هل يجوز إخراج زكاة الفطر نقدا؟ للعلامة محمد التاويل..

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
تمهيد: الشيخ أبو يونس محمد الفرعني
(حتى لا تطمس الشعائر)
في خضم السجال المتجدد حول صفة أداء زكاة الفطر، وهل يجوز إخراجها قيمة. أحببت أن أسطر هذه الكلمات بين يدي هذه المقالة:
لا شك أن الخلاف في هذه المسألة قديم، ولا يخلو منه كتاب من شروح السنة ودواوين الفقه. وقد أجال الفقهاء فيها النظر وأشبعوها بحثا، وهي مسألة فقهية فرعية، والخلاف فيها معتبر على كل حال، ولا يطمع أحد في حسمه. ولكن حسب المتكلم فيه أن يتكلم بعلم وأن يناقش بحلم، وأن يعلم أن ما يراه هو صوابا سديدا قد يراه مخالفه خطأ أكيدا. وليبتعد عن التسفيه والتجهيل فإنه ليس من خلال الفقيه النبيل..
والذي دفعني لنشر هذه المقالة أمور:
أولا: انتشار القول بجواز إخراج القيمة مطلقا حتى إنه ليكاد يغلب على قول جمهور العلماء المانعين من ذلك.
ثانيا: خوض العامة وأشباههم من المثقفين في ذلك ممن ليس لهم اشتغال بالفقه ولا بعلوم الشريعة.
ثالثا: تلفظ بعضهم بعبارات لا تليق في مقام الحجاج خصوصا في مسألة فرعية. من مثل (الشريعة لا تقدس القمح والشعير) و(الذين أفتوا بالمنع يتحرجون أن يتراجعوا عن قول قالوه بالأمس) و(هؤلاء لا يفهمون جوهر الدين ومقاصد الشريعة) و(هؤلاء يقلدون علماء من غير بلدنا) و(من قال لا تجزئ نقدا جاهلون متشددون جامدون) وغيرها..
ومثل هذه العبارات لطالما سمعناها من العامة، لكن أن تصدر من المعظمين من الفقهاء فهذا غير مرضي وهو نذير شر. والله المستعان.
الذين قالوا: لا تجزئ نقدا هم جمهور الأمة سلفا وخلفا؛ منهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، وهم أئمة علماء فقهاء، ومن المعاصرين الذين أدركوا واقعنا وما حصل فيه من تغير في أساليب العيش والاقتيات والحاجات. ومع ذلك هو ثابتون على مذهبهم لما يرون من قوة دليله من جهة وموافقته لمقاصد الشريعة من جهة أخرى، ولأنه مما تحفظ به الشعائر الظاهرة من الاندراس والنسيان، ولأنه الاحتياط للعبادة، وتبرأ به الذمة بإجماع.

فهذه مقالة رصينة ومناقشة هادئة من فقيه مغربي مالكي متمكن معاصر أدرك زماننا وفقه واقعنا. رحمه الله تعالى.

مناقشة علمية حول إخراج زكاة الفطر بقيمتها نقدا
العلامة محمد التاويل رحمه الله
إن القول بجواز إخراج القيمة في زكاة الفطر انفرد به أبو حنيفة كما قال ابن الملقن في شرح البخاري، وعزاه ابن قدامة في المغني لعمر بن عبد العزيز والثوري والحسن البصري، واستدل له أصحابه والمؤيدون له بأدلة لا تخلو من بحث:
الدليل الأول: حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم: «أغنوهم في هذا اليوم». قالوا: هذا دليل على أن الحكمة من مشروعية زكاة الفطر هي إغناء الفقراء والمساكين. والإغناء يتحقق بالنقود التي تصلح لجلب الحاجيات من أغذية وغيرها، وهو حديث لا يصح الاستدلال به لوجوه:
أولا: لأنه حديث ضعيف لا تقوم به حجة، ولا يصح الاستناد إليه، لاستنباط الحكمة من مشروعية زكاة الفطر وحصرها في إغناء الفقراء.
