ألان تورينAlain Touraine ودينامية السوسيولوجيا.


ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺍﻧﺘﻤﺎﺀ ﺁﻻﻥ ﺗﻮﺭﻳﻦ Alain Touraine ﻟﻠﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻧﺘﺎﺟﺎ ﻟﻠﺼﺪﻓﺔ ﻛﻤﺎ ﻳﺨﻴﻞ ﻟﻠﺒﻌﺾ؛ ﻓﺎﻧﺘﻤﺎﺋﻪ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﺍﻟﻤﺸﺎﺭﻛﺔ ﻓﻲ ﺗﻐﻴﻴﺮ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ، ﻭﺷﺮﻃﺎ ﻟﻘﻴﺎﻡ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻛﻌﻠﻢ ﻣﻠﺘﺰﻡ ﻭﺭﺍﺩﻳﻜﺎﻟﻲ، ﻧﻈﺮﺍ ﻷﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﻳﻬﺪﻑ ﺇﻟﻰ ﺗﻐﻴﻴﺮ ﺟﻮﻫﺮﻱ ﻓﻲ ﻣﻮﺿﻮﻉ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎﻡ . ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﺃﺑﺤﺎﺛﻪ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻭﺍﻟﻤﻴﺪﺍﻧﻴﺔ ﺗﺴﻌﻰ ﺇﻟﻰ ﺇﻋﺎﺩﺓ ﺍﻻﻋﺘﺒﺎﺭ ﻟﻤﻮﺿﻮﻉ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺩﺭﺍﺳﺔ ﺍﻟﻔﺎﻋﻞ ﻛﻜﺎﺋﻦ ﺗﺎﺭﻳﺨﻲ ﻣﺮﺗﺒﻂ ﺑﺸﺮﻭﻁ ﻭﻭﺿﻌﻴﺎﺕ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﺣﻴﺚ ﻻ ﻳﺘﺨﺬ ﺍﻟﻔﻌﻞ ﻣﻌﻨﺎﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﺇﻻ ﻓﻲ ﻋﻼﻗﺘﻪ ﻣﻊ ﺍﻟﺒﻨﻴﺔ .
ﺃﻻﻥ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﻫﻮ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﺟﺘﻤﺎﻉ ﻓﺮﻧﺴﻲ ‏( ﻣﻦ ﻣﻮﺍﻟﻴﺪ ﻋﺎﻡ 1925 ﻡ ‏) ، ﺣﺼﻞ ﻋﻠﻰ ﺷﻬﺎﺩﺓ ﺍﻟﺘﺒﺮﻳﺰ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﺔ ﺍﻟﻌﻠﻴﺎ ﻟﻸﺳﺎﺗﺬﺓ ﻋﺎﻡ 1950 ، ﻭﺍﻟﺘﺤﻖ ﺑﺎﻟﻤﺮﻛﺰ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ ﻟﻠﺪﺭﺍﺳﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﻟﻴﻌﻤﻞ ﻓﻴﻪ ﺑﺎﺣﺜﺎ ﺣﺘﻰ ﻋﺎﻡ 1958 ، ﻭﻫﻮ ﺣﺎﺻﻞ ﻋﻠﻰ ﺷﻬﺎﺩﺓ ﺍﻟﺪﻛﺘﻮﺭﺍﻩ ﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺗﺤﺖ ﺇﺷﺮﺍﻑ ﺟﻮﺭﺝ ﻓﺮﻳﺪﻣﺎﻥ Georges Friedman ﻋﺎﻡ 1955 ، ﻭﻗﺪ ﻗﺎﻡ ﺑﺘﺄﺳﻴﺲ ﻣﺠﻠﺔ Sociologie du travail ﻋﺎﻡ 1959 ﺑﻤﻌﻴﺔ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﻋﻠﻤﺎﺀ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﻔﺮﻧﺴﻴﻴﻦ ﻣﺜﻞ ﻣﻴﺸﻴﻞ ﻛﺮﻭﺯﻳﻲ Michel Crozier . ﻛﻤﺎ ﺃﻧﺠﺰ ﺍﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﺭﺍﺳﺎﺕ ﻭﺍﻷﺑﺤﺎﺙ ﺣﻮﻝ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﻮﻋﻲ ﺍﻟﻌﻤﺎﻟﻲ .
ﻳﻌﺮﻑ ﺁﻻﻥ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﺑﺄﺑﺤﺎﺛﻪ ﻓﻲ ﻣﺠﺎﻝ ﺳﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﻭﺣﻮﻝ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺍﻟﻔﻌﻞ، ﻭﻣﻦ ﺃﻫﻢ ﺃﻋﻤﺎﻟﻪ، ﻋﻤﻠﻪ ﺍﻟﺮﺋﻴﺲ ﺑﻌﻨﻮﺍﻥ ﺳﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺍﻟﻔﻌﻞ Sociologie de l’action (1965 ‏) . ﺇﻟﻰ ﺟﺎﻧﺐ ﺫﻟﻚ، ﻓﺈﻥ ﻟﻪ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺛﻼﺛﻴﻦ ﻣﺆﻟﻔﺎ ﻣﺜﻞ : ﺗﻄﻮﺭ ﻋﻤﻞ ﺍﻟﻌﻤﺎﻝ ﻓﻲ ﻣﻌﺎﻣﻞ ﺭﻳﻨﻮ L’évolution du travail aux usines Renault (1955 ‏) ، ﺇﻧﺘﺎﺝ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ Production de la société (1973 ‏) ، ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ Pour la sociologie (1974 ‏) ، ﻋﻮﺩﺓ ﺍﻟﺬﺍﺕ Le Retour de l’acteur (1984 ‏) ، ﻧﻘﺪ ﺍﻟﺤﺪﺍﺛﺔ Critique de la modernité (1992 ‏) ، ﻣﺎ ﻫﻲ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ؟ Qu’est-ce que la démocratie ? (1994 ‏) ، ﺃﻥ ﻧﻔﻜﺮ ﺑﺎﺧﺘﻼﻑ Penser autrement (2007 ‏) ، ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ La fin des sociétés (2011 ‏) ، ﺇﻟﺦ .
ﺳﻌﺖ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻣﻊ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﺇﻟﻰ ﺍﻻﻧﺘﺼﺎﺭ ﻟﻠﻔﻌﻞ ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﺍﻻﻧﺘﺼﺎﺭ ﻟﻤﺎ ﻳﺴﻤﻰ ﺑﺎﻟﻨﺴﻖ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﻤﻔﺎﻫﻴﻢ ﻣﺜﻞ ﺍﻟﻮﻇﻴﻔﺔ، ﺍﻟﺪﻭﺭ، ﺍﻟﺜﺒﺎﺕ، ﺍﻟﺘﻜﻴﻒ ﺃﻭ ﺍﻻﻧﺪﻣﺎﺝ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ . ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻓﻲ ﺃﻭﺍﺳﻂ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﻌﺸﺮﻳﻦ ﺗﺮﺗﺒﻂ ﺑﻨﻈﺮﻳﺔ ﺗﺎﻟﻜﻮﺕ ﺑﺎﺭﺳﻮﻧﺰ ‏( Talcott Parsons ‏) ﺍﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗﺘﺠﺎﻭﺯ ﺇﻃﺎﺭ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺎﺕ، ﻭﺍﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮﻡ ﺑﺘﻐﻴﻴﺐ ﺩﻭﺭ ﺍﻟﻔﺎﻋﻞ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ، ﻭﺗﺘﻤﺜﻞ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻛﻜﺎﺋﻦ ﺣﻲ ﻳﺨﻀﻊ ﻟﻠﺘﻄﻮﺭ ﺍﻟﻌﻀﻮﻱ، ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭ ﺃﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺟﺰﺀ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻟﺤﻲ، ﻭﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﺟﺰﺀ ﻣﻦ ﺗﻘﺪﻡ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ . ﻭﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺃﻥ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺍﻟﻨﻘﺪﻳﺔ ﺣﺎﻭﻟﺖ ﺍﻟﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﺍﻟﻮﻫﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﺛﺎﺭﺗﻪ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺍﻟﻜﻼﺳﻴﻜﻴﺔ ﺣﻮﻝ ﺍﻟﻤﻌﺎﻳﻴﺮ ﻭﺍﻷﺩﻭﺍﺭ ﻭﺍﻟﻮﻇﺎﺋﻒ، ﻭﺍﻋﺘﺒﺎﺭ ﺃﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﻣﺎ ﻳﺴﻤﻰ ﺑﻌﻼﻗﺎﺕ ﺍﻟﻬﻴﻤﻨﺔ ﻭﺍﻟﺴﻴﻄﺮﺓ، ﻓﺈﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺳﺮﻋﺎﻥ ﻣﺎ ﺳﻮﻑ ﺗﺘﺤﻮﻝ ﺃﺳﻠﺤﺘﻬﺎ ﺍﻟﻨﻘﺪﻳﺔ ﺇﻟﻰ ﺿﺪﻫﺎ، ﻧﻈﺮﺍ ﻟﻠﻤﻐﺎﻻﺓ ﻓﻲ ﺩﻭﺭ ﺍﻟﻔﺎﻋﻞ ﻭﻓﺼﻠﻪ ﻋﻦ ﺍﻧﺘﻤﺎﺋﻪ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﻨﺴﻖ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ .
ﻭﻗﺪ ﺍﻋﺘﺒﺮ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﺃﻥ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺍﻟﻜﻼﺳﻴﻜﻴﺔ ﺗﺼﻮﺭ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻪ ﻣﺠﺮﺩ ﻧﺴﻖ ﻣﻨﻈﻢ ﻳﺴﺘﻤﺪ ﻭﺟﻮﺩﻩ ﻣﻦ ﺗﻘﺪﻣﻪ ﻭﺗﻄﻮﺭﻩ ﺍﻟﻤﺘﻮﺍﺻﻞ ﻋﺒﺮ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘﻨﺸﺌﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﻜﻴﻒ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻭﺍﻟﻀﺒﻂ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ . ﻛﻤﺎ ﺍﻋﺘﺒﺮ ﺃﻥ ﻣﺸﻜﻠﺔ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺍﻟﻨﻘﺪﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺘﻤﺜﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻔﺎﻋﻠﻴﺔ ﺍﻟﺮﻣﺰﻳﺔ ﻭﺍﻟﻔﺮﺩﺍﻧﻴﺔ ﺍﻟﻤﻨﻬﺠﻴﺔ ﺗﻜﻤﻦ ﻓﻲ ﺗﻤﺠﻴﺪ ﺍﻟﻔﺎﻋﻞ، ﻭﺗﻘﻮﻡ ﺑﺘﻀﺨﻴﻢ ﺇﻣﻜﺎﻧﻴﺎﺗﻪ ﺍﻹﺳﺘﺮﺍﺗﻴﺠﻴﺔ، ﻭﺇﻏﻔﺎﻝ ﺍﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ﺍﻟﻜﺒﺮﻯ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻟﻘﻮﺓ ﻭﺑﺎﻟﺒﻨﺎﺀ، ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺗﺄﻛﻴﺪﻫﻤﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻔﺎﻋﻞ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻭﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ . ﻓﺒﻌﺪﻣﺎ ﻇﻬﺮﺕ ﻟﻨﺎ ﺳﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺍﻟﻨﺴﻖ ﺑﺪﻭﻥ ﻓﺎﻋﻞ ‏( ﺍﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ، ﺍﻟﻤﺎﺭﻛﺴﻴﺔ، ﺍﻟﺒﻨﻴﻮﻳﺔ ‏) ﻇﻬﺮ ﻟﻨﺎ ﺧﻄﺮ ﺍﻻﻧﺴﻴﺎﻕ ﻧﺤﻮ ﺳﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺍﻟﻔﺎﻋﻞ ﺑﺪﻭﻥ ﻧﺴﻖ ‏( ﺍﻟﺘﻔﺎﻋﻠﻴﺔ ﺍﻟﺮﻣﺰﻳﺔ، ﺍﻟﻔﺮﺩﺍﻧﻴﺔ ﺍﻟﻤﻨﻬﺠﻴﺔ ‏) ، ﻭﻟﻬﺬﺍ ﻛﺎﻥ ﻫﺪﻑ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﻫﻮ ﺑﻨﺎﺀ ﺳﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺗﻄﺎﺑﻖ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻔﺎﻋﻞ ﻭﺍﻟﻨﺴﻖ .
ﺿﻤﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻹﻃﺎﺭ، ﻳﻘﺘﺮﺡ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﺇﻋﺎﺩﺓ ﺗﻌﺮﻳﻒ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭﻫﺎ ﺩﺭﺍﺳﺔ ﻟﻠﻔﻌﻞ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ، ﻓﻌﻞ ﺫﺍﺕ ﺗﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﺗﺘﺤﺪﺩ ﺗﻮﺟﻬﺎﺗﻬﺎ ﺑﺎﻟﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻣﺠﻤﻮﻉ ﺍﻟﻈﺮﻭﻑ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ . ﻓﺎﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻓﻲ ﺷﻤﻮﻟﻴﺘﻬﺎ ﻳﺠﺐ ﺃﻥ ﻳﺘﻢ ﺗﺤﻠﻴﻠﻬﺎ ﻋﺒﺮ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﺃﻧﺴﺎﻕ ﺍﻷﻓﻌﺎﻝ ‏[ 1 ‏] . ﻭﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﺤﻮ، ﻗﺎﻡ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﺑﻤﺠﻬﻮﺩ ﻧﻈﺮﻱ ﻟﺘﺠﺎﻭﺯ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻮﺿﻌﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﺳﻘﻄﺖ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻓﻲ ﺛﻨﺎﺋﻴﺔ ﺍﻟﻨﺴﻖ ﻭﺍﻟﻔﺎﻋﻞ، ﻋﺒﺮ ﻣﻘﻮﻟﺔ ﻧﺴﻖ ﺍﻟﻔﻌﻞ، ﻓﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻬﻢ، ﻫﻮ ﺃﻥ ﻳﺘﻢ ﺍﺳﺘﺒﺪﺍﻝ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺴﺎﻓﺔ ﺍﻟﻔﺎﺻﻠﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻔﺎﻋﻞ ﻭﺍﻟﻨﺴﻖ ﺑﺎﻻﺭﺗﺒﺎﻁ ﻣﻌﺎ، ﻭﻫﺬﺍ ﻣﺎ ﺗﺴﻤﺢ ﺑﻪ ﻓﻜﺮﺓ ﻧﺴﻖ ﺍﻟﻔﻌﻞ ﻋﻨﺪ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﻋﺒﺮ ﺍﻟﺘﻔﻜﻴﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻳﻨﺎﻣﻴﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴﺰ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﻐﺮﺑﻴﺔ، ﻣﺮﻛﺰﺍ ﻓﻲ ﺗﺤﻠﻴﻼﺗﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺼﺮﺍﻋﺎﺕ ﻭﺍﻟﺘﻨﺎﻗﻀﺎﺕ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻄﺒﻘﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻣﺘﻼﻙ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﺎﻧﻴﺔ، ﻓﺪﺭﺍﺳﺔ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺗﻜﻤﻦ ﻓﻲ ﺣﺮﻛﻴﺘﻪ ﻭﻟﻴﺲ ﻓﻲ ﺳﻜﻨﺎﺗﻪ .
ﻳﻤﺜﻞ ﻛﺘﺎﺏ ” ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ” ﻋﻨﺪ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﻣﻴﻼﺩ ﻣﺎ ﻳﺴﻤﻰ ﺑﻤﻨﻬﺠﻴﺔ ﺍﻟﺘﺪﺧﻞ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻲ ‏( l’intervention sociologique ‏) ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻬﺪﻑ ﺇﻟﻰ ﺩﺭﺍﺳﺔ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ‏( Mouvements sociaux ‏) ، ﺣﻴﺚ ﻳﻔﺘﺮﺽ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺃﻥ ﻳﻨﺨﺮﻁ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ، ﻭﺃﻥ ﻳﻘﻮﻡ ﺑﺪﺭﺍﺳﺔ ﺍﻟﻔﻌﻞ ﻣﻦ ﺩﺍﺧﻠﻬﺎ ﺩﻭﻥ ﺗﺒﻨﻲ ﺇﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﻴﻦ ‏( ﺍﻟﻘﺎﺋﻤﻴﻦ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ‏) ، ﻭﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺆﻛﺪﻩ ﺣﻮﻝ ﻣﻬﻤﺔ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺑﻘﻮﻟﻪ : ” ﻳﻨﺨﺮﻁ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ، ﻧﻌﻢ؛ ﻭﻟﻜﻦ ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻪ ﺃﻳﻀﺎ ﺃﻥ ﻳﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ ﺗﻨﻈﻴﻤﻬﺎ ” ‏[ 2 ‏] ، ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺣﺮّﺍ ﺗﺠﺎﻩ ﺗﻨﻈﻴﻤﻬﺎ . ﻫﺬﺍ ﻳﻌﻨﻲ ﺃﻳﻀﺎ ﺍﻟﺘﺮﻛﻴﺰ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻨﺎﺿﻠﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺎﻋﺪﺓ ﻭﻟﻴﺲ ﻣﻊ ﺍﻟﻘﺎﺩﺓ ﺃﻭ ﺍﻹﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﻴﻦ ﺍﻟﻮﺍﻗﻌﻴﻦ ﺗﺤﺖ ﺗﺄﺛﻴﺮ ﺍﻟﺘﺮﺳﻴﻤﺎﺕ ﺍﻟﻤﺨﺼﺼﺔ ﻟﻠﺤﻔﺎﻅ ﻋﻠﻰ ﺃﺩﻭﺍﺭﻫﻢ ‏[ 3 ‏] .
ﺗﺴﻤﺢ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻟﺪﻯ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﺑﺘﻔﻌﻴﻞ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻭﺇﻇﻬﺎﺭ ﺣﺮﻛﺎﺗﻪ ﻭﺍﻟﻤﺴﺎﻫﻤﺔ ﻓﻲ ﺗﺸﻜﻴﻠﻬﺎ، ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺳﺒﺒﺎ ﻓﻲ ﺇﻧﺸﺎﺀ ﻣﺮﻛﺰ ﺍﻟﺘﺤﻠﻴﻞ ﻭﺍﻟﺘﺪﺧﻞ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻲ ‏( EHESS ‏) ﻣﺎ ﺑﻴﻦ ‏( 1981 ـ 1982 ‏) ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﺗﺨﻠﻰ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﻋﻦ ﻣﺮﻛﺰ ﺩﺭﺍﺳﺔ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ‏( CEMS ‏) ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻢ ﺗﺄﺳﻴﺴﻪ ﻋﺎﻡ .1970
ﻳﻤﺰﺝ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﺑﻴﻦ ﺍﻻﻟﺘﺰﺍﻡ ﺍﻟﻌﻠﻤﻲ ﻭﺍﻻﻟﺘﺰﺍﻡ ﺍﻷﺧﻼﻗﻲ ﻓﻲ ﺳﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺘﻪ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﻣﻨﻬﺠﻴﺔ ﺍﻟﺘﺪﺧﻞ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺠﻤﻊ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﻼﺣﻈﺔ ﺑﺎﻟﻤﺸﺎﺭﻛﺔ ﻭﺍﻟﻤﻨﻬﺞ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲ ﺑﻬﺪﻑ ﺇﺣﺪﺍﺙ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺴﺎﻓﺔ ﺍﻟﻀﺮﻭﺭﻳﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺒﺎﺣﺚ ﻭﻣﻮﺿﻮﻋﻪ، ﺣﻴﺚ ﻳﻤﻜﻦ ﺍﻋﺘﺒﺎﺭ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﺗﺼﻮﺭﺍ ﺟﺪﻳﺪﺍ ﻟﺤﺮﻓﺔ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﺗﺠﺎﻭﺯ ﺃﺩﻭﺍﺭ ﺍﻻﺳﺘﻜﺸﺎﻑ ﻓﻘﻂ ﻭﺍﻟﺘﺤﻠﻴﻞ ﺍﻟﻤﻮﺿﻮﻋﻲ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻋﺒﺮ ﺍﻻﻧﺨﺮﺍﻁ ﻓﻲ ﺗﻐﻴﻴﺮﻩ، ﻣﺴﺘﻠﻬﻤﺎ ﺑﺬﻟﻚ ﻛﻞ ﺍﻟﻤﻌﺎﺭﻑ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻓﻲ ﻣﺴﺎﻋﺪﺓ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺻﻴﺎﻏﺔ ﻭﻋﻴﻬﺎ ﺑﺮﻫﺎﻧﺎﺗﻬﺎ ﻭﺧﺼﻮﻣﻬﺎ ﻭﻣﺸﺮﻭﻋﻬﺎ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺤﻤﻠﻪ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ ﺷﺮﻳﻄﺔ ﺃﻻ ﻳﺴﻌﻰ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺇﻟﻰ ﻓﺮﺽ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ‏[ 4 ‏] .
ﻭﻳﺮﺗﺒﻂ ﺍﻟﺘﺤﻠﻴﻞ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻲ ﻟﺪﻯ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﺑﻤﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴﻢ ﺍﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ، ﻣﺜﻞ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﺎﻧﻴﺔ ‏( L’historicité ‏) ، ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﺍﻟﺬﺍﺕ ‏( Sujet ‏) . ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴﻢ ﻧﺠﺪﻫﺎ ﻣﺘﺮﺍﺑﻄﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﺑﺴﺒﺐ ﺭﻓﺾ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﻟﻜﻞ ﺍﻟﺘﺤﻠﻴﻼﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺴﻌﻰ ﺇﻟﻰ ﺗﻔﺴﻴﺮ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺑﺄﻧﻪ ﻳﺨﻀﻊ ﻟﻤﺒﺪﺃ ﻏﻴﺮ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻲ، ﻣﺤﺪﺩ ﻣﻦ ﻃﺮﻑ ﻗﻮﺓ ﻏﻴﺮ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺈﺭﺍﺩﺓ ﺍﻟﻔﺎﻋﻞ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻣﺜﻞ ﺍﻟﻮﺻﺎﻳﺔ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ، ﺍﻟﺼﺪﻓﺔ، ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ … ﺇﻟﺦ .
ﺇﻥ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻓﻲ ﻧﻈﺮ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﻫﻮ ﻧﺘﺎﺝ ﻷﻓﻌﺎﻟﻪ ﻭﻣﻤﺎﺭﺳﺎﺗﻪ ﻭﻟﻠﻌﻼﻗﺎﺕ ﺍﻟﻤﻤﻴﺰﺓ، ﻳﻔﺘﺮﺽ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻭﺍﻋﻴﺎ ﺑﺬﺍﺗﻪ، ﻭﻗﺎﺩﺭﺍ ﻋﻠﻰ ﺗﻐﻴﻴﺮ ﻧﻔﺴﻪ، ﻭﻣﺪﻋﻮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﻴﻦ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻴﻴﻦ . ﻓﺎﻟﻔﺎﻋﻞ ﺩﺍﺋﻢ ﺍﻟﻔﻌﻞ ﻭﺍﻟﺤﺮﻛﺔ، ﻗﺎﺩﺭ ﻋﻠﻰ ﺍﺳﺘﺜﻤﺎﺭ ﻧﻔﺴﻪ ﻭﺗﻔﻌﻴﻞ ﺫﺍﺗﻪ . ﻭﻟﺬﻟﻚ ﻳﻘﺪﻡ ﻟﻨﺎ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﺎﻧﻴﺔ ﻛﻤﻔﻬﻮﻡ ﻣﺮﻛﺰﻱ، ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺘﺨﺬﻩ ﺍﻟﻔﻌﻞ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻔﺎﻋﻞ، ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮﻝ ﺗﻮﺭﻳﻦ :
” ﺃﺳﻤﻲ ﻣﺎ ﺃﺩﻋﻮﻩ ﺗﺎﺭﻳﺨﺎﻧﻴﺔ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺒﻌﺪ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺘﺨﺬﻩ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﺗﺠﺎﻩ ﻧﺸﺎﻃﻪ، ﻭﺍﻟﻔﻌﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺤﺪﺩ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻪ ﻣﻘﻮﻻﺕ ﻣﻤﺎﺭﺳﺘﻪ، ﻓﻠﻴﺲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻛﺎﺋﻦ، ﻭﻟﻜﻦ ﻣﺎ ﻳﻔﻌﻠﻪ ﻟﻜﻲ ﻳﻜﻮﻥ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺨﻠﻖ ﻭﺿﻌﺎ ﻟﻠﻌﻼﻗﺎﺕ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻭﻣﺤﻴﻄﻪ، ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺍﻟﺘﺮﺍﻛﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻘﺘﻄﻊ ﺟﺰﺀﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺗﺞ ﺍﻟﻤﺘﻮﻓﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﻤﺆﺩﻳﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻻﺳﺘﻬﻼﻙ، ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺍﻟﻨﻤﻮﺫﺝ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺘﺤﻜﻢ ﻓﻲ ﺍﻹﺑﺪﺍﻋﻴﺔ ﺑﺄﺷﻜﺎﻝ ﺗﺨﻀﻊ ﻟﻠﻨﻔﻮﺫ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺳﻴﺮﻩ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ، ﻓﻬﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺨﻠﻖ ﻣﺠﻤﻮﻉ ﺗﻮﺟﻬﺎﺗﻪ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ ﺑﻔﻌﻞ ﺗﺎﺭﻳﺨﻲ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻌﻼ ﻭﻣﻌﻨﻰ ” ‏[ 5 ‏] .
ﻳﻘﺘﺮﺡ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﻫﻨﺎ ﺛﻼﺙ ﻣﻴﺰﺍﺕ ﺃﺳﺎﺳﻴﺔ ﺗﺴﻬﻢ ﻓﻲ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﻣﺎ ﻳﺴﻤﻴﻪ ﺑﺎﻟﺘﺎﺭﻳﺨﺎﻧﻴﺔ ﻭﺗﻮﺟﻴﻪ ﻋﻤﻞ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻓﻲ ﻣﻤﺎﺭﺳﺘﻪ، ﻭﻫﻲ ﻛﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ‏[ 6 ‏] :
ـ ﻧﻤﻂ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ، ﻭﺑﺨﺎﺻﺔ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻭﻋﻦ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﻋﻦ ﺍﻟﻼﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻲ Non-social ﻭﺍﻟﻠﻐﺔ، ﻛﻠﻬﺎ ﺗﺴﺎﻫﻢ ﻓﻲ ﺗﻮﺟﻴﻪ ﺍﻟﺘﺼﺮﻓﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻛﻤﺎ ﺗﺴﺎﻫﻢ ﻓﻲ ﺗﻌﺮﻳﻒ ﺍﻟﻮﺿﻌﻴﺔ .situation
ـ ﺍﻟﺘﺮﺍﻛﻢ l’accumulation ﺍﻟﺬﻱ ﺑﻮﺍﺳﻄﺘﻪ ﻳﻮﻇﻒ ﻗﺴﻢ ﻣﻦ ﺍﻹﻧﺘﺎﺝ ﺍﻟﻘﺎﺑﻞ ﻟﻼﺳﺘﻬﻼﻙ ﻓﻲ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺍﻹﻧﺘﺎﺝ، ﻭﻳﺴﺎﻫﻢ ﻟﻴﺲ ﻓﻘﻂ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻤﻞ، ﺑﻞ ﻓﻲ ﺇﻧﺘﺎﺝ ﺍﻟﻌﻤﻞ .
ـ ﺍﻟﻨﻤﻮﺫﺝ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻋﺒﺮﻩ ﻳﺪﺭﻙ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻧﻔﺴﻪ ﻭﻳﺴﺘﻮﻋﺐ ﺇﺑﺪﺍﻋﻴﺘﻪ .créativité
ﻓﺎﻟﺘﺎﺭﻳﺨﺎﻧﻴﺔ ﻓﻲ ﻧﻈﺮ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﻫﻲ ﻗﺪﺭﺓ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻋﻠﻰ ﺇﻋﺎﺩﺓ ﺇﻧﺘﺎﺝ ﻧﻔﺴﻪ؛ ﺃﻱ ﺇﻧﺘﺎﺝ ﺗﻮﺟﻬﺎﺗﻪ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﻣﻤﺎﺭﺳﺎﺗﻪ ﻭﺃﻧﺸﻄﺘﻪ، ﺍﻟﺸﻲﺀ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺠﻌﻠﻪ ﻛﺎﺋﻦ ﻣﻮﺟﻮﺩ ﻭﻟﻴﺲ ﻣﺎ ﻳﻔﺘﺮﺽ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﺍﻟﻘﻮﻯ ﻏﻴﺮ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ . ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻪ ﻳﻘﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﻤﻮﺫﺝ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻌﻄﻲ ﻟﻠﺘﺎﺭﻳﺨﺎﻧﻴﺔ ﻣﻌﻨﻰ ﻟﻠﻤﻤﺎﺭﺳﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺗﻮﺟﻴﻪ ﺍﻟﻔﻌﻞ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲ . ﻓﺎﻟﺘﺎﺭﻳﺨﺎﻧﻴﺔ ﺃﺷﺒﻪ ﺑﻨﻈﺎﻡ ﻣﻌﻘﺪ ﻳﻘﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻔﻌﻞ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲ ﻭﻋﻠﻰ ﺃﻧﻈﻤﺔ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ، ﻭﺃﺷﻜﺎﻝ ﺍﻟﺘﺮﺍﻛﻢ ﻭﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﻤﻂ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ، ﺣﻴﺚ ﻳﺘﻢ ﺗﺴﻴﻴﺮﻫﺎ ﻭﺗﻮﺟﻴﻬﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻗﻮﻯ ﺗﻨﺎﻓﺴﻴﺔ ﻣﺘﺼﺎﺭﻋﺔ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ .
ﻭﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺃﻥ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﺎﻧﻴﺔ ﻳﻌﺪّ ﻣﻔﻬﻮﻣﺎ ﺩﻳﻨﺎﻣﻴﺎ، ﺇﻻ ﺃﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﻳﺮﻓﺾ ﻛﻞ ﺗﺼﻮﺭ ﺍﺧﺘﺰﺍﻟﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻧﻈﺮﺓ ﺗﻄﻮﺭﻳﺔ، ﻓﺎﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻻ ﻳﺨﻀﻊ ﺇﻟﻰ ﻭﺿﻊ ﻣﺴﺒﻖ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺧﺎﺿﻊ ﻟﺘﻮﺟﻴﻬﺎﺕ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﻴﻦ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﺮﺳﻤﻮﻥ ﺧﻄﻮﻃﻪ ﺍﻟﺪﻗﻴﻘﺔ ﻭﺍﻟﻌﺮﻳﻀﺔ . ﻓﻼ ” ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻧﻔﻬﻢ ﺍﻟﻔﺎﻋﻞ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻨﺘﻤﻲ ﺇﻟﻴﻪ، ﺑﻞ ﻳﺠﺐ ﺍﻻﻧﻄﻼﻕ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﻴﻦ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﻴﻦ ﻭﻣﻦ ﺍﻟﺼﺮﺍﻋﺎﺕ ﺍﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺠﻌﻞ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻓﻲ ﻣﻮﺍﺟﻬﺔ ﺍﻟﺒﻌﺾ، ﻭﺍﻟﺘﻲ ﻳﻨﺘﺞ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﺒﺮﻫﺎ، ﻭﺫﻟﻚ ﺣﺘﻰ ﻧﻔﻬﻢ ﻛﻴﻒ ﺗﻨﺸﺄ ﻣﻘﻮﻻﺕ ﺍﻟﻤﻤﺎﺭﺳﺔ ” ‏[ 7 ‏] .
ﻭﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ، ﻳﺠﺐ ﺃﻥ ﻧﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﻴﻦ ﻋﻠﻰ ﺃﺳﺎﺱ ﻗﺪﺭﺗﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﺄﺛﻴﺮ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﻨﺴﻖ، ﻭﻫﻮ ﻣﺎ ﺟﻌﻞ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﻳﻘﺎﺭﻥ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺘﻤﻴﺰ ﺑﺘﺎﺭﻳﺨﺎﻧﻴﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ، ﻭﻣﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺗﺘﻤﻴﺰ ﺑﺘﺎﺭﻳﺨﺎﻧﻴﺔ ﺿﻌﻴﻔﺔ . ﻓﻔﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺿﻌﻴﻔﺔ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﺎﻧﻴﺔ، ﻳﺪﺭﻙ ﺍﻟﻨﻤﻮﺫﺝ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ ﺑﺼﻔﺔ ﻣﺠﺮﺩﺓ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻪ ﻧﻈﺎﻡ ﻛﻠﻲ ” ﻣﻴﺘﺎ ـ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ” ‏( Méta-Social ‏) ، ﻭﻫﻲ ﻻ ﺗﺆﻣﻦ ﺑﺎﻟﺘﻐﻴﻴﺮ ﻭﺍﻹﺑﺪﺍﻉ ﻭﻧﺠﺪﻫﺎ ﺗﻤﻴﻞ ﺇﻟﻰ ﺇﻋﺎﺩﺓ ﺇﻧﺘﺎﺝ ﺍﻟﻨﺴﻖ، ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﺘﻢ ﺗﻬﺪﻳﺪ ﻣﺼﺎﻟﺤﻬﺎ ﻭﻭﺟﻮﺩﻫﺎ . ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﻋﺎﻟﻴﺔ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﺎﻧﻴﺔ ﻳﻜﻮﻥ ” ﺗﺄﺛﻴﺮ ﺇﻧﺘﺎﺝ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺇﻧﺘﺎﺝ ﺍﻟﺨﻴﺎﺭﺍﺕ ﻛﺒﻴﺮﺍ، ﻳﻜﻮﻥ ﺇﺩﺭﺍﻙ ﺍﻹﺑﺪﺍﻋﻴﺔ ﻋﻤﻠﻴﺎ، ﻓﻴﻌﺮﻑ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻪ ﺇﺑﺪﺍﻋﻴﺔ، ﻭﻗﻮﺓ ﻣﺒﺎﺷﺮﺓ ﻟﺘﺤﻮﻳﻞ ﺣﺎﻟﺔ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ” ‏[ 8 ‏] .
ﻳﺮﻯ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﺃﻥ ﺟﻮﻫﺮ ﺩﻳﻨﺎﻣﻴﺔ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻳﻜﻤﻦ ﺃﺳﺎﺳﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭﻫﺎ ﺫﻭﺍﺕ ﻓﺎﻋﻠﻴﺔ، ﺣﻴﺚ ﻳﻌﺘﺒﺮ ﺑﺄﻥ ﻣﻮﺿﻮﻉ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻫﻮ ” ﺩﺭﺍﺳﺔ ﺍﻟﺘﺼﺮﻓﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﻭﻓﻲ ﺍﻟﺪﺭﺟﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ، ﺩﺭﺍﺳﺔ ﺍﻟﺘﺼﺮﻓﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺮﺗﺒﻂ ﻣﺒﺎﺷﺮﺓ ﺑﺎﻟﺘﺎﺭﻳﺨﺎﻧﻴﺔ؛ ﺃﻱ ﺑﻌﻼﻗﺎﺕ ﻭﺻﺮﺍﻋﺎﺕ ﺍﻟﻄﺒﻘﺎﺕ، ﺗﺼﺮﻓﺎﺕ ﻧﺪﻋﻮﻫﺎ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ” ‏[ 9 ‏] ، ﻭﻫﻮ ﺍﻷﻣﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﺟﻌﻠﻪ ﻳﺮﺍﻫﻦ ﻛﺜﻴﺮﺍ ﻋﻠﻰ ﺳﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺍﻟﻔﻌﻞ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻬﺘﻢ ﺑﺪﺭﺍﺳﺔ ﺍﻷﻓﻌﺎﻝ ﻭﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﻭﺍﻟﺼﺮﺍﻋﺎﺕ ﻭﺍﻟﺘﻨﺎﻓﺴﺎﺕ ﻭﺍﻷﻧﺴﺎﻕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ .
ﻳﻌﺮﻑ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺑﺄﻧﻬﺎ ” ﻓﻌﻞ ﺗﻨﺎﺯﻋﻲ ﺑﻴﻦ ﻭﻛﻼﺀ ﺍﻟﻄﺒﻘﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﻤﺘﺼﺎﺭﻋﻴﻦ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﻣﺮﺍﻗﺒﺔ ﻧﺴﻖ ﺍﻟﻔﻌﻞ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲ ” ‏[ 10 ‏] . ﺇﻧﻬﺎ ﺗﻌﻤﻞ ﺑﺬﻟﻚ، ﺩﺍﺋﻤﺎ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﺗﻤﺘﻠﻚ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﻟﻨﻔﺴﻬﺎ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺍﻟﺪﻓﺎﻉ ﻋﻦ ﻫﻮﻳﺘﻬﺎ ﻭﺍﺳﺘﻘﻼﻟﻬﺎ ﺿﺪ ﺧﺼﻮﻣﻬﺎ ﻛﻠﻤﺎ ﺩﻋﺖ ﺍﻟﻀﺮﻭﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﺫﻟﻚ . ﻓﺄﻫﻢ ﻣﺎ ﻳﻤﻴﺰ ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻫﻮ ﺍﻟﻤﺮﻭﺭ ﻣﻦ ﺍﻟﻬﻮﻳﺔ ﺍﻟﺪﻓﺎﻋﻴﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻬﻮﻳﺔ ﺍﻟﻬﺠﻮﻣﻴﺔ، ﻓﻌﻦ ﻃﺮﻳﻘﻬﺎ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺃﻥ ﻳﻨﺘﺼﺮ ﻟﻮﺟﻮﺩﻩ ﻋﺒﺮ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺉ ﺍﻟﺘﻲ ﻭﺿﻊ ﻟﻬﺎ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﺗﺴﻤﻰ ﻣﺒﺎﺩﺉ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ، ﺣﻴﺚ ﺗﺘﻤﺜﻞ ﻓﻲ ﺛﻼﺛﺔ ﻣﺒﺎﺩﺉ، ﻭﻫﻲ ﻛﺎﻟﺘﺎﻟﻲ :
ـ ﻣﺒﺪﺃ ﺍﻟﻬﻮﻳﺔ : ﺇﺫ ﻳﺘﻌﻴﻦ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺃﻥ ﺗﻌﻠﻦ ﻋﻦ ﻫﻮﻳﺘﻬﺎ ﻭﻣﻦ ﻳﻤﺜﻠﻬﺎ .
ـ ﻣﺒﺪﺃ ﺍﻟﺘﻌﺎﺭﺽ : ﺗﺤﺪﻳﺪ ﺍﻟﺨﺼﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺘﻌﺎﺭﺽ ﻣﻊ ﺃﻫﺪﺍﻑ ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺗﻮﺿﻴﺤﻪ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﻮﺿﻮﻋﻲ .
ـ ﻣﺒﺪﺃ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ : ﻭﻫﻮ ﺃﻫﻢ ﻣﺒﺪﺃ ﻋﻨﺪ ﺗﻮﺭﻳﻦ، ﺣﻴﺚ ﻳﻔﺘﺮﺽ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻣﻜﻮﻧﺔ ﻣﻦ ﻭﻋﻲ ﺟﻤﻌﻲ ﻭﺷﻤﻮﻟﻲ؛ ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺁﺧﺮ ﺃﻻ ﺗﻜﻮﻥ ﺃﻗﻠﻴﺔ ﺃﻭ ﻓﺮﺩﻳﺔ، ﻷﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺒﺪﺃ ﻳﺴﺎﻫﻢ ﺑﺸﻜﻞ ﻛﺒﻴﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺄﺛﻴﺮ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﺃﻱ ﺍﻟﻌﺎﻡ، ﻭﻋﻠﻰ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﺍﻟﻤﻄﺎﻟﺐ ﻭﺍﻟﻤﻜﺘﺴﺒﺎﺕ ﻭﺿﻤﺎﻥ ﺍﻟﺤﻘﻮﻕ .
ﺗﻠﻚ ﻫﻲ ﺃﻫﻢ ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺉ ﺍﻟﺘﻲ ﻭﺿﻌﻬﺎ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﻟﺘﻮﺟﻴﻪ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﺍﻟﺴﻴﻄﺮﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻷﺷﻜﺎﻝ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﻭﺑﻨﻰ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ؛ ﻓﺎﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻳﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻻﻧﺪﻣﺎﺝ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺗﻌﻨﻲ ﻓﻌﻼ ﺻﺮﺍﻋﻴﺎ ﻳﻌﺎﺭﺽ ﺃﺷﻜﺎﻝ ﺍﻻﻧﺪﻣﺎﺝ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪﺛﻬﺎ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ .
ﻫﺬﺍ، ﻭﻗﺪ ﺗﻤﻴﺰﺕ ﺳﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﻓﻲ ﺑﺪﺍﻳﺔ ﺍﻟﺜﻤﺎﻧﻴﻨﻴﺎﺕ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﻌﺸﺮﻳﻦ ﺑﻌﻮﺩﺓ ﺍﻟﻔﺎﻋﻞ Retour de L’acteur ، ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻌﻮﺩﺓ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻋﻔﻮﻳﺔ ﻋﺮﺿﻴﺔ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﺗﻀﺎﻓﺮﺕ ﻓﻴﻬﺎ ﺣﻴﺜﻴﺎﺕ ﻭﺷﺮﻭﻁ ﻛﺜﻴﺮﺓ، ﻭﺳﺎﻫﻤﺖ ﻓﻲ ﺑﺮﻭﺯ ﺍﻟﻔﺎﻋﻞ ﺑﺸﻜﻞ ﻗﻮﻱ، ﻭﻣﻦ ﺿﻤﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻴﺜﻴﺎﺕ ﻭﺍﻟﺸﺮﻭﻁ ﺿﻌﻒ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺎﺕ ﺍﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ ﻭﺍﻟﺒﻨﻴﻮﻳﺔ ﻓﻲ ﺗﻔﺴﻴﺮ ﺍﻟﻈﻮﺍﻫﺮ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﺛﻢ ﺍﻟﺘﺤﻮﻻﺕ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻋﺮﻓﻬﺎ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺧﻼﻝ ﻓﺘﺮﺓ ﺍﻟﺴﺒﻌﻴﻨﻴﺎﺕ ﻣﺜﻞ ﺗﻔﻜﻚ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﻘﻮﻣﻴﺔ، ﻭﺍﻧﺤﻼﻝ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻲ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺍﻟﻤﻄﺎﻑ ﺗﻤﺜﻞ ﺳﻠﻄﺔ ﻗﻬﺮﻳﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺎﺕ ﺍﻟﺼﻐﺮﻯ، ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺎﺕ ﺗﻨﻈﺮ ﻟﻨﻔﺴﻬﺎ ﻓﻲ ﻣﻮﻗﻊ ﺍﻟﺘﺒﻌﻴﺔ .
ﺇﻥ ﻋﻮﺩﺓ ﺍﻟﻔﺎﻋﻞ ﺳﺘﺒﺮﺯ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺯﻭﺍﻳﺎ ﻣﺘﻌﺪﺩﺓ ﻭﻣﺨﺘﻠﻔﺔ، ﺗﺘﻤﺜﻞ ﻣﺜﻼ ﻓﻲ ﺑﺮﻭﺯ ﺣﺮﻛﺎﺕ ﺍﻟﻨﻮﻉ ﻭﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻟﻨﺴﺎﺋﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺍﻋﺘﺒﺮﻫﺎ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﻣﻦ ﺃﻫﻢ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﻌﺸﺮﻳﻦ، ﻭﺍﻟﺘﻲ ﺃﻓﺮﺯﺗﻬﺎ ﻣﺨﻠﻔﺎﺕ ﺍﻟﺤﺪﺍﺛﺔ .
ﺳﻴﺮﻛﺰ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﻋﻠﻰ ﻓﻜﺮﺓ ﺃﺳﺎﺳﻴﺔ ﻣﻔﺎﺩﻫﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺘﺸﻜﻞ ﻓﻲ ﺍﺳﺘﻘﻼﻝ ﻧﺴﺒﻲ ﻋﻦ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺴﻌﻰ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﻌﺒﻴﺮ ﻋﻦ ﺍﻣﺘﻼﻛﻬﺎ ﻟﻠﺘﺎﺭﻳﺨﺎﻧﻴﺔ، ﺣﻴﺚ ﺳﻴﺘﻢ ﺍﻟﺘﺮﻛﻴﺰ ﻫﻨﺎ ﻋﻠﻰ ﺣﺮﻛﻴﺔ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻓﻲ ﻋﻼﻗﺘﻬﺎ ﺑﻘﻀﺎﻳﺎ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ، ﻭﺳﻮﻑ ﻳﺒﻠﻮﺭ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﺔ ﻛﺘﻌﺒﻴﺮ ﻋﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﺮﻛﻴﺔ، ﻓﺄﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺫﺍﺗﺎ ﻓﺎﻋﻠﺔ ﻫﻮ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻗﺎﺩﺭﺍ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻔﻌﻞ ﻭﺍﻟﺤﺮﻛﺔ، ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻪ ﺳﻴﻬﺘﻢ ﺑﺪﺭﺍﺳﺔ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﻓﺎﻟﻬﺪﻑ ﻣﻨﻬﺎ ﻫﻲ ﺗﺤﺮﻳﺮ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻣﻦ ﺍﻟﻬﻴﻤﻨﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻤﺎﺭﺳﻬﺎ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻔﺮﺩ . ﻓﺎﻟﺬﺍﺕ ﻓﻲ ﻧﻈﺮ ﺗﻮﺭﻳﻦ : ” ﻟﻴﺲ ﻋﻨﺼﺮﺍ ﻣﻦ ﻋﻨﺎﺻﺮ ﺍﻟﺘﻌﺎﺭﺽ ‏( ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﺔ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﻭﺍﻟﻌﻘﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻬﺔ ﺍﻷﺧﺮﻯ ‏) ، ﺑﻞ ﻛﺘﻌﺒﻴﺮ ﻣﺤﺴﻮﺱ ﻋﻦ ﺭﻓﺾ ﻣﺰﺩﻭﺝ ﻭﻋﻦ ﻗﺮﺍﺭ . ﻫﻨﺎﻙ ﺭﻓﺾ ﻟﻠﺴﻠﻄﺔ ﺍﻟﺘﻜﻨﻮﻗﺮﺍﻃﻴﺔ، ﻟﻠﻌﻘﻠﻨﺔ ﺑﺎﻟﻤﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟﺘﺎﻳﻠﻮﺭﻱ، ﻭﺭﻓﺾ ﻟﻠﺴﻠﻄﺔ ﺍﻟﺠﺎﻟﻴﺎﺗﻴﺔ، ﻟﺘﺴﻠﻂ ﺍﻟﻬﻮﻳﺔ؛ ﻷﻥ ﻛﻞ ﺫﺍﺕ ﻓﺎﻋﻠﺔ ﻫﻲ ﻓﻲ ﺁﻥ ﻭﺍﺣﺪ ﻛﻮﻧﻴﺔ ﻭﺟﺎﻟﻴﺎﺗﻴﺔ ” ‏[ 11 ‏] .
ﻳﺪﺍﻓﻊ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﻋﻦ ﻓﻜﺮﺓ ﻣﻬﻤﺔ، ﻭﻫﻲ ﺃﻻ ﻳﺼﺒﺢ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﻗﻄﻌﺔ ﺷﻄﺮﻧﺞ ﻳﺘﻢ ﺍﻟﺘﻼﻋﺐ ﺑﻬﺎ ﻣﻦ ﻃﺮﻑ ﺍﻟﻨﻈﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻭﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ؛ ﺃﻱ ﺃﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﻣﺴﺘﻌﺒﺪﺍ ﺃﻭ ﺩﺍﺧﻞ ﻣﺼﻔﻮﻓﺔ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻳﺘﻢ ﺑﺮﻣﺠﺘﻪ ﻭﻓﻖ ﻧﻤﻂ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻭﺇﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻲ ﻳﺨﺪﻡ ﻓﺌﺔ ﺃﻗﻠﻴﺔ ﻣﺘﺤﻜﻤﺔ، ﻓﺎﻟﻔﺮﺩ ﻋﻨﺪ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﺎﻋﻼ، ﻷﻧﻪ ﺣﺮّ ﻓﻲ ﺗﻮﺟﻬﺎﺗﻪ ﻭﺍﺧﺘﻴﺎﺭﺍﺗﻪ ﻭﻗﺎﺩﺭ ﻋﻠﻰ ﺗﻐﻴﻴﺮ ﻣﺤﻴﻄﻪ، ﻭﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻪ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺫﺍﺕ ﻓﺎﻋﻠﺔ ﺇﻻ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﺆﻣﻦ ﺑﻔﺮﺩﻳﺘﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻔﻌﻞ، ﻭﻫﺬﺍ ﻣﺎ ﻳﻤﻴﺰ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﺔ ﻋﻨﺪ ﺗﻮﺭﻳﻦ، ﻷﻧﻬﺎ ﺗﺴﻌﻰ ﺇﻟﻰ ﺗﺤﺮﻳﺮ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺃﺷﻜﺎﻝ ﺍﻟﺘﺤﻜﻢ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻤﺎﺭﺳﻬﺎ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﻤﺒﺮﻣﺞ .
ﺇﻥ ﻫﺪﻑ ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻋﻨﺪ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﻫﻮ ﺗﺤﺮﻳﺮ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻣﻦ ﺃﺷﻜﺎﻝ ﺍﻟﻬﻴﻤﻨﺔ ﻭﺍﻟﺴﻴﻄﺮﺓ ﻋﺒﺮ ﺗﻐﻴﻴﺮ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻭﺍﻟﺘﻘﻨﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﻘﺪﻡ ‏[ 12 ‏] ، ﻭﺍﻟﺬﺍﺕ ﻋﻨﺪﻩ ﺗﺘﺠﺴﺪ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺎﻋﻞ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﻭﺍﻟﺼﺮﺍﻋﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ . ﻓﺎﻟﺬﺍﺕ ﻫﻲ ﺍﻟﻔﺎﻋﻞ ” ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﻣﺴﺘﻮﻯ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﻹﻧﺘﺎﺝ ﺗﻮﺟﻬﺎﺕ ﻛﺒﺮﻯ ﻣﻌﻴﺎﺭﻳﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎﺓ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ” ‏[ 13 ‏] . ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻫﻲ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺣﺮﻛﺎﺕ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮﻝ : ” ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺇﻻ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭﻫﺎ ﺣﺮﻛﺔ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﺇﻻ ﻛﺎﻋﺘﺮﺍﺽ ﻋﻠﻰ ﻣﻨﻄﻖ ﺍﻟﺘﻨﻈﻴﻢ ‏( ordre ‏) ، ﺳﻮﺍﺀ ﺍﺗﺨﺬ ﺷﻜﻼ ﻧﻔﻌﻴﺎ ﺃﻭ ﻛﺎﻥ ﺑﺤﺜﺎ ﻋﻦ ﺍﻟﺘﻜﺎﻣﻞ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ .” ‏[ 14 ‏]
ﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻳﺘﻀﺢ ﺃﻥ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﺔ ﻫﻲ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺗﺤﺮﺭ ﻣﻦ ﺃﺷﻜﺎﻝ ﺍﻟﻬﻴﻤﻨﺔ ﻭﺍﻟﺴﻴﻄﺮﺓ، ﺣﻴﺚ ﺗﻔﺘﺮﺽ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺑﻨﺎﺀ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻟﻤﻮﺍﺟﻬﺔ ﺍﻵﺧﺮ؛ ﺃﻱ ﺃﻧﻬﺎ ﺗﺘﺄﺳﺲ ﻟﻤﻮﺍﺟﻬﺔ ﻭﻣﻘﺎﻭﻣﺔ ﻣﺮﺍﻛﺰ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ ﻓﻲ ‏( ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻣﺒﺮﻣﺞ ‏) ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻌﻨﻲ ﺑﻪ ﺁﻻﻥ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﺍﻟﺘﺤﻜﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺸﺮ، ﻟﻜﻲ ﻳﻜﻮﻥ ﻟﻬﺎ ﻣﺸﺮﻭﻉ ﺳﻮﺳﻴﻮ ـ ﺛﻘﺎﻓﻲ ﺗﺘﺸﺎﺭﻙ ﻓﻴﻪ ﻣﻊ ﺑﺎﻗﻲ ﺍﻟﺬﻭﺍﺕ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﺔ ﻭﺍﻟﻤﺘﻤﺜﻞ ﺑﺎﻟﺪﺭﺟﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ، ﻭﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺮﺩﺩﻩ ﺑﻘﻮﻟﻪ :
” ﺇﻥ ﻓﻜﺮﺓ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﺔ ﺗﺴﺘﺪﻋﻲ ﺇﻟﻰ ﺧﺎﻃﺮﻱ ﻓﻜﺮﺓ ﺍﻟﻨﻀﺎﻝ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ، ﺇﺿﺎﻓﺔ ﺇﻟﻰ ﻓﻜﺮﺓ ﺍﻟﻮﻋﻲ ﺍﻟﻄﺒﻘﻲ ﻭﺍﻟﺸﻌﻮﺭ ﺍﻟﻘﻮﻣﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺳﺎﻟﻔﺔ، ﻭﻟﻜﻦ ﺑﻤﻀﻤﻮﻥ ﻣﺨﺘﻠﻒ ﻳﻨﺄﻯ ﻋﻦ ﻛﻞ ﺗﻤﻈﻬﺮ ﺧﺎﺭﺟﻲ، ﻭﻳﺘﺠﻪ، ﻣﻊ ﺑﻘﺎﺋﻪ ﺻﺮﺍﻋﻴﺎ، ﻧﺤﻮ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺍﻟﻜﺎﻣﻠﺔ . ﻟﺬﺍ ﻛﺎﻥ ﺃﻭﻝ ﻣﺎ ﺧﻄﺮ ﺑﺒﺎﻟﻲ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﺗﻮﺿﻴﺢ ﻓﻜﺮﺓ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﺔ ﺻﻮﺭ ﺍﻟﻤﻘﺎﻭﻣﻴﻦ، ﺻﻮﺭ ﺍﻟﻤﻘﺎﺗﻠﻴﻦ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ” ‏[ 15 ‏] .
ﻳﺤﺎﻭﻝ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ ” ﻧﻘﺪ ﺍﻟﺤﺪﺍﺛﺔ ” ‏[ 16 ‏] ﺇﻋﺎﺩﺓ ﺍﻻﻋﺘﺒﺎﺭ ﺑﺸﻜﻞ ﻛﺒﻴﺮ ﻟﻠﺬﺍﺕ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﺔ، ﻭﺃﻥ ﻳﻨﻔﻲ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺗﺤﻜﻢ ﺍﻟﺒﻨﻴﺎﺕ ﻓﻲ ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ، ﻷﻥ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺗﻌﻤﻞ ﻛﻮﺳﻴﻂ، ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ ﻳﺼﺒﺢ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﻓﺎﻋﻼ، ﻭﻳﻜﺘﺴﺐ ﻫﺎﻣﺸﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ، ﻓﺎﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﻫﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻮﺳﺎﻃﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺑﻤﻮﺟﺒﻬﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻔﺮﺩ ﺃﻥ ﻳﻘﻮﻱ ﺣﺮﻳﺘﻪ ﺍﻟﻔﺮﺩﻳﺔ .
ﺇﻥ ﻓﻜﺮﺓ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﺔ ﻋﻨﺪ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﺗﺠﻤﻊ ﺑﻴﻦ ﺛﻼﺛﺔ ﻋﻨﺎﺻﺮ ﺃﺳﺎﺳﻴﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺑﻴﻨﻬﺎ؛ ﺍﻷﻭﻝ ﻫﻮ ﻣﻘﺎﻭﻣﺔ ﺍﻟﺴﻴﻄﺮﺓ، ﻭﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻫﻮ ﺣﺐ ﺍﻟﺬﺍﺕ، ﻭﺑﻪ ﻳﻄﺮﺡ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﺣﺮﻳﺘﻪ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭﻫﺎ ﺍﻟﺸﺮﻁ ﺍﻟﺮﺋﻴﺲ ﻟﺴﻌﺎﺩﺗﻪ ﻭﻫﺪﻓﺎ ﻣﺮﻛﺰﻳﺎ ﻟﺤﻴﺎﺗﻪ، ﻭﺍﻟﺜﺎﻟﺚ ﻫﻮ ﺍﻻﻋﺘﺮﺍﻑ ﺑﺎﻵﺧﺮﻳﻦ ﻛﺬﻭﺍﺕ ﻓﺎﻋﻠﺔ، ﻭﻣﻦ ﺛﻢ ﺩﻋﻢ ﺍﻟﻘﻮﺍﻋﺪ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻭﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﻨﺢ ﺍﻟﻌﺪﺩ ﺍﻷﻛﺒﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺃﻛﺒﺮ ﺍﻟﻔﺮﺹ ﺍﻟﻤﻤﻜﻨﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﻜﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻴﺶ ﻛﺬﻭﺍﺕ ‏[ 17 ‏] . ﻓﺎﻟﺬﺍﺕ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﺔ ﻫﻲ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ﺑﺎﻟﺪﺭﺟﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ، ﺣﻴﺚ ﺗﻌﺘﺒﺮ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﺷﺮﻃﺎ ﻟﻮﺟﻮﺩﻫﺎ، ﻋﻠﻤﺎ ﺃﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻣﻬﺪﺩﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﺘﺎﺑﻌﺔ ﻭﺍﻟﻤﻐﻠﻮﺑﺔ ﻋﻠﻰ ﺃﻣﺮﻫﺎ ﺑﺴﺒﺐ ﻏﻴﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ . ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻬﺎ ﻣﻬﺪﺩﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﻤﺤﺪﺛﺔ، ﺑﺎﻻﻧﺤﻼﻝ ﺑﺴﺒﺐ ﻣﻨﻄﻖ ﺍﻟﺴﻮﻕ ﻭﺍﻻﺳﺘﻬﻼﻙ . ﻭﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺃﻥ ﺗﺘﺤﺪﺩ ﻭﺃﻥ ﺗﺪﺭﻙ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺇﻻ ﺑﺼﺮﺍﻋﻬﺎ ﺿﺪ ﻣﻨﻄﻖ ﺍﻟﺴﻮﻕ ﻭﺍﻷﺟﻬﺰﺓ ﺍﻟﺘﻘﻨﻴﺔ … ﻓﺎﻟﺬﺍﺕ ﻋﻘﻞ ﻭﺣﺮﻳﺔ ﻭﺫﺍﻛﺮﺓ ﻓﻲ ﺁﻥ ﻣﻌﺎ . ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻷﺑﻌﺎﺩ ﺍﻟﺜﻼﺛﺔ ﺗﺘﺠﺎﻭﺏ ﻣﻊ ﺃﺑﻌﺎﺩ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ‏[ 18 ‏] .
ﻭﻳﺮﻯ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﺃﻧﻪ ﺇﺫﺍ ﺃﺭﺩﻧﺎ ﺃﻥ ﻧﺨﺘﺒﺮ ﺫﻭﺍﺗﻨﺎ ﻛﺬﻭﺍﺕ ﻓﺎﻋﻠﺔ، ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻈﻬﺮ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺍﻟﺘﺰﺍﻣﺎﺗﻨﺎ ﻭﻣﺴﺆﻭﻟﻴﺘﻨﺎ ” ﺗﺠﺎﻩ ﺣﻖ ﻛﻞ ﻓﺮﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻴﺶ ﺑﻜﺮﺍﻣﺔ ﻭﺍﻻﻋﺘﺮﺍﻑ ﻟﻪ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﻜﺮﺍﻣﺔ؛ ﺃﻱ ﺑﻤﺎ ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ ﺍﻧﺘﺰﺍﻋﻪ ﻣﻦ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﺗﻔﻘﺪ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻛﻞ ﻣﻌﻨﺎﻫﺎ ” ‏[ 19 ‏] .
ﻓﻔﻲ ﻣﺆﻟﻔﻪ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺤﻤﻞ ﻋﻨﻮﺍﻥ ” ﻧﺤﻦ، ﺍﻟﺬﻭﺍﺕ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ” ‏[ 20 ‏] ﺗﺘﺠﻠﻰ ﻓﻜﺮﺓ ﺍﻟﻜﺮﺍﻣﺔ ﺑﻮﺿﻮﺡ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﺮﻯ ﺃﻧﻬﺎ ﺃﺻﺒﺤﺖ ﻫﻲ ﺍﻟﻔﻜﺮﺓ ﺍﻟﻤﺮﻛﺰﻳﺔ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﻴﻦ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﻴﻦ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﺼﺎﺭﻋﻮﻥ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ، ﻭﺍﻟﺘﻲ ﺗﺴﻌﻰ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻴﻄﺮﺓ ﻋﻠﻰ ﺫﻭﺍﺗﻬﻢ، ﻓﻬﺬﻩ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ ﺗﺘﻤﻴﺰ ﺑﻜﻮﻧﻬﺎ ﺗﻤﺘﻠﻚ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﺗﺘﺤﻜﻢ ﻭﺗﺴﻴﻄﺮ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻮﺍﺭﺩ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻭﺧﺎﺻﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺎﻝ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻱ، ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﻟﻬﺎ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓ ﻓﻲ ﺃﻥ ﺗﺴﻴﻄﺮ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺍﻟﺘﺤﻜﻢ ﻓﻲ ﺗﺄﻭﻳﻼﺕ ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﻷﻧﻔﺴﻬﻢ ﻭﻷﻓﻌﺎﻟﻬﻢ ﻋﺒﺮ ﺍﻟﺘﺴﻮﻳﻖ ﻭﺍﻹﺷﻬﺎﺭ ﻭﺍﻹﻋﻼﻡ … ﺇﻟﺦ . ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ ﺗﺒﻘﻰ ﻓﻲ ﺍﻷﺧﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﺻﻄﻨﺎﻉ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﺑﺎﻟﺪﺭﺟﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ، ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺍﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ ﺃﻭ ﺗﻘﻨﻴﺔ . ﺇﻥ ﻓﻜﺮﺓ ﺍﻟﻜﺮﺍﻣﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻋﺒﺮ ﻋﻨﻬﺎ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﻮﻥ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﻮﻥ ﻓﻲ ﺷﻌﺎﺭﺍﺗﻬﻢ ﻟﻴﺴﺖ ﻓﻜﺮﺓ ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﻓﻜﺮﺓ ﺃﺧﻼﻗﻴﺔ، ﻷﻧﻬﺎ ﺃﺻﺒﺤﺖ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻘﻮﻕ ﺍﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﺇﻟﻰ ﺟﺎﻧﺐ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ﻭﺍﻟﻌﺪﺍﻟﺔ، ﻭﻫﻤﺎ ﻛﻠﻤﺘﺎﻥ ﻣﺘﺼﻠﺘﺎﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﻌﺐ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ، ﻭﻣﻨﻬﻤﺎ ﺗﻨﺒﻊ ﻓﻜﺮﺓ ﺍﻟﻜﺮﺍﻣﺔ، ﻭﻟﻬﺬﺍ ﻳﻈﻬﺮ ﺟﻠﻴﺎ ﺃﻥ ﻣﻘﺎﻭﻣﺔ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﺃﻭ ﺍﻟﺸﻤﻮﻟﻴﺔ ﺗﺘﻢ ﻋﺒﺮ ﺑﻨﺎﺀ ﺣﺮﻛﺎﺕ ﺃﺧﻼﻗﻴﺔ، ﺗﻄﺮﺡ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﻟﻜﺮﺍﻣﺔ ﻛﻤﺪﺧﻞ ﻟﻠﺪﻓﺎﻉ ﻋﻦ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ، ﻭﻟﺬﻟﻚ ﻳﺮﻯ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﺃﻧﻪ ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪﺓ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺃﺧﻼﻗﻴﺔ ﻭﺩﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﻓﻲ ﺁﻥ ﻣﻌﺎ .
ﻭﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻳﺒﺪﻭ، ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ ﺣﺴﺐ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﻫﻮ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻳﻤﻴﻞ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻬﻴﻤﻨﺔ ﻭﺍﻟﺘﺴﻠﻂ ﻭﺍﻟﺴﻴﻄﺮﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﻴﻦ، ﻭﺃﻥ ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭﻫﺎ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﺔ، ﻣﺎ ﻫﻲ ﺇﻻ ﺗﻌﺒﻴﺮ ﻋﻦ ﺭﻓﻀﻬﺎ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﻬﻴﻤﻨﺔ ﻭﺍﻟﺘﺴﻠﻂ ﻭﺍﻟﺴﻴﻄﺮﺓ ﺑﻤﺨﺘﻠﻒ ﺃﺑﻌﺎﺩﻫﺎ، ﻓﻬﻲ ﻋﺒﺎﺭﺓ ﻋﻦ ﺗﻤﺮﺩ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻳﺘﻢ ﻓﻲ ﻫﺎﻣﺶ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺗﻜﻮﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﺃﺯﻣﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻄﺒﻘﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﺣﻴﺚ ﺗﺒﻨﻰ ﻛﻔﺎﻋﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺰﺍﻋﺎﺕ ﻭﺍﻟﺼﺮﺍﻋﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ .
ﻳﺆﻛﺪ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﺃﻧﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﻄﺒﻘﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻘﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﺮﺍﺗﺒﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﻤﺎﻳﺰ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻧﻔﺼﻞ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻲ ﻋﻦ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺳﻴﺎﺳﻲ؛ ﻓﺎﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻛﻌﻠﻢ ﻭﻣﻤﺎﺭﺳﺔ ﻭﺍﻟﺘﺰﺍﻡ ﻫﻲ ” ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻧﻀﺎﻟﻴﺔ ” ﺑﺎﻣﺘﻴﺎﺯ . ﺇﻧﻬﺎ ﻋﻠﻢ ﻟﻠﺘﺤﺮﺭ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻬﻴﻤﻨﺔ، ﻭﺍﻟﺘﻲ ﻳﻤﺎﺭﺳﻬﺎ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ؛ ﻓﺎﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻲ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮﻝ ﺗﻮﺭﻳﻦ : ” ﻣﻠﺘﺰﻡ ﺑﺎﻟﻀﺮﻭﺭﺓ ﺿﻤﻦ ﺍﻟﺼﺮﺍﻉ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﺍﻟﺘﻌﺮﻑ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﺍﻟﺘﻌﺒﻴﺮ ﻋﻨﻬﺎ ﺿﺪ ﺳﻴﻄﺮﺓ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ، ﻭﺧﺎﺻﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻷﺧﻴﺮ ﺍﺳﺘﺒﺪﺍﺩﻳﺎ ” ‏[ 21 ‏] ، ﺣﻴﺚ ﻳﻔﺘﺮﺽ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺃﻥ ﻳﺴﺎﻫﻢ ﺑﺸﻜﻞ ﺃﻭ ﺑﺂﺧﺮ ﻓﻲ ﺩﻓﻊ ﺑﺎﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻧﺤﻮ ﺍﻟﺘﻐﻴﻴﺮ ﺑﻬﺪﻑ ﺍﻣﺘﻼﻙ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﺎﻧﻴﺔ، ﻧﻈﺮﺍ ﻷﻥ ﺍﻟﻔﻌﻞ ﻫﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺤﺪﺩ ﺍﻷﻭﺿﺎﻉ ﻭﺍﻟﻈﺮﻭﻑ، ﻭﻣﻦ ﺍﻟﻤﺴﺘﺤﻴﻞ ﺩﺭﺍﺳﺔ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻣﻦ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﻨﺨﺮﻁ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ، ﻷﻥ ﺍﻟﻤﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ﺍﻟﺒﺎﺭﺩﺓ ﺑﺤﺴﺐ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﺗﺘﻌﺎﺭﺽ ﻣﻊ ﺣﺮﺍﺭﺓ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ .
ﻓﻲ ﺧﺘﺎﻡ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﻭﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺍﻟﻤﻨﺠﺰﺍﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﻧﺠﺰﻫﺎ ﺃﻻﻥ ﺗﻮﺭﻳﻦ، ﻧﻼﺣﻆ ﺃﻥ ﻟﻪ ﺣﻀﻮﺭﺍ ﻗﻮﻳﺎ ﻭﻣﺘﻤﻴﺰﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﺎﺣﺔ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﺔ، ﻭﺧﺎﺻﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺺ ﺗﺤﻠﻴﻠﻪ ﺍﻟﻌﻤﻴﻖ ﻟﻠﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﻓﻬﻮ ﻳﻌﺪ ﻣﻦ ﺃﺷﻬﺮ ﻣﻨﻈﺮﻱ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ، ﻭﻳﺮﻓﺾ ﺍﻻﻧﺴﻴﺎﻕ ﻭﺭﺍﺀ ﺍﻟﻤﺼﺎﻟﺢ ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ، ﻓﻬﻮ ﻳﻌﺒﺮ ﻋﻦ ﻧﻤﻮﺫﺝ ﺍﻟﻤﺜﻘﻒ ﺍﻟﻌﻀﻮﻱ، ﻭﻳﺆﻛﺪ ﺩﺍﺋﻤﺎ ﺃﻥ ﺩﻭﺭ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻲ ﻫﻮ ﺭﻫﺎﻧﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﻣﻮﺍﺟﻬﺔ ﺍﻟﻘﻮﻯ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺴﻌﻰ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻴﻄﺮﺓ ﻭﺍﻟﻬﻴﻤﻨﺔ . ﻓﻤﻦ ﻭﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮﻩ، ﻓﺈﻥ ﻣﻬﻤﺔ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻲ ﻫﻲ ﺍﻟﻨﻀﺎﻝ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﺍﻟﺘﻐﻴﻴﺮ ﺿﺪ ﺍﻟﻨﻈﻢ ﻭﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﺎﺭﺱ ﺍﻟﻀﻐﻮﻃﺎﺕ ﻭﺍﻹﻛﺮﺍﻫﺎﺕ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺬﻭﺍﺕ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ .
ﺍﻟﻤﺮﺍﺟﻊ ﻭﺍﻟﻤﺼﺎﺩﺭ :
ﺃﻧﺼﺎﺭ، ﺑﻴﺎﺭ . ‏( 1992 ‏) : ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﻌﺎﺻﺮﺓ، ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻧﺨﻠﻔﺔ ﻓﺮﻳﻔﺮ، ﺍﻟﻤﺮﻛﺰ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ ﺍﻟﻌﺮﻱ، ﺑﻴﺮﻭﺕ ـ ﻟﺒﻨﺎﻥ، ﺍﻟﻄﺒﻌﺔ 1
ﺗﻮﺭﻳﻦ ﺁﻻﻥ . ‏( 1979 ‏) : ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ، ﺗﺮﺟﻤﺔ، ﺗﻴﺴﻴﺮ ﺷﻴﺦ ﺍﻷﺭﺽ، ﻣﻨﺸﻮﺭﺍﺕ ﻭﺯﺍﺭﺓ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﻭﺍﻹﺭﺷﺎﺩ ﺍﻟﻘﻮﻣﻲ، ﺩﻣﺸﻖ ـ ﺳﻮﺭﻳﺔ .
ﺗﻮﺭﻳﻦ، ﺁﻻﻥ . ‏( 2011 ‏) : ﺑﺮﺍﺩﻳﻐﻤﺎ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﻟﻔﻬﻢ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻴﻮﻡ، ﺗﺮﺟﻤﺔ ﺟﻮﺭﺝ ﺳﻠﻴﻤﺎﻥ، ﻣﺮﺍﺟﻌﺔ ﺳﻤﻴﺮﺓ ﺭﻳﺸﺎ، ﺍﻟﻤﻨﻈﻤﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻟﻠﺘﺮﺟﻤﺔ، ﻣﺮﻛﺰ ﺩﺭﺍﺳﺎﺕ ﺍﻟﻮﺣﺪﺓ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ، ﺑﻴﺮﻭﺕ ـ ﻟﺒﻨﺎﻥ، ﺍﻟﻄﺒﻌﺔ 1
ﺗﻮﺭﻳﻦ، ﺁﻻﻥ . ‏( 2016 ‏) : ﻣﺎ ﻫﻲ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ؟ ﺣﻜﻢ ﺍﻷﻛﺜﺮﻳﺔ ﺃﻡ ﺿﻤﺎﻧﺎﺕ ﺍﻷﻗﻠﻴﺔ، ﺩﺍﺭ ﺍﻟﺴﺎﻗﻲ، ﺑﻴﺮﻭﺕ ـ ﻟﺒﻨﺎﻥ، ﺍﻟﻄﺒﻌﺔ 3
ﻛﺎﺑﺎﻥ، ﻓﻴﻠﻴﺐ & ﺩﻭﺗﻴﻪ، ﺟﺎﻥ ﻓﺮﺍﻧﺴﻮﺍ . ‏( 2010 ‏) : ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ : ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺎﺕ ﺍﻟﻜﺒﺮﻯ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺸﺆﻭﻥ ﺍﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ﺃﻋﻼﻡ ﻭﺗﻮﺍﺭﻳﺦ ﻭﺗﻴﺎﺭﺍﺕ، ﺗﺮﺟﻤﺔ ﺇﻳﺎﺱ ﺣﺴﻦ، ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻔﺮﻗﺪ ﻟﻠﻄﺒﺎﻋﺔ ﻭﺍﻟﻨﺸﺮ ﻭﺍﻟﺘﻮﺯﻳﻊ، ﺳﻮﺭﻳﺔ ـ ﺩﻣﺸﻖ، ﺍﻟﻄﺒﻌﺔ 1
ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﺆﻟﻔﻴﻦ . ‏( 2009 ‏) : ﺇﺷﻜﺎﻟﻴﺔ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ، ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻣﺤﻤﺪ ﺳﺒﻴﻼ، ﺳﻠﺴﻠﺔ ﺿﻔﺎﻑ، ﻣﻨﺸﻮﺭﺍﺕ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ، ﺍﻟﻄﺒﻌﺔ 1
Touraine, Alain. (1973): Production de la société, Paris, Le Seuil .
Touraine, Alain. (1984): Le Retour de L’acteur, Paris, Fayard .
Touraine, Alain. (2015): Nous- sujets humains, éd. Du Seuil .
‏[ 1 ‏] . ﺑﻴﺎﺭ ﺃﻧﺼﺎﺭ، ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﻌﺎﺻﺮﺓ، ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻧﺨﻠﻔﺔ ﻓﺮﻳﻔﺮ، ﺍﻟﻤﺮﻛﺰ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ ﺍﻟﻌﺮﻱ، ﺑﻴﺮﻭﺕ ـ ﻟﺒﻨﺎﻥ، ﺍﻟﻄﺒﻌﺔ 1 ، 1992 ، ﺹ 52
‏[ 2 ‏] . ﺁﻻﻥ ﺗﻮﺭﻳﻦ، ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ، ﺗﺮﺟﻤﺔ، ﺗﻴﺴﻴﺮ ﺷﻴﺦ ﺍﻷﺭﺽ، ﻣﻨﺸﻮﺭﺍﺕ ﻭﺯﺍﺭﺓ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﻭﺍﻹﺭﺷﺎﺩ ﺍﻟﻘﻮﻣﻲ، ﺩﻣﺸﻖ ـ ﺳﻮﺭﻳﺔ، 1979 ، ﺹ 53
‏[ 3 ‏] . ﺑﻴﺎﺭ ﺃﻧﺼﺎﺭ، ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﺓ، ﻣﺮﺟﻊ ﺳﺎﺑﻖ، ﺹ 258
‏[ 4 ‏] . ﺍﻟﻤﺮﺟﻊ ﻧﻔﺴﻪ، ﺹ 258
‏[ 5 ‏] . Alain touraine (1973): Production de la société, Paris: Le Seuil, P. 10
‏[ 6 ‏] . ﺑﻴﺎﺭ ﺃﻧﺼﺎﺭ، ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﺓ، ﻣﺮﺟﻊ ﺳﺎﺑﻖ، ﺹ 54
‏[ 7 ‏] . ﺃﻻﻥ ﺗﻮﺭﺍﻥ، ﻫﻞ ﻓﻜﺮﺓ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻓﻜﺮﺓ ﺿﺮﻭﺭﻳﺔ؟، ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻣﺤﻤﺪ ﺳﺒﻴﻼ، ﺇﺷﻜﺎﻟﻴﺔ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ، ﺳﻠﺴﻠﺔ ﺿﻔﺎﻑ، ﻣﻨﺸﻮﺭﺍﺕ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ، ﺍﻟﻄﺒﻌﺔ 1 ، 2009 ، ﺹ 19
‏[ 8 ‏] . Alain touraine (1973): Op.Cit, P.29
‏[ 9 ‏] . Ibid. P. 19
‏[ 10 ‏] . Ibid. P. 347
‏[ 11 ‏] . ﻓﻴﻠﻴﺐ ﻛﺎﺑﺎﻥ ﻭﺟﺎﻥ ﻓﺮﺍﻧﺴﻮﺍ ﺩﻭﺗﻴﻪ، ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ : ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺎﺕ ﺍﻟﻜﺒﺮﻯ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺸﺆﻭﻥ ﺍﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ﺃﻋﻼﻡ ﻭﺗﻮﺍﺭﻳﺦ ﻭﺗﻴﺎﺭﺍﺕ، ﺗﺮﺟﻤﺔ ﺇﻳﺎﺱ ﺣﺴﻦ، ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻔﺮﻗﺪ ﻟﻠﻄﺒﺎﻋﺔ ﻭﺍﻟﻨﺸﺮ ﻭﺍﻟﺘﻮﺯﻳﻊ، ﺳﻮﺭﻳﺔ ـ ﺩﻣﺸﻖ، ﺍﻟﻄﺒﻌﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ 2010 ، ﺹ 226
‏[ 12 ‏] . ﻣﻨﺬ ﺳﻨﺔ 1968 ، ﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﺁﻻﻥ ﺗﻮﺭﻳﻦ ﻳﺆﻣﻦ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﺘﻘﺪﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺭﻑ ﻣﺘﻼﺯﻡ ﻣﻊ ﺗﺤﺮﻳﺮ ﺍﻟﻔﺮﺩ، ﺣﻴﺚ ﺃﺻﺒﺢ ﻫﺬﺍ ﺍﻷﺧﻴﺮ ﻣﻨﻬﻚ ﺍﺗﺠﺎﻩ ﺗﺪﻓﻖ ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻣﺎﺕ ﻭﺍﻟﺨﺪﻣﺎﺕ ﻭﺍﻹﻋﻼﻧﺎﺕ ﻭﻭﺳﺎﺋﻞ ﺍﻻﺗﺼﺎﻝ ﻭﺍﻷﺳﻮﺍﻕ .
‏[ 13 ‏] . Alain Touraine (1984): Le Retour de L’acteur, Paris: Fayard, P.15
‏[ 14 ‏] . ﺁﻻﻥ ﺗﻮﺭﻳﻦ، ﻧﻘﺪ ﺍﻟﺤﺪﺍﺛﺔ، ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﺍﻟﻄﻮﻳﻞ، ﻣﺮﺍﺟﻌﺔ ﻣﺤﻤﺪ ﺳﺒﻴﻼ، ﺇﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﺍﻟﺸﺮﻕ، ﺍﻟﺪﺍﺭ ﺍﻟﺒﻴﻀﺎﺀ ـ ﺍﻟﻤﻐﺮﺏ، 2010 ، ﺹ 239
‏[ 15 ‏] . ﺁﻻﻥ ﺗﻮﺭﻳﻦ، ﺑﺮﺍﺩﻳﻐﻤﺎ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﻟﻔﻬﻢ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻴﻮﻡ، ﺗﺮﺟﻤﺔ ﺟﻮﺭﺝ ﺳﻠﻴﻤﺎﻥ، ﻣﺮﺍﺟﻌﺔ ﺳﻤﻴﺮﺓ ﺭﻳﺸﺎ، ﺍﻟﻤﻨﻈﻤﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻟﻠﺘﺮﺟﻤﺔ، ﻣﺮﻛﺰ ﺩﺭﺍﺳﺎﺕ ﺍﻟﻮﺣﺪﺓ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ، ﺑﻴﺮﻭﺕ ـ ﻟﺒﻨﺎﻥ، ﺍﻟﻄﺒﻌﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ 2011 ، ﺹ 179
‏[ 16 ‏] . ﺁﻻﻥ ﺗﻮﺭﻳﻦ، ﻧﻘﺪ ﺍﻟﺤﺪﺍﺛﺔ، ﻣﺮﺟﻊ ﺳﺎﺑﻖ، ﺹ 213
‏[ 17 ‏] . ﺁﻻﻥ ﺗﻮﺭﻳﻦ، ﻣﺎ ﻫﻲ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ؟ ﺣﻜﻢ ﺍﻷﻛﺜﺮﻳﺔ ﺃﻡ ﺿﻤﺎﻧﺎﺕ ﺍﻷﻗﻠﻴﺔ، ﺩﺍﺭ ﺍﻟﺴﺎﻗﻲ، ﺑﻴﺮﻭﺕ ـ ﻟﺒﻨﺎﻥ، ﺍﻟﻄﺒﻌﺔ 3 ، 2016 ، ﺹ 166
‏[ 18 ‏] . ﺍﻟﻤﺮﺟﻊ ﻧﻔﺴﻪ، ﺹ 167
‏[ 19 ‏] . ﺁﻻﻥ ﺗﻮﺭﻳﻦ، ﺑﺮﺍﺩﻳﻐﻤﺎ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﻟﻔﻬﻢ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻴﻮﻡ، ﻣﺮﺟﻊ ﺳﺎﺑﻖ، ﺹ 233
‏[ 20 ‏] . Alain Touraine (2015): Nous- sujets humains, éd. Du Seuil .
‏[ 21 ‏] . ﺁﻻﻥ ﺗﻮﺭﺍﻥ، ﻫﻞ ﻓﻜﺮﺓ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻓﻜﺮﺓ ﺿﺮﻭﺭﻳﺔ؟، ﻣﺮﺟﻊ ﺳﺎﺑﻖ، ﺹ ﺹ 21 ـ 22

