المنهج التجريبي في دراسة الطبيعة البشرية عند ديفيد هيوم

ينظر هيوم إلى كل معرفة تخص الإنسان على أنها فلسفة أخلاقية بما فيها نظرية المعرفة ومبحث السياسة والدين والاقتصاد. ومعنى هذا أن ما يفهمه هيوم من مصطلح “الفلسفة الأخلاقية ليس مقتصرًا على ما يُفهم عادة منه أنه يخص مبحث الأخلاق فحسب هيوم تنقسم المعارف البشرية إلى فلسفة طبيعية تضم كل معارفنا عن الطبيعة بالمعنى الفيزيائي والكيميائي والأحيائي والرياضي، وفلسفة أخلاقية تضم كل ما يخص الإنسان، ولأن المعرفة ظاهرة إنسانية هي والسياسة والاقتصاد والدين، فقد نظر إليها هيوم على أنها تنتمي إلى الفلسفة الأخلاقية. وكان في ذلك منطلقاً من الاعتقاد في أن ما يحدد كل إنتاج إنساني هو طبيعته الأخلاقية من انفعالات ومشاعر وعواطف وإدراك حسي ومخيلة وفهم.

ولذلك فإن هيوم قد وضع لبحثه في الطبيعة البشرية عنواناً فرعياً هو “محاولة لإدخال المنهج التجريبي في الموضوعات الأخلاقية”، وهو يقصد بالموضوعات الأخلاقية كل أجزاء كتابه: الفهم الإنساني والانفعالات والأخلاق.
لم يكن هيوم هو أول من بحث في الطبيعة البشرية، ذلك لأن هذا البحث كان ملازماً للفكر الفلسفي منذ ظهوره لدى اليونان، لكنه يعد أول من بحث فيها انطلاقاً من المنهج التجريبي. وهو يقصد من المنهج التجريبي تتبع موضوعات الفلسفة من معرفة وأخلاق انطلاقاً من بداياتها الأولى، فهو يدرس المعرفة انطلاقاً من الإدراك الحسي وانطباعات الحواس، ويدرك الأخلاق انطلاقاً من الانفعالات. والحقيقة أن البدء بالإدراك الحسي والانفعالات لدراسة المعرفة والأخلاق يجعل نظريته سيكولوجية، وهو يعترف بذلك بالفعل ويذهب إلى أن علم النفس هو العلم الفلسفي الحقيقى عن جدارة. والملاحظ أن علم النفس الذي يفهمه هيوم هو علم الطبيعة البشرية، ولذلك نستطيع أن نفهم مصطلح “الطبيعة البشرية” باعتبارها العنوان العام لفلسفته على أنه الطبيعة السيكولوجية للبشر. ولهذا السبب ينظر إلى هيوم على أنه من إرهاصات علم النفس التجريبي الحديث.
كما يقصد هيوم من تطبيق المنهج التجريبي على الموضوعات الفلسفية والأخلاقية أن يكون مُشِّرح الطبيعة البشرية، مثلما يفعل الطبيب ودارس الجسم الإنساني عندما يشرح الجسم ويكشف أن الأنسجة والتكوين الداخلي ووظائف الأعضاء. وهدف هيوم من ذلك الوصول إلى الدقة العلمية التي حازتها العلوم الطبيعية في مجال الموضوعات الأخلاقية. كما يهدف هيوم من تشريح الطبيعة الإنسانية الوصول إلى المبادئ الأساسية الحاكمة لهذه الطبيعة. وقد أخذ إيحاءه في ذلك من الإنجاز الذي حققه نيوتن لعلم الطبيعة أو الفيزياء. اكتشف نيوتن عدداً قليلاً من المبادئ التي تحكم كل حركة فيزيائية سواء على الأرض أو في الأفلاك، وينظر هيوم إلى الطبيعة البشرية على أنها في النهاية طبيعة، يمكن دراستها والوصول فيها إلى المبادئ الأساسية الحاكمة لها تماماً مثلما أمكن لنيوتن أن يتوصل إلى مبادئ الطبيعة الفيزيائية ولأن العلم النيوتوني هو في الأساس علم للحركة، فقد نظر هيوم أيضاً إلى علم الطبيعة البشرية على أنه علم للحركة، لكنها الحركة النفسية لا الحركة الفيزيائية، وبذلك انطلق من المبادئ الأساسية التي تحرك النفس الإنسانية مثل الانفعالات والأحاسيس، والمشاعر، مؤسساً عليها نظريته في المعرفة وفي الأخلاق.

لكن هيوم الذي بدأ بالاعتقاد في أن علم الطبيعة البشرية يجب أن يكون علماً لحركة النفس، وذلك في “بحث في الطبيعة البشرية” انتهى في مؤلفاته اللاحقة إلى النظر إلى ذلك العلم على أنه علم وظائف لا علم حركة، ذلك لأنه اكتشف أن حركة النفس صادرة عن وظائف للنفس. ولذلك فهو لم يطبق نموذج العلم النيوتوني بحذافيره، لأن المنهج التجريبي عند تطبيقه على الموضوعات الأخلاقية لن يكون بحثاً عن الحركة مثلما هو الحال مع الفيزياء. بل سيصبح بحثاً عن الوظيفة. وهذا هو بالضبط ما يميز هيوم عن توماس هوبز مثلاً، وهو أيضاً السبب الذي جعل هيوم يتوصل إلى أن أفعال النفس صادرة عن ملكات معرفية وأخلاقية، وتحدث بتوسع عن الإدراك الحس والمخيلة والفهم باعتبارها ملكات معرفية.

إن سبب إعجاب هيوم بالعلم الطبيعي النيوتوني هو أن هذا العلم قد نجح في تفسير حركة الأجسام الأرضية والسماوية بقليل من المبادئ العامة والكلية، وهذا ما جعله يحاول دراسة الطبيعة الإنسانية بنفس الأسلوب الذي درس به نيوتن الطبيعة الفيزيائية، هادفاً التوصل إلى أهم القوانين والمبادئ التي تحكم الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني، الأخلاقي والمعرفي والسياسي والاقتصادي. وكان هيوم ينظر إلى المنهج التجريبي على أنه هو المنهج العلمي، وأن الدراسة العلمية للطبيعة البشرية هي دراسة من منطلق المنهج التجريبي.
ومن متطلبات المنهج التجريبي رفض الانطلاق من أي تصورات قبلية مسبقة عن الطبيعة الإنسانية، بل ترك البحث يأخذ مجراه الطبيعي ملاحظاً سلوك الإنسان تاركاً التأملات القبلية في الطبيعة الإنسانية، مثل الافتراض بأنها طبيعة خيرة أو طبيعة شريرة، مثلما كان يفعل الفلاسفة القدماء، ولا يمكن أيضاً الانطلاق من ملاحظة سلوك الباحث نفسه والتأمل في ذاته على طريقة ديكارت. ذلك لأن هيوم يرفض التأمل الباطني باعتباره وسيلة يتوصل بها إلى الطبيعة الإنسانية. هذه الطريقة استخدمها ديكارت، وتوصل بها إلى أن الإنسان ذو طبيعة مفكرة في الأساس ويوجد باعتباره شيئاً مفكراً، وما الجسد الإنساني سوى ملحقاً بالعقل. وقد توصل ديكارت إلى هذه النتيجة الخاطئة من وجهة نظر هيوم لأنه اعتمد على التأمل وحده وعلى الحدس الداخلي الذي أثبت به وجود الأنا أفكر ووجود الإله والعالم، وعندما يعكف المفكر على تأمل فكرة ذاته وحسب يدرك خطأ ً أنه وجود مفكر وحسب. وفي مقابل ديكارت يرفض هيوم طريقة التأمل الداخلي هذه ويشرع في بحث سلوك الناس وما يكشف لنا هذا السلوك من انفعالات وعواطف. وفي ذلك يقول هيوم

.
وتقترب طريقة تفكير هيوم من نيوتن ومنهجه في جانب أساسي من فلسفته، وهو المتعلق بالمعرفة. ذلك لأن نيوتن قد درس الطبيعة على أنها مكونة من ذرات بسيطة ومن حركة عامة هي الجاذبية. وهيوم كذلك يدرس الطبيعة البشرية من منطلق أنها مكونة من إدراكات بسيطة يصنع منها الفهم إدراكات مركبة، كما يدرس هذه الإدراكات على أساس الترابط بينها في الذهن، وهو ما يعرف بنظرية ترابط الأفكار. وترابط الأفكار هذا ينظر إليه هيوم على أنه شبيه بالتجاذب بين الأجسام في مجال الفيزياء النيوتونية. يقول هيوم في ذلك “هذه هي إذن مبادئ اتحاد وتجانس أفكارنا البسيطة، والتي تقدم لنا في المخيلة رابطاً لا ينفصل، بها تتحدد في الذاكرة. ونجد هنا نوعاً من الجذب، الذي سوف نكتشف أن له آثاراً كبيرة في العالم العقلي مثلما كان له في العالم الطبيعي”.

يُشِّبه هيوم في هذا النص ترابط الأفكار وفق مبدأ عام بالاتحاد والتفاعل بين الأجسام الفيزيائية وفق مبدأ الجاذبية، وهو يستعير نفس مصطلح “الجاذبية” ليصف ما يحدث بين الأفكار في المخيلة والذاكرة، وهو ذاته المصطلح الذي يصف حركة الأجسام في الفيزياء النيوتونية.
ينطلق هيوم في بحثه في الطبيعة البشرية من فكرة أساسية، لم يتوصل إليها ببرهان عقلي أو استدلال، بل عن طريق ملاحظة سلوك البشر. تذهب هذه الفكرة إلى أن ما يحكم السلوك الإنساني، سواء كان معرفياً أو أخلاقياً أو فنياً، هو الإحساسات. فلأننا نتلقى إحساساً باللون الأحمر نعتقد في وجود هذا اللون، ولأننا نتلقى أحاسيس اللذة والألم تكون لدينا أفكاراً عن اللذة والألم، ونسعى بذلك للحصول على اللذة وتجنب الألم. والطبيعة الإنسانية مؤسسة بحيث تجعلنا نستحسن أشياء ونرفض أشياء أخرى، ويعني هذا أن قبول أو رفض شئ ما سواء كان صحيحاً أو خاطئاً، جميلاً أو قبيحاً، خيراً أو شريراً، لا يعتمد على قرار نتخذه عن طريق الموازنة العقلية والاستدلال والبرهان، بل يعتمد على طبيعتنا البشرية التي هي في الأساس إحساسات ومشاعر. أما العقل فلا يحتل دوراً في هذه المجالات، ويقتصر دوره على المجال العلمي وحده. والهدف الأساسي لدى هيوم هو اكتشاف الإمكانات والتوجهات الكامنة في الطبيعة البشرية التي تجعلها تسلك سلوكها المعروف عنها. وأهم توجهات الطبيعة الإنسانية التي تتحكم في سلوك الإنسان ومعرفته ومعتقداته هي الانفعالات. ويعلي هيوم من شأنها حتى أنه يعطيها الأولوية على العقل ذاته، ويجعل العقل نفسه خاضعاً لها. ويقول في ذلك “العقل عبد للانفعالات، ولا يمكنه أن يفعل أي شئ سوى أن يخدمها ويطيعها”.
والحقيقة أن هذه النظرة للطبيعة الإنسانية والتي تعطي الأولوية للانفعالات على العقل مناقضة تماماً للنظرة التقليدية للإنسان والتي سادت التفكير الفلسفي منذ أرسطو الذاهبة إلى أن الإنسان كائن عقلاني في الأساس، والتي تُعِّرفه على أنه حيوان ناطق، وتميزه عن باقي الكائنات الحية بما لديه من عقل وقدرة على التفكير. لكن هيوم يقف ضد هذا الميراث الطويل ويقر بأن الانفعالات والأحاسيس والعواطف هي ما يشكل الطبيعة الإنسانية. وقد كان مبرره في ذلك قوياً، لأن الإنسان يسلك في حياته اليومية حسب نفس الصفات التي حددها هيوم للطبيعة البشرية، بالإضافة إلى أن استخدام العقل والتفكير العقلاني مقصور على الممارسة العلمية. إذا أردنا البحث عن الدوافع الأولى والأساسية للسلوك البشري فيجب علينا الانتهاء حتماً إلى الانفعال والإحساس والعاطفة لأن العقل لا يمكن أن يشكل دافعاً للسلوك. فحسب فلسفة هيوم فإن العقل الإنساني ليس سوى ملكة منظمة لما يتلقاه الإدراك من انطباعات على المستوى المعرفي، أو ما تتلقاه النفس الإنسانية من لذة وألم. هذا الدور التنظيمي المحدود للعقل يجعل للانفعال الأولوية القصوى لدى هيوم، فلا يمكن للشئ الذي يقتصر دوره على التنظيم أن يكون موجهاً، أو دافعاً للسلوك، بل إن العقل نفسه لدى هيوم يعد ملكة في خدمة الانفعال، حيث تضفي شيئاً من العقلانية والتبرير العقلاني المنطقي لدوافع وتوجهات ليس لها أدنى علاقة بالعقل بل تنتمي كلها إلى الانفعال. ويصر هيوم على أن العقل ليس له أي دور في حياة البشر وسلوكهم. كما أن دوره منعدم في مجال الاعتقاد، ولا يمكن للبشر أن يسلكوا ويستمروا في الحياة بدون اعتقاد وعلى أساس العقل وحده لا يمكن الوصول إلى أي اعتقاد، وإذا كان البشر يسلكون وفقاً للعقل لتوقفوا عن الإيمان بأي اعتقاد لكن هذا غير صحيح بالمرة، فالبشر يمارسون الاعتقاد كل يوم وفي كل وقت، وهذا أكبر دليل على أن العقل لا يشكل أى دور في حياتهم.

كتاب بحث في الطبيعة الإنسانية

يتكون كتاب “بحث في الطبيعة الإنسانية من ثلاثة كتب، الأول عن الفهم، وفيه يتناول هيوم الأفكار من حيث أصلها وأجزاءها وما يجري عليها من تجريد وما يحدث بينها من علاقات، بالإضافة إلى أفكار الزمان والمكان والسببية والاعتقاد والاحتمال. والكتاب الثاني عن الانفعالات، وفيه يتناول هيوم الكبرياء والتواضع، والحب والكره، والإرادة. والكتاب الثالث عن الأخلاق، وفيه يتناول الفضيلة والرذيلة، والعدالة والظلم، والخير والإحسان. والكتاب بهذه الصورة يحتوي على نظرية في المعرفة في الكتاب الأول، وسيكولوجيا للانفعالات في الكتاب الثاني، ونظرية أخلاقية في الكتاب الثالث. لكن سبق أن قلنا أن أساس نظرية هيوم في الطبيعة البشرية هو النظرة إلى الكائن البشري من منطلق الانفعال لا العقل، ولذلك فإن البداية الحقيقية لنظرية هيوم هي في الكتاب الثاني حول الانفعالات لا الكتاب الأول حول الفهم والمعرفة. وهذا ما جعل أبرز الباحثين في فلسفة هيوم وهو نورمان كيمب سميث إلى الذهاب إلى أن الكتاب الثاني هو البداية الحقيقية لفلسفة هيوم، وما الكتاب الأول حول الفهم والمعرفة سوى تطبيق لنظرية حول الانفعالات لم يقدمها هيوم إلا في الكتاب الثاني. وقد ذهب كيمب سميث إلى أن بداية هيوم بالمعرفة كانت خاطئة، إذ كان عليه أن يبدأ بالانفعالات منطلقاً منها إلى المعرفة والأخلاق لا العكس، وأن هذه البداية الخاطئة أدت إلى سوء فهم لفلسفة هيوم، إذ أدت إلى اشتهار هيوم بأنه فيلسوف الشك، وإلى النظر إلى الفهم الإنساني على أنه يشكل أساس الانفعالات والأخلاق وهذا غير صحيح.

فلم يتبنى هيوم نظرة شكية في الفلسفة من منطلقات ابستمولوجية بل من المنطلق السيكولوجي الذي وضعه في الكتاب الثاني حول الانفعالات، ما الشكية الابستمولوجية عنده والتي تنصب حول السببية والاعتقاد وأفكار الجوهر والعلاقة سوى توسيع لنظرته الشكية حول الانفعالات. وهذا ما جعل سميث يعيد ترتيب أفكار هيوم ويبدأ بالانفعالات منتقلاً منها إلى الأخلاق وأخيراً إلى المعرفة.
هيوم قبل أن يعرض للانفعالات كان عليه أن يتعامل مع عناصر الإدراك الحسي البسيط، ومع الكيفية التي يفهم بها العقل الأشياء، فتلقي الانطباعات الحسية من الخبرة التجريبية له الأولوية على تكوين النفس للانفعالات. ويبدو أن هيوم كان مدركاً أن البحث في الطبيعة البشرية، حتى ولو كان أساسها انفعالي، يجب أن يبدأ بالقدرة على تلقي الانطباعات الحسية وتكوين الأفكار وإقامة الصلات بينها، فهذا هو أول مستوى يكشف عن تعامل الطبيعة الإنسانية مع الخبرة.

الانطباعات والأفكار

لا يطلق هيوم على موضوعات العقل مصطلح “الأفكار” كما فعل لوك، بل يطلق عليها “إدراكات”، وهو يقسم هذه الإدراكات إلى نوعين: الانطباعات والأفكار. ويميز هيوم بين الموضوعات التي تدخل العقل على أساس تمييزه بين الإحساس والخبرة من جهة والتفكير والاستدلال من جهة أخرى، ذلك لأنه كي يتمكن العقل من التفكير والاستدلال فيجب أن يكون حاصلاً في البداية على انطباعات تأتي من الإحساس والإدراك الحسي. وفي حين أطلق لوك مصطلح “الأفكار” على كل عناصر العقل سواء كانت حسية أو عقلية، مجردة أو انفعالية، فإن هيوم يضع في البداية “الإدراكات” ويقسمها بعد ذلك إلى انطباعات حسية وأفكار، محتفظاً في هذا التقسيم بالمعنى الأصلي للأفكار والذي يدل على الجانب العقلي المجرد من عناصر التفكير.
ويميز هيوم بين الانطباعات والأفكار على النحو التالي

إن الفرق بينهما يتمثل في درجة القوة والحيوية التي تؤثر بها على العقل وتدخل عن طريقها في التفكير والوعي. فتلك الإدراكات التي تدخل بكل قوة وعنف يمكن أن نسميها الانطباعات، وتحت هذه التسمية أفهم كل إحساساتنا وانفعالاتنا وعواطفنا كما تظهر لأل مرة في النفس. وأعني بالأفكار الصور الخافتة لهذه في التفكير والاستدلال، مثل تلك التي تظهر في هذا البحث.

ومعنى هذا أن الفرق بين الانطباعات والأفكار هو فرق في الدرجة لا في الطبيعة، والاثنان عنده من نوع واحد، إذ هما معاً إدراكات. وإذا كانت الانطباعات حسية فالأفكار أيضاً حسية، وكل الفرق بينهما أن الانطباعات إدراكات تنطبع على الإدراك الحسي، والأفكار إدراكات تنطبع على العقل. وما ينطبع على الإدراك الحسي يكون قوياً وعنيفاً، وما ينطبع على العقول يكون خافتاً ضعيفاً. والإدراك المنطبع على الإدراك الحسي هو تأثر مباشر للحواس بالأشياء وبالخبرة التجريبية، أما الإدراك المنطبع على العقل فهو مجرد صورة خافتة للأشياء والخبرة. وإذا كان الإدراك الحسي يتلقى تأثيرات قوية من الخارج فإن العقل لا يتلقى إلا صوراً، بمعنى أنه لا يتلقى الانطباع الحسي نفسه بل يتلقى صورة ذهنية عنه.
ولأن هدف هيوم الأساسي سواء في الكتاب الأول من “بحث في الطبيعة البشرية” أو في كتابه الآخر في المعرفة وهو “بحث في الفهم الإنساني” الكشف عن الطريقة التي يفكر بها الإنسان والتي تتحدد وفق طبيعته، ولأن هذه الطبيعة لدى هيوم طبيعة انفعالية في الأساس، فلقد ذهب إلى أن التفكير غير ممكن إلا بحضور إدراكات في الذهن، وهذه الإدراكات إما أن تكون انطباعات أو أفكار. ولأن الأفكار ذاتها ليست سوى صور عقلية لانطباعات حسية فمعنى هذا أن كل تفكير بالنسبة لهيوم ينطوي على استقبال لانطباعات، وبذلك يعطي الأولوية للإدراك الحسي في المعرفة. ويمكننا النظر إلى هذه النظرية على أنها سيكولوجية أو تكوينية. فهي سيكولوجية لأنها ترد ا لمعرفة إلى تأثر الحواس بالأشياء في صورة انطباعات وأفكار، وهي تكوينية لأنها تتبع عملية المعرفة إلى أبسط مكوناتها أو مدخلاتها الأولى من الإحساسات. كما أنها في نفس الوقت تطورية، ذلك لأن النظر إلى المعرفة على أنها تبدأ بمرحلة الإحساس، ثم الإدراك الحسي الذي يتلقى الانطباعات ثم الذهن الذي تنطبع فيه الإحساسات في شكل صور ذهنية، ثم صنع الذهن من هذه الصور الذهنية لأفكار ثم لعلاقات، يعد نظرية تطورية في المعرفة، شبيهة بعلم النفس المعرفي التطوري عند جان بياجيه. ولقد سبق أن لاحظنا أن هذا التشابه مع بياجيه ينسحب على نظرية المعرفة عند لوك. ولذلك ينظر إلى لوك وهيوم على أنهما من إرهاصات علم النفس المعرفي الحديث، ومن الممهدين لبياجيه. والذي يجعل نظرية هيوم في المعرفة نظرية سيكولوجية أنها تركز على عملية التفكير باعتبارها عملية وظيفية إجرائية، حتى أنه يميل إلى النظر إلى الانفعال المعرفي للذهن البشري على أنه يرجع إلى ملكات ذهنية، إذ يذهب في سياق شرحه لنظريته في المعرفة إلى النظر إلى الإحساسات والربط بينها على أنها وظيفة لملكة الذاكرة والمخيلة على التوالي، والنظر إلى وظيفة الربط بين الانطباعات والأفكار على أنها وظيفة لملكة الفهم. هذا التأكيد على الملكات المعرفية باعتبارها قائمة بوظائف هو الذي يميز نظرية هيوم عن نظرية لوك، وهو أيضاً الذي جعل هيوم هو المؤثر الأكبر على كانط الذي سوف تكتمل على يديه نظرية المعرفة باعتبارها نظرية في وظائف وملكات الذهن البشري.

ويضيف هيوم إلى نظريته حول العلاقة بين الانطباعات والأفكار توضيحاً ضرورياً، يقول فيه أنه مثلما أن الأفكار صور للانطباعات، فيمكننا أن نكوِّن أفكاراً ثانوية تكون صوراً للأفكار الأولية. فاللون الأحمر الذي أفكر فيه هو صورة ذهنية لإدراكي الحسي لهذا اللون، وهذه الصورة الذهنية هي فكرة أولية، تؤدي إلى تكوين لفكرة ثانوية تكون صورة ذهنية من مستوى ثاني أكثر تجريداً عن فكرة اللون ذاتها. ويذهب هيوم إلى أن هذا التمييز بين فكرة أولية وفكرة ثانوية ليس استثناءً من نظريته حول أولوية الانطباعات على الأفكار بل هو تأكيد لها، ذلك لأن هذا التمييز يثبت إمكان أن تقوم الفكرة الأولية بدور انطباع من مستوى ثاني يؤدي إلى ظهور فكرة ثانوية. ومعنى هذا أن ما يسميه هيوم بالانطباع ينسحب على ما تستقبله الحواس من إدراكات، وأيضاً على ما يستقبله العقل من أفكار أولية.
ويميز هيوم بين نوعين من الانطباعات: انطباعات الإحساس وانطباعات التفكير أو الانعكاس. ويقول عن انطباعات الإحساس أنها “تنشأ في النفس أساساً، من أسباب غير معروفة”.
لكن كيف تكون أسباب انطباعات الإحساس غير معروفة؟ إن هذا التصريح من قبل هيوم يعد من أكثر أجزاء فلسفته غموضاً، وكان مصدراً لاعتراضات كثيرة من قبل دارسي فلسفته، ويمكننا تبرير فكرة هيوم هذه بمعرفة رأيه في النفس. كان الأحرى لهيوم أن يؤكد تأكيداً حاسماً على أن انطباعات الإحساس تتمتع بصحة ويقين مطلق مثلما ذهب لوك، إلا أنه لم يفعل ذلك واختلف عنه. وتعد هذه النقطة من أهم الجوانب التي اختلفت فيها تجريبية هيوم عن تجريبية لوك. إن هيوم في العبارة السابقة لا يتحدث عن وجود الانطباعات الحسية ذاتها، فهو لا يشك في وجودها أو في الموضوعات الحسية التي تؤثر على أعضاء الحس، بل يشك في كيفية الانطباع نفسه، في النفس الإنسانية، ذلك لأن عملية الانطباع في حد ذاتها تنطوي على موضوع مدرك حسياً ينطبع في النفس، وعلى النفس التي يظهر فيها الانطباع. لا يشك هيوم في وجود وحقيقة الموضوع المنطبع أو الانطباع ذاته، بل يشك في موضوع الانطباع وهو النفس، ذلك لأن النفس ذاتها لا تعرف بانطباع حسي بل بعملية استدلال عقلية مجردة. وما يعرف بانطباع حسي يكون ضرورياً، أما ما يعرف باستدلال وبرهان يكون احتمالياً. كيف إذن تُعرف الانطباعات الضرورية بشئ محتمل مثل النفس؟ وكيف يُعرف ما هو مباشر وغير متوسط عن طريق وسيط غير مباشر وغير واضح لدى الذات الإنسانية أثناء عملية الانطباع؟ كل هذه الصعوبات هي التي جعلت هيوم يضع العبارة السابقة التي يشك فيها في أسباب نشوء الانطباعات الحسية في النفس، ذلك لأن النفس لا تعرف مباشرة وبوضوح أثناء عملية الانطباع، وتأتي معرفتها بعد ذلك بممارسة التفكير في العمليات الذهنية التي تقوم بها. وكل ما نعرفه عن النفس هو تلك العمليات الذهنية، أما النفس ذاتها من حيث الجوهر فلا نعرفها، ذلك لأن هيوم لا يعتقد في أن النفس الإنسانية جوهر ثابت بعكس ما ذهب ديكارت ولايبنتز، وكل ما نعرفه عنها هو آثارها وأفعالها، وهي في حقيقتها ليست سوى هذه الأفعال، فهي وظيفة وليست جوهراً ومن أجل ذلك ذهب إلى أن سبب الانطباع لا يمكن معرفته بما أننا لا نعرف النفس معرفة حقيقية باعتبارها جوهراً. وإذا فكرنا في النفس على أنها ليست سوى مجموعة من الأفعال الذهنية فكأننا بذلك نردها إلى وظيفتها الحسية وحسب، أما جوهرها العقلي فلا يمكن معرفته. وإذا كانت النفس هي سبب نشوء الانطباعات فيها لكانت بذلك جوهراً، لكنها ليست جوهراً، بالتالي فسبب الانطباعات لا يمكن معرفته. أما انطباعات التفكير فيذهب هيوم إلى أنها ترجع إلى الأفكار. فعندما يؤثر انطباع ما على أعضاء الحس ويجعلنا ندرك الحرارة أو البرودة، العطش أو الجوع، اللذة أو الألم، فإن لهذا الانطباع نسخة أخرى يستقبلها العقل تبقى فيه بعد أن يختفي الانطباع، وهذه النسخة هي ما يسميها هيوم فكرة. هذه الفكرة عن اللذة والألم عندما ترجع إلى النفس، تنتج انطباعات جديدة بالرغبة والإحجام، أو الرجاء والخوف، وهي ما يطلق عليه هيوم انطباعات التفكير لأنها مستقاة من التفكير حول الانطباعات الأولية السابقة. ومعنى هذا أن انطباعات التفكير تسبق الأفكار، لكنها لا تعتمد على انطباعات الإحساس. وبذلك يمكننا ترتيب العملية الذهنية في الترتيب التالي: انطباعات الحواس ، وأفكار أولية، وانطباعات التفكير، وأفكار ثانوية، وأفكار مجردة (المكان والزمان والسببية والاعتقاد

المعرفة وحدودها عند الفيلسوف جون لوك

جون لوك (29 أغسطس 1632 – 28 أكتوبر 1704) (بالإنجليزية: John Locke)‏ هو فيلسوف تجريبي ومفكر سياسي إنجليزي. ولد في عام 1632 في رنجتون في إقليم سومرست وتعلم في مدرسة وستمنستر، ثم في كلية كنيسة المسيح في جامعة أوكسفورد، حيث انتخب طالباً مدى الحياة، لكن هذا اللقب سحب منه في عام 1684 بأمر من الملك. وبسبب كراهيته لعدم التسامح البيورتياني عند اللاهوتيين في هذه الكلية، لم ينخرط في سلك رجال الدين. وبدلاً من ذلك اخذ في دراسة الطب ومارس التجريب العلمي، حتى عرف باسم (دكتور لوك)

درس جون لوك في كرايست تشيرش

في أكسفورد وأصبح طبيباً ومستشاراً للايرال أوف شافتسبري. ثم تحّول إلى الفلسفة، فأنتج طوال فترة عملية غير قصيرة مؤلفاً قيِّماً في موضوع المشكلات التي يستطيع الفهم البشري التعاطي بها .
وقد تولى لوك عدداً من المناصب الحكومية، ولكنه فقد حظوته لما نُفي شافتسبري عام 1683م، ولكن الملك وليام الثالث من إنكلترا رحّب بعودته وعيّنه مستشاراً للحكومة في ميدان سكّ النقد.
في عام 1667 أصبح طبيباً خاصاً لأسرة أنتوني آشلي كوبر (1621-1683) الذي صار فيما بعد الإيرل الأول لشافتسبري، ووزيراً للعدل، ولعب دوراً خطيراً في الأحداث السياسية العظيمة التي وقعت في إنجلترا ما بين سنة 1660 وسنة 1680. لعبت علاقة لوك باللورد آشلي دوراً كبيراً في نظرياته السياسية الليبرالية. وكان اللورد آشلي يتمتع بنفوذ كبير في إنجلترا إذ كان يمثل المصالح السياسية لرؤوس الأموال التجارية في لندن، وتحت تأثير اللورد آشلي كتب لوك في (1689–1692) مقالاً خاصاً بالتسامح (On Toleration) راجع فيه أفكاره القديمة الخاصة بإمكانية تنظيم الدولة لكل شؤون الكنيسة.
اعتقد الكثيرون لمدة طويلة ان لوك كتب أشهر مقالتين سياسيتين نشرتا في عام 1690 بعنوان “مقالتان عن الحكومة” تأييداً لثورة 1688 الكبرى. وهناك وجهة نظر تقول إن المقالتين موجهتان ضد فيلمر وليس ضد هوبز كما كان يظن البعض. وهاجر لوك إلى هولندا عام 1683 بسبب ملاحقة الشرطة له، وذلك لاتصالاته الوثيقة باللورد آشلي، الذي كان معارضاً للقصر وبقي هناك حتى عام 1689، وفي هولندا كتب لوك عدة مقالات منها: مقال خاص بالفهم البشري

وبعض الأفكار عن التربية وأخرى عن التسامح. وعندما جاءت الثورة الكبرى، استطاع لوك العودة إلى إنجلترا. وقد رفضت الجامعات القديمة فلسفته الحسية وآراءَه الليبرالية. ومع ذلك فقد عاصر شهرته الكبرى التي انتشرت في أنحاء العالم. وتوفي عام 1704. كان لجون لوك دور كبير غير مباشر في الثورة الأمريكية إذ أن كتابه ((رسالتان في الحكم)) كان محط إعجاب الأمريكيين وكانت من ضمن آرائه في الكتاب أن الوظيفة العليا للدولة هي حماية الثروة والحرية ويجب على الشعب تغيير الحكومة أو تبديلها في حالة عدم حفظها لحقوق الشعب وحريته، وقد ساهمت آرائه في زيادة وعي الأمريكيين الذين اعتنقوا آرائه وقرروا تنفيذها.ومن أشهر عباراته الفلسفية”الأفكار الجديدة هي موضع شك دائماً…. وتتم مقاومتها غالباً… لسبب أنها لم تصبح شائعة بعد”

فلسفة جون هوك

•••••••••□□□□□□□□□□□□□□□□

لقد كان لوك فيلسوفا تجريبيا حسيا ومن أكبر أعمال لوك مقال عن الفهم الإنساني الذي يشرح فيه نظريته حول الوظائف التي يؤديها العقل (الذهن) عند التعرف على العالم. اشتهر جون لوك زعيم الحسيين بعبارته المشهورة:”إذا سألك سائل:متى بدأت تفكر؟ فيجب أن تكون الإجابة:عندما بدأت أحس”.لقد سلم لوك بعجز العقل البشري وقصوره عن معالجة ما يتجاوز حدوده وإمكانياته وقد وضح ذلك في معظم كتبه ولا سيما كتابه (مقال في الفهم الإنساني) وكتابه (عن العقل البشري)وخلاصتهما أن العقيدة السائدة قبل لوك هي أن العقل البشري يشتمل على بعض الأفكار الفطرية الموروثة منذ الولادة دون أن يكتسبها العقل من التجارب التي تمر به أثناء الحياة ولقد بلغ من رسوخ هذا المذهب في نفوس أنه لم يكن يستهدف حتى لمجرد البحث والجدل.وكان ديكارت من أشد المدافعيين عن صحته وتبوته، أما لوك فيقابل هذا التسليم الأعمى بوجود الآراء الفطرية بأشد الإنكار.ويقول في ذلك “انها ((أي الأفكار الفطرية))ليست مطبوعة على العقل بطبيعتها، لأنها ليست معرفة بالنسبة للأطفال والبلهاء وغيرهم.
ظهرت فلسفة لوك في عصر الحرب الأهلية الإنجليزية، بين الملك والبرلمان، وكان الملك يمثل الطبقة الأرستقراطية التي كانت تهدف المحافظة على مكتسباتها الوراثية ووضعها المتميز داخل المجتمع والدولة، والبرلمان يمثل البرجوازية الصاعدة، أى طبقة التجار ورجال المال والأعمال والصناعة. انتهت هذه الحرب بانتصار البرلمان، وبتقييد سلطات الملك حتى أصبح يملك وحسب ولا يحكم. وقد اتصف ذلك العصر بالاضطراب والفوضى في كل النواحى الاجتماعية والثقافية والسياسية، وما يميز كل مرحلة انتقالية بين نظام قديم ونظام جديد. أراد لوك أن يحافظ على ثبات واستقرار المجتمع الإنجليزي، وأراد كذلك المحافظة على النتائج التي أسفرت عنها الثورة، أى الجمع بين النظام الملكي والنظام البرلماني في نفس الوقت(3 )، والمحافظة على التوازن بينهما، وبالتالى التوازن بين الأرستقراطية والبورجوازية. ولذلك اشتهر لوك بنظريته السياسية التي تجمع في نفس الوقت بين حق الملكية الذي يحافظ على الحقوق المتوارثة للأرستقراطية والحقوق المكتسبة حديثاً للبورجوازية، وبين مفهوم الحكومة المدنية التي تعتمد على توازن القوى وتوزيع السلطات. والحق أن هذا كان مفهوم الإنجليز عن الاستقرار، فهو توازن ومحافظة على أملاك كل الطبقات. ومن الناحية الفكرية أراد لوك مواجهة الحماس الزائد الذي يصل إلى حد التهور والملازم لصعود أى طبقة جديدة. وكان يمكن أن تؤدى مواجهة البرجوازية للسلطات الكهنوتية للكنيسة أن تعصف بالدين، ولذلك أراد لوك أن يحافظ على الإيمان وفي نفس الوقت يعبر عن نظرة البورجوازية الفكرية والمتمثلة في اعتماد العقل حكماً في كل شئون الحياة والخبرة التجريبية التي وضعها أساساً لفلسفته. وكان يمكن لتجريبية لوك أن تذهب به إلى حد الإطاحة بالأديان من جراء عداء كل مذهب تجريبى للأفكار المسبقة واعتماده على الخبرة التجريبية التي تكبح جماح العاطفة، وأولها العاطفة الإيمانية ؛ لكن تتميز تجريبية لوك بأنها جمعت بين عمل العقل والتجربة من جهة، وعلى الإيمان والوحي من جهة أخرى. وهذا هو جوهر الفرق بينه وبين هيوم، الذي سار على المنهج التجريبى إلى نهاياته المنطقية حيث وضع الإيمان والوحي والمعجزات تحت محكمة العقل ورفض الميتافيزيقا وقيد من سعى العقل المستمر نحو تجاوز الخبرة التجريبية في اتجاه المثاليات. وهكذا ظهرت فلسفة لوك على أنها تضع للعقل حدوداً مزدوجة، من الخبرة التجريبية ومن الإيمان والوحى. ومذهب لوك تجريبى لا لأنه يرفض العقل، إذ هو يضع للعقل مكاناً مركزياً في المعرفة، بل لأنه يقيد العقل بالتجربة، وذلك عكس فلاسفة التيار العقلانى: ديكارت ولايبنتز وسبينوزا، الذي تحرر العقل عندهم من أي تجربة ووصل إلى المثالية. والحقيقة أن لوك عندما يضع الخبرة التجريبية باعتبارها المصدر الأساسى للمعرفة والضابط الأول للعقل فإنما يعبر بذلك عن الخبرة العملية للبرجوازية، ذلك لأن هذه الطبقة هي طبقة رجال التجارة والمال والأعمال والصناعة، الطبقة التي صنعت نفسها وثروتها بالانشغال في العمليات الاقتصادية الجزئية واليومية، وهي كلها عمليات تنظر إلى العمل وإنتاج هذا العمل على أنه دعامتها الأساسية. إن الخبرة التجريبية في فلسفة لوك هي التعبير الفلسفى والإبستمولوجى عن الخبرة العملية للبورجوازية، ورفضه للأفكار الفطرية تعبير عن رفضه الاجتماعى والاقتصادى لكل حق موروث لم يأت نتيجة للعمل وبذل الجهد والانغماس في تفاصيل الحياة اليومية. ولذلك نرى أن وراء نظرية لوك في المعرفة، ووراء عناصر فلسفته، يكمن موقف اجتماعى معين يعبر عن طبقة صاعدة، البورجوازية، في مواجهة طبقة أخرى ذات حقوق موروثة، أو فطرية، وهي الأرستقراطية، وهذا هو مغزى تجريبيته ورفضه للأفكار الفطرية.