وثانيا: فإن الحكمة هي تطهير الصائم من إثم الرفث واللغو في رمضان وطعمة كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عمر رضي عنهما: «زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين». وهذا أصح من الأول، فهو الموافق لقوله تعالى: ﴿خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم﴾. ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: «صاعا من بر على كل صغير وكبير ذكر وأنثى حر وعبد غني أو فقير»، أما غنيكم فيزكيه الله وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى. فهذا يدل على أن الحكمة هي تطهير المزكي وتزكيته وإطعام المساكين، وفي تعبيره صلى الله عليه وسلم ب: (طعمة للمساكين): إشارة قوية لوجوب إخراج الطعام لأنه الذي يطعمه ويغنيه مباشرة بخلاف النقود فإنه يحتاج لشراء ما يحتاجه من الطعام وقد لا يجده.
وثالثا: على تسليم صحة الحديث فإن المقصود بالإغناء فيه هو إغناؤهم عن الطواف والسؤال في يوم العيد كما جاء في رواية: «أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم». وفي رواية عن طواف هذا اليوم، فاللفظ الأول مطلق، وهذه الرواية مقيدة بالطواف، ومن القواعد حمل المطلق على المقيد، وأن الكلام إذا قيد فإن روح الكلام هو ذلك القيد، وإليه يتوجه النفي والإثبات.
وبهذا يتبين أن المقصود هو إغناؤهم عن الطواف والسؤال في يوم العيد يوم فرح المسلمين، لا مجرد إغنائهم عن الجوع، وذلك إنما يتحقق بإرسال الزكاة إلى الفقراء في بيوتهم حتى يستغنوا عن التطواف على البيوت طلبا للزكاة، هذا هو المقصود بالإغناء، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجها قبل الغدو للمصلى ففي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في زكاة الفطر: «من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات».
ولهذا رخص في إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، وثبت أنه كان يقسمها بين الفقراء إذا انصرف من الصلاة.
ولا شك أن إخراج القيمة لا يغنيهم عن الطلب والطواف ما داموا يخرجون بأنفسهم يتجولون في الشوارع والأزقة يسألونها. فلا يصح الاستدلال بهذا الحديث على إخراج القيمة، لأنها لا تحقق الإغناء المطلوب، خاصة إذا لوحظ قول أبي حنيفة القائل بجواز القيمة مطلقا، نقودا أو عروضا، حتى الملابس المستعملة والأحذية البالية والأدوات المنزلية فإنه يجوز إخراجها في زكاة الفطر إذا بلغت قيمتها قيمة نصف صاع من قمح أو قيمة صاع من تمر أو شعير، وفي التوضيح لابن الملقن عن أبي حنيفة: “لو أعطيت في زكاة الفطر إهليجا أجزأ”.
ورابعا: فإن هذا الحديث على ضعفه يحتج به من يقول بوجوب إخراج زكاة الفطر من غالب قوت البلد، ولا يجزئ إخراجها من غير غالب قوت البلد من الأقوات، يقول القاضي عبد الوهاب في الإشراف على مسائل الخلاف: “والاعتبار بغالب قوت أهل البلد خلافا للشافعي في قوله إنه مخير لقوله عليه السلام: «أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم». وإذا أعطاهم ما ليس من قوتهم فلم يغنهم .
وإذا كان لا يجزئ إلا غالب قوت البلد عند المالكية فإن القيمة لا تجزئ من باب أولى وأحرى، كما أنه إذا كان هذا الحديث دليلا على تعيين غالب قوت البلد فكيف يصح الاستدلال به على إجزاء القيمة وهي ليست قوتا أصلا.
الدليل الثاني: القياس على زكاة الأموال، فإنه يجوز للإنسان أن يخرج ما يعادل قيمتها بالدراهم إجماعا مع أن ظاهر قوله تعالى: ﴿خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها﴾. يقتضي وجوب الإخراج من عين المال المراد تزكيته، وهو استدلال مردود من وجوه:
أولا: هو قياس فاسد الاعتبار لأنه قياس في محل النص، ولا قياس مع وجود النص.
ولهذا لما رأى معاوية أن نصف صاع من سمراء الشام يعدل صاعا من التمر أنكر ذلك أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وقال: “تلك قيمة معاوية، لا أقبلها ولا أعمل بها”.