ما هو علم الأنثروبولوجيا ؟ ….أقسامه…..نشأته…..علاقته بالعلوم الأخرى؟


مقدمة :
لم تكن ألانثروبولوجيا مُنذ نزعتها ألاولى في القرن الثامن عشر قد أحدثت دوياً عالياً في الاوساط العلمية، نتيجة عدم توفر الإمكانيات والمستلزمات الكافية لاستقلاليتها. أو لربما قدرها المحتوم الذي جعلها تشابهُ علم الإجتماع إلى الحد الذي لا يستطيع الباحث التمييز بينهما كعلمين منفصلين عن بعضهما.مما أدى إلى عدم ألاهتمام بها كسائر العلوم الاخرى.على الرغم من أن القرن الثامن عشر، يعتبر نقطة الإنطلاقة التي سارت بها الانثروبولوجيا. إلا أنه لم يمثلها تمثيلاً حقيقيا.
كثيراً ما يتردد ” وخاصة ونحن في القرن الواحد والعشرون” الحديث عن ألانثروبولوجيا وبحوثها التي بدأت تزخر بها مكتباتنا اليوم.
إلا أنها لم ترَ النور بين طلابنا ومثقفينا، او لعل البعض منا لم يعرف ما هي الانثروبولوجيا ؟ أو بالاحرى لم يسمع بها سابقا. وهذا بالطبع ناتجٌ عن شحة الكتب التي تعّرف الانثروبوجيا من جهة، وتجاهلنا لهذا العلم- وإفتقار جامعاتنا له من الجهة أخرى.
شهدَ القرن العشرين ظهوراً رائعاً للانثروبولوجيا آثار إنتباه المثقفين والباحثين والمهتمين بالعلوم الإجتماعية. وهذا الظهور تمثل بمؤلفات العديد من عباقرة الانثروبولوجيا ومنهم : البروفيسور آدم كوبر، وتالكوت بارسونز، وبرجس ولوك، وأميل دروكايم، والعلامّة راد كلف براون، ومالينوفسكي.
لقد كانَ لظهور هؤلاء العباقرة في القرن العشرين أثراً بالغاً في ألاوساط العلمية، حيث إستطاعوا أن يحدثوا تغييراً جذرياً أو نقلة مرحلية أفاقت ألانثروبولوجيا من رقدتها، وأخرجتها من ظلامها الدامس.
أما من عباقرتنا العرب فتمثلت نهضة ألانثروبولوجيا بأسماء عباقرة كثيرين ومنهم: د. قيس النوري، ود. شاكر مصطفى سليم، ود. علي الوردي. وآخرين.
وبذكري للدكتور علي الوردي سيعترض هنا مُعترض أو سائل ويقول : إن الدكتور علي الوردي عالمُ أجتماع ؟ فما إرتباطهُ بالإنثروبولوجيا ؟.
في حقيقة ألامر إننا نوافق هذا الاعتراض، لكننا نود أن نشيرَ إلى أن مؤلفاتَ الوردي كانت ذات صبغة أو طابع أنثروبولوجي أكثر مما هو سوسيولوجي.فالإنصاف يحتم علينا أن نعتبر الدكتور علي الوردي باحثٌ أجتماعي وانثروبولوجي بوقتٍ واحد، وهذا يظهر بوضوح لدى المتتبع لمؤلفات الوردي.
تفتقر ألانثرولوجيا في الوطن العربي إلى الشهرة فقط، بعدما توفرت جميع المستلزمات التي تؤهلها كعلم مستقل في جامعاتنا.واليوم نشهد هذا الافتقار بجلاء بعد ملاحضاتنا الدقيقة لما يجري في الاوساط العلمية.
هذا ولم يكن للانثروبولوجيا نصيبٌ وافٍ في جامعاتنا. حيث نجدها في بعض جامعات المملكة العربية السعودية ومصر والاردن وتونس والعراق.
وهذا بحد ذاته يثبت تأخر العرب عن أقرانهم الغرب، في مجال نشوء وتطور ألانثروبولوجيا.
تأريخ الانثروبولوجيا في العراق :
مما تجدر الإشارة إليه إن عهدَ الانثروبولوجيا في العراق لم يبدأ الا قبل سنواتٍ عدة. وهذا ناتجٌ عن إنعزال العراق وتخلفهِ عن الركب الذي سارت بهِ أغلب الدول العربية، على الرغم من إنها متأخرة كثيراً ، هذا إذا ما قورنت بالدول الغربية.
بدأت جامعة بغداد بأدخال ألانثروبولوجيا لها.حيث ينشطر قسم علم الإجتماع في جامعة بغداد – إبتداءاً من المرحلة الثالثة الى ثلاث فروع هي : علم الإجتماع- والخدمة الإجتماعيّة – ومن ثم أضيف لها فرع ألانثروبولوجيا. وقد إبتدأ هذا عام 1988.
وفي عام (2003- 2004) أي بعد سقوط النظام السابق، تم إفتتاح قسم ألانثروبولوجيا التطبيقية في الجامعة المستنصرية في بغداد كقسم مُستقل وهو القسم الوحيد في العراق الذي يحمل هذا الاسم.
إننا نأمل أن يتم إعلاء شأن الانثروبولوجيا والإهتمام بها كسائر العلوم الإنسانية الاخرى.وهذا لا يتم الا بفتح المجال الواسع لها في جامعاتنا وتشجيع الدراسات الميدانية التي تجري وفقاً لمتطلبات هذا العلم.