مراتب المعرفة وحدودهاعدل

يذهب لوك إلى أن العقل البشرى يستطيع الوصول إلى الصدق والحقيقة في معارفه، ولذلك فهو يرفض وجهة النظر الشكية رفضاً تاماً. والحقيقة أن مذهبه التجريبى كان يمكن أن يؤدى به إلى نزعة شكية، مثلما هو الحال عند هيوم، وذلك من منطلق أن كل معرفة تأخذ نقطة انطلاقها من الحواس والإدراكات الحسية معرضة للشك. لكن نفس المنطلق التجريبى الذي أدى ببعض المذاهب الفلسفية إلى الشك مثل مذاهب الشك اليونانية كمذهب زينون الإيلى والمذهب الشكى الحديث لدى هيوم، يؤدى لدى لوك إلى القطع بيقين وصحة المعرفة الإنسانية. وتنقسم المعرفة عند لوك حسب طبيعتها ودرجة اليقين فيها إلى معرفة حدسية intuitionist ومعرفة استدلالية demonstrative( 44). والمعرفة الحدسية عنده أكثر يقينية وصدقاً من المعرفة الاستدلالية. وهذا الرأى غريب بعض الشئ، ذلك لأن لوك يرفض فيه أن تكون المعرفة القائمة على مبادئ عقلية مجردة تستخدمها في براهين للوصول إلى الصدق ذات أولوية أو أفضلية على المعرفة الحدسية، ذلك لأنه يرفض نظرية الأفكار الفطرية منذ البداية، ويرفض فكرة أن يكون لدى العقل البشرى مبادئ قبلية يتوصل بها إلى حقائق بالاستدلال والبرهان. ولذلك لا ينتمى لوك إلى فئة الفلاسفة العقليين الذين يعطون الأولوية للمعرفة الاستدلالية من مبادئ عقلية، وينضم إلى فئة التجريبيين. ويبدو لأول وهلة أن إعطاء لوك الأولوية للمعرفة الحدسية متناقض مع مذهبه التجريبى، ذلك لأن رده كل المعرفة البشرية إلى الخبرة التجريبية يجعل قوله بأولوية المعرفة الحدسية متناقضاً، وهو تناقض ينشأ عن الاعتقاد في أن الحدس الذي يقصده لوك هو فعل روحى خالص متحرر من أى خبرة تجريبية. لكن مفهوم لوك عن الحدس مختلف تماماً عن أى معنى عقلى أو مثالى للحدس، فالحدس عنده تجريبى تماماً؛ إذ هو قوة في الذهن يستطيع بها إدراك الحقيقة تماماً كما تدرك الحواس الأشياء( 45)، ولذلك فهو في نفس مرتبة الإدراك الحسى. وإذا كان الإدراك الحسى هو الفعل الذي تقوم به الحواس، فإن الحدس هو الفعل الذي يقوم به العقل، وهذا الحدس هو نوع من الإدراك الحسى الخاص بالعقل. وعلى الرغم من أن هذا الحدس غير حسى، إلا أنه مثل الرؤية الحسية تماماً، فهو مباشر وغير متوسط، وفيه لا ينشغل العقل بإثبات أو فحص أى شئ برهانياً، بل يدرك الحقيقة مثلما تتلقى العين الضوء بمجرد أن تتوجه إليه. وما يجعل لوك يعطى الأولوية للحدس أن كل برهان أو استدلال في الدرجة الثانية من المعرفة وهي المعرفة الاستدلالية تعتمد على حدس مباشر وواضح، إذ تبدأ بهذا الحدس صانعة منه كل العلاقات والارتباطات بين الأفكار. ويرفض لوك أن تكون المعرفة سائرة في طريقها بالطريقة المنطقية، ذلك لأن شكل القياس المكون من البدء بمقدمات والوصول منها إلى نتائج تلزم عنها ليس هو طريقة التفكير التي يتبعها العقل في معرفته، بل هو مجرد تحليل منطقى للمعرفة الإنسانية ولا يبين لنا كيفية التفكير. ولا يقلل لوك من شأن المنطق أو البرهان الرياضى، لكنه يعتبرهما أسلوباً تحليلياً يأتى لتحليل ما تحصل عليه العقل من معرفة بعد عملية تفكير لا تسير هي ذاتها بهذه الطريقة، بل تسير على طريقة الحدس المباشر. والحدس عند لوك ليس حدساً بالماهيات والكليات والمبادئ الأولى والحقائق الثابتة مثل الحدس عند ديكارت وغيره من العقليين، بل هو حدس من طابع حسى تماماً، ذلك لأنه يتمثل في إدراك عقلى مباشر للعلاقة بين الأفكار التي ترجع إلى الإدراك الحسى

ومعنى هذا أن الحدس الذي يقصده لوك هو حدس بالعلاقة بين الإدراكات الحسية. صحيح أن ملكة الإدراك الحسى لا تحتوى على حدس بالعلاقات بين الإدراكات لأنها مجرد ملكة متلقية للاحساسات، إلا أن هناك ملكة أخرى هي الفهم الإنسانى والتي تدرك العلاقات عن طريق حدس حسى. والمعرفة عند لوك ليست سوى إدراك للعلاقات بين الأفكار، واتفاقها أو اختلافها عن بعضها البعض. وهو يذهب إلى أن كون العقل يحتوى على أفكار لا يعنى أنه يحتوى على معرفة، ذلك لأنه طالما لم يربط العقل بينها ويعرف العلاقات التي تربطها واختلافها أو اتفاقها مع بعضها فهذا معناه أنه ليست لديه معرفة

. وبذلك تكون حصيلة العقل من الأفكار أكبر من حصيلته من المعرفة، فالأخيرة محدودة للغاية بالنسبة لحصيلة الأفكار. والصدق عند لوك هو اتفاق أفكار العقل عن الإدراكات الحسية، واتفاقها فيما بينها، بحيث تكون الفكرة الصادقة هي المتفقة مع الإدراك الحسى أولاً، وهذا هو التفسير التجريبى لقانون الهوية، وهي المتفقة مع ذاتها دون أن تتناقض مع أفكار العقل الأخرى، وهذا هو التفسير التجريبى لقانون عدم التناقض. والمعرفة عند لوك محدودة واحتمالية. فهى محدودة لأنها لا تستطيع أن تتجاوز مجال الخبرة التجريبية ومقيدة بها، واحتمالية لأن العلاقات التي يقيمها العقل بين الأفكار ليس شرطاً فيها أن تكون حاضرة للخبرة التجريبية، ذلك لأن علم مثل الهندسة يتوصل إلى قوانين لا يشاهدها مباشرة في إدراك حسى بل هي مجرد علاقات بين الأفكار المكانية الرياضية، وكل ما يتوصل إليه العقل من علاقات بين الأفكار احتمالى وليس يقينياً تماماً( 49). والغريب أن يأتى لوك بهذا الرأى الذي يرفض أن يلحق بالرياضيات اليقين التام، بعكس كل الفلاسفة من قبله والذين نظروا إلى الرياضيات على أنها تتمتع بأقصى درجات اليقين، ويرجع السبب في ذلك إلى أن اليقين عند لوك يجب أن يكون مرتبطاً بإدراك حسى، وإذا لم يكن مرتبطاً به فهو احتمالى. فالرياضيات تتوصل إلى مفاهيم عن الأعداد المتناهية في الصغر والكسور والأعداد المتناهية في الكبر، وهذه المفاهيم احتمالية لأن مدلولاتها لا تخضع للخبرة التجريبية. ومصدر اليقين في الرياضيات لا يأتى من اتفاقها مع الخبرة، بل يأتى من منهجها البرهانى الدقيق الذي يعتمد على الحدس الحسى. ولأن الرياضيات تعتمد على الحدس الحسى فهى من هذه الناحية يقينية تماماً. والرياضيات تفكير حول العلاقات بين أفكارنا البسيطة حول الأجسام، وهي كلها علاقات مكانية. ونستطيع أن نتوصل في الرياضيات إلى نتائج يقينية على صلة حقيقية بالواقع نظراً لأن الرياضيات معتمدة حصرياً على أفكار بسيطة، لكن ليست كل نتائج الرياضيات واستنباطاتها مما يمكن أن ينطبق على الواقع الحسى المدرك، إذ تظل صحيحة باعتبارها وصفاً لعلاقات ضرورية بين أفكارنا، وليس شرطاً لازماً أن تكون العلاقات الرياضية موجودة في الواقع. وهكذا أدخل لوك تمييزاً في الرياضيات بين الطابع اليقينى والحتمى لنتائجها ونظرياتها والطابع الاحتمالى لتحقق نتائجها في الواقع. والغريب والمدهش حقاً أن يجد لوك قرابة بين طبيعة الرياضيات هذه والأخلاق، ذلك لأن علم الأخلاق عنده هو الآخر علم نظرى يعتمد حصرياً على أفكار بسيطة، ومن هنا طابعه التجريبى الواقعى، لكنه من جهة أخرى يقيم علاقات، في صورة معايير ومبادئ أخلاقية صحيحة في ذاتها لكن صحتها هذه لا تجعلها حتمية التحقق في الواقع. أما الوجود الحقيقى فلا يقصد به لوك الوجود الفعلى الواقعى مثل وجود الأشياء المادية، بل يقصد به الوجود الضرورى الذي تحتويه كل معرفة، وهو ثلاثة أنواع: وجود النفس، والإله، والعالم. وجود النفس نعرفه بالحدس، الذي هو عند لوك نوع من الإدراك العقلى أو الذهنى المباشر لا الإدراك الحسى، ذلك لأننا لا نجد النفس من بين أشياء العالم المادى بل نشعر بها فقط وتكون لدينا عنها فكرة بسيطة. أما معرفة الإله فهى معرفة برهانية استدلالية، إذ نعرف وجود الإله من ملاحظتنا للترتيب والنظام في الطبيعة متوصلين بذلك استدلالياً إلى ضرورة وجود كائن وضع هذا النظام والترتيب. أما وجود العالم فهو معرفة حسية، إذ نعرف وجوده بما نتلقاه من إحساسات بأشيائه المختلفة.

المصادر

رسالة في التسامح / جون لوك

مقال في الفهم البشري / جون لوك

فلسفة الجمال عند الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيغل1770-1831

فلسفة هيجل الميتافيزيقية

تعتبر فلسفة هيجل ذروة ما بلغته الفلسفة المثالية في ألمانيا، فهي أشمل من أطروحات أستاذه فتشه وزميله شلنج، رغم أنه استعان بأطروحاتهما، فقد كان مهتماً بأطروحاتهما الفلسفية ومطلعاً عليهما اطلاعا تاماً، حتى أن أول كتاب نشر له كان عنوانه “في الفرق ما بين نسق فيتشه ونسق شلنج في الفلسفة”…

لقد ولد هيجل في سنة 1770 م من أسرة تنتسب إلى الطبقة الوسطى، هاجرت عائلته من إقليم كرنيتا في النمسا لأسباب دينية واستقرت في إقليم اشفابن جنوبي ألمانيا، فقد لاقت عائلته اضطهاداً دينياً لأنها تنتمي إلى المذهب البروتستنتي. تلقى تعليماً عالياً في صغره، فأبوه كان موظفاً عالي الرتبة، درس هيجل اللاهوت والفلسفة في معهد توبنجن، ولكنه لم يمارس مهنة القسيس كما كان ينبغي، بل انتقل في سنة 1793 م إلى برن ومن ثم إلى فرانكفورت للعمل بوظيفة مربٍ لأبناء العائلات الثرية.

بعد ذلك، أنتقل إلى يينا في سنة 1801 للالتحاق بفتشه وشلنج، وكانت محطة مهمة في حياة هيجل الفلسفية، فقد دشن فلسفته فيها من خلال إلقاء محاضرات تعتبر لب فلسفته المعروفة في التاريخ وظاهريات الروح، وبدا نجم هيجل في تصاعد، وبعد بضعة سنين ذاع صيته في ألمانيا كلها وأصقاع أخرى من أوربا، وتجمّهر حوله التلاميذ والإتباع، وأضحت فلسفته تمثل مدرسةً فلسفيةً بعد أن بلغت شهرته أوّجها في مرحلة مقامه في “برلين” سنة 1818م، ولكن لم يطل به المقام، إذ مات في سنة 1831م بداء الكوليرا في ذات المدينة.

لعل أفضل تشبيه نستطيع أن نشبه به فلسفة هيجل هو الهيكل المشيّد البناء، والشاهق الطول، والمنسجم الأبعاد، فمذهبه هو عبارة عن نسق متكاملة، ولا مشاحة أن يهتم هيجل هذا الاهتمام ببناء فلسفة على هذا الأساس المتقن، إذ أن الفكر الذي لا يصاغ بهذه الصورة النسقيّة لا يعتبر فلسفة علمية لدى هيجل الذي يقول: “وما لم تشكل الفلسفة نسقاً فإنها لن تكون نتاجاً علمياً”.

مذهب هيجل هو عبارة عن ثالوث فلسفي، كل حلقة من هذا الثالوث ينقسم بدوره إلى ثالوث فرعي، وتنقسم هذه بدورها إلى حلقات فرعية أخرى، وهكذا تنقسم فلسفته في إطارها العام إلى ثلاث حلقات رئيسية هي: المنطق، وفلسفة الطبيعة، وفلسفة الروح، وتنسجم هذه التقسيمات والحلقات مع منطق فلسفة هيجل الجدلية.

المنطق في مذهب هيجل الفلسفي هو مقولة الفكرة في ذاتها (وهي القضية)، وفلسفة الطبيعة هي الفكرة في الآخر أي في تخارجها إلى الموضوعات (وهي النقيض)، والقسم الأخير من الثالوث الهيجلي هو الروح المطلق، إذ أنها (المركب) الذي يتكون من القضية ونقيضها، وتتجلى الروح المطلقة فيه عن نفسها في العالم عائدةً إلى ذاتها بعد أن فارقتها في مرحلة النقيضة. هذا ما يعرف بالديكالطيقي الهيجلي، وأضحى له شأناً عظيماً في فلسفة التاريخ، إذ صور التاريخ في صيرورة دينامية تسير على هدى هذا المنهج.

تنطلق فلسفة هيجل بدايةً من المنطق، لأنه هو ” علم الفكرة في وسطها الفكري الخالص “… أي أنه ” علم الفكر: بقوانينه وأشكاله المتميزة ” (موسوعة العلوم الفلسفية – ص 79) الذي يهتم بمقولات ونشاطات العقل من حيث أنه هو ذاته، وعلى هذا الأساس يؤكد هيجل على أنه لا ينبغي أن ” يُفهم على أنه يعني منهجاً أو صورة، بل على أنه يعني الشمول الذي يتطور ذاتياً لقوانينه، وأشكاله الخاصة، وهذه القوانين هي عمل الفكر نفسه، وليست مجرد واقعة حقيقية يكشفها، ولابدّ أن يخضع لها”

وطالما أن المنطق هو مقولة الفكرة في ذاتها، فإن الطبيعة هي الفكرة في الآخر، وهي تتلمس ذاتها في العالم الواقعي ، إذ أنها “تتتخارج من أجل أن تصل إلى إنتاج الحياة الواعية، ومن ثم إلى أن تدخل في نفسها وتستبطن في فكرة الإنسان” في النهج الديكالطيقي، الطبيعة هي المرحلة الثانية، وهي نقيضة القضية الأولى (الفكرة/العقل)، على أنه لا ينبغي أن ننظر لمفهوم الطبيعة هنا على أنها خروج عن الفضاء الفكري والروحي، فالطبيعة ليست إلا الفكرة، ولكنها في تخارجها عن ذاتها، ففلسفة هيجل لم تهتم بالمادة في الطبيعة، وإنما بفكرة الطبيعة، بخلاف العلوم التجريبية، وكان هيجل يحرصّ على أن لا يزاحم الفيلسوفُ العالِمَ الطبيعي في حقله المعرفي.

وفي فلسفة الروح، وهي المرحلة الأخيرة من الثالوث الهيجلي، نصل إلى مربط الفرس في فلسفة هيجل فيما يتعلق بمبحثنا هذا، لأن الروح المطلق تتمثل في الفن، وكذلك في الدين والفلسفة، وهذه هي ذات” فينومينولوجيا الروح التي يرينا فيها هيغل الوعي وهو يترقى رويداً رويداً من الإشكال الابتدائية للإحساس وصولاً إلى العلم، ثم المنطق حيث يتحدد التصور في ذاته، ثم فلسفة الطبيعة التي تشير إلى اللحظة التي يغدو فيها الروح غريباً عن نفسه، وأخيراً فلسفة الروح التي تبين عن عودة الروح إلى ذاتـه في القانون والأخلاق والدين والفلسفة، فالمذهب إذن ملحمة رحيبة للروح “تجربة” كما يقول هيغل نفسه”.

هذه الملحمة تشبه ملحمة الأوديسة، التي يغترب فيها الملك “عوليس” في رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر، ثم يعود بعد غياب طويل إلى وطنه وزوجه، فالفكرة في تخارجها عن ذاتها للطبيعة، تشعر بالاغتراب، والحنين إلى العودة إلى ذاتها تارة أخرى، ولكنها هذه المرة، لا تعود كفكرة في ذاتها كما في المرحلة الأولى، بل تعود محملة بعلوم عن الآخر، فتتحوّل روحاً مطلقاً، لأن الروح لا يمكن أن تستقل بإدراك ذاتها وحسب، ولكن لابد لكي تبلغ أوّجها أن تدرك الآخر، وعودة الفكرة إلى ذاتها حينئذٍ هو تجلّى للروح المطلق بكل جلالها وعظمتها، ولا غرو أن تكون هذه محط فلسفة هيجل كلها في فلسفة الحضارات الإنسانية من تاريخ وقانون وأخلاق وفن ودين.

وتنقسم فلسفة الروح إلى ثلاث حلقات فرعية تندرج – كما قلنا آنفاً – إلى الثالوث الرئيسي من فلسفة هيجل المطابق للمنهج الديكالطيقي. (1) الروح الذاتية مضمونها هو العقل البشري منظوراً إليه نظرة ذاتية على أنه عقل الذات الفردية. أما في (2) الروح الموضوعية، فهي تبدأ بالخروج من ذاتها إلى الآخر في الخارج، هو عالم الموضوع، ولكنه ليس بالعالم المادي، بل هو العالم الروحي (الفكري) – أي عالم المؤسسات والتنظيمات: القانون والأخلاق والدولة. ويتحد الذاتي مع الموضوعي فيشكلان (3) الروح المطلق التي تمثل الروح البشري في تجلياتها في الفن والدين والفلسفة، وهذه المراحل لا ينبغي أن تفهم على أنها مراحل زمنية، ولكنها بالأحرى منطقية، إذ تُستنبط كل حلقة من الأخرى استنباطاً منطقياً.

  • فلسفة هيجل في الجمال والفن

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

فلسفة الجمال والفن لدى هيجل مشتقة من فلسفته الميتافيزيقية، وفي مقدور من أطلع عليها – ولو لماماً – أن يتكهن بفلسفته في الجمال، هيجل يستهل فلسفة الجمال من خلال فلسفته في الروح المطلق التي تنشأ من التضاد ما بين المتناهي واللامتناهي، كمركب عن الفكرة في ذاتها والطبيعة في تخارجها – أي القضية ونقيضها، “فالروح يعقل التناهي بالذات بوصفه نفيه، فيدرك عن هذا السبيل اللامتناهي، وما حقيقة الروح المتناهي هذه سوى الروح المطلق، فالروح المطلق هي تلك الكلية هو الحقيقة العليا”

والجمال الفني هو موضوع للمتناهي، وهكذا يصبح جزءاً لا تجزأ من هذه الجدلية التي تحدث ما بين المتناهي واللامتناهي، ويتمخض عنها الروح المطلق.

وهناك رابطة أخرى ما بين الجمال الفني والروح المطلق، وهي رابطة الوعي بالحقيقة، فـ”أن الجمال بالنظر إلى أنه نمط معين لتظهير الحقيقة وتمثيلها، يعرض نفسه من كل جانب للفكر المفهومي، متى ما كان هذا الفكر يمتلك حقاً القدرة على صوغ المفاهيم”

، وجمال الفن من هنا يتلاقى مع الروح المطلق بحكم أنهما يشتركان في دائرة واحدة هي دائرة الوعي بالحقيقة…!

فمكانة الفن في النسق الهيجلي الفلسفي تقبع في مرحلة الروح المطلق من فلسفة الروح، وهي آخر عماد في ثالوثه الفلسفي كما سبق أن ذكرناها، ويشترك مع الفن في هذه المنزلة الفلسفة والدين، لأنهم جميعاً يمارسون فعلهم على موضوع المطلق والحقيقة العليا.

ماهيـة الفن

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

يعرّف هيجل الفن بأنه تجسد الفكرة (المضمون الروحي) في المادة أو الشكل، “وتكمن مهمة الفن في التوفيق بين هذين الجانبين: الفكرة وتمثيلها الحسي بتشكيل كلية حرة منهما”

مقدار تطابق الفكرة مع الشكل هو الذي يحقق درجة سمو الفن، ولكي يحقق هذا، لابد أن يشتمل على عدّة شروط: أولاً: لابدّ أن يكون المضمون الذي ينبغي تمثيله صالحاً للتمثيل فنياً، ثانياً: لا يجوز أن يشتمل مضمون الفن على شيء مجرد، وثالثاً: يجب أن يكون الشكل والصورة عيّنيين في الجوهر ويتلاقيان وينسجمان مع بعضهما البعض، وهذا التطابق هو ما يكوّن “المثال”… عليه، يؤكد هيجل بـ”أن الفكرة والتمثيل يتطابقان في الفن الأكثر رقياً على نحو موافق للحقيقة، بمعنى أن الشكل الذي يتجسد فيه الفكرة هو الشكل الحقيقي في ذاته، وأن الفكرة التي يعبر عنها تشكل بدورها التعبير عن حقيقة”

وتشكلُ “المثال” في الفن الراقي هو الذي يقصيه عن التلبس بمفاهيم أخرى قد يتلاقى مع بعض أوجهها، مثل الرغبة وما تنطوي عليها من اللذة والألم، وهما من دواعي المادة، فالفن لا يرتكز على “الرغبة” وإن تلاقى معه في اهتماماته بالحسي، إذ أن الرغبة تنحو إلى الأشياء في الطبيعة مدفوعةً بشهوتها للاستهلاك بخلاف الفن الذي لا يخضع لرسم الاستهلاك، وبتالي النزعة الفنية لدى البشر منزهة عن الحسية النفعية.

ولا يعني هذا – طبعاً – بأن الفني يلغي الحسي إلغاءً تاماً، أو أنه ينشد الفكر المحض أو الكلاني (إذ أن هذه هي مهمة الفلسفة)، بل هو يكتفي بتجلي الفكر بالظاهر الحسي، من هنا يخبرنا هيجل بأن الفن يحتل “منتصف الطريق بين الحسي المحض والفكر المحض، يمثل الحسي بالنسبة إلى الفن لا المادية المباشرة والمستقلة، مادية النبات والحجر والحياة العضوية على سبيل المثال، وإنما المثالية التي لا يجوز الخلط أصلاً بينها وبين مثالية الفكر المطلق”

… ولا يقصد هيجل بظاهر الحسي هو أن الفن لا يلامس الأعماق، ولكنه يقصد بأن الفكرة في الفن تتجلى في شكل حسي، ندركها بحواسنا، فالمنحوتة الفنية على سبيل المثال تعبر عن فكرة في صورة مجسمة، فالظاهر الحسي هو الشكل الفني.

لذا، الفن من منظور المظهر الذاتي عبارة عن نشاط روحي وحسي معاً، ليس آلياً كما هو الحال مع الأشياء في الطبيعة، ولا عملياً كما هي مع الأفكار الفلسفية، لذا “هذا النشاط لا يتعامل مع أفكار محضة أو مجردة، بل ينبغي أن يكون في آن واحد حسياً وروحياً”

. منتجات هذا النشاط لدى هيجل هي من إبداع التخيّل، فإن كان الفن مضمون روحي يتم التعبير عنه عن طريق التمثيل الحسي، فإن “التخيل هو الذي يضفي على هذه المضامين أشكالاً حسية”

والتخيل هو المجازى الذي يضفي معنى على الفن، فيقدمه من صورة حسية سواء كانت قصيدة أو رواية أو رسمة أو غير ذلك من صنوف الأشكال الفنية الجمالية…!

جمال الفن والطبيعة

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

يساهم الفن في إبراز الوعي الذاتي للروح المطلق، لأنه التعيين “الحقيقي” الفردي لها في الخارج من خلال تمثيلها تمثيلاً حسياً، فالفن من حيث أنها موضوع للحقيقة هو الذي ” يعقل ويمثل الوجود بوصفه حقيقياً في تظاهراته الظاهراتية، أي في توافقه مع مضمون متماسك المنطق تجاه ذاته، وله بذاته قيمته الذاتية، ليس حقيق الفن إذن الصوابية المحضة البسيطة، وهو ما يقتصر عليه ما يسمى بمحاكاة الطبيعة، بل على الفن كيما يكون حقيقياً، أن يحقق التوافق بين الخارج والداخل”

، وهذا لا يتأتى للطبيعة ، لأنها عاجزة عن جعل هذه الحقيقة مدركة بموجودات جزئية مثل الشمس والقمر، بحكم خصوصياتها بالذات وجمودها.

وهذا ما دفع بهيجل إلى أن يميل إلى أن جمال الفن أسمى من جمال الطبيعة، يقول هيجل مؤكداً على هذا: ” في وسعنا أن نؤكد على ما يخيل إلينا أن الجمال الفني بخلاف ما تزعمه تلك النظرة الدارجة أسمى من الجمال الطبيعي لأنه من نتاج الروح، فما دام الروح أسمى من الطبيعة، فأن سموه ينتقل بالضرورة إلى نتاجاته، وبالتالي إلى الفن”.

كما أنه يقرر بأن هناك فرق ما بين الحسي (الطبيعي) وبين العمل الفني الموضوعي، فرغم “أن العمل الفني يعرض نفسه لحدسنا أو لتمثلنا الحسي، الخارجي والداخلي، تماماً كما تفعل الطبيعة الخارجية أو طبيعتنا الذاتية الداخلية” إلا أن الحسي في الفن “يوجد أساساً وجوهراً من أجل الروح… والجانب الحسي في العمل الفني لا يوجد ولا يجوز أن يوجد إلا من أجل الروح”

والنظرية الكلاسيكية التي تصرّ على أن دور الفن هو محاكاة الطبيعة لأنه يشترك معها في الجانب الحسي هي نظرية باطلة في رأي هيجل، فهذه النظرة تتجاهل “المثال” في الفن الذي يميّزه عن الطبيعة… فضلاً على أن الطبيعة فاقدة للحرية، بخلاف الفن الذي يقوم على الحرية، بحكم أنه هو الممثل للروح المطلق في الحسيّ.

الفن والأخلاق

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

طالما أن جمال الفن هو جمال خالص يسمو على الأغراض والرغبات، فلابد – إذن – أن يسمو على القوانين الأخلاقية، فهو أشدّ رحابة وديمومة من أن يقيد في مملكة الأخلاق، بل أن يقيد بأي شيء آخر سوى نفسه، “فلئن لم يكن بد بأي ثمن من غزو هدف نهائي إلى الفن، فإن هذا الهدف يجب أن يكون من طبيعة يكفي معها نفسه بنفسه، وعليه، لا يمكن لغايته المفترضة إلا أن تكون غاية في ذاتها”

ولا يرى هيجل بأن الفن خاوٍ من كل دلالة أخلاقية، ولكن يرفض أن يكون هو الغاية النهائية للفن، كما “لا يرى مانعاً أيضاً أن توجد الوصايا الأخلاقية في العمل الفني بشكل ضمني، بشرط ألا تظهر فيه بصورة جلية ولا تقدم لنا كواجب ينبغي العمل به” .

أنواع الفن وتمظهر فكرة الجميل في الفن

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

بعد أن بيّن لنا هيجل “فكرة الجمال” في الفن، أخذ يرصدها في صنوف الفنون وأشكاله عبر التاريخ، من هنا يربط فلسفة الجمال بفلسفة الروح والتاريخ معاً.