وفي رواية أنه قال: “أما أنا فلا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم”، وقد علق الحافظ ابن حجر على ذلك بقوله: “وفي صنيع معاوية وموافقة الناس له دلالة على جواز الاجتهاد وهو محمود، لكنه مع وجود النص فاسد الاعتبار، وهو دليل على منع القيمة ولو كانت من جنس الطعام، على أنه قد يكون معاوية قصد المعادلة في القيمة الغذائية، وأن نصف الصاع من سمراء الشام يشبع ما يشبع صاع من التمر، ولم يقصد المعادلة في القيمة المالية؛ فإن قيمة التمر أغلى من قيمة القمح بكثير فلا يمكن أن يكون نصف صاع القمح يساوي صاعا من التمر في ثمنه.
وثانيا: هو قياس على مختلف فيه، ومن شروط القياس كون حكم الأصل متفقا عليه، وفي جمع الجوامع في تعداد شروط القياس: “وكون حكم الأصل متفقا عليه”، قيل بين الأمة والأصح بين الخصمين. وإخراج الدراهم في زكاة الأموال مختلف فيه، مذهب الجمهور: المالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم أنه لا يجوز ولا يجزئ للحديث: أنه صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذا إلى اليمن قال له: «خذ الحب من الحب والشاة من الغنم والبعير من الإبل والبقر من البقر»، وأدلة أخرى لا نطيل بذكرها. ودعوى الإجماع على جواز إخراج الدراهم والدنانير عن زكاة الأموال هي دعوى باطلة وغير صحيحة.
وثالثا: هو قياس في العبادات، والأصل فيها الاتباع وعدم الابتداع.
الدليل الثالث: قالوا المقصود من صدقة الفطر سد حاجة الفقراء، ولا يختلف ذلك باختلاف نوعية الأموال بعد اتحاد قدر المالية، وهذه هي الحجة التي تمسك بها الحنفية في جواز إخراج القيمة في الزكوات والكفارات، وقد ردها الجمهور بأن هذه العلة تعود على أصلها بالإبطال، لأن النصوص تدل على وجوب عين المنصوص عليه من النَّعَم والحبوب في زكاة الأموال، وعين الأقوات المنصوص عليها في زكاة الفطر وهذا التعليل يقتضي الاكتفاء بالقيمة وعدم تعيين إخراج المسمى بعينه فقد عادت على أصلها بالإبطال، وكل علة عادت على أصلها بالإبطال فهي باطلة، يقول ابن السبكي أثناء حديثه عن شروط العلة: “ومنها أن لا تعود على الأصل بالإبطال”.
الدليل الرابع: قياس الدراهم والدنانير على الأقوات المنصوص عليها في أحاديث زكاة الفطر بجامع المالية، وبالغ بعض المعاصرين فادعى أن كل ما يقوله المتشددون في إلحاق الأرز بالأنواع الخمسة الواردة في الحديث هي نفس الحجة لإدخال النقود التي تجلب للفقير الأنواع الخمسة وغيرها بعدما انتقد الفتوى بإلحاق الأرز بالأنواع الخمسة الواردة في الحديث، واتهم أصحابها بالوقوع في التناقض، وتساءل كيف ساغ لهم أن يفتوا في هذا العصر بإدخال الأرز مع أنه لم يرد بين الأصناف الواردة في الحديث؟
وهو كلام غير دقيق وغير لائق وغير صحيح:
أما كونه غير دقيق فلأن القول بجواز إخراج الأرز في زكاة الفطر هو مذهب المالكية والشافعية وقول للحنابلة، فهو ليس اجتهادا أو إفتاء لبعض المعاصرين كما قال.