  • ما هي الانثروبولوجيا ؟
    ألانثروبولوجيا هي علمُ الإنسان. وقد نحُتت الكلمة من كلمتين يونانيتين هما:
    ((anthropos ومعناها ” الانسان” ، و (logos) ومعناها ” علم”.
    وعليهِ فأن المعنى اللفظي لإصطلاح ألانثروبولوجيا (anthropology) هو علمُ الإنسان.
    وتعُرّف ألانثروبولوجيا تعريفاتٌ عدة أشهرها :
    1- علمُ الإنسان
    2- علمُ الإنسان وأعماله وسلوكه.
    3- علمُ الجماعات البشرية وسلوكها وإنتاجها.
    4- علمُ الإنسان من حيث هو كائنٌ طبيعي وإجتماعي وحضاري.
    5- علمُ الحضارات والمجتمعات البشرية.
    هذهِ التعريفات هي ل ” الانثروبولوجيا العامّة”، ويمكنُ من خلال التعريف الرابع أن نعرفَ ” ألانثروبولوجيا الإجتماعية ” : بأنها علم الإنسان من حيث هو كائنٌ إجتماعي. (1)
  • أقسام ألانثروبولوجيا العامّة :
    تقسم ألانثروبولوجيا إلى أربعة أقسام رئيسة من وجهةِ نظر ألانثروبولوجييّن في بريطانيا، وهذهِ ألاقسام هي :
    1- ألانثروبولوجيا الطبيعية: physical anthropology
    يرتبط هذا القسم بالعلوم الطبيعية وخاصة علم التشريح وعلم وظائف ألاعضاء ” physiology ” ، وعلم الحياة “”Biology. وينتمي هذا القسم إلى طائفة العلوم الطبيعية، وأهم تخصصاتهُ علم العظام “Osteology” ، وعلم البناء الإنساني Human Morphology””، ومقاييس جسم الإنسان anthropometry” “، ودراسة مقاييس ألاجسام الحية “Biometrics” ، وعلم الجراحة الإنساني “Humanserology”.
    ويُدرّس هذا القسم في كلياتِ الطب والعلوم ومعظم المتخصصينَ فيهِ من ألاطباء وعُلماءَ الحياة، ولكنهُ يدرّس أيضاً في كلياتِ العلوم الإجتماعية في أقسام ألانثروبولوجيا.(2)
    وتتناول ألانثروبولوجيا الطبيعية دراسة ظهور الإنسان على ألارض كسلالةٍ مُتميزة، وأكتسابه صفات خاصة كالسير منتصا، والقدرة على إستعمال اليدين، والقدرة على الكلام، وكبر الدماغ، ثم تدرس تطوره حياتيا. وإنتشاره على ألارض، وتدرس السلالات البشرية القديمة وصفاتها، والعناصر البشرية المُعاصرة وصفاتها وأوصافها الجسمّية المُختلفة، وتوزيع تلكَ العناصر على قارات ألارض، وتضع مقاييس وضوابط لتلكَ العناصر، كطول القامة، وشكل الجمجمة، ولون الشعر وكثافته، ولون العين وأشكالها، ولون البشرة، وأشكال ألانوف. وتدرس الوراثة، وإنتقال ميزات الجنس البشري من جيلٍ لآخر.(3)
    2- ألانثروبولوجيا ألإجتماعيّة:
    وتتركز الدراساتُ فيها على المُجتمعات البدائية. ومُنذ الحرب العالمية الثانية أخذت تدرس المجتمعات الريفية والحضرية في الدول النامية والمُتقدمِة. فتدرس البناء ألإجتماعي والعلاقات ألإجتماعية والنظم ألإجتماعية مثل العائلة، والفخذ، والعشيرة، والقرابة، والزواج، والطبقات والطوائف ألإجتماعية، والنظم الإقتصادية، كالإنتاج ، والتوزيع، والإستهلاك، والمقايضة، والنقود، والنظم السياسية، كالقوانين، والعقوبات، والسلطة والحكومة، والنظم العقائدية، كالسحر والدين. كما تدرس النسق الإيكولوجي.(4)
    يهتم فرع ألانثروبولوجيا الإجتماعيّة بتحليل البناء ألإجتماعي للمجتمعات الإنسانية وخاصة المُجتمعات البدائية التي يظهر فيها بوضوح تكامل ووحدة البناء ألإجتماعي، وهكذا يتركز إهتمام هذا الفرع بالقطاع ألإجتماعي للحضارة، ويتمّيز بالدراسة العميقة التفصيلية للبناء ألإجتماعي وتوضيح الترابط والتأثير المتبادل بين النظم ألإجتماعية ” النظرية الوظيفية” للعلامة “راد كليف براون”، وأساسها إن النظمَ ألإجتماعية في مجتمع ما،هي نسيجٌ متشابك العناصر – يُؤثر كل عنصر في العناصر ألاخُرى، وتعمل تلكَ العناصر على خلق وحدة إجتماعية تسمح للمجتمع بالإستمرار والبقاء، ولا تهتم ألانثروبولوجيا ألاجتماعية المُعاصرة بتأريخ النظم ألإجتماعية، لإن تأريخ النظام الإجتماعي لا يفسر طبيعتهُ وإنما تفسر تلكَ الطبيعة عن طريق تحديد وظيفة النظام ألإجتماعي الواحد في البناء ألإجتماعي للمجتمع.(5)
    3- ألانثروبولوجيا الحضارية ( أو الثقافية) :
    وتدرس مُخترعات الشعوب البدائية، وأدواتها، وأجهزتها، وأسلحتها، وطرُز المساكن، وأنواع ألالبسة، ووسائل الزينة، والفنون، وألآداب، والقصص، والخرافات، أي كافة إنتاج الشعب البدائي المادي والروحي.
    كما تركز على ألإتصال الحضاري بين الشعب ومن يتصل بهِ من الشعوب. وما يقتبسهُ منهم، والتطور الحضاري، والتغير ألإجتماعي.
    ومُنذ الحرب العالمية الثانية أخذت تدرس المجتمعات الريفية والحضرية في الدول المتقدمة والنامية.(6)
    4- ألانثروبولوجيا التطبيقية :
    وحينَ إتصل ألاوربيونَ عن طريق التجارة والتبشير وألإستعمار بالشعوب البدائية، نشأت الحاجة إلى فهم الشعوب البدائية بقدر ما تقتضيهِ مصلحة ألاوربيين في حكم الشعوب وإستغلالها، وفي حالاتٍ نادرة جداً بقدر ما تقتضيهِ مساعدة تلكَ الشعوب وأعانتها على اللحاق بقافلة المدنية الحديثة. فنشأ فرعٌ جديدٌ من ألانثروبولوجيا يدرس مشاكل ألإتصال بتلكَ الشعوب البدائية ومعضلات أدارتها وتصريف شؤونها ووجوه تحسينها.
    ويُدعى هذا الفرع ” ألانثروبولوجيا التطبيقية “. (7)
    وقد تطورَ هذا الفرع ” ألانثروبولوجيا التطبيقية ” كثيراً ، خاصة مُنذ الحرب العالمية الثانية، وتنوّعت مجالاتهُ بتطور أقسام ألانثروبولوجيا وفروعها، إذ إنهُ يمثل الجانب التطبيقي لهذهِ ألاقسام والفروع، ولا يعد فرعاً مُستقلاً عنها وإنما هو ألاداة الرئيسة لتطبيق نتائج بحوث كل فروع ألانثروبولوجيا والتي تجد طموحاتها لخدمة الإنسان والمُجتمع.
    وقد شملت تطبيقاتهُ مجالات كثيرة أهمها :
    التربية والتعليم، والتحضّر والسُكان، والتنمية الإجتماعية والإقتصادية، خاصة تنمية المُجتمعات المحلية، والمجالات الطبية والصحة العامّة، والنفسية، والإعلام، وألإتصال وبرامج الإذاعة والتلفزيون، والتأليف الروائي والمسرحي، والفن، ومجال الفلكلور ” التراث الشعبي”، والمتاحف ألاثنولوجية، إضافة إلى المجالات الصناعيّة،والعسكرية والحرب النفسية، والسياسة ومُشكلات ألادارة والحكم،والجريمة والسجون….الخ.
    ومن تطور هذا القسم ( ألانثروبولوجيا التطبيقية) وإزدياد البحوث فيهِ ظهرت فروع حديثة للانثروبولوجيا الحضارية والإجتماعية حيث أختص كل فرع منها بمجال معين مما ورد اعلاه
    •علاقة الانثروبولوجيا ببعض العلوم الإجتماعية (9):
    للانثروبولوجيا علاقة وثيقة ببعض العلوم الإجتماعية من أهمها:
    1-ألاثنولوجيا : وهي علم تأريخ الحضارات والعلاقات الحضارية بين الشعوب، وتصنيف الحضارات وتوزيعها وإنتشارها في العالم.
    2-ألاثنوغرافيا : وهي الدراسة الوصفية للمجتمعات وحضاراتها.
    3-الآركيولوجيا : ( علم الآثار) وهي الدراسة ألاثنولوجّية وألاثنوغرافية لحضارات شعوبٍ بائدة من ألآثار التي يجدها العلماء في الحفريات.
    4-علم الإجتماع: وهو دراسة الظواهر التي تنبثق عن العلاقات بين المجموعات البشرية، ودراسة العلاقة بين الإنسان وبيئته البشرية. ويركز علم الإجتماع الحديث في دراساتهِ على الظواهر الإجتماعية ألاكثر تقدماً، أي على مشكلاتِ المُجتمعات المعقدة والمتطورة.
    •نشأة ألانثروبولوجيا وتطورها منذ القرن الثامن عشر حتى الوقت الحاضر(10) :
    يُمكننا أن نعتبرَ ألانثروبولوجيا علماً حديثاً يقرب عمرهُ من قرن وربع القرن تقريباً، كما نستطيع. بعين الوقت، أن نعتبرها من أقدم علوم البشر.
    فالجامعات لم تبدأ بتدريس ألانثروبولوجيا إلا حديثاً جداً. فلقد عيّن أول أستاذٍ لها في جامعة أوكسفورد، وهو ” السر أدورد تايلور” عام 1884، وفي جامعة كمبرج، وهو ألاستاذ ” هادن” في عام 1900، وفي جامعة لفربول، وهو ” السر جيمس فريزر” في عام 1907.
    وعيّن أول أسُتاذٍ لها في جامعة لندن في عام 1908، وفي الجامعات ألامريكية في عام 1886.
    ولأن الانثروبولوجيا تعنى بدراسة النظريات التي تتعلق بطبيعة المُجتمعات البشرية، فأننا نستطيع أن نعتبرها، من جهة أخرى، من أقدم العلوم . إذ هي بدأت مع أقدم تأمّلات الإنسان حول تلكَ الموضوعات. فلقد قالوا مثلاً إن المؤرّخ الإغريقي ( هيرودوتس) ” أبو الانثروبولوجيا” كما هو أبو التاريخ، لأنهُ وصفَ لنا بأسهاب، التكوين الجسمي لأقوام قديمة ك ( السيثيين) وقدماءَ المصريين وغيرهم من الشعوب القديمة، وصور أخلاقهم وعاداتهم.
    كما كتب المؤرخ الروماني ( تاكيتس) دراستهُ المشهورة عن القبائل الجرمانية.
    حتى البابليون قبل ” هيرودوتس” بزمن طويل، جمعوا في متاحفَ خاصة بعض ما تركهُ السومريون من أدواتٍ ومخلفات.
    إننا نستطيع أن نعتبرَ القرن الثامن عشر نقطة بدءٍ مناسبة للانثروبولوجيا. نشهد بعدها ظهور العناصر المكونة لهذا العلم. فآراء مونتسكيو في كتابهِ الشهير ( روح القوانين) عن المجتمع وأسسه وطبيعته. وكتابات ( سان سيمون) وإدعاؤه وجود علم للمجتمع، وآراء (يفيد هيوم) و( آدم سمث) ونظرتهما الى المجتمعات بأعتبارها تتكون من أنساق طبيعية، وإعتقادهما بالتطور غير المحدود، وبوجود قوانين لذلكَ التطور، كل تلكَ التأمّلات والآراء حوت لا بلا شك البذرات الصالحة والمكونات الاساسية التي نمت في القرن التاسع عشر، فكونت المدراس الانثروبولوجيّة الكبيرة.
    وبعدَ مُنتصف القرن التاسع عشر بدأت الكتب القديمة في ألانثروبولوجيا بالظهور في أوروبا وأمريكا. وكانَ أبرز تلكَ الكتب كتاب ( السر هنرى مين) ” القانون القديم ” عام 1861وكتابه عن ( المجتمعات القروية في الشرق والغرب) (1861)، وكتاب (باخوفن) عن (حق ألام) عام 1861 وكتاب ( فوستل دو كولانج) عن ( المدينة القديمة) 1864 وكتاب ( ماكلينان) عن ” الزواج البدائي” عام 1865 وكتاب (السر أدورد تايلور) المُُسمى ” أبحاث في التأريخ القديم للجنس البشري” عام 1865 وكتابه الآخر عن ” الحضارة البدائية” عام 1871، ومن ثم (لوس موركن ) عن ” أنساق روابط الدم والمصاهرة في العائلة الإنسانية) عام 1870.
    كما ظهرت “بعين الوقت” مدرستان كبيرتان من مدراس هذا العلم، هما ” مدرسة القانون المقارن” و ” المدرسة التطورية” . فأفاد رجال المدرسة ألاولى ألانثروبولوجيا كثيراً حين إنصرفوا إلى دراسة القانون المقارن. حيث إهتموا بصورة خاصة بالقانون القديم وقوانيين الشعوب البدائية. كما تأثرَ رجال المدرسة الثانية ” التطورية” بنظريات (لامارك) و( دارون) في التطور الحياتي.فأقاموا نظرياتهم في التطور الإجتماعي على عين الاسس.
    وفي مطلع القرن العشرين برزت في ألانثروبولوجيا أسماء ضخمة مثل ” السر جيمس فريزر”، و”أميل دوركايم”، و” راد كلف براون”، و” مالينوفسكي “، و” البوث سمث”، و” رفرز”. كما ظهرت مدارس إنثروبولوجية هامّة مثل ( مدرسة الإنتشار الحضاري) و ( المدرسة الوظيفية). وكلاهما هاجمتا ودحضتا ” المدرسة التطورية “، هذا إلى جانب ” المدرسة البيئية” ، وهي مدرسة قديمة مستمرة الوجود.
    إننا نستطيع أن نعتبرَ نقطة البدء الحقيقية للانثروبولوجيا هي القرن العشرين، التي تمثلت بظهور أسماء ضخمة من عباقرة الانثروبولوجيا، أضافة الى مؤلفاتهم في ذلك الشأن. ناهيكَ عن المدارس الانثروبولوجية المهمة التي ساعدت في نمو وتطوير هذا العلم.
    ثمة قضية معينة أود أن أنقلها للقارئ الكريم، وهي إن علم الإجتماع والانثروبولوجيا علمين متقاربين متشابهين، بحيث لا يمكن للباحث الفصل أو التمييز بين هذين العلمين.لدرجة تقاربهما، لذلكَ فأن من الانسب لي وللقارئ تعيين نقاط الإختلاف بين هذين العلمين لمعرفة أتجاه كلاً من هذين العلمين في الدراسات الإجتماعية.
    •علاقة علم الإجتماع بالانثروبولوجيا ( علم الإنسان) :
    علمُ الإجتماع هو علمٌ قريبٌ جداً من ألانثروبولوجيا لأنهُ يدرس العلاقات الإجتماعية بين المجموعات البشرية، ولكنهُ يختلفُ عن ألانثروبولوجيا من ثلاث نواح :
    الناحية ألاولى: إن علمَ الإجتماع يركز في دراساتهِ على موضوعاتٍ مختارة مثل السحر أو الدين أو البطالة أو الزواج أو ما يشبه ذلك، ولا يدرس مجتمعات كاملة دراسة شاملة كما تدرسها الانثروبولوجيا.
    والناحية الثانية: إنهُ لا يقصر دراساته على المجتمعات البدائية بل يتخذ من كل المجتمعات البدائية والغير بدائية ميداناً لدراساته.مع ميل قوي للتركيز على دراسة معضلات المجتمعات المتطورة والمعقدة. بينما كانت ألانثروبولوجيا تركز على دراسة المجتمعات البدائية قبل الحرب العالمية الثانية.
    أما بعدَ هذه الحرب ” العالمية الثانية” فأن الانثروبولوجيا أخذت تدرسُ المجتمعات المتطورة والمعقدة أيضا، مع ميل قوي للتركيز على دراسة المجتمعات البدائية والنامية.
    أما الناحية الثالثة فهي إختلاف العلمين بمنهج البحث المُتبع في دراسة كل منهما، وهذا أهم إختلاف بينهما.
    ✅ منقول

مأساة الحلاج، هل كان الحلاج وليا من أولياء الله ام كان ٠٠٠٠٠٠

الحلاج قتل وماكان له ان يقتل !!

الحسين بن منصور بن محمى الملقب بالحلاج يعتبر من أكثر الرجال الذين اختلف في أمرهم، وهناك من وافقوه وفسروا مفاهيمه. وهو من أهل البيضاء وهناك خلاف حولها هل هي البلدة التي ببلاد فارس، أم البلدة التي في جنوب العراق وهو ما رجحته الدراسات الأكاديمية، نشأ في مدينة واسط التي تبعد ب180 كيلومترا جنوب بغداد في العراق، وصحب أبا القاسم الجنيد وغيره يقول الدكتور علي ثويني في الأصل العراقي للحلاج: وبالرغم من اقتران اسم الحلاج ببغداد فإنه لم يولد فيها وإنما ولد في أطراف واسط القريبة من جنوبها عام 858م في منطقة (البيضاء) التي يقال لها (الطور) وربما يكون ذلك الموضع يقع في تخوم (أهوار) العراق التي تدعى (البيضاء) حتى يومنا هذا، ويؤكد مسقط رأسه هذا المؤرخ (الاصطخري) الذي عاصره وذكر ذلك ابن الجوزي في (المنتظم) حيث ذكر(الحسين بن منصور المعروف بالحلاج من أهل البيضاء)، وهكذا فإنه عراقي المولد والمنشأ بالرغم من ادعاء البعض بفارسيته والتي لا يؤيدها منهج البحث التاريخي .ثم انتقل إلى البصرة قبل وروده بغداد وهو في الثامنة عشر من عمره . لم ترض فلسفته التي عبّر عنها بالممارسة الفقيه محمد بن داود قاضي بغداد، فقد رآها متعارضة مع تعاليم الإسلام ، فرفع أمر الحلاج إلى القضاء طالبًا محاكمته أمام الناس والفقهاء فلقي مصرعه مصلوباُ بباب خراسان المطل على دجلة على يدي الوزير حامد بن العباس، تنفيذًا لأمر الخليفة المقتدر في القرن الرابع الهجري بعد أن طال محاكمته سبع سنين واستتابه الخليفة فلم يرجع عن قوله.
نشأ الحسين الحلاج في واسط ثم دخل بغداد وتردّد إلى مكة واعتكف بالحرم فترة طويلة، وأظهر للناس تجلدًا وتصبرًا على مكاره النفوس، من الجوع والتعرض للشمس والبرد. وكان الحلاج يظهر للغوغاء متلونًا لا يثبت على حال، إذ يرونه تارة بزي الفقراء والزهاد وتارة بزي الأغنياء والوزراء وتارة بزي الأجناد والعمال، وقد طاف البلدان ودخل المدن الكبيرة وانتقل من مكان لآخر داعيًا على طريقته، فكان لهُ أتباع في الهند وفي خراسان[ وفي بغداد وفي البصرة، وقد اتهمه مؤرخو أهل السنة بأنه كان مخدومًا من الجن والشياطين ولهُ حيل مشهورة في خداع الناس ذكرها ابن الجوزي وغيره، وكانوا يرون أن الحلاج يتلون مع كل طائفة حتى يستميل قلوبهم، وهو مع كل قوم على مذهبهم، إن كانوا أهل سنة أو شيعة أو معتزلة أو صوفية أو حتى فساقًا.

لم يسر المنصور بن حسين الحلاج، الفيلسوف والمتصوف المسلم الشهير، على نهج نظرائه من أعلام الصوفية، فقد كانوا هم يبيتون أمرهم على كتم مشاعرهم ووجدهم وأفكارهم وأسرارهم، وكانوا يؤثرون العزلة على الناس، تاركين أمر تدبير الخلق لله، أما هو فقد تملكته نشوة التعبير، فجهر بأفكاره وإحساساته في الأسواق ولعامة الناس، فقد تملكته نزعةٌ إصلاحية، حملته أخيرًا على أن يطرح خرقة الصوفية، وأن يكثر من التنقل في البلاد، يلقى الناس، ويسمع منهم.

كان الحلاج ممن يرى التصوف جهادًا متواصلاً للنفس، بالابتعاد بها عن متع الدنيا وتهذيبها بالجوع والسهر، وتحمل عذابات مجاهدة أهل الجور، وبث روح الثورة ضد الظلم والطغيان، فألقي القبض عليه وكانت نفسه قد تاقت للشهادة، ةدامت محاكمة الحلاج تسع سنوات قضاها في السجن يعظ السجناء، ويحرر بعض كتاباته، وسنة 922، أُخرج الحلاج من محبسه وجلد جلدًا شديدًا، ثم صُلب حيًا حتى فاضت روحه إلى بارئها. وفي اليوم التالي قطع رأسه وأحرق جثمانه، ونثر رماده في نهر دجلة، وقيل أن بعض تلاميذه احتفظوا برأسه.

فكره

التصوف عند الحلاج جهاد في سبيل إحقاق الحق، وليس مسلكًا فرديًا بين المتصوف والخالق فقط. لقد طور الحلاج النظرة العامة إلى التصوف، فجعله جهادًا ضد الظلم والطغيان في النفس والمجتمع ونظرًا لما لتلك الدعوة من تأثير على السلطة السياسية الحاكمة في حينه. عن إبراهيم بن عمران النيلي أنه قال:

« سمعت الحلاج يقول: النقطة أصل كل خط، والخط كلّه نقط مجتمعة. فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط. وكل خط مستقيم أو منحرف هو متحرك عن النقطة بعينها، وكلّ ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين. وهذا دليل على تجلّي الحق من كل ما يشاهد وترائيه عن كل ما يعاين. ومن هذا قلت: ما رأيت شيئًا إلاّ رأيت الله فيه.»

حقائق سريعة عن الحلاج

قاد الحلاج منهجًا جديدًا في التصوف يرى أن التصوف جهادٌ في سبيل إحقاق الحق، وليس مسلكًا فرديًا بين المتصوف والخالق فقط، وطور الحلاج النظرة العامة إلى التصوف، فجعله جهادًا ضد الظلم والطغيان في النفس والمجتمع ونظرًا لما لتلك الدعوة من تأثير على السلطة السياسية الحاكمة في حينه.
نشأ الحلاج في العراق، ثم تنقل بين عدة مدن وولايات، منها الهند، وقضى فترات في مكَّة، معتزلاً في الحرم المكي، حيث عرف الناس عنه أنه إذا جلس لا يغير جلسته أو موقعه في الليل أو في النهار، في الحر والبرد، كما عُرف بقلة طعامه، وزهده في كل شيء، وكان له مريدون يتبعونه، يحفظون عنه.
اصطدم بأحد المشايخ المتمسكين بالنقل والنص، هو الجنيد البغدادي، الذي لم يكن راضيًا عن فكر الحلَّاج، وفلسفته، فكان أن قال له ذات جدال: “أي خشبةٍ ستفسدها”، كناية عن خشب الصليب، لكن الجنيد مات قبل أن يشهد نبوءته قد تحققت بصلب الحلَّاج.
عرض الحلَّاج للمحاكمة، بتهمة الزندقة والكفر، حيث جادله الفقهاء والقضاة في آرائه، حتى وصل أمره، إلى يد الخليفة المقتدر بالله عن طريق وزيره حامد بن العباس، فوافق الخليفة على إهدار دمه، وصادق على حكم إعدامه، فتم إعدامه بطريقةٍ دموية، حيث أراد وزير الخليفة، أن يجعل منه عبرةً، لكل الصوفيين.
لاحق الوزير حامد أتباع الحلاج وأصدقاءه، فمن لم يعد عن مذهب الحلاج دُقَّ عنقه، وقد ذكرت هذه التفاصيل في الكامل لابن أثير، وتاريخ مختصر الدول لابن العبري، والتنبيه والإشراف للمسعودي، والمنتظم لابن الجوزي.
للحلاج قصائد كثيرة، أغلبها في العشق الإلهي والتصوف، كما للغته مميزاتٌ خاصة تتسق مع لغة الصوفية عند اللاحقين، كابن الفارض والجيلاني من حيث التعبير الرقيق، وتمجيد الآلام في سبيل العشق الكبير، كما عبر في شعره عن فلسفته الوجودية أنَّ الله في كل مكان.
تعتبر قصائد الحلَّاج، من القصائد التي تُطرب سامعها، حاله حال أغلب شعراء الصوفية، ما حدى بالكثيرين من أهل الإنشاد الصوفي إلى استخدام كلماته، كما لجأ لها كبار الملحنين، أمثال مارسيل خليفة في قصيدة (يا نسيم الريح)، والموسيقار المصري عمر خيرت في قصيدة (والله ما طلعت شمس ولا غربت)، كما ألهم الحلَّاج الكثيرين بشعره وحياته، منهم الكاتب صلاح عبد الصبور في مسرحيته مأساة الحلَّاج، والمستشرق الفرنسي لويس ماسنيون (Louis Massignon) مؤلف كتاب آلام الحلَّاج، فضلاً عن استخدام قصته المؤلمة، في الاستعارة الشعرية والأدبية.

صلب الحلاج

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

لم يعرف تاريخ التصوّف الإسلامي شخصيّة مثيرة للجدل مثل شخصيّة الحسين بن منصور الحلاّج. كَفّره البعض فيما قدّسه آخرون ونسبوا إليه الخوارق. نلقي الضوء على شخصيّة فذّة، اختلف حولها أهل الفقه والدين، لكنّها مهمّة بالنسبة إلينا، نظرًا للتشابه القائم بين موت الحلاّج على الصليب وموت المسيح.

وُلد الحسين بن منصور العام 857 م في بلاد فارس، فيما العصر العبّاسي يشهد صراعًا محمومًا بين المذاهب والتيارات الدينيّة والسياسيّة. عاش في خلوات الصوفيّة، ثمّ طاف البلدان داعيًا إلى الزهد، ليعود ويستقرّ في بغداد.

لُقّب بالحلاّج لكشفه أسرار القلوب (حلاّج الأسرار) ومنهم من قال بسبب مهنة أبيه في حَلج القطن. كتب الكثير، وفي شتّى المواضيع، لكنّه لم يبقَ سوى القليل من كتاباته، تمكّن المستشرق الكبير لويس ماسينيون من جمعها، بعد أن كرّس أكثر من خمسين عامًا يبحث في سيرة حياة هذا المتصوّف المميّز، ومقارنًا بينها وبين حياة المسيح يسوع، بخاصّة في موته على الصليب، ومستنتجًا أنّ حياة الحلاّج وأقواله قريبة من المفهوم المسيحي للألم والفداء والحياة والحبّ الإلهي، لذلك قال عنه إنّه «مسيحيّ بالشوق».

حذا آخرون حذو ماسينيون، فسمّاه جان شوفالييه «مسيح الإسلام» 1، وأطلق روجيه أرنالديز على دعوته تسمية «دين الصليب»2 ، وبات من الصعب على كلّ من تأمّل في سيرة حياته ومماته ألا يلاحظ أوجه الشبه بينه وبين المسيح.

لم يتّخذ الحلاّج التقيّة منهجًا له في حياته الروحيّة والسياسيّة، بل تكلّم بكلّ جرأة، وعانى ما لم يعانه أحد من المتصوفة، فاتّهم واضطهد وسُجن، وعُرض مصلوبًا مرّة أولى لمدّة ثلاثة أيّام، ثمّ بقي ثماني سنوات محبوسًا في بغداد، يقودوه من سجن إلى آخر، إلى أن انتهت حياته في 26 آذار العام 922، بعد أن تمّ جلده، وقُطّعت أعضاؤه، ثمّ صُلب وقُطع رأسه وحُرق جسمه كلّه .

لم يهب الحلاّج الموت، وظلّ متماسكًا وقويًا، وبدا كأنّه ينتظره، لا حبًّا بالموت، وإنّما ترسيخًا لدعوته الصوفيّة، ومبدئه القائم على التضحية والمحبّة3. إنّ أساس المحبّة عند الحلاّج هو التضحية، لذلك وجب على الذي يحبّ الآخر أن يضحي من أجله. وكان قد «تنبأ» بموته صلبًا لَمّا قال: «وإن قُتلتُ أو صُلبتُ أو قُطّعت يداي ورجلاي ما رجعتُ عن دعواي»4.

لم يأت الحلاّج ليدين، إنّما ليقدّم نفسه ضحيّة عن الآخرين ومن أجل خلاصهم، كما قال: «تُهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي»5.

فعلى الصليب أهدى الحلاّج «مهجته ودمه»، وعلى الصليب أيضًا طلب المغفرة لقاتليه، لمّا قال: «قد اجتمعوا لقتلي تعصّبًا لدينك، وتقرّبًا إليك، فاغفر لهم، فإنّك لو كشفتَ لهم ما كشفتَ لي لَما فعلوا ما فعلوا»6. وكلام الحلاّج هذا على الصليب يذكّر بما قاله المسيح يسوع على الصليب: «يا أبت اغفر لهم، لأنّهم لا يعلمون ما يفعلون»

كان الحلاّج على قناعة ذاتيّة في أنّ صلبه وعذابه هما من مشيئة ربّه، وقد خاطبه قائلاً: «فاعفُ عن الخلق ولا تعفُ عنّي، وارحمهم ولا ترحمني، فلا أخاصمك لنفسي، ولا أسائلك بحقّي، فافعل بي ما تريد». ودعاؤه هذا يماثل في جوهره ما قاله المسيح لأبيه السماويّ: «يا أبت، إن أمكن الأمر، فلتبتعد عنّي هذه الكأس، ولكن لا كما أنا أشاء، بل كما أنت تشاء»

حين جيء بالحلاّج ليصلب، ورأى الخشب والمسامير «ضحك كثيرًا حتّى دمعت عيناه»، ثمّ التفت إلى القوم طالبًا سجادة ليفرشوها له، فصلّى ركعتين وتلا آيات من القرآن. ومع أنّه قال: «ففي دين الصليب يكون موتي، ولا البطحا أريد ولا المدينة»، لكنّ الباحثون في سيرته، بمن فيهم ماسينيون، تبنّوا التأويل الإسلامي لهذا البيت الذي يقول بأنّ مراد الحلاّج هو بأنّه يموت على دين نفسه، فإنّه هو الصليب، وكأنّه قال أنا أموت على دين الإسلام، وأشار إلى أنّه يموت مصلوبًا.

قيل له وهو مصلوب: قل لا إله إلاّ الله. فقال: إنّ بيتًا أنت ساكنه غير محتاج إلى السرج.

هكذا أحبّ الحلاّج ربّه حبًّا صرفًا منزهًا عن أيّة غاية، لا طمعًا في الجنّة ولا خوفًا من الجحيم، ومثله مثل رابعة العدَويّة13 حين قالت: «ربّي، إذا كنتُ أعبدك خوفًا من النار فاحرقني بالجحيم، وإذا كنت أعبدك طمعًا في الجنّة فاحرمنيها، أمّا إذا كنتُ أعبدك من أجلك فحسب، فلا تحرمني يا إلهي وجهك الكريم»14. ولا عجب أن يتبنّى التقليد المسيحي هذا الدعاء، ليستعمله في فعل الندامة بصيغته المختصرة، الذي يقوله التائب بعد استقباله الحلّة من الكاهن المعرّف.

عاش الحلاّج حياة كلّها عذاب وقهر، ولكنّه عاشها بملء إرادته ورضاه، وتوّجها بالموت صلبًا وتقطيعًا وحرقًا، فقال عنه جلال الدين الرومي15: «لقد بلغ الحلاّج قمّة الكمال والبطولة كالنسر في طرفة عين».

وأهمّ ما في الحلاّج، بالنسبة إلينا، هو ما اكتشفه المستشرق ماسينيون عن وجود بعض ملامح المسيح يسوع، ليس فقط في موته على الصليب، بل في أقواله في التضحية والفداء والمحبّة التي لو لم نعرف صاحبها لكنّا قلنا بأنّها تعود حتمًا إلى أحد الآباء القدّيسين. هذا ما تظهره أيضًا هذه الصلاة التي قالها الحلاّج في سجنه، ليلة إعدامه، ونقلها خادمه الأمين، الذي كان معه في السجن ذاته، والتي تعيد إلى أذهاننا ما قاله المسيح يسوع في صلاته الكهنوتيّة:

نحن شواهدك نلوذ بسنى عزّتك لتبدي ما شئتَ من شأنك ومشيئتك،
وأنتَ الذي في السماء إلهٌ وفي الأرض إلهٌ،
تتجلّى لِما تشاء مثل تجلّيك في مشيئتك كأحسن الصورة،
والصورة فيها الروح الناطقة بالعلم والبيان والقدرة،
ثمّ أَوعزتَ إلى شاهدك الآني في ذاتكَ الهوى اليسير،
كيف أنت إذا مثلت بذاتي، عند عقيب كرّاتي، ودعوتَ إلى ذاتي بذاتي،
وأبديتَ حقائق علومي ومعجزاتي،
صاعدًا في معارجي إلى عروش أزليّاتي، عند القول من برّياتي،
إنّي احتُضرتُ وقُتلتُ وصُلبتُ وأُحرقتُ واحتملتُ سافياتي الذاريات ولججت بي الجاريات،
وإنّ ذرّة مِن يَنجوج مكان هاكول متجلّياتي، لأعظم من الراسيات
أحوال الحلاج قبل موته بأيام وماذا قال فى صلاته الأخيرة

تسميته بالحلاح

هو أبو المغيث الحسين بن منصور.. وكان أبوه يعمل في حلج القطن ونسجه – كان من عظماء الصوفية- وعبر عن مدرسته في التصوف ورؤاه فيها شعراً.. وقد جنى عليه ذلك الابداع بما حمله من الالتباسات وربما الصرخات المدوية حتى ذهبت بروحه شهيداً لعقيدته في الإتحاد التام مع الإرادة الإلهية

مما قال عند موته

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

( يا بني ان بعض الناس يشهدون علي بالكفر وبعضهم يشهدون لي بالولايه ,والذين يشهدون علي بالكفر احب الي و الي الله من الذين يقرون لي بالولايه ,لان الذين يشهدون لي بالولايه من حسن ظنهم بي ,والذين يشهدون علي بالكفر تعصبا لدينهم , و من تعصب لدينه احب الي الله ممن احسن الظن بأحد .)
فلسفه الحلاج التي عبر عنها في حياته عن طريق الممارسه لم ترض الفقيه محمد بن داوود قاضي بغداد , فقد رأها متعارضه مع تعاليم الاسلام , ورأي ان العشق الالهي هرطقه لان الحب في نظره يقتصر علي العلاقه بين الجنسين و غايته ابقاء الجنس البشري .

موته :

فلما اصبح الصباح ,اخرج الحلاج ليقتل في الجانب الغربي من بغداد و قد تجاوز سنه الخامسه والستين, ابيض الشعر واللحيه, فتقدم و صلي الركعتين ,فقرأ في الاولي فاتحه الكتاب ثم بعدها ( و لنبلونكم بشيءمن الخوف والجوع …)ثم قرأ في الثانيه فاتحه الكتاب ثم بعدها ( كل نفس ذائقه الموت …)
ثم تم جلده حوالي الف سوط ,فلما لم يمت قطعت يده ثم رجله ثم رجله الاخري ثم يده ثم ضربت عنقه واحرقت جثته فلما صار رمادا القي في دجله ….كل ذلك دون ان يتأوه , و نصبت رأسه بجوارها يداه ورجلاه للناس علي سور السجن

محاكمته

روى إسماعيل بن علي الخطبي في ” تاريخه ” قال : وظهر أمر رجل يعرف بالحلاج يقال له : الحسين بن منصور، وكان في حبس السلطان بسعاية وقعت بهِ، وذلك في وزارة علي بن عيسى الأولى وذكر عنه ضروب من الزندقة ووضع الحيل على تضليل الناس من جهات تشبه الشعوذة وسحر وادعاء النبوة، فكشفه علي بن عيسى عند قبضه عليه وانتهى خبره إلى السلطان – يعني الخليفة العباسي المقتدر بالله – فلم يقر بما رمي به من ذلك فعاقبه وصلبه حيًا أيامًا متوالية في رحبة الجسر في كل يوم غدوة وينادى عليه بما ذكر عنه ثم ينزل به ثم يحبس. فأقام في الحبس سنين كثيرة ينقل من حبس إلى حبس حتى سجن في النهاية بدار السلطان، فاستغوى جماعة من غلمان السلطان وموه عليهم واستمالهم بضروب من حيلهِ حتى صاروا يحمونه ويدفعون عنه ويرفهونه، ثم راسل جماعة من الكتاب وغيرهم ببغداد وغيرها فاستجابوا لهُ، وتراقى به الأمر حتى ذكر أنه ادعى الربوبية وسعي بجماعة من أصحابه إلى السلطان فقبض عليهم ووجد عند بعضهم كتبا تدل على تصديق ما ذكر عنهُ، وأقر بعضهم بلسانهِ بذلك وانتشر خبره وتكلم الناس في قتلهِ، فأمر أمير المؤمنين بتسليمه إلى حامد بن العباس وأمر أن يكشفه بحضرة القضاة والعلماء ويجمع بينه وبين أصحابه فجرى في ذلك خطوب طوال؛ ثم استيقن السلطان أمره ووقف على ما ذكر له عنه، فأمر بقتله وإحراقه بالنار، فأحضر مجلس الشرطة بالجانب الغربي يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة فضرب بالسياط نحوا من ألف سوط وقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه وأحرقت جثته بالنار ونصب رأسه للناس على سور الجسر الجديد وعلقت يداه ورجلاه إلى جانب رأسه، ويذكر مصطفى جواد أنه بعد حرق جثته تم دفن ما تبقى منها في القبر المعروف في بغداد.