فدرجة الجمال في الفن تعتمد على مدى تطابق المضمون مع الشكل وتعيّنات الفكرة في الواقع، ثم تماهيهما في “المثال” كجوهر واحد، وعلى هذا الأساس، صوّر هيجل أشكال هذه العلاقة التي تربط الروحي بالحسي في آصرة الفن في ثلاثة أشكال:

المرحلة الرمزية – الفن المعماري

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

طبعاً هيجل لا يقصد بهذا الفن الرمزي الذي يذهب إلى أن التعبير عن التجربة الفنية يتم من خلال إيحاء تصويري ترمز للعاطفة والأفكار الجمالية التي يراد توصيلها كما قد نظن لأول وهلة، ولكنه يقصد بها تخلف المادة الحسية عن التعبير عن الفكرة، فالشكل الفني هنا فقط يشير إلى الفكرة رمزاً، ولكن يفشل في الإفصاح عنها إفصاحاً خليق بالفكرة ذاتها، يلخص الدكتور نوكس مراد هيجل في الفن الرمزي، فيقول: “في هذا الفن تبدو الفكرة غامضة مشوشة وغير محددة، فلم تستطع إخضاع المادة، هناك قصور في الفكرة قصور وفي المضمون الأمر الذي نتج عنه بالتالي قصوراً في الشكل”

يرجع هيجل هذه المرحلة إلى نتاج الحضارات الشرقية القديمة في الفن، إذ “أنه يقدم لنا مدلولات غير متفردة بعد، وبمعنى أن الأشكال المرتبطة به يمكن أن تكون متطابقة وغير متطابقة على حد سواء”

. إذن الفن المعبرة عنه من خلال الرموز هو فن ملتبس وغامض، في حاجة إلى كدّ ذهني كيما يتم رفع الستار عن المعنى المحجوب، وهذا ما نشهده مثلاً في الفنون القديمة، سيما لدى الهنود والفراعنة، فهذه الحضارات عبرت عن معانٍ في قوالب رمزية مجسدة لا تشكل “المعنى” المراد وفقاً لرأي هيجل، فتم مثلاً تصوير “القوة” في شكل حيوانات مثل الأسد، مع أنها ليس هي حقاً مغزى “الفكرة”، وهذا يعتبر تطاولاً على الفكرة ذاتها وتمددها الحر – هكذا يفقد الفن الرباط الذي يبقي الفكرة مطابقة للجسد بكل عفوية وحرية، فتنفصل الفكرة عن تعيّينها في الخارج الحسي حيث أنها “حرية مجردة ولا متناهية تطلق العنان لنفسها فيها تراهم [أي الفراعنة والهنود القدماء] لرغبتهم في جعل المادة مطابقة يدفعون بها نحو المسيخ، ويشوهون الشكل ويجعلونه غريباً بشعا أو تراهم يدرجون الفكرة الكلية في الأشكال الأشد قبحاً “

ونشهد مثل هذه الأمثلة الكثير في أساطير الأولين، ففي ظل عجز الإنسان عصرئذٍ عن تفسير العالم حوله والتعبير عن أفكاره ارتمى في أحضان فن محفوف بالألغاز والأحاجي…!

فن العمارة هو الأبرز في هذه المرحلة، ففن العمارة تطوّر في ظل التعبير عن الإلهي، وذلك من خلال بناء المعابد، ولكن لم يكن في مقدوره أن يقوم بذلك، لسيادة المادة (فهو أكثر الفنون اعتماداً على المادة الصماء) على فكرة المطلق – الإلهي.

يقدم لنا هيجل مثالاً على ذلك هو بناء الأهرامات فهي قبور محصنة للملوك تمثل كما يقول هيجل “صورة الفن الرمزي في مطلق بساطته، فهي عبارة عن بلورات هائلة الحجم، أشكال خارجية خلقها الفن لتحمي شيئاً ما داخلياً، وعلى نحو يوحي إلينا حقاً بأنها ما وجدت إلا لتسوير هذا الداخلي الذي تجرد من الطبيعي المحض” فالأهرام هي “المظهر الشكلي للمضمون الفني حقاً مضمون الانفصال عن الحياة العينية والمنظورة” رغم ذلك ليست “هي بعد بمملكة يسري في أوصالها تيار حي، ما هي بعد بمملكة الروح الحر والحي، وإن أرتقت ما فوق الحسي”

المرحلة الكلاسيكية – فن النحت

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

في هذه المرحلة، يتفتق العقل البشري، ويصبح قادراً على تمثيل المطلق في صورة محسوسة تعبر عن تجليه في الفن، لقد ردمت الهوة هنا ما بين الفكرة والمادة المجسدة لها، وأصبح للفن تعييناً فردياً مباشرة في الطبيعة بعكس بعض التجسّيدات الرمزية التي كانت تحاكي المطلق بإشكال مشوهة أو غامضة، لقد أضحى الشكل الإنساني المثالي علامة على هذه المرحلة، من هنا نلج عصر النحت حيث يتم اختزال المطلق في الجسد البشري، كما يتم تجسيد الحضور الإلهي في المعابد التي سبق أن تم انجازها في الفن المعماري، النحت أكبر قدرة على تشكيل المادة، لكي تعبر عن الروح، لا في رموز حيوانية أو شكلانية، ولكن في أجساد بشرية مكتملة، هذه هي الفردانية الروحانية التي يسعى لها الفن.

رغم ذلك، لا يزال الفن حبيس المحدود، وإن تطابقت فيه الفكرة بالشكل إلا أنه لم يحقق “المثال” في أعلى صورته المطلقة، فهو يصوّر المتناهي من دون حرية تامة، و”تصور الجانب الإلهي الذي يتجسّد تصور معيب خاطئ، ذلك لأن الله ينبغي أن يكون حراً وروحاً لا متناهية، في حين أن آلهة اليونان لم يكونوا أحراراً أو لامتناهين”.

المرحلة الرومانسية – الرسم والموسيقى والشعر

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

في هذه المرحلة الأخيرة لا نشهد قصوراً في تعبير المادة عن الفكرة كما في الفن الرمزي، بل بالعكس من ذلك، نشهد علواً في الفكرة على المادة، فالروح المطلق يسمو على المادة، لتغدو حرة تتجلى من دون قيود الحسي “من دون أن تكون بها حاجة كيما تتفتح إلى اللجوء إلى وسائل حسية أو على الأقل إلى التعرض لضغط هذه الوسائل”

يسمى هيجل هذه المرحلة أيضاً بالفن المسيحي، فالفن الكلاسيكي نجح في تقصي الروح في المثال البشري، عبر المنحوتات التي نحتت لتعبر عن الآلهة في العصر الإغريقي، لكنها ظلت حبيسة المادة، بينما هي في المرحلة الرومانسية تتخطى حواجز المادة المحسوسة في الجزئي العيني، وأخذت تعبر عن الإله المسيحي المطلق لدى جمهور المؤمنين. ولم يعد المضمون عبداً للشكل، بل طغى المضمون على الشكل، فتجلّتْ الفكرة في حرية أكبر في الفن الرومانسي، فالحياة الداخلية الذاتية هي التي تسيطر على الشكل، وتبرز سمو أكبر للروح المطلق، فتصل إلى أعلى ذرى وعي ذاتها بذاتها.

من هذا المنظور، من الطبيعي أن تتجلى الروح المطلق في فنون أكثر تجريديةً من فن العمارة والنحت كما هو الحال في المرحلتين السابقتين، فالرسم والموسيقى والشعر هي الفنون البارزة في هذه المرحلة الرومانسية، ويرجع هذا لجوهرها الذي يتسم بالتجريد الروحي، فالرسم تصوير أرقى من النحت، لأن الفكرة فيه تتخطى الأبعاد الثلاثية الحسيّة، وتستبدل هذا بالظل والنور والألوان، وطالما أن الفن الرومانسية يعبر عن الحراك الذاتي للروح، نجد أن الموسيقى والشعر أقرب تعبيراً عن جوهر هذه الروح، فالمادة الحسية التي تتشكل فيهما الفكرة هي الصوت والنغم اللذان يجوبان الفضاء بكل حرية وانطلاق كأطياف نورانية ويلبسنا الجوارح الحسية من سماع ونظر، فتحدث تجربة التلقي الجمالية…!

  • نقد فلسفة الجمال الفن لدى هيجل

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

كما رأينا لم يهتم هيجل بتأمل جوهر الجمال والفن وحسب، ولكن تأمل تطور الفن في تاريخ البشرية من وجهة نظر الفلسفة الهيجلية، وبخلاف اتفاقنا مع هيجل على تقسيماته تلك التي تبدو لنا في بعض الأحيان متعنتة ومتحاملة لصالح الفن المسيحي الغربي على الفن الشرقي إلا أننا لا نستطيع أن ننكر سعي هيجل في النفاذّ إلى تحليل الفن في الحضارات السابقة بصورة شمولية وكونية لم يسبقه إليها أحد من قبل، وإطلاع هيجل الموسوعي على الفنون في الحضارات الأخرى ساعده على انجاز ذلك.

طبعاً النظريات الحديثة في الفنون لا تتفق مع كثير من أطروحات هيجل، لاسيما حول العلاقة التي تربط المضمون بالشكل، وتشكل المعنى، مثلاً لم يعد اليوم ينظر إلى “المعنى” على أنه جوهر ثابت، وهذا يعلي من شأن الفن الرمزي الذي يعول على ظاهرة المعنى المتعدد الدلالة، وهو أمر لم يرق لهيجل، وظنّ بأنه عيب فني، إلا أن إبراز هيجل لهذين العنصرين المهمين في الفنون في فلسفته، وتمييز أنواعه بهذا الصورة، يعتبر انجازاً من انجازات النظرية الجمالية الفنية لدى هيجل!

كما أن هذا ما جعل هيجل يخلط ما بين “الجليل” و”الجميل” في الفن الرمزي (أقصد هنا الإشاري الدلالة أي الذي يشير إلى “معنى” ولا يعينه في سياق واحد ومعنى واحد) فيقول: “الجليل هو طغيان الفكرة على المادة، حين تعجز ملكة الفن عن التعبير عن الفكرة في إطار مادي مطابق، لذا الفن الرمزي هو أقرب إلى الجليل منه إلى الجميل في كثير منه”

، ولكن الفرق لا يكمن في نقص الدال على المدلول كما يقول هيجل، ولكن في دلالة المعنى ذاته لدى المتلقي.

إن أطروحة هيجل في تاريخ الفنون نزعت الفن من السياق التاريخي، وجعلت من الفن تجريداً حتى لو لم يقرّ هيجل بذلك، كما أن تطور الفن من الرمزي إلى الكلاسيكي، ثم بلوغه مأربه النهائي في الرومانسية هو إعلان عن موت الفن بحكم أنه يرمي إلى أن الفن قد وصل مداه، ولا غرابة أن تلهم فلسفة هيجل أدلوجيات دعتْ إلى نهايات للتاريخ، نجد هذا في الطرح الشيوعي على يد كارل ماركس، وفي الطرح الليبرالي على يد فرنسيس فوكوياما، وقد تأثرا بفلسفة هيجل عن التاريخ.

كما أن ربط هيجل الفن بالروح والفكرة المطلقة من خلال وحدة المضمون والشكل لا يستقيم مع دعوته بأن هدف الفن هو ذاته، وهذا ما تنبه له الدكتور نوكس في قوله: “هذا التصور يلقي ظلاً من الشك على جدية تأكيد هيجل في أن غاية الفن تقوم في ذاته، ولكن الحقيقة هي أن هذا الفصل بين المضمون والشكل إنما يرتب جملة نتائج هامة، هو يستكمل في تحديد هيجل للفن كرمز حسي لمضمون ميتافيزيقي”

فهيجل يعزو إلى الفن هدفاً خارج جماليته، وهو التعبير عن الروح المطلق.

عجزُ المسيحية في الغرب عن تصور الله تصوراً مجرداً هو عجزٌ يمكن نسبته إلى قصور في مَلَكة التصور (وهي ملكة لا تنمو إلا في أطوار متقدمة في عمر الإنسان كما يخطرنا بذلك علم النفس التكويني الحديث) لا في ملكة التمثل الحسي كما يقول هيجل، ، بل التصور المسيحي وفقاً للدراسات الحديثة في الأديان امتزجت بالتصورات الوثنية التي كانت سائدةً آنذاك في ظل الدولة الرومانية، فوجدت نفسها مقلدة لتجسيد الإله في أيقونات، لذا هذا التصور هو انفعال أكثر من كونه فعلاً، أي أنه دخيل على الفن المسيحية، وليس نتاجا واعياً لها وهو ما يخالف خصائص الروح الواعية بذاتها. كما أن تقليل هيجل من أمر الفنون الوثنية الإغريقية، هو كذلك تقليل من شأن الفن المسيحي، فالمثال الفني في كلاهما هو ذات التجسيد الإلهي، أما التمايز فيما بينهما فهو تمايز مفتعل مرده التحامل الديني أكثر من أي شيء آخر!

المراجع:

$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$

أفلاطون، هيبياس الأكبر، ترجمة علي نجيب إبراهيم، دار كنعان، دمشق 2003

أميل برهييه، تاريخ الفلسفة – مجلد القرن التاسع عشر، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت 1997

ثيوكاريس كيسيديس، هيراقليطس، جذور المادية الديالكتيكية، ترجمة حاتم سليمان، دار الفارابي، بيروت 2001

جعفر الشكرجي، الفن والأخلاق في فلسفة الجمال ، دار حوران، دمشق 2002

عبدالرحمن بدوي، حياة هيجل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1980

عبدالرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1984

عمانويل كانط، نقد ملكة الحكم، ترجمة غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2005

فراس السواح، دين الإنسان، دار علاء الدين، دمشق 2002

موسوعة لالاند الفلسفية، دار عويدات، بيروت 1996

نوكس، النظريات الجمالية كانط – هيجل – شوبنهاور، ترجمة محمد شفيق شيا، دار منشورات بحسون الثقافية، بيروت 1985

هيجل، الفن الرمزي، الكلاسيكي، الرومانسي، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت 1986

هيجل، المدخل إلى علم الجمال، فكرة الجمال، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت 1988

هيجل، موسوعة العلوم الفلسفية، ترجمة، د. إمام عبدالفتاح إمام، دار التنوير، بيروت 2005

ولتر ستيس، فلسفة هيجل – فلسفة الروح، المجلد الثاني، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام، دار التنوير، بيروت 2005

[1] فراس السواح، دين الإنسان – ص: 141

الميتافيزيقيا عند الفيلسوف الهولندي باروخ إسبينوزا1632-1677

باروخ سبينوزا
فيلسوف (1632 – 1677)
باروخ اسبينوزا فيلسوف هولندي ، حاول تأسيس عقيدة جديدة ، أراد من خلالها استبدال العقائد المبنية من الخرافة ، وفكرة التدخل الإلهي المباشر في ضبط الذات ، بعقيدة جديدة غير شخصية ، شبه علمية ، ومتوافقة مع الزمن ..
باروخ : كلمة تعني ( مبارك ) باللغة العبرية . وقد ولد في الوسط اليهودي في أمستردام ، بينما انحدر أسلافه من اليهود الشرقيين الذين فروا من شبه الجزيرة الاسبانية 1462.
نبغ هذا الفيلسوف منذ صغره ، حيث كان مولعاً بالمعرفة جداً، وعُرفَ بذكائه الحاد ، وتلقى تعليما دينيا مكثفاً ، حيث اتبع كل الطقوس والعبادات والأعياد الدينية اليهودية المختلفة ، ولكن تدريجياً بدأ يعزل نفسه عن إيمان ذويه ، ويبتعد عن أفكار أسلافه شيئاً فشيئاً .
لكونه شعر بأنه ” قد أصبح مقيداً بوجهات نظر وأفكار الآخرين” .على حد تعبيره.
ثم أخذ يُبين أفكاره الخاصة ،
والتي بدأها في كتابه الهام ” الأخلاق ” الذي ألفه باللاتينة ونشر عام 1677 .
وفيه تحدى اسبينوزا بشكل مباشر أفكار العقيدة اليهودية بخاصة والعقائد الأخرى بعامة .
قائلاً فيه : انّ الله ليس ذاتاً مفارقة، تقع خارج هذا العالم ، وليس هناك من يسمع صلواتنا ، أو يصنع المعجزات لنا ، أو يعاقبنا على آثامنا “.
” ليس هناك حياة أخروية ، والانسان ليس هو المخلوق المفضل على العالمين عند الله ، والكتب السماوية (التوراة وسواها) كتبها أناسٌ قدماء.”.
” والله ليس حرفياً أو محارباً يدعو المؤمنين به لحمل السيف المقدس و راية الجهاد والدفاع عنه . وهو لايطلق الاحكام ، ولا يكافئ الأطهار ولا يعاقب الأشرار .
وكل تصور أو تمثيل عن ذات الله هو مُجرّد خيالات ، وكل الطقوس التقليدية في العبادات له هي أساطير الاولين ومحض خرافة .
لكن و بالرغم من كل مما سبق، لم يعتبر اسبينوزا نفسه ملحداً ، بل كان يُصر بشدة على أنه هو المدافع المخلص والحقيقي عن الله .
لقد أخذ مفهوم ” الله ” دوراً جوهرياً في فلسفة اسبينوزا ، لكن الله لديه لا يشبه بتاتاً ” الله ” المُحدث عنه في التوراة أو الكتب السماوية الأخرى .
اله اسبينوزا هو اله ليس شخصاً ، أو هو ليس ذاتاً مفارقة ، يمكن فصلها عن الطبيعة أو عن الوجود أو روح متعالية بعيدا عن العالم .
الله لديه هو الكون و قوانينه ، هو المُسبب ، وهو الحقيقة ، وهو القوة الفعالة ، في كل موجود وفي كل ما سيوجد .
الله لديه ليس فيما وراء الزمان ، ولا يمكن تجسيده ، ولهذا عبر عن ذلك بقوله :
” أياً ما كان فهو من الله ، و لا وجود أو تصور من دون الله . “
من خلال كتاباته المتعددة حاول اسبينوزا أن يدحض فكرة الصلوات ، ورأى أنه في الصلاة كثيراً ما يدعو الانسان الله كي يُغير له نظام الكون حسب رغباته ومصالحه أو مشاعره، ولكنها طريقة خاطئة تماماً ، لأنه على الانسان انْ يسعى لفهم هذا الكون ونظامه ومن ثم تقبله ، بدلا ً من الاحتجاج عليه والتذمر منه عبر ارسال رسائل متتالية الى السماء.
وقد عبر اسبينوزا عن ذلك بقوله :” لا يجب ان يتوقع من يُحب الله ، أن يُحبه الله بالمقابل ” .
بمعنى انه – فقط – ذاك الشخص المؤمن النرجسي والمشوه، هو الذي يتخيل ان الله سيهتم بتنحية قوانين الكون جانباً لأجله ، أوتعطيلها كلياً من أجل رغبة من رغباته ، أو ليُحسّن من حياته بطريقة ما .
هنا نلاحظ تأثر اسبينوزا البالغ بفلاسفة المذهب الرواقي الاغريقي ، الذين رأوا أيضاً ، أنّ الحكمة، تكون في تقبل الأشياء والخضوع بسلام للضرورة وفهمها ، بدلاً من الاحتجاج على كيفية سيرها .
لكن كيف نظر اسبينوزا للحياة .. ؟ّ!
للحديث بقية ..

أن الطبيعة – التي ساواها مع الله – مثاليه بشكل مطلق، عازمه، لا نهائيه ولا نهاية لها. هذه الطبيعة (أو الله) الغير محدودة تشمل الجميع . ونحن جميعا جزء منها وليس هناك شئ خارجها. ونحن البشر لدينا منفذ على إثنين من سمات هذا الكيان اللانهائي – الإمتداد والفكر- وكلاهما تعبير عن جوهرها الذي لا حصر له ، وهما ينسجمان مع بعضهما البعض ، لأنهما تعبير عن الواقع نفسه. إلى جانب الامتداد والفكر هناك عدد لا نهائي من سمات أخرى لهذا الكيان الغير منتهي، والتي لا منفذ لنا عليها، ولكنها تظل مع ذلك تعبيرا عن نفس الكيانن، الذي هو – علاوه على ذلك – غير مقيد بالزمن.
لكي نُقَدّر كيف كان هذا التفكير جديدا، فمن الجدير بالذكر أنه في أيام سبينوزا كان الرأي السائد عن الكون في أوروبا لا يزال نفس فكرة القرون الوسطى الموروثة من أرسطو وبطليموس بأن الكون محدود. وكما يشير جوزيف راتنر في «فلسفة سبينوزا» (2014)، فإن رؤية سبينوزا للكون لم تتفوق فقط على فكرة الكون في العصور الوسطى، ولكن أيضًا وجهة النظر المعاصرة السائدة عن الكون كنظام مادي بحت. لذا اسمحوا لي أن أوضح قليلا الميتافيزيقا عند سبينوزا، وأقدّم بعض الأمثلة التي توضح لماذا قد تكون ملهمة لأي شخص هو في حيرة من علاقته بهذا الكون.

الواحدية (وحدة الوجود) عند سبينوزا

«الأخلاق» لسبينوزا هو كتاب ينقسم إلى خمسة أجزاء: الأول والثاني يتعلق بالميتافيزيقا، ومناقشة الله، والعلاقة بين العقل والجسم على التوالي. في الجزء الأول، يعادل سبينوزا الله مع جوهر لانهائي وفريد من نوعه يرتكز عليه كل الواقع. يرجى ملاحظة أن المقصود بالمصطلح الفلسفي «الجوهر» هنا هو كل متكامل لا يمكن اختباره مباشرة عن طريقنا.
بعض المعاصرين لسبينوزا والقريبين من المعاصرين اجتمعوا على أن هنالك العديد من الجواهر. أشهرهم رينيه ديكارت (1596-1650) الذي جادل بأن هناك نوعين من الجوهر: العقل والمادة، لديهما الصفات المميزة للفكر والامتداد على التوالي. وادّعى كذلك أن كل فرد بطريقة أو بأخرى هو اتحاد التفاعل بين هاتين المادتين. في المقابل، اعتقد سبينوزا أن هناك جوهرًا واحدًا فقط ، لأنه لانهائي ويشمل الجميع. ولأنه ليس فقط لا حصر له ويشمل الجميع ولكن أيضًا إبداعي، فهو أن تتساوى مع الله.
وفي باقي كتاب «الأخلاق»، كشف سبينوزا الآثار المترتبة على هذا الرأي لفهم العلاقة بين العقل والجسم، ومن ثمّ فهمنا للعواطف والمعرفة والأخلاق. واحد من الأهداف التي حددها سبينوزا في الصفحات الأولى من الأخلاق أن يقدم تفسيرًا لوجود الأشياء. على سبيل المثال، قد يتساءل المرء ما إذا كان سبب من وجود الموجودات داخلها أو خارجها.
يبدأ سبينوزا في الإجابة على هذا السؤال بالقول أن تعريفات الكيانات عادة لا تشمل عددًا محددًا من الأفراد الموجودين من هذا النوع. على سبيل المثال، لا يوجد شيء في الطبيعة البشرية أو في تعريف «الإنسان» يحدد أنه يجب أن يكون هناك سبعة مليارات منا. وهذا يشير إلى أن تعريف «الإنسان»، وكذلك جوهرنا ، لا يحدد كم البشر الذي سيكون موجودًا، لذلك وجودنا ككيانات فردية يتم تحديده من قبل كيان أكبر منا.
ثم يعمم سبينوزا هذه الملاحظة ليفترض أنه إذا وُجِدَ عدة أفراد لنوع ما، إذن فسبب وجودها لا يمكن أن يكون في داخلها، وبالتالي فإن جوهرها لا ينطوي على وجودها. وبعبارة أخرى، فعمومًا ضرورة وجود الموجودات ليست جزءًا من كيانها أو تعريفها. هنا يظهر السؤال: ما هو السبب المطلق في كل هذا التنوع والتعقيد الذي نختبره في الطبيعه إذا لم تكن تلك الأشياء نفسها؟
يرد سبينوزا بأن المصدر المطلق لجميع الأشياء الموجودة – والذي يحتوي على جميع الأشيلء الأخرى الموجودة، والتي بدونه لا وجود لها – يجب أن يكون شيئًا ينطوي جوهره على الوجود. ولأن تعريف هذا الكيان ينطوي على وجود ضروري (لأن من جوهره الوجود)، فهو ليس فقط موجودًا بالضرورة، بل أيضًا لا يمكن أن يتضمن أي انتفاء للوجود. وهنا يعِنّ أن هذا الكيان غير مقيد وشامل ولانهائي وأبدي. هذه هي الخصائص المميزة لسبب كل ما هو موجود.
هذا يقود إلى تعريف الجوهر عند سبينوزا بأنه «الموجود في ذاته المفهوم بذاته» (الأخلاق، الجزء 1، تعريف 3). وبعبارة أخرى، الجوهر هو ذلك الجزء أو الجانب من جوانب الطبيعة ذاتي الخلق (سبينوزا، ستيورت هامبشر، 2005). وهو جوهر الطبيعة النشطة – استخداما لمصطلحات سبينوزا – وهو ما يعادل الله. وعلاوة على ذلك، يشمل تعريفه ضرورة الوجود، فلا يمكننا أن ننكر وجود هذا الكيان، ولأنه لانهائي وشامل، لا يمكن أن يكون هناك سوى جوهر واحد.
فرضية وجود جانب ذاتي الخلق ليست بالغريبة على العقل الحديث المطّلع على نظريه الانفجار العظيم، وكما يمكننا القول: نظرية التطور. ومع ذلك، فإن القبول بأن هناك كيانًا واحدًا ذاتي الخلق (والذي بسبب تفرده يمكننا أن ندعوه الإله) هو أكثر صعوبة.
علاوة على ذلك، لأن هذا الكيان مثالي وفريد من نوعه؛ فإن استخدام تعبير «عملية process» لوصفه هو غير مناسب تمامًا. لأن هذا المصطلح يستتبع شيئا يتطور. لذلك « الجوهر» هو المصطلح الأكثر ملاءمه لوصف كيان لا يفتقر لأي شئ، وبالتالي فطبيعته لا تتغير.
العقل البشري يفهم الجوهر عند سبينوزا من خلال خاصيتي الامتداد والفكر. لذا يمكننا أن نقدر الماده إما عن طريق التأمل في الكون المادي الغير محدود، أو أخذا بعين الإعتبار لا نهائيه الأفكار الممكنه بداخله. الحقيقه عند سبينوزا هي كلاهما (نظام الأشياء ونظام الأفكار أو الصور).
البشر على سبيل المثال ، هناك هيئات تتألف من الأجزاء الماديه ولكن هي أيضا الصور التي تشكل عقول البشر . وكما ذكرت ، فإن الجوهر عند سبينوزا يتضمن عدد لاحصر له من السمات الأخرى التي لايمكن معرفتها بالإضافه إلى الإثنينن الذين يمكننا أن نعرف. بطريقه ما، هذه المحددات هي التي تجعل الأشياء حقيقيه، متميزه، فهي الوسيله التي يمكن من خلالها التمييز بين كيان محدد وآخر. وفي مصطلحات سبينوزا فإن كل فرد في الطبيعه هو شكل من مضمون (جوهر) واحد.
بالنسبه لسبينوزا ، الفكر والامتداد هما من الناحيه النظريه والسببيه مستقلان عن بعضهما البعض، ولكن في الوقت نفسه متوافقان مع بعضهما البعض. وهذه العلاقة بين المحددات النظريه والسببيه تعرف ب «التوازي»، وستكون مهمه عندما نأخذ في الإعتبار العلاقه بين العقل والجسم .
يرجى ملاحظة أن العقل ليس هو السبب للكون المادي بالنسبة لسبينوزا، ولا الكون المادي هو السبب في العقل. بدلا من ذلك، يرى سبينوزا أن القوة الكامنة وراء وجود طبيعة مادية ووراء أعمال العقل هو الجوهر الفريد والشامل نفسه، الذي لديه كل الصفات على حد سواء.

الجوهر والعلم

إذن فالإله هو كيان موجود بالضرورة، أو هو بالتعريف جانب من الطبيعة خُلِق ذاتيًا، وهو السبب لكل شيء موجود. والسؤال التالي: لماذا فكرة الإله/الله/الطبيعة – حسب تعريف سبينوزا – ذات أهمية بالنسبة لنا اليوم؟ والجواب هو أن هذه الفكرة تقدم رؤية للعالم تتفق مع العلوم المعاصرة التي لا تزال تفتقر إلى الميتافيزيقا التي يمكن أن تسع اكتشافاتها المحيرة.
المثال الأول من الإكتشافات المحيره هي ميكانيكا الكم . أصبح شيئا مبتذلا أن لا أحد يفهم السلوك الغريب للجسيمات الأوليه الموضحه في ميكانيكا الكم . على سبيل المثال ، كيف يمكن لإلكترون مخفي أن يكون في عدد لا حصر له من الأماكن في نفس الوقت ؟ أو كيف يمكن لجسيم من جسيمات الضوء – فوتون – «معاينة» كل الفضاء ومن ثم «يختار» المسار الأسرع بين نقطتين في الفضاء، كما يقول تفسير ريتشارد فانيمان في ميكانيكا الكم؟ أحد الموضوعات المشتركة في ميكانيكا الكم هو تحديدا هذا السلوك «غير المقيد» للجسيمات. وهذا يتفق مع الفكره القائله بأن هناك جانبا لا محدود أو لاحصر له في الطبيعه الكامنه وراء الواقع الذي نختبره، وهذا بالظبط هو وجهة نظر سبينوزا تجاه الجوهر.
موضوع آخر في ميكانيكا الكم هو أن الجواب المعطى من تجربة ما غالبا ما يعتمد على السؤال الذي تطرحه تلك التجربة. على سبيل المثال، يمكن رؤيه جسيمات الموجه الإبتدائيه تتصرف كموجات أو جسيمات إعتمادا على كيفيه إعداد التجربه. وعلاوه على ذلك، يبدو أنه لابد من الملاحظه لإعطاء وجود الكم شكل حاسم. وتلك الميزيتين لميكانيكا الكم تشيران إلى أن هناك علاقه وثيقه جدا بين الذكاء والطبيعه الماديه في الكون، تماما كما يفترض سبينوزا. ولروايتها بطريقته: العقل وأحداث الكم الماديه التي تلاحظ بالعقل لا ينفصلان لأنهم جانبين لنفس الجوهر الفريد من نوعه والذي لا حدود له.
المبدأ الأنثروبي في علم الكونيات يشير إلى ملاحظة ملفتة للنظر، هي أن الكون الذي نعيش فيه يبدو وكما لو كان على وجه التحديد مصمّم للسماح بوجود حياة. وهناك عدد من الحقائق عن الكون، مثل قدرة بعض القوى (على سبيل المثال، القوة النووية داخل نواة الذرة)، وكتل وشحنات بعض الجسيمات دون الذرية ذات القيم الدقيقة المطلوبة لتطوّر مراقبين أذكياء مثلنا. كما لخّصه الفيزيائي جون ويلر في عام 1986، يبدو أن: «هناك عامل واهب للحياة يكمن في وسط آلية وتصميم العالم» (انظر: Wheeler’s foreword inThe Anthropic Cosmological Principle by J.D. Barrow and F.J. Tipler, 1986). وهذا الوصف يمكن أن ينطبق بجدارة على تصور سبينوزا عن الطبيعة الراعية Natura naturans.
بإختصار، العلم الحديث يوفر الأساس لواحدية سبينوزا بالإشارة إلى أن هناك جانبًا غير محدود وإبداعيًا في الطبيعة، وأيضا أن العقل والجسد متلازمان ولا ينفصلان.

العلاقة بين العقل والجسد

بعد ذلك دعونا ننتقل إلى واحدة من أهم النتائج المنطقية لواحدية سبينوزا؛ ألا وهي العلاقة بين العقل والجسد.
في الفقرة الأولى من الجزء 2 من «الأخلاق»، التعامل مع العقل، يوضّح سبينوزا أن استنتاجاته حول العقل تنبع من وجهة نظره إلى الله: «أنتقل الآن إلى شرح تلك الأشياء التي تنبع بالضرورة من جوهر الله، أو الكيان الأبدي اللانهائي». كما رأينا، فالله أو الجوهر هو الجانب ذاتي الخلق من الطبيعة، لأنه موجود بالضرورة، ولا يمكن أن يكون محددًا بأي شيء، وهو لذلك لا حصر له.
بالنسبة لسبينوزا، الجسم البشري لديه سمة الامتداد، والعقل البشري لديه سمة الفكر، أو التمثيل. وعلاوة على ذلك، فإن العقل والجسد هما تجليات متوازية للواقع الأساسي، أو يمكن أن نقول أن العقل والجسد هما نفس الشيء (الجوهر) ضمن سمات مختلفة. وفي اللغه التي ورثها سبينوزا من ديكارت: الفكرة هي تعبير عن الشيء الذي هي جزء منه، وهذا يقود سبينوزا إلى استنتاجه الشهير أن «العقل البشري يساوي فكرة الجسم البشري».
التوازي عند سبينوزا يعني أيضًا أن كل تغيير في جسم الإنسان يجب أن يرافقه تغيير في العقل البشري: «أيًا مما يحدث في موضوع الفكرة التي تشكل العقل البشري [الجسد – إض] فإنه يستقَبل من قبل العقل البشري … ذلك أنه، إذا كان موضوع الفكرة التي تشكل العقل البشري هو الجسد، فلا شيء يمكن أن يحدث في تلك الهيئة ولا يدركه العقل» (الجزء 2، المقترح 12).
هذا المعتقد عن العلاقة بين العقل والجسم ذو صلة بالعلوم المعرفية المعاصرة، حيث أن هنالك اعترافًا متزايدًا بأن هنالك ارتباطًا وثيقًا بين الإدراك والتجسيد. يمكننا القول أن فرضية سبينوزا، مصاغة بطريقة علم الأعصاب الحديث، تعني ضمنًا أن التمثيل الكلي [للواقع] الذي منه يتكون العقل البشري الفردي يعادل النشاط الكلي للنظام العصبي للفرد، وكل منهما يعمل بالتوازي مع الآخر. إذن، فالميتافيزيقا عند سبينوزا تبيّن كيف أن العقل والجهاز العصبي مرتبطين. وهذا النهج في معالحة مشكلة العقل والجسد جذّاب أيضا لأنه يدل على أن العقل ليس دخيلا على الطبيعة، ولكن هو جزء واحد من كل متكامل.
بالنسبه لسبينوزا ، فإن الطبيعة المزدوجة للأشياء (أي التوازي) تنطبق على كل شيء في الطبيعة، وبالتالي، فإن كل شيء في الطبيعة لديه عقل من نوع ما. البشر لا يحتلون مكانًا خاصًا غيبيًا إلا بقدر ما أن الجسم البشري هو الشيء الأكثر تعقيدًا فى الطبيعة، وبالتالي فالعقل البشري هو العقل الأكثر تطورًا في الطبيعه كلها، أو كما يقول سبينوزا: «يكون لدى البعض قدرة أكبر من الآخرين على فعل العديد من الأشياء في نفس الوقت بقدر ما يكون عقولهم أكثر قدرة على فهم الأشياء في نفس الوقت» (الجزء 2، افتراض 13). وبعباره أخرى، فإن تطور العقل البشري يتوافق مع الطابع المعقد لجسم الإنسان.