وأما كونه غير لائق فلأنه اتهم بالتشدد الجمهور الذين لا يقولون بجواز القيمة، وهم من عدا الحنفية، وما ينبغي لأحد أن يصف الأئمة الثلاثة بالتشدد لمجرد تمسكهم بالسنة، فهل أصبح التمسك بالسنة تشددا؟
وأما كونه غير صحيح فلأن قياس النقود على الأقوات المنصوص عليها في الحديث هو قياس فاسد لأنه قياس في محل النص، ثم هو قياس بدون جامع، كما أن هناك فرقا واضحا بين الأرز وبين الدراهم، ولا تناقض في القول بجواز إخراج الأرز ومنع إخراج القيمة دراهم، لأن الدراهم والقيمة بصفة عامة لا يتناولها الحديث بلفظه، ولا يدل عليها بمعناه، ولا يصح قياسها على الأقوات المنصوص عليها حتى لو قلنا بجواز القياس في العبادات لعدم الجامع، فإنها ليست قوتا ولا طعاما، بخلاف الأرز فإنه طعام وقوت، فقياسه على الوارد في الحديث قياس صحيح بجامع الطعم أو القوت.
على أن الأرز يمكن القول بدلالة النص على جواز إخراجه، ولا حاجة إلى قياسه على غيره استنادا إلى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مناديا ينادي في فجاج مكة: «ألا إن زكاة الفطر واجبة على كل مسلم، على كل ذكر وأنثى، حر وعبد، وصغير وكبير، مدّان من قمح أو صاع مما سواه من الطعام». وإلى قوله صلى الله عليه وسلم: «أدوا صدقة الفطر صاعا من طعام». فإن كلمة “ما” في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول أو صاعا مما سواه من الطعام من صيغ العموم، وقد بينت بقوله من الطعام، وهو مفرد معرف بال فيعم كل الأطعمة، والطعام في لغة العرب اسم لكل ما يطعم، فيدخل في ذلك الأرز وغيره. ومن هنا قال المالكية بإخراج زكاة الفطر من كل طعام مقتات بما في ذلك القطاني واللحوم والعدس والتين والدقيق على تفصيل وخلاف لسنا بصدد بيانه الآن عملا بقاعدة دخول الصورة النادرة في العموم، كما قال ابن السبكي: “والصحيح دخول النادرة وغير المقصودة تحته”. وبناء على قاعدة: “العام محمول على عمومه حتى يرد ما يخصصه”، وأن الاحتجاج بأحاديث ابن عمر وغيره في الاقتصار على بعض الأطعمة لا يصلح لتخصيص هذا العموم مما سواه من الطعام، بناء على القاعدة الأصولية “أن ذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه”.
وكذلك القول في الحديث الثاني «أدوا صدقة الفطر صاعا من طعام». فإن لفظ (طعام) مطلق يصدق بكل طعام، والمطلق محمول على إطلاقه حتى يرد ما يقيده، وذكر بعض أفراد المطلق بحكم المطلق لا يقيده.
الدليل الخامس: لأن إخراج الدراهم أنفع للفقراء والمساكين وأسلم لهم من الغبن، فإن الواقع أن الفقراء عندما يعطون الحبوب في زكاة الفطر لا يمكنهم الانتفاع بأعيانها فيضطرون إلى بيعها بأقل من سعرها الذي اشتراها به المزكي وتكون النتيجة خسارة الفقراء واستفادة التاجر الذي يبيع الصاع للمزكي بعشرة مثلا ويعود لشرائه من الفقير بثمانية أو أقل. وهو دليل لا يصح:

  • أولا: لأن هذه المصلحة أو المنفعة هي من المصالح الملغاة، لم يعتبرها الشارع ولم يلتفت إليها حين اقتصر على الأقوات ولم يشر إلى الدراهم من قريب ولا من بعيد.
  • ثانيا: فإن المزكي مأمور بإخراج ما أمره الشرع بإخراجه، وعينه له، فإخراج ما لم يأمره به الشرع وترك ما أمره به هو نوع من معاكسة الشارع واعتراض عليه واتهام له بجهل مصالح الفقراء والمساكين.
  • وثالثا: فإن المزكي مسؤول عما أمر به فقط وليس مسؤولا عن تصرفات الفقراء فيما قبضوه من الزكاة ولا وصيا عليهم، وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الزكاة شاة لأم عطية فذبحتها وأهدت منها لنساء الرسول صلى الله عليه وسلم فأكل منها، وقال: «هي عليها صدقة ولنا هدية». ولم يلمها على ذبحها والتصدق بلحمها وهي فقيرة محتاجة. فدل ذلك على أنه لا حجر على الفقير فيما يقبضه من الصدقة.