منتقدوه
اكتفى بعضهم بتكفيره بالاعتماد على ما قيل على لسانهِ من أقوال أو أشعار، بينما سعى بعضهم إلى تبرئته بالزعم بأن ما قيل على لسانه لا أساس له من الصحة وأنه كلام مدسوس عليه. أما أتباعه فإنهم يقدسون أقواله ويؤكدون نسبتها إليه، ولكنهم يقولون إن لها معاني باطنة غير المعاني الظاهرة، وأن هذه المعاني لا يفهمها سواهم. بينما جنح المستشرقون إلى تفسيرات أخرى وجعلوا منه بطلًا ثوريًا شبيهًا بأساطير الغربيّين.
وعند الشيعة: ذكره الطوسي في كتاب الغيبة في المذمومين الذين ادعوا النيابة البابية.
وقال ابن تيمية: (مَنِ اعْتَقَدَ مَا يَعْتَقِدُهُ الْحَلاجُ مِنَ الْمَقَالاتِ الَّتِي قُتِلَ الْحَلاجُ عَلَيْهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا قَتَلُوهُ عَلَى الْحُلُولِ وَالاتِّحَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَقَالاتِ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالإِلْحَادِ كَقَوْلِهِ: أنا الله. وَقَوْلِهِ : إلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الأَرْضِ…وَالْحَلاجُ كَانَتْ لَهُ مخاريق وَأَنْوَاعٌ مِنَ السِّحْرِ وَلَهُ كُتُبٌ مَنْسُوبَةٌ إلَيْهِ فِي السِّحْرِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلا خِلافَ بَيْنِ الأُمَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ بِحُلُولِ اللَّهِ فِي الْبَشَرِ وَاتِّحَادِهِ بِهِ وَأَنَّ الْبَشَرَ يَكُونُ إلَهًا وَهَذَا مِنَ الآلِهَةِ: فَهُوَ كَافِرٌ مُبَاحُ الدَّمِ، وَعَلَى هَذَا قُتِلَ الْحَلاجُ)اهـ
وقال أيضًا: (وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ذَكَرَ الْحَلاجَ بِخَيْرِ لا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلا مِنْ الْمَشَأيِخِ ; وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقِفُ فِيهِ; لأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَمْرَهُ).اهـ
وقال عنه عبد القادر الجيلاني حين سُئل عن الحلاج قال: عثر الحلاج ولم يكن في زمانه من يأخذ بيده، ولو أدركته لأخذت بيده.
وقال عنهُ أبو الحسن الشاذلي: أكره من العلماء تكفير الحلاج، ومن فهم مقاصده فهم مقصدي.
قال الخطيب البغدادي: والصوفية مختلفون فيه فأكثرهم نفى أن يكون الحلاج منهم وأبى أن يعده فيهم، وقبله من متقدميهم أبو العباس بن عطاء البغدادي ومحمد بن خفيف الشيرازي وإبراهيم بن محمد النصراباذي النيسابوري وصححوا له حاله ودونوا كلامه حتى قال ابن خفيف : الحسين بن منصور عالم رباني .
قال ابن كثير: لم يزل الناس منذ قتل الحلاج مختلفين في أمره. فأما الفقهاء فحكي عن غير واحد من الأئمة إجماعهم على قتله وأنه كان كافرا ممخرقا مموها مشعبذا، وكذلك قول أكثر الصوفية منهم. ومنهم طائفة كما تقدم أجملوا القول فيه وغرهم ظاهره ولم يطلعوا على باطنه، وقد كان في ابتداء أمره فيه تعبد وتأله وسلوك، ولكن لم يكن له علم يسلك به في عبادته، فدخل عليه الداخل بسبب ذلك، كما قال بعض السلف : من عبد الله بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه. وعن سفيان بن عيينة أنه قال : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى. ولهذا دخل على الحلاج باب الحلول والاتحاد فصار من أهل الانحلال والإلحاد .
قال الخطيب : وحدثني مسعود بن ناصر أنبأنا ابن باكويه الشيرازي، سمعت أبا زرعة الطبري يقول : الناس فيه – يعني حسين بن منصور – بين قبول ورد، ولكن سمعت محمد بن يحيى الرازي، يقول : سمعت عمرو بن عثمان يلعنه ويقول : لو قدرت عليه لقتلته بيدي، فقلت : أيش الذي وجد الشيخ عليه ؟ قال : قرأت آية من كتاب الله، فقال : يمكنني أن أؤلف مثله وأتكلم به
قال أبو زرعة الطبري : وسمعت أبا يعقوب الأقطع يقول : زوجت ابنتي من الحسين بن منصور لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده، فبان لي بعد مدة يسيرة أنه ساحر محتال خبيث كافر

مَن أَهوى وَمَن أَهوى أَنا نَحنُ روحانِ حَللَنا بَدَنا
نَحنُ مُذ كُنّا عَلى عَهدِ الهَوى تُضرَبُ الأَمثالُ لِلناسِ بِنا
فَإِذا أَبصَرتَني أَبصَرتَهُ وَإِذا أَبصَرتَهُ أَبصَرتَنا
أَيُّها السائِلُ عَن قِصَّتِنا لَو تَرانا لَم تُفَرِّق بَينَنا
روحُهُ روحي وَروحي روحُهُ مَن رَأى روحَينِ حَلَّت بَدَنا

لم يكد يجفّ حبر هذه الأشعار، حتى كان صاحبها يكتب بدمه واحدة من أشد الملاحم في تاريخ الإسلام، ليكون علامة على زمن ضاق بالتفكير النقدي والمعارضة السياسية.
وبسبب هذه الأشعار وغيرها من الشطحات الصوفية التي تجلت في “وحدة الوجود” توضأ الحسين بن منصور “الحلاّج” بدمه، بعدما ضرب ألف سوط فما تأوه، ثم جرى قطع يده، ثم رجله، ثم يده، ثم قُتل وأُحرق بالنار، فلما صار رماداً أُلقي في دجلة، ونصب الرأس ببغداد، وأُرسل بعدها إلى خراسان، وكان ذلك ذات ثلاثاء في 26 مارس (آذار) من عام 922 ميلادية.

وينتسب الحلاج، المولود في “البيضاء” ببلاد فارس، على ما ترجح بعض الروايات التاريخية، إلى طائفة من المتصوفة الذين لم يكتفوا بتحويل الزهد إلى مجرد عبادات وانعزال عن الناس، بل أحال الطاقة القصوى في التصوف إلى مجاهدة للنفس، وجهاد ضد العسف والطغيان. ويقال إن علاقته بجماعات الزنج والقرامطة أججت هذه المشاعر في قلبه. كما يقال إن صلته وتأثره بالمتصوفة الهنود جعلته ينخرط في الرغبة الحميمة لبلوغ الدرجات العليا من العرفان التي تمكّن صاحبها، كما كان يقال، من إتيان المكرمات و”الخوارق”.
ويُروى عن إبراهيم بن عمران النيلي:”سمعت الحلاج يقول: النقطة أصل كل خط، والخط كله نقط مجتمعة. فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط. وكل خط مستقيم أو منحرف فهو متحرك عن النقطة بعينها، وكل ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين. وهذا دليل على تجلّي الحق من كل ما يشاهد، وترائيه عن كل ما يعاين. ومن هذا قلت: ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله فيه”.

اعتبر الحلاج من قبل بعض معاصريه ساحراً خطراً بينما استاء خصومه السياسيون من دوره في خطة مرسومة لإصلاح الضرائب

وقد جرّ ذلك كله على الحلاج مصاعب كثيرة؛ لأنه كان يوصف بالتغريد خارج سرب السلطتين الدينية والسياسية. وقد نعته الشاعر والفيلسوف الهندي محمد إقبال بالمفكر المبدع، الذي “حاول بث الحياة في معاصريه الموتى روحياً وفكرياً، أي حاول منحهم إيماناً حياً جديداً، وتحريرهم من التقليد واجترار القواعد المتوارثة الخالية من كل روح”.
وقد كانت قناعة إقبال، كما تروي المستشرقة الألمانية المتخصصة بالتصوف آنا ماري شميل، ثابتة في أن “عالم القرآن” ينفتح لكل إنسان وفي كل عصر بصورة جديدة، وأن الإسلام ليس ديناً متحجراً بعيداً عن الواقع؛ بل إن المفكرين والصوفيين الكبار قد تغلغلوا الى طبقات بعيدة الأعماق من الفهم، بحيث يصبحون بذلك أمثلة عليا يقتدي بها الإنسان العصري أيضاً. وفي نظره كان الحلاج، الذي فهم أعماق الوحي الإلهي بصورة أفضل مما فعل كبار الفقهاء ورجال الدين الذين يعجزون عن التحليق الى الذرى الفكرية، لأن كلاً منهم يجثم “كقارون على المعاجم العربية”، أي أنه لا يستطيع التحليق بسبب عبء معارفه اللغوية الفقهية، بل يُضغط ميتاً تحت الغبار، كما غرق قارون تحت عبء كنوزه.
وفي محاولة لبعض الدارسين من أجل ردّ الاعتبار للحلاج، أنجزت دراسات وأعمال أدبية أكدت أنه قد أُسيء فهم هذا المتصوف، إذ فُسرت كلمته: “أنا الحق”، أي “أنا الحقيقة المطلقة”، أي “الله”، على أنها تعبير عن تعالٍ متعاظمٍ للذات، ما أثار الشكوك في إيمانه بحلول الذات الإلهية في النفس البشرية.
وفضلاً عن ذلك، اعتبر الحلاج من قبل بعض معاصريه ساحراً خطراً، بينما استاء خصومه السياسيون من دوره في خطة مرسومة لإصلاح الضرائب، ورأى رجال الدين في فكرته حول إسقاط الفرائض تعبيراً عن كفره، ودليلاً على إلحاده، رغم أنه ألّف في عمله “كتاب الطواسين” أجمل أنشودة يمتدح فيها الرسول محمد عليه الصلاة والسلام. كما أن كبار المتصوفين في جميع العصور قد أبدوا إعجابهم الشديد بحبه المطلق لله عز وجل.

وفي أدب العصر الوسيط نرى ملامح إعادة الاعتبار للحلاج الذي جرى تقديمه بصفته “ثائراً في وجه ضيق الأفق الفكري لدى المتحجرين من رجال الدين، لأنه شهد خبرة الاتصال بالله، تلك التجربة الروحية الحية عندما تخلى عن وظيفته التعليمية في المدرسة النظامية ببغداد، لأنه وجد أن زملاءه كانوا منغمسين في نزاعات وخلافات لا طائل من ورائها حول مسائل فقهية سطحية، دون أن يتحلّوا بذرّة من الإيمان الحي، أو يمتلكوا بارقة من الاتصال الحي بالذات الإلهية”.
وفي الأدب الأُردي والتركي الحديث يُصوّر الحلاج أحياناً كثائر ضد المجتمع القائم، كما أنه يظهر كذلك في الشعر العربي المعاصر كممثل للأبعاد العميقة للإسلام، كمكافح من أجل العدالة والفهم. وقد سعى الشاعر المصري صلاح عبد الصبور في مسرحيته “مأساة الحلاج” الى إظهار الطابع الاجتماعي لرسالة الحلاج، وأعطى تفسيراً دقيقاً لضرورة موته: “إذ كان موته أمراً محتوماً، لكي يعود أتباعه فيجدوا كلماته في أثلام الحقول، حيث تكمن خفية عن العيون، لكي تحمل على الرياح، التي تهب فوق الأمواج، فما الذي كان سيحدث لرسالته المنادية بحرية الفكر، لو لم يمت مشنوقاً؟”.

المسرحية، التي تتكون من فصلين، تعاين العلاقة بين السلطة المتحالفة مع الدين والمعارضة، كما تحدق في محنة العقل في مواجهة التفسير الحرفي الأيديولوجي المتعسف لروح الإسلام. ففلسفة الحلاج، التي عبّر عنها بالممارسة، لم ترض قاضي بغداد الفقيه محمد بن داود، فقد رآها متعارضة مع تعاليم الإسلام، حسب رؤيته لها، فرفع أمر الحلاج إلى القضاء طالباً محاكمته أمام الناس والفقهاء. فلقي مصرعه مصلوباُ بباب خراسان المطل على دجلة على يدي الوزير حامد ابن العباس، تنفيذاً لأمر الخليفة المقتدر في القرن الرابع الهجري.

ويبارك ابن تيمية في “مجموع الفتاوى” ما حاق بالحلاج من مصير، لا بل إنه يرى أن “من اعتقد ما يعتقده الحلاج من المقالات التي قتل الحلاج عليها فهو كافر مرتد باتفاق المسلمين، فإن المسلمين إنما قتلوه على الحلول والاتحاد، ونحو ذلك من مقالات أهل الزندقة والإلحاد، كقوله: أنا الله، وقوله: إله في السماء وإله في الأرض. وبالجملة، فلا خلاف بين الأمة أن من قال بحلول الله في البشر، واتحاده به، وأن البشر يكون إلهاً، وهذا من الآلهة، فهو كافر مباح الدم، وعلى هذا قتل الحلاج”.
ورغم المصير المؤلم الذي آل إليه، فإن الحلاج يمثل التضحية الكبرى التي قدَّمها الصوفية، في طريقهم نحو إقرار القاموس الصوفي الخاص.. فقد قدَّم الحلاَّج حياته ثمناً لمحاولته التعبير عن الأحوال التي، يعاينها ويعانيها، مثلما عاينها وعاناها معاصروه من رجال التصوف. فها هو أبو بكر الشبلي (رفيق الحلاج) يشطح بعبارات لا تقل وُعورة وخطورة عما شطح به الحلاج، لكنه حين واجهوه بها، ادَّعى الجنون ودخل البيمارستان! فعاش بعد مصرع الحلاج إحدى عشرة سنة. وكان يقول: أنا والحلاج شيء واحد، فأهلكه عقله وخلَّصني جنوني!

المصادر والمراجع

وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تأليف: ابن خلكان، ج2، ص140، دار صادر.

^ دكتور علي ثويني – في الأصل العراقي للحلاج – بغداد – 2000

^ مصطفى جواد ، أصول التاريخ والأدب ، ج22 ، ص 32

^ البداية والنهاية 14/ 829 : 831

الطوسى، اللمع في التصوف، تحقيق: د. عبد الحليم محمود وطه عبد الباقى سرور، دار الكتب الحديثة، مكتبة المثنى، 1960، ص 468.

د. عبد الرحمن بدوي، شطحات الصوفية، وكالة المطبوعات، الكويت، الطعبة الثانية، 1976م، ص 26.

ابن باكويه، أخبار الحلاج، نشرة ماسينيون وكراوس، باريس، 1936، ص 43.

الحلاج ديوان

أخبار الحلاج

نقط الاختلاف بين الأستاذ فرض عليه التعاقد (إطار الأكاديمية) والأستاذ النظامي موظف الوزارة:


1- أستاذ الأكاديمية يجمع بين أستاذين تحت مسمى “أستاذ الثانوي”، ويشتغل في مؤسسات التعليم الثانوي الإعدادي والثانوي التأهيلي، عكس الأستاذ النظامي الذي يستفيد من إطارين: أستاذ التعليم الثانوي الإعدادي أو أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي
2- أستاذ الأكاديمية الذي يشتغل في الثانوي التأهيلي لا يستفيد من الترقية خارج السلم، عكس أستاذ الثانوي التأهيلي النظامي
3- أستاذ الأكاديمية لا يشارك في الحركة الانتقالية الوطنية ولا يمكنه الانتقال خارج الجهة عكس الأستاذ النظامي
4- أستاذ الأكاديمية تمثله لجنة الأطر في الأكاديمية أما الأستاذ النظامي فتمثله اللجان الإدارية المتساوية الأعضاء، بمعنى وجود تفرقة في التمثيل
5- في التوقيف الاحترازي عن العمل بسبب ارتكاب هفوة مهنية خطيرة هناك اختلاف بين مضمون المادة 73 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية بخصوص تطبيق المسطرة التأديبية وآجالها وبين المادة 100 التي تقابلها في النظام الأساسي الخاص بأطر الأكاديمية
6- عدم استفادة أستاذ الأكاديمية من الحق في الإلحاق عكس الأستاذ النظامي
7- عدم استفادة أستاذ الأكاديمية من نفس حالات الحق في الاستيداع عكس الأستاذ النظامي (تم التراجع عن الحق في الاستيداع لأسباب شخصية وعن الحق في الاستيداع من أجل القيام بأبحاث ودراسات لخدمة الصالح العام في النظام الأساسي لأطر الأكاديمية عكس ما نصت عليه المادة 58 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية)
8- عدم استفادة أستاذ الأكاديمية من الحق في الوضع رهن الإشارة، عكس الأستاذ النظامي..
9- خضوع أستاذ الأكاديمية للنظام الجماعي لمنع رواتب التقاعد (صندوق تقاعد بخيل)، في حين يخضع زميله الأستاذ النظامي للصندوق المغربي للتقاعد (صندوق تقاعد سخي)
10- خضوع أستاذ الأكاديمية للسلطة الرئاسية لمدير الأكاديمية (سلطة ضعيفة قليلة الضمانات)، أما الأستاذ النظامي فيخضع للسلطة الرئاسية لوزير التربية الوطنية (سلطة قوية ذات ضمانات كثيرة)
11- النظام الأساسي لأطر الأكاديمية مؤطر بقرار لمدير الأكاديمية (ضعيف من ناحية تراتبية النصوص التشريعية)، أما النظام الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية فهو مؤطر بمرسوم لرئيس الحكومة (قوي من ناحية تراتبية النصوص التشريعية)..
هذه بعض مظاهر خرق مبدأ المساواة بين أستاذين ينتميان لنفس الوزارة ويقومان بنفس المهام..

د. محمد الجناتي أستاذ مكون بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بوجدة

رسالة من أستاذ إلى تلميذه ناكر الجميل…



من الأستاذ: كيمية العياشي
إلى تلميذه :ناكر الجميل،يونس ذافقير
سأقرئك السلام ،رغم أنك أسأت معي الكلام،فالسلام عليكم ورحمة منه تعالى وبركاته.
بني،بلغني أنك قلت قولا إدًّا،فأصبحت تستحق مني الردَّ،وجعلتني أردد قول الشاعر،أبو الطيب المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته…..وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
إذ تجردت من لباس الحياء ورميتني بالغباء،ونسيت أني كنت يوما لك موجها ودليلا ومصباحا وقنديلا،فلما اشتد عودك ،جعلتني بظلمك وغيك حقيرا وذليلا.
بُنَيَّ،لن أكون قاسيا في الرد على بذيء كلامك،لأنك مهما أخطأت فستظل عندي طفلا صغيرا،أسعى دائما أن أراك بين الناس كبيرا،وسأبقى ناصحا أمينا لك ولزملائك من ناكري الجميل.
بُنَيَّ،هل تتذكر يوم كنت لا تقوى على نطق الكلمات،وكنت أظل ،سعيا وراء تقويم لسانك،الأيام والساعات.لقد كان عملا شاقا ،لايقوى عليه الآباء والأمهات،وجعلتك مع مرور الزمن تتقن فن التعبير والكلام،وسارت لك منزلة ومكانة بين الأنام….؟!!
بُنَيَّ،لقد ساءني ماجاء على لسانك،وهو دليل،للأسف الشديد،على سوء أخلاقك،لأن من عظيم الأخلاق والقيم عدم نكران جميل أهل الفضل علينا والنعم.
بني،وأنا أرفع صوتي في القسم حتى بُح،وأجتهد في نصحك وتعليمك وأُلِح،لكي تكون بين الناس صاحب رسالة ،لا دليل شر وسفالة.
بُنَيَّ،كان أملي أن أصنع منك صحافيا جريئا يفضح الفساد ،وينقذ من طيشهم وغدرهم وخيانتهم البلاد والعباد،لكن ،للأسف مرة أخرى،اخترت ،من أجل زخارف الحياة وتفاهتها،أن تحارب اليد التي أمدتك بالقوة،والإنسان الذي شملك بحنان الأمومة والأبوة،وأمدك بعلوم المفكرين العظام،وسهر الليالي والناس نيام،كي تكون عزيزا كريما ،مهندسا أو طبيبا أو صحافيا…..عظيما،فكيف نسيت كل هذا الجميل ،واخترت أن تحارب من كان لك الموجه والدليل…؟!!
كيف طاوعتك نفسك أن تنخرط في صف صناع التفاهة،وأنت تكون إلى جانب كل ذي مرض وعاهة ؟!!
أنت تعلم بني ، أن بالعلم تبنى الأوطان ،وأن الأستاذ هو القائد والربان،به يصبح الناس في سعادة وأمان،ومن تنكر لصنيعه،وأمعن في إذلاله وتركيعه،كان مصيره الخسران ،والتخلف والانحطاط والزيغان.
بُنَيَّ،سأعتبر ما صدر منك خطأ عابرا ،وسأظل على عبثك وشطحاتك الفكرية صابرا،وأنصحك بالآتي حتى لا تظل تائها حائرا:
هناك مستبدين أذاقونا من الذل ألوانا،وجعلوا من المغاربة شعبا مهانا،فاشحذ قلمك لتقلم أظافرهم ،وتكشف أخطاءهم،وتقوم ،بمعية شرفاء بلدك،سلوكهم.
كما أدعوك ،بحكم مهنتك،أن تقوم بتحقيقات صحافية،وتنظم حوارات فكرية،حول من سرقوا الثروة،ومن أفشلوا التغيير والثورة(ضد الفساد والاستبداد)،حول من راكموا المليارات ،وبنوا القصور والفيلات،وملكوا أساطيل السفن في البحار والمحيطات،واستباحوا خيرات الوطن،وجعلوا الشعب يعيش الفقر والجهل والتهميش والمحن.
بُنَي،في جعبتي ما أنصحك به الكثير الكثير،وأن أضع بين يديك ألف تقرير وتقرير،فلا يغرنك الطمع،ولا تطئن لمن ألبسوك النياشين و أغرقوك في المتع،فالتاريخ لا يسجل إلا من دخلوا من أجل الحق الزنازين،وملأوا بأصواتهم الساحات والميادين ،ومن نصحوا وعلموا وناضلوا وجاهدوا نصرة للمظلوم وطاعة لبر العالمين.
هداني الله وإياك إلى ما فيه خيرنا وخير أهلينا،وهير وطننا وأمتنا والإنسانية جمعاء
ولاحول ولا قوة إلا بالله
الله غالب
الوردزاغ : 26/8/2020
الأستاذ : كيمية العياشي
المرجو النشر على أوسع نطاق .
ملاحظة: أنا أنا ادعو السيد يونس ذافقير إلى مناظرة حول واقع التعليم بالمغرب ،ووضع الأستاذ خاصة ،على أن تكون على شاشة إحدى القنوات الوطنية.

قراءة في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء للمفكر والفيلسوف والعالم: السيد محمد باقر الصدر

الاستقراء أو الاستدلال الاستقرائي أو أحيانا المنطق الاستقرائي (تصميم أسفل أعلى) هو أحد أشكال الاستدلال وبتعبير منطقي هو الاستدلال الذي ينتقل من الجزئي إلى الكلي. أي أنه الحكم على الكلي بما يوجد في جزئياته جميعها، وهو الاستقراء الصوري الذي ذهب إليه أرسطو وحده وسمّاه “القياس المقسّم أو الحكم على الكلي بما يوجد في بعض أجزائه، وهو الاستقراء القائم على التعميم.
ينقسم إلى قسمين استقراء تام واستقراء ناقص. وتبحث مباحث هذا الشكل من الاستدلال في علم المنطق.

مثال بسيط

هذه قطعة معدن (أ) تتمدد بالحرارة.

هذه قطعة معدن (ب) تتمدد بالحرارة.

هذه قطعة معدن (ج) تتمدد بالحرارة.

وهلم جرا إذن المعدن يتمدد بالحرارة. وهذا ما يعرف بالاستقراء الناقص أي عدم تتبع كل الأفراد (ككل أفراد المعدن في المثال المتقدم) أما الاستقراء التام هو عند تتبع كل الأفراد وقد أشكل على كون الاستقراء التام في كونه استقراء أصلا لأن المقدمة فيه تساوي النتيجة.

مشاكل الاستقراء

هناك عدة من الإشكاليات المنطقية-الفلسفية التي وجهت للاستدلال الاستقرائي من قبل بعض المانطقة والفلاسفة والعلماء. وقد تعامل مع هذه الإشكاليات عدد منهم.
ومن أبرز من تكلم عن الاستقراء ومشاكله ديفيد هيوم، كارل بوبر، في كتابه الإسس المنطقية للاستقراء وغيرهم.
ومن الإشكاليات الموجهة للاستقراء:

ما هو سبب تعميم الحكم على باقي الإفراد إن لم أفحص إلا بعضها ؟

ما هو سبب تعميم الحكم على المستقبل مع اننا فحصنا الأفراد في الزمن الحالي أو ما قبل ؟

وغيرها من الإشكاليات

محمد باقر الصدر مؤلف الاسس المنطقية للاستقراء

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

محمد باقر الصدر (1 مارس 1935 الموافق 25 ذو القعدة 1353هـ – 9 أبريل 1980 م الموافق 23 جمادي الأول 1400هـ) هو مرجع ديني شيعي ومفكر وفيلسوف إسلامي عراقي، يعد أبرز مؤسسي حزب الدعوة الإسلامية ومنظري أفكاره. مؤلف لمجموعة كتب تعد الأبرز في الفكر السياسي الإسلامي الشيعي. أُعدمه النظام السابق في عام 1980 أثناء حكم الرئيس الأسبق صدام حسين بتهمة العمالة والتخابر مع إيران.

ولادته
♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ولد بمدينة الكاظمية في 1 مارس 1935 الموافق ليوم 25 ذو القعدة عام 1353 هـ. لرجل الدين الشيعي حيدر الصدر. وكانت والدته هي كريمة الشيخ عبد الحسين آل ياسين أخت المرجع الديني المحقق الشيخ محمد رضا آل ياسين. وينتمي إلى عائلة الصدر العلمية الشيعية التي برز منها عدة شخصيات دينية منهم شقيقته بنت الهدى وابن عمه محمد صادق الصدر والسيد موسى الصدر وإسماعيل الصدر. كما انه والد زوجة مقتدى الصدر.

الاستقراءفي كتاب الاسس المنطقية للاستقراء

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

الاستقراء كمنهج معرفي يعتمد على الجمع بين ثلاثة مسائل:

  1. اطراد الطبيعة (أي التفاعالات الطبيعية المتماثلة لها نتائج متماثلة) مثلاً: لو وضعت نار على قطعة خشب ستحترق ولو كررنا هذا الفعل غدًا ستكون النتيجة نفسها.
  2. السببية العامة (أي القاعدة العامة: لكل حادث مُحدِث)
  3. السببية الخاصة (أي السببية بين الأمرين المدروسين تحديدًا => سببية أ إلى ب)

رد أرسطو #1 و #2 إلى أنّهما قضيتان عقليتان موجودتان قُبُلاً ولا يُمكن إثباتهما.

لمعالجة هذه المسألة يقوم السيد محمد باقر الصدر بتصنيف أنواع اليقين إلى ثلاثة: 1) موضوعي 2) نفسي\ذاتي 3) عقلي رياضي

وأيضــًا يقسّم العملية الاستقرائية إلى مرحلتين:

1) مرحلة استنباطية: (مرحلة الاستدلال عن طريق الاحتماليات -والذي لا يفيد اليقين لكن يقرّبنا منه-. بمعنى: المرحلة التي من خلالها يتم افتراض وجود نوع من العلاقة)
2) مرحلة التوالد الذاتي (الانتقال من الاحتمال إلى اليقين. ويحاول المؤلف هنا إثبات وجود ضرورة عقلية للسببية الخاصة في حال تجاوزنا المرحلة الاستنباطية)

ومن خلال هذه المفاهيم يحاول إثبات ضرورة أن (ب) هي سبب (أ). هذا مختصر الكتاب. لكن زبدته هو مرحلة التوالد الذاتي في تصوّري. زبدة مرحلة التوالد الذاتي تتمحور حول فكرة أن أكثر من سياق\دليل “يفشل في نفي” هذه السببية الخاصة. ويسمّي السياقات المختلفة (معرفة إجمالية 1 ، 2، إلخ). ومن ثمّ يقول: إنْ تتطابقَ أكثر من مجال (معرفي إجمالي) على عدم نفي سببية (أ) ل(ب) فإن (أ) و(ب) فعلاً مرتبطين بعلاقة سببية. وتكون هذه الدعوى يقينًا موضوعيًا. إلا أني أرى أن ما تم تقديمه في هذا الفصل بالإمكان إيراد العديد من الإشكالات عليه. فبالتالي لا تزال المشكلة قائمة

إن الفيلسوف طرح في ” الأسس ” نظريتين أساسيتين، تناولت الأولى تفسير الاحتمال وصياغة نظرية جديدة للاحتمال …،

وقد انصبت جهودنا في هذه الدراسة على بيان هذه النظرية وتبسيط عرضها .

أما النظرية الثانية فهي اتجاه جديد في تفسير اليقين الاستقرائي، والمعرفة البشرية بعامة. حيث يمنح الدليل الاستقرائي في مراحل متقدمة يقينا، لكنه غير ضروري، ومن ثم فهو غير منطقي، وفي الوقت ذاته ليس يقينا فوضويا قائما على أساس النزعة السيكولوجية المحضة، بل هو يقين يرتكز على مبررات موضوعية، وله شروطه المنطقية . آمل بإذنه تعــــالى أن أتوفر على فرصة لعرض هذا الاتجاه وتحليله – في دراسة قادمة – .
ولا بد أن أؤكد هنا على أن دراستنا لنظرية الاحتمال وتفسير الدليل الاستقرائي على أساس هذه النظرية انصبت على عرض العمود الفقري والأسس النظرية التي طرحها الأستاذ. أي أن هناك تفصيلات أخرى آثرنا عدم ذكرها في هذه الدراسة، لأن إغفالها لا يؤثر على البناء الأساسي للنظرية، مضافا إلى تيسير البحث أمام القارئ المتعلم، إذ أن الدخول في التفريعات والتفاصيل يراكم مادة البحث، فيعسر هضمها واستيعابها، ويشوش على المتابع الصورة، التي نريد عرضها واضحة جلية).

الوجودية علي اختلاف مشارب ومصادر روّادها تمثل في جوهرها انفلاتا من الأُطر التي أفرزتها العقلائية وانقلاباً علي النزعة النظرية الشاملة في دراسة الوجود . الوجوديون بصيروراتهم المتنوّعة ، سواء المؤمنون علي طريقة كريغارد أو جبريل مارسل أو كارل ياسبرز ، أم الهائمون على طريقة سارتر وهيدجر ، يرتلون جميعاً مزمار الانفلات من وضع الوجود الإنساني في قفص الأطر الماهوية الجاهزة . هذا الانفلات الذي يؤسّس للتفتيت المعرفي ، فالفوضى المعرفية حيث الخلاص من قهر سلطان العقل ، والتحلل من آخر مقدّسات عصر الأنوار .
في هذا الضوء نكون قد أرخنا لعصر ما بعد الحداثة ( معرفياً على الأقل ) ، وتكون الوجودية طليعة هذا العصر الذي يخوض الغرب الراهن في سياقاته . وبهذا التحديد التأريخي المرن نكون قد استبقنا التعريف بعنوان ملتقانا ( الأسس المنطقية للاستقراء وإشكاليات الحداثة ) ، أجل ! فالأسس المنطقية للاستقراء ، والحداثة ، وإشكالياتها ، مشكلات تستدعي الإيضاح والتعريف .

ما الحداثة ؟ وما إشكالياتها ، وما علاقة أطروحة الأسس المنطقية للاستقراء بإشكاليات الحداثة ؟ …
ـ إذا اعتمدنا ( آلان تورين ) في تعريف الحداثة ، نكون قد رسمنا لها ثلاث سمات : غياب الإلوهية ، وإزالة السحر عن العالم ، والنظرة الفرويدية للجنس .
أمّا إذا اتكأنا على ( جارس بيدرك ) ، فسوف تكون سمات الحداثة الرئيسية متمثّلة : بسلطة العقل وهيمنة النظام ، وسلطة العِلم .

وقد ينطلق آخرون من نمط الإنتاج في مراحل تطوّر الرأسمالية ومن مستوي التقنية لتحديد معالم الحداثة . لكنّنا قد نجد توافقا على أنّ الحداثة الغربية ارتبطت معرفياً بالنظرة التجريبية المادّية ، التي يراها غالبية المتابعين الأساس في تطوّر التقنية وتطوير أنماط الإنتاج الرأسمالي .
أما إشكاليات الحداثة ، فيمكن أن تُقرأ على طريقة ( آلان تورين ) ومن داخل النظام الرأسمالي الغربي ومنظوماته المعرفية والأخلاقية ، ومن المؤكّد أنّ هذه القراءة ليست من نصيب أحد من أبناء الشرق ، ولا هي القراءة التي اعتمدها الصدر في درسه الفلسفي .

