بيبليوغرافيا د. عبد المنعم أكريكر

اختبار الماستر.. ورؤية الأستاذ..
بعد أخذي لشهادة الإجازة من كلية الشريعة بفاس ، بدأت أتسبب فيما يتسبب به الناس من أمر اتمام الدراسة العليا، فدفعت ملفا في فاس في وحدة” المصطلح الأصولي” وكان بي شوق أن أتابع فيها لشغفي بعلم الأصول، لكنهم لم ينادوا علي حتى للانتقاء الأولي ، ثم أخبرني بعض الأصدقاء أن ماسترا جديدا بمكناس قد فتح، فدفعت إليه، ونودي علي للمقابلة الشفاهية، فوجدت جمعا من الطلبة أمام القاعة قد وضعوا ورقة ترتب فيها الأسماء، ولأني مستعجل أن أعود إلى العمل في الحصة المسائية، فسجلت نفسي الثاني بعد الأول، فدخلت على اللجنة وكان فيها الدكاترة الفضلاء: د عبد الرحمن حيسي، ود خالد ميقالي، ود عبد الله لخضر، ود عبد الحق حنشي، ود عبد الرحمن اقشيش، ولا أعرف فيهم أحدا، وهؤلاء أعيان شعبة الدراسات الإسلامية بمكناس؛ ثم لما بدأ الاختبار بقليل دخل الدكتور فريد رحمه الله، بطلعته البهية معتذرا للأساتذة عن التأخر، فواصل الأساتذة السؤال، والعرف الجاري في مثل هذه المقابلات أن الطلبة الأفاقيين يشدد عليهم في الأسئلة ما لا يشدد على أبناء الكلية..فكان امتحانا حامي الوطيس، لا تلمس فيه أدنى مساحة من الانبساط، لكن الله عندما يأذن بشيء يهيء أجوبة لا تخطر على بال المرء، فسالني الدكاترة الأجلاء كل في تخصصه، واسترسلت مع الدكتور ميقالي في التصحيح والتضعيف عند المعاصرين،- وكما قلت في منشور سابق إن اللباس والهيئة يصنف الشخص بمجرد رؤيته- فظنني من أولئك، فذكرت له ما قاله ابن الصلاح في مقدمته، واستشهدت عليه بنظم الحافظ العراقي في الفيته؛ فانبسط وانشرح واسترسل معي.. فلما جاء دور الأستاذ فريد قالوا له : اسأل. قال هذا الذي سمعته فيه كفاية جدا..ثم أخذوا بطاقة تعريفي الوطنية يوثقون الاسم في المحضر، فرأى الأستاذ أن مهنتي ” أستاذ” ، وأنني أقيم ببلدة نزالة بني عمار، فهنا سألني ماذا تدرس؟ قلت له : التربية الإسلامية، فقال لي أعطني رقم هاتفك، فإنك أريدك لأمر، ولكن لا علاقة له بهذا الامتحان، فقلت له هذه الجملة بنبرة قوية : “الامتحان أمره إلى الله إن شاء أمضاه أمضاه”..فأعطيته الرقم، ثم خرجت..

ما بعد الاختبار..
مر اليوم الأول من الاختبار، عدت إلى بلدتي، استرجعت أنفاسي وسكن رُوعي، وهذه عادتي بعد أن أفعل سببا شرعيا أحاول الابتعاد عن التفكير في آثاره الإيجابية- في ظني- ما أمكن، وأربط القلب بالله إلى درجة أن يقل السبب في الظهور، ولا أتذكر منه إلا الهنات التي يمكن أن أوتى من قبلها، وأنا على إدراك تام بضررها وأثرها إن لم يتداركني الله بلطفه ورحمته..
وفي اليوم الثاني بعد رجوعي من المسجد من صلاة الظهر، وأنا أتهيأ للذهاب إلى العمل رن هاتفي على رقم من أرقام الثابت، فخطر في بالي كل متصل إلا أن يكون المتصل الأستاذ رحمه الله، فكان هو، ولما رأى ارتباكي وتلعثمي في الكلام آنسي بكلمات رقيقات لطيفات، ثم شرع يتحدث فقال: لقد أعجبت اللجنة بجوابك أمس أيما إعجاب؛ إلا أن هناك إشكالا وهو أن الإدارة أسرت إلينا أن الإصلاح الجديد للدارسات العليا يتطلب الحضور التام مما يعني تحاشي قبول الموظفين، وقال لي: سأعمل بتنسيق مع منسق الماستر الدكتور الفاضل عبد الرحمن حيسي على حل هذا الإشكال مع الإدارة، أما المقصود من الاتصال، وهو أن تلك البلدة التي أنت فيها هي تابعة لنفود المجلس العلمي، ولا أحد عندنا فيها يقوم بنشاط وعظي، فهل عندك تزكية في الوعظ ، قلت نعم من المجلس العلمي بالقنيطرة وفاس، قال: فاقدم علي غدا إلى المجلس صباحا لأتذاكر معك في هذا الشأن..
مر علي اليوم فرحا مسرورا أن كلمي الأستاذ الدكتور، وفي شوق لأن يطوى بقية اليوم والليلة لأقابله عيانا..
في الصباح الباكر جدا خرجت صوب مدينة مكناس ، فوصلت التاسعة صباحا إلى مقر المجلس، وبينما أنا هكذا التفت يمنة وبسرة في مدخل المجلس بالمقر القديم، إذا بالأستاذ يصل فييمم اتجاهي وبادلي التحية، ويمسك بيدي يحاذيني في المشي حتى فتح مكتبه وأدخلني..
ثم بدا يطلب مني أن أحكي له عن أحوال البلدة مذكرا إياي بتاريخها القديم؛ أنها كانت بلاد حفظة القرآن وتلقين العلوم الشرعية، خصوصا بعض المداشر فيها، فهل ما تزال كذلك؟، قلت له لا : الحال تغير كثيرا، فقال مهمتنا أن نحيي فيها على الأقل تحفيظ القرآن كما كان..
ثم نادى على الكاتبة وقال لها انظري وثائق الأستاذ؛ فإني أريد أن أكتب له إذنا بالوعظ والإرشاد بمنطقة نزالة بني عمار…يتبع

مداولات الماستر وبدء الدراسة..
كان الماستر الذي أجريت المقابلة الشفاهية فيه اسمه:” ماستر الاجتهاد والتجديد والتواصل الحضاري”، وهو أول ماستر بشعبة الدراسات الإسلامية بمكناس بعد إلغاء الدولة لنظام ” دبلوم الدراسات العليا المعمقة”، واستبداله بنظام الماستر؛ فشدد الإصلاح الجامعي على قضية الحضور، وأدخلت مواد متنوعة، وحصص كثيرة ، وفصول أربعة بتقويماتها، بخلاف نظام ” المعمقة” ، وهكذا حددت اللجنة التربوية للماستر يوما للمداولة، وأخبر الأستاذ الأنصاري به، وكان عازما على حضوره[ هذه المعطيات حكاها لي مشافهة بعد مدة من ظهور النتائج]، لكن القدر سبق بإخباره باجتماع عاجل بالمجلس العلمي الأعلى بالرباط، وحضوره ضروري، فقال لي: ذهبت وعقلي في اجتماع اللجنة؛ أتابع سير أعمالها بالهاتف خطوة خطوة، فلما وصلوا إلى قضية الموظفين، ألقى علي منسق الماستر هذا الإشكال، لأبحث له عن حل، فقلت له: أحصرتم لائحة الناجحين بالاستحقاق؟ ، قال: نعم. فقلت: كم خرج لكم من موظف؟ ،قال: اثنان: ذاك الأستاذ بنزالة بني عمار، وأستاذة هنا بمكناس، فقلت حُلَّ الإشكال بإذن الله، هذا عدد قليل جدا، ثم الموظفان يعملان بإقليم مكناس، إذا اكتبوا تقريرا بهذه الحيثية، وسأدخل به على السيد العميد لما أرجع، وفعلا تم ذلك، وقبلت الإدارة تخريج الأستاذ، وأعلنت النتائج، وبدأت الدراسة.
ومن أقدار الله أن لجنة هذا الماستر ألزموا أنفسهم ألا يقبلوا إلا أهل الاستحقاق، ومن هنا نعلم لماذا كان امتحانه شديدا، ولم تكن فيه أدنى مساهلة كما اخبرتكم سابقا؟، فخرج في هذا الفوج طلبة مجدون بزيادة، ومن كليات ومناطق مختلفة من المغرب.
وعقده الجوهري منسقه السيد الفاضل الدكتور عبد الرحمن حيسي، هذا الرجل أمره عجيب جدا؛ إذ له نظرة خاصة للعمل الوظيفي؛ قلما وجدتها ، وهو أنه ينظر إليه على أنه عمل تعبدي، فلا هَمَّ له إلا العمل بالجامعة وبيته، فيحمل هم العمل كما يحمل همومه الأخرى على درجة واحدة، بل لا أبالغ إذا قلت أن هم العمل عنده أغلب من أموره الخاصة، ويكرر هذه الجملة” هادوا اولداتنا بغينا الله اينفع بهم في هذه البلاد”؛= ” هؤلاء أبناؤنا نيتنا وقصدنا أن ينفع الله بهم في هذه البلاد”؛ فكان يحرص على الطلبة كأنهم أبناؤه، يسأل عن أحوالنا، يختار لنا أفضل الأساتذة للتدريس، يرفع من هممنا في محاضراته، يدافع عنا أمام الإدارة، لأنه في الحقيقة خرج فوجنا كأننا” طلبة ديال الجامع” الجلابيب أو الأقمصة، واللحي في الغالب، مع كبر السن.. فجزاه الله خيرا، وكثر من أمثاله.
وكذلك أمر آخر وجدته في مكناس أن أساتذته في الغالب تقل بينهم وبين الطلبة المسافات، هذا طبعا مع الأدب والاحترام، فلا تكاد تجد تلك” الرسميات والحدود” بينهم وبين الطلبة، كما في كليات أخرى؛ فكان ماسترا حافلا بكل شيء، محاضرات مركزة، وعروض متقنة، ومناقشات حامية ومفيدة، وفيه من النكتة والدعابة أيضا، وخصوصا من طالب موريتاني، وطالب من الدار البيضاء، ولا أخفيكم أن فكرا ما جديدا تولد عندي في هذا الماستر، فكان لحظة فارقة بين ما كنت عليه سابقا، وما صرته لاحقا…

يوم أن زارنا الأستاذ فريد الأنصاري- رحمه الله- بالبلدة الوادعة نزالة بني عمار..
هذه البلدة أفاضت علينا من بركاتها، وعلمت يقينا قوله تعالى:” وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا”، فكانت سببا في فتوحات كثيرة، وذات يوم اتصل بي السيد منسق الأنشطة بالمجلس العلمي بمكناس، وقال لي إن الأستاذ يطلب منك أن تجمع أئمة المنطقة وفقهاءها، وتعلن في الناس أن السيد رئيس المجلس العلمي سيأتي في زيارة رسمية- يوم كذا مع صلاة العصر- لمسجد البلدة؛ مع الأعضاء وبعض الوعاظ المتعاونين مع المجلس، وفعلا قمت بما طلب مني، وبدأت بالإعلام، هذا يعلم هذا، وذاك يعلم ذاك، إلا أن الأستاذ كان عنده نشاط آخر في نفس اليوم بمدينة زرهون، فأخروه عن الوصول إلينا قليلا، فنادى علي بالهاتف بعد أن صلينا العصر، وتعذر عليه الوصول قبله، وقال لي: اعتذر لعموم الناس واتركهم يمشون، وامسك لي الأئمة والفقهاء، فحاجتي بهم أكثر من عموم الناس، فبقينا في المسجد ننتظره إلى أن سمعنا بوصول سيارات الضيوف، فخرجنا لاستقبالهم والترحيب بهم، ودخلنا إلى المسجد، وقال لي في أذني، وقد قصدنا المحراب ليجلس من إجل إلقاء كلمته، نجلس على مذهب مالك : أن لا صلاة بعد صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس، وشرع في إلقاء كلمته.. فتحدث عن أهمية القرآن، وواجب الأئمة في المحافظة عليه، وعلى الأعراف المتعلقة بتحفيظه، ومنها عرف “ترتيب الطلبة” من أجل حفظ القرآن؛ كما كانت هذه البلدة ونواحيها معروفة به في السابق، بل مما جاء في كلامه :” أن كل إمام لو جمع عنده أربعة من الطلاب فصاعدا، فليسجل أسماءهم، وليقدم إلى الأستاذ بها من أجل أن يرصد له إعانات من المحسنين تشجع الطلاب على ملازمة الحفظ ، وتوفر لهم بها ما يحتاجونه من مؤنة”، ثم أنهى كلمته ، وأخرج من جيبه قدرا من المال، وقال للفقهاء : “هذا من مالي الخاص، اقسموه بينكم بالسوية ، وادعوا لي بظهر الغيب، فإني مريض هذه الأيام..”، ثم أخرج قدرا آخر من المال ، وقال: انه من أحد المحسنين، وزاد مؤكدا على قسمة المال بالسوية لما رأى طالبا حديث السن، قال لهم بالحرف الدارج “كيف الكبير كيف الصغير”. = أي حق طالب القرآن الصغير من المال، كحق الحافظ أو الفقيه الكبير..
ثم ختم المجلس ؛ فكان ختما مؤثرا ،ودعا له الجميع وتأثروا، وبكى بعضهم، ثم خرجنا وقال لي: إلى أين الآن يا عبد المنعم؟ ، فقلت له يا أستاذ إلى مقر عملي بالإعدادية؛ فإن السيد المدير قد اغتنم المناسبة، وجمع لك التلاميذ من أجل أن تلقي فيهم كلمة توجيهية، فانطلقنا إلى الإعدادية، ووجدنا السيد المدير والأساتذة في استقبالنا، فرحبوا ترحيبا حارا بالأستاذ وضيوفه، ودخل إلى المؤسسة؛ فرأي ساقية الماء، فقصدها، وقال: نشرب من هذا الماء المبارك لعله يكون شفاء، ثم انطلق إلى أن وصل إلى قاعة اجتماع التلاميذ، وكانت كلمته من وحي المكان: أنْ رأى الإعدادية في غابة من أشجار الزيتون، مرافقها متباعدة لشساعة مساحتها، فتحدث عن قضية ” التلوث الضوضائي في المدن وأثره على الفكر النفسي والعقلي ” ، وذكرنا بنعمة موقع المؤسسة والبلدة؛ فأحيا فينا شكرا بنعم، ربما جحدناها لكثرة إلفنا لها، وحصلت نفحات ربانية، وسكن الجميع كأن على رؤسهم الطير، وأمنوا على أدعية نورانية صدرت من الأستاذ في ختام الكلمة، وتنمى الكل أن لو لم يختم الأستاذ كلمته.. ولكن كما قال الشاعر:
ولو نُعطى الخيارَ لما افترقنا **ولكن لا خيارَ مع الزمانِ!
ثم شيعه الجميع في موكب مهيب إلى باب المؤسسة، فودعناه ثم افترقنا..

قصتي مع المدير..
في القرية الوادعة ” نزالة بني عمار” إقليم مكناس، الحياة بطيئة جدا، لكنها غير مملة، غالب الأساتذة على قلتهم ينتقلون يوميا إلى مكناس عبر مجموعات، تكون عندهم سيارة يتعاونون على مصاريفها، وقلتهم مستوطن تلك البلدة، منهم أنا والمدير الجديد للعام الثاني من تعييني سي محمد بركان، وهذا المدير أمره عجيب جدا؛ إذ هو منعزل تاما عن الناس، ولا يندمج مع أي أحد، غير متزوج مع تقدمه نسبيا في العمر، لكنه اندمج معي، وكونا صداقة، نجلس في المقهى، ونخرج بين الفينة والأخرى، هذه الصداقة اشغلت القرية والمحيط العام لأيام وأشهر أو أكثر لتفسيرها، ولم يجدوا لها جوابا، هو منعزل بطبعه، وأنا منعزل بطبعي، ومع ذلك تصادقنا..، ولكن في حقيقة الأمر؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ” الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف. “فما رأيت طيبة ونقاء صدر، وتركا لما لا يعنيه من هذا المدير.. ففي عامي الأول من التعيين، لم أكن أعرفه جيدا بعد، وكان هو حارسا عاما للخارجية، وتعرفون أن أجرة الأستاذ الجديد تتوقف لأشهر أو سنة ، وربما أكثر .. فيبحث الأستاذ الجديد عمن يقرضه.. ،وصادف أن تذاكر الأساتذة في طريقة لاقراضي، فقال لهم اتركوا هذا الأمر لي، وناداني يوما إلى مكتبه، وأغلق الباب، وقال لي بأدب: أمحتاج إلى مال؟؟ وكان عيد الأضحى على الأبواب، وكنت متزوجا وعندي ابن، قلت نعم، فقال لي كم تريد في الشهر؟، قلت كذا، فقال لي سأوفر لك هذا المبلغ عند رأس كل شهر، وتكلف أنت بتدوين مبلغ الإقراض عندك، إلى أن تتسلم راتبك، وفعلا؛ كأني كنت آخذها من الصراف الآلي، يتحين الفرصة ألا يكون أحد، ويضعها في ظرف ويسلمها إلي..
وتوطدت علاقاتنا بعد، فصادقته طيلة عملي بالإعدادية، شجعني على اتمام الدراسة الجامعية، وكان متهمما بها، ويقول لي : “الحياة لا تساوي شيئا بدون المعرفة”، كان يعرض علي مشاكل العمل، ومشاكله الخاصة،فأبذل وسعي في إعطائه الرأي، وكثيرا ما كان يأخذ به ، ويعجبه، وكنت أتعاون معه في إنجاز أعمال الإدارة، واستفدت منه كثيرا في الضبط الإداري، والاقتصاد، وغيرها من الأعمال الإدارية..
ومن الغرائب أنه كان يحمل همي لأداء الصلاة أكثر من نفسي، أكون معه في المقهى أو الإدارة، يسمع الأذان فيقول لي : أستاذ عبد المنعم، نوقف كل شيء إلى أن تؤدي الصلاة..
ومن أوصافه النادرة العفة عن المال العام، والحرص على عدم تضيعه، فكان ينفق من ماله الخاص على ما هو من اختصاص المديرية الإقليمية للتربية الوطنية..
ثم انتقل عن إعداديتنا ، لأنه في الحقيقة كان مكلفا بالإدارة فقط؛ مع مهام الخارجية، ولا يريدها رسميا، فلما جاء مدير جديد رسمي، اقترحت عليه النيابة أن يطلب إدارة إعدادية بزرهون، فقبلها على كره، ثم ذهب للاشتعال فيها، لكن مع الأسف عورض معارضة شديدة من طرف متنفذين لا يريدون الإصلاح، ولا يتورعون عن المال العام، وهو لا يساعدهم على ذلك، وخصوصا جمعيات (كذا)، فعنده من المستحيلات أن يتواطأ مع أحد على تبذير المال العام، فبدأوا يكيدون له المرة تلو الأخرى، فكان أن جاء متأخرا ليلا من مكناس، فختموا باب سكنه باللاصق ، فبدأ يكسر الباب للدخول، فجاءوا بطالبات الداخلية وجمعوا الناس ليشهدوا أنه في حالة سكر، وأنه يريد كيت وكيت..
ودخل معهم في صراع في المحاكم، وضاعت له أموال كثيرة؛ ومع الأسف لم ينصره أحد ، كما هي سنة الله في المصلحين؛ يتواطا الناس عليهم شرا، وقلما يجدون الظهير والنصير، ولقد آلمني وضعه، ولم أقدر على نصرته بشيء محسوس، إلا ما كان من زيارته والجلوس معه لمواساته، فاقترحتْ عليه النيابةُ أن يشارك في الحركة الجهوية ليترك تلك المؤسسة خروجا من الصراع، وفعلا فعل وانتقل، لكن أولئك النفر كان غيظهم لم يشف بعد؛ فكانوا يحرضون عليه إلى أن تم إعفاؤه.. وأعطي مهمة إدارية- قسم الأرشيف- بالمديرية الإقليمية، وكان أن وصله إلى مكتبه الترخيص النهائي لالتحاقي بالتعليم العالي، ففرح به فرحا شديدا، وهاتفي مهنئا؛ كأنه نجح هو، أو ولد من جديد .. فجزاه الله خيرا.