  • ورابعا: فإن التعليل باضطرار الفقير إلى بيعها بأرخص من ثمنها الحقيقي هو غفلة عن مبدأ من مبادئ الإسلام في المعاملات المالية في قوله صلى الله عليه وسلم: «دعوا الناس في غفلاتهم يرزق الله بعضهم من بعض».
    فإخراج الحبوب يستفيد منه الفلاح المنتج للحبوب والتاجر الصغير بائع الحبوب والحمال ثم الفقير والمشتري من الفقير إذا اختار بيعها. كل هؤلاء ينتظرون عيد الفطر ليستفيدوا من بركات زكاته، فلماذا تجاهل نفع هذه الشرائح كلها والتركيز على منفعة الفقير وحده، ثم من يضمن أن الفقير إذا أعطي الدراهم سيصرفها في ضرورياته ولا يبذرها في شراء السجائر وتوافه الأمور؟ ومن يضمن أنه سيجد ما يشتريه من الأقوات في يوم العيد؟ وإذا توفر ذلك في المدن فقد لا يتوفر في القرى النائية.
    الدليل السادس: أنها أيسر على المزكين وأهون عليهم لأن إخراج الحبوب يكلفهم الذهاب إلى سوق الحبوب وشرائها ونقلها وفي ذلك إضاعة للوقت وإنفاق مصاريف زائدة بخلاف إخراج الدراهم فإنه يعفيهم من ذلك كله.
    وهو دليل ضعيف وغير صحيح؛ فإن اختيار الأخف والأيسر مشروط بكونه مشروعا، والمفاضلة بين أمرين واختيار أيسرهما إنما تكون عندما يكون الأمران مشروعين معا، كالفطر والصوم في السفر، والقصر والإتمام، والجمع بين الصلاتين وتفريقهما في السفر ونحو ذلك، أما عندما يكون الأيسر غير مشروع ولا جائز فلا يصح ترجيحه واختياره ليسره. وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم: «ما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما». فلا يمكن أن يقول أحد إن التيمم للصحيح الحاضر الواجد للماء أولى من الوضوء لأنه أخف، ولا أن يقول: الفطر أولى للحاضر الصحيح لأنه أخف، ولا القصر أولى للحاضر لأنه أخف، كذلك لا يصح القول: إن إخراج الزكاة نقدا أخف على الغني من إخراج الطعام، ثم متى كان مجرد يسر الأمر وسهولته على المكلف دليلا على مشروعيته وأولويته على غيره، أليس الفطر في رمضان أخف على الحاضر الصحيح؟ وقصر الصلاة أيسر على المقيم، والتيمم أهون من الوضوء على الحاضر الصحيح الواجد للماء، والجمع بين الصلاتين للحاضر الصحيح أيسر من صلاة كل صلاة في وقتها، والنكاح بدون صداق أيسر على الزوج؟ فهل يستطيع هؤلاء أن يقولوا بجواز الأيسر في هذه النماذج واختياره على الأعسر بحجة التيسير على المكلف؟ لا شك أنهم لا يستطيعون، وذلك دليل على أن اليسر وحده ليس دليلا على المشروعية، ولا يصح أن يكون علة لها؛ لأن العلة يلزم من وجودها الوجود، وقد وجد اليسر في هذه النماذج وغيرها كثير ولم توجد المشروعية.
    فبهذا يتبين أن اليسر والتيسير المطلوب والمحمود هو التيسير في المشروع كاختيار الرخص بدل العزائم، وباختيار الأخف والأيسر في الواجب المخير والمندوب المخير مثل الضحية والهدي وكفارة اليمين والفطر في رمضان.