وقد ينظر إلى إشكاليات الحداثة من الخارج ومن موقع المراقب المعرفي ـ المغاير ـ بالضرورة لموقع ( آلان تورين ) وغيره من مفكّري الغرب ، وقراءة ا محمد باقر الصدر نموذج لهذه النظرة ، لكنّه نموذج متميّز كما سنأتي علي وصفه وتحليله عامة ، وقد وقع اختياره ، في جلّ بحوثه ، على الدخول في جدل خصيب مع القاعدة المعرفية وإشكاليات المذهب التجريبي في تجلّياته المتنوّعة .
نبقي بحاجة إلى إيضاح رسالة الأسس المنطقية للاستقراء ، والهموم التي ساقت صاحبه لولوج هذا الميدان المعرفي الشائك :

الاستقراء أحجية العصور ، عالج أرسطو مشكلته الكبرى بإرجاعه إلى مثاله المنطقي ( القياس ) اعتمادا علي البديهيات ( متكآت أرسطو ) ، ليُدخل التجريبيات في مبادئ نظرية البرهان العتيدة . وبقيت معالجة أرسطو لمشكلة الاستقراء تسيطر علي الفكر البشري زمانا لم يدانه أيّ من أزمنة حياة نظريات أرسطو في الفلسفة والمنطق . إذ لم يطرأ علي هذه المعالجة في تاريخ فكر البشر أي تعديل أو تطوير ، بل بقيت كما هي حتى عصر النهضة الأوروبية الحديثة .
وحينما أفاقت أوروبا من سباتها الطويل أبان العصر الوسيط ، وجد العقل الأوروبي في أرسطو خصما وجبت منازلته ، لاحَقَ الغرب الحديث أرسطو في ميتافيزقياه وفي فيزيائه ، وفي منطقه ، وانهالت الضربات علي نظرية البرهان الأرسطية وأسسها الفلسفية والمنطقية ، وكان حظ الاستقراء من الطعن كبيراًَ .

لم يرتضِ المذهب التجريبي الحديث معالجة أرسطو لمشكلة الاستقراء بعد أن جفا محظيات أرسطو العتيدة ، بل رآها ـ أي البديهيات ـ دعاوى لا تعود إلى أمر محصّل .
مال المذهب ا

لتجريبي في نهاية القرن التاسع عشر وفي العقود الأولى من القرن العشرين إلى الاعتماد في معالجة مشكلة الاستقراء علي معطيات حلقة ( فينا ) وما دار في فلكها من حكماء ، حيث امتدوا عبر ( الفرد آير ، وكارناب ) إلى أرجاء من أوروبا وأميركا .
استقر الرأي علي معالجة الفجوة بين الأمثلة الجزئية المستقرأة والنتيجة الكلّية التي يفضي إليها الاستقراء الناقص ، من خلال الإيمان باحتمالية المعرفة التجريبية ، ومن خلال نظرية في الاحتمال تستوعب الحساب الرياضي بقواعده الأساسية ، ومن خلال الإيمان بحاجة الاستقراء ، إلى المصادرة على قانون العلّية الذي هو جوهر مشكلة الاستقراء .
لقد تركت معالجة مشكلة الاستقراء في العصر الحديث تراثاً ثرياً كان على الأسس المنطقية للاستقراء معاينته ونقده ، إلى جانب القطيعة التي حصلت بين الميتافيزيقيا ومنهج العلم وبين الإيمان اليقيني والمعرفة التجريبية ، بل المعرفة عامة في فكر الغرب الحديث ، حيث كانت ( فتوى) ( عمانوئيل كنت ) بشأن عجز العقل النظري عن تأسيس قواعد الميتافيزيقيا فتوى لها قوافل من المقلّدين .
ورد محمد باقر الصدر هذا الميدان بتراثه الثري ليَصدُر بمعالجات مصيرية وخطيرة في تأريخ المعرفة الإنسانية ، نحاول أن نشير إلى منعطفات تأريخية في ما طرحه محمد باقر الصدر :

لنبدأ من إشكالية اليقين في المعرفة ، فاليقين في المعرفة الإنسانية أزمة مركزية في كلّ مراحل هذه المعرفة ، فهل صحيح ما قاله المعرّي:

أَمّا اليَقينُ فَلا يَقينَ وَإِنَّما = أَقصى اِعتقادي أَن أَظُنَّ وَأُحدِسا

أم الصحيح ما قاله أرسطو :

أنّ العلم هو : اليقين الذي لا يزول . وما سواه جدلٌ وظنون خارجة عن دائرة العلم . أشرت إلى أنّ أرسطو عالج أزمة اليقين في المعرفة التجريبية من خلال رد أداة التجريب ( الاستقراء ) إلى قياس منطقي ببركة الكبرى البديهية المزعومة : ( الأكثري والدائمي لا يكون صدفة ) . ومِن ثمّ أدخل التجريبات في أسوار مملكة البرهان وجعلها من المبادئ . لكن مدرسة أرسطو أدركت بحسّها الفلسفي الفارق الجوهري بين أحكام المنطق المدعومة بمبدأ استحالة النقيضين ويقينها الذي لا يزول ، وبين أحكام التجريبات التي لا يأتي اليقين فيها إلاّ مشروطاً بثبات الظروف العامة ومن ثمّ لا تأييد في يقينها ولا استحالة في طروّ الاستثناء على أحكامها .

أمّا اليقين في حكمة الغرب الحديثة ، فقد أفل نجمه ، وأضحى اليقين الإيماني بحكم تعاليم عمانوئيل كنت ، أمراً لا يطلب إلاّ من خلال مصادرات العقل العملي ، حيث عجز العقل النظري عن تأسيس البرهان علي الوجود الأزلي الأوّل عند ( كنت ) واليقين في ظلّ المذهب التجريبي أمسى أمراً دونه خرط القتاد ، بل المعرفة العلمية بأسرها لا تتعدّى الاحتمال .
من المعرفة التجريبية انطلق ( الأسس المنطقية للاستقراء ) فاختار بحق الاجتهاد الاتجاه الذاهب إلى خَطل معالجة أرسطو باعتماد بديهية الدائمي والأكثري لا يكون صدفة ، واتّجه إلى تفسير الدليل الاستقرائي علي قاعدة نظرية في الاحتمال ، سنأتي علي وصفها ، إلاّ أنّ الاحتمال عند محمد باقر الصدر لا يمثّل نهاية رحلة المعرفة ، بل طَرح نظرية جديدة تقرّر : أنّ العلم واليقين يمكن أن ينجبه الدليل الاستقرائي ، وأنّ اليقينيّات المعرفية لا تنحصر باليقين القياسي .
في هذا الضوء طرح مزاوجة بين منهج العلم ومنهج الإيمان ؛ حيث أنّ الاستقراء الذي عدّته حكمة الغرب الحديثة الأنموذج الأعلى لتأييد وإثبات قوانين العلوم هو نفسه منهج الإيمان ، هذا المنهج الذي يدعو إلى قراءة مظاهر الكون والحياة والخلق ليخلص عبر ملاحظاتها إلى الإيمان بالوجود الغني الأوّل .
وهنا يحقٍّ أن نشير إلى أنّ عطاء محمد باقر الصدر في هذا المجال يمثل أرقى المحاولات المعاصرة لتأسيس ما يدعي بعلم الكلام الجديد ، حيث الدفاع عن العقيدة الدينية ، علي أساس فلسفي حرٍّ بعيداً عن الإشكالية المزمنة التي ابتلي بها جلّ البحث الكلامي ؛ حيث تأسّس علي قاعدة الجدل وإلزام الخصوم . علي كلّ حال أقام الصدر نظريته في اليقين من خلال ما أسماه المذهب الذاتي . أقامه على أساس نظرية في الاحتمال عكست طرازاً متميّزاً في الإبداع ومتميّزاً في نهج التعامل مع الحداثة وعطاءاتها .

نأخذ عنصر الإبداع ، حيث انبثق من قاعدته المعرفية وثقافته الفقهية ، فاستلهم مفهوم العلم الإجمالي الذي أدّى دوراً كبيراً في أبحاث علم أصول الفقه في مدرسة النجف الحديثة ، استلهم هذا المفهوم ليطرح تفسيراً جديداً للاحتمال علي أساس مفهوم العلم الإجمالي .

وقد حاول أن يكون التفسير شاملاً مستوعباً لاتجاهي أصحاب النزعة الاستقرائية ، الاتجاه المنطقي والاتّجاه التكراري ، وبهذا أيضاً حفظ محمد باقر الصدر تقليد الحكمة الإسلامية العريقة في نظرتها الشاملة التوفيقية بين آراء الحكماء الراسخين علي غرار ما صنعه السلف في الجمع بين آراء الحكيمين ، جمعاً يعكس استشراف الجامع ونافذة رؤيته المسلّحة بالأفق الرحب ، وليس جمعاً تلفيقياً تبرّعياً يعكس عجز الجامع وارتباكه في الاختيار .

والاهم من التعريف طريقته في بناء النظرية حيث أسسها علي الأساس الهرمي للنظريات الاستنباطية وسعي إلى إحكام مصادراتها وتأمين إنسجامها مع الحساب الرياضي للاحتمال .

والإنجاز التاريخي المبدع فيما حرّره محمد باقر الصدر ، أنّه ألغى ما ادّعاه جهابذة النزعة الاستقرائية كـ ( راسل ) و( ريشنباخ ) من حاجة الدليل الاستقرائي إلى المصادرة علي مبدأ العلّية ، إذ قدم نموذجاً لنظرية الاحتمال يستطيع من خلاله الدليل الاستقرائي أن يرفع قيمة احتمال الحادثة دون المصادرة علي مبدأ العلّية ومشتقّاته .

يبقى علينا أن نتبيّن المزيّة التي امتاز بها السيد محمد باقر الصدر في تعامله مع معطيات الحداثة وحكمة الغرب الحديثة ونحن نعترف أنّ هناك أزمة في التعامل مع الغرب ، أزمة لها تجلياتها المتنوّعة ، عبر القارئين للغرب بوصفه هوية موحدة لا تتجزأ عناصرها ، هوية الغازي المستعمر الذي تجب مجافاته والتعامل مع كلّ معطياته بحذر المقهورين . وعبر الذاهبين إلى ضرورة التعامل مع الهوية الموحّدة أيضاً بوصفهاكلاً لا يتجزّأ لكونه المنقذ المستنير الذي يجب أن نأخذ كلّ إنجازاته مأخذ الواله المتطلّع إلى مواكبة حياة البشر في المعرفة والنمو .
وهناك اتّجاه آخر احتل مساحة أوسع في عالمنا ، اتّجاه التعامل التفكيكي مع الغرب ، حيث دعا إلى الأخذ بمنجزاته العلمية ونبذ عطائه وتجربته السياسية والاجتماعية وكلّ ما يرتبط بمقولة ما ينبغي فعله وعالم القيم والأخلاق .
أمّا محمد باقر الصدر فميزته أنّه تعاطى مع الغرب وحكمته انطلاقاً من قاعدة أخرى . لا تتضمّن أزمة هوية وإنّما تركب السبيل الأسلم لتحقيق الذات وإنجاز مشروع الهوية .

القاعدة التي انطلق بها مشروع الصدر في الأسس المنطقية للاستقراء تقول : أنّ الإنتاج المعرفي الداخلي هو سبيلنا لتحقيق هويتنا وانجازها ، والحوار الايجابي النقدي مع الآخر هو الذي يؤسّس لتحقيق الذات وتجاوز عقدة الدونية أمام انجازات غيرنا من الآدميّين .
إنّ أزمة المعرفة في عالمنا ، وفي الشرق عامة تكمن أساسا في غياب الإنتاج الداخلي ولا ينحصر بروز أزمتنا المعرفية في استيراد مناهج ورؤى مُنتَجة في العالم الآخر ، بل عمق هذه الأزمة يتجلّي في عقم الإنتاج المعرفي في ديارنا . والأسس المنطقية للاستقراء مُنتَج داخلي بامتياز يجب الاهتمام في فهمه وفهم رسالته ، وينبغي نقده وتجاوز سقفه ؛ لأن المعرفة وفلسفة العلوم فيما أنتجه الآخرون قد تجاوزت إشكاليات النزعة الاستقرائية وطرحت أسئلة جديدة . معرفتنا عامةً ، ومعرفتنا الدينية علي وجه الخصوص ، لا يمكنها أن تحتلّ المكان اللائق بها ، من دون أن تواكب تطوّرات المعرفة المعاصرة بإشكالياتها المتنوّعة

تعريف بالمذهب الذاتي للصدر

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ورد التعريف بالمذهب الذاتي لدى مفكرنا الصدر في مطلع القسم الثالث من كتابه (الاسس المنطقية للاستقراء)، وذلك تحت عنوان (التعريف بالمذهب الذاتي)
، وهو مذهب جديد يقف في قبال المذهبين الفلسفيين التقليديين:العقلي والتجريبي.
ففي نظرية المعرفة (الابستمولوجيا) يُبحث عادة في مصدرها الاساسي، وفي كيفية نموها وتوالدها. فهما شيئان مختلفان. وللمذهب الذاتي موقف محدد لكل منهما، الا ان ما يمتاز به هو موقفه من المسألة الثانية المتعلقة بنمو المعرفة وتوالدها. اما موقفه من المصدر الاساسي للمعرفة فهو انه يتفق مع المذهب العقلي قبال المذهب التجريبي في الاعتقاد بوجود قضايا عقلية اولية سابقة على الحس والتجربة، كما يتمثل بالمنطق الارسطي. اي انه ينحاز الى المنطق العقلي الذي يسلّم بوجود معارف عقلية اولية قبلية مستقلة عن الحس والتجربة، وهي اساس المعارف قاطبة، وبدونها لا يمكن للمعرفة ان تقام لها قائمة. ففي مثل هذه المعارف الاساسية يلتقي المذهب الذاتي مع المذهب العقلي، ومنه المنطق الارسطي، وان اختلف معه في التفصيل.
أما المحور الثاني فهو ما تميز به المذهب الذاتي، وهو العائد الى تفسير نمو المعرفة وتوالدها، اذ كيف يمكن ان تنشأ معارف جديدة طبقاً للمعارف الاساسية الاولية؟ ففي هذه الناحية يختلف المذهب الذاتي مع المذهب العقلي اختلافاً كبيراً. فالاخير لا يعتقد الا بطريقة واحدة للتوالد المعرفي، وهي ما يسميها المفكر الصدر (التوالد الموضوعي) لقضايا المعرفة، وتنشأ باللزوم عبر القياس المنطقي. ولا يعارض المذهب الذاتي هذا الاسلوب واللزوم للمعرفة، لكنه يضيف اليه لزوماً اخر تتولد من خلاله اغلب معارفنا، ويطلق عليه (التوالد الذاتي). ويختلف الاخير عن اللزوم الموضوعي في كونه لا ينشأ عن ارتباط القضايا، بل ينشأ عن ذات المعرفة او مضمونها.
وفي النتيجة يرى المذهب الذاتي ان الطريقة الصحيحة للتوالد المعرفي لا تتجاوز هذين التوالدين، وكل منهما يتضمن شكل اللزوم او التلازم المعرفي، لذا ساطلق عليهما كلاً من اللزوم الموضوعي واللزوم الذاتي.
وسوف نقوم بتحليل كل نوع من هذين التوالدين او اللزومين على التوالي، وبعدها نعالج قضايا علوم الطبيعة لنرى اين يمكن تصنيفها، فهل تخضع للزوم الموضوعي ام الذاتي ام غيرهما؟
فلدينا – اذاً – ثلاثة محاور سنعالجها على التوالي: الاول يخص اللزوم الموضوعي، والثاني يخص اللزوم الذاتي، ثم سنتطرق الى طبيعة التوالد في القضايا العلمية..
فلنبدأ بمحور اللزوم الموضوعي كما يلي:

1- محور اللزوم الموضوعي

لقد عرّف المفكر الصدر التوالد الموضوعي بأنه معرفة ناشئة عن تلازم للقضايا قائم على القياس المنطقي الارسطي. بمعنى ان المعرفة تتولد منطقياً بالقياس، فهو يشمل كل القضايا الثانوية المستنتجة، فلو استثنينا المعارف العقلية الاولية التي لا يمكن ردها الى ما قبلها من معارف، فان غيرها ستشكل قضايا ثانوية مترتبة عليها، فهي مستنتجة منها، مباشرة وغير مباشرة، عبر سلسلة من القياسات المنطقية. ولا يختلف المفكر الصدر في هذا المحور مع المنطق الارسطي، والذي ضمنه عدداً من الامثلة كما يتضح مما قاله بهذا الصدد:
‹‹إن في كل معرفة جانباً ذاتياً وجانباً موضوعياً. فنحن حين نعرف: أن الشمس طالعة، أو أن المساوي لأحد المتساويين مساو للآخر أيضاً، نميز بين عنصرين: أحدهما: الإدراك، وهو الجانب الذاتي من المعرفة، والآخر: القضية التي أدركناها، ولها – بحكم تصديقنا بها – واقع ثابت بصورة مستقلة عن الإدراك، وهذا هو الجانب الموضوعي من المعرفة. والتوالد الموضوعي يعني: أنه متى ما وجد تلازم بين قضية أو مجموعة من القضايا وقضية أخرى، فبالإمكان أن تنشأ معرفتنا بتلك القضية من معرفتنا بالقضايا التي تستلزمها، فمعرفتنا بـ “أن خالداً إنسان، وأن كل إنسان فان” تتوالد منها معرفة بـ “أن خالداً فان”. وهذا التوالد موضوعي، لأنه نابع عن التلازم بين الجانب الموضوعي من المعرفة المولدة والجانب الموضوعي من المعرفة المتولدة. وهذا التوالد الموضوعي هو الأساس في كل استنتاج يقوم على القياس الأرسطي، لأن النتيجة في القياس دائماً ملازمة للمقومات التي يتكون منها القياس، فتنشأ معرفتنا بالنتيجة من معرفتنا بالمقدمات على أساس التوالد الموضوعي، والتلازم بين القضايا المستدل ببعضها على البعض

الآخر بصورة قياسية››

وربما يحتاج هذا النص الى شيء من الايضاح عبر النقاط الثلاث التالية:
أولاً: لقد جاء في النص جملة من الامثلة المتعلقة بالقضايا المنطقية، وهي بلا شك تتضمن التوالد المنطقي من قبيل (ان المساوي لأحد المتساويين مساو للآخر)، لكن المفكر الصدر استخدم اصطلاح (التوالد الموضوعي)، وقد يتبادر الى الذهن ان هذا الاصطلاح جاء ليشمل القضايا التي لها علاقة بالواقع الموضوعي، ومن ذلك مثاله حول (الشمس طالعة) اذ وصفه بانه يمتلك جانباً موضوعياً وذاتياً للمعرفة بحيث لا يختلف عن المثال المنطقي السابق. فقد يوحي هذا الوصف بانه لا يختلف عنه في تضمنه للتوالد الموضوعي او المنطقي. وفي هذه الحالة قد يتبادر الى الذهن كيف يمكن لهذا المثال ان يتضمن لزوماً كالبقية المذكورة؟ وهي مثال: ان المساوي لأحد المتساويين مساو للآخر، كذلك القياس المنطقي المتعلق بفناء خالد. فمثال (الشمس طالعة) ليس فيه لزوم منطقي، اذ يعود الى صنف القضايا الاخبارية الواقعية التي لا تتضمن هذه الصرامة من اللزوم حتى وان كانت صادقة. فالشمس وان كانت طالعة لكن طلوعها ليس امراً ضرورياً، وهي من هذه الناحية ليست لزومية. بمعنى ان القضية الخارجية للشمس يمكن ان تكون طالعة او غائبة خلافاً للزوم المنطقي، وعندما نتأكد من كونها طالعة بالفعل فان معرفتنا سوف تتضمن هذا (الامكان) رغم التأكد من ان الشمس طالعة بالحس، لكن يمكن ان نفترض باننا نتوهم كونها طالعة مثلاً. وقد يُناقش ان كان لهذا المثال لزوم من نوع اخر كاللزوم الواقعي المتعلق بالقضايا السببية، لا سيما ان مفكرنا ذهب الى هذا النوع من اللزوم السببي في (الاسس المنطقية للاستقراء)، وعليه بنى مذهبه في النتائج الاستقرائية.
ثانياً: سوف لا نتوقف عند المثال المذكور، فوجهة نظر استاذنا الكبير واضحة فيما كشف عنه فيما بعد، فابتداءاً انه يسلم بوجود معارف ثانوية مستنتجة من ‹‹معارف اولية تشكل الجزء العقلي القبلي من المعرفة، وهو الأساس للمعرفة البشرية على العموم››. وهذه المعارف الثانوية هي ذاتها نتاج التوالد الموضوعي، ودلل عليها بمثال مستمد من القضايا المنطقية، وهي نظريات الهندسة الاقليدية المستنتجة من جملة من البديهيات بطريقة التوالد الموضوعي. لكنه ذكر فيما بعد بان ‹‹كل معرفة ثانوية يحصل عليها العقل على أساس التوالد الذاتي تمر بمرحلتين، إذ تبدأ أولاً مرحلة التوالد الموضوعي، وفي هذه المرحلة تبدأ المعرفة احتمالية، وينمو الاحتمال باستمرار، ويسير نمو الاحتمال في هذه المرحلة بطريقة التوالد الموضوعي حتى تحظى المعرفة بدرجة كبيرة جداً من الاحتمال، غير أن طريقة التوالد الموضوعي تعجز عن تصعيد المعرفة إلى درجة اليقين، وحينئذ تبدأ مرحلة التوالد الذاتي لكي تنجز ذلك وترتفع بالمعرفة إلى مستوى اليقين››

.
مما يعني ان القضايا الواقعية التي يستند اليها الدليل الاستقرائي تتضمن التوالد الموضوعي عند المرحلة الاحتمالية.
ثالثاً: يمكن ان نستنتج – طبقاً لما سبق – ان القضايا الموضوعية الثانوية لدى مفكرنا الصدر هي على صنفين: احداهما القضايا المنطقية المعروفة دون ان يكون لها علاقة بالاستنتاجات الاستقرائية، كقضايا الهندسة الاقليدية والرياضية. أما الثانية فلها علاقة بالدليل الاستقرائي، اذ تتوالد عبر بديهيات الاحتمال ومصادراته، مما يجعل القضية الاستقرائية المحتملة تتصف بالمنطقية، اي ان الدرجة الاحتمالية المعطاة لها هي درجة مبنية على القياس المنطقي وفقاً لحسابات الاحتمال. وهذا ما يمكن ان نأوّل فيه المثال الملتبس الذي ذكره مفكرنا ضمن التوالد الموضوعي، اي مثال (الشمس طالعة). فلولا ذلك لكنّا اعتقدنا بانه يصنف اللزوم في التوالد الموضوعي الى نوعين: احدهما منطقي قائم على مبدأ عدم التناقض، والاخر اخباري واقعي قائم على مبدأ السببية اللزومية، وهما يندرجان وفق ما سماه التوالد الموضوعي من دون تمييز. فكلاهما قائم على اللزوم، فالقضية المنطقية يبررها مبدأ عدم التناقض، في حين ان القضية الواقعية او الاستقرائية يبررها مبدأ السببية اللزومية لا عدم التناقض، وفقاً لما ذهب اليه في (الاسس المنطقية للاستقراء).. فلولا تحليلنا السابق لكنا نرى بان هذه الرؤية هي ما تناسب مذهب مفكرنا في هذا الكتاب. لكن ما طرحه فيما بعد ينفي مثل هذا الاحتمال والتوجيه. اذ قصد بالتوالد الموضوعي نفس التوالد واللزوم المنطقي دون ادنى اختلاف، وان ذكره لمثال (الشمس طالعة) هو ما يثير التوهم واللبس المشار اليه.. فمسألة اللزوم الموضوعي الخاصة بالقضايا الواقعية مرتبطة بحسابات نظرية الاحتمال وفقاً لبديهياتها. فدرجات احتمال القضية الواقعية هي ما تتضمن اللزوم وليس القضية الواقعية ذاتها. لذلك اشار الى ان مذهبه لا يختلف عن المنطق العقلي الارسطي في كون التوالد في مثل هذه القضايا محكوماً بالقياس المنطقي، وان اختلفا من حيث مصاديق القضايا الكبرى التي تتحكم في القياس.

من أغرب المعلومات عن حواء..

1_ان السهر يؤثر في جسم المرأة اكثر من تأثيره في جسم الرجل

2_ أن المرأة أكثر قدرة من الرجل على تفسير تعبيرات الوجه، كما أنها قادرة على التعرف على الكثير من الانفعالات التي تنتاب الإنسان بسهوله .

3_أن حب المرأة أدوم من حب الرجل

4_أن شعر المرأة الشرقية أكثف من شعر المرأة الغربية

5_ان المرأة اصبر من الرجل على الجوع

6_ان النساء الشرقيات اطوع نساء العالم لازواجهن

7_ أن المرأة لا تستعمل في الانتحار ما يشوه جمالها

8_أغبى امرأة تستطيع أن تخدع أذكى رجل

9_أذكى امرأة تنخدع بسهولة من أغبى رجل

10_ عندما تبكي المرأة ..تتحطم قوة الرجل

11_عبقرية المرأة تكمن في قلبها

12_عندما تفكر المراة بعقلها فانها تفكر بالاذى

13_أن المرأة تفضل الألوان الزاهية على الألوان الباهتة

14_أن تأثير المرأة في تغير تاريخ العالم اكبر من تأثير الرجل

15_أن الرجل اكرم من المرأة

16_ثلاثة لا تحبها المرأة : امرأة أجمل منها – ومن يسألها عن عمرها – ومن يسألها عن ماضيها

17_ ثلاثة أشياء لا تتفق مع المرأة : الأعزب – والسر – والصمت

18_تضحك المرأة متى تمكنت ولكنها تبكي متى أرادت

19_تسع أعشار المرأة دهاء والعشر الآخر فتنة

20_أن حاسة الشم عند المرأة أكثر قوة وتطور من حاسة الشم عند الرجل.. وأن المرأة تنجذب بقوة للمذاق الحلو، بينما ينجذب الرجل للمذاق الثقيل

21_أن المرأة أكثر تعرضاً للاكتئاب من الرجل، ويرجع ذلك إلى هرمون (الأستروجين)، الذي يلعب دوراً في إفراز مادة (السيروترين)، المسؤولة عن الحالة النفسية

22_المرأة أسرع في قراءة الروايات من الرجل

سلطة العقل وحدود الوهم عند الشيخ الاكبر محي الدين بن العربي مفهوم العقل والوهم عند محي الدين بن العربي هل للعقل سلطة مطلقة؟

   يعيش الإنسان مع ذاته صراعات عديدة منها داخلية وأخرى خارجية، تؤثر على باطنه، كي يصبح الصراع فردي وشخصي، مما يطرح صعوبات في تحديد الذات، ومن ثمة الإنسان، إذ كل طرف من أطراف الصراع يحاول أن يأخذ وضع التعريف والتحديد، كتحديد الإنسان بالعقل أو النطق أو الجسد أو بالروح؛ إلا أن هذا الصراع يعمل على تغيير المواقع والأولوية، ويعيد مسألة التحديد إلى عدم التحديد بوجه واحد والارتكاز على معطى دون آخر. ومن بين الأمور التي تؤثر في عملية التحديد وتشوش على إمكانية التعريف مفهوم الوهم، الذي يعطيه ابن عربي أهمية في تصور الوجود والعالم والحقيقة، بل وله  سلطة على العقل والتفكير، مما يهدد الوجود والعالم والحقيقة بدخول الأوهام عليها في تصورنا لها. لذلك يطرح علينا هذا البحث الخروج بمجموعة من الضوابط، تؤطر العقل والتفكير، للوصول والبحث عن الحقيقة، ويجب أن تفضي هذه الآليات إلى نتيجة ممكنة، التي وجب ضبطها وتصنيفها وتمحيصها، حتى لا يزيغ العقل ويحيد عن المطلوب. إذن، ما الوهم في تصور ابن عربي؟ وكيف يشتغل ويؤثر في مصادر المعرفة كالعقل والتفكير؟  وهل يمكن تجاوز الوهم أم أنه من صميم وجودنا وماهيتنا؟ وكيف يمكن توجيه الوهم نحو طريق الحقيقة؟



      1 – تعريف الوهم

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

    يعتبر الوهم من المفاهيم المتداولة في كتابات ابن عربي، يعطيه أهمية في تحصيل المعرفة والتأثير في الوصول إليها؛ ولدى الوهم القدرة على التحكم والسيطرة من خلال سلطته التي يفرضها على النتائج المتوصل إليها، وكذا طريقة التفكير التي يتبعها في تحصيل المطلوب. وقد تدخل عدة عوامل في الزيادة من حدة الوهم وقوته أو قد تخفف من سطوته وتحكمه «فالوهم هو السلطان الأعظم في هذه النشأة الإنسانية»

؛ إلا أن الوهم قبل أن يكون له هذه السلطة، هو قوة من قوى الإدراك «غير أن هذه القوى الأربعة قوة الخيال والوهم والحفظ والذكر هي في الإنسان أقوى منها في الحيوان»، من هنا جاءت سلطته وقوته وتحكمه، أي أنه لا يمكن الاستغناء عنه أو محاولة تجاوزه لأنه يطال مصادر المعرفة وطرق الوصول إليها، فيؤثر فيها ويتدخل في تشكيل معالمها، كما أنه قد يتحكم في رؤية الإنسان للوجود والعالم ولذاته. مما يعطي انطباعا أوليا بأن الوهم يسري في الإنسان وقدرته على إدراك وتصور كل شيء في الوجود. وبالتالي، قد نقول إن سلطة الوهم آتية من تحكمه في باقي القوى وكيفية انتقال المعرفة فيما بينها خصوصا العقل.

           2- سلطة الوهم

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

       يقدم لنا الوهم الأشياء على غير حقيقتها، بحيث يخرج الشيء عما صوره لنا العقل وضبطه الفكر. يطال الوهم الصورة فيحدث فيها تغييرا على حسب استعداد الإنسان. ولا يستطيع العقل مجارات الوهم في توهمه وتعامله مع الأمور والأشياء لأنها «تنفلت من العقل وتثبت في الوهم ويحكم عليها ويؤثر فيها» بحيث ما لا يضبطه العقل وينفلت من حدوده وتحديده يظفر به الوهم ويتحكم فيه، بل يتجاوز حدود التحكم نحو التأثير، وقد يحدث تغييرا في تصورنا للأشياء. وَهْمُ الصورة ليست في تشويه الواقع وتحريفه وإخراجه عن حقيقته وإنما وهم الصورة هنا يطال العقل والكيفية التي يتصور بها الأشياء.

 ما يحاول ابن عربي الوصول إليه هي الحقيقة الخالصة من كل تشويه أو شبهة أو خطأ أو مغالطة. حاول ابن عربي تحديد حدود العقل وتأطير الممارسة العقلية، ولهذا الغرض انصبت معظم كتابات ابن عربي في رسم الحدود للعقل وتحديد دوره في الوجود، حتى لا يحيد عن المقصود.

     ما نتوهم بالوهم لا وجود له في ذاته، أي الوجود العيني، «والمتوهم ما لا وجود له في عينه»، بحيث يعطي الوهم ما لا يعطيه العقل، يصور لنا العدم وجودا، ويمنح المعدوم صورة الوجود. إشكالية الوهم هي في تصويره لنا للموجود على مستوى الوجود، مما يعطي الأمر بخلافه، ويحدث أثرا في النفوس والعقول، من هنا سلطته على الإنسان وليس فقط على العقل، لأن الإنسان هو من يعطي للوهم فرصة بأن يسيطر عليه، من خلال هواجسه ومخاوفه. سلطة الوهم آتية من قدرته على التأثير لأن «أثر الأوهام في النفوس البشرية أظهر وأقوى من أثر العقول»، ما نتوهم وجوده وهو غير موجود قد يحدث أثرا وتغييرا في الذات، سواء في التصور أو على مستوى الآثار النفسية. وبالتالي، من قوة الوهم قدرته على التحكم في العقل، ومن ثمة في المعرفة التي ينتجها، أي أن الإنسان في حد ذاته، بمخاوفه وهواجسه، يعطي لما لا وجود له أن يتحكم فيه.