القرية الوادعة..
مذهب المغاربة في القدر أنهم يقولون” دير للقدرة عواضها” بمعنى إذا نزل القدر؛ وإن كنت له كارها، فرتب نفسك للعيش معه، واجعل من المقدور نافدة للأمل”.
ذهبت إلى بلدة التعيين نزالة بني عمار”، لاكتشفها وأوقع محضر الالتحاق بالعمل بها، فصادف أن ركب معي في سيارة النقل العمومي أستاذا جديدا أيضا لمادة الاجتماعيات هو سي أحمد البوقرعي ..فنزلنا من النقل، فلم نجد شيئا، قرية مكشوفة، كل مرفق فيها على قلته يطل على الفضاء الواسع من الأراضي الفلاحية وأشجار الزيتون، فكان ما يدور في أنفسنا ” يارب أن نجد مكانا للكراء بهذه البلدة” .
فذهبنا إلى الإعدادية المسماة باسم البلدة،” إعدادية النزالة” فاستقبلنا المدير، وسلمنا محاضر التوقيع، فوقعنا وكان التاريخ 13/10/2003 ، ولأن الدراسة كان منطلقة لأكثر من شهر؛ استعجلنا السيد المدير للالتحاق بالأقسام، ولم يعطنا وقتا طويلا لتدبير أمر الكراء والاستقرار.
ثم استقررت بهذه البلدة ، فيها مسجد واحد لا يخفى، وسوق أسبوعي وحوانيت.. وأجمل ما فيها الفضاء المفتوح في كل شيء،هذا في السكن والإقامة، أما في العمل فوجدت تلاميذ من أظرف ما درست في مسيرتي التعليمية إلى الآن، وكذلك إدارة طيبة وخصوصا بعد السنة الأولى، وسأحكي في منشور لاحق بعض مستظرفاتي مع المدير الجديد..
وكذلك وجدت أساتذة رغم اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم إلا إنهم متحدون في مطالبهم متضامنون في ملماتهم..
وفي هذه البلدة عدت إلى اتمام دراستي الجامعة، لأني توظفت بشهادة السلك الأول من الإجازة، أما أمر مكناس؛ فما كنت أدخل إليها إلا لماما، واستعجل العودة؛ لأنه بعد العصر ينعدم النقل إلى تلك البلدة، لكن أخبار الأستاذ فريد كانت تأتيني من طرف أستاذين جليلين يدرسان معي، ويتنقلان يوميا إلى مكناس، هما سي أحمد البوقرعي وسي ياسر بوعسرية..إذ كانا يحضران خطبته بمسجد محمد السادس وبعض دروسه..
كما كانت تصلنا أشرطة الأستاذ المدمجة عن طريق ناشر دعوة الأستاذ الصوتية ” تسجيلات أبو هاجر” ..

قضية التزكية أو التزكيات..
تأملت الكاتبة شهادات التزكية التي عندي ثم قالت ، هذه لا تنفع، تحتاج إلى تزكية المجلس العلمي لمكناس، وهذا اجتهاد منها خاطئ في تفسير القانون، لأن المجالس العلمية المحلية بالمملكة وحدة واحدة، فأيها زكى سرى على الجميع، فقط يبقى التأكد من صحة الوثيقة؛ لكن الأمر هكذا، وعلي أن أقبله، ثم دخلتْ عند الأستاذ وخرجتْ فخرج معها إلي ، فقال لها إذا كان لا بد فلنهيء له ملفا مستعجلا لاختبار التزكية، ثم تذكرت أنني اختبرت للتزكية بهذا المجلس لسنوات مضت وبالضبط 1997م ، وإني نجحت؛ لكن المجالس ذلك الوقت ما كانت تعطي شهادة التزكية، وهذا الاختبار له قصة، ذلك أنني في السنة المذكورة كنت خطيبا بأحد القرى الكبيرة بمنطقتنا، وهذه القرية فيها إخوة ملتزمون من شتى الاتجاهات، وكانت السلطة المحلية تراقب حركية هذا المسجد، وتنادي على الخطيب بعد أن تقبله القرية لمهمة الخطابة، فيرسله القائد لاختبار التزكية، وفعلا جاءني عون السلطة، وقال لي إن القائد يطلبك للحضور يوم كذا، فذهبت عنده، وسجل معلوماتي، وكتب رسالة ختمها، وقال لي خذها إلى ناظر الأوقاف بمدينة وزان، وهي مدينة تبعد عن محلتنا بما يقرب من 80 ك، فذهبت إلى النظارة ، وأخذوا مني الرسالة، وأعطوني رسالة أخرى ختموها، وقالوا لي اذهب إلى المجلس العلمي بمكناس يوم كذا للاختبار، فرجعت إلى محلتي ، ثم سافرت لمكناس إلى المجلس، فأخذوا مني الرسالة واختبروني، وقالوا لي انصرف، فقلت لهم ما نتيجة الاختبار؟، قالوا سنرسلها إلى النظارة، مرت أيام ذهبت إلى النظارة، فقالوا لي لا نعطي شيئا، إلا أنك قد قال المجلس: لا بأس بإسناد مهمة الخطابة لك، ولقد أرسلنا هذا التقرير إلى قائد المنطقة.. هذه قصة التزكية..
فقلت للموظفة والأستاذ: إني عندي ملف قديم هنا لاختبار التزكية، أخبرت أني قد نجحت فيه.. فأمر الأستاذ عون الخدمة بالمجلس أن يبحث عن ملفي في أرشيف السنة المذكورة.. فاستخرج الملف، لما قرأته الكاتبة، قالت إن هذه تزكية في الخطابة، وهو يريد الوعظ والإرشاد ، فقال لها الأستاذ وهو يضحك ” اسمعي آبنتي راه الخطابة أخص من الوعظ، راه هو عندو ما فوق الوعظ”، وأخذ قرار اللجنة السابق وأضاف بيده الكريمتين- رحمه الله- كلمة والوعظ بعد الخطابة ، وقال لها اكتبي له الآن الإذن..

حامل ومحمول..2
أيها الفضلاء: أسترسل في الكلام السابق ..
جلست مع الشاب أمين أسبوعا انتظر التعيين الإقليمي فلم أظفر بشيء؛ لكني ظفرت بمعرفة هذا الشاب عن كتب، لأني فقط كنت أسمع عنه من صديق لي بسلا، وهو الذي أرسلني إليه، لأحل عنده بمقر الجمعية التي كان قيما عليها، وفعلا نزلت عنده؛ فعرفني الشاب أمين على مشروع الأستاذ فريد الأنصاري، وأماكن إلقاء دروسه، وحضرت بعضها ، كما أنه رتب لقاء لي مع الأستاذ بعد إلقائه لدرسه بالمسجد الكبير، لكنه كان خاطفا لكثرة من يريد لقاء الأستاذ، ولأمر آخر هو طبع الانقباض فيَّ عن الحديث بلقاء من هم في مقام الأستاذ..
وحمل معي هذا الشاب هم التعيين؛ إذ طال أمره لأكثر من شهر، فكان يتصل ويمشي برجليه إلى بعض الأساتذة ممن عرفوا بالعمل النقابي، وفعلا رتب لي لقاء مع الكاتب الإقليمي للجامعة الوطنية لموظفي التعليم آنذاك الأستاذ أحمد المنجره – شافاه الله وعافاه. فاستقبلنا هذا الأخير في بيته، ورحب بنا ،وشرح لنا إكراهات الحركة المحلية، وصراعات النقابات ومساوماتهم وكيت وكيت، وأنها هي السبب في تأخير تعيين الخرجين الجدد.. فرجعت إلى بلدتي ناحية” مشرع بلقصيري”. وهمي كيف أقنع الوالد بأن التعيين لم يقع بعد، والحال أنه يرى أن الدراسة قد انطلقت بجميع المدارس، لكن حقيقة الأمر أني ما زلت في عطلة، وهي مع كامل الأسف غير مدفوعة الأجر؛ كما يعلم الأساتذة الفضلاء، لأن الأجر يبدأ من توقيع محضر الدخول، فضيع علينا النيابة والنقابات- ظلما وعدوانا- أجرة شهر ونصف مع كامل الأسف!!!!!!!
ثم بعد أيام عدت إلى مكناس، ونزلت على الشاب ضيفا فوجدته على الحال التي تركته عليها؛ “الأستاذ ومشروع الأستاذ “من القرآن إلى العمران”، فزاد شوقي أن يكون تعييني بمدينة مكناس” وهو مستبعد” أو محلة قريبة منها؛ لأستقر بها.. وذهبت إلى النقابي سي المنجرة لأسأله عن جديد ” طبخة” التعيين، فقال لي إن الأمر قريبا سيحل؛ لكن النقابات ألزمت النيابة بكون تعيين الجدد سيكون عبر نقطة التخرج، والحال أن مادة التربية الإسلامية، فيها مكانان شاغران: الأول بمدينة زرهون؛ تبعد 25 ك عن مكناس، والثاني بقرية نزالة بني عمار؛ تبعد 54 ك والنقل إليها متعثر يكون عبر مرحلتين: مكناس – زرهون، ثم إليها، فعلمت تلقائيا أن تعييني بأبعدهما؛ لأنني كنت في الترتيب بعد الأستاذ الآخر الجديد الذي عين معي بإقليم مكناس..

لوثة الانتماء في وجهة نظر..
أيها الفضلاء: أعلم أن جمعا كبيرا منكم مشتغلا بالعلم والتعليم النظامي، مما يعني أنه يرصد وظيفة عمومية أو هو فيها، وأن مسارات التربية والتكوين قد تجعل من الإنسان منتميا إلى حركة دعوية من الحركات الإسلامية، وهذا إن كان ايجابيا في مرحلة ما قبل الباكلوريا لحماية النشء من الأفكار الإلحادية أو الضلالية التي تعترض من هم في هذه السن؛ فإنه يصبح عائقا ما بعدها ، ذلك أنه؛ إما أن يوفق الله المرء فيكون عنده أفق واسع يأخذ من الجميع ما عنده من الصواب، ويرد ما عنده من الخطأ، ويتوقف في المشتبه؛ وإما أن يبقى مقيدا بأطروحة التنظيم مما يفوت عليه فرصا كبيرة في الإصلاح والتعلم والتعليم والاندماج، بل يجعله يهتم بأمر تصنيف الناس وتكثير سواء تنظيمه أكثر من أي أمر آخر، ولقد عانيت كثيرا من هذا الأمر في دراستي الجامعية، وبدرجة أقل في عملي بالتعليم العمومي، وبدرجة أكثر في التعليم الجامعي، إذ الناظر إليك في أول وهلة ، والمتلقي عنك أول ما يعنيه منك؛ من أي تيار أنت؟ فأمر تصنيفك يشكل له قلقا فكريا كبيرا قبل أي أمر آخر؛ ومن الطرائف أن أخا لي حكى لي عن صديق له دكتور في الجامعة مهتم بالفكر الإسلامي، فقال له كنت أظن أخاك” كذا” حتى رأيته ينشر في صفحته اقتباسات للدكتور عبد الوهاب المسيري..
فانظروا كيف يصنع أمر الاهتمام بالتصنيف المواقف والأحكام المسبقة عن بعضنا البعض؛ فإذا حكم عليك بأنك سلفي فيعني أن يجد فيك صورة طبق الأصل لما يُقَوّم به السلفي عنده، هذا إن كان سلفيا، وإن كان غير ذلك فللمفاصلة بينك وبينه، وإذا حكم عليك بأنك حركي فكذلك، والحركات والسلفيات مشارب، وهكذا، ثم إن الأمر يصبح في درجاته المتقدمة مثل طائفية العراق، لا يدور في فلكك إلا من تنتحل نحلته، بل حتى المشاركة فيما يسمى بالأنشطة العلمية والندوات والنشر في المجلات سرت إليه هذه اللوثة، وإن لم أجازف حتى الحصول على مقعد لدراسة الدكتوراه أو منصب للتدريس بالجامعة، وقل من الناس من يعلي من شأن العلم لذاته من غير قيد آخر، وهذا كله لا يخدم العلم والتعليم والإصلاح، بل تداخله أهواء النفوس بكثرة، والأمزجة لا ضابط لها، خصوصا إذا لبست لباس الحق والصواب؛ ومن ثم فرأيي- وأحترم آراء الآخرين- أن لا ينتمي طالب العلم لتيار من التيارات؛ لأن المفاسد المترتبة على الانتماء أكثر من المصالح ، ولينتم إلى العلم والمساهمة في الإصلاح مع جميع من ينشده من أي مشرب كان.. والله الموفق

ابتذال الخطبة..
أيها الفضلاء: هناك بعض الخطباء ما يزال لم يستوعب بعد ما معنى أن تخطب على الناس في يوم الجمعة، هذا منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا يوم الجمعة الذي اختلفت فيه الأمم وهدانا الله إليك، وإذ يقصد مسجدك الناس بالمئات والآلاف فللمعاني الاعتقادية والعملية من هذا الفعل، فلا ينبغي أن تتخذ من إلقائك ما يجلب سخط الناس عليك ولغوهم أثناء خطبتك، قبل سخط الله من عدمه، نعم ما يُشترط في هذا المقام من الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالحسنى معلوم ومطلوب ، لكن ليس أن يخرج الخطيب إلى نقيض هذا الأمر، فإذا كان الإطار العام للخطيب هو دليل الإمام والخطيب والواعظ، فإن مضامينه واضحة، وأن العلماء الذين كتبوه طائفة منهم كانت تشتغل بالخطابة كالدكتور فريد الأنصاري رحمه الله، فليتخذ الخطيب هؤلاء أعلام العلم والدعوة في بلدنا قدوته، فخطبهم المسموعة والمرئية موجودة، وليتخذ من الخطب المنبرية المكتوبة المعممة من طرف الوزارة- أحيانا- قدوته أيضا في منهج صياغة الخطبة، أما وأن يخرج إلى الضد من هذا، فهذا من ابتذال الخطبة قبل الكلام في لغو المستمعين. والمغاربة يقولون كلمة حكمة وهي :” آمين تتخوي، وآمين تتعمر” ولا حول ولا قوة إلا بالله .

كلام من القلب في موطن الانقطاع..
قال العلامة الدكتور سيدي مصطفى بن حمزة في كلمة له بالمقبرة عند دفن الأستاذ الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله:”…نحن الآن أشد ما نكون إحساسا بعلمائنا الذين يقفون على حدود حماية هويتنا، ويدافعون عن إيماننا، ويبلغون القرآن بالأسلوب الذي كان فقيدنا الأستاذ فريد الأنصاري يبلغ به، كان رحمه الله يتذوق القرآن، ويحلق في أجوائه، ويحببه للناس. وكانت دروسه دروسا نورانية. دروسا تخاطب القلوب والعقول معا، فلذلك تكون الحاجة إليه ماسة في مثل هذه اللحظات التي نودعه فيها…”

حامل ومحمول..
هذا الشاب ذو النظارة، الذي يحمل نعش الدكتور الرباني سيدي فريد الأنصاري رحمه الله، هو أول شاب اتعرف عليه في مدينة مكناس بعد أن عينت في اقليمها استاذا للتعليم الاعدادي 2003م،

الأستاذ أمين الحلوطي

فوجدته متأثرا بالشيخ فريد ايما تأثير، ويتحدث معي بيقين الصادقين أن بعثة التجديد قد بدأت، وان مشروع الشيخ القرآني قد انطلق. وان الراكبين على استعداد تام لحمل رسالة القرآن، فكان يجوب بي المدينة على القدمين، يتبع الشيخ في مجالسه الربانية بدون كلل أو ملل،فجلست معه أسبوعا؛ كنت مهموما أين سترمي بي مساومات النقابات مع النيابة في تعيين الخريجين الجدد؟، وهو في عالم آخر ..، فغبطته ايما غبطة ، وهو أول شخص عرفني على الأستاذ فريد وصفا ومعاينة وتقريبا..فجزاه الله خيرا ونفع به…، وكأني به في هذه الصورة يعتصره ألمان: ألم الفراق، وألم عدم اكتمال مكاشفاته التي كان يستمدها من الشيخ ..،ولقد نمي إلى علمي أنه استقر به المقام فيما بعد قيما على أحد المراكز الإسلامية بألمانيا.. إنه الأستاذ الفاضل أمين الحلوطي، السلاوي منشأ، ثم المكناسي إقامة.
أسأل الله أن يحقق له ما كان يحلم به من حمل رسالة القرآن على التمام والكمال، وأن يرحم أستاذنا العلامة سيدي فريد الأنصاري رحمة واسعة على ما بذله لبعث النفوس وإيقاظها لاكتشاف الحقيقة الغائبة بصائر القرآن الكريم .. آمين آمين آمين

الرحلة إلى مكناس..وبدء مجالس التعلم..

بعد أن من الله بالنجاح في ماستر الاجتهاد والتجديد والتواصل الحضاري موسم 2006م، وبعد اكمال التسجيل النهائي، وأخذ استعمال الزمن، ورؤية جمع من أسماء الأساتذة الأجلاء الذين انتقاهم منسق الماستر الدكتور الفاضل عبد الرحمن حيسي لتدريس الطلبة في الفصل الأول.. كان لزاما أن تُجدد النية، وأن يُؤكد العزم ، وأن يقول من هو مثلي في تلك القرية النائية :” يا خيل الله اركبي”، وفعلا كنت أخرج لصلاة الصبح فأحمل معي محفظتى التي فيها أدوات درسي وتدريسي، لأني لن أعود إلى البيت إلا بعد السادسة مساء.. ذلك أن النقل من نزالة بني عمار إلى مدينة زرهون -وهي المرحلة الأولى- ومنها إلى مكناس، يكون قليلا ومعدودا، وإذا فاتتك سيارات النقل التي تخرج باكرا، ستحتاج إلى دورة زمنية من ساعتين فأكثر، وبالتالي تكون قد ضاعت لي نصف حصة الحضور الصباحية، وكذلك بعد عودتي أرجع قبل الثانية زوالا ، فأذهب مباشرة إلى عملي إلى أن أخرج بعد السادسة، هكذا كان البرنامج في الغالب.، وإذا كنت أعمل صباحا أخرج من العمل إلى البحث عن النقل للوصول إلى مكناس.وفي أحايين كثيرة كنا نتسابق على السيارة الواحدة، وكل منها يتأول لنفسه أنه أولى بهذا المشترك من غيره، لما يترتب عن تأخيره من تعطل مصالحه الضرورية..فاتُفق أن أُسندت إلى الأستاذ فريد الأنصاري- رحمه الله- تدريسنا في الفصل الأول مادة:” أحاديث الأحكام وفقه الواقع”،وكان حصته من 10—12، فبعد أن تنتهي الحصة الأولى، فمن الطلبة من يبقى جالسا يقرأ ورده من القرآن، أو يرتب شيئا، ومنهم من يذهب للمكتبة، ومنهم غير ذلك؛ ولكنهم كلهم يراقبون وصول الأستاذ؛ فإذا بك تراه يمشي الهوينى ميمما وجهه تلقاء قاعة الدرس، يحمل محفظة سواد أصابها الزمن، ولباسا متواضعا؛ يحيط به جمع من الطلبة يشيعونه من موقف السيارات عند مدخل كلية الآداب إلى قاعة الدرس، وقد يغتنم طلابه في بحوث الدكتوراه أو دبلوم الدراسات العليا المعمقة هذا الزمن للسؤال عن إشكال، أو توقيع ورقة، أو إعطاء جزء من البحث أو غير ذلك، وقد يعترضه غير هؤلاء مستفتيا وسائلا، وكان رحمه الله يتلطف كثيرا مع مرتفقيه، ولما يصل إلى القاعة، ويدخل إليها يجد المجلس قد استوى، فيبدأ في الدرس بعد مقدمة موجزة هي مقدمته في دروسه الوعظية، وكانت حصته الأولى أن حدثنا بمحاضرة عالية في مضمونها، وطريق إلقائها: هي الأفكار الأساسية لكتابه مفهوم العالمية- من الكتاب إلى الربانية؛ فتحدث عن وظيفة العلم، والعالم الرباني، ومنهج الطلب، والتعبد بالعلم، والوراثة عن الله، وغير ذلك من المعاني السامية، الذي ترفع الأنسان عن عالم الأشياء إلى عالم المعاني والقيم والحقائق الناصعة..، وكان- رحمه الله – يرى بعض الطلبة يشتغلون بالكتابة ويسارعون الزمن لتدوين معلومات المحاضرة، فيقول لهم ” لا تكتبوا؛ بل اجمعوا قلوبكم فقط واسمعوا”، وتحدث في هذه المحاضرة عن الجهاد بالعلم، وأنه واجب الوقت، ولا يتحمل هذا الواجب أدنى درجة من التأخير، وأن الأمر قد تعين على كل من عرف هذه الحقيقة، وتحدث أيضا عن قضية الرزق، لما يُمكن أن يُستشكل في أمره مع قضية الجهاد بالعلم، ومما أذكره أنه قال :” لا توجد عطالة أو بطالة عند المسلم الذي يحمل هم القرآن”، هو في وظيفة عظيمة جدا، ولابد أن يهيئ الله له سببا لأعانته على حمل الرسالة وتبليغها..وتحدث عن معانى أخر، لكن حاصلها أن المستمع يخرج بخلاصة أن لا معنى للحياة إلا بالعلم من أجل العمل به والدعوة إلى الله على بصيرة، وأن العوائق كيفما كانت لا تساوي شيئا مع هذه الوظيفة الربانية التي دخل فيها المكلف اختيارا، وأن أمر الله تام رغم كل العوائق الموجودة، وكان رحمه الله تعالى عنده فراسة قوية يتصفح وجوهنا واحدا واحدا ، ويعطيك الجواب الشافي عما تريد أن تستشكله، أو تعارض به، فيخرج الجميع من درس إيماني قبل أن يكون معرفيا، ومن حمل مسؤولية وأمانة العمل والتبليغ قبل أن يفكر الطالب هل هذا الذي يقوله الأستاذ من المقرر أم لا؟، وهل سنمتحن فيه أم لا؟

الوظيفة ومتابعة الدراسة..2
أيها الفضلاء نواصل تبيان إشكال الوظيفة العمومية ومتابعة الدراسة ، وقد يبنا في المنشور السابق أنه يصعب علينا او يستحيل أن ننصح الطالب بترك طلب الوظيفة إلى أن يتم دراسته العليا، ولو في حدود الماستر.
وبقي لنا السؤال الثاني: ماذا فعلت أنا في تجربتي الشخصية؟، لا شك أن الألطاف الإلهية كانت غالبة جدا؛ أن كان تعييني في إقليم مكناس، فرغم ما يمكن أن أكون بعيدا عن مركز المدينة، فإن المسافة قليلة جدا، لو قورنت بأقاليم أخرى ممن مساحاتها شاسعة، وأطرافها متباعدة، والأمر الثاني: أن قيض الله لنا فضيلة الأستاذ المربي الحكيم سيدي فريد الأنصاري- رحمه الله تعالى-، فشفع وتوسل وفكر بما ذكرت لكم سابقا من الإجابة على طلب الإدارة من تحاشي الموظفين، وإن كان غير مكتوب ، لكنه ملزم في الأعراف الجامعية، والأمر الثالث: أن العمل بتلك القرية وإن كانت بعيدة؛ فقد كانت بنيتها صغيرة لا تتعدي ثمانية أقسام، بمعنى أربعة أيام في الأسبوع..
ومع ذلك وهذا هو المهم؛ فإني لم أجعل قبولي لمتابعة الدراسة فرصة لتضيع عملي، أو الإخلال بمهمتي، بل لم يثبت علي أن تغيبت عن الحصص الرسمية للتلاميذ، رغم صداقتي القوية بالمدير، فما استعملتها لتسهيل متابعة الدراسة على حساب التلاميذ، بل بقيت ملتزما مع السيد المدير بالأعمال التي كنت أساعده فيها من أعمال الإدارة ، وتخصيص حصص للدعم في اللغة العربية خصوصا لطلبة القسم الداخلي، ولهذا قد ضاع لي حضور حصص لبعض الأساتذة لكونها لم توافق وقتي الفارغ ، وتحملت تبعتها، وأذكر لكم أن أستاذا حضرت عنده في الفصل حصة أو حصتين، وأنجزت عرضي المقرر، ومع ذلك فقد أعطاني نقطة موجبة للرسوب، لولا أنها كانت مع مادة أخرى فدخلت بالتكامل، ولقد ألمني هذا الأمر، وفي بداية الفصل الثاني ، طلب منا أن نناقش تقويم مادته للفصل الأول، فتكلمت.. واحتد النقاش، وغلبني بسلطة الأستاذية، وكدت أن أترك الماستر؛ لكوني ذا نفس لا تستسيغ مثل هذه السلوكات؛ لولا تصبيري من طرف مجموعة من الطلبة الصادقين، ومن الألطاف الإلهية أيضا: أن وافق وقت حصة هذا الأستاذ في الفصل الثاني عدم عملي صباحا، فكنت كما ذكرت لكم سابقا انطلق إلى مكناس بعد صلاة الصبح، وهذا الوقت في الشتاء يكون قريبا من الثامنة ،ولكنه في الربيع يبدأ النهار بالطول فأصل باكرا إلى الكلية، قبل أن يفتح العون بابها، فأكون أول الداخلين إليها، فأذهب إلى القاعة لأستريح وألتقط أنفاسي، وأقرأ شيئا إلى أن يأتي الأستاذ والطلبة ، والشهادة لله كان أستاذا منضبطا محافظا على الوقت، يدخل مع الثامنة بالضبط، ففتح الباب ورآني لوحدي، فاستحيا وخرج، وبقي واقفا في باب القاعة، وفي الأسبوع المقبل وقع له نفس الأمر، فخرج، ثم عاد بعد أن دخل الطلبة، فغضب عليهم عضبا شديدا، ولم يترك لهم شيء، وكان مما قال لهم :” كيف أن يأتي الأستاذ عبد المنعم من نزالة بني عمار، ويحضر في الوقت، وأنتم هنا في مكناس تتأخرون؟، والله الحصة المقبلة سأغلق الباب بالمفتاح مع الثامنة وخمس دقائق، ولن أسمح لأحد بالدخول…

مهنة الشرط:

ثم الرجوع إلى حياض الطلب والتلقي..
كان الوالد رحمه الله لما أتذاكر معه في أمر مهنة الشرط، وهي تعتبر حتمية في الغالب لأبناء المدارس العتيقة القديمة يقول لي :” الشرط سلاح العاجز” ، أي لا يفكر الإنسان في اللجوء إليه إلا إذا سدت في وجهه جميع أبواب التسبب بالأرزاق..
وهكذا شارطت السنة الأولى بمنطقة ” البحارة ” إقليم القنيطرة بدوار يسمي” بورماد”،ثم زدت سنة أخرى بدوار يسمى ” أولاد عبد الله” بمنطقة سيدي محمد لحمر، إقليم القنيطرة أيضا، فكأن أمر التفرغ الكلي لطلب العلم بدأ يعارضه أمر العمل بالعلم، والاشتغال بالدعوة وتعليم العوام، وإرشادهم، وتعليم القرآن؛ مع شراء الكتب والإدمان على المطالعة، وبدأ يكون أولى من الهجرة والتفرغ لطلب العلم، وربما كان نوع من الفرح بكون الناس يفهمون عنا خطبنا، ودروسنا الوعظية، والشباب يترغبون فيما نرغب فيه..
بعد الانتهاء من السنة الثانية من المشارطة، لم يترجح لي شيء ، هل أواصل في الدعوة وتعليم القرآن، أم أتفرغ لطلبة العلم؟ ، وأنا في حيرة من أمري، إذ زارني صديقان لي، فطلبا مني أن أشارط بمسجد قريتهم لكون جماعتهم في حاجة إلى فقيه مثلي، فقبلت عرضهما الأولى، لأن أمر الشرط لا يحسم في العرف إلا بعد رضا أهل القرية عن الفقيه عند سماع خطبته، وتوفر صفات خاصة، وهذا من غرائب التقويم..
فكان أن ألقيت الخطبة ، وبعد الانتهاء منها وأنا في المقصورة أسمع جلبة وضجيجا، وارتفاع أصوات، كأنهم في معركة حرب..، ومما وقر في أذني من تنازع الفريقين أن قالوا : إنه ما يزال صغيرا، وأنه غير متزوج.. ،وبرهة أطل علي أب أحد الصديقين ، وقال لي نذهب إلي البيت لتتغذى أولا ، وأمر اتفاق القرية اتركه لي، وكان رجلا شديدا إذا لاح له الحق يتقاتل بما يملك من أجل أن يكون ما يريد..
بعد الانتهاء من الغذاء؛ كأنه ترجح لي ألا انتظر اتفاق القرية ، وقلت للصديقين أذهب إلى زيارة قرية كذا القريبة منكم؛ لنسلم على الفقيه سي” إدريس اكتيب” الذي كان خطيبا بتلك القرية، وهو من الفقهاء الجلة عندنا بالمنطقة الذين نذروا حياتهم للعلم الشرعي تعلما وتعليما..

الشيخ العلامة إدريس اكتيب


فلما وصلنا إلى قريته سلمنا عليه فرحب بنا ، ثم وجدناه مشغولا بأمر بناء مرافق تابعة للمسجد هي عبارة عن سكن للطلبة؛ لأنه سيشرع في تدريس العلوم الشرعية بهذه القرية، وكنت أسمع عنه أن له علما نافعا وقدرة ومنهجا في تفهيم العلوم الشرعية لا يوجد عند كثير من الفقهاء المدرسين، وكان فيما قبل يدرس الطلبة في بيته فترة عددا.
فطلبت منه أن يقبلني في الطلبة الذين سيتولى تدريسهم في هذه المدرسة الجديدة؛ فرحب، إلا أنه كان قد ألزم الطلبة قبل أن يشرع في التدريس أن يستظهروا كذا وكذا من المتون؛ منها ألفية ابن مالك في النحو وألفية العراقي في الحديث، والفية المراقي في الأصول..
وهنا جُددت النية أن لا شيء إلا التفرغ لطلب العلم، متحررا من أي اعتذار أو شبهة تأويل؛ فرجعت إلى بلدتي، وحملت أغراضي وكتبي، وجئت لأشرع فيما شرع فيه الطلبة ، وبدأنا الدراسة على يد هذا الفقيه الجليل، والشهادة لله؛ فإنه ما عندي من معلومات ومنهج وخصوصا في الأصول والفقه واللغة، وفقه الواقع، أصله وقاعدته وتطبيقاته من علم هذا الفقيه- أطال الله عمره ونفع به-. فوضع البرنامج وبدأ وكان برنامجه هكذا:

  • الفقه، متن ابن عاشر مع التدليل والتعليل.
  • الأصول : مذكرة أصول الفقه، مع تحقيق مباحثها من البحر المحيط.
  • النحو :متن الألفية بشروحها المعتمدة مع مناقشة تقعيد النحاة وتعليلاتهم.
  • الصرف: متن اللامية + الممتع في التصريف.
  • مصطلح الحديث: متن ألفية العراقي بشرح السخاوي.
  • قواعد التفسير : كتاب أصول التفسير وقواعده للشيخ عبد الرحمن العك.
  • التفسير وعلوم القرآن: مقدمة تفسير الطاهر بن عاشور.
  • الحديث: شرح الزرقاني على الموطأ.
    وعلى أي كانت الدراسة عنده ممتعة جدا نقلنا من مهنج إلى منهج آخر غريب عنه بالكلية؛ إذ نقلنا من العلم القاعدي أي الاهتمام بالقواعد فقط، إلى العلم الوظيفي، أي استثمار القواعد وتطبيقها اثناء الدرس مع الاعتناء غاية بالتعليل المنضبط بقواعده لأي شيء، ونقلنا أيضا من الاشتغال على كتب المتأخرين إلى الاشتغال على كتب المتقدمين، وقد أعطاه الله قدرة عالية في مطالعة كتب المتقدمين، واستخراج الفوائد والدرر منها؛ فكنت أتعجب منه في هذا الباب غاية العجب، ولهذا كنا نخرج من حصته بمعارف جديدة جدا، ولكونه كان في أوج شبابه، ومتقاربا لي في السن، لأنه كان بيني وبينه عقد واحد ونيف فقط؛ فكانت المجالس تطول جدا. وكان النقاش مفتوحا بلا تهيب، يتشعب ويحتد.. إلى درجة أن كان الطلبة يغمزونني أن توقف من الاسترسال مع الفقيه في النقاش إشفاقا عليهم قبل أن يشفقوا على الفقيه، وكان حفظه الله تعالى يؤسس لنظرية في العلم الشرعي تعلما وتعليما وامتثالا غاية، لكن مع الأسف أن قدر النوابغ أنهم يظهرون في أزمان غير أزمانهم، وفي أمكنة لا تحتضنهم، وبالتالي يزهد الناس فيهم، والملتقطون للإشارات تصدهم صدود من النوازع المختلفة، فتموت أفكارهم المتقدة ، أو تخفت خفوتا إلى أن تتنكر الفكرة لأصلها؛ وعلى العموم فإن الفترة التي قضيتها مع هذا الفقيه الجليل كان مهمة لي جدا في بناء المعلومات والمعارف الشرعية وتنظيمها؛ بل وفي بناء الشخصية أيضا، وعندي منشور في صفحتي(عبد المنعم اكريكر) قديم سميته “المرابطون في الثغر2” أتحدث فيه عن بعض من جوانب شخصية هذا الفقيه.. فليطلب من موضعه..

جمع القرآن.. وموافقة العرف..
ثم انتقل الوالد- رحمه الله تعالى- إلى قرية قريبة نسبيا من بلدتنا، فالتحقت به، وظهر له العجب من أمري؛ إذ لم أعد ذلك الكسول الخامل الذي يقرأ القرآن على هواه..، بل غيرت الطريقة بالكلية؛ إذ بدأت آتي إليه لأستظهر اللوح قبل محوه؛، واستظهر عليه ما معي من الأحزاب القديمة؛ فيبدا يستمع وأنا اقرأ، وهو يبتهج، ويقول لي مسابقا الزمن، هل الباقي كهذا؟. أقول نعم، فيفرح فرحا شديدا، وكنت أكلفه بأن يوقظني بساعتين أو ثلاث قبل الفجر، وخصوصا في أيام طول الليل..؛ بل كنت في العطلة أبقى بعده لوحدي، أو مع بعض الطلبة مشتغلين بمراجعة القرآن وتثبيته.
انهيت معه تلك السنة، قد أكملت الختمة الأولى، وبدأت بالثانية، ثم الختمة الثالثة، وفيها بدأت أقرأ عليه بعضا من علوم الشريعة؛ ككتاب النحو الواضح، والأزهري بشرح الآجرومية ،وكتب أخرى في الفقه، واللغة العربية والتفسير، وكانت قراءتي عليه تطبيقا للقواعد أكثر منها استظهارا لها.
بعد انهاء السنة الثالثة معه نادى علي ، وقال يا بني لقد استظهرت القرآن جيدا؛ ولك فهم لجملة من القواعد الشرعية، فإما أن تذهب لتكمل طلب العلم كما يفعل الطلبة، وإما أن تبحث لك عن تعلم حرفة.. أما أن تبقى مضيعا للوقت هنا معي، فهذا لا يصلح..
كان كلامه إذنا لي بأن مهمته قد انتهت، وبدأت مهمتي في تحمل مسؤوليتي ماذا أختار؟ . كانت الثقافة السائدة عند الطلبة العتيقين في منطقتنا آنداك التعمق في رسم القرآن، ومعرفة عدده وما يتعلق به” فيما يسمي عندهم بمصطلح : “التقشقيشة” ،أو تعلم حرفة خياطة الجلابيب ، أما طلب قواعد علوم الشريعة فكان قليلا. فحملت أغراضي=( التخنيشة)، وودعته ، فيممت وجهي إلى منطقة وزان، وبالضبط إلى دوار يسمى “الغويبة”، كان فيها فقيه يسمي لعله “سي البقالي” معروفا بضبط الرسم القرآني وما يتعلق به، فسكلت الطريق إلى القرية بالرجل من مدينة وازان إليها ، أحمل على ظهري أغراضي، فمر علي أحد أفراد القرية ممن رجع من المدينة، يركب على بهيمة، فأخذ مني الأغراض ليحملها معه ، وتبعته إلى أن دلني على المسجد بالضبط، فدخلت على الفقيه فوجدته شيخا كبيرا هرما ذا صوت خافت ؛ كأنه من زمن آخر، فذكرت له حاجتي = [طلبت منه ” الرتبة]، فنادى على مقدم الطلبة عنده، فسأله هل يوجد مكان ومعروف، فقال : لا. فاعتذر إلي أن المكان مملوء، وأنه لا يوجد ” معروف” [= شخص من القرية يتكفل لك بوجبة غذائية تذهب إليه تأخذها منه]، فدلني ذلك المقدم على قرية قريبة تسمى “أسجن”، ومن الطرائف إذا قال لك الجبلي هذا المكان قريب، فأحسب من العشر كليوميرات فما فوق؛ فانحدرت في شمس محرقة من هذه القرية إلى تلك القريبة ، وأخذ مني التعب مبلغه. ومررت بمنزل وحده، لعلي سألتهم شيئا آكله، أو أرسلوا لي شيئا أكلته، فاسترحت قليلا، ثم واصلت المشي إلى أن وصلت إلى القرية والشمس مائلة إلى الغروب، فوجدت فيها الرتبة والمعروف، لكن فقيهها رجل عادي، لا يوجد عنده علم مما أقصده.. فلبثت شهرا أو يزيد ثم استأذنته، إلى منطقة أخرى سمعت أن بها فقيها من فقهاء الرسم، قريبة من شاطي مولاي بوسلهام في قرية تسمى “بداوة” ، وفعلا كان هذا الفقيه “المسمي بسي الحاج البدوي” عنده من علم الرسم شيئا كثيرا، وتدينا وورعا كبيرا، وفتحا يجريه الله على يديه، فكان يقصده الطلبة لهذا الشأن؛ فوجدت جوا من تعلم القرآن أكثر مما كنت أظن أني وصلت إليه، إذ المسجد كان وسط القرية، وعنده مساحة كبيرة، فلا تبحث في ركن أو خلوة إلا وجدت طالبا يقرأ، وتستمر القراءة 24/24 ساعة، من الطلبة من يقرأ الليل كله، ثم يصلي الفجر فينام قليلا ، ومنهم من يواصل الليل بالنهار، ومنهم من يحفظ متونا، ومنهم ، ومنهم..؛ لكني وجدت جوعا مدقعا لم أقدر على الصبر عليه، فجاءت عطلة فذهبت إلى بلدتي، فحدثني أحد الطلبة ، بأن نذهب عند فقيه قريب من محلتنا عنده من رسم القرآن وتدريس بعض من متون العلم.. فذهبنا عنده، فرتبنا ، لكنا وجدنا مشكلة الجوع ، وأن لا بد لك من نفقة تسد بها النقص الحاد في التغذية..
فقال لي ذلك الطالب :ما فائدة هذه المشقة؟، نذهب إلى مسجد كذا نراجع القرآن، ونحفظ المتون، ثم نتفرغ إلى طلب العلوم الشرعية ، فذهبنا إلى المسجد الذي أشار به، فكان هذا الفقيه يدارس معنا بعضا من المتون، ولما رأى معرفتي متقدمة شيئا ما، قال لي يا ولدي لا أصلح لك، اذهب الي دوار” السواسين” وهو في منطقة الغرب؛ فإن فيها “الفقيه سي لحسن” فإنه متخصص في تدريس العلوم الشرعية، فستستفيد منه كثيرا، فعملت بنصيحته . وذهبت إلى الفقيه الذي أمرني بالذهاب إليه، وفعلا وجدت بغيتي عنده، فكان يدرس النحو والصرف والفقه والبلاغة والتفسير والأصول.. وكل المتون الأولية والمتوسطة المعلومة عند طلبة المدارس العتيقة. فقضيت معه سنتين أو أكثر، ثم بدا لي أن أشارط، وأجمع مالا أسافر به إلى مدينة طنجة أطلب العلم، وخصوصا عند فقيه كان صيته دائعا عند طلبتنا اسمه “سي عبد العزيز” بمدشر خندق الزرزور إقليم طنجة، توفي رحمه الله في ريعان شبابه، أو فقيه “طلعت الشريف”، العلامة سيدي محمد الانجري المعروف بالبيضاوي، أو الفقيه رياش، وقد توفي قريبا بعد أن أسن، أو فقيه مدرسة المنار، العلامة سيدي محمد مارصو الكرفطي ، بارك الله في عمره، فقد كان هؤلاء الجلة من الفقهاء يقصدهم طلبة منطقتنا للدراسة على أيديهم…


هذه الصورة تؤرخ للسنة الأخيرة التي انهيت فيها الدراسة مع الوالد رحمه الله، ومعي أحد الأصدقاء من الطلبة الذين كانوا يدرسون معي على الوالد..

محطة الدار البيضاء..
لبثت مع الفقيه العلامة سيدي إدريس اكتيب ما قدره الله لنا في هذه المرحلة الأولى؛ مع العلم أن مشيخته ولقاءه ما زال مستمرا عندي إلى يومنا هذا، مع اختلاف الكيفية في الطلب، ولكوني أعتبر نفسي في حياتي مدينا لأربع جهات أثرت في حياتي وصبغتها بما أنا عليه: الوالد والوالدة رحمهما الله، وهذا الفقيه سيدي إدريس، والأستاذ فريد الأنصاري رحمه الله، والرابع سيأتي ذكره قربيا إن شاء الله..
ثم زارني صديق لي كان مدرسا للقرآن بأحد الكتاتيب بالدار البيضاء، فقال لي لو دخلت إلى الدار البيضاء، فإن فيها دروسا وحلقات علمية، وجمعيات متنوعة، وشيوخا، ومكتبات كثيرة تقرأ فيها وتشتري منها، وتستفيد وتفيد، وبعد مدة نجمع نفقة، ونسافر- أنا وأنت إلى موريتانيا- لطلب العلم، ومعلوم أن الرحلة عند طلبة العلوم الشرعية تقصد لذاتها، فتبقى آمالهم متعلق بالرحلة، وإن لم يحصل فيها من العلم ما يحصل بالبلد، فأغراني بالفكرة، فطالب بدوي مثلي يسمع بالدار البيضاء، ويراها في الصور، تتاح له الفرصة أن يستقر بها، فهذا أمر حسن..
فاقترح علي أن يترك لي مكانه في تدريس القرآن بالكتاب الذي كان يشتغل به؛ لأنه أراد أن يخرج من هذه المهنة، ويتعلم مهنة ” الخِبَاَزة”، = صنع الخبر وتوزيعه على الحوانيت مع مقاول، قد افتتح هذا المشروع.
فسبقني إلى الدار البيضاء، ورتب الأمر مع القائمين على الكتاب قبل مجيئي، فقبلوا اقتراحه بما ذكر لهم من أوصافي، ووصلت إلى الدار البيضاء عن طريق الحافلة، فدخلت إلى مدينة كبيرة ذات صخب وضجيج وحركة سريعة دائبة لا تنتهي، وأجناس من مختلف الأنواع.. ، فوجدته في استقبالي بمحطة الحافلات، وأخذ يتنقل بي هنا وهنا إلى أن وصلنا إلى مقر الكتاب “بالحي المحمدي”، فعرفني على القائمين به، فرحبوا بي، واتفقنا على كيفية العمل والشروع فيه..، وهذا الكتاب فكرته رائعة وملهمة جدا؛ إذ اتفق إخوة من النسب 4 أو 5 من أهل سوس ،بعد أن بنوا مسكنا مشتركا أن يجعلوا الطابق الذي يلي المحلات الأرضية=(السُّدَّة)، كتابا قرآنيا، يحفظون فيه أبناءهم فقط القرآن، ويتعاقدون مع محفظ بأجرة يتقاسمونها فيما بينهم، يبدأ عمل المحفظ من بعد صلاة الصبح إلى العاشرة صباحا، ومن العصر إلى ما بعد العشاء، في حركية دائمة، والخميس مساء والجمعة عطلة؛ من عنده وقت فارغ من أبنائهم ينزل إلى الكتاب، ومن عنده المدرسة يذهب إليها، ومن عاد يرجع مباشرة إلى الكتاب، وفي العطلة يجتمع الكل في الكتاب.
في الأيام الأولى كان هذا الصديق بعد أن ينهي عمله يأتي إلي ليؤانسني ، وليعرفني على ما ذكر من حلق العلم والدروس، فنرتب وقتا وجهدا لزيارة اسم معروف ، لكني أرجع أجر أذيال الخيبة؛ إذ قصارى ما يقوم به هذا الاسم المعروف الذي قصدناه قصدا أنه يعطي درسا وعظيا في عنوان علمي، لا علاقة له بقواعد العلم والمنهج، والتدقيق، وبناء المعرفة..، فأعتب عليه؛ لماذا اتعبتني هذا التعب؟، فيقول لي في المرة القادمة أذهب بك إلى الشيخ فلان فستجد عنده بغيتك؛ لكن مع الأسف يقع لي ما وقع مع سابقه.. إلى أن ذهب بي يوما إلى المسجد الكبير بعين الشق؛ فرأيت المتكلم الذي يعطي درسا على سنن العلماء، إنه العلامة المحدث الشيخ محمد زحل رحمه الله تعالى، الذي كان يشرح فيه الجامع الصحيح للإمام البخاري رحمه الله…

بين علم المتون وعلم المطويات..
بدأ يظهر لي أن الجعجعة التي نقلها لي صديقي عن الحركة العلمية والتعليمة في الدار البيضاء لا طحين فيها، ضجيجها أكثر من حقيقتها، ومع ذلك أحاول اتهام نفسي، أن أكون مغاليا في محاولة التشبث بالمنهج العتيق في العلم والمعرفة ، ولم لا تكون هذه المناهج الجديدة في التعليم أقدر وأقصر؛ لأن يصبح المرء طالبا شرعيا مجدا؟: أن يقرأ شروحا ميسرة ، ومطويات، ويستمع أشرطة ،ويسافر إلى شيخ معروف، فيجلس معه يوما وليلة، فيرجع وقد صار مزكى وذا إجازة، ويمكن أن يذهب إلى بعض دول المشرق، وينتسب إلى جامعاتها ومعاهدها بتلك التزكية والإجازة، أما إذا كتب ردا على عالم من علماء المسلمين، وقرضه فلان ، فذلك أبلغ في العلم والشهرة..
لكني أرجع إلى عقلي وأقول كيف يكون هذا هو منهج الطلب، والناس ضربوا أكباد الإبل من أجل أن يتحققوا بأقسام الكلام العربي فضلا عن غيره من قواعد الشريعة، وأنا أذكر أن طالبا كان معنا أعضله باب من النحو في الآجرومية، وسهر معه ليالي عددا، ولم يفهمه جيدا، ويوما غضب فأكل الورقة التي فيها ذلك الباب كما يأكل الخبز!!! ولهذا بدأت ألوم صديقي على توصيفه الخاطئ ، فاعترف لي أن الحركة التعليمية بالجمعيات المهتمة بالدروس الشرعية التي تسمى بدور القرآن قد تلوثت بمسألة تصنيف الناس إلى سلفيين ومبتدعة، وأهل السنة وأهل البدعة والضلالة، ونقل الأسئلة إلى أهل التصدر عندهم من المشايخ حول أفراد، أو جماعات دعوية، ليبينوا حالهم .. وأكثر هؤلاء الذين يملؤون الحلقات بهذا الهراء= العلم ، لا يعرفون الفعل من الفاعل والأمر من النهي، والبدعة من الضلالة..
واتفق أن كنت بعد إخراج التلاميذ من الكتاب في الحصة الصباحية أذهب لأجلس بجوار بائع للملابس التقليدية والعطور، يفرشها على الأرض قرب منطقة مكتظة تسمى ” الباطوار” ؛كان قد عرفني عليه صديقي، وكان هذا البائع اسمه عبد الفتاح أخا مؤدبا ذا أخلاق عالية، يظهر عليه سمة الصالحين، فكان يعجبني حديثه، ويعجبه حديثي، فتذاكرت معه على غياب طلب العلم الشرعي بقواعده في هذه المؤسسات التعليمية الأهلية المسماة بدور القرآن، فأقرني على هذه الحقيقة متأسفا، واشتكى لي أن غالب الإخوة شغلهم الشاغل تصنيف الناس من أي الطوائف هم، قبل كل شيء، ومن خرج عن هذا المنهج يهجر ويقصى ويحذر منهم، ويوسم بأن فيه لوثة حزبية أو صوفيه، بعبارتهم ” تيخلط”.” غير واضح”.” يشم منه كذا”،” فلان طبْ”.. ومثل هذا الألفاظ التي صارت تضاهي ألفاظ يحيى بن معين في الجرح والتعديل..
لكنه أرشدني إلى دار للقرآن لعلها بحي سيدي مومن، فقال لي ستجد فيها حلقات تعليمية قد تعجبك، فذهب إلى النعت الذي رسم لي، وسألت الناس فأرشدوني إليها، فصادفت صلاة العصر، وتقدم القيم على الدار ليصلي بنا، وبعد إقامة الصلاة ، تكلم بطريقة خشنة ، وقال : أيها المسلمون لقد ذكر الحافظ الذهبي في الكبائر أن إسبال الثياب من الكبائر، وأن صلاة المسبل لا تجوز أو قريبا من هنا، والحال أن غالب المصلين معه لا ينطبق عليهم هذا الوصف ، وإنما هم اثنان أو أربعة، فقلت يارب سلم سلم.. ، بعد أن سلم وخرج أغلب الناس قصدته فسلمت عليه بأدب، فرد ما يشبه نصفه، فقال لي ما شأنك؟، قلت له أسأل عن برنامج الدروس بهذه الجمعية.. فقال لي عرف بنفسك أولا، فذكرت موجزا جدا، فقال لي هل قرأت في المدارس العتيقة ، قلت أياما، قال لي إنك إذن أشعري، قلت وما علمك؟، قال لي قرأت عقيدة ابن عاشر فتشربت بها، وكل من تشرب البدعة يصير مبتدعا، والأشاعرة ضلال؛ لأنهم يعطلون الله عن صفاته، وقال فيهم فلان كيت وكيت.. وظن الغر الجاهل الغبي أنني ” بشر المريسي، أو الجهم بن صفوان” ، وأنه يتعبد الله بمناظرتي ، فغيرت لهجة كلامي، وشددت عليه في النقاش، وبينت له خطأه من وجوه، وأنه قبل ذلك خلاف الأدب مع إنسان غريب جاء يسأل ليتعلم، وأسمعته ما لم يكن يخطر على باله، فأفحم، وتركته وانصرفت ..ولقد نمي إلى علمي أنه انتكس وصار في عين الضلالة بالحقيقة .. لا كما كان يرمي بها مخالفيه من عموم المسلمين..