    الدليل السابع: قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم في فرض زكاة الفطر راعى ظروف البيئة والزمن، حيث كانت الأطعمة متوفرة عند العرب والدراهم والدنانير قليلة عندهم، وخاصة أهل البوادي، ولذلك فرض زكاة الفطر من الأطعمة، وسكت عن الدراهم والدنانير، فإذا تغيرت الظروف وأصبحت النقود متوفرة والأطعمة غير متوفرة أو لا يحتاجها الفقراء تغير الحكم وأصبحت القيمة نقدا هو الأيسر على المعطي والأنفع للقابض، وهو كلام لا ينبغي لعالم أن يقوله.
    أولا: لأن زكاة الفطر فريضة من فرائض الإسلام الثابتة بالمتواتر، والأحكام الثابتة بالنص أحكام خالدة لا تتغير بتغير الزمان والمكان كما نص على ذلك الأصوليون.
    وثانيا: فإن القول بظرفية زكاة الفطر وإمكان تغيرها بتغير الزمان يفتح بابا يعسر سده، ويقدم حجة لخصوم الإسلام وأعدائه المطالبين بتغيير شريعته بدعوى ظرفية زمانها ومكانها، فإذا كان يمكن تغير زكاة الفطر بتغير الزمان أمكن القول بذلك في كل حكم شرعي لا يعجب الناس ويشق عليهم، بحجة أن ما جرى على المثل يجري على المماثل.
    ثالثا: فإن القول بأن الدراهم كانت قليلة عند العرب، ولذلك لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم كلام غير صحيح، فقد كانت الدراهم موجودة عند العرب متداولة بينهم، وقد اعتبرها الشرع وأدخلها في منظومة زكاة الإبل في مسائل الجُبْران في من وجب عليه سن وليس عنده فأجاز له أن يعطي سنا أصغر منه ويزيد شاتين أو عشرين درهما، أو يعطي سنا أعلى منه ويعطيه المصدق شاتين أو عشرين درهما، ففي صحيح البخاري من حديث أنس في فريضة الصدقة التي أمر بها الله رسولَه صلى الله عليه وسلم: «من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما». وفيه أيضا: «ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا بنت لبون فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطي شاتين أو عشرين درهما». وفيه كذلك: «ومن بلغت صدقته بنت لبون وليست عنده، وعنده بنت مخاض فإنها تقبل منه بنت مخاض ويعطي معها عشرين درهما أو شاتين». فهذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يفرض زكاة الفطر أقواتا رفقا بالعرب وخاصة أهل البوادي لقلة الدراهم عندهم ففرض عليهم ما يتيسر لهم من الأطعمة، لأنه لو كان راعى ذلك في زكاة الفطر مع قلتها لراعى ذلك في زكاة الإبل، وأهلها أهل بادية، ولخيرهم بين زيادة شاتين أو وسق أو أقل أو أكثر من الطعام المتوفر لهم، ولما حصر الخيار لهم بين شاتين أو عشرين درهما، وهو مبلغ أكبر بكثير من قيمة صاع من شعير، ولكن تخييره صلى الله عليه وسلم أصحاب الإبل بين دفع شاتين أو عشرين درهما، وتخيير المزكي في زكاة الفطر بين أعيان معينة من الأقوات والسكوت عن الدراهم دليل على عدم قبول الدراهم في زكاة الفطر، وإلا لذكرها كما ذكرها في زكاة الإبل، وهو أيضا دليل على أن تعليل ذلك بندرة الدراهم غير صحيح.
    هذه هي أدلة القائلين بجواز إخراج الدراهم في زكاة الفطر، وهي أدلة ضعيفة في نفسها ومعارضة بأقوى وأصح منها، وهو ما جعل جمهور علماء الأمة يقولون لا يجوز إخراج القيمة ولا يجزئ إخراجها وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم من الفقهاء، وحجتهم:
    1 ـ الأحاديث الصحيحة الواردة في زكاة الفطر؛ فإنها على كثرتها ليس فيها ما يدل من قريب أو بعيد على جواز إخراج القيمة بصفة عامة والدراهم بصفة خاصة من ذلك:
  • حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير، وفي رواية أمر النبي صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير.
  • حديث أبي سعيد الخدري: كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب … وفي رواية عنه: كنا نخرج في عهد رسول الله عليه وسلم يوم الفطر صاعا من طعام، قال أبو سعيد: وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط.
  • حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في زكاة الفطر: «مدان من قمح أو صاع مما سواه من الطعام». وفي حديث آخر: «أدوا زكاة الفطر صاعا من طعام».
    فهذه الأحاديث وغيرها كثير: تتفق كلها على أن المفروض في زكاة الفطر هو المكيال المخصوص من الأقوات المسماة بأسمائها أو غيرها مما هو ملحق بها ومقيس عليها أو داخل في عموم بعضها وإطلاقه، والقيمة بصفة عامة والدراهم بصفة خاصة لا تشملها الأحاديث بلفظها ولا بمعناها ولا يصح إلحاقها بها وقياسها عليها لفقدان الجامع بينها، ولذلك قال أحمد بن حنبل حين قيل له عن عمر بن عبد العزيز إنه كان يأخذ القيمة: يدعون قول رسول الله على الله عليه وسلم ويقولون قال فلان.
    2 ـ أن ذكر هذه الأقوات المختلفة القيمة اختلافا بينا دليل على أن الواجب هو أعيانها لا قيمتها.
    3 ـ إجماع الصحابة والتابعين على إخراج الأقوات المنصوص عليها، ولا يعرف عن واحد منهم إخراج الدراهم والدنانير رغم كثرتها بعد فتح فارس والروم، وقد كان ابن عمر يخرج التمر إلا في عام واحد أعوزهم التمر فأخرج الشعير ولم يخرج الدراهم. كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج إلا التمر.
    4 ـ ما أشار إليه ابن حزم في المحلى من أن زكاة الفطر حق للفقراء وهم غير معينين، والقيمة تحتاج إلى تراضي من له الحق، فلا يجوز للمزكي إخراج القيمة عما وجب عليه من الأعيان لانعدام الرضا ممن له الحق وهم الفقراء لعدم تعينهم.
    5 ـ ما أشار إليه الحافظ ابن حجر من أن إخراج القيمة يؤدي إلى اختلاف مقدار زكاة الفطر باختلاف الزمان والمكان.
    وأيضا زكاة الفطر زيادة على كونها فريضة هي شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة التي ينبغي المحافظة على إظهارها والحرص على إشهارها مثل صلاة الجماعة والأذان والأضحية وصلاة العيدين، ولا ينبغي إخفاؤها، ولا شك أن إخراج الأقوات عامل قوي من العوامل التي تحافظ على إظهارها وإشهارها بين العامة والخاصة والصغار والكبار بما يشاهدونه من المظاهر المصاحبة لها في الأسواق والشوارع وبيوت الفقراء والأغنياء سواء، وإذا تحولت إلى دراهم معدودة تخرج من جيب غني لتقع في يد فقير لا يراها أحد ولا يشعر بها إلا دافعها وقابضها، فإن ذلك يحولها إلى عمل سري تفقد معه ميزتها كشعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة، وقد يؤدي هذا الإسرار بها إلى قلة الاهتمام بها أو نسيانها والجهل بحكمها مع طول السنين.
    لهذه الأسباب فإني أرى أنه لا يجوز إخراج القيمة نقدا، ووجوبُ إخراج زكاة الفطر من الأقوات خاصة، لأنه مذهب الجمهور الذي تؤيده السنة النبوية وعمل الصحابة والتابعين.
    وثانيا: لأن إخراج القوت يجوز ويجزئ اتفاقا، وإخراج القيمة مختلف فيه وخلاف السنة، ولا يترك المتفق عليه للمختلف فيه، ولا المحقق للمشكوك، ولا الثابت بالسنة للثابت بالاجتهاد.
    وثالثا: فإن المشهور في الفقه المالكي أنه لا يجوز الإفتاء ولا العمل بالقول الضعيف أو الشاذ، لقاعدة العمل بالراجح واجب، بل إذا حكم القاضي بذلك ينقض حكمه، كما قال في العمل الفاسي:
    حكم قضاة الوقت بالشذوذ *** ينقض لا يتم بالنفوذ
    ومن عوام لا تجز ما وفقا *** قولا فلا اختيار منهم مطلقا
    والحمد لله رب العالمين.
    د. محمد التاويل