      3-  أوهام العقل

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

      إذا كان العقل حسب ابن عربي قيد «فإن العقل قيد»، يعقل الأمور بحدها وتحديدها ووضع الحدود لها حتى تُعرف بماهيتها وجوهرها، لأن تحرير المعرفة أو العلم من الحدود قد يؤدي إلى التداخل وعدم إمكانية التمييز بين الحقيقة والوهم، بين الصواب والخطأ، إلا أن الأولى أن يضع العقل حدودا لممارسته،  بأن يمارس على ذاته ما يمارسه على غيره، وأن يضع حدودا لممارسته في تحديد الأشياء، وإلا فإنه قد يسقط في أوهام ميتافيزيقية، وهذا الوهم هو ما يمكن تسميته “بوهم إدراك ما لا يمكن إدراكه” أو “بوهم تصوير ما لا يمكن تصويره”، وذلك بادعاء العقل قدرته على تقييد المطلق، إلا أن المطلق لا يتحدد حسب ابن عربي «فلا تكون معرفة الحق من الحق إلا بالقلب لا بالعقل ثم يقبلها العقل من القلب كما يقبل من الفكر، فلا يسعه سبحانه إلا أن يقلب ما  عندك، ومعنى قلب ما عندك هو أنك علقت المعرفة به عز وجل وضبطت ما عندك في علمك أمرا ما، وأعلى أمر ضبطته في علمك به أنه لا ينضبط سبحانه لا يتقيد ولا يشبه شيئا ولا يشبهه فلا ينضبط مضبوط لتميزه عما ينضبط، فقد انضبط ما لا ينضبط»، وهذا ما يحاول العقل فعله، وهو تقييد المطلق بتحديده وتصويره، وهذا محال حسب ابن عربي.

 تتميز الذات بقبولها للتقييد ، لكن ليست “ذات الله” ولولا التقييد لما تميزت الذوات ولما عرفت على حدة، ولطالها النسيان وأخفاها الاشتراك، فتضيع الحدود وتتجاوز القيود، مما يؤدي بالعقل إلى الوقوع في الأوهام والمغالطات، خصوصا تلك التي تطال أحكام العقل «ولولا العين ما ظهر للتقييد حكم في الكون، فلو زالت الحدود لزال التقييد، ولا سبيل إلى زوالها فإن بقاءها عين كمالها بها صنعت المناضلة وبانت المفاضلة». إذن، ما هي حدود العقل؟ وكيف يمكن الالتزام والتقيد بها؟ ومن يضع هذه الحدود؟ هل العقل هو من يضعها أم يضعها غيره؟



     3-1 – حدود العقل

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

      تروم محاولة ابن عربي في وضع الحدود من أجل احترام المهام، وعدم التطاول على الغير، وإذا لم يتخل العقل عن أنانيته فإن غيره يثوق إلى تجاوزه وإظهاره بمظهر الجاهل الذي يعول على غيره ولا يعول عليه «فلا أعلم من العقل ولا أجهل من العقل، فالعقل مستفيد أبدا فهو العالم الذي لا يعلم علمه وهو الجاهل الذي لا ينتهي جهله». ما حاول ابن عربي القيام به هو محاكمة العقل ووضع الحدود له لأن «للعقول حد تقف عنده»، محاكمة العقل هنا في تجاوزه لحدوده، لأنه في ذلك يكون معرضا للخطأ من جهة، ومن جهة أخرى إرادته في السيطرة على غيره لأن «العقول المحجوبة بالهوى وبطلب الرياسة والنفاسة والعلو على أبناء الجنس يمنعهم ذلك من القبول  والانقياد»

  ما يريده ابن عربي من نقده للعقل وموقفه منه، هو منعه من الوقوع في الأوهام أو سقوطه في الأخطاء والمغالطات، لأن ما يعيبه ابن عربي على العقل هو مآل المعرفة التي ينتجها، وكأنه يحاول تقويم العقل حتى لا يقع في هذه الأوهام والأخطاء، وهذا التقويم له ضوابط وقواعد وما على العاقل أو العقل إلا أن يضبطها ويلتزم بها للوصول إلى الصواب من المعرفة

    تأصيل ابن عربي للممارسة العقلية

♧♧♧♧♧♧♧♧ ♧♧♧♧♧♧♧

حتى يكون العقل قادرا على الإدراك الذاتي، يؤدي به إلى الوقوف من العقل موقفا سلبيا، يتجلى في تضييق الحدود عليه، وجعله فقط قابلا يتلقى دون إمكانية الفعل النظري الذي يتميز به «فقد علمنا أن العقل ما عنده شيء من حيث نفسه وأن الذي يكتسبه من العلوم إنما هو من كونه عنده صفة القبول»

 حاول الشيخ الأكبر أن يذهب بالعقل إلى أبعد الحدود الممكنة فيجد دوره يقتصر فقط على القبول، عقل قابل يعني عقل غير قادر على الفعل، ينتظر ما يمكن أن يقدمه الشيء أو يكشف عن خفاياه، لم يضع ابن عربي هنا الحدود للعقل وإنما قام بسجنه، وفي نفس الوقت وسع من أفق رؤيته للوجود والعالم، من خلال قدرته على قبول كل شيء، والأهم من ذلك هو عدم الوقوع في الوهم أو الخطأ الذي يشكل أكبر تهديد للعقل .

   دعوة ابن عربي لوضع الحدود كانت الغاية منه، الحد من فعالية العقل وأن يقتصر دوره على التلقي، أي عقل منفعل ومرتبط بغيره في تحصيله لمطلوبه «فمن طلب الله بعقله من طريق فكره ونظره فهو تائه وإنما حسبه التهيؤ لقبول ما يهبه الله من ذلك فافهم»(13). لا يدعو ابن عربي إلى استقلال العقل وإنما إلى تبعته. وبالتالي، على الرغم من بحث ابن عربي عن نجاعة العقل في فعل المعرفة، إلا أنه ضيق من حدود فعله، مما يخدم توجهه وغايته وهي فلسفة التلقي والانتظار «ونحن نعلم أن ثم علما اكتسبناه من أفكارنا ومن حواسنا، وثم علما لم نكتسبه بشيء من عندنا بل هبة من الله عز وجل»(14). بمعنى آخر أن كل ما يتلقاه الصوفي هو من استعداده للقبول والتلقي وليس من استقلاله وإرادته في المعرفة وادعائها لأن «الحق الذي نأخذ العلوم عنه بخلو القلب من الفكر والاستعداد لقبول الواردات هو الذي يعطينا الأمر على أصله من غير إجمال ولا حيرة».إذن، أهم حد يضعه ابن عربي للعقل هو أن يقتصر دوره على القبول والتلقي وأن لا يتعدى ذلك نحو الفعل والنظر «إذ إن علوم النظر أوهام، عند أهل الإلهام القائم عن الإلهام لا تخطيء والحكم به لا يبطئ». لماذا إذن، هذا التضييق على العقل؟

    تضييق ابن عربي على العقل، كان الهدف منه التأسيس لمعرفة لها مصداقية أكبر، ولا يدخل عليها الخطأ والباطل والوهم، إلا أنه «لا بد من سلطان الوهم الذي يحكم على العاقل الباحث فيما جاء به الحق في هذه الصورة»، ولأن هذه الأوصاف أي الباطل والخطأ والكذب، يعطيها ابن عربي اسما واحدا هو العدم، وما نحتاج إليه هو عدم العودة إلى العدم والهروب منه، أي الابتعاد عن العدم  والخروج معرفيا إلى الوجود. لذلك فالمطلوب في المعرفة أن تكون صادقة صحيحة لا فاسدة، صائبة لا خاطئة، معرفة يمكن نعتها بالوجود؛ ومن ثمة على العقل أن لا ينزلق إلى الأوهام وإنتاج أحكام يطالها الخطأ والغلط، وأن يكون قادرا على إنتاج الجديد ولا يقع في آفة التقليد، الذي يقتل العقل، ويحد من انفتاحه على الوجود.

  موقف ابن عربي من العقل

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

موقف متناقض، يتراوح بين الإيجاب والسلب، يعطي تارة أهمية للعقل وتارة أخرى يقدح فيه وفي معرفته، يعطيه أهمية كعارف من حيث هو قابل ومنقاد، وتارة أخرى يقدح فيه وفي معرفته ويعتبره جاهلا، تارة مجددا وأخرى مقلدا «فلا شيء أكثر تقليدا من العقل وهو يتخيل أنه صاحب دليل إلهي وإنما هو صاحب دليل فكري، فإن الفكر يمشي به حيث يريد، والعقل كالأعمى بل هو أعمى عن طريق الحق
.

يعد العقل عارفا وجاهلا، وكأنه في ذاته يحتوي على هذا التقابل، والجهل بهذا التقابل إقصاء للعقل وتعسف عليه، أو قد نقول إننا نتطاول على العقل بجهلنا لهذا التقابل، مما يترتب عن ذلك سوء في فهم العقل ودوره. علينا أن نستحضر هذا التقابل حتى لا نقع في المغالطات على مستوى فهمه والحكم عليه.   



   أ – حدود حسية

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

 يرى الشيخ الأكبر أن بنية العقل هشة، ويعتمد على غيره في بناء الأحكام العقلية، لأن العقل في ذاته مفتقر إليها، أو أنه فارغ إلا من الضروريات أو ما هو فطري مادام «العقل لا علم عنده إلا الضروريات التي فطر عليها»(19). هناك مبادئ، لكنها مبادئ ضرورية وفطرية تحتاج إلى من يحركها نحو تحصيل المعرفة، وهذا التحريك تدخل فيه مجموعة من القوى. لكن في قول آخر يرى أن العقل فارغ من أي محتوى «فقد علمنا أن العقل ما عنده شيء من حيث نفسه، وأن الذي يكتسبه من العلوم إنما هو من كونه عنده صفة القبول»

. يركز ابن عربي دائما على القبول والتلقي، هذه هي حدود العقل التي عليه أن لا يتجاوزها، فالعقل فقير بالذات، وافتقاره هذا جعله في حاجة إلى غيره في إصدار أحكامه العقلية «فانظر يا أخي ما أفقر العقل حيث لا يعرف شيئا مما ذكرناه إلا بواسطة هذه القوى وفيها من العلل ما فيها»

       تمر المعرفة العقلية حسب ابن عربي عبر سلسلة من النقلات لكي تصل إلى العقل، مرورا من الحس إلى الخيال إلى الفكر، وهذا الأمر يضع مسافة بين الشيء وإدراكه مباشرة من طرف العقل، إلى جانب عيب الوساطة هناك عيوب تنطوي عليها كل قوة، وهي أنها غير قادرة على تجاوز حدود إدراكها، وفيها من العيوب ما فيها، مما يطرح على المعرفة العقلية صعوبات أهمها السقوط في الغلط والخطأ، ومن ثمة إنتاج الأوهام بحيث «ما من قوة إلا ولها موانع وأغاليط فيحتاج إلى فصلها من الصحيح الثابت

. يؤدي عيب الوساطة إلى عدم إدراك الشيء مباشرة وفي ذاته.

   نقد ابن عربي للعقل هو نقد للطريقة وادعاءاته النظرية في الممارسة الفعلية لإنتاج معرفة عقلية. من هنا كانت أهمية دعوة ابن عربي لإقامة الحدود حتى لا يسقط العقل في ادعاء ما ليس له، أي ادعاء الاستقلالية والفعالية وهو في ذاته مفتقر ويعتمد على غيره في إصدار الأحكام والتي قد يطالها الوهم.

يحاول ابن عربي أن يتتبع مسار المعرفة، للوقوف على مصادر الوهم والقوى المسؤولة عنه، فيبدأ بالحس أولا في علاقته بالحكم العقلي، وينسب الخطأ للعقل وحده، ويتهمه بالغلط، ولا دخل للحس في ذلك ولا حتى للخيال. لكن الفكر قد يكون له دور كبير في أوهام العقل .

    يعتمد العقل على ما ينقله الحس كشاهد، لأنه ينقل ما يتلقاه دون أن يتدخل في ذلك، كما أن إدراك الحس مباشر وبدون واسطة، لأنه يكون أقرب من الشيء أكثر من غيره. لا يخطئ الحس لأن إدراكه مباشر ولا يتدخل فيما يتلقاه «فما غلط حس قط ولا ما هو إدراكه ضروري، فلا شك أن الحس رأى تحركا بلا شك ووجد طعما مرا بلا شك، فأدرك بالبصر التحرك بذاته (….)فبان أن العقل غلط لا الحس، فلا ينسب الغلط أبدا في الحقيقة إلا للحاكم لا للشاهد»

. لذلك لا يخطئ الحس عند ابن عربي، إلا أن الناقل قد يتصرف فيما ينقله، والشاهد قد يتدخل في تغيير معالم الشهادة، إلا أن ابن عربي يؤكد على أن الخطأ ليس من طبيعة الحس وإنما من العقل «فلم يجعل للحس غلطا جملة واحدة. وأن الذي يدركه الحس حق فإنه موصل ما هو حاكم بل شاهد، وإنما العقل هو الحاكم والغلط منسوب إلى الحاكم في الحكم

   يعطي ابن عربي أهمية للحس بعدم وصفه بالغلط أو إمكانية الوقوع في الخطأ ونقل الأوهام، لأن الحس هو المصدر الوحيد للمعرفة أو العلم، أما باقي القوى فإنها تأخذ منه حسب القرب أو البعد منه، «والحس أشرف من العقل لما فيه من الإطلاق فله السراح بالاستحقاق وإنه المحيط بما تعطيه الأوهام وإن أحالته الأحلام، والعقول قاصرة عن نسبة الوجود إلى هذه الأعيان المتخيلة»

   إدراك الحس للأشياء إدراك مباشر وبدون واسطة، لا يقلد غيره وإنما يحاكي الشيء كما هو أو كما يتبدى له، ينقل دون أن يتصرف، يشاهد دون أن يعاند لأنه شاهد، كما أنه لا يدعي ما ليس في قوته وقدرته، لذلك يسلم من الوهم والوقوع في الغلط أو الخطأ، مادامت الأوهام قد تطال الأحكام العقلية، لأنها هي من يدخل عليها الغلط والخطأ «وإنما المذهب الصحيح إنما العين لا تخطيء أبدا لا هي ولا جميع الحواس، فإن إدراك الحواس الأشياء إدراك ذاتي ولا تؤثر العلل الظاهرة العارضة في الذاتيات»

لا ندرك الذاتيات إلا ذاتيا، والحس من القوى التي لا تخطيء ذاتيا حتى وإن اعترضتها صعوبات. من هنا أهمية الحس في تشكيل المعرفة وتكوين رؤية صادقة بالعالم والوجود فلا «يعقل بالعقل ولا بالحس إلا الوجود الذي نستند إليه في وجودنا»

. تقدم لنا المعرفة الصادقة رؤية حقة وحقيقية بالوجود، بمساهمة كل من العقل الذي لا يخطئ والحس في تشكيل معالم هذه الرؤية للوجود.

يؤدي الإدراك الذاتي للشيء إلى عدم الوقوع في الغلط، باعتباره إدراكا مباشرا وبدون وساطة؛ من هنا كان شرف الحس على العقل وهو أنه لا ينتج عنه ما ينتج عن العقل «فالحس أشرف من العقل، فإن العقل إليه يسعى»

.

  يأتي الغلط من تعدد الوسائط وكيفية نقلها للمعرفة وللمعطيات، وإدراك الحس إدراك واقعي وواضح ولا يكتنفه الغموض والتعقيد، إدراك بسيط غير مركب، لأن عملية التركيب قد تكون هي الأخرى إحدى العوامل التي يمكن أن تؤدي إلى الغلط والخطأ، ينقل الظاهرة كما هي في بساطتها دون أن يضيف إليها أو يزيد في هذا الإدراك. كما قد يأتي الغلط من حدود كل قوة على حدة. فالحس في عملية إدراكه محدود بحدوده الذاتية التي لا يستطيع أن يتجاوزها.

 قد يأتي الغلط من الحس حسب ابن عربي، فلماذا يقول بعدم إمكانية وقوع الحس في الغلط؟ إذا كان ابن عربي يؤكد على ضرورة التسليم بعدم وقوع الحس في الغلط  أو أن إدراكاته لا يمكن أن يدخل عليها الغلط، فلماذا يقول بالحدود ومن ثمة محدودية كل قوة بحدودها في عملية الإدراك؟ إذا كانت لكل قوة موانع أغاليط، فما هي هذه الموانع؟ وما هي هذه الأغاليط التي يمكن أن يقع فيها الحس؟ ولماذا هذا التناقض والازدواجية في القول؟

       يأتي الغلط من حدود كل قوة، فالحس في عملية إدراكه محدود بحدوده الذاتية التي لا يستطيع أن يتجاوزها، بحيث قد تعترض الحواس مجموعة من الموانع، قد تؤدي به إلى الوقوع في مجموعة من المغالطات مادام «الحس له أغاليط كثيرة

، منها العجز عن الإدراك بحصول عاهة على مستوى الحواس، والتي قد تؤدي إلى عدم الإدراك المباشر للشيء، لأن مانعا يحول دون ذلك، ليصبح الإدراك الحسي هو إدراك بواسطة. كما أن هناك مانعا آخر هو المحدودية الذاتية للحواس أي عدم القدرة على التجاوز، وذلك من خلال افتقار كل قوة إلى غيرها وتعويلها عليها في عملية إيصال المعرفة وتناقلها حتى يتم إنتاجها.

 كل قوة لا يمكن أن يكون إدراكها إلا بغيرها أي بواسطة، وهذا ما يؤدي إلى مجموعة من المغالطات أهمها الغلط في الحكم على ما تم نقله وهذا فعل العقل، كما قد يؤدي بنا هذا الإدراك بواسطة إلى الوقوع في التقليد لا التجديد. وهذا ما يرفضه ابن عربي، الابتعاد أكثر فأكثر عن التقليد؛ وهل يمكن اعتبار الوقوع في التقليد والتكرار مغالطة؟

    الحس مشروط بوجود الموضوع الخارجي أو العالم الخارجي، هو إدراك لشيء ما، وبدون وجود الحس لا يمكن نقل معطيات العالم الخارجي إلى قوى أخرى، فالمعرفة مشروطة بوجود الحواس، إلا أن الحس هنا هو في مرتبة المنفعل، والفاعل هو العالم الخارجي، والمنفعل يتلقى الفعل من الفاعل، أي ينقل دون أن يحكم  أو يتصرف فيما ينقله لأنه ليس في قدرته أن يحكم على ما ينقله، من هنا محدودية الحس .لكن، أهم مغالطة يمكن أن تقع فيها كل قوة هي ادعاؤها تجاوز حدودها نحو معرفة ميتافيزيقية، أو أن كل قوة قادرة على أن تصل إلى مستوى تحصيل المطلوب يفوق حدود هذه القوى، خصوصا “معرفة الله”، حسب ابن عربي فإن هذا الادعاء من طرف هذه القوى هو ما يوقعها في أكبر المغالطات وأخطرها، أي الوقوع في ذلك الادعاء الذي يدعي معرفة ما لا يمكن معرفته أو الوصول إليه نظرا لمحدودية وحدود كل قوة. وبالتالي، كل معرفة تدعي تجاوز حدودها الذاتية هي معرفة ميتافيزيقية، وعلى كل قوة أن تلتزم بحدودها وتتقيد بها، وإذا لم تتقيد بهذه الحدود فإنها تؤدي إلى السقوط في الميتافيزيقا.



    ب – حدود فكرية

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

   رغم سيادة العقل وقدرته على السيطرة، إلا أنها سيادة في الظاهر، لكن في تحصيله للمعرفة يرتكز على غيره، أي افتقاره في الباطن، لأن ذلك من طبيعته وماهيته مادام «العقل خلق ساذجا ليس عنده من العلوم النظرية شيء

، ومن القوى التي يعتمد عليها كثيرا، الفكر، والذي يعتبره ابن عربي شقاء أبدي لازم الإنسان في وجوده، لأن قدر الإنسان هو أن يفكر، وفي تفكيره شقاء في حياته. يرهق الفكر الإنسان، ويقلق وجوده، يجعل حياته هشة، ومؤسسة على أوهام واقعية، لأن الفكر يوصل إلى ذلك في معظم حالاته ووضعياته التأملية «غير أن الله تعالى ابتلاه ببلاء ما ابتلى به أحد من خلقه إما لا يسعده أو يشقيه على حسب ما يوفقه إلى استعماله، فكان البلاء الذي ابتلاه به أن خلق فيه قوة تسمى الفكر، وجعل هذه القوة خادمة لقوة أخرى تسمى العقل وجبر العقل مع سيادته على أن يأخذ منه ما يعطيه ولم يجعل للفكر مجالا إلا في القوة الخيالية

إذن، هناك سيادة في الظاهر وأخذ في الباطن. لهذا الغرض يرفض ابن عربي معظم المعارف التي يتم تحصيلها من طريق الفكر ويشكك فيها، مما جعل علاقته مع الفكر متوترة إلى أقصى حد، بل أكثر من ذلك هو أشد الرافضين والمنتقدين له. لماذا هذه العداوة للفكر وهذا الرفض بهذا الشكل؟

    يتوجه ابن عربي بالنقد إلى ما تبنى عليه المعارف، أي أنه لا يتوجه إلى المدلول ولا إلى الدال، وإنما يتوجه إلى الدليل، الذي يبنى عليه المدلول بإدخال الدال في عملية التدليل، والذي يقوم بهذه العملية هو الفكر، لذلك نجد هذا الاهتمام الكبير بالفكر، لأنه الأصل في إيصال العقل إلى تحصيل المدلول. إذن، حتى وإن كان ابن عربي عرفاني في توجهه، إلا أنه منطقي في تعامله مع طرق تحصيل المعرفة، وتعقب مسارها من الأوائل أي تمحيص المعطيات وإدخالها في تركيب الدليل وصولا إلى النتيجة أو المطلوب. ما يهم ابن عربي في هذه العملية هي تلك النقلة من الدال إلى المدلول، والتي ترتبط بالدليل خصوصا.

  تعتمد المعرفة أو العلم أو ما يمكن تسميته بالحكم العقلي أو المدلول، على ما يركبه الفكر من دليل، لهذا يشدد ابن عربي ويركز اهتمامه على الفكر وكذلك العقل. لا يمكن إنكار دورهما، لكن مهمتهما عليها أن تكون على درجة عالية من الدقة والصرامة والتزام الحدود وتقييد الممارسة حتى لا يكون هناك زيغ أو خروج عن المطلوب. ما يرغب فيه ابن عربي من كل هذا، تقويم الأفكار والأحكام وفق ضوابط وقواعد صارمة تؤول بنا إلى معرفة صادقة ناتجة عن فكر صحيح لا فاسد وعن عقل سديد، لأن «علم العقل: وهو علم يحصل لك ضرورة أو عقب نظر في دليل بشرط العثور على وجه ذلك الدليل وشبهه من جنسه في عالم الفكر الذي يجمع ويختص بهذا الفن من العلم ولهذا يقولون في النظر منه صحيح ومنه فاسد»

يأخذ الفكر من الحس مجموعة من الانطباعات والإدراكات الحسية، لكي يؤلف بينها، بواسطة تلك الأوليات العقلية أو البديهيات، وهذا الأخذ يؤدي بالفكر إلى السقوط في تعدد الوسائط، لأنه بين طرفين الحس والعقل، يأخذ من الحس كما يأخذ من العقل، إلا أنه لا يقتصر عليهما وإنما يستطيع أن يأخذ حتى من الخيال، وفي هذا المستوى ينتقل من الأخذ عن العقل والحس، إلى تقديم الدليل له، وذلك بتركيبه للصور الخيالية.

 يأخذ الفكر من العقل الأوليات وهي بمثابة مبادئ وقواعد للتفكير، لأنه لا يحتوي على مبادئ قبلية ومنطلقات سابقة بها يعمل ويشتغل، بحيث يعطي للعقل أفكارا في شكل دليل، يأخذ العقل هذا الدليل فيحكم به على المدلول. إذن، «القوة المفكرة إذا جاءت إلى الخيال افتقرت إلى القوة المصورة لتركب مما ضبطه الخيال من الأمور صورة دليل على أمر ما، وبرهان تستند فيه إلى المحسوسات أو الضرورات وهي أمور مركوزة في الجبلة، فإذا تصور الفكر ذلك الدليل حينئذ يأخذه العقل منه فيحكم به على المدلول، وما من قوة إلا ولها موانع وأغاليط»

  يتموضع الفكر بين وضعيتين مع دورين مختلفين، دور يأخذ فيه من الحس والعقل لكي يجد طريقة في الاشتغال، حتى يعمل على تركيب الدليل للانتقال إلى وضعية من يقدم الدليل العقلي لكي يمارس مهمته وهو الحكم العقلي بناءا على ما ركبه الفكر. لهذا الغرض يذم ابن عربي العقل من جهة الفكر، لأن الدليل من تركيب الفكر وليس العقل. وهذا الأمر سوف يوصلنا إلى نتيجة مفادها أن «العقل يقلد الفكر ومنه صحيح وفاسد فيكون علمه بالاتفاق فما تم إلا تقليد»

   وهكذا، يكون الفكر أقرب شيء إلى الإنسان من العقل والخيال والقلب، يعبر عن معاناة الإنسان وقلقه الوجودي والمعرفي، يعبر عن ذلك الجانب السلبي من وجود الإنسان. الفكر لصيق بالإنسان وأكثر تعبيرا عن وجوده الشقي، لأن «أصحاب الأفكار ما برحوا بأفكارهم في الأكوان فلهم أن يحاروا ويعجزوا»

إذن، ما هو مفارق لا يمكن تصوره أو التفكير فيه إلا بعد مروره عبر وسائط أهمها واسطة الحس، ومادام الحس لا يستطيع تجاوز ما هو محسوس، فإن ذلك يؤدي به إلى عدم قدرته على إدراك ما هو مفارق، ومادامت القوى تعتمد على الحس فإنها ترتبط به ولا يمكنها الاستغناء عنه «أما القوة المفكرة فلا يفكر الإنسان أبدا إلى في أشياء موجودة عنده تلقاها من جهة الحس وأوائل العقل، ومن الفكر فيها في خزانة الخيال يحصل له علم بأمر بينه وبين هذه الأشياء التي فكر فيها مناسبة ولا مناسبة بين الله وبين خلقه، فإذن لا يصح العلم به من جهة الفكر ولهذا منعت العلماء من الفكر في ذات الله تعالى»

 لا يستطيع الفكر العلم “بالله” «وهو هنا ما يخطر لمن نظر في توحيد الله من طلب ماهية حقيقته وهو معرفة ذاته التي ما تعرف، وحجر التفكير فيها لعظيم قدرها، وعدم المناسبة بينها وبين ما يتوهم أن يكون دليلا عليها فلا يتصورها وهم ولا يقيدها عقل

ولكن عليه أن يدافع عنه ويثبت وجوده، ويرد على ما يمكن أن يؤدي إلى الوقوع في الشبهات والتلبيس »ونمنع من الفكر جملة واحدة لأنه يورث التلبيس وعدم الصدق»

. نطالب الفكر بالدفاع عما لا يمكن أن يعلمه أو يتصوره، وما لا يمكن إدراكه. إذن، كيف يمكن أن يدافع الفكر عما لا يدركه؟ ومن يضمن لنا أن دفاع الفكر هذا قد لا يترتب عنه مغالطات وأخطاء؟

للإجابة على هذين السؤالين، يقتضي منا هذا الأمر توضيحا، وهو أن الذات لا تعلم بأي حال من الأحوال، ولا يقتصر هذا الأمر على قوة بعينها وإنما جميع القوى بدون استثناء. وحتى يتحقق “العلم الإلهي” من جهة الفكر، فإن له شروطا من بينها، أن يكون هذا العلم علما برهانيا قائما على فكر صحيح لا فاسد، وهذا البرهان الناتج عن الفكر الصحيح، يقوم بالإثبات والرد، لأن ما ينبغي إثباته بالبرهان هو وجود الحق والدفاع عنه، والرد على من يشكك في ذلك والتبس عليه الأمر بشبهة، سواء كانوا معطلة أو أهل الشرك(…) وهو ما يؤكد عليه ابن عربي بقوله:«وعلم النور على قسمين: علوم كشف، وعلوم برهان بصحيح فكر، فيحصل له من طريق البرهان ما يرد به الشبهة المضلة والقادحة في وجود الحق وتوحيد أسمائه وأفعاله، فالبرهان يرد على المعطلة، ويدل على إثبات وجود الإله وبه يرد على أهل الشرك».

إذا كان الفكر لا يصيب إلا قليلا في مجال “العلم الإلهي”، ورغم أن هامش الصواب على مستوى الفكر أقل من هامش الخطأ، إلا أن ابن عربي يعطي لهذه القلة أهمية، لا يلغيها من إمكانية المعرفة، وتحقيق المطلوب وهو الصواب في العلم الإلهي، بمعنى آخر، حتى وإن كان هامش الصواب أقل، فإن الفكر عليه أن يضبط عمله وينتج معرفة قائمة على البرهان من جهة الفكر الصحيح، إلا أن الفكر في هذه الحالة يقتصر دوره في الدفاع وليس في إنتاج معرفة، أي نطالبه بالرد على الخصوم بالبرهان، لكن بفكر صحيح. إذن، هناك إمكانية “للعلم الإلهي” لكنه علم يقتصر فيه على الرد والإثبات وليس على إنتاج معرفة. لذلك، كل عملية تفكيرية تدعي الإحاطة والتقييد لكيفية من الكيفيات التي يمكن أن يكون عليها “الله”، بمحاولة استيعاب تلك الكيفيات التي هي للأشياء، ولا يمكن أن تعلم هذه الكيفيات لأنه لا مناسبة، والفكر يحاول أن يجد هذه المناسبة.

