مسألة “أنا أفكر فأنا موجود” اعتمادا على نص لابن سينا عنوانه “الرجل الطائر” (الوارد في كتاب الشفاء، قسم الطبيعيات)، ويؤكد نفس الأمر يان باكوش (1890-1967) Ján Bakoš (اللاهوتي والسيميوطيقي والمستشرق السلوفاكي) الذي حقق كتاب الفن السادس من الطبيعيات (علم النفس) من كتاب الشفاء لابن سينا.

وفي الختام، يمكن القول أن أهمية التفكير في علاقة الغزالي بديكارت تكمن في التأكيد على وحدة المعرفة الإنسانية، وعلى الدور الحاسم للسياق التاريخي المعرفي والعلمي والسياسي والاقتصادي الذي يعطي معنى مختلفا لنفس الأفكار الفلسفية، وفي جميع الأحوال فإن التشابهات بين الغزالي وديكارت تفرض على المرء التفكير والتساؤل

المصادر

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

المنقذ من الضلال / الامام الغزالي

معيار العلم في المنطق / الغزالي
مقال في المنهج / ديكارت
ديكارت والعقلانية/ ترجمة عبدو الحلو تاليف
جونيفاف روديس لويس
محمد حمدي زقزوق / المنهج بين الغزالي وديكارت