الخلاصة

وفقًا لتحليل عصري لنظريات سبينوزا التي حاولت توضيحها ها هنا، فإن جانب الطبيعة ذاتي الخلق الذي لاحصر له يكمن في (1) السلوك غير المقيد للجسيمات في ميكانيكا الكم، (2) وجود هذا العالم الذي يدعم الذكاء، (3) ظهور أشكال الحياة من خلال التطور.
وعلاوة على ذلك، كل هذه الظواهر التي تنبثق من جوهر واحد هي مترابطة: لا يوجد فهم بدون تجسيد، ولا يوجد تعقيد متزايد للتجسيد بدون تطور، ولا يوجد تطور بدون وجود ذلك الكون الفريد الذي يسمح للحياة بالظهور. وأخيرا، كما تعلمنا ميكانيكا الكم والمبدأ الأنثروبي، لا وجود لكون مادي مشهود من دون ذكاء يحيا داخله. فوجود الكون والذكاء في داخله هو في نهايه المطاف تعبير عن جوهر واحد.
لا يمكن اختزال سمات الفكر والامتداد أحدهما إلى آخر، لكنّ كليهما يشير إلى نفس الجوهر الذي لا حدود له، نفس القدرة غير المحدودة التي أعرب عنها الطابع المعقد لجسم الإنسان، تعبر عنها أيضا قوى العقل البشري. نفس السلطة التي تقف وراء السلوك غير المقيد للجسيمات في ميكانيكا الكم التي أعرب عنها الاتساع الهائل للكون، تكمن وراء التطور المستمر للمعرفة البشرية. لا يمكن أن يكون هناك أي شيء آخر مبشر أكثر من هذا. وهذا ما يجعل سبينوزا ذا صلة كبيرة بالفكر المعاصر.

الريسوني: التطبيع حرام شرعا والداعمون له “موظفون”

قال رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أحمد الريسوني إن العلماء الداعمين للتطبيع مع الاحتلال ، يقومون بذلك من منطلق “وظيفتهم”، وليس من باب واجبهم الشرعي.

وفي تصريحات له على صحيفة الشروق الجزائرية، قال إن العلماء الداعمين للتطبيع ينفذون أهواء وإرادة ولي الأمر، وولي النعمة، وصاحب الصولة.

وأدان الريسوني الدور الإماراتي في المنطقة، وقال إن التطبيع يخرج الأخيرة من الوضعية الخانقة التي تعيشها داخل محيطها.

وعن موقف الشريعة من التطبيع، قال الريسوني إنه حرام، ومرفوض تماما، شرعيا وإنسانيا، وأخلاقيا.

وفي 13 أغسطس- غشت2020، أعلن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ترامب توصل أبوظبي وتل أبيب، إلى اتفاق لتطبيع العلاقات بينهما.

في وقت سابق، دعا الريسوني، الشعوب العربية والإسلامية إلى مقاومة التطبيع مع الاحتلال، ومجابهته بسلاح الرفض، مشيرا إلى أن التطبيع “ركون للظالمين”.

وأضاف الريسوني، في كلمة مصورة، وجهها للأمة أن “الكيان الصهيوني، الذي زُرع غصبا وظلما وقهرا في ديار المسلمين، يعتبر أن من أكبر مشاكله التي لم يجد لها حلا، ويحلم أن يحلها ويتجاوزها، هي تطبيعه مع الدول العربية والإسلامية”.

وأضاف في حساب الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين على تويتر: “التطبيع بمعنى أن يجد الترحيب والتكريم والتعاون والتحالف، وأن تُفتح له الأبواب الاقتصادية والإعلامية والثقافية والسياحية، وأن يعيش في راحة (..) في وسط من اغتصب أرضهم ووطنهم وشردهم وشرد إخوانهم”.

بيبليوغرافيا من يكون محسن اعريوة؟

–من يكون محسن اعريوة ؟
مُحسن اعريوة من مواليد قلعة السراغنة، حاصل على الاجازة من جامعة القرويين بفاس، وعلى شهادة الماستر من كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة السلطان مولاي سليمان ببني ملال. أشتغل حاليا أستاذاً بسلك الثانوي بمديرية الفقيه بن صالح.

– أيهما أقرب إليك، فعل القراءة ام الكتابة؟
القراءةُ والكتابة صنوان، فالذي لا يقرأ لا ولن يكتب، لكون القراءة تعطينا الأداة الأولى للفهم والنقد وتمحيص الآراء والأقوال، وتزوِّدنا كذلك بالألفاظ والمصطلحات اللغوية الفصيحة التي تساعدنا على الكتابة، ولهذا من الأفضل الاعتماد على القراءة ابتداءً، لأن نشر ثقافة الكتابة قبل القراءة هو تخسيرٌ للكاغد!
فالذي لم يقرأ للقدامى والمحدثين ولم يستفد من منهجهم في الكتابة وذوقهم في نسج القول وطريقتهم في سرد الأحداث لن يكتب لنا أي شيء.. لكون الإبداع سلسلة من التجارب المتراكمة والممتدة!
لهذا كلّه كتبتُ ذات مرّة:
قرأتُ لأكونَ
وأكون… وأعيش
قرأتُ لأحيا، لأكتب، وأقول!
وبعد فعل القراءة تأتي الكتابةُ تبعاً وبدون تمحّل أو تكلّف. وليأتي بعد ذلك سؤال لمَ تكتُب؟ بدل لمن تكتُب؟!
ولا أعلمُ -صراحةً- هل عانى شعراؤنا وأدباؤنا وكتّابنا -عليهم رحمةُ الله جميعاً- مثل ما نعانيه اليوم، وهل بلغت السخافة والسذاجة بقرائهم مبلغَ الحضيض وسألوهم: لمن تكتبون؟
إني لا أرى داعياً لإثارة هذا السؤال، وطرحه للنقاش، لأنّ العاقلَ يعرفُ أن رسالة الأديب، رسالة الشاعر، رسالة الكاتب… ليستْ حِكراً على جماعةٍ ما أو طائفةٍ ما أو زمنٍ ما… ولا تعني عرقاً دون آخر، فلا يرى حاجةً في تصنيفها، إذ السؤال الوجيه الذي من الواجب أن يطرح: لمَ تكتب؟ وليس لمن؟
هل تكتبُ من أجل الكتابة فقط، كي يُقال فلانٌ كـاتبٌ، شـاعرٌ، قـاصٌّ، روائيٌّ، مُفكِّرٌ…؟
انصرف.. فقد قيلَ.
أم تكتب لأنّك تجد راحتك في الرّسم بالقلم ؟؟ للتّرفيه!
أم لديك رسالةٌ هادفةٌ تريدُ أن تقرأها الأمة كي تحدثَ تغييرا في التّفكير وفي التّعامل…؟ إن كـانَ جوابكَ نعم، فمـاذا أنتجتَ لنا! أما أنا فما كتبتُ ليُقال: كـاتبٌ. ولكن لمّا رخُصَ شأنُ الكُـتّاب، وشأوُ الكتابة في وطني
أصبحتْ في قاموسي ضرباً من أضرب الضرورة، وفرضَ عينٍ على كلّ قـارئ وذي بصيرة.
لماذا تكتُب؟
أكتُبُ؛ كي لا تموتَ أصـابعي من شدّة البرد.
نكتبُ؛ كي لا يشيخَ الحُلمُ بداخلنا و تذبل الأعمار.
نكتُبُ ليتّسع الحزنُ ويسيل القلم.
نحنُ نختـارُ الكتـابةَ فقط عندما نريد الإبحار بمخيلتنا للانعتاق، فنستقلّ الأوراق مركباً، ونجدفُ بأقلامنا نحو العوالم الخفية لسبر أغوارها واكتشاف دررها… فمن حسنات أقلامنا أنها صوتٌ لكلّ الناس الذين عجزوا عن البوح، وعن مصاحبة الأقلام ومضاجعة الكتب… إنّنا لا نكتبُ لنا أو لوقتنا الحاضر، بل نكتبُ لأجيال تعقبنا.. فنحن مؤرّخو المشاعر وإثنولوجيو الأحاسيس..

– ماذا حقق المبدع فيك؟
كل مبدع يريد من خلال إبداعه أن يقدّم للإنسانية شيئاً جميلاً يخفّف عنها نكابتها المتوالية. والمبدع بداخلي أنِفَ الرّكاكة والرّتابة، وتمرّد على المألوف في الدراسات اللغوية والشعرية والفكرية.. أن تُبدع فتلك هي الطريقة الوحيدة لإثبات الذات وبسط التجربة ليستفيد منها الناس… المبدع الذي بداخلي ثار على كل شيء لأجل شيء واحد ووحيد؛ أن أكون أنا كما أنا!

– حدثنا عن مؤلفاتك :

لدي ديوان شعري فيه قصائد شعرية متنوعة: الشعر العمودي، شعر التفعلة، الهايكو.
قصائد تتحدث عن الحب والوطن والأم.. لهذا سميته “ثورة وطن”
ولدي كتاب “حديث الأوراق” هو عبارة عن مقالات نشرتها مسبقا في جريدة المنعطف التي كان لي فيها عمود أسبوعي وأخرى لم أنشرها.. جُلُّها يتحدّث عن الثقافة والأدب والفكر.
شاركتُ كذلك في كتاب جماعي “مداخل منهاج التربية الإسلامية بين الدراسة العلمية والمقاربة البيداغوجية”.
والآن أشتغل على تهذيب وتنقيح رسالتي في سلك الماستر حول “الهرمنيوطيقا وتطبيقاتها الفكر التأويلي الإسلامي”.

– لماذا تشكلت كلماتك على شكل قصائد؟ بمعنى، لماذا الشعر؟
الشِّعْرُ؛ فيضُ وجدان وتألّق خيال!
إنَّ صنعةَ الشِّعْرِ تختلفُ عن جميعِ الحِرَفِ والصَّنـائع، لا من حيثُ الشّكل فقط، بل لكونها صنعةُ قلبٍ وبنانٍ وفكرٍ ولسانٍ! وما جمعتْ حِرفةٌ قطُّ مثلَ هذه الشّمـائلِ العظيمةِ والمناقبِ القيّمة… ومـا أتقَنَ حِرَفيٌّ عظيمٌ صنعتَهُ مثلما أتْقَنَ الشَّـاعرُ الفحلُ، ذو القول الجزل، والرّأي الفصل فنَّهُ في إقـامةِ المعنى ونظمِ اللّفظِ وسبكِ المبنى.
هكذا هيَ نفسُ الشُّعراء والأدباء، انظروا إلى جميع ألوان الحياة ونوائبها (وجعُ الموت، حروبُ الوطن، فقدُ الأحبّة، نكسةُ الأمة، ألمُ الإنسان…) وانظروا إلى أعينهم، حتما ستجدونها مكتحلةً بجميع هذه الألوان! نفسٌ كالطود لا تُطاوعها الظواهرُ الطبيعية فكأنّها فصلٌ واحدٌ لا يتزحزح. لقد أخذوا من أنفسهم وقلوبهم وفكرهم وحياتهم… وخاضوا بهم غمارَ الوغى، وغاصوا في بحر الحياة كي يسبروا أغوارها ويلتقطونَ من دُرَرِها ولآلإها لأجلِ روحِ الإنسان، لأجل الإنسـانية.
فالقصيدةُ ابتداءً؛ هيَ مقصلةُ الشّاعر والمنفى الذي يجرّب فيه طقوس الانتحـار.

– تحدثت في مقال لك بعنوان “تفكيك خطاب النهايات في الفكر الغربي” عن نهاية التاريخ، نهاية الفن، موت الإله، موت الإنسان الخ، هل نشهد كذلك نهاية للمثقف بعد فشله في قيام علاقة نقدية مع ذاته و فكره، و عجزه عن قود المجتمع نحو مجتمع اكثر تقدما؟ و أين يتجلى دور مثقف اليوم في نظرك؟
الحديث عن المثقف اليوم يقتضي الحديث عن السلط، لكون هذه الثنائية الجدلية كانت ولازالت وستبقى مطروحة، لكوننا نتأرجح بين مفهومين:
– سلطة المثقف؛ وهي التي يكون فيها المثّقفُ فاعلاً في مجتمعه، أي؛ بتعبير المناضل الإيطالي أنطونيو غرامشي “مثقفاً عضويا”، وهذا هو المثقف الحرّ الذي يمارس النقد ويعارض استحمار الشعوب ويناهض الاستبداد والاضطهاد والاستعباد.. ويذود بفكره وقلمه عن آلام المجتمعات المقهورة.. وهو نفسه المفهوم الذي اقترحه ابن خلدون رحمه الله، لكون الثقافة عنده صنعة فكرية تمتلكها فئة تتميز عن عامة الناس.
فالمثقف الحقيقي هو كل من لديه موهبة خاصة تمكنه من حمل رسالة، أو تمثيل وجهة نظر، أو موقف والإفصاح عنه إلى المجتمع!
– أما “مثقف السلطة” فهذا هو دأب الكثيرين الآن في الأوطان العربية، الذين باعوا ضمائرهم قبل أقلامهم للسلطة وقد وصفتهم ذات مرة في مقال لي “المثقف العربي بين التجديد والتقليد” على جريدة المنعطف -نسيت العدد- “جُلُّ مثقفّي عصرنا صراصيرٌ وبلابيصٌ تدوس عليهم قدم السائس، وما بقي يتقاضون رواتب شهريةً من الدولة كي يلتزموا بالصمت”!
وستبقى هذه الجدلية قائمة.

– ما دعواك المتقدمة للشباب اليوم في علاقتهم بالثقافة و حاجتهم اليها؟
إننا اليوم بحاجة ماسة إلى الوعي والثقافة، و لا يمكن زرع هذه الثقافة وهذا الوعي إلا عن طريق القراءة والبحث والتنقيب، لهذا أنصح نفسي ابتداءً وجميع إخوتي وأخواتي بفعل القراءة وأضفت “فِعل” للقراءة، لكي تكون قراءتُنا ناجعة وناجحة ومثمرة، لأننا نفتقد كثيرا للقارئ كناقد وباحث وأيضاً كمترجم للقراءة في فِعله وسلوكه داخل المجتمع!
فلدينا الكثير من القراء لكن هؤلاء القرّاء لا يترجمون ما استفادوا في تجربتهم وسلوكهم وتعاملهم…

– كلمة اخيرة؟
أوجه شكري العميق لكِ ولجميع أعضاء مجلة “أصوات أدبية” على هذا العمل النبيل، الذي يعيد للأدب رونقه ومكانته في تهذيب النفوس وترقيتها في مدارج الجمال، كما أشد على أياديكم، راجياً أن تستمر هذه المجلة في العطاء التميّز.

الكاتب محسن اعريوة: أكتُبُ كي لا تموتَ أصـابعي من شدّة البرد

البروتوكول الصحي والتقويم التشخيصي…

أتمنى للجميع موسما دراسيا ناجحا آمنا من كل الآفات.

أود تنبيه زملائي وزميلاتي في المهنة الذين يتهافتون على إنجاز التقويم التشخيصي الكتابي الذي تشير إليه المذكرة الوزارية التي تتعارض بشكل تام مع إجراءات الوقاية الصحية والتباعد الجسدي.
فتوزيع المدرس لأوراق غير معقمة على التلاميذ ثم جمعها بعد الإنجاز يشكل خطرا على الجميع (أساتذة وتلاميذ).
كما أن تصحيح المدرس لهذه الأوراق بدون لباس واق مثلما حرصت الوزارة أثناء تصحيح الباكالوريا سابقا عندما كانت الحالة الوبائية مستقرة يعد أمرا خطيرا أيضا!!!
أما أخذ الأوراق إلى المنازل وتصحيحها في نظري فهو عمل متهور يعرض حياة الأساتذة وعائلاتهم لخطر الإصابة بالفيروس اللعين.
من يقول بخلاف هذا القول فهو يتعارض جملة وتفصيلا مع البروتوكول الصحي الذي تؤكد عليه الحكومة في كل الوزارات من خلال الاشتغال عن بعد في تقديم الوثائق الإدارية الفردية فكيف بنا ونحن مقبلون على ملامسة مئات الصفحات من تلاميذ قادمين من أوساط اجتماعية هشة لا تعرف لوسائل التعقيم سبيلا.. كما أن العديد من مؤسسات التعليم العمومي تعاني من النقص الحاد في مواد التعقيم والتنظيف..
فلنحذر جميعا من أن نكون السبب في نشر المرض بالوسط المدرسي، وإذا كان لابد من إنجاز هذا التقويم فلنعتمد فيه على صيغ أخرى غير كتابية (شفهية)… أو على الأقل ننجزه ثم نضعه في ركن خاص بالقسم لمدة لا تقل عن أربعة أيام دون تصحيحه، مع الحرص على تعقيم اليدين جيدا بعد إنجازه وجمع الأوراق…
حفظ الله الجميع من كل سوء.. آمين 🤲

النزعة العقلانية عند ديكارت ومنهجا البساطة والوضوح..

يرى ديكارت أن العقل ملكة فطرية وأنه موزع بين الناس بالتساوي بحيث ليس هناك شخص أوتي من العقل أكثر مما أوتي الآخرون، وهكذا سيعتبر ديكارت أن هناك معارف وأفكار ومبادئ فطرية توجد في العقل منذ الولادة، وبالتالي هي معارف ومبادئ تتميز بالبداهة والوضوح والإطلاق والكلية، وإذا كان العقل أعدل قسمة بين الناس فإنهم يختلفون فقط في طريقة استخدامه، لذلك فقد وضع ديكارت أربعة قواعد لحسن استخدام العقل، وهي:

§ قاعدة البداهة: وهي تعني أنه لا يجب أن نقبل من الأحكام والأفكار إلا ما يبدو بديهيا، واضحا ومتميزا بحيث لا يرقى إليه الشك أبدا.

§ قاعدة التحليل: يجب علي أن أقسم المسألة إلى أبسط عناصرها وأن أبدأ بمعالجة كل عنصر على حدة حتى يسهل علي حل المسألة ككل.

§ قاعدة التركيب: وهي تعني انه يجب الانطلاق من البسيط إلى المركب بشكل منظم ومرتب يمكنني من حل المسألة بسهولة.

§ قاعدة المراجعة: وهي تعني أنه يجب علي أن أقوم بمراجعات وإحصاءات شاملة للنتائج حتى أتأكد من أنني لم أغفل شيئا.

و يرى ديكارت أن العقل قادر على إنتاج الأفكار والمعارف انطلاقا من مبادئه الذاتية ودونما حاجة إلى أي مصدر خارجي، والعقل في نظره لا حدود له حيث بإمكانه أن يدرك كل الحقائق حتى الميتافيزيقية منها كوجود الله وخلود النفس وبداية العالم.

من المجازفة حصر إسهامات ديكارت المتعددة في الحقل الفلسفي وحده، ذلك أن روحه علمية بالدرجة الأولى. فقد استطاع أن ينتقل من روح سكولائية (تلقينية) وسطوية لاهوتية، إلى فكر عقلاني أسهم في بناء تصورات جديدة، بفضل التحولات العلمية التي عرفتها أوروبا آنذاك، وأساسا الانقلابات (الثورات) العلمية التي أحدثتها فيزياء غاليلي، على التصورات الفيزيائية والفلكية الكوبرنيكية والبطليموسية.
شكلت هجرة ديكارت إلى هولندا، موطن الحريات في أوروبا، آنذاك، محطة هامة دفعته إلى الفكاك من سلطة اليسوعيين، وأتاحت له نافذة جديدة لتأمل العالم. فقد جمعته الصدفة بالطبيب الهولندي إسحاق بيكمن الذي يعود له الفضل في بعث ديكارت إلى درس العلوم الطبيعية والرياضيات للبحث عن الصلات بينهما.
لقد كانت الحاجة إلى ديكارت في زمانه، حاجة إلى أسس جديدة (ميتافيزيقية وفلسفية) للعلم الحديث. ففي الوقت الذي ظلت فيه الميتافيزيقا الأرسطية سائدة بتحجرها وعقم مناهجها وتشعب استدلالاتها وقياساتها المنطقية، سعت العقلانية الديكارتية نحو البساطة والوضوح، نحو رسم منهج وقواعد جديدة لإرشاد العقل، لأن بإمكان هذا العقل أن ينتج المعرفة، وهو الأمر الذي يرفضه السكولائيون اعتقادا منهم بأن كل شيء معطى، وأن الإنسان مجرد متلق سلبي، لا دور له في عملية الإنتاج تلك. هذا التصور اللاهوتي الغارق في القدرية، لن يدوم كثيرا، لأنه سيتعرض لانتقادات ديكارت من أجل تقويضه. وبذلك، فالديكارتية هي بمثابة «بيان من أجل العقلانية»، «بيان من أجل العقل» دشن مرحلة جديدة محورها العقل والذات الإنسانية. بيان يقوم أولا، على الإقرار بالمساواة والعدل في توزع القدرات. فتقريره أن «العقل أعدل قسمة بين الناس»، هو تقرير بأولى مبادئ الديمقراطية أي المساواة، وأمام هذا المبدأ، لم تعد الحاجة إلى تقرير التراتبية أو ما شابه، لأنه حطم وقوض الأساس الذي تقوم عليه المعرفة التقليدية.
الاكتشاف الميتافيزيقي للإنسان
يعود هذا التعبير، إلى العقلاني الفرنسي فردناند ألكيي Ferdinand، Alquié، الذي درس النصوص الديكارتية وفحصها بدقة متناهية.
يشتهر ديكارت بقوله المتداول جدا «أنا أشك، أنا أفكر، إذن أنا موجود». وهو قول يؤسس لفهم جديد للذات الإنسانية، من خلال سعيه نحو قلب النظام المعرفي القديم، لصالح تصور جديد ينبني على الذاتية كمنطلق نحو العالم. والذاتية عند ديكارت، لا ينبغي أن تفهم كمقابل للموضوعية، بل كأساس ومبدأ كل شيء، بإمكانها الوصول إلى اليقين، بدلا من البحث عنه في شيء آخر. والغاية الكبرى لديكارت وراء هذا المفهوم هي التأسيس لميتافيزيقا جديدة تتمحور حول الإنسان كأسمى كائن ميتافيزيقي. فالحقيقة لا تقع خارج الذات الإنسانية بل في جوفها وفي قلبها، وهذا ما تستدعيه العلوم الحديثة التي تنطلق مع ميكانيك غاليلو غاليلي وفلك كوبرنيك، حيث لم يعد الكون فراغا تحكمه قوانين عمياء، كما لم يعد فضاء لا متناهيا. بل إن العلاقة بين الأجسام علاقة ميكانيكية (العلاقة بين السرعة والقوة).
رسم ديكارت تصوره الميتافيزيقي للعالم في كتابين هامين، من ضمن كتبه: كتاب مقال في المنهج، وكتاب التأملات الميتافيزيقية. لذا يصح القول إن فلسفته تنقسم إلى قواعد وتأملات.
يتأسس النظام الديكارتي على التمييز بين نظامين: نظام الأشياء ونظام الحججl’ordre des raisons، فنظام العلل والحجج غير نظام الأشياء، ويهدف إلى هدم النظام القديم، ويتضمن صنفين من الأحكام: النظام التحليلي: analytique والنظام التركيبي: synthétique.
يقر ديكارت بأنه كلما اتجهنا نحو القضايا التحليلية نكون أقرب إلى اليقين، والعكس صحيح، كلما اتجهنا نحو القضايا التركيبية نكون أقرب إلى الظن والشك والريبة. وعلى هذا الأساس، فالقضايا البسيطة أكثر يقينا من المركبة، وهو حال القضايا الرياضية المتميزة بالوضوح: المربع له أربعة أضلاع.
الشك طريق إلى اليقين
العقل «هو أعدل الأشياء توزعا بين الناس». فكل فرد له نصيبه منه، إلا أن طرق استخدام وتوظيف هذه الملكة، تختلف من شخص إلى آخر.
يقودنا الانطلاق من هذه الفكرة، إلى تأكيد مبدأ المساواة، لأن اعتبار العقل ملكة فطرية، أثار أيضا اهتمام التجريبيين الإنجليز، الذين رأوا في ذلك أكبر زلة للعقلانية. فالعقل في نظر هؤلاء، ليس إلا أداة يستخدمها الإنسان لإنتاج المعرفة، ولكنها أداة لا يمتلكها الناس بالفطرة، قدر ما هي مكتسبة ترتبط وترتهن بالتجربة الإنسانية. أي أن العقل مجرد صفحة بيضاء. وسيخترق هذا السجال الفلسفي بين الاتجاهين التجريبي والعقلاني كل التاريخ المعرفي للبشرية.
دشن ديكارت تفكيرا جديدا، لأن اتباع آراء الآخرين لا يقدم أي جديد بالنسبة له. لقد كان بإمكانه اتباع آراء أفلاطون وأرسطو، إلا أن اقتناعه بأن ذلك الطريق لم يعد مجديا، أفضى به إلى البحث عن طريق جديد. هكذا سار وحيدا في طريق الظلمات، بحثا عن منهج جديد لهدم الآراء القديمة وبناء آراء جديدة. وبهذا سيتوجه بالنقد الشديد لمختلف المعارف التي تلقاها منذ طفولته، بل سيطرحها جانبا وسينطلق من الشك.
لاحظ ديكارت أن معظم أحكامنا ترتبط بالحس وتتعلق به. وأن معارفنا تتكون من آراء تتعارض فيما بينها. وهذا ما يستوجب أولا الشك فيها، ولو مرة واحدة، بهدف السعي وراء بناء معارف جديدة كل الجدة. فالحواس في نظره مخادعة، بحيث لا يستطيع التمييز بين عالم الحلم وعالم اليقظة. وهذا ما يستوجب ثانيا الشك فيها. لكن السؤال الأساسي هنا هو: هل يمكن للشك أن يبلغ اليقين؟ هل يمكن الشك في البداهات واليقينات الرياضية (في الأعداد والأشكال) أن يؤدي إلى اليقين؟
يمكن للإنسان أن يخطئ بصدد هذه اليقينات الرياضية، مثلما يخطئ بصدد المحسوسات. وهذا ما يستلزم في نظر ديكارت، وجود إله كامل الضمان «يضمن عدم وقوعي في الخطأ، فالله وحده قادر على كل شيء، وهو صانعي وخالقي على نحو ما أنا موجود». ما يبرر الشك إذن، في نظر ديكارت، هو أنه لا يملك بعد الدعامة الميتافيزيقية للحدس العقلي، تلك الدعامة وذلك الضمان الذي لا يمكن أن يوجد إلا في الله.
صمم ديكارت عزمه على أن يعرف كيف يتصرف العقل على طريقة البرهان الرياضي. أي أنه عزم على أن يحلل المنهج الرياضي إلى عناصره العقلية. وهي العناصر التي يعرضها لنا في الجزء الثاني من مقال في المنهج: البداهة، التحليل، التركيب، المراجعة. وإجمالا، فإن الشك الذي يطبقه ديكارت في كتابه «مقال في المنهج»، يختلف عن الشك الذي يطبقه في كتاب التأملات، ذلك أن الشك في المقال، هو شك معرفي لا يتجاوز الحدود التي يرسمها له ويضعها للجمه. في حين أن الشك في التأملات، هو شك جذري hyperbolique لا حدود له، يدفعه إلى أبعاده القصوى، لذا من اللازم الوقوف على كتاب التأملات لبيان مدى وجاهة هذا القول.
ب – نحو شك جذري
يحكي ديكارت في التأمل الأول، عن معرفته التي تلقاها والتي انبنت على آراء خاطئة، معلنا عزمه وإصراره الدائم على بلوغ اليقين، وعلى وضع ما تلقاه منذ الطفولة موضع شك. وهكذا يبدأ بالحواس (أهم مصدر للخطأ لأنها مخادعة)، ثم يشك في إن كان في اليقظة أو في النوم، ويدفع به إلى أقصاه عندما يشك في القضايا الرياضية.
يقول في الفقرة الأولى، هناك كثير من الآراء الخاطئة التي نتلقاها منذ الصغر، وينبغي هدمها لتأسيس معرفة جديدة. لكن لا ينبغي أن نعمل على هدم كل رأي على حدة، وإنما ينبغي هدم الأسس التي تقوم عليها، وأهم تلك الأسس: الحواس التي إذا خدعتنا فإن معرفتنا ستكون خاطئة.
تتميز العقلانية الديكارتية بكونها عقلانية قطعية، يقينية، لا تستند إلى الاحتمال ولا وسط فيها. فالعقل عند ديكارت دوغمائي، لا يؤمن بالوسط بين الشك واليقين. فإما أننا نخطئ ونقع ضحية الخطأ، وإما أن نصل إلى اليقين. لذلك فالعلوم عنده إما مركبة أو بسيطة. وهناك نظامان كما سبقت الإشارة: نظام الأشياء، ونظام العلل، وهذا الأخير نوعان: نظام تحليلي: تتميز أحكامه بكونها بسيطة، يقينية، بديهية وصادقة، كما هو الحال في الهندسة وفي الحساب. ونظام تركيبي: لأن الأحكام التركيبية غير يقينية وأقل بديهية، كحال الفلك أو الطب.
دشن ديكارت الشك بالحواس، وانتقل إلى النوم واليقظة، وانتهى بالحقائق الرياضية. وكان يعتقد دوما أن هناك إلها كلي القدرة والاستقامة، وهو خالق الإنسان على ما هو عليه.

مفهوم العنف الرمزي عند بيير بورديو


مقدمة:
يعد مفهوم العنف الرمزي من أكثر اكتشافات بورديو الفكرية تألقا وأهمية، وقد شكل مفتاحا سوسيولوجيا لأكثر القضايا الفكرية أهمية وخطورة في العصر الحديث. ويمتلك هذا المفهوم سحره الفكري الخاص في قدرته على استكشاف أعمق مجاهل الحياة الفكرية تعقيدا، واستقصاء أبرز متاهاتها السياسية والاجتماعية تشابكا وغموضا. وقد وُّظف هذا المفهوم جيدا في إنارة الدهاليز المظلمة لقضايا اجتماعية كبرى مثل: الهوية، والطبقة، وإعادة الإنتاج، والصراع الطبقي، وسلطة الدولة.
ويعود للمفكر الفرنسي بيير بورديو الفضل في بناء هذا لمفهوم وإكسابه المشروعية الفلسفية، إذ بذل جهودا مُضنية من أجل التّعريف بأبعاده وحدوده، وعمل على استكشاف دينامياته السوسيولوجية وملابساته الفكرية، كما استكشف الآثار والوظائف الأيديولوجية التي يؤديها العنف الرمزي الذي يتصف بذكائه ودهائه وقدرته على التخفي، ونصب الكمائن لضحاياه في مختلف المستويات الأيديولوجية، كما بيّن قدرة هذا النوع من العنف على المراوغة والمداهنة إلى درجة يستطيع فيها أن يتخفى على ممارسيه وضحاياه في آن واحد.
تناول بورديو العلاقة الملتبسة بين العنف الرمزي واستلاب الهوية، ودرس أبعاد وحدود هذه العلاقة بمختلف تجلياتها مستكشفا مختلف الآثار التي يتركها هذا العنف في التكوينات الإنسانية للهويات الفردية والاجتماعية. وعمل في سياق ذلك على تقصي الآلام النفسية التي يولدها هذا العنف عند الجماعات المهمشة، مثل: الجروح النرجسية للهوية، وتبخيس الذات، والنكوص الثقافي وغير ذلك من الأعراض السيكولوجية الثقافية.
في مفهوم العنف الرمزي
غالبا ما يجري الخلط بين العنف الرمزي والعنف السيكولوجي، فهناك عدد كبير من الباحثين الذين يحيلون العنف الرمزي إلى العنف السيكولوجي، وهذا يتعارض مع الحقيقة السوسيولوجية للعنف الرمزي الذي يختلف كليا وجوهريا عن العنف النفسي كما عن أي شكل آخر من أشكال العنف.
فالعنف الرمزي مقارنة بأي شكل آخر من أشكال العنف يكون غامضا مستترا خفيا ناعما، ولكن نتائجه قد تكون كارثية فيما يتعلق بتوجهات الحياة الاجتماعية بمساراتها الفكرية والأيديولوجية. ويضاف إلى ذلك أنه عنف إشكالي وظيفي، يحمل في ذاته طابعا أيديولوجيا، وهو يثير كثيرا من الجدل بين الباحثين والمفكرين.
وقد دأب بيير بورديو على استخدام مفهوم العنف الرمزي، في أغلب كتاباته السوسيولوجية والتربوية، كما في أعماله الأدبية، ووظفه في استكشافه لأبعاد الهيمنة الذكورية، والسيطرة الأيديولوجية، ومعاودة الإنتاج، وفي دراسته ” للهابيتوس” أو التطبيع الطبقي والعائلي وغير ذلك من القضايا الفكرية والاجتماعية التي تناولها في مجمل نظرياته وأعماله العلمية ([1]).
يعرف بورديو العنف الرمزي ” بأنه عنف ناعم خفي هاديء، وهو خفي مجهول من قبل ممارسيه وضحاياه في آن واحد”، ويقول عنه في سياق آخر: “إنه عنف هادئ لا مرئي لا محسوس حتى بالنسبة إلى ضحاياه”. ويتمثل في اشتراك الضحية وجلادها في التصورات والمسلمات نفسها عن العالم. ويتجلى هذا العنف في ممارسات قيمية ووجدانية وأخلاقية وثقافية تعتمد الرموز كأدوات في السيطرة والهيمنة، مثل: اللغة، والصورة، والإشارات، والدلالات، والمعاني، وكثيرا ما يتجلى هذا العنف في ظلال ممارسة رمزية أخلاقية ضد ضحاياه ([2]).
والعنف الرمزي ينبثق عن سلطة رمزية، ويعبر في جوهر الأمر عن توجهاتها، وهذه السلطة تقوم على أسلوب التورية والتخفي، فهي سلطة لامرئية تنطلق من مبدأ تواطؤ أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها. لهذا يكون تأثير السلطة الرمزية أعمق و أخطر من أي سلطة أخرى لأنها في جوهرها تستهدف البنية النفسية و الذهنية لضحاياها، و بالتالي فهي – أي السلطة الرمزية تخطط لفرض أهدافها المرسومة وإنتاج الأدوات و الآليات و المعايير المناسبة لإخضاع من تستهدفهم، وذلك لتثبيت و خلق واقع وضع إنساني مرغوب فيه و مخطط له، و تمارس هذه السلطة الرمزية فعاليتها بطريقة منظمة و بنائية متكاملة تحت غطاء التخفي والاختفاء، أي وراء أقنعة المألوف العادي وأنظمة التقاليد والمقولات والخطابات المنغرسة في عقول الناس والثاوية في ضمائرهم.
ويمكن القول في هذا السياق أن العنف الرمزي هو نوع من العنف الثقافي الذي يؤدي وظائف اجتماعية كبرى، ويمكن تلمسه في وضعية الهيمنة التي يمارسها أصحاب النفوذ على أتباعهم بصورة مقنّعة وخادعة، إذ يقومون بفرض مرجعياتهم الأخلاقية والفكرية على الآخرين من أتباعهم، ويولدون لديهم إحساسا عميقا بالدونية والعطالة والشعور بالنقص ويخضعونهم لنسق من المعايير والرموز التي تؤكد دونيتهم ووضعياتهم الثانوية عبر عمليات ومشاعر النقص والضعف والافتقار إلى الجدارة والموهبة والشرف والكرامة وضعف تقدير الذات. فالهيمنة الرمزية تمثل في جوهرها عملية تطبيع الآخر على الشعور بالدونية ، وضعف الإحساس بالقيمة الذاتية، وازدراء الأنا ، كما تمثل في جوهرها عملية تمويه وتورية واختفاء ومواربة في تحقيق أهدافها وغاياتها السلطوية.
والعنف الرمزي، سواء أكان مقترنا بالعنف الفيزيائي أم لا، يولّد آلاما كبيرة تنال العمق الأساسي للهوية وتستلبها. وهذا يتشكل بتأثير التصورات الرمزية التي تأخذ صورة نسق من المعارف والمقولات والمفاهيم والتصورات التي تحدد هوية جماعة ما مقارنة مع الجماعات الأخرى. وبالتالي فإن هذه التصورات الرمزية حول الذات التي يستبطنها الفرد رمزيا تعمل على تشكيل هويته الفردية والاجتماعية. وهذه التصورات كما أشرنا تكون نتاجا للعنف الرمزي الذي يمارس بصورة مباشرة أو عبر فعاليات ثقافية.
جروح الهوية:
تتعرض وحدة الهوية للخطر بصورة دائمة تحت تأثير عوامل الانشطار والانكماش والتجزؤ والتفكك والإحساس بالدونية، وهذا ما يطلق عليه علماء النفس قلق التفكك والانشطار (Angoisse de morcellement) الذي يضع الفرد تحت تأثير نوبة من الشعور بالقلق والتوتر. فالفرد، رغم شعوره بوحدته وتماسكه وتفرده، ليس واحدا على مرّ الزمن، ومن ثم فإن أفعاله في وقت محدد ليست تعبيرا مؤكدا للشعور بالهوية وتأكيد الذات، وذلك عندما نأخذ بعين الاعتبار وضعيات المعاناة والإكراه التي يكابدها الفرد في التكيف مع كل حالة من حالات الوجود والاستمرار.
فالفرد يكوّن جوهر هويته ويشكلها في مختلف مراحل التنشئة الاجتماعية تحت تأثير فعالية رمزية مكثفة تنطلق من تشكيلات ثقافية سائدة في الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه. وهنا في هذا الحقل الرمزي ترتسم أنماط التجاوب مع التحديات في سياق درامي في مختلف المستويات الحياتية عبر أسئلة تتعلق بالهوية، مثل: من أكون؟ أو من أنا بالتحديد؟ ما معتقداتي؟ ما ولاءاتي الأساسية؟ في هذا النسق من الأسئلة يرتسم الحقل الرمزي المشكل للهوية والأنا بمعنى تأخذ الرموز دورها في تشكيل هوية الفرد والجماعة. وهذه التحديدات الرمزية الخاصة بالهوية تنطوي على رؤية شمولية يمكنها أن تتجلى وفقا لتنوع الحالات والمواقف التي يواجهها الفرد في مسار حياته الإنسانية.
لنأخذ مثالا على تأثير الحقل الرمزي في تكوين الهوية: يمارس اسم الفرد فعالية رمزية مؤثرة، لأن الاسم غالبا ما يحدد جنس الفرد وفقا لأغلب الثقافات، كما يرمز إلى صفات ومعاني يختزنها الفرد لاشعوريا في مختلف مراحل تكونه النفسي والاجتماعي. وهذا يعني أن الاسم الدال على الجنس يرسخ رمزيا في الوعي الفردي نواة الهوية ومركزيتها. ومن المهم في هذا السياق معرفة الدور الكبير الذي يمارسه النسق الرمزي في علاقته مع التحديات التي يواجهها الفرد عبر مسارات الحياة اليومية عبر الزمن. فالفرد يرسم نفسه عبر تجاربه الحية في الحياة وعبر علامات راسخة ونقاط علام أساسية توجه مسار حياته نفسيا ورمزيا، وهنا فإن كل المعايير والدلالات التي تثبت وتقاوم الظروف الزمنية تشكل محورا أساسيا للهوية حيث يرمز الثبات إلى انتصار الأنا والذات في مواجهة الموت والعدم.
فالفرد، عندما يريد أن يعزز شعور الهوية والإحساس بالأنا، يعمل على تزكية قيم أخلاقية مرجعية لتشكل مصدرا للسلوك والفعل لديه. وهذه القيم تعطي سلوكه طابع المشروعية التي تؤكد وحدة الشخصية وتماسكها، ومن هنا يمكننا أن ندرك أن عملية اكتشاف الهوية وتنميتها ترتبط جوهريا بالعقائد الدينية والفلسفية؛ كأن يكون المرء مسلما أو مسيحيا أو عقلانيا أو ملحدا. فالإنسان كائن اجتماعي ينزع أن يكتشف نفسه بطريقة مميزة غالبا ما تكون رمزية، ووفقا لذلك فإن الفرد يحمل في ذاته هوية الجماعة التي ينتمي إليها عبر تدفق هائل من الرموز والإشارات والمعاني التي توجد في البيئة الثقافية للجماعة التي ينتمي إليها.
لا يولد العنف الرمزي ضد الجماعات الهامشية بالضرورة من السلوك المتعمد والمقصود. وإذا كانت هناك أفعال ومقولات، تهدف بصورة متعمدة إلى ازدراء الآخر وإهانته، فهذه الأفعال والأعمال تكون من نمط آخر مختلف تماما. فالآلام التي تتعرض لها الهوية لا تقف عند حدود احتقار الذات، إذ يمكن أن تتجاوز ذلك إلى عملية تدمير المرجعيات الأخلاقية والقيمية التي تؤكد الهوية وترسم أبعادها.
العنف الرمزي بالتبخيس:
كل تأكيد للذات في الحياة – كما يعتقد جورج ميد George Mead – يتضمن أحكاما قيمية ضرورية، ومهما يكن الأمر، فإن الهوية تتشكل جوهريا عبر العلاقة بالآخر، وهذا بالضرورة يقتضي تصنيفا اجتماعيا للناس في طبقات ومراتب وفقا لمعايير الأعلى والأدنى. فبعض الجماعات تنزع إلى إظهار معايير ومؤشرات تفوُّقها، وهذا يشكل موقفا مكروها ومرفوضا من قبل الجماعات الأخرى. فالأيديولوجيات الطبقية التي تتعلق بالطبقات الارستقراطية العليا أو النخبة أو البرجوازية أو الطبقة المتوسطة التي تحمل رسالة حضارية تصنف جميعها في هذه الفئة الاستعلائية.
فالتبخيس والازدراء وتهميش الهوية أمر صادم ومدمر، ويمثل عملية اغتصاب لقيمة إنسانية ضرورية لتوازن المجتمعات الديمقراطية القائمة على مبدأ المواطنة. ففي المجتمعات الأوروبية يوجد اليوم رفض صريح للخطاب العرقي والسلوك التعصبي والتمييز الذي يستهدف الجماعات وينال من قيمتها وشخصيتها وأركان هويتها المتعلقة بالأصل والعرق والدين والجنس. فالتبخيس والتهميش يتم عبر الإهانات والتحقير والتصغير والتشهير والتمييز وهي أفعال تمييزية تنتقص من قيمة الفرد وتدمر مرجعيات هويته الإنسانية.
لقد دأبت السياسات الاستعمارية على توظيف هذا النوع من التبخيس والتدمير الثقافي للهوية ضد الشعوب المستعمرَة، وذلك تحت ذريعة التنوير والتبشير والديمقراطية. ويمكن تصنيف تسميات: بلدان العالم الثالث، البلدان النامية، بلدان الجنوب، البلدان المتخلفة، تحت هذا العنوان التبخيسي للهوية. ومما لا شك فيه أن هذه التسميات وغيرها، التي أطلقت على الشعوب المغلوبة، تمثل أحكاما قيمية غامضة تبخيسية بذاتها، وترمز إلى تقدم المجتمعات الغربية وتفوقها.
في البلدان الغربية تتشبع السياسات الاجتماعية التي اتخذت لمساعدة الفئات المهمشة والضعيفة، مثل: العاطلين عن العمل، والمعوقين، والمهجرين، والفقراء، بأحكام قيمية مدمرة لمرتكزات الهوية الاجتماعية لهذه الفئات. فالحياة في الأحياء الفقيرة، في ظل غياب مريب للخدمات الاجتماعية، تشكل شاهدا على عملية تدمير مرتكزات الأنا والهوية ؛ حيث تهمل هذه الأحياء من قبل المؤسسات السياسية والإدارية عمدا، ويتعرض سكانها لعملية تبخيس دائم ومستمر، يؤدي في النهاية إلى استبطانهم الإحساس بالدونية، وفقدان القيمة الإنسانية، وعدم الأهلية.
فالنزعات: القومية، والعلمانية، والاشتراكية الثورية، والليبرالية، تمثل تيارات وقوى سياسية، عملت على نشر أيديولوجيات شمولية، ترتكز في جوهرها إلى ثقافة تعصبية مهينة، ولكنها فعالة في مجال الحياة السياسية، إذ يجد الخطاب التبخيسي في تلك الثقافة السياسية الجديدة مصادره، ويأخذ مداه، ويمارس تأثيره بقوة واضحة المعالم.
لقد أدت الحروب الأهلية في أوروبا، في القرن العشرين، إلى إيقاظ وعي عام جمعي مضاد لثقافة التبخيس والكراهية إزاء مختلف التكوينات العرقية والجماعات الهامشية والأقليات في تلك البلدان. وعلى خلاف ذلك فإن التصورات التي ترمز إلى دولة الرفاهية والتقدم والرفاه الاقتصادي قد عززت فكرة التصنيفات الغامضة التي تأخذ طابعا لا يخلو من التبخيس المبطن الذي تعاني منه الفئات الاجتماعية المهيضة والمهمشة. ووفقا لهذا المقياس يتم الحكم على دونية المهاجرين، الذين تدفقوا إلى أوروبا، في النصف الثاني من القرن العشرين؛ وبحكم الظروف السائدة آنذاك، وجد هؤلاء المهاجرون أنفسهم بالضرورة في وضعية تبخيس وازدراء، وشكلوا موضوعا للكراهية والتعصب من قبل السكان الأصليين، وهذا بدوره أثر كثيرا على تدمير مكونات الهوية الثقافية لديهم.
تدمير المرجعيات الثقافية:
تأخذ الثقافة وضعية رمزية وهي في حقيقة الأمر تشكيل رمزي. ومن هذا المنطلق يعرفها سلزنك ” بأنها، أي: الثقافة، كل شيء يتم إنتاجه عن طريق الخبرة الرمزية المشتركة وله القدرة على مساندتها “([3]).
نعني بالمرجعيات الثقافية للهوية منظومة من المعايير والقيم والمشاعر الأساسية والتصورات التي تسمح للفرد بأن ينتمي إلى ذاته، ويشعر بتماسك هويته، ويأخذ وضعية محددة في العالم الذي يعيش فيه، وفق مخطط من التصورات والمشاعر والمعايير التي تتسم بالوضوح والوحدة والتكامل، وهذه التصورات، تشكل بدورها المحددات الثقافية والتربوية، التي تمكّن الفرد من أن يرسم نسقاً من الفعاليات التي تسمح له بعملية التكيف والاستمرار بوصفه وجودا وذاتا وهوية، في عملية تفاعله مع مختلف مثيرات وظروف الوسط البيئي الإنساني والاجتماعي والثقافي الذي يحتضنه. وهذه المرجعيات تسمح للفرد على سبيل المثال أن يقدم إجابات واضحة حول قضايا وجودية وحيوية لعلاقاته بالوسط والآخر، حيث يفرض المرء، بالاستناد إلى شروط وجوده، مخططا واضح المعالم للحياة والوجود يحدد من خلاله مختلف المعايير التي يعتمدها في وجوده واستمراره وتكيفه؛ وتكون هذه المعايير نقاط علام بارزة في مسار التكيف والاستمرار والوجود، من مثل: ما الأشياء التي تخصني؟ وما التي تخصك أنت؟ من خصومي؟ من أعدائي؟ كيف أفرض نوعا من الأمن الذي يتعلق بوجودي وكينونتي؟ مع من أتضامن وإلى من ألجأ ساعة الخطر؟ ما أنماط السلوك المشروعة وغير المشروعة التي يمكن أن أؤديها؟ ما الأمور المرغوبة التي يفضل أن أقوم بها؟ ما الأشياء المهمة وغير المهمة التي يجب الاهتمام بها؟ ما الأمور التي يمكن أن تثمن عاليا؟ وما تلك التي تكون هامشية؟ ما المقدس وما المدنس في الحياة؟ ما الغاية وما الوسيلة في الوجود؟ هذه الأسئلة وغيرها تشكل مسار وحدود المرجعيات الخاصة بالهوية التي تشكل نواة الوجود والهوية والإحساس بالأنا والتمايز الثقافي.
وفي هذا الخصوص يمكن القول: إن أي خلل، أو ضرر، أو تدمير، يصيب هذه المرجعيات، سيؤدي بالضرورة إلى عملية هدم للهوية ذاتها، وهذا يتم تحت تأثير مجموعة من العوامل والتأثيرات المقصودة وغير المقصودة، التي تشكل نوعا من العنف الرمزي المدمر للهوية. فأي تبخيس واستصغار وإشعار بالدونية، وأي أحكام سلبية رمزية تباشر هذه المكونات الأساسية للهوية، يمكنها أن تشكل خطرا على مكونات الهوية ووحدتها. والأمثلة على هذا النوع من العنف الرمزي تتعدد وتتنوع بتعدد وتنوع الديناميات النفسية الاجتماعية.
ويمكن القول هنا: إن الشكل الأول للعنف الرمزي يتجلى في الخلل الذي يعتري الوسط العاطفي والانفعالي المرجعي للفرد، وهذا هو الخلل الذي أفرزته الحداثة الغربية التي عملت على هدم المرتكزات الرمزية للأديان السماوية، وهذا بدوره شكل فوضى قيمية كبيرة في مجال الإحساس بالهوية الدينية. فالمؤمنون اليوم يعيشون في عالم انقلب فيه نسق الأسباب والمسببات فحلت السببية العلمية مكان السببية الإلهية، وحلت فكرة التقدم العلمي مكان العناية الإلهية، وتركت فكرة الكمال الإلهي مكانها للأخلاق العملية وأدى هذا كله في النهاية إلى التباس الهوية واضطرابها.
فالجماعات المهمشة، ولاسيما الأقليات، تعلن رفضها لكل ضروب القهر الرمزي والأخلاقي حفاظاً على هويتها، وهي تعمل في الوقت نفسه على مهاجمة هؤلاء الذين ينتهكون قيمها وتصمهم بالخيانة والعار. وهذه الحالة الدفاعية لا تلغي مع ذلك قلق هذه الجماعات وخوفها، وقد تدفع هذه الوضعية بهذه الجماعات إلى الانغلاق العقائدي لتعزيز أفكارها وتصوراتها لدى أفرادها والمنتسبين إليها، وهي تفعل هذا وفق آلية التغذية الذاتية العفوية حفاظا على مكونات هويتها التي تتعرض للضغط والفوضى بتأثير عوامل الصدمة مع معتقدات الآخر وأنماط وجوده. والشكل الأكثر تطرفا لهذا النمط من العنف الرمزي يتمثل في عملية تدمير الرموز، ولاسيما الرموز الدينية تعبيرا عن رفض كل ما يتصل بالعقائد الدينية حيث يتم تدمير المقدس وانتهاكه ولاسيما في المعابد والمراكز الدينية.
ويشهد العالم المعاصر تنامي أشكال مختلفة من العنف الرمزي الذي يستهدف مرجعيات الهوية وأسسها المركزية، وهذه الأشكال ليست نوعا من التبشير الكلاسيكي الموسوم بالعنف، الذي يفرض نفسه بقوة المؤسسات الكبرى، مثل هذا الذي مارسته الكنائس التبشيرية.
وفي النهاية يمكن القول بأن النتائج السياسية لهذا العنف الرمزي تكون على درجة عالية من القوة والتأثير، حيث يؤدي هذا العنف إلى ثقافة المتاريس، أو إلى التمترس الثقافي، كما يؤدي إلى توليد التناقضات والتوترات في مكونات الهوية، أي إلى الفوضى الأخلاقية وفقا لمفهوم “الأنومي” عند دوركهايم، إذ تكمن خطورته في دفع الجماعات المهمشة إلى استبطان مشاعر الدونية، واستصغار الأنا، وازدراء الذات، وتبخيس الهوية، كما يؤدي أحيانا إلى توليد مشاعر النقمة واللجوء إلى العنف عبر التماهي بسلوك المتسلط أو الجلاد. ومن المؤكد أن العنف الرمزي يؤدي إلى تعزيز وتوليد العنف الفيزيائي، وهو عنف يؤدي إلى تجاوز الحصانة القانونية والمعايير الأخلاقية التي تعمل على حماية الجماعات القوية أو المهيمينة ([4]).
الطاقة الاستلابية للعنف الرمزي:
يشترك الضحايا والجلادين في التصورات الاستلابية نفسها عن العالم ويؤمنون معا بكل المقولات والمفاهيم والتصورات التي تضع الإنسان في أقفاص المذلة والمهانة والاستلاب. ونحن عندما نتأمل في الأفكار الاستلابية ضد الفئات المهمشة نجدها خرقاء عمياء جوفاء في جوهرها ومضمونها حيث لا تؤيدها الحجج العقلية ولا يرأبها المنطق الذكي. فالعنف الرمزي اشد أنواع العنف الاستلابي الموجه ضد الإنسان خطورة وفتكا وهو نوع من العنف الثقافي الذي تشكل عبر مئات السنين من تاريخ الإنسانية.
وفي مجتمعاتنا العربية يشكل الإنسان موضوعا للعنف الرمزي في الممارسات الثقافية والتربوية السائدة في حياتنا الاجتماعية، ويتميز هذا العنف بقدرته الهائلة على التخفي وراء الرموز والدلالات والمعاني كما يتميز بقدرته على التغلغل العفوي في الوعي على صورة عدوانية مضمرة ضد المرأة والطفل والفئات الهامشية. ويتجلى العنف الرمزي ضد الفئات الاجتماعية المهمشة في نسق من متدفق الإشارات والدلالات والرموز السلبية التي تستلب الإنسان وتحاصره دون أن تأخذ هذه المعاني والرموز صورة واضحة صريحة بشحنتها العدوانية التي تضع الإنسان المهمش في قفص الاتهام الرمزي.
ولو أخذنا الاستلاب الرمزي الموجه ضد المرأة على سبيل المثال لا الحصر لوجدنا نسقا رمزيا بفيض لا حدود له من الصفات والسمات السلبية التي تأخذ المرأة إلى مرابض التوحش والجريمة والغواية تحت عنوان الطبيعة الشريرة للمرأة. فالمرأة وفقا لهذا النسق تتصف بالخبث والكذب والسحر والفتنة والعار والغطرسة والخفة وضعف العقل والخيلاء والغواية والشيطنة حيث هي باختصار مصدر كل شر وفساد وبلية وشكوى تحلّ بالإنسان بالمجتمع.
يتميز العنف الرمزي في ثقافتنا بقدرته على التخفي والانسياب في العقل دون أن يشعر ضحاياه بهذه القوة التي تخضعهم أو تستلبهم. فهو أشبه بالتيارات البحرية التي تأخذك إلى أعماق البحار وأنت ما زلت تعتقد أنك في المكان الذي كنت فيه لم تغادره. فالعنف الرمزي قوة تتغلغل فينا وتبرمجنا بصورة لاواعية فتجعلنا وكأننا نخضع لأنفسنا وليس لقوة خارجية اخترقت جدار وعينا واستقرت في عقولنا الباطنية. باختصار إننا نستبطن رموز هذا العنف بطريقة تبدوا لنا وكأنها قيما كبرى يجب أن نتبناها وندافع عنها، وخير مثال على ذلك دفاع العبد عن سيده ، والضحية عن مفترسها، والمرأة عن رجلها الذي يمتهن كرامتها، لأن العنف بطاقته الرمزية تغلغل في أعماقنا واستقر في عقلنا الباطن، فأخذ يبرمجنا من الداخل من العمق، مع أنه في الجوهر نابع من مصادر خارجية. باختصار إنه أشبه بالأفيون الذي يسيطر على ضحاياه ويدمرهم من الداخل دون يشعروا به، وصاحب العنف الرمزي أي من يروج له ويصنعه أشبه بمروج المخدرات الذي ما أن يدفع ضحاياه لتذوقه حتى يصبح قوة داخلية تسيطر عليهم وتدمرهم إلى حين.
والمرأة من أكثر الفئات الاجتماعية تأثرا بالعنف الرمزي الذي تتشبع برموزه وسمومه في مراحل طفولتها ونشأتها وشبابها حتى تصبح أكثر الفئات الاجتماعية إحساسا بالدونية واقتناعا بها فهي أكثر من يؤمن بطبيعتها الشريرة المزعومة وأكثر إيمانا بأنها دون الرجل وأكثر اندفاعا في مهاجمة حقوقها ومهاجمة الرجل الذي يدعو إلى تحريرها.
وهذه التصورات ليست حكرا على عالم الرجال بل تحتل مكانها في عقل المرأة ووعيها وهذا يمثل قمة الاغتراب وغابة الاستلاب الإنساني. فالمرأة بذاتها تدرك هذه التصورات وتتمثلها في كثير من الأوقات حتى أنها تجد مبررا لخطاياها وعيوبها تحت عنوان ضعف المرأة وغوايتها وقابليتها للإغواء.
فالمرأة تخضع لنوع من الاستلاب الرمزي الذي يفرغها من مضمونها الإنساني ويحرمها من امتيازاتها الأخلاقية والاجتماعية، وما يجري على المرأة في تعرضها للاستلاب الرمزي يجري على الفئات الهامشية الدنيا في المجتمع، مثل الأطفال، والجماعات العرقية، والطبقات الاجتماعية الدنيا مقارنة بالطبقات العليا والوسطى.
خلاصة:
يقول المفكر الفرنسي بول ريكو Paul Ricœur إن ” العنف الرمزي يتجه في مساره، بوضوح أو بغموض، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، إلى السيطرة على الآخر والهيمنة على مقدرات وجوده ([5]). فكل عنف وفقا لتصور ريكو هو اعتداء على إنسانية الآخر، وبالتالي فإن أي عنف يشكل عملية ضرر وأذى موجه ضد الآخر، وهذا يتضمن رفض الاعتراف بوجود الآخر وإنسانيته أيضا.
فالرغبة في إقصاء الخصم وإبعاده إلى دائرة الصمت، ومن ثم العمل على إلغائه تتحول إلى إرادة طاغية تتجاوز حدود الرغبة في المصالحة معه وبناء التوازن. وهنا تتعدد أشكال العنف وصيغه التي تبدأ بالإهانة والاحتقار والإذلال لتصل عبر التعذيب إلى الموت والإفناء. ووفقا لهذه الوضعية يمكن القول إن النيل من كرامة الإنسان والطعن في أهليته الإنسانية يشكل طعنا في وجوده وكينونته، ونيلا من حريته وكرامته. ولذا فإن فرض الصمت على الآخر هو صيغة من صيغ العنف، كما أن حرمان الإنسان من حرية الكلام، يعني حرمانه من حق الحياة نفسها. فالظلم الذي يحيق بالإنسان ضمن شروط اغترابية، تتمثل في الإقصاء والقهر، يشكل وضعية عنف مجسد ومجسم. فالعنف هنا لا يمثل كيانا ذاتيا قائما بذاته، بل يوجد في وسط اجتماعي محدد، حيث يتخذ هيئته وصورته بين الناس والبشر وخارجهم أيضا، ومع ذلك فإن الإنسان يبقى في النهاية المسؤول عن حضور العنف وممارساته المختلفة.
والعنف الرمزي كما يرى سيمون وايل Simone Weil هو الفعل الذي يقوم به شخص ما لإخضاع الآخر وإفنائه، ولذا فإن ممارسة العنف حتى الحد الأقصى، تجعل من الإنسان مجرد شيء بالمعنى الدقيق للكلمة، ومثل هذا العنف القاتل يأخذ صيغا متنوعة فيما يتعلق بإجراءاته وأدواته ونتائجه.
وإذ يقال اليوم إن العنف هو إساءة استخدام القوة والإفراط في توظيفها، فإنه لا غبار في القول: إن العنف يفوق ذلك ويتجاوزه؛ فالعنف بذاته أمر فظيع لأنه حالة اغتصاب لجسد الآخر وعقله ونفسه وكينونته الإنسانية. فكل عنف هو تعسف وفظاظة وتدمير وقهر، لأنه ينال من الإنسان ويستهدف كيانه الإنساني ويخترقه بالألم والمعاناة، كما يجرح ويدمي ويقتل الشخص الذي يقع ضحية له.
ومن المفارقة بمكان أن الإنسان الذي يقع ضحية العنف يصبح هو نفسه قادرا على ممارسة العنف ضد الآخرين. والإنسان عندما يفكر في نفسه ويتأمل في ذاته غالبا ما يكتشف صورة العنف في أعماقه. والعنف لا يقتل الخصم فحسب بل يؤدي في نهاية الأمر إلى تدمير إنسانية الذي يمارسه في جوهر الأمر. أن يضرب المرء، أو أن يُضرب، أن يَعتدي أو يُعتدى عليه، فهذا يعني ارتكاب الخطيئة والخروج عن الصراط المستقيم. وفي أي حال من الأحوال فإن ممارسة العنف أو الخضوع له عملية تحول الإنسان إلى حالة التشيؤ وتدفعه إلى دائرة الاغتراب.
وينزع العنف الرمزي إلى توليد حالة من الإذعان والخضوع عند الآخر بفرضه لنظام من الأفكار والمعتقدات الاجتماعية التي غالبا ما تصدر عن قوى اجتماعية وطبقية متمركزة في موقع الهيمنة والسيادة، ويهدف هذا النوع من العنف إلى توليد معتقدات وأيديولوجيات محددة وترسيخها في عقول وأذهان الذين يتعرضون لهذا النوع من العنف. فالعنف الرمزي ينطلق من نظرية إنتاج المعتقدات، وإنتاج الخطاب الثقافي، وإنتاج القيم، ومن ثم إنتاج هيئة من المؤهلين الذين يمتازون بقدرتهم على ممارسة التقييم والتطبيع الثقافي في وضعيات الخطاب التي تمكنهم من السيطرة ثقافيا وإيديولوجيا على الآخر وتطبيعه.
والعنف الرمزي وفقا لذلك هو القدرة على بناء المعطيات الفكرية بالإعلان عنها وترسيخها، كما أنه القدرة على تغيير الأوضاع الاجتماعية والثقافية عبر عملية التأثير في المعتقدات وتغيير مقاصدها، وبناء تصورات أيديولوجية عن العالم تتوافق مع إرادة الهيمنة والسيطرة التي تقررها الحاجات السياسية لطبقة اجتماعية بعينها،
فالعنف الرمزي تعبير عن حضور رأس مال رمزي يتجلى في صورة عناصر ثقافية (قيم، تصورات، أفكار، معتقدات، مقولات، إشارات، ورموز…الخ)، وبالتالي فإن رأس المال الثقافي ينزع إلى امتلاك السلطة الثقافية – أي المشروعية في الحضور والممارسة- وهذا يعني أن ممارسة العنف الرمزي مرهونة بوجود رأسمال رمزي، وبالتالي فإن هذا الرأسمال يُتوّج بسلطة رمزية تعبر عن مشروعيته، والمشروعية تعني هنا قبول هذه السلطة على أنها مشروعة وحقيقية من قبل هؤلاء الذين تمارس عليهم ([6]).

  • جامعة الكويت
    ……………………
    [1] – Pierre Bourdieu, Jean-Claude Passeron, Les héritiers. Les étudiants et la culture (1964), Paris, Minuit, 1985 ; La reproduction. Éléments pour une théorie du système d’enseignement (1970), Paris , Minuit, 1973 ; P. Bourdieu, La distinction. Critique sociale du jugement (1979), Paris, Minuit, 1996 ; La domination masculine, Paris , Le Seuil, 1998.
    [2] – P. Bourdieu, Le sens pratique, Paris, Minuit, 1980, p. 219.
    [3] – سعد جلال، علم النفس الاجتماعي، الاتجاهات التطبيقية المعاصرة، الإسكندرية، 1984. ص 29.
    [4] – Ph. Braud, « Violence symbolique, violence physique. Éléments de problématisation », dans Jean Hannoyer (dir.), Guerres civiles. Économies de la violence, dimensions de la civilité, Paris , Karthala-Cermoc, 1999, p. 33-45.
    [5] – Paul Ricœur, Histoire et vérité, Paris, Le Seuil, 1955, p. 227.
    [6]- Pierre Bourdieu Réponses. Pour une anthropologie réflexive, Seuil, Paris , 1992 , p.123.

مركز الشرق العربي
المصدر : شبكة النبأ المعلوماتية- 8/5/2012م

ﻤﺎ ﻫﻮ ﻋﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ؟ ﻭ ﻣﺎﻫﻲ ﻣﺠﺎﻻﺕ ﺍﻫﺘﻤﺎﻣﻪ ؟

ﻤﺎ ﻫﻮ ﻋﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ؟ ﻭ ﻣﺎﻫﻲ ﻣﺠﺎﻻﺕ ﺍﻫﺘﻤﺎﻣﻪ ؟ ﻭ ﺇﻟﻰ ﺃﻱ ﺣﺪ ﻳﻤﻜﻦ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺑﺄﻥ ﻋﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﺳﺎﻫﻢ ﺇﺳﻬﺎﻣﺎ ﻓﻌﺎﻻ ﻓﻲ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻭ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ؟
ﻭ ﻣﺎ ﻫﻲ ﺃﺷﻬﺮ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺎﺕ ﺍﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ؟ ﻭ ﻣﺎ ﻫﻲ ﻳﺎ ﺗﺮﻯ ﺃﻫﻢ ﺍﻟﻤﺮﺍﺣﻞ ﻭ ﺍﻷﺷﻮﺍﻁ ﺍﻟﺘﻲ ﻗﻄﻌﻬﺎ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ؟
ﺗﻌﺮﻳﻒ ﻋﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ :
ﻋﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺪﺭﺱ ﺃﺛﺮ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﻭﻳﺪﺭﺱ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ، ﺃﺛﺮ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ، ﺃﻭ ﻫﻮ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺪﺭﺱ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺓ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ ﻓﻲ ﻣﻨﺎﺣﻴﻬﺎ ﺍﻟﻤﺘﻌﺪﺩﺓ، ﻭﻓﻲ ﺇﻃﺎﺭ ﺗﻔﺎﻋﻠﻬﺎ ﻣﻊ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ . ﻓﻬﻮ ﻋﻠﻢ ﻗﺎﺋﻢ ﺑﺬﺍﺗﻪ , ﻭ ﺗﻢ ﺍﺳﺘﺨﻼﺻﻪ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﻌﺎﻡ . ﻭﻫﻮ ﻋﻠﻢ ﺣﺪﻳﺚ ﺍﻟﻨﺸﺄﺓ ﻭ ﻓﺮﻉ ﻣﻦ ﻓﺮﻭﻋﻪ ﻳﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺗﻄﺒﻴﻖ ﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴﻢ ﻭ ﺍﻟﺘﺼﻮﺭﺍﺕ ﻭ ﺍﻟﻤﺼﻄﻠﺤﺎﺕ ﺍﻟﻮﺍﺭﺩﺓ ﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﻓﻲ ﺟﺎﻧﺐ ﻣﻦ ﺃﻫﻢ ﻣﻴﺎﺩﻳﻦ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻭ ﻫﻮ ﺍﻟﺠﺎﻧﺐ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ . ﻳﻤﻜﻦ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺇﺫﻥ ﺃﻥ ﻋﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﻋﺒﺎﺭﺓ ﻋﻦ ﻣﺰﻳﺞ ﻣﺨﺘﻠﻂ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﻭ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ , ﻭ ﻫﻮ ” ﻋﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ” 1 . ﻓﺎﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ ﺟﺰﺀ ﻻ ﻳﺘﺠﺰﺃ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ , ﻭ ﻫﻲ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻨﺸﺊ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻘﺎﺩﺭ ﻋﻠﻰ ﺗﺴﻴﻴﺮ ﺃﻣﻮﺭ ﻭ ﻗﻴﺎﺩﺓ ﺍﻟﺘﻘﺪﻡ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻭ ﺧﻄﻂ ﺍﻟﺘﻨﻤﻴﺔ ﻭ ﺗﻨﻔﻴﺬ ﻣﺸﺮﻭﻋﺎﺗﻬﺎ .
ﻳﻬﺘﻢ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻴﺪﺍﻥ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺑﺒﺤﺚ ﺍﻟﻮﺳﺎﺋﻞ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺆﺩﻱ ﺇﻟﻰ ﻧﻤﻮ ﺃﻓﻀﻞ ﻟﻠﺸﺨﺼﻴﺔ، ﻷﻥ ﺍﻷﺳﺎﺱ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻴﺪﺍﻥ ﻫﻮ ﺃﻥ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺗﻨﺸﺌﺔ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ . ﻟﺬﺍ ﻓﺈﻥ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﻳﺒﺤﺚ ﻓﻲ ﻭﺳﺎﺋﻞ ﺗﻄﺒﻴﻊ ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﺑﺤﻀﺎﺭﺓ ﻣﺠﺘﻤﻌﻬﻢ . ﻭﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﺃﺳﺎﺳﺎً ﻇﺎﻫﺮﺓ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﻳﺠﺐ ﺃﻥ ﺗﺪﺭﺱ ﻓﻲ ﺿﻮﺀ ﺗﺄﺛﻴﺮﻫﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻈﻮﺍﻫﺮ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﻣﻦ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﻭﺍﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ ﻭﺑﻴﺌﻴﺔ ﻭﺗﺸﺮﻳﻌﻴﺔ، ﻭﺗﺄﺛﻴﺮﻫﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺘﻐﻴﺮﺍﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﻋﻤﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﺘﻔﺎﻋﻞ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ . ﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﺃﻛﺪ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻋﻴﻮﻥ ﺿﺮﻭﺭﺓ ﺗﺤﻠﻴﻞ ﺍﻟﺪﻭﺭ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻘﻮﻡ ﺑﻪ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﻓﻲ ﻋﻼﻗﺘﻪ ﺑﺄﺟﺰﺍﺀ ﺍﻟﺒﻨﺎﺀ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﺍﻟﺪﻳﻤﻮﻏﺮﺍﻓﻴﺔ ﺃﻭ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ ﺃﻭ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ، ﻭﻋﻼﻗﺘﻪ ﺑﻤﺜﺎﻟﻴﺔ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺃﻭ ﻧﻈﺮﺍﺗﻪ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﻭﺍﻹﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻔﻌﻞ ﻓﻴﻪ .
ﻭﻳﺤﺘﻞ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﻣﻜﺎﻧﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻠﺪﺍﻥ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﻴﺶ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻧﻘﻠﺔ ﺣﻀﺎﺭﻳﺔ، ﺇﺫ ﺗﺠﺮﻱ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻐﻴﺮﺍﺕ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ ﻭﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺘﻐﻴﺮﺍﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﻮﺟﺐ ﺇﻋﺎﺩﺓ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻓﻲ ﻣﺴﺎﺋﻞ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻭﻣﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻬﺎ ﻣﻦ ﻇﻮﺍﻫﺮ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺗﻮﺍﻛﺐ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺘﻐﻴﺮﺍﺕ ﻭﺗﻌﻤﻖ ﺟﺬﻭﺭﻫﺎ .
ﻣﺠﺎﻻﺕ ﺍﻫﺘﻤﺎﻡ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ :
ﻳﻬﺘﻢ ﻋﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﺑﻤﺴﺎﺋﻞ ﻣﺜﻞ ﺇﻳﺼﺎﻝ ﺍﻟﻘﻴﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ ﻭﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻭﺍﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻄﻔﻞ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻲ، ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻪ ﻳﺪﺭﺱ ﺍﻟﻤﺤﺪﺩﺍﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺆﺛﺮ ﻓﻲ ﺗﻘﺮﻳﺮ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺎﺕ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ ﻭﺃﻫﺪﺍﻑ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻲ، ﻭﻛﺬﻟﻚ ﺗﺄﺛﻴﺮ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻲ، ﻭﺗﺄﺛﻴﺮ ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﺔ ﻭﺍﻷﺳﺮﺓ، ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺤﺼﻴﻞ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﻲ ﻟﻠﺘﻼﻣﻴﺬ، ﻭﺩﻭﺭ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ، ﻭﺃﺛﺮ ﺍﻷﻧﻤﺎﻁ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ ﺍﻟﺴﺎﺋﺪﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﻲ، ﻭﺍﻟﺘﻌﻠﻢ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺟﻤﺎﻋﺎﺕ ﺍﻷﻗﺮﺍﻥ، ﻭﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺑﻴﻦ ﺃﻓﺮﺍﺩ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺎﺕ، ﻭﺩﻭﺭ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻓﻲ ﺇﻋﺪﺍﺩ ﺍﻟﻨﺎﺷﺌﺔ ﻟﺴﻮﻕ ﺍﻟﻌﻤﻞ، ﻭﺍﻟﺘﺤﻠﻴﻞ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻟﺒﻨﻴﺔ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﻲ ﻭﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺍﻟﺴﺎﺋﺪﺓ ﻓﻴﻪ، ﻭﺩﻭﺭ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﻲ ﺑﺼﻔﺘﻪ ﺃﺩﺍﺓ ﻟﻠﺴﻴﻄﺮﺓ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﻀﺒﻂ، ﻭﺇﻋﺎﺩﺓ ﺇﻧﺘﺎﺝ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ ﻭﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﺴﺎﺋﺪﺓ، ﻭﺗﺤﺪﻳﺪ ﺍﻟﻄﺒﻘﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﻤﺴﺘﻔﻴﺪﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﻲ، ﻭﺍﻟﺘﻲ ﺗﻄﺒﻌﻪ ﺑﺨﺼﺎﺋﺼﻬﺎ ﺍﻟﻠﻐﻮﻳﺔ ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ، ﻭﺃﺧﻴﺮﺍً ﺩﻭﺭ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻓﻲ ﻋﻤﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﺘﺤﺪﻳﺚ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ .
ﻭ ﻏﻨﻲ ﻋﻦ ﺍﻟﺒﻴﺎﻥ ﺃﻥ ﻋﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﻳﺮﻭﻡ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺩﺭﺍﺳﺘﻪ ﻟﻠﺤﻘﻞ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﺳﺒﺮ ﺃﻏﻮﺍﺭ ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ ﺍﻟﻤﻌﻘﺪﺓ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﻭ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﻭ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﻭ ﺑﺎﻗﻲ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺎﺕ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺃﺧﺮﻯ . ﻛﻤﺎ ﻳﺪﺭﺱ ﻋﻼﻗﺔ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺑﺎﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻭ ﺗﺄﺛﻴﺮ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻓﻴﻪ . ﻓﺎﻟﺪﺭﺍﺳﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﺳﻬﻠﺔ ﻭ ﻣﻴﺴﺮﺓ ﻛﻤﺎ ﻗﺪ ﻳﺒﺪﻭ ﻟﻠﺒﻌﺾ . ﻷﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﻋﻘﺒﺎﺕ ﺗﺘﻀﺢ ﻭ ﺗﻈﻬﺮ – ﺍﻟﺮﻭﺍﺳﺐ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﺨﻠﻔﺎﺕ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ – ﻗﺪ ﺗﻤﺎﺭﺱ ﺿﻐﻮﻃﺎﺕ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻬﺎ ﺃﻥ ﺗﻌﺮﻗﻞ ﻋﻤﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﺘﻨﻤﻴﺔ ﻭ ﺍﻟﺘﻄﻮﻳﺮ .
ﻛﻤﺎ ﻳﻌﻤﻞ ﻋﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺗﺤﻠﻴﻠﻪ ﻟﻤﻴﺪﺍﻥ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻭ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻣﺤﺎﻭﻟﺔ ﺗﻜﺮﻳﺲ ﻣﺒﺪﺃ ” ﺗﻜﺎﻓﺆ ﺍﻟﻔﺮﺹ ” ﺣﻴﺚ ﻳﺠﻌﻞ ﻟﻪ ﻣﻌﻨﻰ ﺣﻘﻴﻘﻴﺎ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﺸﻖ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﻭ ﻟﻴﺲ ﻣﺠﺮﺩ ﺷﻌﺎﺭ ﻳﺮﻓﻊ ﻫﻨﺎ ﻭ ﻫﻨﺎﻙ , ﻭ ﺫﻟﻚ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﺍﻟﺘﺮﻗﻲ ﻭ ﺍﻟﺼﻌﻮﺩ ﻓﻲ ﺳﻠﻢ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻭﻓﻖ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﺍﺕ ﺍﻟﺘﻼﻣﻴﺬ ﻭ ﻣﻴﻮﻻﺗﻬﻢ ﻭ ﻗﺪﺭﺍﺗﻬﻢ ﻭ ﺗﻤﺜﻼﺗﻬﻢ ﻭ ﻃﻤﻮﺣﺎﺗﻬﻢ ﻭﻟﻴﺲ ﻭﻓﻖ ﻣﺎ ﻛﻮﻧﻮﻩ ﻣﻦ ﻣﻜﺎﻧﺎﺕ ﻣﻮﺭﻭﺛﺔ .
ﻓﻌﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ , ﻭ ﺑﺎﺧﺘﺼﺎﺭ ﻳﻜﺮﺱ ﺟﻬﺪﻩ ﻟﻔﻬﻢ ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺘﻠﻤﻴﺬ ﻭ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﺔ ﻭ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ .
ﻓﻬﻮ ﻳﻬﺘﻢ ﺑﺎﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﻛﻜﻞ ﻣﺘﻜﺎﻣﻞ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﻳﻀﻤﻪ ﻣﻦ ﻣﺆﺳﺴﺎﺕ ﺗﺮﺑﻮﻳﺔ ﻭ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ , ﺃﻭﺟﺪﻫﺎ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺑﻬﺪﻑ ﺗﻌﻠﻴﻢ ﺃﺑﻨﺎﺋﻪ ﻭ ﺗﺮﺑﻴﺔ ﺍﻟﻨﺶﺀ ﻓﻲ ﻣﺨﺘﻠﻒ ﻣﺮﺍﺣﻞ ﺍﻟﻌﻤﺮ ﺍﻟﺴﻨﻴﺔ ﻭ ﻛﺎﻓﺔ ﻣﺮﺍﺣﻞ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ , ﻭ ﻛﺬﺍ ﺍﻹﻫﺘﻤﺎﻡ ﺑﻤﺨﺘﻠﻒ ﺟﻮﺍﻧﺐ ﺍﻟﺘﻠﻤﻴﺬ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﻴﺔ ﻭﺍﻟﻮﺟﺪﺍﻧﻴﺔ ﻭ ﺍﻹﻧﻔﻌﺎﻟﻴﺔ , ﻭ ﻛﺎﻓﺔ ﻣﺎ ﻳﺤﻴﻂ ﺑﺎﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻲ ﻣﻦ ﻣﺸﻜﻼﺕ ﻭ ﻣﻌﻴﻘﺎﺕ .
ﻣﺮﺍﺣﻞ ﺗﻄﻮﺭ ﻋﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ :
ﻇﻬﺮ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺠﻤﻠﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻄﻮﺭﺍﺕ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﻣﻨﻬﺎ ﺗﻮﻗﻊ ﺩﻭﺭ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻲ ﻓﻲ ﺗﺮﺳﻴﺦ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ ﻭﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺍﻟﺘﺤﺼﻴﻞ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﻲ، ﻭﺇﻋﺪﺍﺩ ﺍﻟﺘﻼﻣﻴﺬ ﻟﻠﺤﺼﻮﻝ ﻋﻠﻰ ﻓﺮﺹ ﻋﻤﻞ، ﻭﺗﻌﺰﻳﺰ ﺩﻭﺭ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻨﺸﺌﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻟﻠﻄﻔﻞ، ﻭ ﻳﻘﺼﺪ ﺑﺎﻟﺘﻨﺸﺌﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻘﻬﺎ ﻳﺴﻌﻰ ﺍﻵﺑﺎﺀ ﺇﻟﻰ ﺇﺣﻼﻝ ﻋﺎﺩﺍﺕ ﻭ ﺩﻭﺍﻓﻊ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﻣﺤﻞ ﻋﺎﺩﺍﺕ ﻭﺩﻭﺍﻓﻊ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﻄﻔﻞ ﻗﺪ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺃﻭﻟﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺣﻠﺔ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﺔ . ﺃﻭ ﺑﻌﺒﺎﺭﺓ ﺃﺧﺮﻯ ﻫﻲ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻬﺪﻑ ﺍﻵﺑﺎﺀ ﻣﻦ ﻭﺭﺍﺋﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺟﻌﻞ ﺃﺑﻨﺎﺋﻬﻢ ﻳﻜﺘﺴﺒﻮﻥ ﺃﺳﺎﻟﻴﺐ ﺳﻠﻮﻛﻴﺔ ﻭ ﺩﻭﺍﻓﻊ ﻭﻗﻴﻢ ﻭﺍﺗﺠﺎﻫﺎﺕ ﻳﺮﺿﻰ ﻋﻨﻬﺎ ﺍﻟﻤﺠﺗﻤﻊ ﻭﺗﺘﻘﺒﻠﻬﺎ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﺍﻟﻔﺮﻋﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻨﺘﻤﻮﻥ ﺇﻟﻴﻬﺎ .
ﻭﺗﻤﺜﻞ ﺃﻋﻤﺎﻝ ﺇﻣﻴﻞ ﺩﻭﺭﻛﻬﺎﻳﻢ Émile Durkheim (1858-1917 ‏) ، ﻭﻣﺎﻛﺲ ﻓﻴﺒﺮ Max Weber (1864-1920 ‏) ، ﻭﻛﺎﺭﻝ ﻣﺎﺭﻛﺲ Karl Marx (1818-1883 ‏) ، ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺎﺕ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻟﻮﻻﺩﺓ ﻋﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ . ﻭﻗﺪ ﺗﺠﻠﻰ ﺇﺳﻬﺎﻡ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﻢ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺠﺎﻝ ﻓﻲ ﻛﺘﺒﻪ، ﺇﺫ ﻛﺘﺐ ﺩﻭﺭﻛﻬﺎﻳﻢ : ‏« ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ‏» Éducation et sociologie ﻭ ‏« ﺍﻟﺘﻄﻮﺭ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﻓﻲ ﻓﺮﻧﺴﺔ ‏« Évolution pédagogique en France ﻭﺃﺳﻬﻢ ﻛﺘﺎﺏ ﻣﺎﻛﺲ ﻓﻴﺒﺮ ‏« ﺍﻷﺧﻼﻕ ﺍﻟﺒﺮﻭﺗﺴﺘﻨﺘﻴﺔ ﻭﺭﻭﺡ ﺍﻟﺮﺃﺳﻤﺎﻟﻴﺔ ‏» L’éthique Protestante et l’esprit du capitalisme ﻓﻲ ﺷﺮﺡ ﺍﻟﺘﻄﻮﺭ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﺍﻟﺮﺃﺳﻤﺎﻟﻲ ﻓﻲ ﺃﻭﺭﺑﺔ ﺍﻟﻐﺮﺑﻴﺔ، ﻭﻋﺮﺽ ﻛﺎﺭﻝ ﻣﺎﺭﻛﺲ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﺑﺸﺮﺡ ﺗﺄﺛﻴﺮ ﺍﻟﺒﻨﻴﺔ ﺍﻟﺘﺤﺘﻴﺔ، ﻭﺃﻧﻤﺎﻁ ﺍﻹﻧﺘﺎﺝ ﻭﻋﻼﻗﺎﺕ ﺍﻹﻧﺘﺎﺝ، ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺒﻨﻴﺔ ﺍﻟﻔﻮﻗﻴﺔ ﻛﺎﻟﺒﻨﺎﺀ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ ﻭﺍﻟﺤﻘﻮﻗﻲ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ ﻭﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﻭﺍﻟﻤﺪﺭﺳﻲ ﺍﻟﺴﺎﺋﺪ، ﻛﻤﺎ ﺭﻛﺰ ﻋﻠﻰ ﺃﻫﻤﻴﺔ ﺍﻟﻤﻮﺍﺯﻳﻦ ﺍﻟﻄﺒﻘﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ، ﻭﻋﻠﻰ ﻗﻴﻢ ﻛﻞ ﻃﺒﻘﺔ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺗﺼﻮﺭﺍﺗﻬﺎ . ﻭﺍﻧﺘﻘﺪ ﺗﺮﺑﻴﺔ ﺍﻷﻃﻔﺎﻝ ﺑﺄﺳﺎﻟﻴﺐ ﺍﻹﻛﺮﺍﻩ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﺮﺃﺳﻤﺎﻟﻴﺔ .
ﻭﻣﻬﺪ ﻫﺆﻻﺀ ﺍﻟﺮﻭﺍﺩ ﻟﺘﻄﻮﺭ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ، ﻓﻘﺪ ﺑﺤﺚ ﺟﺎﻛﺎﺭ P.Jaccard ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ ‏« ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ‏» ‏( 1963 ‏) ﺃﻓﻜﺎﺭ ﺩﻭﺭﻛﻬﺎﻳﻢ، ﻛﻤﺎ ﺩﺭﺱ ﻛﻞ ﻣﻦ ﺟﻴﺮﺍﺭ A.Girard ﻭﺑﺎﺳﺘﻴﺪ K.Pastide ، ﺃﺛﺮ ﺍﻻﻧﺘﻤﺎﺀ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻓﻲ ﻗﻮﺓ ﺍﻟﺘﺤﺼﻴﻞ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﻲ ﻓﻲ ﺑﺤﺜﻬﻤﺎ ‏« ﺣﻮﻝ ﺍﻟﻄﺒﻘﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ،
ﻭﺩﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ‏» ، ﻋﺎﻡ 1963 ، ﻭﻛﺘﺐ ﺑﻮﻝ ﻛﻼﺭﻙ Paul Clerc ﺣﻮﻝ ‏« ﺍﻷﺳﺮﺓ ﻭﺍﻟﺘﻮﺟﻴﻪ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﻲ ﻟﺘﻼﻣﺬﺓ ﺍﻟﺼﻒ ﺍﻟﺴﺎﺩﺱ ﺍﻻﺑﺘﺪﺍﺋﻲ ‏» . ﻭﻟﻌﻞ ﺃﻛﺜﺮ ﺍﻷﻋﻤﺎﻝ ﺇﺛﺎﺭﺓ ﻟﻼﻫﺘﻤﺎﻡ ﻭﺍﻟﺠﺪﻝ ﻫﻲ ﺍﻟﺪﺭﺍﺳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻗﺎﻡ ﺑﻬﺎ ﻛﻞ
ﻣﻦ ﺑﻮﺭﺩﻳﻮ Bourdieu ﻭﺑﺎﺳﺮﻭﻥ J.C.Passeron ﺑﻌﻨﻮﺍﻥ ‏« ﺇﻋﺎﺩﺓ ﺍﻹﻧﺘﺎﺝ : ﺣﻮﻝ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻧﻈﺎﻡ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ‏» La reproduction: pour une théorie du système d’enseignement ﻭﻫﻲ ﺩﺭﺍﺳﺔ
ﺗﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﺃﻥ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻲ ﺍﻟﺴﺎﺋﺪ ﻓﻲ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻳﻌﻴﺪ ﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺍﻹﻧﺘﺎﺟﻴﺔ ﺍﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﻋﻠﻰ ﺗﻌﺰﻳﺰ ﺍﻟﺴﻴﻄﺮﺓ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ ﻟﻠﻄﺒﻘﺎﺕ ﺍﻟﺴﺎﺋﺪﺓ .
ﻭﻟﻌﻞ ﺃﺑﺮﺯ ﺍﻷﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﻤﻬﻤﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺻﺪﺭﺕ ﻓﻲ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻗﺎﻡ ﺑﻪ ﻓﺮﻳﺪ ﻛﻼﺭﻙ، ﺣﻮﻝ ‏« ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﻐﻴﺮ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ‏» ﺍﻟﺼﺎﺩﺭ ﻓﻲ ﻟﻨﺪﻥ ﻋﺎﻡ 1940 ، ﻣﺤﻠﻼً ﺗﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﺒﺮﻳﻄﺎﻧﻲ، ﻭﺩﺍﻋﻴﺎً ﺇﻟﻰ ﺗﻮﻇﻴﻔﻬﺎ ﻓﻲ ﺧﺪﻣﺔ ﺍﻟﻄﺒﻘﺎﺕ ﺍﻟﺴﺎﺋﺪﺓ، ﻭﺍﻫﺘﻢ ﺑﺎﺳﻴﻞ ﺑﺮﻧﺸﺘﺎﻳﻦ Basil Brenstien ﻋﺎﻡ 1975 ﺑﻤﺴﺄﻟﺔ ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻠﻐﺔ ﻭﺍﻻﻧﺘﻤﺎﺀ ﺍﻟﻄﺒﻘﻲ، ﻣﺒﻴﻨﺎً ﺃﻥ ﻟﻐﺔ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﻲ ﻓﻲ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻭﻣﺎﺗﺰﺍﻝ ﺗﻌﻜﺲ ﻓﻜﺮ ﺍﻟﻄﺒﻘﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﻮﺳﻄﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﺒﺮﻳﻄﺎﻧﻲ . ﻭﻗﺪﻣﺖ ﻣﺮﻏﺮﻳﺖ ﺁﺭﺷﺮ Margaret Archer ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻬﺎ ‏« ﺍﻷﺻﻮﻝ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻟﻸﻧﻈﻤﺔ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ ‏» Social Origins of Educational Systems ﺍﻟﺼﺎﺩﺭ ﻓﻲ ﻟﻨﺪﻥ ﻋﺎﻡ 1967 ، ﺗﺤﻠﻴﻼً ﻟﻠﻘﻮﻯ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﺛﺮﺕ ﻓﻲ ﺗﻄﻮﺭ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﻲ ﻟﺨﺪﻣﺔ ﻣﺼﺎﻟﺤﻬﺎ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ . ﻭﺑﻴﻦ ﻓﺮﺍﻧﻚ ﻣﺴﻐﺮﻭﻑ F. Musgrove ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ ‏« ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﺔ ﻭﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ‏» School and Social Order ﺍﻟﺼﺎﺩﺭ ﻓﻲ ﻟﻨﺪﻥ ﻋﺎﻡ 1968 ، ﺩﻭﺭ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﺔ ﻓﻲ ﺗﻌﺰﻳﺰ ﺍﻟﺘﻔﺎﻭﺕ ﺍﻟﻄﺒﻘﻲ ﺑﻴﻦ ﻃﻼﺑﻬﺎ، ﻭﻳﺆﻛﺪ ﻛﺘﺎﺏ ﻣﺎﻳﻜﻞ ﺩﻭﻥ ﺍﻟﻤﻌﺮﻭﻑ ﺑﺎﺳﻢ ‏« ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻓﻲ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ ‏» Education in Britain ﺍﻟﺼﺎﺩﺭ ﻓﻲ ﻟﻨﺪﻥ ﻋﺎﻡ 1979 ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻥ ﺑﺎﺳﻢ ‏« ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻭﺍﻟﻔﻘﺮ ‏» ، ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻣﺒﻴﻨﺎً ﺃﻥ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻲ ﻓﻲ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ ﺟﻌﻞ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺍﻟﻤﺴﺘﻔﻴﺪﻳﻦ ﻣﻨﻪ ﻗﺎﺩﺭﻳﻦ ﻋﻠﻰ ﺗﺤﺴﻴﻦ ﻇﺮﻭﻑ ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ ﺍﻟﻤﻌﻴﺸﻴﺔ .
ﻭﻗﺎﻡ ﺟﻮﻥ ﺩﻳﻮﻱ J. Dewey (1859-1952 ‏) ﺑﺪﺭﺍﺳﺎﺕ ﺗﺮﺑﻮﻳﺔ ﻭﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺧﺎﺻﺔ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻴﻪ ‏« ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﺔ ﻭﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ‏» The School and Society ﻋﺎﻡ 1899 ، ﻭ ‏« ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ‏» Democracy and Education ﻋﺎﻡ 1916 ﻣﺒﻴﻨﺎً ﺃﺛﺮ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ، ﻭﺗﺮﻙ ﻫﺬﺍﻥ ﺍﻟﻜﺘﺎﺑﺎﻥ ﺃﺛﺮﺍً ﺗﺮﺑﻮﻳﺎً ﻛﺒﻴﺮﺍً ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ، ﻭﻛﺎﻧﺖ ﻣﺆﻟﻔﺎﺗﻪ ﺇﺟﻤﺎﻻً ﻣﺆﺛﺮﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻲ ﺑﺘﺮﻛﻴﺰﻩ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺨﺒﺮﺓ ﻭﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ﻭﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﻌﺎﻭﻥ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺘﻼﻣﻴﺬ ﻭﺃﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ . ﻭﻳﺆﻛﺪ ﺩﺍﺗﻮﻥ S.T.Datun ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ ‏« ﺍﻟﺠﻮﺍﻧﺐ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻟﻠﺘﺮﺑﻴﺔ ‏» ﻋﺎﻡ 1900 ، ﺿﺮﻭﺭﺓ ﺭﺑﻂ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﺑﺨﺒﺮﺍﺕ ﺍﻟﻄﻔﻞ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻨﺰﻝ ﻭﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﻤﺤﻠﻲ . ﻭﻛﺎﻥ ﻟﻬﻨﺮﻱ ﺳﻮﺯﻟﻮ H. Suzzlo ﻓﻀﻞ ﺍﺳﺘﻌﻤﺎﻝ ﺗﻌﺒﻴﺮ ‏« ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ‏» ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﺃﻭﻝ ﻣﺮﺓ ﻋﺎﻡ 1910 ﻓﻲ ﺟﺎﻣﻌﺔ ﻛﻮﻟﻮﻣﺒﻴﺔ .
ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺣﻠﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺻﺪﺭ ﺃﻳﻀﺎً ﻛﺘﺎﺏ ﻭﻟﻴﻢ ﻫﺎﻭﻟﻲ ﺳﻤﻴﺚ W.H.Smith ‏« ﻣﺪﺧﻞ ﺇﻟﻰ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ‏» ، ﺍﻟﺬﻱ ﻋﺮﻑ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺑﺄﻧﻪ ‏« ﻳﺴﺘﺨﺪﻡ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﻭﻣﻴﺎﺩﻳﻨﻪ ﻓﻲ ﺩﺭﺍﺳﺔ ﻗﻀﺎﻳﺎ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻭﻧﻈﺮﻳﺎﺗﻬﺎ ﻭﻣﻤﺎﺭﺳﺘﻬﺎ ‏» .
ﻭﻳﻄﻠﻖ ﺍﻟﺒﻌﺾ ﻋﻠﻰ ﺟﻮﺭﺝ ﺑﺎﻳﻦ G.Payne ، ﻟﻘﺐ ‏« ﺃﺑﻮ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ‏» ﻓﻘﺪ ﺃﺻﺪﺭ ﻧﺸﺮﺓ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﻋﺎﻡ 1928 ، ﺍﻟﺘﻲ ﺃﺻﺒﺤﺖ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﻨﺸﺮﺓ ﺍﻟﺮﺳﻤﻴﺔ ﻟﻠﺠﻤﻌﻴﺔ ﺍﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ﻟﻌﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺄﺳﺴﺖ ﻋﺎﻡ .1923
ﻭﻓﻲ ﺍﻟﺴﺘﻴﻨﺎﺕ ﻭﺍﻟﺴﺒﻌﻴﻨﺎﺕ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﻌﺸﺮﻳﻦ ﺣﺼﻠﺖ ﺃﺯﻣﺎﺕ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﺑﺴﺒﺐ ﺍﻟﺒﻄﺎﻟﺔ ﻭﺍﻟﺠﺮﻳﻤﺔ ﻭﺍﻟﺼﺮﺍﻋﺎﺕ ﺍﻟﻌﺮﻗﻴﺔ، ﻭﺻﺪﺭﺕ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﺭﺍﺳﺎﺕ ﺍﻟﻤﻬﻤﺔ ﺣﻮﻝ ﺩﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ، ﻟﻌﻞ ﺃﺷﻬﺮﻫﺎ ﺍﻟﺪﺭﺍﺳﺔ ﺍﻟﻤﺸﺘﺮﻛﺔ ﻟﻜﻞ ﻣﻦ ﺑﺎﻭﻝ ﻭﺟﻨﺘﺲ Bowels- Gentis ﺑﻌﻨﻮﺍﻥ ‏« ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﻲ ﻓﻲ ﺃﻣﺮﻳﻜﺔ ﺍﻟﺮﺃﺳﻤﺎﻟﻴﺔ ‏» Schooling in Capitalist America ﺍﻟﺼﺎﺩﺭﺓ ﻋﺎﻡ 1977 ، ﻭﻛﺬﻟﻚ ﺩﺭﺍﺳﺔ ﺇﻳﻔﺎﻥ ﺇﻳﻠﻴﺘﺶ I.Iliych ﺍﻟﺸﻬﻴﺮﺓ ﺑﻌﻨﻮﺍﻥ ‏« ﺍﻟﻼﻣﺪﺭﺳﻴﺔ ‏» .Deschooling ﻟﻘﺪ ﺣﻠﻞ ﻛﻞ ﻣﻦ ﺑﺎﻭﻝ ﻭﺟﻨﺘﺲ ﺍﻟﻄﺎﺑﻊ ﺍﻟﻄﺒﻘﻲ ﻟﻠﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻌﺰﺯ ﻓﺮﺹ ﺃﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﻄﺒﻘﺔ ﺍﻟﻐﺎﻟﺒﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻄﻼﺏ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺠﺎﺡ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻱ ﻭﺍﻟﻤﺎﺩﻱ، ﻓﻲ ﺣﻴﻦ ﺍﻫﺘﻢ ﺍﻳﻠﻴﺘﺶ ﺑﺒﻴﺎﻥ ﻣﺴﺎﻭﺉ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﻲ ﻭﻃﺎﺑﻌﻪ ﺍﻟﻘﻬﺮﻱ، ﻭﻟﺬﻟﻚ ﻧﻌﺘﻬﺎ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﺘﺴﻤﻴﺔ ﻭﺩﻋﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﻌﻠﻢ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ ﻭﺍﻟﺘﻌﻠﻢ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺟﻤﺎﻋﺎﺕ ﺍﻷﻗﺮﺍﻥ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻴﺔ، ﻭﻛﺘﺐ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﻋﺪﺩﺍً ﻣﻦ ﺍﻟﻜﺘﺐ ﺑﺎﻻﺗﺠﺎﻩ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﺪﻋﻤﺎً ﺃﻗﻮﺍﻟﻪ ﺑﺘﻄﻮﺭ ﺍﻟﺘﻘﻨﻴﺎﺕ ﻭﻧﻈﻢ ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻣﺎﺕ ﻭﺗﻐﻴﺮﻫﺎ ﻣﻤﺎ ﻳﺆﺩﻱ ﺇﻟﻰ ﺗﻐﻴﻴﺮﺍﺕ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺗﺮﺑﻮﻳﺔ ﺳﺮﻳﻌﺔ .
ﻭﻳﺤﻠﻞ ﺑﺎﺗﺮﻳﻚ ﻓﻴﺘﺰ Patrich Fitz ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ ‏« ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻭﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻓﻲ ﺍﻻﺗﺤﺎﺩ ﺍﻟﺴﻮﻓﻴﻴﺘﻲ ‏» Education and Social Mobility in the Soviet Union ﺍﻟﺼﺎﺩﺭ ﻓﻲ ﻟﻨﺪﻥ ﻋﺎﻡ 1979 ، ﺩﻭﺭ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﺔ ﺍﻟﺴﻮﻓﻴﻴﺘﻴﺔ ﻓﻲ ﺗﻤﻜﻴﻦ ﺃﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﻄﺒﻘﺎﺕ ﺍﻟﻔﻘﻴﺮﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﺴﻮﻓﻴﻴﺘﻲ ﻣﻦ ﺗﺤﺴﻴﻦ ﻇﺮﻭﻑ ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ ﺍﻟﻤﻌﻴﺸﻴﺔ .
ﻭﺃﺳﻬﻤﺖ ﺍﻟﺪﺭﺍﺳﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻓﻲ ﺩﻭﻝ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ ﻓﻲ ﺍﻟﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﻣﺨﺘﻠﻒ ﺃﺷﻜﺎﻝ ﺍﻟﻘﻬﺮ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻌﺮﺿﺖ ﻟـﻪ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺪﻭﻝ ﻓﻲ ﺣﻘﺒﺔ ﺍﻟﻬﻴﻤﻨﺔ ﺍﻻﺳﺘﻌﻤﺎﺭﻳﺔ، ﻣﻤﺎ ﺃﺩﻯ ﺇﻟﻰ ﺗﻌﺰﻳﺰ ﺗﺨﻠﻔﻬﺎ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ ﻭﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ، ﻭﻳﻤﻜﻦ ﺍﻹﺷﺎﺭﺓ ﻫﻨﺎ ﺇﻟﻰ ﻛﺘﺎﺏ ﻓﺮﺍﻧﺰ ﻓﺎﻧﻮﻥ ‏« ﻣﻌﺬﺑﻮ ﺍﻷﺭﺽ ‏» ﻭﺩﺭﺍﺳﺔ ﺝ . ﻛﺎﺑﺮﺍﻝ J.kabral ‏« ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ ﻭﺍﻹﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ‏» Power and Ideology .
ﻭﻗﺪ ﺑﻴﻨﺖ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﺪﺭﺍﺳﺎﺕ ﺍﻟﺼﺎﺩﺭﺓ ﻓﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﻣﺴﺆﻭﻟﻴﺔ ﺍﻷﻧﻈﻤﺔ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﻴﺔ ﻓﻲ ﻋﻬﻮﺩ ﺍﻻﺳﺘﻌﻤﺎﺭ ﻋﻦ ﺍﻷﻣﻴﺔ ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺧﻠﻔﺘﻬﺎ ﻓﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺑﻌﺪ ﺍﺳﺘﻘﻼﻟﻬﺎ، ﻭﺧﺎﺻﺔ ﺍﻗﺘﺼﺎﺭ ﺗﻌﻠﻴﻤﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﻧﺨﺐ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻛﻲ ﺗﺨﺪﻡ ﻓﻲ ﺃﺟﻬﺰﺗﻬﺎ ﺍﻹﺩﺍﺭﻳﺔ، ﻭﻛﺸﻒ ﺑﺎﻭﻟﻮ ﻓﺮﺍﻳﺮﻱ Paulo Freiri ﺯﻳﻒ ﺣﻤﻼﺕ ﻣﺤﻮ ﺍﻷﻣﻴﺔ ﺍﻟﺮﺳﻤﻴﺔ ﻓﻲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺃﻣﺮﻳﻜﺔ ﺍﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ ﻭﺍﻟﻄﺎﺑﻊ ﺍﻟﻘﻬﺮﻱ ﻟﻤﻀﺎﻣﻴﻦ ﺍﻟﻤﻘﺮﺭﺍﺕ ﺍﻟﻤﻌﺘﻤﺪﺓ ﻓﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﻤﻼﺕ ﻟﻤﺤﻮ ﺃﻣﻴﺔ ﺍﻟﻔﻘﺮﺍﺀ ﻣﻦ ﺳﻜﺎﻥ ﺍﻷﺣﻴﺎﺀ ﺍﻟﻔﻘﻴﺮﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺮﺍﺯﻳﻞ، ﻭﺩﻋﺎ ﺇﻟﻰ ‏« ﺗﻌﻠﻴﻢ ﻟﻠﻜﺒﺎﺭ ‏» ﻗﺎﺋﻢ ﻋﻠﻰ ﺗﻮﻋﻴﺔ ﺍﻟﺪﺍﺭﺳﻴﻦ ﻓﻲ ﺻﻔﻮﻑ ﻣﺤﻮ ﺍﻷﻣﻴﺔ ﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺗﻬﻢ، ﻭﺍﻟﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ ﻫﺎﻣﺸﻴﺘﻬﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ
ﻭﻳﺘﻀﻤﻦ ﻛﺘﺎﺑﻪ ‏« ﺗﺮﺑﻴﺔ ﺍﻟﻤﻘﻬﻮﺭﻳﻦ ‏» Pedagogy of the Oppressed
ﻭﻛﺘﺎﺏ ‏« ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ‏» Education for Freedom ﺇﺷﺎﺭﺍﺕ ﻭﺍﺿﺤﺔ ﻟﺘﻤﻜﻴﻦ ﺍﻷﻣﻴﻴﻦ ﺍﻟﻜﺒﺎﺭ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺤﺮﺭ ﻣﻦ ﺩﻭﻧﻴﺘﻬﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ .
ﺑﺤﻘﻮﻗﻬﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ، ﻭﺗﻌﺰﻳﺰ ﺛﻘﺘﻬﻢ ﺑﺄﻧﻔﺴﻬﻢ، ﻣﻤﺎ ﻳﺘﻴﺢ ﻟﻬﻢ ﺍﻹﺳﻬﺎﻡ ﻓﻲ ﺍﻹﻧﺘﺎﺝ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻱ ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ ﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺗﻬﻢ، ﻭﺍﻟﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ ﻫﺎﻣﺸﻴﺘﻬﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ . ﻭﻳﺘﻀﻤﻦ ﻛﺘﺎﺑﻪ ‏« ﺗﺮﺑﻴﺔ ﺍﻟﻤﻘﻬﻮﺭﻳﻦ ‏» Pedagogy of the Oppressed ﻭﻛﺘﺎﺏ ‏« ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ‏» Education for Freedom ﺇﺷﺎﺭﺍﺕ ﻭﺍﺿﺤﺔ ﻟﺘﻤﻜﻴﻦ ﺍﻷﻣﻴﻴﻦ ﺍﻟﻜﺒﺎﺭ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺤﺮﺭ ﻣﻦ ﺩﻭﻧﻴﺘﻬﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ .
ﻭﺍﻧﺘﺸﺮﺕ ﺃﻓﻜﺎﺭ ﻓﺮﺍﻳﺮﻱ ﻓﻲ ﺃﻣﺮﻳﻜﺔ ﺍﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ ﻭﺑﻘﻴﺔ ﺃﺭﺟﺎﺀ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ، ﻭﻟﺬﻟﻚ ﺍﺧﺘﻴﺮ ﺭﺋﻴﺴﺎً ﻓﺨﺮﻳﺎً ﻟﻤﺆﺗﻤﺮ ﺗﻌﻠﻴﻢ ﺍﻟﻜﺒﺎﺭ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﻋﻘﺪ ﻓﻲ ﺟﻮﻣﺘﻴﺎﻥ ﻓﻲ ﺗﺎﻳﻠﻨﺪ ﻋﺎﻡ .1990
ﺃﺷﻬﺮ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺎﺕ ﺍﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ :
‏( ﺍﻟﺘﻔﺎﻋﻠﻴﺔ ﺍﻟﺮﻣﺰﻳﺔ، ﻭﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﻴﺔ ‏(
ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻋﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﻋﻠﻢ ﺣﺪﻳﺚ ﺍﻟﻨﺸﺄﺓ ﻭ ﻓﺮﻉ ﻣﻦ ﻓﺮﻭﻉ ﻋﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﻌﺎﻡ
ﻳﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺗﻄﺒﻴﻖ ﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴﻢ ﻭ ﺍﻟﺘﺼﻮﺭﺍﺕ ﻭ ﺍﻟﻤﺼﻄﻠﺤﺎﺕ ﺍﻟﻮﺍﺭﺩﺓ ﻓﻲ ﺟﺎﻧﺐ ﻣﻦ ﺃﻫﻢ ﻣﻴﺎﺩﻳﻦ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻭ ﻫﻮ ﺍﻟﺠﺎﻧﺐ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﻛﻤﺎ ﺃﺳﻠﻔﻨﺎ ﺍﻟﺬﻛﺮ .
ﻭ ﻳﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺩﺭﺍﺳﺘﻪ ﺩﺭﺍﺳﺔ ﻋﻠﻤﻴﺔ، ﻟﺬﻟﻚ ﻭ ﺣﺘﻰ ﺗﺘﺼﻒ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﺭﺍﺳﺔ ﺑﺎﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻛﺎﻥ ﻻﺑﺪ ﺃﻥ ﺗﺘﺴﻢ ﺑﺒﻌﺾ ﺍﻟﻤﻮﺍﺻﻔﺎﺕ ﻭﻫﻲ :

  • ﺃﻥ ﺗﻨﻄﻠﻖ ﻣﻦ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻋﻠﻤﻴﺔ،ﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺨﺼﺎﺋﺺ ﻭﺍﻟﺸﺮﻭﻁ ﻣﺎ ﻳﺆﻫﻠﻬﺎ ﻟﺘﻮﺳﻢ ﺑﺎﻟﻌﻠﻤﻴﺔ،ﻭﻟﻌﻞ ﺃﻫﻢ ﺷﺮﻭﻁ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻫﻲ،ﺍﻟﻮﺿﻮﺡ ﻭﺍﻟﺪﻗﺔ ﻭﺍﻹﻳﺠﺎﺯ،ﻭﺍﻟﺘﻔﺮﺩ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻌﻨﻲ ﺗﺠﻨﺐ ﺗﻜﺮﺍﺭ ﻣﺎ ﻻﻳﺠﺐ ﺗﻜﺮﺍﺭﻩ،ﻭﺃﻥ ﺗﺘﺴﻢ ﺑﺎﻟﻮﺍﻗﻌﻴﺔ ﻓﻲ ﺻﻴﺎﻏﺘﻬﺎ ﻭﻃﺮﺣﻬﺎ،ﻭﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻼﺧﺘﺒﺎﺭ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻴﺪﺍﻥ،ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﻗﺪﺭﺗﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻨﺒﺆ ﺑﻤﺴﺎﺭ ﺍﻟﻮﻗﺎﺋﻊ ﻭﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺍﺕ .
    ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻳﺘﺠﻠﻰ ﻟﻨﺎ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻭﻫﻲ ﻛﻤﺎ ﻋﺮﻓﻬﺎ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﺒﺎﺳﻂ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻤﻌﻄﻲ :
    ” ﻧﺴﻖ ﻓﻜﺮﻱ ﺍﺳﺘﻨﺒﺎﻃﻲ ﻣﺘﺴﻖ ﺣﻮﻝ ﻇﺎﻫﺮﺓ ﺃﻭ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺍﺕ ﺍﻟﻤﺘﺠﺎﻧﺴﺔ،ﻳﺤﻮﻱ – ﺃﻱ ﺍﻟﻨﺴﻖ – ﺇﻃﺎﺭﺍ ﺗﺼﻮﺭﻳﺎ ﻭﻣﻔﻬﻮﻣﺎﺕ ﻭﻗﻀﺎﻳﺎ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺗﻮﺿﺢ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﻭﺗﻨﻈﻤﻬﺎ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺩﺍﻟﺔ ﻭﺫﺍﺕ ﻣﻌﻨﻰ،ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻬﺎ ﺫﺍﺕ ﺑﻌﺪ ﺇﺑﺮﻳﻘﻲ ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺍﻋﺘﻤﺎﺩﻫﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﻭﻣﻌﻄﻴﺎﺗﻪ،ﻭﺫﺍﺕ ﺗﻮﺟﻴﻪ ﺗﻨﺒﺌﻲ ﻳﺴﺎﻋﺪ ﻋﻠﻰ ﺗﻔﻬﻢ ﻣﺴﺘﻘﺒﻞ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺓ ﻭﻟﻮ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺗﻌﻤﻴﻤﺎﺕ ﺍﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ )” ‏)
    ﻓﺈﺫﺍ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻭﺻﻔﻴﺔ ﻭﺗﻔﺴﻴﺮﻳﺔ ﻓﻲ ﺍﻷﺳﺎﺱ، ﻓﺈﻥ ﻭﻇﻴﻔﺔ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ – ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮﻝ ﺑﻮﻝ ﻫﻴﺮﺳﺖ – ﻫﻲ ﺍﻟﺘﺸﺨﻴﺺ ﻭﺍﻟﻌﻼﺝ . ﻭﺇﺫﺍ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﺗﺤﺎﻭﻝ ﻭﺻﻒ ﻭﺗﻔﺴﻴﺮ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻗﺎﺋﻢ، ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ ﺗﺼﻒ ﻭﺗﻘﺮﺭ ﻣﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻋﻤﻠﻪ ﻣﻊ ﺍﻟﻨﺎﺷﺌﺔ، ﻭﺗﻮﺟﻪ ﻭﺗﺮﺷﺪ ﺍﻟﻤﻤﺎﺭﺳﺎﺕ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ . ‏( ‏)
    ﻭﺗﺘﺴﻢ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺎﺕ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ ﺑﺠﻤﻠﺔ ﻣﻦ ﺍﻷﻫﺪﺍﻑ ﺗﺠﻌﻞ ﻟﻬﺎ ﺃﻫﻤﻴﺔ ﻣﺮﻣﻮﻗﺔ ﻓﻲ ﺩﺭﺍﺳﺔ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺓ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ،ﻭﻟﻌﻞ ﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﺃﻫﻢ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﻫﺪﺍﻑ ﻣﺎﻳﻠﻲ :
    -1 ﺩﺭﺍﺳﺔ ﺍﻟﻈﻮﺍﻫﺮ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻃﺒﻴﻌﺘﻬﺎ ﻭﻣﺎ ﺗﺘﺴﻢ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺧﺼﺎﺋﺺ ﻭﺳﻤﺎﺕ، ﻭﺍﻟﺘﻲ ﺑﻔﻀﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺧﻴﺮﺓ ﺗﺠﻌﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎ ﻣﺘﻤﻴﺰﺍً ﻟﻌﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ .
    -2 ﺍﻟﺘﻌﺮﻑ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻮﻗﺎﺋﻊ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ ﻭﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻟﻈﺎﻫﺮﺓ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ ﻓﻲ ﻧﺸﺄﺗﻬﺎ ﻭﺗﻄﻮﺭﻫﺎ .
    -3 ﻓﻬﻢ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺮﺑﻂ ﺍﻟﻈﻮﺍﻫﺮ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺒﻌﺾ، ﻭﺍﻟﺘﻲ ﺗﺮﺑﻄﻬﺎ ﺑﻐﻴﺮﻫﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻈﻮﺍﻫﺮ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ .
    -4 ﺍﻟﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﺃﺑﻌﺎﺩ ﺃﻭ ﺍﻟﻮﻇﺎﺋﻒ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ،ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺆﺩﻳﻬﺎ ﺍﻟﻈﻮﺍﻫﺮ ﻭﺍﻟﻨﻈﻢ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺠﻮﺍﻧﺐ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ .
    -5 ﺗﺤﺪﻳﺪ ﺍﻟﻤﻀﻤﻮﻥ ﺍﻷﻳﺪﻟﻮﺟﻲ ﻟﻠﺘﺮﺑﻴﺔ ﻭﺁﺛﺎﺭﻩ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ .
    -6 ﺗﺤﺪﻳﺪ ﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﻜﻢ ﺍﻟﻈﻮﺍﻫﺮ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ ﻭﻣﺎ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﻬﺎ ﻣﻦ ﻭﻗﺎﺋﻊ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺛﻘﺎﻓﻴﺔ ﻭﺷﺨﺼﻴﺔ .
    -7 ﺗﺤﻠﻴﻞ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻛﻮﺳﻴﻠﺔ ﻟﻠﺘﻘﺪﻡ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ .
  • ﺑﻌﺪﻣﺎ ﻗﺪﻣﻨﺎ ﻟﻤﺤﺔ ﺑﺴﻴﻄﺔ ﻋﻦ ﺗﻌﺮﻳﻒ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻭﻣﺎ ﺗﺘﺴﻢ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺷﺮﻭﻁ، ﻭﻣﺎ ﺍﻷﻫﺪﺍﻑ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺮﻣﻲ ﺇﻟﻴﻬﺎ، ﺳﻮﻑ ﻧﺤﺎﻭﻝ ﻓﻲ ﺍﻷﺳﻄﺮ ﺍﻟﻘﺎﺩﻣﺔ ﺃﻥ ﻧﻌﺮﺝ ﻋﻠﻰ ﺃﻫﻢ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺎﺕ ﺍﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻋﺎﻟﺠﺖ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎﺕ ﻭﻣﻴﺎﺩﻳﻦ ﺧﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﺘﺮﺑﻴﺔ، ﻭﻟﻌﻞ ﺃﺑﺮﺯ ﻣﺎ ﻧﺘﻌﺮﺽ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺎﺕ ﻫﻲ :
    ﺃﻭﻻً : ﺍﻟﺘﻔﺎﻋﻠﻴﺔ ﺍﻟﺮﻣﺰﻳﺔ Symbolic Interactionalism :
    ﺗﻌﺘﺒﺮ ﺍﻟﺘﻔﺎﻋﻠﻴﺔ ﺍﻟﺮﻣﺰﻳﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺤﺎﻭﺭ ﺍﻷﺳﺎﺳﻴﺔِ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﻓﻲ ﺗﺤﻠﻴﻞ ﺍﻷﻧﺴﺎﻕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ .
    ﻭﻫﻲ ﺗﺒﺪﺃ ﺑﻤﺴﺘﻮﻯ ﺍﻟﻮﺣﺪﺍﺕ ﺍﻟﺼﻐﺮﻯ ‏( MICRO ‏) ، ﻣﻨﻄﻠﻘﺔً ﻣﻨﻬﺎ ﻟﻔﻬﻢ ﺍﻟﻮﺣﺪﺍﺕ ﺍﻟﻜﺒﺮﻯ، ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻧﻬﺎ ﺗﺒﺪﺃ ﺑﺎﻷﻓﺮﺍﺩ ﻭﺳﻠﻮﻛﻬﻢ ﻛﻤﺪﺧﻞ ﻟﻔﻬﻢ ﺍﻟﻨﺴﻖ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ‏( 1 ‏) . ﻓﺄﻓﻌﺎﻝُ ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﺗﺼﺒﺢ ﺛﺎﺑﺘﺔً ﻟﺘﺸﻜﻞ ﺑﻨﻴﺔ ﻣﻦ ﺍﻷﺩﻭﺍﺭ؛ ﻭﻳﻤﻜﻦ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺩﻭﺍﺭ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺗﻮﻗﻌﺎﺕ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﺗﺠﺎﻩ ﺑﻌﺾ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﻤﻌﺎﻧﻲ ﻭﺍﻟﺮﻣﻮﺯ ‏( 2 ‏) . ﻭﻫﻨﺎ ﻳﺼﺒﺢ ﺍﻟﺘﺮﻛﻴﺰ ﺇﻣﺎ ﻋﻠﻰ ﺑُﻨﻰ ﺍﻷﺩﻭﺍﺭ ﻭﺍﻷﻧﺴﺎﻕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﺃﻭ ﻋﻠﻰ ﺳﻠﻮﻙ ﺍﻟﺪﻭﺭ ﻭﺍﻟﻔﻌﻞ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ .
    ﻭﻣﻊ ﺃﻧﻬﺎ ﺗﺮﻯ ﺍﻟﺒﻨﻰ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺿﻤﻨﺎ، ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭﻫﺎ ﺑﻨﻰ ﻟﻸﺩﻭﺍﺭ ﺑﻨﻔﺲ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺑﺎﺭﺳﻮﻧﺰ Parsons ، ﺇﻻ ﺃﻧﻬﺎ ﻻ ﺗُﺸﻐﻞ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺑﺎﻟﺘﺤﻠﻴﻞ ﻋﻠﻰ ﻣﺴﺘﻮﻯ ﺍﻷﻧﺴﺎﻕ ‏( 3 ‏) ، ﺑﻘﺪﺭ ﺍﻫﺘﻤﺎﻣﻬﺎ ﺑﺎﻟﺘﻔﺎﻋﻞ ﺍﻟﺮﻣﺰﻱ ﺍﻟﻤﺘﺸﻜﻞ ﻋﺒﺮ ﺍﻟﻠﻐﺔ، ﻭﺍﻟﻤﻌﺎﻧﻲ، ﻭﺍﻟﺼﻮﺭ ﺍﻟﺬﻫﻨﻴﺔ، ﺍﺳﺘﻨﺎﺩﺍ ﺇﻟﻰ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﻬﻤﺔ، ﻫﻲ ﺃﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﺃﻥ ﻳﺴﺘﻮﻋﺐ ﺃﺩﻭﺍﺭ ﺍﻵﺧﺮﻳﻦ .
    ﺇﻥ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻟﺘﻔﺎﻋﻠﻴﺔ ﻳﺒﺪﺃﻭﻥ ﺑﺪﺭﺍﺳﺘﻬﻢ ﻟﻠﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺪﺭﺍﺳﻲ ‏( ﻣﻜﺎﻥ ﺣﺪﻭﺙ ﺍﻟﻔﻌﻞ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ‏) . ﻓﺎﻟﻌﻼﻗﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺪﺭﺍﺳﻲ ﻭﺍﻟﺘﻼﻣﻴﺬ ﻭﺍﻟﻤﻌﻠﻢ، ﻫﻲ ﻋﻼﻗﺔ ﺣﺎﺳﻤﺔ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ ﺍﻟﺘﻔﺎﻭﺽ ﺣﻮﻝ
    ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﺼﻒ، ﺇﺫ ﻳﺪﺭﻙ ﺍﻟﺘﻼﻣﻴﺬ ﺣﻘﻴﻘﺔﻛﻮﻧﻬﻢ ﻣﺎﻫﺮﻳﻦ ﺃﻭ ﺃﻏﺒﻴﺎﺀ ﺃﻭ ﻛﺴﺎﻟﻰ . ﻭﻓﻲ ﺿﻮﺀ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻘﻮﻻﺕ ﻳﺘﻔﺎﻋﻞ ﺍﻟﺘﻼﻣﻴﺬ ﻭﺍﻟﻤﺪﺭﺳﻮﻥ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻣﻊ ﺑﻌﺾ، ﺣﻴﺚ ﻳﺤﻘﻘﻮﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻧﺠﺎﺣﺎ ﺃﻭ ﻓﺸﻼ ﺗﻌﻠﻴﻤﻴﺎ ‏( 4 ‏) .
    ﺃﺷﻬﺮ ﻣﻤﺜﻠﻲ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻟﺘﻔﺎﻋﻠﻴﺔ ﺍﻟﺮﻣﺰﻳﺔ :
    1 ‏) ﺟﻮﺭﺝ ﻫﺮﺑﺮﺕ ﻣﻴﺪ George H. Mead (1863-1931 ‏) :
    ﺍﺳﺘﻄﺎﻉ ﺟﻮﺭﺝ ﻣﻴﺪ ﻓﻲ ﻣﺤﺎﺿﺮﺍﺗﻪ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻥ ﻳﻠﻘﻴﻬﺎ ﻓﻲ ﺟﺎﻣﻌﺔ ﺷﻴﻜﺎﻏﻮ، ﻋﻠﻰ ﻃﻮﻝِ ﺍﻟﻔﺘﺮﺓ ﻣﻦ ‏( 1931-1894 ‏) ﺃﻥ ﻳﺒﻠﻮﺭ ﻋﻠﻰ ﻧﺤﻮ ﻣﺘﻘﻦ، ﺍﻷﻓﻜﺎﺭ ﺍﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ‏( 5 ‏) .
    ﻭﻗﺪ ﺟﻤﻊ ﻟﻪ ﺗﻼﻣﻴﺬﻩ ﻛﺘﺎﺑﺎ ﺑﻌﺪ ﻭﻓﺎﺗﻪ، ﻳﺤﺘﻮﻱ ﻋﻠﻰ ﻣﻌﻈﻢ ﺃﻓﻜﺎﺭﻩ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﻮﺍ ﻳﺪﻭﻧﻮﻫﺎ ﻓﻲ ﻣﺤﺎﺿﺮﺍﺗﻪ، ﺗﺤﺖ ﻋﻨﻮﺍﻥ : ‏( Mind, Self and Society, 1934 ‏) .
    ﻭﻳﺒﺪﺃ ﻣﻴﺪ ﺑﺘﺤﻠﻴﻞ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺍﻻﺗﺼﺎﻝ، ﻭﺗﺼﻨﻴﻔﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺻﻨﻔﻴﻦ : ﺍﻻﺗﺼﺎﻝ ﺍﻟﺮﻣﺰﻱ، ﻭﺍﻻﺗﺼﺎﻝ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﺮﻣﺰﻱ . ﻓﺒﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻼﺗﺼﺎﻝ ﺍﻟﺮﻣﺰﻱ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺆﻛﺪ ﺑﻮﺿﻮﺡ ﻋﻠﻰ ﺍﺳﺘﺨﺪﺍﻡ ﺍﻷﻓﻜﺎﺭ ﻭﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴﻢ، ﻭﺑﺬﻟﻚ ﺗﻜﻮﻥ ﺍﻟﻠﻐﺔ ﺫﺍﺕ
    ﺃﻫﻤﻴﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺍﻻﺗﺼﺎﻝ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻮﺍﻗﻒ ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ، ﻭﻋﻠﻴﻪ ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻫﻮ ﻧﺘﺎﺝ ﺍﻷﻓﻌﺎﻝ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺼﻨﻌﻬﺎ ﺃﻓﺮﺍﺩ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ، ﻭﻳﺸﻴﺮ ﺫﻟﻚ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﻟﻴﺲ ﻣﻔﺮﻭﺿﺎ ﻋﻠﻴﻬﻢ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻮﺿﻮﻉ ﺧﺎﺿﻊ ﻟﻠﺘﻔﺎﻭﺽ ﻭﺍﻟﺘﺪﺍﻭﻝ ﺑﻴﻦ ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ‏( 6 ‏) .
    2 ‏) ﻫﺮﺑﺮﺕ ﺑﻠﻮﻣﺮ H. Blumer (1900-1986 ‏) :
    ﻭﻫﻮ ﻳﺘﻔﻖ ﻣﻊ ﺟﻮﺭﺝ ﻣﻴﺪ ﻓﻲ ﺃﻥ ﺍﻟﺘﻔﺎﻋﻞ ﺍﻟﺮﻣﺰﻱ ﻫﻮ ﺍﻟﺴﻤﺔ ﺍﻟﻤﻤﻴﺰﺓ ﻟﻠﺘﻔﺎﻋﻞ ﺍﻟﺒﺸﺮﻱ، ﻭﺃﻥ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺴﻤﺔ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ﺗﻨﻄﻮﻱ ﻋﻠﻰ ﺗﺮﺟﻤﺔ ﺭﻣﻮﺯ ﻭﺃﺣﺪﺍﺙ ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﻭﺃﻓﻌﺎﻟﻬﻢ ﺍﻟﻤﺘﺒﺎﺩﻟﺔ . ﻭﻗﺪ ﺃﻭﺟﺰ ﻓﺮﺿﻴﺎﺗﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﻘﺎﻁ ﺍﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ‏( 7 ‏) :
    • ﺇﻥ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﻳﺘﺼﺮﻓﻮﻥ ﺣﻴﺎﻝ ﺍﻷﺷﻴﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺃﺳﺎﺱ ﻣﺎ ﺗﻌﻨﻴﻪ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﺷﻴﺎﺀ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻴﻬﻢ .
    • ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻌﺎﻧﻲ ﻫﻲ ﻧﺘﺎﺝ ﻟﻠﺘﻔﺎﻋﻞ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ .
    • ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻌﺎﻧﻲ ﺗﺤﻮَّﺭُ ﻭﺗﻌﺪّﻝ، ﻭﻳﺘﻢ ﺗﺪﺍﻭﻟﻬﺎ ﻋﺒﺮ ﻋﻤﻠﻴﺎﺕ ﺗﺄﻭﻳﻞ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﻛﻞ ﻓﺮﺩ ﻓﻲ ﺗﻌﺎﻣﻠﻪ ﻣﻊ ﺍﻹﺷﺎﺭﺍﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻮﺍﺟﻬﻬﺎ .
    3 ‏) ﺇﺭﻓﻨﺞ ﺟﻮﻓﻤﺎﻥ ErvingGoffman (1922-1982 ‏) :
    ﻭﻗﺪ ﻭﺟﻪ ﺍﻫﺘﻤﺎﻣﻪ ﻟﺘﻄﻮﻳﺮ ﻣﺪﺧﻞ ﺍﻟﺘﻔﺎﻋﻠﻴﺔ ﺍﻟﺮﻣﺰﻳﺔ ﻟﺘﺤﻠﻴﻞ ﺍﻷﻧﺴﺎﻕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﻣﺆﻛﺪﺍ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﺍﻟﺘﻔﺎﻋﻞ – ﻭﺧﺎﺻﺔ ﺍﻟﻨﻤﻂ ﺍﻟﻤﻌﻴﺎﺭﻱ ﻭﺍﻷﺧﻼﻗﻲ – ﻣﺎ ﻫﻮ ﺇﻻ ﺍﻻﻧﻄﺒﺎﻉ ﺍﻟﺬﻫﻨﻲ ﺍﻹﺭﺍﺩﻱ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺘﻢ ﻓﻲ ﻧﻄﺎﻕ ﺍﻟﻤﻮﺍﺟﻬﺔ، ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻣﺎﺕ ﺗﺴﻬﻢ ﻓﻲ ﺗﻌﺮﻳﻒ ﺍﻟﻤﻮﻗﻒ، ﻭﺗﻮﺿﻴﺢ ﺗﻮﻗﻌﺎﺕ ﺍﻟﺪﻭﺭ ‏( 8 ‏) .
    4 ‏) ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﻋﺪﺩﺍً ﻛﺒﻴﺮﺍً ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻠﻤﺎﺀ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻟﻢ ﺗﻨﺎﻗﺶ ﺃﻋﻤﺎﻟﻬﻢ ﺑﺸﻜﻞ ﻭﺍﺳﻊ، ﻣﻊ ﺃﻧﻬﻢ ﻣﻦ ﺃﻋﻼﻡ ﻭﻣﺆﺳﺴﻲ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻟﺘﻔﺎﻋﻠﻴﺔ ﺍﻟﺮﻣﺰﻳﺔ . ﻭﻣﻨﻬﻢ :
    • ﺭﻭﺑﺮﺕ ﺑﺎﺭﻙ Robert Park ، (1864-1944 ‏) . ﻭﻭﻟﻴﻢ ﺇﺳﺤﺎﻕ ﺗﻮﻣﺎﺱ W. I. Thomas، (1863-1947 ‏) . ﻭﻫﻤﺎ ﻣﻦ ﻣﺆﺳﺴﻲ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ .
    • ﻣﺎﻧﻔﺮﺩ ﻛﻮﻥ ManferdKuhn ، (1911-1963 ‏) . ﻭﻫﻮ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﺟﺘﻤﺎﻉ ﺃﻣﺮﻳﻜﻲ، ﻭﻣﻦ ﺭﻭﺍﺩ ﻣﺪﺭﺳﺔ ‏( ﺁﻳﻮﺍ ‏) ﻟﻠﺘﻔﺎﻋﻠﻴﺔ ﺍﻟﺮﻣﺰﻳﺔ .
    • ﻭﻛﺬﻟﻚ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻣﻴﻠﺘﺰﺭ Meltzer ، ﻭﻫﻴﺮﻣﺎﻥ Herman ، ﻭﺟﻼﺳﺮ Glaser ، ﻭﺳﺘﺮﺍﻭﺱ Sturauss ، ﻭﻏﻴﺮِﻫﻢ .
    ﻣﺼﻄﻠﺤﺎﺕ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ :
    .1 ﺍﻟﺘﻔﺎﻋﻞ :Interaction ﻭﻫﻮ ﺳﻠﺴﺔ ﻣﺘﺒﺎﺩﻟﺔ ﻭﻣﺴﺘﻤﺮﺓ ﻣﻦ ﺍﻻﺗﺼﺎﻻﺕ ﺑﻴﻦ ﻓﺮﺩ ﻭﻓﺮﺩ، ﺃﻭ ﻓﺮﺩ ﻣﻊ ﺟﻤﺎﻋﺔ، ﺃﻭ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻣﻊ ﺟﻤﺎﻋﺔ .
    .2 ﺍﻟﻤﺮﻭﻧﺔ :Flexibility ﻭﻳﻘﺼﺪ ﺑﻬﺎ ﺍﺳﺘﻄﺎﻋﺔ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺃﻥ ﻳﺘﺼﺮﻑ ﻓﻲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻇﺮﻭﻑ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻓﻲ ﻭﻗﺖ ﻭﺍﺣﺪ، ﻭﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻓﻲ ﻭﻗﺖ ﺁﺧﺮ، ﻭﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺘﺒﺎﻳﻨﺔ ﻓﻲ ﻓﺮﺻﺔ ﺛﺎﻟﺜﺔ .
    .3 ﺍﻟﺮﻣﻮﺯ :Symbols ﻭﻫﻲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﺍﻹﺷﺎﺭﺍﺕ ﺍﻟﻤﺼﻄﻨﻌﺔ، ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻟﺘﺴﻬﻴﻞ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘﻮﺍﺻﻞ، ﻭﻫﻲ ﺳﻤﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﻓﻲ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ . ﻭﺗﺸﻤﻞ ﻋﻨﺪ ﺟﻮﺭﺝ ﻣﻴﺪ ﺍﻟﻠﻐﺔ، ﻭﻋﻨﺪ ﺑﻠﻮﻣﺮ ﺍﻟﻤﻌﺎﻧﻲ، ﻭﻋﻨﺪ ﺟﻮﻓﻤﺎﻥ ﺍﻻﻧﻄﺒﺎﻋﺎﺕ ﻭﺍﻟﺼﻮﺭ ﺍﻟﺬﻫﻨﻴﺔ ‏( 9 ‏) .
    .4 ﺍﻟﻮﻋﻲ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ Self- Consciousness : ﻭﻫﻮ ﻣﻘﺪﺭﺓ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﺗﻤﺜﻞ ﺍﻟﺪﻭﺭ، ﻓﺎﻟﺘﻮﻗﻌﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻜﻮﻥ ﻟﺪﻯ ﺍﻵﺧﺮﻳﻦ ﻋﻦ ﺳﻠﻮﻛﻨﺎ ﻓﻲ ﻇﺮﻭﻑ ﻣﻌﻴﻨﺔ، ﻫﻲ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﻧﺼﻮﺹ ﻳﺠﺐ ﺃﻥ ﻧﻌﻴﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﻧﻤﺜﻠﻬﺎ، ﻋﻠﻰ ﺣﺪ ﺗﻌﺒﻴﺮ ﺟﻮﻓﻤﺎﻥ ‏( 10 ‏) .
    ﺛﺎﻧﻴﺎ : ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﻴﺔ ﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ :
    ﻳﻌﺮﻑ ﺟﻮﺭﺝ ﻏﻮﺭﻓﻴﺘﺶ ﻋﻠﻢ ﺍﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻪ : ﺩﺭﺍﺳﺔ ﺍﻟﺘﺮﺍﺑﻄﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﻗﻴﺎﻣﻬﺎ ﺑﻴﻦ ﺍﻷﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ، ﻭﺍﻷﻃﺮ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺛﺎﻧﻴﺔ ‏( 11 ‏) . ﻓﻌﻠﻢ ﺍﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﻳﺮﻛﺰ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﺮﺍﺑﻄﺎﺕ ﺍﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ ﺍﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﺑﻴﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﻭﺃﺷﻜﺎﻝِ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ، ﺑﺤﺪ ﺫﺍﺗﻬﺎ، ﺛﻢ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻷﻃﺮ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﻣﻤﺎ ﻳﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﺃﻥ ﻋﺼﺐ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﻳﻜﻤﻦ ﻓﻲ ﻭﻇﺎﺋﻔﻬﺎ ‏( 12 ‏) .
    ﺃﻣﺎ ﻋﻠﻢ ﺍﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﻓﻴﻌﺮﻓﻪ ﻳﻮﻧﺞ M. Young ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻪ : ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺉ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻘﻒ ﺧﻠﻒ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﺗﻮﺯﻳﻊ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ ﻭﺗﻨﻈﻴﻤﻬﺎ، ﻭﻛﻴﻔﻴﺔ ﺍﻧﺘﻘﺎﺋﻬﺎ ﻭﺇﻋﻄﺎﺋِﻬﺎ ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ، ﻭﻣﻌﺮﻓﺔ ﺛﻘﺎﻓﺔ ﺍﻟﺤﺲ ﺍﻟﻌﺎﻡ، ﻭﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﺭﺑﻄﻬﺎ ﺑﺎﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺪﺍﺭﺱ، ﻭﺍﻋﺘﺒﺎﺭﻫﺎ ﺍﻟﻤﺪﺧﻞ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ ‏( 13 ‏) .
    ﻭﺑﻨﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ ﻳﻬﺘﻢ ﻋﻠﻢ ﺍﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﻲ ﺑﺎﻟﺒﺤﺚ ﻓﻲ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺎﺕ ﺍﻟﻔﺮﻋﻴﺔ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ، ﻭﻋﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘﻨﺸﺌﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﻭﺃﺛﺮ ﺫﻟﻚ ﻋﻠﻰ ﻗﻴﻢ ﺍﻟﻄﻔﻞ ﻭﺍﺗﺠﺎﻫﺎﺗﻪ، ﻭﻣﺴﺘﻮﻯ ﺗﺤﺼﻴﻠﻪ ﺍﻷﻛﺎﺩﻳﻤﻲ ﻭﺍﻟﻠﻐﻮﻱ . ﻭﻳﻬﺘﻢ ﺃﻳﻀﺎ ﺑﺎﻟﺒﺤﺚ ﻓﻲ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ ﺍﻟﻤﺘﺒﺎﺩﻟﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻭﺍﻟﺘﻐﻴﺮ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ، ﻭﺗﺤﻠﻴﻞ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﺔ ﻛﻤﺆﺳﺴﺔ ﺗﺮﺑﻮﻳﺔ، ﻣﻌﺘﻤﺪﺍ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻋﻠﻰ ﺍﺳﺘﺨﺪﺍﻡ ﺍﻷﺳﻠﻮﺏ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻲ ﺍﻟﺪﻗﻴﻖ Micro – SociologicalApproach(14 ‏) .
    ﻣﺼﻄﻠﺤﺎﺕُ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﻴﺔ :
    .1 ﻧﻈﻢ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ : ﻭﻳﻌﻨﻰ ﺑﻬﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ؛ ﻷﻥ ﺇﻧﺘﺎﺝ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﻟﻴﺲ ﻋﻤﻼ ﻓﺮﺩﻳﺎ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﻋﻤﻞ ﺟﻤﺎﻋﻲ .
    .2 ﺗﻮﺯﻳﻊ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ : ﺗﺄﺧﺬ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺃﺷﻜﺎﻻ ﻫﺮﻣﻴﺔ ﺗﺒﻌﺎ ﻟﺘﺪﺭﺟﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﻴﻤﺔ؛ ﻷﻥ ﺗﻤﻴﺰ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﻤﻌﺎﺭﻑ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺍﻵﺧﺮ ﺷﺮﻁ ﺿﺮﻭﺭﻱ ﻟﺒﻌﺾ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺎﺕ، ﻭﺫﻟﻚ ﻟﻜﻲ ﻳﻜﺘﺴﺐ ﺍﻟﻤﻨﺘﻔﻌﻮﻥ ﻣﻨﻬﻢ ﺃﻫﻤﻴﺔ ﻭﺷﺮﻋﻴﺔ ﻟﻤﻜﺎﻧﺘﻬﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﻌﺎﻟﻴﺔ .
    .3 ﺍﻟﻤﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﻨﺴﺒﻴﺔ : ﺇﻥ ﺍﻟﻤﻌﻴﺎﺭ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ ﻫﻮ ﺗﺤﺴﻴﻦ ﺍﻷﻭﺿﺎﻉ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ، ﻓﺎﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺴﻴﺎﻗﺎﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺟﺎﺀﺕ ﻟﺤﻞ ﻣﺸﻜﻠﺔ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ‏( 15 ‏) .
    .4 ﺭﺃﺱ ﺍﻟﻤﺎﻝ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ Cultural Capital : ﻳﻌﺮﻓﻪ ﺑﻮﺭﺩﻳﻮ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻪ : ﺍﻟﺪﻭﺭ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻠﻌﺒﻪ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﺍﻟﻤﺴﻴﻄﺮﺓ ﺃﻭ ﺍﻟﺴﺎﺋﺪﺓ ﻓﻲ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻣﺎ، ﻓﻲ ﺇﻋﺎﺩﺓ ﺇﻧﺘﺎﺝ ﺃﻭ ﺗﺮﺳﻴﺦ ﺑﻨﻴﺔ ﺍﻟﺘﻔﺎﻭﺕ ﺍﻟﻄﺒﻘﻲ ﺍﻟﺴﺎﺋﺪ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ .
    ﻭﻣﻦ ﺃﺷﻬﺮ ﻣﻤﺜﻠﻲ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔِ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﻴﺔ :
    .1 ﻣﺎﻳﻜﻞ ﻳﻮﻧﺞ M. Young :
    ﺍﻟﺬﻱ ﺃَﻋﻠﻦ ﻣﻮﻟﺪ ﻋﻠﻢ ﺍﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﻋﺎﻡ 1971 ، ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ : ‏( ﻋﻠﻢ ﺍﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ ‏) . ﻭﻫﻮ ﻳﺮﻯ ﺑﺄﻥ ﻋﻠﻢ ﺍﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻱ ﻛﻠﻪ ﺑﺎﺀ ﺑﺎﻟﻔﺸﻞ؛ ﻷﻥ ﺍﻟﺒﺎﺣﺜﻴﻦ ﺃﺧﺬﻭﺍ ﺍﻟﻤﺸﻜﻼﺕ ﻣﺄﺧﺬ ﺍﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻬﺎ ﻣﺸﻜﻼﺕ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﺍﻟﺠﺪﻳﺮﺓ ﺑﺎﻟﺪﺭﺍﺳﺔ، ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺃﻥ ﻳﺤﺎﻭﻟﻮﺍ ﻓﺤﺺ ﻗﻴﻤﺔ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺸﻜﻼﺕ ﻧﻔﺴﻬﺎ، ﻟﺘﺒﻴﻦ ﺃﻫﻤﻴﺘﻬﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺘﺮﺑﻴﺔ . ﻓﺎﻟﻤﺪﺧﻞ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻟﻺﺻﻼﺡ ﻫﻮ ﺧﻠﻖ ﺍﻟﻤﻮﺍﻗﻒ ﺍﻟﻤﺸﻜﻠﺔ، ﻭﺃﻥ ﺗﻀﻊ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻣﻮﺿﻊ ﺍﻟﺸﻚ ﻭﺍﻟﺘﺴﺎﺅﻝ، ﻓﻴﺘﻐﻴﺮ ﺍﻟﺠﺪﻝ ﺣﻮﻝ ﻗﻀﺎﻳﺎ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ، ﻭﺗﺘﻮﻟﺪ ﻧﻈﺮﻳﺎﺕ ﺧﺼﺒﺔ، ﻭﺑﺤﻮﺙ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﻓﻲ ﻣﺠﺎﻝ ﺍﻟﺒﺮﺍﻣﺞ ﺍﻟﺪﺭﺍﺳﻴﺔ‏( 16 ‏) .
    .2 ﺑﺮﻭﻧﺮ J. Bruner :
    ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺰﻋﻢ ﺣﺮﻛﺔ ﺍﻟﻌﻮﺩﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻷﺳﺎﺳﻴﺎﺕ Back – to Basic – .Movement ﺇﺛﺮ ﻣﺤﺎﻭﻻﺕ ﺇﺻﻼﺡ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ، ﺑﻌﺪ ﺃﺯﻣﺔ ﺳﺒﻮﺗﻨﻴﻚ ﻋﺎﻡ 1957 ﻡ . ﻭﻛﺎﻥ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﺍﻟﺸﻬﻴﺮ ‏( ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱﺓ ‏) The Process of Education . ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﺇﻧﺠﻴﻞ ﺇﺻﻼﺡ ﺍﻟﻤﻨﻬﺞ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﺍﻻﺑﺘﺪﺍﺋﻲ ﻭﺍﻟﺜﺎﻧﻮﻱ .
    ﻭﻟﺐ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺑﺮﻭﻧﺮ ﻫﻮ ﺍﻟﺪﻋﻮﺓ ﺇﻟﻰ ﺗﺠﺪﻳﺪ ﺍﻟﺒﻨﻴﺔ ﺍﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ، ﻣﻊ ﺍﻟﻤﺤﺎﻓﻈﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻮﺍﺟﺰ ﺑﻴﻦ ﻛﻞ ﻣﺎﺩﺓ ﻭﺃﺧﺮﻯ . ﻭﻫﻮ ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﻠﻰ ﻣﺴﻠﻤﺔ ﻣﺆﺩﺍﻫﺎ : ﺃﻥ ﻛﻞ ﺍﻷﻧﺸﻄﺔ ﺍﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﻓﻲ ﺃﻱ ﻣﻮﻗﻊ ﻣﻦ ﻣﻴﺎﺩﻳﻦ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﻫﻲ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﻣﻬﻤﺎ ﺗﻀﺨﻤﺖ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺃﻭ ﺗﻘﻠﺼﺖ ‏( 17 ‏) .
    .3 ﺑﻴﻴﺮ ﺑﻮﺭﺩﻳﻮ :
    ﺇﻥ ﺍﻟﻤﻘﻮﻟﺔ ﺍﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺑﻨﻰ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﻮﺭﺩﻳﻮ ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ، ﻫﻲ ﺃﻥ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﻭﺳﻂ ﻳﺘﻢ ﺑﻪ، ﻭﻣﻦ ﺧﻼﻟﻪ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺇﻋﺎﺩﺓ
    ﺇﻧﺘﺎﺝ ﺑﻨﻴﺔ ﺍﻟﺘﻔﺎﻭﺕ ﺍﻟﻄﺒﻘﻲ . ﻭﻳﺴﺘﻨﺪ ﺑﻮﺭﺩﻳﻮ ﻓﻲ ﺇﺛﺒﺎﺕ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻘﻮﻟﺔ ﻭﺗﺤﻠﻴﻠﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﻧﻈﺮﻳﺘﻴﻦ، ﻫﻤﺎ ‏( 18 ‏) :
    • ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺭﺃﺱ ﺍﻟﻤﺎﻝ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ TheCultural Capital .
    • ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟﺨﺼﺎﺋﺺ ﺍﻟﻨﻔﺴﻴﺔ The Habitus .
    ﻓﺎﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﻋﻨﺪ ﺑﻮﺭﺩﻳﻮ ﺗﻔﺮﺽ ﻣﺒﺎﺩﺉ ﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ، ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻬﺎ – ﻛﺄﻧﺴﺎﻕ ﺭﻣﺰﻳﺔ – ﻫﻲ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﺭﺃﺱ ﻣﺎﻝ ﻗﺎﺑﻞ ﻟﻠﺘﺤﻮﻝ ﺇﻟﻰ ﺭﺃﺱ ﻣﺎﻝ ﺍﻗﺘﺼﺎﺩﻱ ﺃﻭ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﺃﻭ ﺃﻱ ﺷﻜﻞ ﺁﺧﺮ ﻣﻦ ﺭﺅﻭﺱ ﺍﻷﻣﻮﺍﻝ ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ ‏( 19 ‏) .
    .4 ﻭﻣﻦ ﻣﻤﺜﻠﻲ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﻴﺔ ﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﻛﻞ ﻣﻦ :
    ﻓﻠﻮﺩ Floud ، ﻭﻫﺎﻟﺴﻲ Halsey ، ﻭﻣﺎﺭﺗﻦ .Martin
    ﺗﻌﻘﻴﺐ
    ﺇﻥ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻟﺘﻔﺎﻋﻠﻴﺔ ﺍﻟﺮﻣﺰﻳﺔ، ﻻ ﺗﻘﺪﻡ ﻣﻔﻬﻮﻣﺎ ﺷﺎﻣﻼ ﻟﻠﺸﺨﺼﻴﺔ، ﻓﺄﺻﺤﺎﺏ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻭﻋﻠﻰ ﺭﺃﺳﻬﻢ ﺑﻠﻮﻣﺮ ﻳﻘﺮﻭﻥ ﺑﺄﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻳﺠﺐ ﺃﻻ ﺗﺸﻐﻞ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺑﻤﻮﺿﻮﻉ ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻛﻤﺎ ﻳﻨﺸﻐﻞ ﺑﻬﺎ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻨﻔﺲ . ﻭﻫﺬﺍ ﺳﺒﺐ ﻭﺍﺿﺢ، ﻭﻣﺒﺮﺭ ﺟﻮﻫﺮﻱ ﻋﻠﻰ ﻗﻠﺔ ﺍﻻﺳﺘﻔﺎﺩﺓ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻴﺪﺍﻥ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ، ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻭﺟﻮﺩ ﺑﻌﺾ ﺍﻷﺑﺤﺎﺙ ﺍﻟﻘﻠﻴﻠﺔ ﺍﻟﻤﻨﺸﻮﺭﺓ ﻫﻨﺎ ﻭﻫﻨﺎﻙ .
    ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﺘﻔﺎﻋﻠﻴﺔ ﺍﻟﺮﻣﺰﻳﺔ ﺃﻏﻔﻠﺖ ﺍﻟﺠﻮﺍﻧﺐ ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ ﻟﻠﺒﻨﻴﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ؛ ﻟﺬﻟﻚ ﻧﺠﺪﻫﺎ ﻻ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﻗﻮﻝ ﺃﻱ ﺷﺊ ﻋﻦ ﻇﻮﺍﻫﺮ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻛﺎﻟﻘﻮﺓ ﻭﺍﻟﺼﺮﺍﻉ ﻭﺍﻟﺘﻐﻴﺮ، ﻭﺃﻥ ﺻﻴﺎﻏﺘﻬﺎ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻣﻐﺮﻗﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻐﻤﻮﺽ، ﻭﺃﻧﻬﺎ ﺗﻘﺪﻡ ﺻﻮﺭﺓ ﻧﺎﻗﺼﺔ ﻋﻦ ﺍﻟﻔﺮﺩ .
    ﺃﻣﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ، ﻓﻴﻤﻜﻦ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﺍﻟﻤﺠﺎﻝ ﺍﻟﺴﺎﺋﺪ ﺣﺎﻟﻴﺎ ﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ، ﻭﻗﺪ ﺍﻧﻔﺮﺩﺕ ﺑﺎﺳﻢ : ‏( ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ ‏) ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺟﻤﻌﺖ ﺑﻴﻦ ﺃﺳﻠﻮﺏ ﺍﻟﺒﺤﺚ ﺍﻟﺪﻗﻴﻖ، ﺑﺎﺳﺘﺨﺪﺍﻡ ﺃﺳﻠﻮﺏ ﺍﻟﻤﻼﺣﻈﺔ، ﻭﺍﻟﻤﻼﺣﻈﺔ ﺑﺎﻟﻤﺸﺎﺭﻛﺔ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﻐﺮﻓﺔ ﺍﻟﺼﻔﻴﺔ، ﻭﺑﻴﻦ ﺃﺳﻠﻮﺏ ﺍﻟﺒﺤﺚ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﺍﻟﻮﺍﺳﻊ، ﺍﻟﺬﻱ ﺍﺷﺘﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﻗﻀﺎﻳﺎ ﻭﺍﺳﻌﺔٍ ﻛﺎﻟﻘﻬﺮ، ﻭﺍﻟﺼﺮﺍﻉ، ﻭﺍﻟﺘﻐﻴﺮ، ﻭﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ، ﻭﺩﻭﺭ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ .
    ﻭﻟﻌﻞ ﺍﻟﺪﺭﺍﺳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻗﺎﻣﺖ ﺑﻬﺎ ﻧﻴﻞ ﻛﻴﺪﻱ Nell Keddie . ﻓﻲ ﺇﺣﺪﻯ ﺍﻟﻤﺪﺍﺭﺱ ﺍﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ، ﺑﻌﻨﻮﺍﻥ :
    ” ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﻲ ” ﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺪﺭﺍﺳﺎﺕ ﺍﻟﻘﻠﻴﻠﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﺟﺮﻳﺖ ﻓﻲ ﺇﻃﺎﺭ ﻫﺬﺍ ﺍﻻﻫﺘﻤﺎﻡ ﺑﺎﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻮﺟﺪ ﻟﺪﻯ ﺍﻟﻤﻌﻠﻤﻴﻦ ﺣﻮﻝ ﺗﻼﻣﻴﺬﻫﻢ، ، ﻭﻫﻲ ﻧﻤﻮﺫﺝ ﻻﻫﺘﻤﺎﻣﺎﺕ ﻋﻠﻢ ﺇﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ .
    ﺧﺎﺗﻤﺔ :
    ﻳﺤﻈﻰ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﺑﺎﻫﺘﻤﺎﻡ ﻛﺒﻴﺮ، ﻛﻮﻧﻪ ﺍﻟﻤﻨﻄﻠﻖ ﺍﻷﺳﺎﺳﻲ ﻟﺘﻜﺮﻳﺲ ﻗﻴﻢ ﺍﻷﺻﺎﻟﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻭﺍﻟﻤﺮﺗﻜﺰ ﺍﻷﻫﻢ ﻓﻲ ﺑﻨﺎﺀ ﻣﺴﺘﻘﺒﻞ ﻳﺤﻘﻖ ﺍﺳﺘﺜﻤﺎﺭﺍ ﺃﻣﺜﻞ ﻟﻤﻌﻄﻴﺎﺕ ﺍﻟﺤﺎﺿﺮ، ﻣﺠﺴﺪﺍ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺫﻟﻚ ﺗﻄﻠﻌﺎﺕ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﻭﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻋﻠﻰ ﺣﺪ ﺳﻮﺍﺀ، ﻓﻲ ﺇﻃﺎﺭ ﻣﺸﺮﻭﻉ ﺣﻀﺎﺭﻱ ﻣﺘﻜﺎﻣﻞ .
    ﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻳﺒﺪﻭ ﺍﻟﺒﺤﺚ ﻓﻲ ﻣﻮﺿﻮﻉ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ، ﻣﺮﺗﺒﻄﺎ ﺑﺎﻟﺒﺤﺚ ﻓﻲ ﻣﻀﺎﻣﻴﻦ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ، ﻓﻲ ﻣﺎﺿﻴﻪ ﻭﺣﺎﺿﺮﻩ، ﻭﻓﻲ ﺍﻫﺘﻤﺎﻣﺎﺗﻪ ﻭﺗﻄﻠﻌﺎﺗﻪ، ﻭﻓﻲ ﺃﺳﺎﻟﻴﺒﻪ ﻭﺃﻏﺮﺍﺿﻪ،ﻓﺎﻟﻤﺠﺘﻢﻉ ﻣﺤﺘﺎﺝ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ،ﻭﺧﺎﺻﺔ ﺃﻥ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﺗﻬﺪﻑ ﺟﻤﻠﺔ ﻣﺎ ﺗﻬﺪﻑ ﺇﻟﻴﻪ ﺇﻟﻰ ﺗﻜﻴﻴﻒ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻣﻊ ﻣﺠﺘﻤﻌﻪ ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺃﻧﻤﺎﻁ ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ ﻭﻋﺎﺩﺍﺕ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ،ﻭﺫﻟﻚ ﺑﺎﺳﺘﻔﺎﺩﺗﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻮﺻﻞ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﻭﺗﺴﻌﻰ ﺇﻟﻰ ﺗﻄﺒﻴﻘﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻴﺪﺍﻥ، ﻫﺬﺍ ﺍﻷﺧﻴﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺪﺭﺱ ﺍﻷﻧﺸﻄﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻘﺎﻡ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﺔ ﻭﻳﺮﺻﺪ ﺍﻟﺘﻔﺎﻋﻼﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺘﻢ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﻨﺴﻖ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺔ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻴﺔ ، ﻛﻤﺎ ﻳﻌﻜﺲ ﺗﺄﺛﻴﺮﺍﺕ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﺔ ﻭﺍﻟﺘﻼﻣﻴﺬ ﻭﺍﻟﻤﺪﺭﺳﻴﻦ ﻭﺭﺟﺎﻝ ﺍﻹﺩﺍﺭﺓ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ . ﻭ ﻳﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺗﺤﻠﻴﻞ ﺃﺷﻜﺎﻝ ﺍﻷﻧﺸﻄﺔ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ، ﻛﺄﻧﺸﻄﺔ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﻴﻦ ﻭﺍﻟﺘﻼﻣﻴﺬ ﻭﺍﻹﺩﺍﺭﻳﻴﻦ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺔ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﻴﺔ . ﻭﻳﻘﻮﻡ ﺑﻮﺻﻒ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﻭﺍﻷﻧﺸﻄﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺘﻢ ﺑﻴﻨﻬﻢ .
    ﻭﻟﻜﻦ ﻣﺎ ﻳﺘﺒﺎﺩﺭ ﻟﻸﺫﻫﺎﻥ ﻫﻮ ﺇﻟﻰ ﺃﻱ ﺣﺪ ﻳﻌﻤﻞ ﻋﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﻋﻠﻰ ﻛﺸﻒ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﺴﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺵ ﻓﻲ ﻋﻼﻗﺘﻪ ﺍﻟﺘﻔﺎﻋﻠﻴﺔ ﻣﻊ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ؟ ﺧﺼﻮﺻﺎ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﺻﻄﺪﺍﻣﻪ ﻣﻊ ﻣﺎ ﺗﺸﻬﺪﻩ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﻣﻦ ﺗﻐﻴﺮ ﻓﻲ ﺑﻨﻴﺘﻬﺎ ﻭﺛﻘﺎﻓﺘﻬﺎ،ﻓﻬﻞ ﺑﺎﺳﺘﻄﺎﻋﺘﻪ ﺃﻥ ﻳﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﺑﻌﺪ ﺳﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻲ ﺟﺪﻳﺪ ﻟﻠﻮﻗﺎﺋﻊ ﻭﺍﻟﻈﻮﺍﻫﺮ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪﺙ ﻓﻲ ﻋﺼﺮﻧﺎ ﻫﺬﺍ؟ ﻭﻫﻞ ﻧﺠﺢ ﻓﻌﻼ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﻓﻲ ﺗﺸﺨﻴﺺ ﺍﻟﻈﻮﺍﻫﺮ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ ﻭ ﻣﻌﺎﻟﺠﺘﻬﺎ ﺑﺎﻟﺸﻜﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺨﺪﻡ ﻣﺼﻠﺤﺔ ﺍﻟﻨﺶﺀ ؟ ﺃﻡ ﺻﺎﺭ ﻣﺠﺮﺩ ﺃﺩﺍﺓ ﻣﺴﺨﺮﺓ ﻓﻲ ﺃﻳﺪﻱ ﻃﻴﻘﺔ ﻣﺴﻴﻄﺮﺓ ﺍﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺎ ﺗﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺇﻧﺘﺎﺝ ﻧﻔﺲ ﺍﻟﻄﺒﻘﺎﺕ ﺍﻟﺮﻣﺰﻳﺔ، ﺃﻱ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﺔ ﺗﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺇﻋﺎﺩﺓ ﻧﻔﺲ ﻗﻴﻢ ﺍﻟﻄﺒﻘﺔ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﺸﺮﻳﺐ ﺃﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﻄﺒﻘﺎﺕ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻧﻔﺲ ﺍﻟﻘﻴﻢ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ ﻭﺍﻟﻠﻐﻮﻳﺔ ﻟﻠﻄﺒﻘﺔ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ؟ ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎ، ﻓﺎﻟﻔﻘﺮﺍﺀ ﻻﻳﻨﺘﺠﻮﻥ ﻋﺒﺮ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺔ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻴﺔ ﺳﻮﻯ ﺍﻟﻄﺒﻘﺔ ﺍﻟﺒﺮﻭﻟﻴﺘﺎﺭﻳﺔ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﺒﻮﺭﺟﻮﺍﺯﻳﻮﻥ ﻻﻳﻜﻮﻧﻮﻥ ﺳﻮﻯ ﻭﺭﺛﺔ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ ﻭﺍﻟﺠﺎﻩ .
    ﺍﻟﻬﻮﺍﻣﺶ
    1 . ﻋﻠﻢ ﺍﻹﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺘﺄﻟﻴﻒ ﻭ ﺍﻟﺘﺪﺭﻳﺲ ﺩ . ﻓﺎﻳﺰ ﻣﺮﺍﺩ ﺩﻧﺪﺵ
    : ﻓﺎﺩﻳﺔ ﻋﻤﺮ ﺍﻟﺠﻮﻻﻧﻲ . ‏( 1997 ‏) ، ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ، ﻣﺮﻛﺰ ﺍﻻﺳﻜﻨﺪﺭﻳﺔ ﻟﻠﻜﺘﺎﺏ . ﺹ 215
    2 ﺇﻳﺎﻥ ﻛﺮﻳﺐ . ‏( 1999 ‏) ، ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻣﻦ ﺑﺎﺭﺳﻮﻧﺰ ﺇﻟﻰ ﻫﺎﺑﺮﻣﺎﺱ، ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻣﺤﻤﺪ ﺣﺴﻴﻦ ﻏﻠﻮﻡ، ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ، ﻉ ‏( 244 ‏) ، ﺍﻟﻜﻮﻳﺖ
    3 ﺇﻳﺎﻥ ﻛﺮﻳﺐ . ‏( 1999 ‏) ، ﺍﻟﻤﺮﺟﻊ ﺍﻟﺴﺎﺑﻖ . ﺹ 131
    :4 ﺣﻤﺪﻱ ﻋﻠﻲ ﺃﺣﻤﺪ . ‏( 1995 ‏) ، ﻣﻘﺪﻣﺔ ﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﺍﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ، ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﺠﺎﻣﻌﻴﺔ، ﺍﻻﺳﻜﻨﺪﺭﻳﺔ . ﺹ 180
    :5 ﻋﻠﻲ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﺮﺯﺍﻕ ﺟﻠﺒﻲ . ‏( 1993 ‏) ، ﺍﻻﺗﺠﺎﻫﺎﺕ ﺍﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻓﻲ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ، ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﺠﺎﻣﻌﻴﺔ، ﺍﻻﺳﻜﻨﺪﺭﻳﺔ . ﺹ 237
    .6 ﻓﺎﺩﻳﺔ ﺍﻟﺠﻮﻻﻧﻲ . ‏( 1997 ‏) ، ﻣﺮﺟﻊ ﺳﺎﺑﻖ . ﺹ 216
    .7 ﺇﻳﺎﻥ ﻛﺮﻳﺐ . ‏( 1999 ‏) ، ﻣﺮﺟﻊ ﺳﺎﺑﻖ . ﺹ 132
    .8 ﻓﺎﺩﻳﺔ ﺍﻟﺠﻮﻻﻧﻲ . ‏( 1997 ‏) ، ﻣﺮﺟﻊ ﺳﺎﺑﻖ . ﺹ 218
    .9 ﻋﻠﻲ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﺮﺯﺍﻕ ﺟﻠﺒﻲ . ‏( 1993 ‏) ، ﻣﺮﺟﻊ ﺳﺎﺑﻖ .
    10 ﺇﻳﺎﻥ ﻛﺮﻳﺐ . ‏( 1999 ‏) ، ﻣﺮﺟﻊ ﺳﺎﺑﻖ . ﺹ 135
    11 ﺟﻮﺭﺝ ﻏﻮﺭﻓﻴﺘﺶ . ‏( 1981 ‏) ، ﺍﻷﻃﺮ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ، ﺗﺮﺟﻤﺔ ﺧﻠﻴﻞ ﺃﺣﻤﺪ ﺧﻠﻴﻞ، ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺔ ﺍﻟﺠﺎﻣﻌﻴﺔ ﻟﻠﺪﺭﺍﺳﺎﺕ ﻭﺍﻟﻨﺸﺮ، ﺑﻴﺮﻭﺕ . ﺹ 23
    12 ﻓﺎﻃﻤﺔ ﺑﺪﻭﻱ . ‏( 1988 ‏) ، ﻋﻠﻢ ﺍﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ، ﻣﻨﺸﻮﺭﺍﺕ ﺟﺮﻭﺱ ﺑﺮﺱ . ﺹ 69
    13 ﻋﺒﺪ ﺍﻟﺴﻤﻴﻊ ﺳﻴﺪ ﺃﺣﻤﺪ . ‏( 1993 ‏) ، ﺩﺭﺍﺳﺎﺕ ﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻱ، ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﺠﺎﻣﻌﻴﺔ، ﺍﻻﺳﻜﻨﺪﺭﻳﺔ . ﺹ 43
    14 ﻋﻠﻲ ﺍﻟﺴﻴﺪ ﺍﻟﺸﺨﻴﺒﻲ . ‏( 2002 ‏) ، ﻋﻠﻢ ﺍﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ، ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ، ﺍﻟﻘﺎﻫﺮﺓ . ﺹ 67
    15 ﻋﺒﺪ ﺍﻟﺴﻤﻴﻊ ﺳﻴﺪ ﺃﺣﻤﺪ . ‏( 1993 ‏) ، ﻣﺮﺟﻊ ﺳﺎﺑﻖ . ﺹ 47-44
    16 ﻋﺒﺪ ﺍﻟﺴﻤﻴﻊ ﺳﻴﺪ ﺃﺣﻤﺪ . ‏( 1993 ‏) ، ﺍﻟﻤﺮﺟﻊ ﺍﻟﺴﺎﺑﻖ . ﺹ 43
    17 ﻋﺒﺪ ﺍﻟﺴﻤﻴﻊ ﺳﻴﺪ ﺃﺣﻤﺪ . ‏( 1993 ‏) ، ﺍﻟﻤﺮﺟﻊ ﺍﻟﺴﺎﺑﻖ . ﺹ 56
    18 ﺣﺴﻦ ﺍﻟﺒﻼﻭﻱ، ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻭﺑُﻨﻴﺔ ﺍﻟﺘﻔﺎﻭﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﺍﻟﻄﺒﻘﻲ : ﺩﺭﺍﺳﺔ ﻓﻲ ﻓﻜﺮ ﺑﻴﻴﺮ ﺑﻮﺭﺩﻭ . 125
    19 ﺣﺴﻦ ﺍﻟﺒﻼﻭﻱ، ﺍﻟﻤﺮﺟﻊ ﺍﻟﺴﺎﺑﻖ . ﺹ 127
    ✅ م .ن