كل محاولة قياسية توظف الشاهد للاستدلال على ما هو غائب استدلال ناقص، وذلك على اعتبار أن الشاهد يختلف كليا عن الغائب، لذلك يجب إخراج “الله” عن أي محاولة إحاطة تروم تجسيده في مقولات عقلية، وهذا التجسيد تعطيل، وتقييد لما هو مطلق، «ومن هنا يأتي خطأ المفكرين العقلانيين الذين غلطوا في تصوراتهم عن الحق نفسه:” حيث يفكر الإنسان بعقله في الله، يخلق بتفكيره ما يعتقده في نفسه. ومن هنا يفكر في الرب الذي خلقه بفكره

فالمطلق لا يحد ولا يعرف، وأي تعقل “لله” هو منذ البداية تعقل مآله الفشل؛ وذلك لأن “الله” لا يقبل هذا التحديد ولا يمكن وضعه في قوالب فكرية، لذلك «ما أنتجه الفكر من معرفة الله لا يعول عليه

. وبالتالي، نقل كيفيات ما هو معلوم وإسقاطها على ما هو مجهول نقل غير مشروع، ومستحيل في نفس الوقت، في إطار تقييد المطلق، لأن المجهول “الله” يخرج عن أي تصور ولا يعلم له كيفية ولا حيثية إلا ما سمى به نفسه؛ لذلك «يؤكد ابن عربي ـ في رده على الفلاسفة واللاهوتيين – أن الله لا يمكن تصوره ولا يمكن معرفته أبدا، فلا ينطبق عليه أسماء ولا صفات، كما يؤكد أن كل أفكارنا ومفاهيمنا التي نشيدها قياسا على أنفسنا لا تدانيه
، وهذا الأمر سقط فيه “نصر حامد أبو زيد” بقوله:«وحين تعبر اللغة عن المطلق أو المتعالي فهي إنما تعبر عنه بمفاهيم المحدود والمتعين والمحسوس. إن الله ـ بعبارة أخرى ـ ليس إلا بشرا نُفيت عنه كل صفات النقص والتحدد، وأكدت فيه كل صفات الكمال والإطلاق، والنفي والإثبات ليسا سوى أدوات لغوية لها طابعها البشري»

وكأن الإنسان بهذا القول هو “الله” لكن بصفات ناقصة ومحدودة. ومن ثمة، «يرى ابن عربي أن أهل النظر جميعهم لا يشيدون أفكارهم عن الله على شيء ليس هو الله على الحقيقة»

وهكذا، يكون ابن عربي قد عدد من زوايا النظر إلى نفس الشيء، حتى يكون موقفه موقفا وسطا، يرفض ولا يرفض الوهم في مستويات معينة من إدراك الأشياء إلى إدراك الحقيقة والوجود، من هنا أهميته كقوة من قوى الإدراك لها دور في تحصيل المعرفة وفهم الإنسان لأمور قد لا تفهم، وقد لا نجد لها تفسيرا. لذلك يؤكد ابن عربي على غرابة المعرفة التي يتم تحصيلها من طريق الوهم. تأتي الأوهام من إدراكنا للتكرار، لكنه تكرار لا يتكرر إلا مرة واحدة. ويعدم التكرار كل إمكانية للتجديد والإبداع، لأنه يحول دون ذلك. فالتكرار لا يعول عليه في إنتاج معرفة صادقة خالية من الأوهام.

         لقد حاول ابن عربي أن يؤسس للمعرفة على مجموعة من الضوابط، يعمل على فحص قوى الإدراك والتحقق من قدرتها على تحصيل المطلوب، حتى يكون لموقفه ما يبرره، وهذه الضوابط كالتالي:1ـ وضع الحدود لكل قوة حتى لا تتجاوزها، وفي تجاوزها سقوط في إنتاج معرفة تتخللها الأوهام والمغالطات والأخطاء. فالمطلوب في المعرفة أن تكون صادقة لا كاذبة. ووضع الحدود والقيود، يؤدي إلى إنتاج المطلوب بكيفية صادقة. 2-الإدراك المباشر وبدون وسائط؛ 3ـ إنتاج معرفة تقوم على التجديد وليس على التقليد؛4ـ تحصيل معرفة صادقة وصحيحة مع عدم السقوط في الأخطاء وتجنب الوقوع في المغالطات. فكل قوة تتحقق فيها هذه الضوابط تكون مؤهلة للمعرفة، أما إذا سقطت فيما يتناقض مع هذه الضوابط، كالسقوط في عيب الوساطة، أو إعادة المعرفة بناء على تكرارها، أو إنتاج الأخطاء والمغالطات، وتجاوز الحدود، فإن هذه القوى إما يتم رفضها من طرف ابن عربي وإما يضطر إلى تقسيمها والعمل على تأطيرها بوضع حدود أخرى؛ وبناء على ذلك، قسم ابن عربي العقل إلى قسمين: عقل يدرك بواسطة، وهو ما يرفضه انطلاقا مما يترتب عنه من نتائج، وعقل ذاتي، ينتظر ويقبل دون أن يفعل أو يتعقل؛ وقسم الفكر إلى:فكر فاسد يتم رفضه، وفكر صحيح، يقبل به لكنه يؤطره ويضع له حدودا. لكن، سوف يختلف الأمر مع الخيال والقلب، ولا يقوم بمثل ما قام به مع العقل والفكر، وكأنه يميل في موقفه رغم هذه الضوابط، أو إن موقف ابن عربي من القوى فيه شيء من الانحياز إلى جانب الخيال والقلب.

المصادر والمراجع

ابن عربي، محيي الدين، فصوص الحكم، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 2003، ص167.

ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، 2004، ج1

، ج1، ص196.

إيان، أموند، التصوف والتفكيك درس مقارن بين ابن عربي ودريدا، ترجمة وتقديم حسام نايل، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2011، ص47.

ابن عربي، محيي الدين، رسالة لا يعول عليه، ضمن رسائل ابن عربي، الجزء الأول، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الأولى، 1998، ص294.

أبو زيد، نصر حامد، فلسفة التأويل دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين بن عربي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة، 1998، ص363.

ابن عربي، محيي الدين، كتاب الجلال وهو كلمة الله، ضمن رسائل ابن عربي، الجزء الأول، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الأولى، 1998، ص59.

ابن عربي، محيي الدين، التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 1998، ص145.
.

التعليم بين الأمس واليوم..

مدرستي الحلوة

ونحن نرى هذا الدخول المدرسي الذي لا طعم ولا لون له بسبب الجائحة لا يسعنا سوى أن نتأسف لحال هذا الجيل الذي وجد نفسه بين مطرقة الفيروس وسندان التخبط الحكومي. وأن نخشى على أنفسنا وعلى المستقبل من مصير الجيل الذي سيأتي بعد هذا، والذي سيجد أن المدرسة العمومية بصيغتها التقليدية أصبحت حفرية من الحفريات الجديرة بالمتاحف.
مع كل ما يحدث كثيرون سيشدهم الحنين إلى مدارسهم القديمة وهم يرون أبناءهم حائرين بين التعليم الحضوري والتعليم عن بعد. سيتذكرون فرحة العودة إلى القسم، وحماسهم الطفولي للتعرف على المعلم الجديد الذي ترسله لهم الوزارة لكي يعلمهم الحساب والإنشاء والمحفوظات والدين.
كثيرون يتذكرون أن الدراسة في تلك السنوات البعيدة لم تكن تحتاج إلى كتب ومقررات ودفاتر كثيرة ولا ألواح آيباد ولا واتساب، بل فقط إلى كناش من فئة خمسين ورقة وتلاوة «اقرأ» وريشة ومنشفة.
أما المداد فكان المعلم هو الذي يتكفل بتوزيعه على محابرنا التي توجد في مقدمة طاولاتنا الخشبية.
كثيرون سيتذكرون تلاوة «بوكماخ» و«عنزة السيد سوغان» و«باليماكو» وهو يتسلق النخلة. كثيرون سيتذكرون نصوصا موشومة في الذاكرة كـ«الثرثار ومحب الاختصار» و«البدوية والمصباح» و«زوزو يصطاد السمك» و«الشمعة والفانوس» و«سلمى في المخيم».
في تلك السنوات البعيدة كانت للمعلمين وسيلة إيضاح أساسية يستعينون بها على شرح دروسهم، وهي العصا. كانوا يضعونها فوق المكتب، وكان معلمنا من شدة حبه لها يسميها «مسعودة»، ويقول ساخرا لكل من يتعثر في شكل قطعة في السبورة أو ينسيه الشيطان آية قرآنية، وهو يلوح بالعصا، «مسعودة تحيد البرودة».
وفعلا فقد كانت «مسعودة» تزيل البرودة عن أرجلنا الصغيرة المتجمدة من البرد، فتصبح حمراء وساخنة، حتى أنه من فرط الضرب كان بيننا من يعجز عن إدخال قدميه في حذائه بسبب انتفاخهما، فيحمل حذاءه في يده ويغادر إلى بيته متكئا على أكتاف زملائه، كمعطوب حرب عائد من الجبهة عوض القسم.
وكم تغيرت الأزمنة اليوم كثيرا، فيكفي اليوم أن يعود الطفل منكسر الخاطر من المدرسة حتى تثور ثائرة والديه ويقصدان المدرسة لكي يصبا غضبهما على المعلم والمدير. أما في زمن مضى فقد كان الطفل يعود إلى البيت من المدرسة وهو لا يستطيع حتى المشي على قدميه من شدة الفلقة، وعندما يقترب من باب البيت يستقيم في مشيته وكأن لا شيء حدث، لأنه يعرف أن والديه إذا تناهى إلى علمهما أنه تعرض للسلخ في القسم، فإنهما سيكرمانه بسلخة إضافية، جزاء له على تكاسله. فالمعلم دائما على صواب.
الواقع أن الزمن الذهبي للتعليم في المغرب انتهى منذ سنوات. كنا نردد النشيد الوطني أمام الراية في الساحة كل صباح قبل أن ندخل أقسامنا الباردة، وفي المساء نردد نشيد «مدرستي الحلوة» قبل أن نغادر القسم ونتراكل في الساحة قليلا مثل بغال صغيرة أطلق سراحها بعد يوم عمل شاق، ثم نذهب إلى بيوتنا لمتابعة «سكوبيدو».
حتى الأقسام كانت لديها مسحة خاصة، غير تلك المسحة الكئيبة التي توجد عليها أقسام اليوم، والآن تحضرني كل التفاصيل التي كانت تزين القسم، صورة الجزار الذي يعلق أمام دكانه خرفانا مذبوحة ويتبسم بشارب أسود كث. صورة الصياد الذي يصوب بندقية صيده نحو سرب من البط بينما كلبه يستعد للجري وراء البطة التي ستصيبها الطلقة وتسقط في البحيرة الجامدة في الصورة إلى الأبد. صورة النجار وهو يقطع الألواح الخشبية. الكؤوس التي نضع داخلها حبات الحمص والعدس والفاصولياء ونتركها في شرفة القسم لكي ندرسها في مادة الأشياء. الرسائل الكثيرة التي كان يبعث بها المعلم معنا إلى المعلمة التي كانت في الدور العلوي، والتي عرفنا في ما بعد أنها كانت رسائل غرام وأننا كنا سعاة بريد اشتغلنا في قصة حب طيلة السنة بالمجان.
عندما كان يقترب فصل الشتاء يأتي ممرضون من المستشفى وينشبون في أذرعنا تلك الحقن التي تتبرع بها علينا منظمة الصحة العالمية حتى لا ننقرض، والتي ما زال جيل بأسره يحمل آثارها إلى الآن، حتى أصبحت هذه الجلبة بطاقة هويتنا الحقيقية التي تفضحنا عندما يلقى على أحد مهاجرينا السريين القبض في بلدان الجيران.
وعندما كانت تشارف السنة على الانتهاء يأتي ممرضون آخرون يفرغون أنابيب «البوماضا» في عيوننا التي يوشك العمش على إغلاقها، فنخرج إلى الساحة ونقول للفوج الذي سيدخل بعدنا شامتين، «دخلو تبزق عليكم الدجاجة».
ومن الأشياء التي لم يعد لها وجود الآن في نظامنا التعليمي، ذلك التوقيت الذي كان يجبرنا على الدخول إلى القسم في الساعة السابعة صباحا والخروج في الساعة العاشرة. وطبعا كان أغلبنا يأتي من دون إفطار، والمحظوظون يكون عندهم ريالان لكي يشتروا بها «شفنجة» ساخنة في الطريق إلى القسم.
وأذكر أنني مع كثيرين كنت ضمن هذا الفوج الذي يدخل باكرا، ولكي أستيقظ في الموعد كنت أضع مذياعا تحت وسادتي وأتركه مشغلا طيلة الليل. وعندما يبدأ المرحوم المكي الناصري تفسيره لسور من القرآن الكريم، أعرف أن الفجر سيعلن عن نفسه بعد قليل. فأسبح مع المكي الناصري في تفسيره العجيب للقرآن وأتخيل قوم نوح الذين عذبهم الله وأتصور الجنة وما فيها من فواكه ووديان، والنار وما فيها من أفاعي وأشجار كأنها رؤوس الشياطين، ولا أعود إلى الأرض إلا عندما تبدأ نشرة الأخبار، التي حفظتها لكثرة ما سمعتها كل صباح.
آنذاك فقط يكون علي أن أغادر البيت باتجاه المدرسة بعدما ألبس السلهام الذي اشتراه لي جدي وحذاء «الجيمس» الذي كلفني شهرا من استعطاف أمي، والسروال الذي وصلني بعدما انتظرت دوري طويلا حتى يصبح صغيرا على من هو أكبر مني.
ومع كل ذلك كان التلاميذ يصلون إلى القسم، جائعين ومبللين، بمجرد ما ينقطع أحدهم عن السعال حتى يبدأ الآخر. مئات الآلاف درسوا هكذا، بأدوات قليلة جدا وبثياب رثة وتغذية شبه سيئة واستطاعوا الصمود بفضل حقن ورغيف المنظمات الإنسانية. وفي الأخير ثبت أن هذه الأجيال استطاعت أن تنجب أطرا وأدمغة تنتشر الآن في جميع جهات الكرة الأرضية.
بينما الآن أصبح التلاميذ مع كل هذه الكتب والمقررات المليئة بالأغلاط التي يحملونها فوق ظهورهم لا يعرفون ماذا يحفظون وماذا يتركون. ولذلك نزل مستوى التعليم إلى الحضيض وطلع مستوى مداخيل ناشري الكتب المدرسية وأرباح أصحاب مدارس التعليم الخصوصي إلى السماء، فمصائب قوم عند قوم فوائد.

رشيد نيني

القلق الوجودي عند الفيلسوف سورين كيركجارد(1813-1855)م

سورین كيركجارد (1813- 1855 م)

الفيلسوف العملاق، ولد الفيلسوف الدانماركي الذي تنسب إليه مدرسة الفلسفة الوجودية المؤمنة في كوبنهاجن عاصمة الدانمارك، وكان الطفل السابع في أسرة بورجوازية ميسورة الحال.

اشتهر عنه أنه محاور بارع، خفيف الظل له قريحة متوقدة وفي جوانية نفسه كان يعاني اكتئابًا عميقًا، ويحس بحزن خانق.

بدأ بالكتابة الفلسفية تحت أسماء مستعارة ذات طابع رمزي كعادة العصر، وكانت معظم كتاباته تمردا على النزعة الهيجلية السائدة في زمانه، وفي هذه الكتابات العديدة طوّر الكثير من الأفكار التي ارتبطت فيما بعد بالفلسفة الوجودية، من منظور مؤمن، وهذا لتفريقها عن الوجودية الملحدة عند سارتر على سبيل المثال.

تمحورت كتاباته على دراسة الإنسان من الداخل، وطرح قضايا لم يهتم بها التفكير الفلسفي من قبل، مثل: الحب، الإيمان، المفارقة، الضمير، القلق، اليأس، الموت، وغيرها مما يعتمل في أعماق النفس البشرية، واهتم بإثارة الإشكالات من دون أن ينشغل بجوابها، إذ يكتب: “إن مهمته في هذه الدنيا أن يثير الإشكالات في كل مكان، لا أن يجد لها حلًّا”.


  • حصول القلق

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

للقلق كمفهوم فلسفي، مكانة مهمة لدى كيركيغارد، هايدغر، سارتر وبوفوار. مثّل هذا المفهوم محركاً للمعالجة الوجودية للإنسان والكون وعلاقتهما. في كتابه «مفهوم القلق»، جعل كيركيغارد من إحساس ذاتي مِثل القلق موضوعاً لمفهوم فلسفي. بهذا الكتاب، يرى كثيرون أنه أسّس لنظريات هايدغر وسارتر عن الموضوع، وحتى لفرويد.
لدى كيركيغارد، أن الروح هي التوليف بين النهائي واللانهائي، وهذا التوليف/ التركيب يتم فقط عبر القلق. القلق هو دوار الحرية الذي يولد لأنّ الروح تريد التوليف بين النهائي واللانهائي، بين محدودية الإنسان ولامحدودية الممكن. الروح هي «قوة ملتبسة»، فيما القلق هو الرابط بين الإنسان وبين هذه القوة. يشرح كيركيغارد أن القلق هو «واقع الروح» الذي يظهر دائماً كـ«عدم غامض»، لكنه يختفي مذ نحاول الإمساك به، هو «لا شيء» لكنه قادر على إقلاقنا. القلق هو دوار أنطولوجي (مرتبط بالكينونة) في وجه المطلق الذي تولّده الحرية.

رى مونييه أن الفلاسفة المثاليين «هربوا» إلى الأنظمة التي لم تخدم سوى هدف واحد: العثور على السلام. نظام ديكارت، نظام هيغل، وغيرهما ليست سوى «سدود متعجّلة» في وجه المستقبل ومخاطره. هذه الأنظمة المقفلة لا تريد سوى إلغاء القلق «الذي ينفجر من الأعماق المربكة للكائن».
في المقابل، جاءت الفلسفة الوجودية لتجعل الكائن يقظاً دائماً. تأتي كـ«حملة عقابية»، بتعبير مونييه، ضد هروب «السيستام» الذي يميل إلى نزع ثقل المسؤوليات عن الفرد، لرميها على الأجهزة، الأيديولوجيات، أو الأساطير. الوجوديون يعيدون وضع ثقل «القدر» على كتفي الإنسان وحده، حتى لا «نغفو في عالم من الأوغاد»، كما يقول سارتر.

انطلاق مفهوم القلق عند كيركجارد

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

.ينطوي القلق عند كيركيغارد على معنى مزدوج: نفسي وأنطولوجي. أولاً، على الصعيد النفسي، وانطلاقاً من تحليل النصّ نفسه، يرتبط القلق بالإحساس بالذنب. هنا تظهر التوجهات المسيحية لكيركيغارد، كما ينظر لهذا البعد لديه، بارتباطه بالجنسانية التي مثّلت حجر زاوية التحليل النفسي مع فرويد. ثانياً، على الصعيد الأنطولوجي، إن القلق مرتبط بالخلط بين الذعر والدهشة التي يثيرها العدم والموت لدى الإنسان. أما نتيجة الربط بين هذين البعدين (النفسي والأنطولوجي، الذنب والدهشة) فهي الحرية.
أما كيف يتمّ تجاوز هذا القلق بالنسبة إلى الفيلسوف الدانمركي، فإن الإجابة جاءت على مرحلتين. أولاً عبر الاختيار. بالنسبة إلى كيركيغارد إن الاختيار هو «اللحظة المحظية للوجود». يقول مونييه إن الاختيار «طارد فكر كيركيغارد مثلما طارد همّ الكلية فكر هيغل». برغم كل آلام الإنسان ومآسيه، هو يمتلك أن يختار، الأمر الذي يمكنّه من تجاوز القلق. لكنّ هذا «الحلّ» لم يصمد طويلاً لديه، إذ إنه اقتصر على المرحلة الأخلاقية من مراحل الوجود الثلاث في فكره (إلى جانب المرحلتين الجمالية والدينية). ومثلما آمن إبراهيم بمشيئة الإله حين كاد أن يضحّي بابنه، يرى كيركيغارد أن «قفزة الإيمان» هذه هي الحلّ الأخير للإنسان.
كذلك، أشار مونييه في معرض حديثه عن مفهوم القلق لدى كيركيغارد إلى أن الأخير أجاب على الذين عارضوا التشديد على القلق لديه، مشبّهين إياه بالتعبير عن فكرة «الاضطراب» في الفكر البورجوازي. فأوضح أن لا علاقة للأمرين بعضهما ببعض إلا عندما تتقلص فلسفة القلق إلى «شعار سوسيولوجي».

تكمن جدة الفيلسوف الدانماركي سورين كيركجارد (1813 ـ 1855)، في كونه عمل بشكل أو بشكل آخر على عدم حصر الفكر الفلسفي في دائرة المثالية المطلقة التي أوصلت العقل إلى تحقيق المطلق مع هيجل، حيث لا وجود لفكرة كونية يثبتها ويؤسس لها العقل، وإنما على فتح الفلسفة أمام أفق قديم جديد ألا وهو الجانب الوجودي المتمثل في ربط الانسان بمفهوم القلق،

والذي يصيبه فور تفكيره في الحياة والعالم والمآل.. إذ تبقى أسئلة قائمة بذاتها لم ولن يتمكن العقل بأدواته الصارمة من فهمها، فما بالك بتفسيرها. في هذا الصدد يرى الرجل أن الهروب من القلق يتحقق عبر ثلاثة أطوار،

الأول جمالي
والثاني أخلاقي
والثالث ديني.
. والحال أن كيركجارد خصص في كتابه الذي يحمل مفهوم القلق اسما له، خصص حيزا كبيرا يشرح من خلاله كيفية تشكل القلق ومظاهره وعلاقته بالإنسان.. حيث كانت الحاجة ملحة في هذا الصدد لاقتباس جزء صغير عنونه ب:

مفهوم القلق، على الأقل كي نكسب معرفة أولية حول مفهوم يشكل عشب وجودنا دون أن نعيره اهتماما يذكر، إما استسهالا به أو جهلا له..

في اساسيات القلق

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

إن البراءة جهل، أو قل إن في البراءة لازال الانسان لم يحدَّد بوصفه عقلا، في المقابل نقول أن الروح توجِد الانسان في وحدة آنية ومتزامنة مع كينونته الطبيعية.
وكنتيجة لذلك فالعقل لازال محط حلم من طرف الانسان،
ـ بخصوص سؤال البراءة ـ
أن يملك الانسان تلك الفطنة القادرة على التمييز بين الخير والشر، وأن يدين كل التخيلات الجديرة بالإطراء للايمان
من ثمة نجدنا في هذه الحالة أمام ثنائية الهدوء والراحة، لكن وفي نفس الوقت يوجد شيء آخر لازال مع ذلك لم يصل إلى درجة القلق أو الصراع، بما أنه لا يوجد ما يستحق أن نصارع من أجله. في مقابل ذلك قد نتساءل قائلين:

وماذا بعد ذلك؟
لاشيء. والواقع أن أثر هذا اللاشيء هو الذي يتولد عنه بعدئذ مفهوم القلق.

وهنا نقول أن السر العميق للبراءة سيكون في نفس الوقت هو الوجه الآخر للقلق.
. إنه لحالم ذاك الذي يعتقد أن العقل يسقط على حقيقته الخاصة والتي هي لاشيء في نهاية المطاف، وإن كان هذا اللاشيء يرى نفسه أنه ليس من البراءة بشيء.
إن القلق يشكل من هذا المنطلق عزيمة للعقل الحالم،
والحق أن لهذا العنوان مكانا متميزا في علم النفس، فالليلة السابقة تطرح هذا الاختلاف بين نفسي، وبين هذا الآخر الذي يسكنني، بينما يقوم النوم بتعطيله وإيقافه، في حين أن الحلم يقترحه كموجة معدومة.. ومن هذا المنطلق فحقيقة العقل تتبدى دوما كوجه يختبر إمكانه، لكنها تختفي فور رغبتنا في الإمساك بها، وذلك بوصفها لا شيئا ليس يريد إلا أن يقلقنا، إنه لامتياز بما أنه ليست لها القدرة إلا على أن تظهر لنفسها..

وتأسيسا عليه، فإنه لم يسبق لي على ما اعتقد أن رأيت مفهوم القلق قد تمت معالجته من طرف علم النفس بشكل مهم، من ثمة سأعمل على ملاحظة اختلافه التام مع مفهوم الخوف إضافة إلى مفاهيم أخرى مشابهة له..

لهذا فالقلق هو حقيقة الحرية، لأنه هو عين الإمكان، ولهذا السبب فإننا لا يمكن أن نجده لدى الحيوان، على اعتبار أن الطبيعة بشكل أدق تفتقد للعزيمة العقلية.
والحال أنه عندما نأخذ بعين الاعتبار الصفات الديالكتيكية للقلق، فإننا لا نجد أنفسنا سوى أمام غموض نفسي..

القلق سيعدو بذلك نفورا تودديا، ونفس الأمر بالنسبة للتودد الذي سيصبح نفوريا، لذا فإني لا أعتقد أننا سنعثر على صفة نفسية أكثر غنى وحمولة من هذا المفهوم وما يرافقه من هذه الصفات. اللغة هنا تزخر بشتى أنواع التأكيدات، لكننا لا نقول مثلا: القلق الهادئ أو الخوف الهادئ، وأيضا: القلق الغريب أو القلق العنيف…

إن القلق الموضوع من طرف البراءة ليس في بداية الأمر خطأ، كما أنه ليس ثقلا يريد أن يجثم عليك، زيادة على أنه ليس ألما سبق له وأن حكم وهو في حالة غبطة بريئة، استغرقوا في مفهوم الطفولة، حينها ستلاحظون القلق مرسوما فيها بطريقة دقيقة كأنه بحث عن مغامرة ما، عن جريمة بشعة، وعن غموض معين. وإن كان لا يوجد لدى بعض الأطفال فإن هذا لا يعتبر دالا على شيء يستحق منا كبير اهتمام، لأنه لا يوجد كذلك لدى الحيوان،

على الأقل إذا كانت هناك روح فهذا يعني أنه سيكون القلق أيضا.
إن هذا القلق يرتبط بالضرورة بالطفل الذي لا يريد أن يتجاوز نفسه، وإن كان يزعجه طبعا هذا الأمر، بل إن القلق الذي يسكنه، يسحره في نفس الآن بناء على خوفه الهادئ..

عند جميع الشعوب التي تحافظ على الطفولة كما لو كانت حلم يقظة تبعثه الروح، يتمكن القلق من أن يجد لنفسه موطئ قدم كبير، بل إن عمقه قياس لعمق الشعوب. من ثمة سيكون من الغباء في أبشع صوره أن نرى شعبا يعيش في دائرة الفوضى وهو يسير على هذا الإيقاع. إن القلق في هذه الحالة ، سيتحول إلى مرحلة لاحقة للحزن والكآبة، حيث الحرية وبعد أن تتمكن من قطع الأشكال غير المطلقة لتاريخها، يتوجب عليها أن تستعيد نفسها إلى درجة بلوغ أقصى أعماقها.

وفي نفس السياق، فلا شك أن العلاقة التي تربط بين القلق وموضوعه، هي علاقة لا تزخر إلا بما هو مبهم (تتحدث اللغة أيضا بكرامة قائلة

: إننا نشعر بالقلق إزاء لاشيء) زيادة على أن المرور على مفهوم القلق في هذا الإطار، لن يتخذ بالخصوص سوى صبغة دياليكتيكية محضة، وهو ما يبين أن هذا الشرح هو ما يجب أن نسير على منواله: فعلى المستوى السيكولوجي فإن القفزة النوعية تبقى دوما معفاة من أية ازدواجية، بيد أن الانسان الذي يرجعه قلقه مذنبا، هو بالضرورة بريء (لأن الذنب ليس ذنبه، بقدر ما أن القلق باعتباره قوة خارجة عن إرادته هي التي تستولي عليه، هي قوة لا يحبها لكنها تخيفه طبعا.)
وفي معرض آخر، سيكون مذنبا بشكل كبير من يغرق في القلق، بعدما كان بشكل قطعي يحب من يخاف منه.
لذا فهل يمكن اعتبار القلق أسوأ غموض عرفه العالم؟

والحال أن هذا هو سبب اعتبار هذا التفسير لوحده من يحمل طابعا سيكولوجيا، وبينما نعتبره تفسيرا سديدا، فإني في نفس الآن أؤكد متباهيا بكونه التفسير الذي تمكن من تحقيق قفزة نوعية. إنه يتمثل أن الدفاع الذي يمنحنا إمكانيات المحاولة، أو الفاتن الذي هو من يخوننا، يتمثله بكونه سيعدو دوما تأويلا من خلاله لا يكفي النفاق قيمة سوى أنه مجرد ملاحظة سطحية لا غير:

إنه يُزيّف بذلك سؤال الأخلاق بأن يكتفي فقط بإنتاج تعريف كمي حول نفسه، وعن طريق السيكولوجيا يبحث على إطراء الانسان على حساب الأخلاق، بحيث سيكون من باب الأدب أن كل أولئك الذين لديهم تربية أخلاقية، سينخفض شأنهم كإغراء جديد أكثر مكرا مما سبق.

يعتبر ظهور القلق بمثابة مركز لكل مشكل. إن الانسان تركيب للروح والجسد، لكن هذا التركيب غير معقول ولا يمكن تصديقه، فإذا كان هذان العنصران لا يجتمعان في ثلث آخر، فإن هذا الثلث هو العقل، إذا تكلمنا بطريقة بريئة، نقول ان الانسان ليس فقط ذلك الحيوان البسيط على غرار الباقي،

هذا فلو كان حقا على هذه الشاكلة في أية لحظة من لحظات من لحظات حياته، فإنه ما كان ليتحول قط إلى إنسان.

فالعقل إذن حاضر ولكن في الحالة الفورية للحلم، وقياسا لحضوره هذا، فإنه سيعدو بطريقة أو بأخرى قوة عدوة، لأنه يبعثر أوراق هذه العلاقة الرابطة بين الروح والجسد، والتي تبقى حية دون أن تعيش، بما أنها تربط العيش بالعقل لوحده. وفي معرض آخر يمكن القول أن العقل قوة صديقة متلهفة طبعا لتأسيس العلاقة سابقة الذكر،

فما هي يا ترى العلاقة التي تربط بين الانسان وهذه القوة المبهمة؟

هل تكمن في العقل مع نفسه ثم شروطه المكونة له؟

إن هذه العلاقة هي المؤسسة للقلق، أو قل إنها القلق عينه، مادام عندما يتخلص من نفسه يمنعه العقل عن القيام بذلك،

بيد أن هذا الاستيلاء الذي يمارسه العقل يحصل طالما أن طبيعة هذه الأخير التي توجد خارج نفسه غارقة في الحياة النباتية. من ثمة فالإنسان ليس يُعرّف من هذا المنطلق بوصفه عقلا، مادام لا يستطيع الانفلات من القلق لأنه يحبه، وبما أنه ينفلت منه ـ

القلق ـ فهذا دليل على أنه يحبه. وفي هذه اللحظة تبلغ البراءة أوجها، إنها لجاهلة لكن ليس بحيوانية البهائم، فهي الجهل الذي يحدد العقل، وهذا هو عين القلق على وجه التحديد، لأن جهلها هذا يتمحور على العدم، ليس يهمنا هنا التعرف على وجه الخير من الشر في هذا الأمر. لهذا فحقيقة المعرفة بمجملها تبرز في القلق باعتباره العدم الهائل للجهل

.
وفي نفس الآن أيضا، فالإنسان مفهوم يدخل ضمن باب البراءة، لكن تكفي كلمة واحدة كي يتركز الجهل بالفعل، وإن كانت كلمة غير مفهومة بشكل طبيعي إزاءه ،

بيد أن القلق عندما حصل على فريسته الأولى، تمكن من أن يكتسب صبغة غامضة بدل التي كانت متعلقة بمفهوم العدم.
عندما نُسَلّمُ أن الدفاع يوقظ الرغبة، فإننا نكون أمام مطلب المعرفة بدل السقوط في الجهل، حيث توجب في هذه الحالة أن يكون آدم على معرفة سديدة بمفهوم الحرية، بدل أن يخدم رغبته،

وهذا هو التفسير الذي يمكن أن يأتي بعديا. إن الدفاع أقلق آدم لأنه أيقظ فيه إمكانية الحرية. إن ما يقدم للبراءة كعدم للقلق تداخل الآن مع نفسه، مما يجعله غير متمكن من الانفلات من قبضة العدم.. لهذا فعندما لا نستطيع القيام بشيء، معناه أننا لا نملك فكرة حوله، وإلا فإنه سيفترض ما سيأتي لاحقا، ألا وهو الوقوف عند الفرق بين الخير والشر.. وعليه فإنه ليس لآدم سوى إمكانية السلطة كشكل متفوق للجهل، كتعبير عال للقلق، لأنه انطلاقا من هذه النقطة الأكثر سموا نقول إن القلق موجود وغير موجود أيضا. والذي يتجلى لدى آدم في حبه للرغبة والهروب منها في نفس الوقت.

المراجع

معجم الفلاسفة، جورج طرابيشي.

كيركجارد، تصوف المعرفة، وليام هبين.

عمل حب مع المحبة، سورین کیركجورد، ترجمة وتقديم فؤاد كامل.

سورين كيركجارد / خوف ورعدة، ترجمة فؤاد كامل.

كيركجارد، فريتيوف برانت، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد