لمن فرط في القرآن، ليتنى لم انشغل إلا بالقرآن !

قال سفيان الثوري : « ليتني كنت اقتصرت على القرآن » .

ابن تيمية : « وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن » .

سفيان بن عيينة : « والله لا تبلغوا ذروة هذا الأمر حتى لا يكون شيء أحب إليكم من الله ، فمَن أحب القرآن؛ فقد أحب الله ، افقهوا ما يقال لكم » .

ابن مسعود : « إذا أردتم العلم ؛ فانثروا القرآن ، فإن فيه علم الأولين والآخرين » .

قال أبو هريرة: « إن البيت الذى يتلى فيه القرآن اتسع بأهله وكثر خيره وحضرته الملائكة وخرجت منه الشياطين ، وإن البيت الذي لايتلى فيه كتاب الله عز وجل ضاق بأهله وقل خيره وخرجت منه الملائكة وحضرته الشياطين ».

قال الاعمش : « ومما رفعني الله به القرآن » .

قال الحسن البصري: « والله ما دون القرآن من غنى ولا بعده من فاقة فقر ” .

قال أحد السلف : « كلما زاد حزبي من القرآن، زادت البركة في وقتي ، ولا زلت أزيد حتى بلغ حزبي عشرة أجزاء ».

قال إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي موصيا الضياء المقدسي لما أراد الرحلة للعلم : « أكثر من قراءة القرآن ولا تتركه ؛ فإنه يتيسر لك الذي تطلبه على قدر ما تقرأ .

قال الضياء : « فرأيت ذلك وجربته كثيراً ، فكنت إذا قرأت كثيراً تيسر لي من سماع الحديث وكتابته الكثير ، وإذا لم أقرأ لم يتيسر لي ».

قال الحسن بن علي : « إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويتفقدونها في النهار » .

قال عثمان بن عفان : « لو طهرت القلوب ؛ لم تشبع من قراءة القرآن » .

قال ابن مسعود : « لا تهذوا القرآن هذَّ الشعر ولا تنثروه نثر الدقل ؛ قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة » .

قال رجل لأبي بن كعب: « أوصني »؛ قال: « اتخذ كتاب الله إماماً، وارض به قاضياً وحكماً؛ فانه الذي استخلف فيكم رسولكم، شفيع، مطاع، وشاهد لا يتهم، فيه ذكركم، وذكر من قبلكم، وحكم ما بينكم، وخبركم، وخبر ما بعدكم» .

قال كعب الأحبار : « عليكم بالقرآن، فإنه فهم العقل، ونور الحكمة، وينابيع العلم؛ وأحدث الكتب عهداً بالرحمن » .

قال كعب الأحبار : « {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10] هم أهل القرآن » .

التوظيف السياسي للدين:أبو حامد الغزالي نموذجا(ت.505)

قلت في الجزء الأول من هذا المقال إن المرة الأولى التي تم فيها استدعاء الوحي “القرآن” كسلطة لإسناد وتبرير المواقف السياسية كانت إبان ما عرف في التاريخ الإسلامي بالفتنة الكبرى التي اصطرع فيها طرفان من الجماعة المسلمة، تزعم أحدهما الخليفة الرابع على بن أبي طالب، بينما وقف على رأس الثاني، معاوية بن أبي سفيان.

قام الطرفان باستدعاء القرآن للمعركة، كلٌ بحسب طريقته، حيث عمد معاوية إلى استخدامه كسلطة رادعة للخصوم من خلال رفعه على أسنة الرماح، بينما استدعاه الإمام على كحقل مفتوح للمعرفة والتأويل من خلال مقولته “القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق وإنما يتحدث به الرجال”، ومنذ أن تحقق النصر النهائي لمعاوية سادت في التاريخ الإسلامي طريقته في استحضار الوحي لتحقيق المرامي السياسية وردع الخصوم.

غرض الغزالي من تأليف كتاب في “علم الدين” هو فقط “شكر النعمة” التي أنعم بها عليه الخليفة
​​قد استمر استدعاء الدين من أجل قمع الخصوم طوال التاريخ الإسلامي، فعلى سبيل المثال قام الأمويون بابتداع عقيدتي “الجبر والإرجاء” اللتان تمنحان الخلفاء المبرر الذي يمكنهم من مخالفة الأوامر الدينية والتنكيل بالمعارضين دون أن يتعرضوا للمساءلة.

حيث تذهب العقيدة الأولى إلى أن جميع ما يقع من أفعال إنما هو بقدر الله تعالى، وأن الانسان كالريشة في مهب الريح، لا فعل له على الحقيقة إلا الاستسلام لذلك القدر، وأن الملوك الظلمة هم عقاب من الله، وإنما ظلمهم وبطشهم ما هو إلا شيء خارج عن إرادتهم.

أما الإرجاء فإنه يرتبط ارتباطا وثيقا بالجبر، إذ أنه يفيد بأن الخلفاء والأمراء مهما استحلوا من المحرمات وفعلوا من الموبقات وارتكبوا من الانحرافات فإنهم لا يخرجون من دائرة الاسلام ما داموا يُقرِّون بالشهادتين، وأن حسابهم والحكم عليهم يجب أن يُرجأ إلى يوم القيامة.

ومن ناحية أخرى، فقد سعى بعض العلماء والفقهاء إلى تقديم خدماتهم للسلاطين والفقهاء عبر تأليف الكتب وإصدار الفتاوى من أجل تثبيتهم في السلطة، حتى أن آرائهم التي خرجوا بها في ذلك الإطار باتت جزءا من الشريعة التي يتم الدعوة لتطبيقها اليوم، كما أنها ساهمت في تأجيج الخلافات بين مختلف المذاهب من منطلق الدين بينما هي في الواقع وليدة الأغراض السياسية.

ويبرز من بين الأسماء التي دخلت في هذا الإطار الفقيه والصوفي والمتكلم الأشعري الكبير، أبو حامد الغزالي، الملقب بحجة الإسلام وصاحب كتاب “فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية”، الذي قام بتأليف ذلك السفر بطلب من الخليفة العباسي، أبو العباس أحمد بن عبد الله، الملقب بـ “المستظهر بالله” وسطر في مقدمته الكلام التالي:

“أما بعد فإني لم أزل مدة المقام بمدينة السلام متشوفا إلى أن أخدم المواقف المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية، ضعف الله جلالها ومد على طبقات الخلق ظلالها، بتصنيف كتاب في علم الدين أقضي به شكر النعمة وأقيم به رسم الخدمة وأجتني بما أتعاطاه من الكلفة ثمار القبول والزلفة، لكني جنحت إلى التواني للتحري في تعيين العلم الذي أقصده بالتصنيف وتخصيص الفن الذي يقع موقع الرضا من الرأي النبوي الشريف، فكانت هذه الحيرة تغير في وجه المراد وتمنع القريحة عن الإذعان والانقياد، حتى خرجت الأوامر الشريفة المقدسة النبوية المستظهرية بالإشارة إلى الخادم في تصنيف كتاب في الرد على الباطنية”.

إن أول ما نلاحظه في الحديث أعلاه هو أن الغزالي يجعل من نفسه “خادما” لمواقف الخليفة التي يصفها بـ”المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية”، وهى صفات تضفي هالة كبيرة من التقديس على الخليفة ومواقفه.

ثم أنه يوضح بجلاء لا لبس فيه أن غرضه من تأليف كتاب في “علم الدين” هو فقط “شكر النعمة” التي أنعم بها عليه الخليفة وحتى ينال به ثمار القبول والزلفة، وليس الهدف منه هو خدمة الدين عبر نشر كتاب يتعلم منه خاصة المسلمين وجمهورهم شؤون دينهم.

وكذلك يعترف حجة الإسلام أنه لم يكن لديه موضوع معين للكتابة تدفعه إليه رغبة في التأليف يستطيع من خلالها إشباع شغف علمي أو تأدية رسالة دينية يمليها عليه إيمانه، بل إن محركه الأساسي للكتابة هو أن يحظى مؤلفه بموقع “الرضا من الرأي النبوي الشريف”.

لا يُعاني الغزالي من الحيرة التي تعتري الفيلسوف أو الصوفي أو المفكر في بحثهم عن الحقيقة، ولكنه يُعاني نوعا من الحيرة باعثه الأساسي ليس الشغف المعرفي، إنها الحيرة المتعلقة باختيار موضوع للتأليف يجد صدى في نفس السلطان، حتى إذا ما خرجت التوجيهات الشريفة النبوية بالإشارة “للخادم” بتصنيف كتاب في الهجوم على الباطنية، ذهبت الحيرة وارتاح البال وشمَّر الأخير عن ساعد الكتابة استجابة للأمر المقدس!

إن القراءة الموضوعية للظرف التاريخي الذي سطر فيه الغزالي سفره المشار إليه، تفيد بأن الغرض من كتابته لم يكن دينيا، بل سياسيا يعكس حالة الاضطراب والمعارضة الداخلية التي كانت تعيشها الدولة العباسية أبان حكم الخليفة المستظهر، وهي الفترة التي شهدت الكثير من المعارك مع الصليبيين، كما شكل الشيعة الخطر الأيديولوجي الأكبر الذي هدد بزوال المرجعية العباسية.

كانت الدولة العباسية في فترة حكم المستظهر بحاجة ماسة إلى إجراء عملية تنظير للأيديولوجية (العقيدة) السنية لمواجهة الخطر الشيعي الإسماعيلي الباطني المتماسك فكريا والمتحالف مع الخلافة الفاطمية في مصر فوجدت ضالتها في الغزالي الذي قرر أن يرمي بثقله إلى جانبها في تلك المواجهة.

استمر استدعاء الدين من أجل قمع الخصوم طوال التاريخ الإسلامي
​​قام الغزالي بتخصيص قسم كامل من كتابه المذكور لتقديم البراهين على أن “الإمام الحق القائم بالحق الواجب على الخلق طاعته هو الإمام المستظهر”، كما أوضح أنه يجب على “علماء الدهر الفتوى على البت والقطع بوجوب طاعته على الخلق ونفوذ أقضيته بمنهج الحق وصحة توليته للولاة وتقليده للقضاة” وأنه خليفة الله على الخلق وأن طاعته على جميع الخلق فرض.

وإذ يُجادل البعض أنه لا يمكن اتهام الغزالي بتوظيف الدين لخدمة الدولة العباسية ويقولون إنه لم يضع في كتابه المذكور أية نوع من التشريعات تبرر ذلك الاتهام حيث أن مادة الكتاب لا تنتمي لعلم أصول الفقه بل لعلم الكلام، فإنهم إنما يتجاهلون حقيقة أن حُجة الإسلام يعتبر أن “العلم الكلي من العلوم الدينية هو الكلام، وسائر العلوم من الفقه وأصوله، والحديث والتفسير علوم جزئية”.

وبما أن الغزالي يعتبر أن الكلام هو العلم الديني الكلي، فإن مادته بالضرورة تشكل الأساس الذي تنبني عليه العلوم الجزئية (بما فيها أصول الفقه)، وهو ما يؤكد حقيقة أن كتاب فضائح الباطنية ليس سوى كتاب في “علم الدين” قصد منه تشكيل الأرضية الدينية (عقيدة، وحديث، وتشريع إلخ) من أجل تحقيق هدف سياسي هو إسناد موقف الدولة العباسية (السنية) في مواجهة المد الشيعي الإسماعيلي.

المقولات العشرة في المنطق لارسطو طاليس

المقولات أو قاطيغورياس هي إحدى الآثار المنسوبة إلى أَرِسْطُوطَالِيس، تناقش فيه مسألة المقولات وتعتبر ضمن الكتب المنطقية المسماة بـ «الأورغانون».
وهي بمثابة مقدمة لكتاب العبارة.

والكتاب يبحث في أعم الصفات التي تطلق على الموجودات من الناحية المنطقية.والمقولات عند أرسطو عشرة وهي:

الجوهر مثل رجل.
الكم مثل ثلاثة أشبار.
الكيف مثل أبيض.
المكان مثل السوق.
الزمان مثل أمس.
الإضافة مثل نصف.
الوضع مثل جالس.
المِلْك مثل شاكى السلاح.
الفعل مثل القطع.
الانفعال مثل مقطوع.

الترجمة إلى العربي

@@@@@@@@@@@@@@@@@@

ترجمت «المقولات» إلى العربية مبكرا ضمن حركة الترجمة، ووقع خلاف في من وضع هذه الترجمة، على أن القول الأرجح هو أنه من عمل إسحق بن حنين.

وقد نشر المستشرق زنكر هذه الترجمة سنة 1849 م.كما نقله يحيى بن البطريق (نحو 200 هـ).

شروح المقولات

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

شَرَحه من القدماء فرفوريوس الصوري، ووضع كتاب إيساغوجي مقدمة له، كما شرحه ثاوفرسطس وثامسطيوس والإسكندر الأفروديسي وسنبليقيوس ويحيى النحوي. وبعد أن تُرجم إلى العربية شرحه إبراهيم القويري ومتى بن يونس وأبو نصر الفارابي وأبو سليمان المنطقي وأبو الحسن العامري وغيرهم
كلمة “مقولة”: ، اشتقت من مصدر “القول ” وهي ترجمة للكلمة اليونانية “كاتيجوريا ” ، ومعناها ” العلاقة “، ويقرب من هذا أيضا لفظ “كلى”.

وقد دخلت هذه الكلمة بلفظها تقريبا، فى جميع اللغات، حتى لدى مفكرى الإسلام التى جاءت عندهم بلفظ “قاطيغورياس ” غير أن هؤلاء أيضا سموها “مقولة”.

وكان أرسطو (384- 322 ق. م) هو الذى درس أهم مظاهر المعرفة فى عصره، فوجدها تقوم على عشرة أسس، ينبنى عليها الفكر المستقيم في اتجاهه نحو التعميم. وقد جمعها أرسطو وشرحها وسماها “المقولات “.

وقد تناولها المفكرون من بعده بالعرض والشرح دون أن يملوا منها. كما جعلها مفكرو الإسلام أصلا هاما من أصول المنطق الصورى، ولاسيما ما تعلق منها بالجوهر والعرض، لصلتهما الوثيقة بمباحث التوحيد.

واصطلاحا المقولة:

@@@@@@@@@@@@@@@@@@

هى معنى كلى، يمكن أن تكون محمولا فى قضية ما.

وعليه فالمقولات محمولات، كما حددها أرسطو من قبل، وهى عشر، جمعها بعضهم فى بيت واحد هو:

قمر غزير الحسن ألطف مصره

                          لو قام يكشف غمتى لما انثنى

1- القمر: للجوهر.

2- الغزير: للكم.

3- الحسن: للكيف.

4- ألطف: للإضافة.

5- مصره: للأين.

6- قام: للوضع.

7- يكشف: للفعل.

8- غمتى: للملك.

9- لما: للمتى.

10- انثنى: للانفعال

384 ق.م – 322 ق.م

وهذه المحمولات موجودة فى الكون. ويلاحظ أن المقولات هى أنواع الصفات أو المحمولات التى نستطيع أن نصف بها فردا معينا كائنا ما كان. فإذا سألت عن أى شيء: ما هو؟ كان حتما أن يقع الجواب تحت واحد منها.

ومنها أربع مقولات تقع فيها الحركات وهى: الكم مثل النمو، والكيف مثل السرعة، والوضع مثل حركة الفلك علي نفسه دون انتقال، والأين مثل النقلة.

وإليك التعريف بكل منها باختصار:

أولا. الجوهر :

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

هو كل ما له صفه الاستقلال بذاته مثل العناصر كالماء والهواء والنار. وهذا الجوهر هو الأصل، وما عداه من المقولات التسع أعراض له. يقول ابن سينا:

وكل نعت فهو إما جوهر قوامه بنفسه مقرر

والجوهر أيضا موجود لا فى موضوع، ويقابله العرض: ، بمعنى الموجود فى موضوع، أى فى محل مقوم لما حل فيه.

والجوهر لدى المتكلمين: هو الجوهر الفرد المتميز الذى لا ينقسم، أما المنقسم فيسمونه جسما لا جوهرا. ولهذا السبب يمتنعون عن إطلاق اسم الجوهر على المبدأ الأول .

ومن أهم أحكام الجوهر:

1- أنه قابل للعرض.

2- أنه متحيز، أى تأخذ ذاته قدرا من الفراغ.

3- أنه قابل للبقاء زمانين.

4- أن الجواهر لا تتداخل، أى لا يدخل جسم فى آخر.

5- أن الجواهر تحدث بجملتها عن عدم سابق.

6- أنها تنعدم كذلك، خلافا للطبائعيين، كما يصح انعدام بعضها، خلافا لبعض المعتزلة فى أن الجوهر لا ينعدم إلا جملة.

7- وأنها لا تثبت فى العدم ؛ لأن المعدوم ليس شيئا، خلافا لبعض المعتزلة

ثانيا . الكم :

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

هو العرض الذى يقبل لذاته: المساواة والتفاوت والتجزؤ ويخرج بذلك: النقطة الواحدة، أى الشيء الواحد الذى لا تعدد فيه.

فهذه المقولة تخضع للقسمة، وللقياس فيما له حجم ومقدار كقولنا: هذه خمسة كتب. وينقسم الكم إلى:

1- متصل: وهو الذى يكون بين أجزائه حد مشترك، كالحال في الزمن بين الماضى والمستقبل.

2- منفصل: وهو الذى لا يكون بين أجزائه حد مشترك كالعدد، مثل الأربعة إذا قسمت بين اثنين واثنين

وهناك ما يسمى”كمية القضية”: والمقصود بها استغراق الموضوع فى المحمول، وينتج عن ذلك :

(أ) القضية الكلية: وهى التى يقع الحكم فيها على جميع أفراد الموضوع، مثل: كل إنسان فان.

(ب) القضية الجزئية: وهى التى يقع الحكم فيها على بعض أفراد الموضوع مثل: بعض الإنسان كريم.

(ج) القضية المخصوصة: وهى التى يكون الموضوع فيها واحدا بالعدد، مثل: عمر عادل

ثالثا. الكيف:

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

هو هيئة قارة فى الشيء، وهو أيضا عرض لا يتوقف تعقله على تعقل الغير ، ولا يقتضى القسمة في محله اقتضاء أوليا

وللكيف أنواع:

1- كيف الكم : كالزوجية والفردية، والاستقامة والانحناء، والطول والعرض.

2- كيف المحسوس: (أ) إما راسخ كحلاوة العسل وحرارة النار.

(ب) أو غير راسخ:

1- سريع الزوال، يسمى انفعاليا كخمرة الخجل، وصفرة الوجل.

2- بطء الزوال، كملوحة بعض الماء.

3- كيف الملكة: وهو نوعان الأول ما يوجب الكمال وهو الناتج عن الاقتدار بلا كلفة، مثل ملكة العلم والكتابة.

والآخر ما لا يوجب الكمال: كاللين المعد أو الموجب للانقسام بسهولة

رابعا. الإضافة:

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

لغة: نسبه الشيء إلى الشيء مطلقا.

واصطلاحا: هى حال تعرض للجوهر، بسبب كون غيره فى مقابلته ولا يعقل وجودها إلا بالقياس إلى ذلك الغير، كالأبوة

بين الأب وابنه

وتسمى مقولة الإضافة ” بالنسبة المتكررة “، أى النسبة التى حصل بها التكرر، ولا تعقل إلا بالقياس إليها.

وقد تكون الإضافة بين:

1- متفقين: كالأخوة، وهى لا تعقل إلا بنسبة أخرى، وهى الأخوة.

2- أو بين مختلفين: كالأبوة، وهى لا تعقل إلا بأخرى وهى البنوة. وكالعمومة، لا تعقل إلا بنسبة أخرى، وهى ولدية الأخ. وكالزيادة، لا تعقل إلا بنسبة أخرى، وهى النقص فكل إضافة نسبة، ولا عكس. ويلاحظ أن النسبة مطلقا: أمر اعتبارى، ليس عرضا موجودا. كذلك فإن الكليات هى من مقولة الإضافة فالجيش مثلا، كالحيوان، نسبة لا تعقل إلا بأخرى، وهو النوع كالإنسان.

وقد تعرض الإضافة للمقولات كلها: كالأبوّة والبنوة، للجوهر. وكالصغر والكبر للكم. وكالعلو والسفل للأين. والأقدمية والأحدثية، للمتى. وكالأسدية: انحناء وانتصابا، للوضع- أسد الشىء : أغلق خلله).

وكالأكسوية وا لأعروية، للملك.

وكالأقطعية، للفعل (أى تأثير الشىء فى غيره). وكالأشدية تقطعا، للانفعال (أى كون الشىء متأثرا عن غيره مادام متأثرا)

خامسا: الأين:

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

هو هيئة تعرض للجسم بسبب نسبته إلى المكان وكونه فيه. وهو سؤال عن مكان . ويسمى “أينا”؛ لوقوعه جوابا لأين؟ كما يسمى “الكون ” أيضا

والأين نوعان:

1- أين أول: مثل كون الماء فى الكوب وهو حقيقى.

2- أين ثان: مثل كون محمد فى البيت وهو غير حقيقى.

سادسا المتى:

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

هو نسبة الشىء إلى الزمان المحدد: الماضى والحاضر والمستقبل، مثل: أمس والآن وغدا.

وسمى بذلك؛ لوقوعه جوابا ل “متى”؟.

ولفظة “متى” تصلح لمطلق الزمان، بخلاف “أيان ” فإنها خاصة بالاستقبال.

وينقسم إلى:

1- متى حقيقى: وهوكون الشىء فى زمان يطابقه، ولا يزيد عليه، كالخسوف فى ساعة كذا.

2- متى مجازى: كالخسوف يوم كذا. وهما فى الأين أيضا

سابعا- الوضع:

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

هو هيئه تعرض للجسم، بسبب نسبة أجزائه بعضها إلى بعض، مثل: القيام، والقعود، وغير ذلك. مثل وصف شخص ما بأنه جالس أو قائم.

ويلاحظ هنا حدوث نسبتين:

الأولى: نسبه أجزاء الجسم بعضها إلى بعض، والأخرى: نسبه أجزاء الجسم إلى أمر خارجى عنها.

فالقيام هيئه اعتبر فيها نسبة أجزاء الجسم بعضها إلى بعض بالطبع. كما اعتبر فيها نسبة مجموع تلك الأجزاء إلى أمور خارجية عنها. ككون رأس الإنسان من فوق ورجليه من أسفل.

ثامنا- الملك:

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

وهو هيئة حاصلة للشىء بالنسبة لما يحيط به، وينتقل بانتقاله. وذلك كالتعمم والتقمص والتختم والتسلح. والمراد لبس العمامة والقميص والخاتم والسلاح. والملك يقابله الحرمان.

ولمقولة الملك شرطان

الأول: الإحاطة، إما بالطبع، كجلد الإنسان وإما بغيره: إما بكل شىء، كحال الهرة عند إرهابها، وهو ذاتى. أو ببعض الشيء كحال الإنسان عند تختمه، وحال الفرس عند إلجامها وإسراجها، وهو عرضى.

والثانى: أن ينتقل بانتقاله، كالأمثلة السابقة.

أما إن وجد أحدهما دون الآخر، فلا يكون ملّكا، فوضع القميص على رأسه، وإن كان ينتقل، لا يكون ملكا ؛ لعدم الإحاطة.

والحلّول فى الخيمة، وإن كان مشتملا علّى الإحاطة، لا يكون كذلك ؛ لعدم الانتقال

تاسعا- الفعل:

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

هو كون الشىء بحيث يؤثر فى غيره تأثيرا غير قار الذات، مثل التسخين والقطع.

فالتسخين فعل، لكونه تأثيرا من المسخن، مادام مؤثرا

عاشرا- الانفعال:

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

هو قبول أثر المؤثر مادام مؤثرا، مثل التسخين والانقطاع.

فتأثر الشمع ولينه، انفعال، مادام هو يتأثر للطابع ويلين

وهناك ما يسمى سلسلة المحمولات وهى تابعة للمقولات العشر، وهى الكليات الخمس، التى رتبها المناطقة كما يلى:

1- الجنس:

وهو ما صدق على كثيرين مختلفين بالحقائق، فى جواب: ما هو؟ مثل الحيوان فى: الإنسان حيوان.

2- النوع:

وهو ما صدق على كثيرين متفقين بالحقائق. كلفظ إنسان فى: محمد إنسان

وكل واحد من الجنس والنوع إنما يكون مفهوما بالقياس إلى صاحبه

3- الفصل:

هو جزء الماهية، الصادق عليها مثل: الناطق، باعتبار ماهية الإنسان

4- الخاصة:

هى الكلى المقول على أفراد حقيقة واحدة، مثل: الضاحك للإنسان.

5- العرض العام:

هو الكلّى الخارج عن الماهية، الصادق عليها وعلى غيرها، مثل المتحرك للإنسان

هذا، ومن الجدير بالذكر، أن المقولات العشر وما يتبعها من الكليات الخمس، قد أدت خدمات كبيرة جدا فى تطوير الفكر، خلال عشرين قرنا على الأقل. ومازالت أهميتها ماثله فى المنطق الصورى وفى البحث العلمى، من ناحية التجريد أو التعميم العلمى

ومع هذا لا يجب النظر إلى مقولات أرسطو على أنها شىء مثالى، مثل كل منطقه الصورى. بل لابد من عمل حساب طبيعتها الأدائية عبر العصور كما يجب النظر فيها بالإضافة والحذف والتطوير، حتى لا تكون عائقا أمام التقدم والرقى.

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

المراجع

1- المقولات العشر. محمد الحسنى البليدى من مقدمة د. ممدوح حقى صححه وقدم له: د. ممدوح حقى ط 1974م دار النجاح- بيروت. ص 12.

2- المقولات ص 9، 10.

3- التعريفات للجرجانى. على بن محمد ص 202 ط 1357 هـ- 1938 م، البابى الحلبى بالقاهرة.

4- المقولات ص 23 0 انظر د. محمد عزيز نظمى سالم: المنطق الحديث 1983 م وفلسفة العلوم والمناهج ص 99- 100 مؤسسة شباب الجامعة بالإسكندرية.

5- د. زكى نجيب محمود: المنطق الوضعى ص 125 ط 1973 م مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة.

6- التعريفات ص 201- 202.

8- د. عبد اللطيف محمد العبد: التفكير المنطقى ص 43. ط 3، 1417 هـ- 1997 م دار الثقافة العربية بالقاهرة.

9- ابن سينا: القصيدة المزدوجة فى المنطق ص 6 (ضمن منطق المشرقيين) ط 1328 هـ- 1910 م المكتبة السلفية بالقاهرة.

10- د. جميل صليبا: المعجم الفلسفى 424:1، ط 1، 1917 م دار الكتاب اللبنانى- بيروت.

الأخلاق عند إيمانويل كانط

الأخلاق عند كانط :

الاخلاق عند ايمانويل كانط من منظور براتراند رسل الذي كتب عن ذلك في كتابه تاريخ الفلسفة الغربية وكيف اسس ايمانويل كانط فلسفته الاخلاقية بشئ من المثالية

مقدمة:

تناول كثير من المفكرين الغرب مسألة الأخلاق وإرتباطها بحياة الإنسان وسلوكه الذي يؤثر علي طريقة تفكيره وما يتوجه به لتفسير الطبيعة من حوله ومن الأتجاهات الغربية الأخلاقية إتجاه الأخلاق التطورية الذي يري أن الأخلاق لم تتمتع بها القبيلة مرة واحدة ولكنها تمر بمراحل تطورية تخضع للمراحل المختلفة وظهر هذا الإتجاه خاصة عند هربرت سبنسر متأثرآ بكتاب دارون أصل الأنواع .

وسوف نجد مذهب المنفعة الفردية عند هوبز الذي تأثر بما يقال عن قوانين الطبيعة في عصره وإذا كان متأخرو علماء اللاهوت في الغرب المسيحي قد ردوا أخلاقية الأفعال الإنسانية إلي إرادة الله بأوامره ونواهيه –فإن هوبز قد نقل سلطة الله إلي الملك المستبد الطاغية فرد إلي حكمة أخلاقية الأفعال الإنسانية وهذا هو مذهب الأطلاق السياسي .فالإنسان في مذهب هوبز أنانيآ بفطرته ينفر بطبعه من الأجتماع بغيره من الناس وفي تصرفاته ما يشهد بحقيقة رأيه في أقرابه،فهو فيما يقول هوبز إذا هم برحله سلح نفسه ،وإذا سلم النوم عينيه أغلق أبوابه .وحتي إذا أستنفر في بئته أقفل دواليبه .

وعن مذهب المنفعة العامة يلتقي النفعيون عند القول بأن المنفعة (أو اللذةأوالسعادة)هي وحدها الخير الأقصي أي المرغوب فيه لذاته دون نتائجه .والضرر أو الألم وحده هو الشر الأقصي وينشأ عن هذا أن الأفعال الإنسانية لا تكون خيرآ إلا متي حققت أو توقع صاحبها من ورائها نفعآ وبذلك تحول مذهب المنفعة الفردية عند المحدثين إلي ضرورة العمل لمصلحة المجموع فطالب أصحاب مذهب المنفعة العامة بتحقيق أكبر قدر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس وذلك عند كل من مل وبنتام

أتجاه الأخلاق العملي والذي يولي الأهتمام إلي قيمة العمل بالنسبة للإنسان وما يعود علي الإنسان من الفعل من نفع وقيمة فالعمل الأخلاقي

قيمة عملية في حد ذاته ومن أنصار هذا الإتجاه المدرسة البراجيماتية وعلي رأسها وليم جيمس .

ويعتبر موقف الماركسين من الأخلاق أمتداد لفلسفتهم متأثيرين فيه بالديالكتيك الهجيلي (الجدلي )في مبدأ المادية الجدلية وتفسر الماركسية التاريخ تفسيرآ أقتصاديا –وهذه هي المادية التاريخية فليس الفكر هو الذي يوجه تاريخ العالم ويتحكم في تطوره ،بل إن الأحوال الأقتصادية في اي مجتمع أو في أي مرحلة من حياته هي التي تكيف تفكير أهله وتحدد أساليب تطوراتهم وسائر أسباب حياتهم وفي الحياة الأقتصادية يتحقق قانون الصيرورة المؤلف من القضية ونقيضها والمركب بينهما

وفي مقابل النزعة المادية الأتجاه المثالي وهم أتباع الحاسة الخلقية أو الضمير وهم يرون أن الإنسان يدرك خيرية الأفعال وشريتها إدراكآ مباشرآ بمجرد النظر إلي الأفعال ومن غير أعتبار لعلاقتها بالغايات التي تقوم خارجها وتهدف إلي تحقيقها ،فالأفعل خير أو شر بالقياس إلي خصائص طبيعتها الباطنية الذاتية فقول الصدق واجب لأن الصدق واجب في ذاته فضيلة ،وليس لأنه ضروري لقيام المجتمع وكفالة رفاهيته ،ولا لأي سبب خارج عن طبيعته ،والسرقة شر لأن في طبيعتها من صفه العدوان علي الغير وأغتصاب ملكه بغير حق ،ما يوجب وصفها بالشر ،وليست شرى لأنها تلحق بأحد ضررآ أو تعوق نفعآ .

والأتجاه الحدسي يرد الحكم الخلقي علي الأفعال الإنسانية إلي محكمة الضمير بأعتباره قوة فطرية يشارك فيها الناس في كل زمان زمكان وبالتالي يكون عاما لا يخص فردآ دون فرد ،فإنه إذا خص فردا أو مجتمعا في عصر بعينه كان مقياسآ فرديآ لأفعال صاحبه ،فإن بدا في المقياس نقص أو خلل تمثل ذلك في ضميره ،وعندئذ يصبح الضمير الذي يتعرض للخطأ لا يكون .

أما الإتجاه الوضعي المتمثل عند أوجست كونت يعبر عن مدي إتصال الحياة الخلقية بالحياة الإجتماعية وأنتهوا منذ أيام (كونت) إلي القول

بوصاية علم الإجتماع علي علم الأخلاق وتبعية ثانيهما لأولهما موضوعآومنهجآ .

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

المبحث الأول: الأخلاق عند كانط

أولا :تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق في فلسفة كانط

1- المثالية الألمانية بوجه عام :-

(سيطر علي الفلسفة في القرن الثامن عشر التجربيون الإنجليز الذين يمكن أن نأخذ (لوك )و(باركلي) و(هيوم)ممثلين لهم .وكان لدي هؤلاء صراع ،يبدو أنهم لم يكونوا علي بينة به ،ألا وهو الصراع بين مزاجهم الذهبي مواطنين معنين بالمجتمع ،بعيدين عن نزعة فرض الذات علي أي نحو من الأنحاء ،لا يفرطون في التلهف علي أي نحو من الأنحاء ،لا يفرطون في التلهف علي السلطة ،يساندون عالمآ متسامحآ ،يمكن لكل إنسان فيه أن يفعل ما يروقه ،في حدود القانون الجنائي كانوا رجال دنيا طبيعتهم خيرة ،لطافآ كرامآ ).(1)

( ولكن بينما كام مزاجهم إجتماعيآ ،كانت فلسفتهم النظرية تقضي إلي النزعة الفردية .ولم يكن هذه نزعة جديدة في أعقاب الفلسفة القديمة ،وبدرجة أشد عند القديس أوغسطين ،وقد بعثها في الأزمنة الحديثة (كوجيتو )ديكارت وبلغت أقصاها لفترة خاطفة في جواهر (ليبنيز) يعتقد أن كل شئ في تجريته لن يتغير حتي ولو إنعدم العالم ،ومع ذلك فقد نذر نفسه لإعادة توجيه الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية ،وثمة تضارب مماثل يظهر عند لوك وباركلي وهيوم)

وعند لوك لايزال التضارب في النظرية قائما ،فقد رأينا في فصل سابق أنه من ناحية ،يقول :(ما دام الذهن في جميع خواطره وإستدلالات ليس لديه موضوع مباشر أخر اللهم إلا أفكاره الخاصة به )

(تميز قوله (ديكارت)ومذهبه بالنور المعرفي الذي يمتلكه الإنسان وهو ينهي به الصراع الموجود داخله فالصدق يطبع علامة الفهم بدون وجود الإختلافات ويمكننا من معرفة الحقيقة والوصول إليها)

(فقد أكد كانط نقد المعرفة كوسيلة للوصول إلي نتائج فلسفية وتقبل هذا أتباعه .وثمة تأكيد علي أن الذهن وحده هو الذي يوجد .وثمة نبذ عنيف لأخلاق المنفعة في صالح المذاهب التي تبرهن عليها حجج فلسفية مجردة .وثمة نيرة مدرسةيختفي عند الفلاسفة الفرنسين والأنجليز الأسبق ،فلقد كان (كانت) و(فشته) و(هيجل) فلاسفة جامعة ،يخاطبون جمهورآ متعلمآ لا سادة يتحدثون مع هواة في أوقات الفراغ .ومع أن تأثيراتهم كانت في جزء منها ثورية إلا أنهم لم يكونوا متطرفين عن قصد ،ولقد كان أهتمام بالغآ علي التحديد في الدفاع عن الدولة .وكانت آراؤهم في المسائل الأخلاقية آراء أرثوذكية علي الدقة .ولقد قاموا بتحديدات في اللاهوت ولكنهم فعلوا ذلم لصالح الدين .)

2-مذهب كانط الأخلاقي كما يتضح في ميتافيزيقا الأخلاق(1785م)(الأمر المطلق)

(هو أهمية تاريخية ملحوظة .ويشتمل هذا الكتاب علي (الأمر المطلق) وهو مألوف ،علي الأقل من حيث كونه عبارة ،خارج دائرة الفلاسفة المحترفين .كما لايعبأ بأية نظرية تجعل الأخلاق ،كان ينبغي أن نتوقع لايعبأ(كانط) بمذهب المنفعة العامة ،كما لا يعيأ بأية نظرية تجعل للأخلاق غرضآخارجيآ .وهو يروم ،علي حد قوله (ميتافزيقا

عزلة تامة ،غير مختلطة بلاهوت أو فيزياء أو أي شئ خارق )

(ويتطرد قائلا أن جميع التصورات الأخلاقية تحتمل مكانها وتستمد أصلها بصفه أولية تماما في العقل .وتوجد القيمة الأخلاقية فقط عندما يفعل شخص عن أحساس بالواجب فليس يكفي أن يأتي الفعل مطابقآ لما يقتضي به الواجب فالتاجر الأمين لأنه يبغي مصلحته الخاصة ،أو الرجل اللطيف بدافع حب الخير ليس فاصلا أن جوهر الأخلاق يحتم أن يستخلص من تصور القانون ،ذلك أنه وأن يكن كل شئ في الطبيعة يعمل بيقتضي قوانين فإن الكائن العاقل فقط هو الذي يعمل بمقتضي فكرة قانون ،أعني الإرادة وفكرة مبدأموضوعي بقدر ما تفسر الإرادة ،تسمي سيطرة العقل ،وصيغة السيطرة تدعي أمرآ)

(وثمة نوعان من الأمر :الامر الشرطي وهو يقول (يجب أن تفعل كذا وكذا أذا كنت تروم إنجاز هذه الغاية أو تلك و(الأمر المطلق ) ،الذي يقول أن ثمة نوعآ معينآ من الفعل ضرورة موضوعية ،يصرف النظر عن أيه غاية والأمر المطلق تركيبي وأولي ويستنبط (كانط) طابعه من تصور القانون .)

(إذا فكرت في أمر مطلق ،لعلمت في الحال ما يشمل عليه ذلك ،أنه لما كان الأمر يحتوي إلي جانب القانون ضرورة القاعدة المنسقة مع هذا القانون فقط ،ولكن القانون لا يحتوي علي أي شرط يقيده ،فلا شئ يبقي اللهم إلا عمومية قانون بوجه عام ،تطابق قاعدة الأفعال ،وحيث المطابق وحدها أمر فريد ،ويأتي في الواقع علي النحو الآتي (أفعل فقط بمقتضي قاعدة يمكنك بها ان تريد لها في عين الوقت أن تصبح قانونآ عامآ )

(ويعطي (كانط )مثالا علي عمل الأمر المطلق ،هو أن من الخطأ أن نقترض المال ،ذلك أنن لو حاولنا جميعآ أن نفعل هذا لما بقي أي مال لأقتراضه ,ويمكن للمرء أن يببين بطريقة مماثلة أن الأمر المطلق يدين السرقة وكونها خطأ،ولكن لا يمكن أن تبين يمبادئه كونها خطأ علي سبيل المثال ،الإنتحار ،فمن الممكن للغاية للسوداوي أن يررغب في أن يقدم كل شخص علي الإنتحار .ويلوح في أن قاعدته تزودنا ،في الواقع بمعياري ضروري لا بمعيار مقنع ،للفضيلة .فلكي نحصل علي معيار الخالصة ،وندخل في أعتبارنا شيئا ما ،آثار الأفعال ومع ذلك ،فأن كانط يبسط يتأكيد أن الفضيلة لا تعتمد علي النتيجة المقصودة من فعل ما ،ولكن علي المبدأ الذي تكون هي نفسها نتيجة ،فإذا سلمنا بهذا ،فلا شئ أشد عينية من هذه القاعدة بممكن.)

(ويؤكد (كانط) مع أن مبدأه لايبدو مفضيآ إلي هذه النتيجة أننا ينبغي لنا أن نفعل كما لو كنا نعامل كل إنسان كغاية في ذاته .ويمكن أعتبار هذا كشكل مجرد كمظرية حقوق الإنسان ،وهو يتعرض لذات الأعتراضات ولو أخذنا هذا المبدأ أخذ جادآ ،يجعل من المستحيل الوصول إلي قرار حيث تصطلح مصالح شخصين والمصاعب واضحة بشكل خاص في لفلسفة السياسية التي تستلزم مبدأ ما ،مثل مبدأ إثار الأغلبية ،الذي يمكن به ،عند الضرورة ،التضحية بمصالح البعض من أجل مصالح الأخرين .)

(وإذا كان لابد أن يكون هناك أخلاق للحكومة ،فغاية الحكومة يتحتم أن تكون واحدة ،والغاية الوحيدة الفريدة المتوافقة مع العدالة هي حيز الجماعة .ومع ذلك فمن الممكن تفسي مبدأ (كانط )من حيث إنه يعني لا أن كل إنسان هو غاية مطلقة ،ولكن كل الناس لهم وزنهم المتساوي في تحديد الأفعال التي يتأثر بها الكثيرون .فإذا فسر المبدأ علي هذا النحو

فيمكن أعتباره مزودآ الديمقراطية بأساس أخلاقي ،وفي هذا التفسير لا يتعوض للإعتراض آنفه الذكر )

3-المقصود من ميتافيزيقا الأخلاق

₩₩₩₩₩₩₩₩₩₩₩₩₩₩₩₩₩₩₩₩

(يقصد من الميتافيزيقا هاهنا :- المعرفة القبلية بموضوع ما ،عن طريقة التصورات المحضة إنها المعرفة القادرة علي تجاوز الشكلية المنطقية البحت ،إنها المعرفة القادرة علي تجاوز الشكلية المنطقية البحت ،التجربية البحت والتي تستطيع بواسطة العقل وحده أن تحدد موضوعها . وتتميز ميتافيزيقا الأخلاق من ميتافيزيقا الطبيعة تكون الأولي تتناول قوانين ما يجب أن يكون ،بينما الثانية تتناول قوانين ما هو كائن .)

(وميتافيزيقا الأخلاق لن تستمد إذن قوانين الأخلاق من الطبيعة الإنسانية ولا من عادات الناس ووآيينهم ،بل من العقل ذاته مباشرة ولهذا فإنها لن تستعين بعلم النفس ولا بعلم الإنسان (وكنت يوحد مرارآ بين علم النفس التجريبي وبين علم الإنسان ،لأن موضوعها واحد هو معرفة (الطبيعة الإنسانية )والسبب في ذلك هو أن معطيات علم النفس)

(أو علم الإنسان )هي من الغموض والتشعب والتشتت بحيث لا يمكن أن نستخلص منها قواعد كلية مطلقة ،وفيها خلط بين المبادئ وبين الأحوال الجزئية بحيث تتوقف النتائج المستخلصة علي الأحوال الجزئية بحيث تتوقف النتائج المستخلصة علي الأحوال الفردية والميول والعواطف الخاصة .وأفه المذاهب التي تريغ إلي تفسير الاخلاق بتراكيب النفس الإنسانية أوالطبيعة الإنسانية أو بالظروف التي يعيش فيها الإنسان هي أنها لا تملك أن تقدم غير قواعد كلية موضوعية للإرادة).

(وقد دفع (كانط) إلي إتخاذ هذا الموقف أمران ألاول نظري :وهو أن حقيقة الأخلاق شأنها شأن حقيقة العلم ،لا يمكن أن نستخلص إلا الشكل المحض للعقل ،إلا من المضمون المادي للتجربة .والثاني عملي :وهو إنه إذا أستندت الأخلاق إلي أعتبارات تجربية ،فإنها ستقدم إلي الإرادة بواعث حسية من شأنها أن تفسدها وذلك إما إذا حرصت الأخلاق علي عدم أصدار قوانين للإرادة غير تلك المنبثقة عن العقل المحض ،فإن في وسعها حينئذ أنتؤثر في النفوس .وكلما توثقت العلاقة بين القاعدة وبين الأحوال الجزئية ،كانت القاعدة أبعد عن الموضوعية والدقة والصرامة )

(وليس معني هذا أن كنت لم يحسب حساب التجربة والواقع ،بل بالعكس تمامآ :إنه لما شاهد حال الواقع والتجربة ،إنتهي إلي أن من المستحيل تأسيس الأخلاق علي الواقع :إذ الواقع متشت والأخلاق نتغير ،والأخلاق تريغ إلي ثابت والواقع ينسي ،والأخلاق تهدف إلي ما هو مطلق .لقد ثبت له ‘نه لا يوجد قوانين ثابتة للسلوك الإنساني ،كما توجد قوانين لسير الطبيعة ،ولهذا علينا ،إذا أردنا وضع قوانين ما يجب أن يكون ،أن نصرف النظر عن الواقع .ولو وجدت قوانين نفسيه ،فإنه لا توجد قوانين أخلاقية وعلم النفس ليس هو فلسفة في الأخلاق ،بل يندرج ضمن فسفة الطبيعة (إن فلسفة الطبيعة تتناول كل ما هو كائن ،أما فلسفة الأخلاق لا تتناول إلا ما يجب أن يكون )

القانون الأخلاقي نقد العقل العملي

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

(إذا كان الدين لا يمكن أن يقوم علي أساس من العلم والعقل فماذا عسي أن يكون الأساس الذي يبني عليه ؟ يجيب (كانت )إنه يجب أن يرتكز

علي دعامة من الأخلاق لأنك إن أقمت بناءه علي عمد من اللاهوت العقلي عرضته كما قدمنا –لأخطر الأخطار –فلنترك العقل هنا ولنشيد الإيمان علي ما هو فوق العقل ،علي الأخلاق ولكن يجب أن يكون قاعدة الدين الأخلاقية مطلقة بذاتها غير مستمدة من التجربة الحسية للعرضة للشك .)

(وألا يفسدها العقل ببحوثه وقضاياه ،يجب أن تستمد القاعدة الأخلاقية من باطن النفس مباشرة ، وإذن فلابد أن تكون لدينا مبادئ أخلاقية فطرية تنشأ في الإنسان بطبيعته فيستلهمها ويتوجيها دون أن يلجأ في تحديد سلوكه إلي علم أو تجربة ، فكما أثبتنا أن للرياضة مثلا أساسآ فطريآ في النفس يقضي بصحتها فسبيلنا الآن أن نبين أن العقل الخالص يمكنه بطبيعته تكوينه أن يقود الإرادة ،وأن يهديها إلي أقوم السلوك من غير أن يستنير في ذلك بشئ خارجي محسوس ،أيي نبين أن قانون الأخلاقي ناشئ فينا قبل التجربة وأن الاوامر الأخلاقية التي لا مندوحة عنها لتكون قاعدة للدين عامة مطلقة مستمدة من فطرة الإنسان ).

(وإن تجارب الحياة لتنهض ،دليلا قويآ علي وجود هذا الباعث الفطري للأخلاق ،فكلنا يشعر شعورآ قويآ واضحآ لا لبس فيه أن هذا العمل خطأ ،وذلك صواب .مهما أشتدت أمامنا دواعي الإغراء .نعم ،قد يستسلم الإنسان للخطأ ولكنه لا يسعه رغم ذلك إلا أن يشعر بأنه مخطئ بمقدار أرتكب الجريمة ولكني مع ذلك أعلم أنها جريمة وأحس في نفسي يعزم علي عدم إرتكابها مرة أخري ،فما ذلك الصوت الذي يصيح فينا صيحة التأنيب ثم يدعونا إلي أعتزام السلوك علي نحو يصح أن يكون قانونآ عامآ للبشر ، أعني أن يسلك سلوكآ لو سلكه الناس جميعآ لأدي إلي خير فنحن لعلم –لابالمنطق )

(ولكن بشعورنا القوي المباشر إننا يجب أن نتجنب السلوك الذي إن إتبعه الناس جميعآ تعذرت الحياة الإجتماعية أو تعسرت إنني قد أتورط في كارثة ،ولا يكون لي سبيل للنجاة منها إلا الكذب ،فإنني لا أحب بحال من الأحوال أن يكون الكذب قانونآ عامآ للبشر ،أعني أن يسلك سلوكآ لو سلكه الناس جميعآ لأذي إلي الخير ،فنحن نعلم –لا بالمنطق – ولكن بشعورنا القوي المباشرة أننا يجب أن تتجنب السلوك الذي إن أتبعه الناس جميعآ تعذرت الحياة الأجتماعية أو تعسرت إنني أتورط في كارثة ،ولا يكون لي سبيل للنجاة منها إلا الكذب ،وقد أكذب طلبآ للنجاة ولكنني “بينما ألريد لنفسي الكذب فإنني لا أحب بحال من الأحوال أن يكون الكذب قانونآ عامآ، لأنه يبمثل هذا القانون ستنتفي الوعود وهذا لا يتفق وحياة الجماغة ،ولذا فأني أحس في نفسي أنه لا يجوز لي أن أكذب حتي ولو كان الكذب في صالحي ).

وهذا القانون المفطور في نفوسنا لا يقيس خيرية العمل بما ينتج عنه من نتائج طيبة ،أو بما فيه من حكمة ،إنما الخير هو ما جاء وفقآ لما يأمر به الواجب ،بغض النظر عن نتائجه وحكمته ،ولا غرابة فهو لم يستمد من التجربة الشخصية ولكنه فطري طبيعي فينا ،فلا خير في الدنيا إلا إرادة الخير ،وأقصد بها تلك الإرادة التي في الدنيا إلا غرادة الخير ،وأقصد بها تلك الإرادة التي تجئ وفقآ لقانون الأخلاق للتأصل في نفوسنا ،ولا عبرة لما تعود به تلك الإرادة الخيرة علينا من غنم أو عزم ،إذ ليس الغرض الأسمي هو السعادة .)(22)

ثانيآ :الإرادة الخيرة عند كانط:

المبدأ الذي أقر به كانط في تربية الإرادة لديه مبدأ يقام عليه الإرادة الخيرة التي توجه الإنسان إلي العمل القويم وتساعده علي التغلب والفوز علي نفسه السيئة

الإرادة عند كانط:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

(المبدأ الأخلاقي شئ واحد يعتبره الناس خيرآ بغير تحفظ هو الإرادة الصالحة .أما مواهب الحظ كالمال والجاه والسلطة ،وأما لذات الحياة والسلطة وأما لذات الحياة علي أختلافها ،فلا يراها الضمير العام خيرات الذات والسبب في ذلك أنها لا تعين بأنفسها طريقة إستعمالها ولكنها مجرد وسائل تستخدمها الإرادة كما تشاء فتكون أحيانآ كثيرة مصدر إغراء سئ وتسخر لأغراض مذمومة)

(الإرادة الصالحة خيرة بذاتها لا يعواقها وتظل خيرة حين لا تستطيع تنفيذ مقاصدها ،مادامت قد عملت وسعها في هذا السبيل وما هي الغرادة الصالحة ؟لأجل تحليلها .كما تبدو في الضمير العام يجب أرجاعها إلي معني (الواجب )وهو معني يمثل لنا الإرادة الصالحة مفروضة علينا إذ أن طبيعتنا ناقصة ،وبسبب هذا النقص لا تكون إرادة صالحة بالضرورة )

تربية الإرادة:

(ولاتكون الإرادة الصالحة صالحة دفعة واحدة ,فالإرادة الصالحة إذن هي إرادة العمل بمقتضي الواجب أي للواجب بدون أي أعتبار آخر .بأي علامة تميز العمل الذي من هذا القبيل ؟)

-(إن التميز سهل بين الافعال الصادرة عن الواجب والأفعال المطابقة للواجب خارجية فقط ويفعلها الفاعل إبتغاء منفعة أو إندفاعآ مع رغبة هذه الطائفة الثانية من الأفعال لا تمت إلي الفضيلة بسبب إذ ليس

للمنفعة ولا للرغبة صفة خلقية).

(لكن التميز يصبح عسيرآ حين تكون الأفعال صادرة عن الواجب وعن الرغبة معآ ،فيجد المرء نفسه ميالا إلي ما يفرضه الواجب مثل أن يقال إن واجبي صيانة حياتي وتوفير السعادة لنفسي وأنا أحرص طبعآ علي الحياة وأسعي لأكون سعيدآ الحق أن الإراة الصالحة لاتبدة بضوح إلا متي كانت في صراع مع النزعات الطبيعة فأستمسكت بالواجب )

(وإنما يقصد الأنجيل إلي هذا المعني حين يأمرنا بمحبة أعدائنا فإن المحبة الحسية لا يؤمر بها أما الكحبه المعقولة الصادرة عن الإرادة فهي موضوع أمر،ويجب أن تتحقق بمعزل عن المحبه الحسية بل بالوغم من الكراهية الحسية).

(إذا كان الواجب معني عقليآ صرفآ فكيف يمكن أن يكون دافعآ نفسيآ إلي العمل ؟ يمكن ذلك بواسطة العقل والحس فهناك عاطفة ليست كسائر العواطف منبعثة عن مؤثرات حسية ،ولكنها متصلة إتصالا مباشرآ بتصور الواجب ،اي أنها صادرة عنه وأنه هو موضوعها :تلك الواجب (ضرورة العمل أحترامآ للواجب ) فالإحترام من حيث طلبييعته مصدره ومهمته ،عاطفة أصلية بالمرء ،بينما سائر العواطف ترجع إلي الميل في نسبته إلي قانون صادر عن الإرادة نفسها من حيث إنه الشعور بمشاركتنا فيما للقانون من قيمة لا متناهية فإذا كان من الوجهة الأولي يحط من قدرنا .فإنه من الوجهة الثانية يشعرنا بكرامتنا .ولا يتجه الأحترام لغير القانون :إنه لا يتجه مطلقآ إلي الأشياء وإن بدا أحيانآ متجهآ إلي الأشخاص فلكونهم يبدون بفضيلتهم أمثلة للقانون وهكذا

يكون الأحترام منبعثآ عن العقل وحده ،عن قوة أخري ،ولا لغرض آخر غير القانون ).

الإرادة الخيرة

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

(من كل ما يمكن تصوره في العالم ،بل وخارج العالم بعامة ،ليس ثم ما يمكن أن يعد خيرآ بدون حدود أو قيود ،اللهم إلا الإرادة الخيرة)

-بهذه الجملة الرائعة بدأ كنت القسم الأول من كتاب (تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق ) وهو يقصد منها أن الإرادة الخيرة هي وحدها التي يمكن أن تعد خيرآ في ذاته ،أو خيرآمطلقآ أو خيرآغير مشروط .وبعبارة أوضح نقول إن الإرادة الخيرة يجب أن تكون خيرة في كل الظروف ،ومهما كانت الأحوال فينبغي أن تكون كذلك دائمآيمعني أنها لا تكون خيرة في ظرف ،غير خيرة في أخر ،ولا تكون خيرة كوسيلة لغاية وشريرة كوسيلة لغاية أخري .وبالجملة فإن خيرها لا يتوقف علي أي شرط أو ظرف أو رغبة أو غاية .وهي إذن خير مطلق وغير مشروط أبدآ ،خير في ذاتها لا بالنسبة إلي أي شئ أخر).

(صحيح أن (الذكاء) وملكة إدراك المشابه بين الأشياء ،والقدرة علي تمييز الحكم .وسائر مواهب النفس ،أيا كان الأسم الذي نطلقها عليه ،أو الشجاعة ،أو العزم ،أو المثابرة في النوايا بوصفها صفات للمزاج –أمور خيرة ومرغوب فيها من عدة نواح –لكن هذه المواهب الطبيعية يمكن أن تصح في غاية الشر والسوء .)

(إذا لم تكن خيرة الإرادة التي عليها أن تستعملها ،والتي تسمي إستعدادنها لهذا السبب خلقآ.والأمر كذلك بالنسبة إلي مواهب البخت .

فمهمة العقل الحقيقية هي إيجاد إرادة خيرة ،لا بوصفها وسيلة من أجل غاية أخري بل خيرة في ذاته :لهذا السبب كان وجود العقل ضروريآ ضرورة مطلقة .ما دامت الطبيعة في كل مكان وهي سبيل توزيع خواصها ،قد سلكت وفقآ لغايات وقد يمكن ألا تكون هذه الإرادة هي الخير الوحيد ،هي الخير كله لكنها مع ذلك وبالضرورة هي الخير الأسمي لوحيد ،هي الخير كله لكنها مع ذلك وبالضرورة هي الخير الأسمي ،وهي الشرط لكل خير آخر بل وكل تطلع للسعادة)

(ولهذا يجب تنمية فكرة الإرادة الجلية تماما في ذاتها ،الإرادة الخيرة في ذاتها بغض النظر عن كل غرض لاحق ))

بين الإرادة عند ديكارت وكانط

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

(عن ثنائية ديكارت الشهيرة ليست مجرد عاقبة للدين ولكنهاتعتبر نمط أساسي وجذري وذلك أستمرار للحياه التي تستمر حتي الخلود وبعد موت البدن فالبدن يموت بموت الإنسان ويعيش بعيش الإنسان ولكن الأساسي مقابل للبدن العقل)(33 )

فالإرادة عند ديكارت خارجة عن الإنسان تعتمد علي القوة المستمدة من الله والتي يحتاج إليها الإنسان لتكوين معرفته فهي الضامن له من أي ضلال من الشيطان الماكر الذي يبعد الإنسان عن الحقيقة .

ثالثا :الواجب عند كانط

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

(ولتوضيح طبيعة الإرادة الخيرة يستعين كنت بفكرة الواجب .ذلك لأن الإرادة التي تعمل وفقآ للواجب هي إرادة خيرة .لكن لا يقصد من ذلك أن الأرادة الخيرة الكاملة لا تعمل ابتغاء أداء الواجب ،لأن في فكرة الواجب فكرة ما ينبغي التلب عليه من الميول والرغبات .إن الإرادة الخيرة الكاملة تعمل من تلقاء نفسها ولنفسها ،وتتجلي في الأفعال الخيرة ،دون أن تكون في حاجة إلي قدع الميول الطبيعية .ولا يضاح هذا المعني أكثر نقول إن الله ذو إرادة خيرة ،ولكن من غير المعقول أن نقول إنه يفعل الخير أداء لواجب ومن هنا علينا ان نعتبر الفارق بين الله ،والإنسان :فإرادة الله الخيرة لا تفعل أداء لواجب ،لأنه لا شئ يقهرها ،أما الإنسان فإرادته الخيرة ليست كاملة ،لأنها تفعل في ظروف تحد من فعاليتها ،ولهذا كانت إرادته الخيرة تعمل أداء لواجب ،لأنها ليست كاملة نلأنها تفعل في ظروف تحد من فعاليتها ،ولهذا كانت إرادته الخيرة تعمل أداء لواجب ،لأنها ليست إرادة كاملة .)

(ولهذا ينتهي كنت إلي القول بأن الإرادة (الإنسانية) الخيرة هي تلك التي تفعل وفقآ للواجب .الموقف الجزئي .فالقاعدة هي المبدأ الموضوعي صادقة بالنسبة إلي شخص آخر ،ويمكن أن تكون خيرآ أو شرآإن الإنسان يعرف ماذا يفعل ،وليست أفعاله مجرد أنعكاسات أو أستجابات تلقائية لدوافع كما هي الحال في الحيوان )

(والقواعد إما أن تقوم علي أساس ميول حسيه ويسميها كنت :قواعد بعدية أو تجربية ،وتقوم علي تجربة الرغبات ،أو لا تقوم علي ميول حسيه ،ويسميها قواعد قبلية،بمعني أنها لا تتوقف علي تجربة الرغبات

أو الشهوات .والأولي تسمي أيضا قواعد مادية ،لأنها تشير إلي الأغراض التي يستهدف العقل تحقيقها،هذه الأغراض هي مادة القاعدة والثانية تسمي قواعد صورية إذن هي لا تشير إلي أغراض مرغوب فيها. -ومن يفعل أداء للواجب يفعل وفقا لقاعدة صورية ،لا مادية وإنه لا يفغل إبتغاء تحصيل نتائج معينة ،بل أمتثالا للواجب أيا كانت النتائج)

(وإنما هو الواجب “فليست الأخلاق هي ما يعلمنا كيف نجعل أنفسنا سعداء ولكن هي ما يجعلنا جديرين بالسعادة “فيجب أن تقصد إلي سعادة الناس ،فلتنشر الكمال سواء جاء ذلك الكمال متبوعآ بلذة أو ألم ،ولكي يكون سلوكك مؤديآ إلي كمال نفسك وسعادة الآخرين يجب أن يكون هذا لأنفسنا مجتمعآ مثاليا كاملا ،ولا سبيل إلي خلق ذلك المجتمع الكامل إلا ان نعمل كما لو كنا بالفعل أفرادآ فيه ،وبهذا نضع قانونآ كاملآ في حياة ناقصة فتكمل قد نقل إنها أخلاق شاقة عسيرة –تلك التي تريدك علي وضع الواجب فوق السعادة –ولكنها هي الوسيلة الوحيدة التي ترتفع بنا عن هذه الحيوانية التي نعيش فيها ،وتسير بنا في طريق الله )

-(جدير بنا أن نلاحظ أن هذا الصوت الباطني الذي ينادي بالواجب يقوم دليلا علي حرية إرادة الإنسان ،لأنك لا تستطيع أن تتصور فكر الواجب دون أن تتصور الإنسان حرآ فيما يختار من سلوك فحرية الإنسان التي أستعصي علينا إقامة الدليل عليها بالعقل النظري يمكن البرهنة عليها بالشعور بها شعور مباشرآ إذا ما وقف الإنسان موقف الأخيار بين سلوكين .)

(ولقد يظهر لنا أعمالنا تتبع قوانين ثابتة لا تقض فيها ولا تبديل فنتوهم أن ذلك برهان علي عدم أختيار الإنسان لسلوكه ،والواقع أننا نري

أعمالنا منظمة مطردة ،لأننا ندرك نتائجها بواسطة الحواس ،وقد علمنا أن العقل مجبول علي صياغة كل ما تنقله إلينا الحواس في صورةالسببية من صنع عقولنا ،وليست في الأشياء أو الأعمال ذاتها .وبديهي أننا فوق القوانين التي نحتمها بأنفسنا ،لكي نستعين بها علي فهم تجاربنا الحسية ،فالإنسان حر فيما يعمل رغم ما يقيد الأعمال من سببية ظاهرة ،ونحن نشعر بهذه الحرية ولا يمكننا أن نقيم عليها الدليل )(39)

تعقيب:

مصدر الإلزام الخلقي عند كانط هو عنده يتضمن القدرة علي طاعته لأن الإنسان لا ينبغي عليه أن يأتي فعلا إلا متي كان قادرآ علي إتيانه والإرادة الخيرة عنده العمل بمقتضي الواجب لذاته دون النظرإلي نتائجه وهو يقول عنها أنها الشئ الوحيد الذي يمكن أعتباره خيرآ دون قيد ولا شرط فهي خير مطلق يتخطي الظروف والأحوال .

ويفرق كانط بيم الإرادة الخيرة والشريرة السيئة ،أولاهما محبه تستهدف البناء والإنسجام والثانية كراهية تساهدف الهدم والفوضي وأولاهما ترمي إلي ضبط الميول الفردية وتنظيم الدوافع الذاتية مستجيبة القيم وثانيهما تميل إلي الدوافع والنزوات والأفعال التي تصدر عنها تفقد طابعها الأخلاقي وتتتسم بطابع ثنائي ذاتي

(1)براتراند رسل ،تاريخ الفلسفة الغربية ،ج3 ،ترجمه محمد فتحي الشنيطي ،الهيئة العامة للكتاب ،1977م.ص311

زكي نجيب محمود ،قصة الفلسفة الحديثة ،مطبعة بجات،1936م،ص296

)يوسف كرم ،تاريخ الفلسفة الحديثة ،دار المعارف ،ط5،القاهرة ، ص248

عبد الرحمن بدوي ،الأخلاق عند كانط ،وكالة المطبوعات ،الكويت 1979م،ص33

(5) براتراند رسل ،تاريخ الفلسفة الغربية،ص315

أدلة القاضي إبن رشد(ت. 595ه)اﻷربعة في قدم العالم وأزليته الحلقة الثانية ..الدليل الثاني دليل الزمان

الدليل الثاني ( دليل الزمان ) :

يقوم هذا الدليل على فكرة الزمان، وفيه استحالة تقدم الله على العالم، إذ أن القائل: “
بأن العالم متأخر عن الله تعالى، والله تعالى متقدم عليه ليس يخلو: إما أن يريد به أنه متقدم بالذات لا بالزمان، كتقدم الواحد على الاثنين وكتقدم العلّة على المعلول، ومثل تقدم حركة اليد مع حركة الخاتم، وحركة اليد في الماء مع حركة الماء،

فإذا أُريد بتقدم الباري سبحانه على العالم هذا، لزم أن يكونا حادثين، أو قديمين ،واستحال أن يكون أحدهما حادثاً والآخر قديماً، وعليه فإما أن يكون متقدماً بالنسبة لا بالزمان مثل تقدم الشخص ظله ـ فإذا كان متقدماً تقدم الشخص ظله، فالباري قديم والعالم قديم ـ وإما أن يكون متقدماً بالزمان ـ مثل تقدم البنّاء على الحائط ـ وإن كان متقدماً بالزمان وجب أن يكون متقدماً على العالم بزمان لا أوَّل له، فيكون الزمان قديماً

فإذا كان قبل الزمان زمان

فلا يُتَصَوَّر حدوثه، لأن الحادث لا بد أن يتقدمه عدم
وإذا كان الزمـان قديماً فالحركة قديمة لأن الزمان لا يفهم إلا مع الحركة ، وإذا كانت الحركة قديمة فالمتحرك بها قديم والمحرِّك لها ضرورة قديم فالقول بقدم الزمان وتقدمه على العالم نفي للقول بحدوث العالم وتقدم العدم عليه من جهة، ومن جهة ثانية لا وجود للزمان إلا مع المادة المتحركة وهذا يعني أن المادة والزمان المتعلق بحركتها هما موجودان أزليان في وحدة واحدة معلولة لعلّة قديمة هي الله، والتي يستحيل تقدّمها أو فصلها عن تلك العلّة في الوجود.

استحالة تقدم الله على العالم :

إذاً يستحيل تقدم الله على العالم ، سواءٌ كان تقدماً بالذات أو بالزمان، أما بالذات فلعلّة وجود المعلول مع العلّة، ولأن العلّة والمعلول متلازمان في الوجود، فلا علّة بلا معلول كما لا معلول بلا علّة، ولا تراخٍ للمعلول عن العلّة، فإما أن يكونا حادثين وأما أن يكونا قديمين، ولأن الله قديم، فمعلوله العالم قديم. وأما بالزمان – فمستحيل – لأن الزمان متأتٍّ بفعل الحركة، فلا زمان من دون حركة، ولا حركة دون متحرك، والمتحرك معلولٌ لعلّة قديمة محرّكة هي الله، فهو قديم مثله، فالحركة إذاً قديمة قدم المتحرك لتعلّقها به، وعليه فالزمان قديم شأنه شأن الحركة والعالم وفي ذلك رد الزمان إلى العالم.

ويورد (ابن رشد) برهان (أرسطو) على قدم الزمان فيحدد الآن بأنه الحاضر والحاضر هو وسط بين الماضي والمستقبل، فتصور آن ليس قلبه ماضٍ محال، فلكل قبل قبلٌ، وكل زمانٍ مسبوقٌ بزمان إلى ما لا أول له، فالزمان قديم والعالم قديم، قبل كل آن ليس كالنقطة بداية الخط، فالزمان قديم، ولا زمان دون عالم، أي دون حركة ومتحرك – والمتحرك هو العالم – فالعالم قديم، يقول (ابن رشد): ” كل متحرك له محرك كل مفعول له فاعل، وأنّ الأسباب المحركة بعضها بعض لا تمر إلى غير نهاية، بل تنتهي إلى سبب أول غير متحرك أصلاً “

إن الوجودَين وجود الله ووجود العالم قديمان
غير أن أحدهما ليس في طبيعته الحركة وهذا أزلي لا يتصف بالزمان وهو الله ، والآخر في طبيعته الحركة ، وهذا لا ينفك عن الزمان وهو العالم. أما الذي ليس في طبيعته الحركة ولا التغير، فقد قام البرهان على وجوده عند كل من يعترف بأن كل متحرك له محرك، وقد قام البرهان أيضاً على أن الذي ليس في طبيعته الحركة هو العلة في الموجود الذي في طبيعته الحركة، وأما الذي في طبيعته الحركة فموجود معلوم بالحس والعقل

إذاً فالزمان من لواحق الموجود
الذي هو العالم وهذا العالم هو مبتدى الزمان ونهايته لأن الزمان وهو قدر الحركة ليس حادثاً مسبوقاً بعدم، مما يعني أنه غير متأخر عن العالم في الوجود، فوجوده مع العالم وجودٌ أزلي ليس له بداية، وليس له نهاية لتعلقه بالعالم الأبدي الذي لا يفسد لكونه معلولاً للعلة الأزلية الخالدة (الله) فهو أزلي أبدي، يقول (ابن رشد): “فالموجود الذي في طبيعته الحركة ليس ينفك عن الزمان، وأما الموجود الذي ليس في طبيعته الحركة فليس يلحقه الزمان أصلاً ” وعليه فإن الزمان قديم مع العالم، وهو ليس متقدم على العالم ولا متأخر عنه، والعالم ليس متأخراً عن الله في الوجود ولا متقدماً عليه لأنه معلول والمعلول لا يتقدم العلّة وإنما يوجد معها، فهما أزليان أبديان أحدهما علّة وهو الله، وليس في طبيعته الحركة ولا يتصل به زمان، والآخر وهو العالم، ومن طبيعته الحركة ولا ينفك الزمان عنه، فعلّة قدم العالم لعلّة قدم الزمان هي في الأصل تقوم على رد الزمان إلى العالم القديم وعدم جواز انفصاله عنه ذلك أن وجود الموجودات المتحركة فيلحقها الزمان ضرورة كما يقول (ابن رشد)

الأدلةالأربعة، لقدم العالم عند الفيلسوف إبن رشد(ت. 595ه)رحمه الله

أدلة إبن رشد اﻷربعة في قدم العالم
الدليل اﻷول دليل العلة
الدليل الثاني دليل الزمان
الدليل الثالث دليل اﻹمكان
الدليل الرابع دليل المادة

أولا ً- مشكلة العالم (أدلة قدم العالم):

يقدّم (ابن رشد) أربعة أدلة عقلية على قدم العالم هي:( دليل العلة، ودليل الزمان، ودليل الإمكان، ودليل المادة) سنأتي على ذكرها بالتفصيل. وسنقسم اﻷدلة اﻷربعة على أربعة أجزاء في أربعة منشورات مستقلة نظرا لطول البحث وحتى يستطيع المتابع لنا والمتصحف من قرائته ومتابعته خوفا من اﻹطالة والسأم والذي يرغب بجمع شتات الموضوع كاملا ممكن أن يحمل اﻷجزاء اﻷربعة بالمنشورات الاربعة فقط يعمل لها مشاركة للمنشورات ….نأمل أن تستفيدوا من الموضوع وتحصل الفائدة منه وﻻتنسونا من دعواتكم …………………

الدليل الأول ( دليل العلّة ) :

” يستحيل صدور حادث من قديم مطلقاً” معللاً ذلك بقوله: ” لأنا إذا فرضنا القديم ولم يصدر منه العالم مثلاً فإنما لم يصدر لأنه لم يكن للوجود مرجِّح، بل كان وجود العالم ممكناً إمكاناً صرفاً، فإذا حدث بعد ذلك، إما أن يتجدّد مُرَجّح، أو لم يتجدد، فإن لم يتجدد مرجِّح، بقي العالم على الإمكان الصرف كما كان قبل ذلك. وإن تجدد مرجِّح انتقل الكلام إلى ذلك المرجِّح، لِمَ رجَّح الآن، ولم يرجِّح قبل؟ فإما أن يمر الأمر إلى غير نهاية، أو ينتهي الأمر إلى مرجِّح لم يزل مرجِّحاً ” (2)

لقد توصل (ابن رشد) إلى أن علّة العالم وهو الله قديم، لا ابتداء له ولا انتهاء، فهو العلّة وأنّ العالم معلول، والحال أن الله علّة العالم قديم، فالعالم معلوله قديم حسب إجماع الفلاسفة المؤيدين لهذه الحجة على اعتبار أن المعلول يتبع العلّة، والعلّة وهي الله قديمة، فالمعلول وهو العالم إذاً قديم، لعلّة التبعية من جهة واستحالة تراخي فعل الفاعل عن وجوده من جهة ثانية، وبالتالي فالعالم غير متراخ في وجوده عن الله مما يعني أنه قد يم، وإمكانه قد يم أيضاً، إذ يستحيل أن يُخلقَ العالم من عدم ، لأن العدم سمي عدماً لامتناعــه عن الوجود، وبالتالي فإن إمكان وجوده موجود لدى الله أزلياً مما يعني أنه أزلي قديم، والحال أن الله قديم وقدرته وإرادته قديمتان، وكل الشروط الضرورية لصدور العالم منه قديمة.

فجلّ ما ورد في الدليل الأول عن قدم العالم أنه يستحيل تجدد إمكان العالم ويستحيل تجدد مرجِّح للخلق، ويستحيل تغيّرٍ في الله القديم، ويستحيل إيثار وقت حادث لإيجاد العالم، فصدور حادث من قديم مستحيل، فالعالم قديم، لامتناع جواز تراخي العالم عن فعل الله ـ من وجهة نظر (ابن رشد) ـ وإن أجيز تراخيه عن إرادة الفاعل فحسب وفقاً لقوله: ” وتراخي المفعول عن إرادة الفاعل جائز، وأما تراخيه عن فعل الفاعل فغير جائز” .

وبالتالي فأن فعل اللهأن فعل الله علّة العالم، قديم، فالعالم مفعوله قديم لعلّة استحالة التّراخي في الوجود بين العالم ومرجِّحه، كما يستحيل أن يفنى ما كان وجوده وجوداً محضاً، يقول (ابن رشد) : ” فالوجود ضد الفناء وليس يمكن أن يوجد الضدان لشيء من جهة واحدة، ولذلك ما كان موجوداً محضاً لم يتصور عليه فناء وذلك لأنه إذا كان وجوده يقتضي عدمه فسيكون موجوداً معدوماً في آن واحد، وذلك مستحيل ” وهذا يعني أن العالم بصفته معلولاً لعلّة لا تفسد، فحاله حالها في الأزلية والأبدية، فلا يطرأ عليه فساد أو فناء، أي أن يصير إلى عدم بعد أن كان موجوداً، أو أن يصدر من عدم إلى وجود، لأن ما يطرأ على وجوده بالكلية عدم، يستحيل صدوره إلى الوجود مطلقاً.

ومن البراهين التي يسوقها (ابن رشد) في هذا الدليل، هو وجوب عدم وجود مبدأ لأفعال الفاعل كالحال في وجوده ، لأنه إن كان هناك مبدأ فهذا يعني أن فعل الفاعل ممكن لا ضروري. يقول (ابن رشد): ” لكن القوم لما أدّاهم البرهان إلى أن ههنا مبدأً محركاً أزلياً ليس لوجوده ابتداء ولا انتهاء، وأنّ فعله يجب أن يكون غير متراخ عن وجوده لزم أن لا يكون لفعله مبدأ كالحال في وجوده، وإلاّ كان فعله ممكناً لا ضرورياً… فلزم أن تكون أفعال الفاعل الذي لا مبدأ لوجوده، ليس لها مبدأ كالحال في وجوده.. وإذا كان ذلك كذلك لزم ضرورة أن لا يكون واحد من أفعاله الأولى شرطاً في وجود الثاني، لأن كل واحد منها هو غير فاعل بالذات وكون بعضها قبل بعض هو بالعرض، فجوَّز ـ الحكماء ـ وجود ما لا نهاية له بالعرض لا بالذات، بل لزم أن يكون هذا النوع مما لا نهاية له أمراً ضرورياً تابعاً لوجـود مبدأ أول أزلي” ،

أي أن أفعال الفاعل بالعرض تتناهى في التسلسل إلى وجود مبدأ أول أزلي مثل إنسان يكون إنساناً عن آخر إلى ما لا نهاية له، كوناً بالعرض ، أما بالذات فلا تسلسل للأفعـال لأنه لا مبادئ لوجودها كالحال في وجود الفاعل الذي لا مبدأ لوجوده،وعليه فإن فعـل الفاعل قديم قدم وجوده ، وفعل الفاعل لا يحيط به الزمان ولا يساوقه زمان محدود، لأنه غير متراخٍ عن وجوده، يقول (ابن رشد): ” فكيف يمتنع على القديم أن يكون قبل الفعل الصادر عنه الآن فعل، وقبل ذلك الفعل فعل، ويمر ذلك في أذهننا إلى غير نهاية ، كمـا يستمر وجوده أعني الفاعل إلى غير نهاية؟ فإن من لا يساوق وجوده الزمان، ولا يحيط به من طرفية، يلزم ضرورة أن يكون فعله لا يحيط به الزمان،ولا يساوقه زمان محدود،وذلك أن كل موجود فلا يتراخى فعله عن وجوده، إلا أن يكون ينقصه من وجود شيء، أعني أن لا يكون على وجوده الكامل أو يكون من ذوي الاختيار، فيتراخى فعله عن وجوده، وعن اختياره… ومن يضع أن القديم لا يصدر منه إلا فعل حادث ، فقد وضع أن فعلـه بجهة ما مضطرّ وأنه لا اختيار له من تلك الجهة في فعله” .

لذا ينتزع (ابن رشد) صفات النقص والاختيار والجبر عن الموجود وفعله، فقال بكمال الموجود وكمال أفعاله، فهو الموجود الفاعل الأزلي وأفعاله أزلية الوجود مثله، فالأفعال تعود إلى فاعلها، والمعلول إلى علّته، فالله علّة العالم قديم، والعالم معلوله قديم.

إن القول بقدم العالم،هو قول عن ارتباط المعلول بالعلّة لدى (ابن رشد)لذا يبطل الفلاسفة القائلون بهذا القول حجّة أن العالم حادث ، أحدثته العلّة من عدم في زمن متأخر على وجودها. والقول باستحالة أن يكون العالم حادثاً، يعني أن العالم قديم لا محالة. يطرح الغزالي سؤالاً يتعلق بحجّة قدم العالم: ” لِمَ لم يحدث العالم قبل حدوثه؟ … وإذا قلنا أن العالم موجود واستحال حدوثه فإن هذا يؤدي إلى القول بقدمه لا محالة” وهذا هو دليل الفلاسفة القائلين بقدم العالم، وإذا قيل بإرادة أزلية بالنسبة لله، فإن هذا يؤدي إلى أن تكون طبيعة هذه الإرادة هي الوجود لا الإمكان، وعليه فإن ردَدنا العالم إلى تلك الإرادة الأزلية فإنما نَرُدُّهُ إلى الوجود الأزلي لتلك الإرادة وهذا دليل آخر على قدم العالم، لأنه إذا سُلّم بأن العالم معلول وأن علّته إرادة الله الأزلية وجب أن يكون وجود العالم قديماً مثل علّته لعدم تراخيه في الوجود عنها ولعلّة ارتباط المعلول بالعلّة ضرورة، وِفق رأي (ابن رشد) المبني على أن العلّة إذا وجدت وجد المعلول ضرورة، وهذا ينفي وجود التغيّر والتجدد وأن معاندة هذه المقدمات تعد خطبية أو سوفسطائية… فهذا المحرّك ضرورةً أزلي التحريك والمتحرك عنه أزلي ضرورة والمحرك من وجهة نظر (ابن رشد) هو الله والمتحرك هو العالم، وفي هذا إظهارٌ للنـزعة العقلانية في فكر (ابن رشد).

الحادث خلق معلول للعلّة:

لقد كان (ابن رشد) على وعي تام بخشية بعض علماء الكلام من القول بقدم العالم خشية أن يؤدي إلى إنكار لوجود الله، فرد على ذلك مبيناً أن الله علّة العالم، ولا يعني كون العالم قديماً مثل الله، أنه لا علّه له مثله أيضاً، إن العالم قديم وله علّة هي الله، وأن الله علّة وليس معلولاً لعلّة، فهو أزلي قديم… وبالتالي فإنّ القديم ـ ويَقصد العالم ـ يمكن أن تكون له علّة، من هنا فهو حادث، بمعنى أنه معلول وإن كان قديماً زماناً، بمعنى أن حدوثه قد تم منذ الأزل … فهو حدوث أزلي لا زماني كما هو الحال عند (الغزالي) والقائلين بأن العالم حادث زماناً، وعليه فإن (ابن رشد) يستخدم لفظة “الخلق” بدلاً من(الحدوث) إذ يشير “الخلق” إلى معنى العلّة أكثر مما يشير إلى معنى الإيجاد في زمان، أي أن الخلق حتى يتم لا بد من وجود خالق هو الله، و (ابن رشد) اختار معنى الحدوث بمعنى المعلولية لا بمعنى البدء الزماني وهذا النوع من الحدوث يمكن تسميته بالحدوث الذاتي، وهو كما عرّفه الجرجاني: “كون الشيء مفتقراً في وجوده إلى الغير ، أما الحدوث الزماني فهو كون الشيء مسبوقاً بالعدم سبقاً زمانياً، والحدوث الأول في نظر (الجرجاني) أعم مطلقاً من الثاني” ويرى (ابن رشد) أن هناك العديد من آيات القرآن في ظاهرها تدل على أن الخلق ليس من عدم كما أنه ليس في زمان، بل هو خلق قديم ليس من عدم كما أنه ليس في زمان، بل هو خلق قديم، لأن الزمان والوجود أزليان، أو بتعبير أخر هو ” أن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين ” ويرى (ابن رشد) أن المهم بالنسبة للعقيدة هو معرفة أن العالم، له علّة هي الله فيقول: ” أعلم أن الذي قصده الشرع من معرفة العالم هو أنه مصنوع لله تبارك وتعالى ومخترَع له…” وليس في ذلك مشكلة عند (ابن رشد) وإنما المشكلة تتعلق في تقريره أنّ العالم مصنوعٌ مخترَعٌ، موجودٌ أزليٌ، وأنّ الصانع، أو المخترع أو الموجد، أو العلّة أو الفاعل هو الله الأزلي، وأنّ الزمان أزلي أزلية العالم، لأنه مرتبط جوهرياً بالمتحرك الذي هو العالم نفسه، وعليه فإن إطلاق اسم الحدوث على العالم يجب أن يدل على أن العالم محدث أزلياً، كنتيجة لفعل الله المتعلق به، عندها يمكن القول أنـّه محدث منذ الأزل أو محدث قديم الحدوث “

العالم حادث بصورته قديم بمادته:

أمّا معنى الخلق فهو أن “الفاعل إنما يفعل المركب من المادة والصورة، وذلك بأن يحرك المادة ويغيرها، حتى يخرج مّا فيها من القوة على الصورة إلى الفعل ” وهنا يبدأ فعل الله في المادة المعلولة له أصلاً، فيؤثّر فيها ويُخرج منها، مركبات جديدة ، مادتها قديمة معلولة لله، وصورها حادثة، وبهذا المعنى تكون الأرض والسماء والهواء والماء والتراب والأجساد، وما إلى ذلك من المركبات، مخلوقة من المادة القديمة، بفعل الله فيها، وإخراجه لها كمركبات حادثة في الزمان،مما يرفع التعارض بين القول بقدم مادة العالم وقوله تعالى :”وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء00″ . فالفاعل عند (ابن رشد) هو مخرج ما بالقوة إلى الفعل، وهو يشبه الاختراع من جهة أنه يُصيّر ما بالقوة إلى الفعل، ويفارق الاختراع بأنه ليس يأتي بالصورة من لا صورة وكما هو الحال عند (أرسطو) من أن الخلق هو إخراج ما بالقوة في المادة إلى الفعل، وهو ليس خلقاً من عدم بالطبع، وهذا النمط من الخلق مستمر ومتصل منذ الأزل إلى الأبد، مما يعني أن مادة العالم المخرج منها ـ أو المحدث منها ـ بعد أن كان موجوداً بالقوة إلى موجود بالفعل بواسطة الفاعل قديمة،فهو المحدث من ناحية الصورة، القديم من ناحية المادة، فالمادة مرتبطة بالله في الوجود وما الزمان إلا شكل لحركة المادة، ولا وجود له إلا مع الحركة، وعليه فالمادة المنتجة للحركة هي خارج الزمان، إذاً لا وجود لزمان متقدم على الله والعالم، وهذا ما يدلل على صحة القول بقدم العالم وأزليته. وبما أن العلّة أزلية لا تفسد فإن معلولها أزلي لا يفسد كحالها، الأمر الذي يفضي للقول بأن ما لا يفسد فإنه خالد إلى الأبد، فالله لا يلحقه فساد، فهو أزلي أبدي، وحال مادة العالم كحاله لا يلحقها فساد منذ الأزل وإلى الأبد، أما ما يفسد ويتغير فهو الأعْراض والصور والكيفيّات فحسب.

العالم أزلي أبدي بمادته :

إن القول بأبدية العالم مرتبط بالقول بقدم العالم ـ بالأزلية في الوجود ـ إذ أن ما ليس له ابتداء فليس له انقضاء…وأمّا أن يكون شيء له ابتداء وليس له انقضاء فهذا ليس بصحيح إلا إذا انقلب الممكن أزلياً… ومن يقول إن الزمان يمكن أن يكون غير متناه في المستقبل ولا يمكن أن يكون غير متناه في الماضي، لم يلزم الأصل المعروف بنفسه في ذلك، وهو أن ماله مبدأ فله نهاية، وما ليس له نهاية، فليس له مبدأ ” ثم أن المادة والأصول لا تنعدم وإنما تنعدم الصورة والأعراض الحالة فيها.

يرى (الفلاسفة) ومعهم (ابن رشد) أن العالم لا تعدم جواهره، لأنه لا يعقل سبب معدم لها، وما لم يكن معدماً ثم انعدم، أن يكون إرادة القديم سبحانه، يفضي إلى استحالة، لأنه إذا لم يكن مريداً لعدم وصار مريداً فقد تغير وهذا مستحيل لأنه يتنافى مع كماله المطلق وعدم تقدم الحركة والزمان عليه

وصفوة القول في الدليل الأول على قدم العالم، هو أن مادة العالم قديمة، أزلية، أبدية، وأن العالم لم يخلق من عدم، وأن مادته معلولة للعلّة متعلقة بها، غير متراخية في الوجود عنها، فلا خلق من عدم ولا وجود للعدم المحض في نظرية (ابن رشد) عن قدم العالم، سوى للمادة، والإمكانات، والفعل، والله، فالعالم محدث من حيث الصورة قديم من حيث المادة، إذاً فلعلّةِ تبعية المعلول للعلّة واستحالة تراخيه عنها، واستحالة الفناء على الوجود المحض مع عدم وجود مبدأ لأفعال الفاعل، ثم رد العالم إلى إرادة أزلية والّذي هو ردٌ إلى الوجود الأزلي لتلك الإرادة، فإنه يستحيل صدور حادث من قديم مطلقاً.

النفس والجسد بين ديكارت واسبينوزا مشكلة النفس عند إسبينوزا مشكلة النفس عند ديكارت معرفة الجسد وخواصه وتعلقه بالنفس

تكمن الأهمّية الفلسفية لهذه القضية في بيان مدى نجاعة العقلانية النّاشئة في القرن “17” في معالجة مشكل قديم لكنّه وضع بمفاهيم جديدة في ذلك العصر ومدى تأثير هذه العقلانية من خلال هذه القضية على الفلسفة فيما بعد. ويكفي أن نلاحظ أنّ كل الفلاسفة الديكارتيين سبينوزا، مالبرانش، ليبنيتز ورثوا هذه القضية وحاول كل واحد حسب نسقه أن يجد لها حلاّ مناسبا، لنتبين أهمية هذه القضية. كما نذكر أن كانط الذي يتحرّك في حيّز فلسفي مختلف تماما يقرّ بوجود أنا مفكر ويعتقد أنّه ينبغي – رغم النّقد الذي يوجهه إلى ديكارت – إثبات هذه الذات. أمّا النقد المعاصر للذّات الديكارتية – وبالتّالي التخلي اليوم عن علاقة النفس و الجسد – فهو يبين بصفة سلبية وغير مباشرة مدى تأثير هذه المسألة على الفلسفة اليوم. فما هي أهمّية هذه القضية على المستوى الفلسفي؟ وكيف وضعت من طرف ديكارت في القرن السابع عشر؟ و ما هو الحل الذي وجده ديكارت لهذه القضية؟ ثم كيف وضعها من جديد سبينوزا؟ و بالتّالي ما هو الحل الذي وضعه بدوره لنفس هذه القضية؟

النفس و الجسد عند ديكارت:

كلنا يعرف أنّ التأملات يحمل عنوانا يتضمّن ضرورة التّميز بين النفس والجسد فهدف ديكارت منذ البداية هو التّمييز بينهما. لكن ديكارت الذي حاول في التأملات قدر الاستطاعة أن يميّز بين النفس والجسد أدرك أنّه ينبغي عليه أن يبيّن علاقتهما، أي تداخلهما في الإنسان. فهو في التأمّلات على الأقل يحاول التمييز و لكن في الانفعالات يضع هذه المسألة بصفة جديدة لإيجاد حلّ لعلاقة النفس بالجسد.
في التأمّلات يقرّ ديكارت أن الشيء الذي يبقى قارّا ولا يمكن للشك أن يضعه محل ريب هو الفكر كفكر أي بقطع النظر عن كونه صحيحا أو خاطئا، وهذا الفكر هو فكر محض أي مستقل ومتميّز عن الخيال وعن الإحساسات وعن كل ما قد يوجد في النفس من أشياء أخرى، فديكارت يميز الفكر في النفس عما هو مخالف لهذا الفكر. وعندما يتساءل عن أهميّة هذا الفكر يجد ديكارت أنّه جوهر مفكّر، وكلمة جوهر هنا تؤخذ بالمعنى الأرسطي، إذ نتبيّن أنّ الفكر عند ديكارت مستقلّ بذاته أي لا يحتاج إلى شيء آخر، أي لا يحتاج إلى جسد ليوجد هو كفكر بل على العكس إنّه الأوضح والأكثر تميز ووحدة وثبات من الجسد. ولهذا نكتشفه قبل الجسد ونميزه عنه.

هذا هو الجوهر الذي يعترف به ديكارت بالإضافة إلى الجوهر المادّي أي أنّ ديكارت الذي نقد السبب الغائي والصور الجوهرية لكونها أشياء غامضة و خاطئة و جب التخلي عنها موجّها نقده في ذات الحين إلى المدرسة التي يعيب عليها إثبات الصور الجوهرية، يقر بوجود جوهر الفكر. ذاك أن المثال الشهير الذي يورده ديكارت في التأمّل الثاني [مثال قطعة الشمع] هو مثال لا غير، أي عندما نقرأ التأملات يجب أن نعتبر أن هذا المثال خارج عن التأمل الثاني خاصّة و أن الفيلسوف يلح على نظام الأفكار، في حين أن قطعة الشمع تفترض وجود الجوهر المادي ونحن لا نعرف أو لا نستطيع أن نعرف منطقيّا الجوهر المادّي إلاّ في التأمّلين الخامس والسادس لذلك فهو مثال يقتلع اقتلاعا من العالم المادّي خارج التّسلسل المنطقي، وهذا بسبب خشية ديكارت من الاعتراض عليه، و هذا يعني أن غاية إيراد مثال قطعة الشمع، هي غاية جدالية لا برهانية منطقية. و هذا الاعتراض قد يتأتى عن الحسّيين الذين كما يتصوّرهم ديكارت يتشبثون بالقول أن الأفكار ناتجة عن الإحساس خاصّة حسب ما نعرفه منذ أرسطو وخاصة حسب ما بدأ يظهر في الفلسفة الانقليزية في ذلك الحين وهي فلسفة حسّية تجريبية.
الاعتراض يقول: إنّ الأفكار لا بدّ أن تكون ناتجة عن الإحساس فكيف تستطيع يا ديكارت أن تبرهن بأنّ الفكر مستقل عن الجسد و متعالي عليه.
عندما يحلّل ديكارت مثال قطعة الشّمع يستنتج في نهاية الأمر أنّ ما تبقّى من هذا الجسم عندما نحذف عن الصفات الحسّية المتعدّدة، هو الامتداد، و الامتداد مفهوم رياضي أي عقلي نجده في الفكر ولا حاجة لنا إلى استنتاجه خاصّة من الإحساس والتجربة بل هو مفهوم فكري محض يمكن للفكر أن يقرّه بمجرّد إثباته. و بهذا يتحصّل ديكارت على نتيجتين ضد الحسّيين:
لا يستطيع المذهب الحسّي أن يبيّن ظهور الأفكار الحسّية حسب ما يعتقده.
و كذلك فإنّه لا يستطيع أن يبرهن أنّ الأفكار المجرّدة مثل الأفكار الرياضية مستنتجة من الحسّ.

و عندما نقارن هاتين النتيجتين نحصل على ثالثة: إن الحسّيين ينهزمون في عقر دارهم لأنّ الحقل الحسّي نفسه يبرهن أن ما نجده في نهاية الأمر هو مجموعة أفكار. فالحسّ ينهزم على مستوى تفسير الأفكار الناتجة عن الأفكار وينهزم حتّى على مستوى الأفكار التي نعتقد أنّها ناتجة عن الإحساس. و يغلق ديكارت القوسين أي يبيّن أنّ مثال قطعة الشّمع لا يمكن أن يعطي أيّ قيمة للاعتراض الموجّه من طرف الحسيين. لكن التأمّل الخامس بعد البرهنة على وجود الفكر في التأمّل الأوّل، و ماهية الفكر في التأمل الثاني، و وجود الله في التأمّل الثالث و الرابع، [هذا التأمل الخامس] ينبغي أن يبرهن على وجود العالم المادّي لأنّ هذا العالم موجود والبرهنة عليه تكون برهنة من نوع خاصّ أي تحتاج إلى قنوات الإحساس التي تبين لديكارت أنه يشعر بوجود العالم المادّي، برهنة أكثر قيمة عقليا ونفسيا أي تلك التي نجدها في التأمّل السّادس عندما يفكر ديكارت في الفيزياء والرّياضيات. إذ نجد أن الفيزياء رياضية قبل كل شيء ولكنّها مرتبطة بالجوهر المادّي. و يبيّن صاحب كتاب التأملات الميتافيزيقية أنّ هذا الجوهر المادّي – هو أساسا – امتداد يتميّز عن جواهر مادّية مختلفة التعقّد و التي تعطينا مجموعة الأجسام المادّية المعروفة، إذن هناك جوهر فكري واحد ومجموعة لا متناهية من الجواهر المادّية التي تخضع كلّها إلى نفس المفهوم الرياضي وهو مفهوم الامتداد.

و لا يضع ديكارت مسألة علاقة النفس بالجسد في التأملات، بل إنّها [التأمّلات] تنتهي بعد أن اكتشف ديكارت أولا أنّه موجود كفكر، ثانيا أنّ ماهيته فكرية، ثالثا أنه جوهر مستقل، رابعا جوهر مستقل لكن متناهي، خامسا أنه متناهي لأنّه وجد من طرف فكر لا متناهي وسادسا أن هذا الجوهر المتناهي المستقل البسيط موجود في علاقة ما مع الجسد و ذلك عن طريق الشعور بالجسم، لكن ديكارت لا يضع بصفة مباشرة هذا المشكل على مستوى التأمّلات لذلك يمكن أن نعتبر أنّ التأمّلات هي كتاب التمييز بين الجسد و النفس في حين الانفعالات هو كتاب العلاقة والوحدة بينهما. و لكن لماذا لم تعتبر “التأمّلات” هذه العلاقة واكتفت بمسألة التمييز؟

إنّ هدف ديكارت في التأملات حسبما يعلن عنه في “التأمل الأول” هو هدف علمي إبستيمي، أي وضع أسس واضحة للعلم ترتكز على الفكر الذي يعني عند ديكارت دائما فكر واضح ومتميز أي الصحيح ويفرض نفسه على العقل. فديكارت إذن لا يريد تفسير الإنسان، فهو لا يهتمّ بالأخلاق ولا بالطبّ وإنّما بالمبادئ الأولى الواضحة لكلّ فكر علمي ممكن. وهذه المبادئ هي، أوّلا، التّمييز بين الأفكار حتّى نتحصّل في نهاية الأمر على أبسطها ولا نقر بصحتها إلاّ إذا أقررنا أنّها بسيطة وواضحة، ثانيا” ربط هذه الأفكار البسيطة مع بعضها ومحاولة التثبّت في كلّ مرة عن طريق الإرادة من صحة هذه الأفكار البسيطة وتسلسلها، “ثالثا” إرجاع كل الأشياء إلى مبدأ واحد (إرجاع كل الجواهر المادّية إلى مفهوم الامتداد) و بطبيعة الحال لا يمكن للتأمّلات إلا أن تؤدّي إلى التّمييز الكلي بين الفكر والجسم و في الفكر نفسه بين الأفكار البسيطة والأفكار المركبة لا إلى وجود علاقة بين الجسم و النفس. لكن ديكارت يعتقد أن أجزاء الفلسفة متكاملة وأنّها تشكل وحدة، و ينبغي أن تؤدّي إلى سلوك فردي واجتماعي معين و لذا ينبغي عليه أن يضع مسألة علاقة النفس بالجسد على مستوى آخر لا يكون متناقضا مع نتائج التأملات و لكنه يكون مكملا له. و هذا ما نجده أساسا لا في كتاب التأمّلات بل في كتاب الانفعالات.
عملية توحيد الجسد و النفس في كتاب “الانفعالات” متأتية من ضرورة فهم فردية الإنسان أي كيف يستطيع ديكارت انطلاقا من تمييز الجواهر وتعدّدها أن يفسّر فردية الإنسان، أي أن يبيّن تعامل الامتداد مع الفكر في الإنسان فقط. فديكارت إذن لا يبحث في وحدة علاقة الجسم بالنفس لفهم كائنات أخرى مثلما نجد ذلك عند أرسطو أو فيما بعد عند “سبينوزا” و “لايبسيز” و إنّما عند الإنسان فقط، فالإنسان من حيث هو جسد يخضع للتّحديد العام الذي يعطيه ديكارت للجسم كامتداد، ومن حيث هو روح يخضع لتحديد النّفس كفكر محض و خالص. كيف يتفاعل إذن، هذان النّوعان من الجواهر في الإنسان بالذات ؟

عند أرسطو و لتفسير كل الكائنات الحيّة هناك مبدأ عام يمكنه من بيان وحدة النفس بالجسم وهي علاقة المادّة بالصورة. فجوهر الكائن الحي بصفة خاصّة متكوّن من صورة و من مادّة و الصورة هي التي تعطي وحدة المادّة، حياة الكائن هي ما تتأتّى دائما عن طريق إضافة الصورة للمادّة. (نحن نعرف أنه بالنسبة لأرسطو كلمة جوهر تعني عدّة أشياء إمّا المادّة أو الصّورة أو المكوّن من مادّة وصورة ويبدو أنّ تحديدات أرسطو غير شافية دائما لأننا لا نستطيع من كتاب إلى آخر في بعض الأحيان أن نعرف بالضبط ما يعني أرسطو بكلمة جوهر فنكتفي فقط – إذن – بفهم سريع وعام للقول: إن المادّة عادة ما تقال كجوهر لكن كجوهر يرغب في صورة). فالصّورة إذن بهذا المعنى على الأقل جوهر بأتم معنى الكلمة. لكن هنالك صعوبة أخرى لأن أرسطو يعتبر أن الجوهر الحقيقي هو المكوّن من مادة وصورة و ذلك خاصّة عندما يريد أن يفسّر الجواهر الجسمية الملموسة وبصفة أخصّ منها جواهر الكائنات الحيّة فنحن نستطيع أن نقول مثلا أن الله جوهر بمعنى صورة فقط مستقلّة تماما عن المادّة بل و نقول أكثر من ذلك أن الله هو الجوهر الأول لأنه جوهر تخلص تماما من المادة فهو قد يعتبر من هذه الزاوية المحرك الذي لا يتحرك أو الفكر الذي يفكر في نفسه فقط لا يفكر في شيء خارج ذاته. و بهذا المعنى يعتبر الجوهر الأسمى هو الصورة رغم أنّ أرسطو يقول أن الجوهر الحقيقي هو المكوّن من الصورة والمادة. لكن ليس هنالك تناقض كليا لأنه عندما نقول أن الجوهر الكامل هو كامل خاصة بصورته بأتم معنى الكمال. إذن الجوهر الأسمى اكتمالا هو جوهر الإلاه وكل الجواهر المكوّنة من مادة وصورة موحدة على كل حال بالصورة. و هذا المبدأ العام مكن أرسطو ضمن نطاق نسقه من اعتبار أن الكائنات الحية موحدة بصورتها التي هي أسمى من صورة الكائنات غير الحية. و علاقة المادّة بالصورة يمكن أن تفهم من زاوية ثنائية مفهومي القوة والفعل. فالمادة موجودة بالقوة والصورة موجودة بالفعل و معنى الفعل هو إيجاد حقيقة موجودة. و لهذا فتكوين جوهر معين يفهم “بالفعل” (ضد القوة) وهنا يمكن أن نعادل بين الصورة والفعل.

و هذا التفسير الأرسطي لوحدة كائن ما لا يمكن لديكارت أن يأخذه بعين الاعتبار و ذلك لعدّة عوامل:
لأن ديكارت بحسب ما نستنتجه من فلسفته وحسبما يلح عليه في فهمه للطبيعة، يريد أن يلغي السبب الصوري وأن يقر فقط السبب المادي و السبب الفاعل.
لأنّ مفهوم النفس نفسه تغيّر منذ أرسطو وصولا إلى ديكارت حيث اكتسى هذا المفهوم صبغة دينية لا تعني فقط الوحدة والبساطة والسّمو وإنما البقاء والخلود و كذلك مفهوم المسؤولية أخلاقيا. و من هذه الزاوية لم تعد “الصورة تستطيع أن تفسر مفهوم المسؤولية. و عندما نعتبر مفهوم النفس حسب اللغة الفلسفية الديكارتية يضمحل التفسير الأرسطي العام و يعطي ضرورة تفسير وحدة النفس بالجسد في الإنسان فقط.

لأن ديكارت يريد أن يفسر لا علاقة النفس بالجسد فقط بل علاقة الجسد بالنفس. فعندما نعتبر الإنسان وحدة بين النفس والجسد يمكن أن ننظر إليه من زاويتين اثنتين: إما من زاوية تأثير النفس على الجسد و هذا يبيّن عند ديكارت فعل الإرادة التي يقول عنها في التأمل الرابع أنها الشيء الوحيد اللامتناهي في الإنسان وتجعلني أشبه الله. وإمّا من زاوية تأثير الجسد على النفس فيعطينا الانفعالات. و بالرغم من هذه الصبغة التي أوردنا بها هاتين الزاويتين فليس ثمة تناظر بينهما رغم أن كل منهما يؤثر على الآخر لأن النفس تصل بصبغة أو بأخرى إلى التحكم في الجسد أي سيطرة العقل على الانفعالات إذ يعتقد ديكارت أنه من الواجب أن نسيطر على الانفعالات.
لهذه العوامل الثلاثة لا يمكن لديكارت أن يستعمل في “أي شكل” التفسير الأرسطي للصورة وعلاقة الصّورة بالمادة، ذلك أن ما يرمي إليه ديكارت أساسا في بحثه عن وحدة النفس بالجسد أو علاقتهما ببعض ليس الفهم العلمي للأنسان بل بيان قدرة النفس على السيطرة على الجسد. فكيف تتحدّد النفس في التأملات ؟

تظهر النفس في التأمّل الثاني على مستويات مختلفة : على مستوى الوجود، على نطاق الماهية، من حيث هي جوهر و على نطاق الذهن. و هذه المستويات الأربعة تدخل ضمن إطار ذاتي فقط، أي تظهر كاستثناء لفرضية الشّيطان الماكر. ذلك أن الشك الديكارتي (وهو شك منهجي لأنه افتراض منطقي فقط لا ينتج عن معاناة تجربة حقيقية، وهو شكّ كلّي لأنه يطبّق حتى على الرياضيات التي تبدو لديكارت و لأوّل وهلة النّمط الأسمى للوضوح والتمييز أي الحقيقة، وهو شك جذري لأنّه لا يطبّق على بعض الحالات الحسّية أو المعادلات الرياضية وإنّما على مبادئها برمتها). هذا الشك الذي يصعد عن طريق فرضية الإله الماكر و يبقى ساري المفعول إلى حدود البرهنة على وجود الله يترك مكانا شاغرا لاستثناء وحيد و هو “الكوجيتو”. يعني هذا أنّ الكوجيتو لا يمكن – في التأمل الأول و في التأمل الثاني– أن يكون حقيقة مطلقة بل يبدو حقيقة مؤقتة يمكن أن لا نجد لها صفات حقيقيّة إنّ لم نبرهن على وجود الله. لكن هذا الاستثناء يدخل في علاقة معقدّة مع الضمان الموضوعي للحقيقة وهو الله. إذ هو من ناحية استثناء ذاتي وحقيقة آنية فقط، و لكنّه من ناحية أخرى يصل إلى البرهنة على وجود الله، أي يصل إلى وضع هذه الحقيقة. و هذا يمثل نوعا من المفارقة ” لأنّ الحقيقة المطلقة تبدو ناتجة عن حقيقة ذاتية ومؤسّسة لها. لكن ديكارت يفرد تحليلا ضافيا لهذا الكوجيتو، إذن أنا موجود ككوجيتو بقي على أن أبحث عن ماهية هذا الوجود أي ماهية الفكر. و هذه العلاقة بين الوجود والماهية تبدو و كأنها لا تحترم منهجية ديكارت، ذلك أن هذا الأخير يلح منهجيّا على الانطلاق من الماهية لفهم الوجود لا العكس. فنحن نرى مثلا عندما يبرهن ديكارت على وجود الله يكتشف أولا ماهية الله و هي فكر لا متناه ثم يقرّ ثانيا أنّ الله موجود كما نرى ديكارت في التأمّل الخامس يكتشف ماهية الأجسام أي المادّة عن طريق الامتداد ثم يقرّ بوجود العالم المادّي فيما بعد.

نستنتج أنّ العلاقة الموجودة بين التأمل الأول و التأمل الثاني، أي بين اكتشاف وجود الكوجيتو واكتشاف ماهية الكوجيتو، تبدو كأنّها لا تحترم هذا المنهج الذي يتبعه ديكارت في بحثه. و لكن بالنسبة لهذه الحالة الأولى فليس هنالك في الحقيقة عدم احترام للمنهج الديكارتي، لأنّ المعني بالوجود هنا هو وجود الفكر لا وجود شيء خارج عن الفكر قبل الله أو العالم المادّي. و وجود الفكر كفكر يختلف تماما عن علاقة وجود الأشياء الأخرى بماهيتها، فلا غرابة إذن في أن ينطلق ديكارت من الوجود إلى الماهية بما أنّ الوجود هنا هو الفكر فقط. و ماهية الفكر هنا تتحدّد على مستويين: كجوهر و كذلك داخل هذا الجوهر عبر تمييز ضربي ذلك أنّ الفكر كجوهر يختلف عن المادّة كجوهر جوهريا أي حقيقيّا أي عبر تمييز حقيقي. بينما الفكر كجوهر يختلف عما يغاير الفكر في الرّوح ضربيّا فقط. بمعنى أنّ الفكر يختلف عن المخيلة والإرادة والإحساس اختلافا ضربيّا لأنّ هذه العناصر داخلة في الرّوح ولكنّها لا تدخل في تحديد الفكر. معنى هذا أن الكوجيتو يمكن أن يحدّد روحانيّا ذلك أنّه يختلف عن الإرادة والمخيلة. لكن ديكارت يشعر بأن هاتين الحقيقتين صعبتا الفهم ذلك أنّ الفلسفة اليونانية و خاصّة الأرسطية والفلسفة المعاصرة التجريبية والضّمير المشترك، كلّ هذه المواقف، تعتبر عادة أنّ المعرفة تبدأ مع الحس بينما ديكارت يريد أن يبيّن العكس تماما و لهذا يشعر بضرورة الوقوف عند هذا الاعتراض وأن يجيب عليه وذلك بتحليل قطعة الشّمع.
و تتمثل إشكالية هذا النّص في محاولة الإجابة على اعتراض ملح موجه من قبل الظن المشترك و التجربيين. يحلّل ديكارت إذن، قطعة الشّمع فيحذف عنها الشكل واللّون والطعم و الرائحة و الحجم فلا يبقى في النّهاية إلا الامتداد الذي هو مفهوم ذهني. إذن معرفة الجسم تكون عن طريق الذّهن. لكن لا ينبغي أن نفهم هذا النّص على أنّه يرمي إلى بيان أنّ العالم المادّي موجود ويرجع فهمه إلى الذهن لأنّ البرهنة على العالم المادّي لا توجد إلا في التأمّلين الخامس والسّادس. و النتيجة التي يصل إليها ديكارت تتجاوز ما أراد أن يصل إليه في البداية. فلقد أراد ديكارت أن يبيّن فقط أنّ المعرفة الذهنية لا تنتج عن الحسّ. لو وصل ديكارت إلى هذا الحدّ فقط لكان جوابه كافيا ومقنعا لكنه بيّن أكثر من ذلك لأنّه استنتج أن المعرفة الحسّية نفسها لا تأتي إلاّ عن طريق الذّهن أي أنّ هنالك قلب لاعتراض التجريبيين. هاتان النتيجتان تنتجان أربع نتائج أخرى إذ نرى أنّ المعرفة الحسّية ستطرد من ثلاث مجالات وتبقى مشروعة جزئيّا في مجال واحد :

1) الحواس لا تعطينا معرفة بالأشياء الذهنية.
2) وهي كذلك لا تعطينا معرفة الأشياء الحسّية أي تطرد في مجال الأشياء الحسّية.
3) إنّ الحواس تطرد من معرفة وجود الفكر وماهية الفكر. أي أن المعرفة الحسّية تطرد على مستوى وجود الفكر وعلى مستوى ماهيته كفكر.
4) الحواس تبقى مشروعة جزئيا في معرفة وجود الأشياء الحسّية فقط، لأن المعرفة الحسّية معرفة غامضة عن طريق الشعور.
أمّا كيف يتمثل الفكر بما هو أيسر معرفة، فذلك ما نلاحظه على مستوى التفكير فقط أي أنّه على عكس من يعتقد من أن الانطلاق من الحواس يمكننا من معرفة الفكر نفسه فإن هذا الانطلاق هو الذي يمثل عائقا في نظام الفكر، إذ أننا في حياتنا العادية نتشبث بالحسّ بل و نعتقد أنّه مصدر الأفكار مع أنّنا لا نستطيع بسهولة التخلّي عن هذا العقل. أي أن ديكارت يقلب الاعتراض التجريبي الحسّي الأرسطي فيقول هذا الذي يسّمى مصدرا من طرف هؤلاء ما هو إلاّ عائق ينبغي التخلّي عنه. و لذلك فكلمة “أيسر” تعني سهولة وصول الفكر إلى ذاته عندما يحترم نظام الفكر فقط. أمّا إذا لم نحترم هذا النظام فإنّ معرفة الفكر لذاته تكون أصعب.

ذلك “أن الفكر أسبق معرفة من الجسم” هو ما يتضح معناه على نطاق نظام الفكر دائما لأنّ الأسبقية العادية هي أسبقية الحسّ ولذا وجب علينا إن نحن أردنا معرفة الفكر معرفة حقيقية أن نتخلّى بكل ما لنا من إرادة عن كلّ ما يشوب الفكر الخالص ويتداخل ضمنه، لننتبه كذلك إلى سلسلة الأفكار و نحذف كلّ ما استطعنا من حسّ يشوّه هذه المعرفة.
بقي أن نبيّن ماهية هذا الفكر؟ لقد قلنا أنّه جوهر، إنّ هذه الكلمة تأخذ بمعناها القديم أي بمعناها الأرسطي أي كشيء مستقلّ بنفسه. لكن لا بالمعنى الذي أصبح دارجا عند شرّاح أرسطو، أي المعنى الذي يكون فيه الجوهر متكوّنا من الصّورة والمادة، ولا بمعنى سبينوزا “المسبب لذاته”. فعند أرسطو يكون الجوهر ذلك الشيء الذي تحمل عليه المحمولات أو توضع عليه أشياء أخرى. إن الجوهر مستقل بذاته، قائم بذاته. وعندما نقول أنّ الفكر كجوهر مستقل بذاته فذلك يعني بالنسبة لديكارت أنه مستقل متميز عن المادة لا بمعنى أرسطي. إن الجوهر المادي مركب أما الجوهر الفكري بسيط لا يقسّم، والذي لا يقسّم على مستوى المكان يكون بالنسبة لديكارت أزلي على مستوى الزّمان أي أنّ البسيط أزلي: النفس خالدة بينما الجسم فان (المادّة فاسدة).

و من هذا المنطلق فإن العلاقة التي نجدها بين الجسد و النفس عند ديكارت وإن كانت علاقة جوهرين مستقلّين متميّزين فإنّها ترمي في الحقيقة إلى نظرة أو موقف أخلاقي معيّن أي أنّ الدراسة الأنتربولوجية، و نعني بذلك دراسة تركيبة طبيعة الإنسان في حدّ ذاته، ليست دراسة علمية محايدة و إنّما تتضمّن منذ أساسها ما يرمي إليه ديكارت في نهاية المطاف، و هو بيان أن الجسد ينبغي أن يخضع للعقل باعتبار أنّ الجسد هو مصدر الانفعالات وباعتبار هذه الأخيرة عند ديكارت غير طبيعية وإن كانت تفهم بطريقة طبيعية أي طريقة علمية. و لكنّها تبيّن في الحقيقة ضعف الإنسان الذي يخضع لهذه الانفعالات. إذن النظرة الأخلاقية هي التي أدّت بديكارت إلى هذا “الموقف الانثربولوجي” ولا إلى العكس، حسب ما يريد ديكارت أن يعرض لنا ذلك، كما هو معروف مثلا في التأمّلات. فنحن عندما نتصفّح التأمّلات ونتتبّع خطى ديكارت في بيان أسبقية معرفة النفس عن الجسد و بساطة هذه النّفس و توحيدها للجسد لا نتنبّه في هذه القراءة إلى الخلفيات التي سوف تظهر فيما بعد في كتاب “الانفعالات” حيث نجد ديكارت يجعل الجسد يخضع للنّفس بينما هذا المبدأ غائب في التأملات التي تكتفي، فقط، بتبيان أن النفس أسبق و أيسر معرفة من الجسد. إذا ينبغي أن نقرأ هذين الأثرين في الحقيقة بصفة عكسية، أي أن نبدأ بكتاب “الانفعالات” لبيان الغاية الحقيقية التي يرمي إليها ديكارت ثم نتتبع الوسائل و جملة الأفكار التي يوردها في التأمّلات، لنفهم أن هذا التّمييز الذي يقره للنفس عن الجسد يمهّد شيئا فشيئا للغاية التي كنا وضعناها منذ البداية في قراءتنا لا لكتاب “التأمّلات” وإنما لكتاب “الانفعالات”.

إنّ النظرة الديكارتية للإنسان و التي ترى في مستويين اثنين: المستوى الأخلاقي والمستوى الأنتربولوجي تتميّز جذريّا عن النظرة التي سادت في الفلسفة. و هذه النظرة ترتكز أساسا على تثبيت تلك الثنائية في الإنسان، و عن هذه الثنائية يصدر الموقف الأخلاقي المثالي المعروف، فالإنسان انفعالات من جهة و عقل من جهة أخرى، و لكن لا العقل و لا الانفعالات يشكّلان بحقّ الطّبيعة البشرية، فما علّة هذا الموقف ؟
إذا كانت الانفعالات لا تشكل الطبيعة البشرية لأنها دليل الضعف في هذه الطبيعة و تبيّن كيف يؤدّي هذا الضعف إلى الرذيلة، فإن العقل كذلك لا يشكل جزءا طبيعيّا في الإنسان لأنّه وارد من أفق آخر، أفق متعالي رغم كون ديكارت ينزل العقل في النفس. الإنسان هو إذن، عقل متعال من جهة و انفعالات لصيقة بطبيعة الحيوان أي أنها تؤدي إلى الرّذيلة من جهة أخرى، و هذا يؤدّي إلى اعتبار الإنسان مجرد حيز نزاع بين هذين العاملين. و النظرة الأخلاقية تتمثل في محاولة تغليب العقل على الانفعالات باعتبار أنّ العقل و لو أنّه لا يكوّن الطبيعة البشرية فإنّه، على كل حال، أسمى من الانفعالات. أمّا إذا اعتبرنا أنّ العقل لا يكون بالضرورة ضد الانفعالات و لا الانفعالات تضاد العقل، أي أن العقل يصير مجرد انفعال طبيعي مثل غيره من الانفعالات، فإن النظرة الأخلاقية – (الأنتربولوجية) التي سادت الفلسفة ستتغيّر تماما، وهو ما لم يحصل مع ديكارت و حدث فعلا مع سبينوزا. لكن لكي يحصل ذلك ينبغي اعتبار أنّ الإنسان لا يتكوّن من جسد على حده و نفس على حدة، ثم لا من حيث اعتبار ربط النفس و الجسد مع بعضها، بل اعتبار أنّ النفس ليست إلاّ مجموعة الأفكار التي ليست خالدة، و إنّما مجموعة الأفكار التي تعبّر عن الإنسان تعبيرا خاصا و الجسد مجموعة حركات و انفعالات تعبّر تعبيرا معينا عن الجسد، و تعبير الجسد هو نفس تعبير الأفكار عند الإنسان أي لا فرق حقّا بين الفكرة والحركة، بين الجسد و الفكر.

النفس و الجســد عند سبينـوزا :

لفهم علاقة النفس بالجسد أو بالأحرى علاقة الجسد بالنفس كما يفهمها سبينوزا ينبغي أن نتعرّض إلى أهمّ الحقائق التي يركز عليها في الفصل الأول من كتاب “الأخلاق”. يبتدأ كتاب “الأخلاق” ببيان أن الله سبب لذاته وأنه لا متناه مطلق وأنه “مكوّن” من عدد لا متناه من الصفات. فالله هو الجوهر الوحيد وهو سبب لنفسه لا متناه مطلقا ويحتوي على عدد لا متناه من الصّفات. و الإنسان لا يعرف من هذه الصفات إلا صفتين فقط : الامتداد والفكر، وماهيّة الله معادلة تماما لقوته و ما يعنيه ذلك هو أن الله لا يخلق. أما الصفتان اللامتناهيتان – الامتداد / الفكر – فمكوّنتان من عدد لا متناه من الضروب – و كل ما هو موجود ليس إلا ضربا معينا، إما ضرب من الصفة اللامتناهية للامتداد، وإمّا ضرب للفكر الذي هو صفة لا متناهية ايضا، وإمّا ضرب لصفة أخرى لا نعرفها أو كذلك مكوّن من ضربين. الإنسان هو بالنهاية علاقته ضربين (فكر / امتداد) و هذا ما يعني أنّ الإنسان لم يعد يعتبر كجوهر متميّز خاصّة بل أصبح مجرّد ضرب أو علاقة بين ضربين مثل غيره من الكائنات. و لذلك يبدأ سبينوزا الفصل الثاني بقوله: الإنسان يفكر (أي أن الإنسان ليس فكرا فحسب، وهذا الفكر ليس ماهية الإنسان (ديكارت: ماهية الإنسان الفكر)).

والفكر عند سبينوزا ليس له نفس المعنى الديكارتي: فالفكر عنده مجموعة أفكار وبالتالي لا كما هو الشأن عند ديكارت أن الفكر هو ذات مفكرة. فهذه المقولة (الذات المفكرة) قد تعني أنه إذا وجد فكر ما، فهذا الفكر موجود في الإنسان و لا تعني أن ماهيته الإنسان هو فكر، بل يعني أن الإنسان قد يفكر أو بالأحرى قد لا يفكر. و بصفة أدق أن ما لا يفكر إنسان بما أن الفكر لا يحدّد ماهية الإنسان. و عندما نسلم بذلك يصبح شرعيا أن نقول أن الطفل والمجنون (كليهما إنسان). و ديكارت على عكس سبينوزا تماما لا يقول بأن المجنون إنسان بل هو كائن بشري مشوه أي مسخة. في حين بالنسبة لسبينوزا يمثل الإنسان الذي لا يفكر إنسانا، و بهذا يتخلّى سبينوزا عن الثنائية الديكارتية التي ظهرت خلال القرن 17 و التي تفصل بين الإنسان المخبول و العاقل في حين أن ملاحظة سبينوزا لا تفرز أي تمييز وأي إقصاء لنوع ما من البشر.
بما أننا لا نعرف إلا صفتين لا متناهيتين – الفكر والامتداد – و بما أن الإنسان علاقة بين ضربين موازيين لهاتين الصّفتين أي ضرب الرّوح و ضرب الجسد، و لكن أيضا بما أن كل صفة ليست لها علاقة سببية بالصفات الأخرى، فلا الجسد يؤثر في النفس ولا النفس تؤثّر في الجسد، و هذا بعكس ما يقوله ديكارت ( النفس تفعل في الجسم وهذا ينفعل بها)، فبالنسبة لسبينوزا كل ما هنالك، هو تواز فقط بين الجسد و النفس . و من هنا نلاحظ كيف يبتدأ سبينوزا في نقد مسألة علاقة النفس بالجسد عند ديكارت بدون أن يقوم بأيّ نقد فعلي و مباشر لأن فلسفة سبينوزا هي مجرد وضع لنفس الأفكار بصفة إيجابية لا سلبيّة، لأنه سيبين أنّ هذه المسألة ليست مشكلا فلسفيّا حقيقيّا، وثانيا، و بصفة خاصة، سيبين أنّ النفس و الجسم هما في آخر التحليل شيء واحد، فليس هنالك جسم من جهة و نفس من جهة أخرى، و لكن بالرّغم من هذا فهنالك علاقة بين النفس والجسد عند سبينوزا.
لماذا ليس هنالك جسد من ناحية و نفس من ناحية أخرى و بالرّغم من هذا توجد علاقة رابطة بين الجسد والنفس ؟

إن طرح الإشكال بالنسبة لسبينوزا يختلف جوهريا عما هو عند ديكارت، ذلك لأن كل ضرب من ضروب صفة ما مواز لضرب ما من ضروب كل الصفات الأخرى اللامتناهية. و بما أن النفس هي ضرب مواز لمجموعة الضّروب الأخرى، فهي كضرب لها فكرة موازية فتكون النفس فكرة الفكرة و بما أن فكرة الفكرة لها فكرة موازية لها تصبح فكرة النفس فكرة فكرة الفكرة. و هكذا إلى ما لا نهاية فتصبح النفس أفكارا عددها لا متناهية في حدّ ذاتها. و بما أنّ كل ضرب من الضروب الأخرى المواز لفكرة ما مواز لهذه الفكرة، فإن الفكرة كفكرة تعبّر عمّا هو موجود في ضرب الامتداد أي تعبّر عن الجسد و هذا التعبير يعني أساسا فعل الجوهر الوحيد الواحد و هو نفس الفعل في جميع الصّفات، أي ما نجد له أثر في الجسم أو في النفس أو في الإله هو نفس الفعل أو الشيء لأن الله أو الجوهر يعبّر عن نفسه بنفس الصفة و الطّريقة في كل الضروب. إذن العلاقة بين النفس و الجسد تصبح عند سبينوزا علاقة شيء بنفسه، أي ما نعتبره نفس يمكن أن نعتبره جسد والعكس بالعكس فليس هناك فصل حقيقي بينهما و لا إشكالية بحث تميّز بينهما. لذلك فإن سبينوزا يعيب على ديكارت فصل هذين الضربين و الدّخول في مشكلة البحث عن العلاقة بينهما في حين أن الأمر لا يقتضي افتعال أي مشكل.
و الموازاة بين هذين الضّربين عند سبينوزا يمكن إعتبارها من ثلاثة نواحي:

توازي انطولوجي بين الفكرة و كل ضرب من ضروب الصّفات الأخرى، أي إنّ لكل ضرب من كل الصّفات نفس القيمة الأنطولوجية. و من هنا نرى أنه ليس ثمة داع للقول أنه هناك ضرب أسمى من ضرب آخر بما أن التوازي الأنطولوجي يحتّم أن يكون هنالك تطابقا بين كل الصّفات و عندما نطبق العلاقة على الجسد والنفس نفهم أنه ليست النفس أسمى من الجسد و لا هذا هو أيضا أرذل.
توازي على مستوى الماهية، أي وجود تطابق بين كل ضرب من ضرب صفة مع كل ضرب من ضروب صفة أخرى، بحيث أن النفس هي الجسد المنظور له من جهة صفة الفكر و الجسد هو النفس المنظور لها من جهة صفة الامتداد.
توازي على مستوى القوة و الفعل فليس هنالك تأثير ضرب من صفة ما على ضرب من صفة أخرى، و لهذا فإن ضرب النفس مساو ومعادل و مرتبط بضرب الجسد دون أن يكون هنالك تأثير النفس على الجسد أو تأثير الجسد على النفس، ففعل لاالنفس هو عين فعل الجسد و هو الفعل الذي ينحو إلى المحافظة على البقاء.
و إلى جانب ذلك (إلى جانب هذا التوازي العام) هنالك توازي خاص بين كل ضرب من ضروب صفة الفكر و الضروب اللامتناهية في الصفات الأخرى.

إن الجسم عند سبينوزا هو ضرب يعبّر عن ماهية “الله”، وهو موقف ينتهي إليه سبينوزا في كتاب الأخلاق حيث يقدم جملة من الإقرارات، اخترنا أن نورد البعض منها لنتتبع بناء أطروحته حول الجسد :

البديهية 1 : الإنسان يفكر.
القضية 1 : التفكير صفة لله أي أن الله شيء يفكّر.
القضية 2 : الامتداد صفة لله أي أن الله شيء ممتدّ.
القضية 7 : نظام وتسلسل الأفكار هو نفس نظام وتسلسل الأشياء.
القضية 10 : الجوهر لا يمكن أن يكون ماهية الإنسان أي أن الجوهر لا يكون صورة الإنسان.
القضية 11 : ما يكوّن الرّوح الإنسانية ليس إلاّ فكرة لشيء مفرد ومحدود موجود بالفعل (ليس بالمعنى الأرسطي للوجود بالفعل).
القضية 13 : موضوع الفكرة التي هي الرّوح الإنسانية هو الجسم أي ضرب ممتد موجود بالفعل
اللازم: الإنسان مكوّن من روح وجسد وإنما مركب من عدد كبير من الأفكار.
القضية 15 : الفكرة التي تكوّن النفس الإنسانية، أي الوجود الصوري للرّوح الإنسانية ليست بسيطة.
القضية 16 : الفكرة التي تنتج عن انفعال يقع في الجسم الإنساني، تعبّر عن طبيعة الجسم الإنساني وفي نفس الوقت تعبّر عن الأجسام الخارجية.
و هكذا فإن الرّوح والجسم هما في الحقيقة نفس الشيء لكن ننظر إليها تارة من زاوية صفة الفكر و تارة أخرى من زاوية صفة الامتداد. و عن هذا ينتج أنّ نظام أفعال الجسم يتماشى أو يتناسب مع نظام أفعال الرّوح. و ذلك يعني أن كل انفعال هو انفعال الرّوح والجسم في نفس الوقت عكس ديكارت الذي حينما يستعمل كلمة فاعلية “affective” فإنه يعني بذلك تأثير الرّوح على الجسم وبكلمة منفعلة يعني تأثير الجسم على الرّوح.
مما يبرز لنا الاختلافات الهامّة بين ديكارت وسبينوزا، اختلافات يمكن أن نلخصها في النقاط التالية :
الجسد والنفس متوازيان لهما نفس القيمة ولكنهما يختلفان معرفيا.
الفكر له أفضلية فهو صفة معبّرة عن الصّفات الأخرى: أفضلية عند الإنسان وليس عند الله.
الأفضلية الثانية: في صفة الفكر نفسها لكلّ ضرب من هذه الضروب فكرة.
الأفضلية الثالثة: في العمق كلّ فكرة تربطها فكرة أخرى.
توازي عام أنطولوجي أي توازي بين الصفات اللامتناهية.
توازي خارج الفكر: الفكر يعبّر عن كل الضروب الأخرى الخارجة عن الفكر.
توازي بين الفكر والامتداد.
توازي داخل الفكر فقط بين فكرة وفكرة.
و ما نلاحظه انطلاقا من هذه المقتطفات من الفصل الثاني من كتاب الأخلاق الذي يبحث في أصل وطبيعة الرّوح أن سبينوزا يبدأ في دراسته للرّوح بعرض فيزيائي لمكوّنات الفرد كفرد وهذه المكوّنات تنطبق على الفرد الإنساني وكلّ أنواع الأفراد الأخرى، و ما يميز الإنسان هو التعقيد وقدرة الفرد الإنساني على أن ينفعل أكثر من الأنواع الأخرى. و هذا يعني أنّه ليس هناك تمييز جوهري أو طبيعي بين الفرد الإنساني وغيره بل مستوى أرقى في التّركيب فقط عكس ما يعتقده ديكارت الذي وإن أقر أن الجسم الإنساني فيزيائيا يشبه كلّ الأجسام الأخرى فإنه أفرد له قولا خاصا.
انطلق سبينوزا إذن، في دراسته للرّوح من معالجة المسألة الفيزيائية أولا كمدخل لدراسة الرّوح حتى يؤكد أن القيزياء يجب أن تسبق دراسة الرّوح “الجسم قبل الرّوح” عكس ديكارت الذي يعتقد أن المرور بتحليل الجسم يجعل معرفة النفس أكثر تعقيدا وغموضا ولهذا ينبغي معرفة الرّوح مباشرة لأنها أبسط معرفة / أيسر معرفة.

كما نرى منذ بداية الفصل الثاني من كتاب الأخلاق

أن الامتداد أصبح مع سبينوزا صفة لله إلى جانب صفة الفكر و إلى جانب الصّفات اللامتناهية الأخرى، و هذا يعني أنه لأوّل مرّة في تاريخ الفلسفة ارتقى الامتداد و بالتّالي المادّة إلى مستوى طبيعة الله. فلم يعد بالإمكان التمييز الانطولوجي و الماورائي و الأخلاقي بين روح سامية وجسم أدنى بما أنّ الامتداد والفكر أصبحا على نفس المستوى. و بهذه الكيفية التي تجعل الامتداد والفكر متساويان في طبيعة الله، يمهد سبينوزا إلى نوعية العلاقة التي تكون بين الجسم والرّوح في الإنسان أي يمهّد إلى مبدأ تساوي الجسم والرّوح في الإنسان ذلك أنه على غرار الطبيعة الإلهية المكوّنة من عدد لا متناه من صفات لا متناهية من بينها الامتداد والفكر، فإن الإنسان مكوّن من ضربين لهاتين الصّفتين الأخيرتين: ضرب الجسم وضرب الرّوح كضربين متساويين: والتساوي هنا يعني نفس القيمة الأنطولوجية، ولهما كذلك نفس الفعل فهما متعادلان أي أن ما يحدث في واحد منهما يحدث في الآخر فكلمة التساوي ينبغي أن تأخذ في معناها الواسع.
وهكذا يجعل سبينوزا الرّوح والجسم ضربين متساويين و يقضي بذلك على مشكلة علاقة الرّوح بالجسم، أي لم تعد هذه المسألة في فلسفته مشكلة مثلما كان الأمر عند ديكارت ذلك أنّ ديكارت عندما تعرض لهذه العلاقة بيّن الصعوبات التي يبحث لها عن حلّ. و هذا الحل الذي ارتآه ديكارت في النّهاية هو أن العلاقة تتم في مستوى الغدة الصّنوبرية. و في مدخل الفصل الرابع يورد سبينوزا في كتابه الأخلاق بعض النصوص الديكارتية التي تتحدث عن هذه الغدّة الصّنوبرية ويسخر من ذلك قائلا:«أن ديكارت كان أكثر ظلامية من المدرسيين الذين نعتهم بالظلامية» فكيف يستطيع ديكارت العقلاني الشهير أن يقع في مثل هذه المهازل، فهذه المسألة لم تعد مشكل بل ربما لم يعد هنالك وجود حتّى لعلاقة ممكنة بما أن الضّربين متساويين بل هما في الحقيقة نفس الشيء بما أنهما يعبّران عن نفس الشيء. وهذا يعني أنه لم يعد هنالك تقابل بين الجسم والرّوح (المشكل عند ديكارت هو في وجود علاقة بين شيئين متنافرين)، فبالنسبة لسبينوزا قوة الجسم هي عينها قوّة الرّوح وضعف الجسم هو بذاته ضعف الرّوح و بالنسبة لديكارت عندما تضعف الرّوح يقوي الجسم وعندما تقوي الرّوح يضعف الجسم. و بما أنّه لم يعد هناك مشكل و لا تقابل بين الجسم و الرّوح بل فقط تساوي بين شيئين فإن المبدأ الأخلاقي الكلاسيكي الذي ينشأ عن التقابل بين الرّوح والجسم ومحاولة تغليب إرادة الرّوح على انفعالات الجسم، هذا المبدأ الأخلاقي لم يعد له أي مفعول عند سبينوز و هو ما يظهر من خلال نظرية الكوناتوس “Conatus” كماهية للإنسان من حيث هو ضرب، أي رّغبة في المحافظة على البقاء.

إن تعريف الإنسان كرغبة وبيان أنّ هذه الرغبة هي في نفس الوقت رغبة الجسم والرّوح معا يتنافى تماما مع تعريف الإنسان عند ديكارت كروح فقط على مستوى الماهية. و بما أنّ الرغبة هي المحافظة على البقاء أولا وبالذات فإن الانفعالات أو الأحاسيس إما أن تكون أحاسيس إيجابية نكون فيها فاعلين أو نكون فيهما منفعلين . و هذا التميز السبينوزي بين الانفعالات من الصنف الأول و بين الانفعالات من الصنف الثاني يتنافى مع تمييز ديكارت الذي يقرّ أننا عندما نكون فاعلين فعلنا ينتج عن الإرادة التي تنتج عن الرّوح وعن تأثير الرّوح في الجسم و عندما نكون منفعلين فإن الانفعالات تكون ناتجة عن تأثير الجسم في الروح بينما يرى سبينوزا أنه عندما نكون فاعلين نكون فاعلين جسما وروحا معا وعندما نكون منفعلين نكون منفعلين جسما وروحا. و هذا يبين من جديد أن سبينوزا يعتقد أن علاقة الروح بالجسم ليست مبنية على تأثير الواحد في الآخر هنالك علاقة توازي فقط.
ويمكن أن ندقق لتوضيح موقف سبينوزا من علاقة الرّوح والجسم، وجهات النظر التي يختلف فيها صاحب كتاب الأخلاق عن ديكارت:
نفي الفعل المتب .

علاقة توازي : كل ما يقع في الجسم يقع في الرّوح بدون أي تأثير متبادل.
التّطابق : أن هذه العلاقة هي علاقة شبه بنفسه.

و يظهر هذا التطابق كذلك في علاقة الانفعالات بالعقل، و هذا لا يعني أن كلمة انفعالات تدل على أنها انفعالات الجسم و بالتّالي فإن علاقة الانفعالات بالعقل هي علاقة تعبّر عن الرّوح والجسم، بل هي علاقة أفعال غامضة (المخيلة) بأفعال واضحة، هذا على مستوى الفكر، أما على مستوى الجسم فهي علاقة حركات فاعلة بأخرى منفعلة. و بصفة أدق علاقة الانفعالات بالعقل لا يفهمها سبينوزا بطريقة متميزة حقا، ذلك أن العقل هو درجة من درجات الانفعالات، لأنّ التمييز بين الانفعالات الفاعلة و بين الانفعالات المنفعلة ( ليس له نفس المعنى عند سبينوزا و ديكارت، فعند ديكارت تختلف جوهريا عن ذلك لأن ” هي تابعة للروح و تابعة للجسم، ولكن عند سبينوزا يمثل الانفعال ماهية الضرب و بالتالي فإن تعني نفس الشيء. لذلك ينبغي أن نؤكد على أن سبينوزا يقرّ أن الانفعالات والعقل معا يرجعان إلى طبيعة الإنسان و ذلك يعني:
أن الانفعالات طبيعية، أي تفسّر بالرجوع إلى الطبيعة الإنسانية عكس النظرية الأخلاقية أولا وعكس موقف ديكارت ثانيا، إذ أننا لسنا مخيرين لأن نكون منفعلين أو العكس.
العقل طبيعي في ظروف إنتاجه كعقل وفي متطلباته –– وذلك يفهم بقدرة الجسم على التفكير في متطلباته أي أن العقل لا يقبل إلاّ الأمور الطبيعية فالعقل إذن ليس ضد الطبيعي إنما هو في النهاية موافق لها ويجاريها ولا ينبغي أن يكون مالكا أو سيدا للطبيعة مثلما هو الشأن عند ديكارت أي أن يكون العقل مشتركا بين الطبيعة و الإنسان، أي أن العقل هو الأفكار المشتركة و الصحيحة التي تدرك أن بين الأشياء علاقات.

الجدل عند كانت في إثبات وجود الله

الجدل عند كانت في أثبات وجود الله

لقد ادعى الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانت بأن أدلة الفلاسفة التي تحوم حول اثبات وجود الخالق

لا تتجاوز الثلاثة

، بل ولا يمكن ان يُؤتى بأدلة أخرى غيرها، وهي الدليل الانطولوجي (الوجودي)

والكسمولوجي (الكوني)

واللاهوتي،

واعتبرها جميعاً غير ناهضة، وانها لا تتجاوز الدليل الانطولوجي المتضمن لفكرة الكائن الأسمى. اذ يتأسس الدليل اللاهوتي على الكوني

وهذا بدوره يتأسس على الدليل الانطولوجي الديكارتي، وليس هناك طريق آخر. ما يعني ان الأخير هو الوحيد الممكن لاثبات الكائن الأسمى؛ إن كان هناك دليل معتبر، فهو دليل مجرد عن الواقع ولا يتجاوز الذات المفكرة، كالذي استعان به ديكارت. وبالتالي فالأدلة ناقصة (١ )

والفارق بين هذه الأدلة هو ان الدليل الانطولوجي ينفرد في تجرده عن التجربة الخارجية كلياً، فيما الدليل الكوني يعتمد على التجربة العامة من دون تخصيص وتعيين، أما الدليل اللاهوتي

فهو يستعين بالتجارب الحسية المتعينة.

ويعتبر الدليل الوجودي

العمدة في الموضوع لدى (كانت)، ويمتاز بأنه يستدل قبلياً بمفاهيم مجردة ذاتية على وجود علة أسمى. وقد يكون من الأولى ان يسمى بالدليل الذاتي لا الانطولوجي أو الوجودي.
وبحسب

بعض الباحثين إن للدليل الانطولوجي تاريخاً قديماً تصل جذوره إلى ما قبل أرسطو، كما يلاحظ لدى نصوص بارمنيدس، فقد رأى هذا الفيلسوف ان الأصل في الأشياء هو وجود كائن لا نهائي وغير مخلوق، فهو وجود خالص بسيط ومطلق مليء بالوجود. واستدل على ذلك بأن هذا الكائن إما ان يكون كاملاً أو ان لا يكون موجوداً على الاطلاق( ٢ )

. وكثيراً ما كان القدماء يعتبرون الكائن الضروري لا بد ان يتصف بالكمال مقارنة بغيره، وهم يستدلون عليه بالأمر الوجودي لا الذاتي. وعادة ما يتخذ الاستدلال طريقة التدرج من المعلول إلى العلة، كالنهج المتبع لدى افلاطون وأرسطو وأتباعهما، ومن ذلك ترتيبهم للوجود ضمن مراتب هرمية لا بد ان تنتهي إلى أقصى صور الكمال؛ وفقاً لقاعدة الإمكان الأشرف كما أدلى بها أرسطو. ويعود الفضل في هذا الترتيب إلى منطق السنخية كأصل مولد للتفكير الفلسفي (٣ )

.
فكما رأى هذا الفيلسوف انه اذا كانت فكرة الجوهر اللامتناهي موجودة فينا

، ونحن جواهر متناهية

، فمن الضروري ان يكون مصدر هذه الفكرة حقيقة موضوعية لشيء غير متناه

هو الذي وضع الفكرة فينا. ففي الجوهر اللامتناهي وجود أكثر مما في الجوهر المتناهي

، وبالتالي لا يفسر هذا الحال إلا الواقع الموضوعي للحقيقة الإلهية،
مشيراً إلى ان هذه الفكرة تسبق في أذهاننا لفكرة المتناهي،

أي ان الله سابق لذواتنا،

وإلا كيف نعرف اننا نشك ونرغب،

أو اننا أشياء ناقصة
لو لم يكن لدينا فكرة عن كائن هو أكمل من كياننا

نعلم بالقياس عليه ما في طبيعتنا من عيوب؟

وعليه انتهى هذا الفيلسوف

إلى ان فكرة الله الكامل هي فكرة واضحة جداً وتتضمن من الوجود الواقعي أكثر من أي فكرة أخرى، وبالتالي لا يوجد اصدق منها ()٧.

ومن الجدير بالذكر انه سبق لعدد من الفلاسفة المسلمين ان طرحوا برهاناً على الوجود الالهي لا يختلف عن الدليل االوجودي

فقد استدلوا على وجود الله وكماله من خلال مفهوم الوجود ذاته من دون ان يدعوا حضور الفكرة الفطرية للكمال الالهي كما تضمنها الدليل الانطولوجي.

ففي هذا البرهان لا يحتاج الأمر أكثر من تأمل نفس الوجود كمقدمة تعريفية ليصل الحال إلى البرهنة على وجود الله،

لذلك كان مبجلاً وأحياناً يعتبر هو الوحيد الوافي دون غيره من الأدلة.

وقد أشار إليه ابن سينا في (الاشارات والتنبيهات)، وكما قال:

‹‹تأمل كيف لم يحتج بياننا لثبوت الأول ووحدانيته وبراءته عن السمات إلى تأمل لغير نفس الوجود، ولم يحتج إلى إعتبار من خلقه وفعله.. فشهد به الوجود من حيث هو وجود، وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده من وجود.. أقول إن هذا حكم للصديقين الذين يستشهدون به لا عليه››

كذلك اعتمد صدر المتألهين على هذا المنحى التعريفي، وكما ذكر في رسالة (المشاعر)

بأن الوجود هو صرف مجرد من غير مشوبة حد أو نهاية أو نقص أو عموم أو خصوص، وهو المسمى بواجب الوجود،

فلو لم يكن مثل هذا الوجود موجوداً لما كان هناك شيء موجود، وبه لا يحتاج إلى الاستدلال على نفي التسلسل

. ،

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

أما الدليل الكوني

♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡

فهو ذاته دليل الحدوث كما صوره لايبتنز،
وهو دليل قائم على السببية الوجودية،

حيث الحادث دال على محدث كما سبق للكثير من الفلاسفة ان قالوا به.
وفحوى هذا الدليل هو انه يعتمد على وجود شيء ما لا على التعيين،
كوجودي أنا مثلاً، فإذا كان شيء ما موجوداً

فان ذلك سيفضي إلى وجود كائن ضروري ضرورة مطلقة،

اعتماداً على السببية وامتناع التسلسل.

وهو الدليل المسمى ببرهان الإمكان والوجوب،

وقد أشار إليه الفلاسفة واللاهوتيون ضمن الأدلة المختصة بالمسألة الإلهية،
ومن ذلك ما استعرضه القديس توما الاكويني في (الخلاصة اللاهوتية)،
حيث أحصى خمسة أدلة مختلفة من بينها هذا الدليل، ومثله الدليل الانطولوجي واللاهوتي الطبيعي

[13]. وسبق لإبن سينا ان حرر هذا الدليل في (النجاة) بالشكل التالي

: ‹‹إن ههنا وجوداً، وكل وجود إما واجب وإما ممكن، فإن كان واجباً فقد صح وجود الواجب وهو المطلوب، وإن كان ممكناً فإنا نوضح ان الممكن ينتهي بدوره إلى واجب الوجود..››[14].

وبنظر (كانت) ينطوي الدليل الكوني على الدليل الوجودي

، اذ يفترض كائناً يمتلك الواقع الأسمى، وهو المتصف بالضرورة المطلقة غير المشروطة، أي انه يحول الضرورة المطلقة مما هي ذاتية إلى وجود موضوعي،

فهذه الضرورة هي وجود مشتق من مفاهيم صرفة،
مطلقة، وهو مفهوم قبلي يستحيل اثبات ان له وجوداً موضوعياً.

اذ يقرر هذا الدليل القضية التالية: ‹‹كل كائن ضروري ضرورة مطلقة هو معاً أكثر الكائنات واقعية››[15].

فبحسب (كانت)

ان ‹‹مفهوم كائن ضروري ضرورة مطلقة هو مفهوم عقلي محض، أي مجرد فكرة

ما يزال واقعها الموضوعي بعيداً عن ان تدلل عليه مجرد حاجة العقل اليها، وهي لا تفعل سوى ان تحيلنا إلى كمال ›

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

يبقى الدليل اللاهوتي،

♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡

وهو ذاته دليل النظام والعناية أو الغائية،

ويتصف بأنه ينطلق من التجارب المتعينة

ومن القوام الخاص لعالمنا الحسي،

ومن ثم يرتفع

– كالدليل الكوني

  • عبر قوانين السببية إلى العلة الأسمى خارج العالم.

وقد احترم (كانت) هذا الدليل

لكنه عرّضه كغيره من الأدلة للنقد
.
شكلان مختلفان للنقد
لقد اتخذ نقد (كانت) للأدلة السابقة

شكلين مختلفين،

أحدهما اختص

بالدليل الوجودي

فيما تعلق الثاني

بالأدلة عموماً.

فهو من جانب اعترض على القفزة غير المشروعة

لفكرة الإله

من التصور الذاتي إلى الوجود الخارجي،

كالتي امتازت بها صياغة ديكارت الانطولوجية.

لكنه من جانب ثان

اعتبر سائر الأدلة تخفي العناصر الذاتية لفكرة الكائن الأسمى الضروري

، لذا اتهمها بأنها تعمل على اسقاط العناصر الذاتية على الوجود الموضوعي

ومن ثم فان هذه الأدلة لا تختلف عن الدليل الوجودي

في كونها تحمل ذات المضمون القبلي المتعلق بفكرة الكائن الأسمى.
.
.
. فالعقل لا يمتلك صفة الاستكشاف الموضوعي،

بل كل ما يمكن فعله هو الربط والتنظيم.

. وعليه رأى ان من المسموح به ان نسلّم بوجود هذا الكائن كعلة أولى للمسببات الممكنة

؛ بغية اشباع رغبة العقل في ان يعثر على وحدة لمبادئ التفسير التي يبحث عنها.

.
وبلا شك ان المبادئ التنظيمية الصرفة للعقل البشري كما صورها (كانت)

تكفي لاغلاق الباب على كل الأدلة المتعلقة

بالمسألة الإلهية وما شكالها

من المسائل الميتافيزيقية الأخرى،

وذلك من دون حاجة للتفاصيل التي أبرزها هذا الفيلسوف بلا طائل

. فقد يكفي اعتبار كل الأدلة لا تجاوز الدليل الواحد

، وهو الدليل الذاتي الصرف

،. فالمبادئ التنظيمية في العقل بحسب (كانت) ليست مخولة للكشف عن الواقع الموضوعي.

ولكي يجد لفلسفته المغلقة مبرراً مستساغاً حاول ان يثبت بأن خلافها يفضي إلى التناقض الصريح.

فقد ذكر بأن الحدوث والضرورة المطلقة غير المشروطة كلاهما يشكلان مبدأين رابطين للعقل

، لكنهما غير مهيئين لتحويل الافكار غير الحسية إلى قضايا وجودية،

فاحدهما يناقض الآخر،

لذا اعتبرهما فكرتين ذاتيتين فحسب.

فلو تعلقا بالأشياء لكان هناك تناقض صارخ، فاحدهما يدعو إلى التوقف عند حد نهائي مطلق غير مشروط، فيما يدعو الآخر إلى الاستمرار في الحدوث المشروط بلا توقف.

وبعبارة ثانية

، ان أحدهما يدعو العقل

إلى ان يدفعنا إلى البحث عن شيء ضروري لما هو معطى بوصفه موجوداً دون الاستمرار بلا حد نهائي.

أما الآخر فعلى العكس

يمنعنا ان نتوقف عند حد معين غير مشروط.

فهذا التناقض يحتم عليهما ان يكونا صالحين للتنظيم فحسب،
فهما لا يتعلقان بالأشياء، بل بالغرض الصوري للعقل فحسب،

طالما ان أحدهما يدعو إلى شيء والآخر إلى نقيضه[18].

وهو ما يعني ان من المستحيل اثبات الضرورة المطلقة غير المشروطة في الوجود.

.

ومن وجهة نظر (كانت) فان العقل لا يحتضن سوى فكرتين فحسب
.

يبقى ان الإشكال الأساس المنسجم مع اطروحة (كانت) هو انه اعتبر الأدلة المتعلقة بقضايا اثبات خالق حكيم قادر
؛ هي خارجة عن سياق حقل التجربة الممكنة، وبالتالي فمن المستحيل اثباتها.
ومن ذلك انه لم يسوّغ الاعتماد على مبدأ السببية لاثبات الخالق، ومما قاله بهذا الصدد:

أنا لست بحاجة إلى الانتقال إلى التأمل النظري كي أتأكد من حقيقة النظام والغائية في الطبيعة، وانما بحاجة إلى ان افسرها

بافتراض إلوهية كعلة لها.
لكن ربما الاستدلال الذي ينطلق من نتيجة إلى سبب محدد بدرجة من الكمال هو دائماً استدلال غير اكيد ومتعسر( )

وقدعلل لماذا الاستدلال من نتيجة إلى سبب يعتبر ناقصاً في الكشف عن وجود الله؟

فمن وجهة نظره انه لا يجوز الانتقال مما هو موجود إلى ما هو مختلف عنه
، فالموجود مشروط والخالق غير مشروط ( )

. فعلاقة السببية العامة باثبات الخالق مشروطة بالتجربة،

وبالتالي لا يمكن اثباته لخروجه عن مجال الأخيرة.
وأكد بأنه لا يمكن ان يأتي يوم يتم فيه العثور على دليل على وجود الله، لنفس السبب المذكور،

وهو انه خارج نطاق التجربة الممكنة، أو انه لا صلة له بموضوعاتها ( )).

.
لذلك استعان بالقوانين الأخلاقية لاثبات المبدأ المطروح، فهو على خلاف الفلاسفة

اعتبر حجر زاوية اثبات هذا المبدأ قائماً على القضية الأخلاقية
لا الوجودية،
فيما الفلاسفة كانوا يعتبرون الدليل الوجودي هو ما يحدد القضية الأخلاقية، لقيام الأخيرة عليه ( ).

وتجدر الاشارة إلى انه سبق لهذا الفيلسوف ان كتب بحثاً قبل النقد عام 1763 بعنوان

(الأساس الممكن الوحيد للبرهنة على وجود الله)،

ذكر فيه أربعة أدلة،

لكنه تقبّل منها واحداً فقط هو برهان الممكن والواجب

، حيث الموجود إما أن يكون ممكناً أو واجباً ضرورياً،

فإن كان ممكناً فانه سيحتاج إلى الواجب ( )

كما ان له بحثاً آخر بعنوان (التاريخ الطبيعي العام)

رأى فيه ان هناك شواهد كافية تثبت اعتماد المادة وقوانينها الباطنة على الله،

أي لا بد ان تكون هناك علة أصلية تمثل عقلاً كلياً أسمى هي التي وضعت طبائع الأشياء لتحقيق اغراض مشتركة

.
مع هذا فانه شعر فيما بعد بالفشل في العثور على دليل يثبت وجود الله،

وهو ما دفعه إلى كتابة

(نقد العقل المحض) لرسم طبيعة وحدود المعرفة البشرية، وقد جاء ذلك بتوجيه غير مباشر لعدد من الفلاسفة أبرزهم ديفيد هيوم.

.
وأ ؟.
من جهة ثانية، رأى هذا الفيلسوف ان الدليل المشار إليه يترك مسألة ما اذا كانت علة العالم (الله) ذات ضرورة طبيعية أم تتصف بالحرية؟

مؤكداً بأن هذه المسألة غير محسومة ( ) . .

فالطبيعة هي مسرح ‹‹من التنوع والنظام والغائية والجمال إلى درجة كبيرة. وكل لسان يعجز عن التعبير امام هذا العدد من العجائب وهذه الضخامة. فنحن نرى في كل مكان سلسلة من المسببات والأسباب والغايات والوسائل من الانتظام في ما ينشأ وما يفنى..››.

كما أشار إلى ان

‹‹هذا الدليل يستحق ان يذكر دائماً باحترام،

فهو الأقدم والاوضح والانسب للعقل البشري العامي››

. لكنه مع هذا لم يعتبره كافياً لاثبات وجود الكائن الأسمى،

بل رآه مرغماً للاستعانة بالدليل الوجودي الديكارتي.

فرغم انه أبدى اعجابه بعظمة حكمة الخالق وقدرته

وفي الدليل اللاهوتي،

إلا انه اعترض على ما اعتقده اللاهوتيون حول حدوث العالم،

ولعله قصد مادة العالم أو جوهره

وفق الدليل الكوني ، وان هذا الأخير يضمر الدليل الوجودي ، حيث نرتفع من تعيين هذا الكائن بتضمنه لكل الكمال

. لذلك رأى بأن الدليل اللاهوتي متوقف في نصف مشروعه ليقفز من ضيقه إلى الدليل الكوني الذي يضمر الدليل االوجودي

ما يعني ان مشكلة الدليل اللاهوتي

تعود إلى كونه يفترض الكمال التام للكائن الضروري مثلما يفترض الحاجة إلى علة أولى غير مشروطة.

ويبدي فيلسوف التنوير أحياناً انه لم يتمكن من نفي كامل الحجة اللاهوتية حول نظام الطبيعة

، فقد اذعن لاثبات صانع الصور دون إمكانية اثبات خلق مادة العالم وفق تلك الحجة.

فاعتراضه على هذا الدليل هو لكونه لا يقدم شيئاً لاثبات حدوث المادة أو خلق الجوهر،

لكنه تقبل صنع الحوادث كصور غائية للمادة

. واعترف بأن الدليل يمكن

‹‹ان يثبت على الأكثر مهندساً للعالم سيظل دائماً محدوداً باستعدادات المادة التي يشتغل بها، لا خالقاً للعالم يخضع كل شيء لفكرته. وهيهات ان يكفي ذلك للمقصد الكبير الذي نصبوا إليه والذي هو التدليل على كائن اصلي كاف لكل شيء››

م
من جانب آخر تقبّل (كانت) فكرة التخمين حول مسألة وجود الله كما اوردها مؤخراً في (نقد العقل العملي).

ولأول وهلة قد تبدو هذه الفكرة بأنها تطور لافت، فكما قال

: ‹‹على الرغم من كل الجهود التي يبذلها عقلنا، لا نحصل على أكثر من نظرة قاتمة جداً ومريبة إلى المستقبل، وان حاكم العالم يتيح لنا التخمين فقط بخصوص وجوده وجلاله، من دون ان نبصره أو نبرهن عنه بوضوح، وان القانون الأخلاقي فينا بالمقابل يوجب علينا احتراماً منزهاً عن كل منفعة››. لذلك فهو وحده الذي يتيح لنا القاء نظرات ولو باهتة على علم خارج نطاق المحسوس ( )

.
والعجيب ان دهشة (كانت) وتعظيمه لعجائب النظام الكوني لم تحرّك فيه السؤال الملح:

من أين أتى ذلك وكيف؟

والشيء ذاته يتعلق بالنظام الأخلاقي. فهو معجب بهما غاية الاعجاب
، وله عبارة رائعة تشير إلى هذا المعنى، اذ يقول:

‹‹شيئان يملآن الوجدان باعجاب واجلال، يتجددان ويزدادان على الدوام كلما أمعن الفكر والتأمل فيهما: السماء ذات النجوم من فوقي، والقانون الأخلاقي في داخلي›› ( )

.

لقد يأس (كانت) من العقل النظري في اثبات وجود الله،

ما اضطره إلى اللجوء إلى العقل العملي الأخلاقي

. فقد اعتبر ان بين عوالم الأخلاق والطبيعة والله انسجاماً واضحاً،
وهو ان الغايات السامية تتمثل بالأخلاق. وبحسب العقل العملي الأخلاقي

فان هناك ضرورة لافتراض وجود الله،

وان قانون الأخلاق المقدس هو وصايا إلهية لكوننا ملزمين بها من الداخل ( )

. هكذا انه افترض وجود الله من خلال العقل الأخلاقي،

أي من خلال إمكانية الخير الأسمى في العالم،

وعلى حد قوله: ان ‹‹من الضروري أخلاقياً ان نقر بوجود الله›› ( ٤٠ )

أو بتعبير آخر ان هناك مصلحة حرة للعقل العملي المحض في قرار القبول بصانع حكيم للعالم،

وهو مبدأ ذاتي بصفته حاجة[41].

وكما قال:

‹‹يستطيع الانسان قويم الخلق ان يقول بحق: انني اريد ان يوجد إله

، وان يكون وجودي في هذا العالم، ايضاً خارج الرباط الطبيعي،

وجوداً في عالم معقول محض،

وأخيراً ان يكون دوام وجودي لا متناهياً،

اني اتمسك بهذا من دون ان اعير أي اهتمام للسفسطات..

واني لن ادع احداً ينزع مني هذا الاعتقاد،

لأنها هذه هي الحالة الوحيدة التي تكون فيها مصلحتي››[42].

بهذا لا يخفي (كانت) حاجة العقل العملي إلى مصادرات،

مثل حاجة العقل النظري إلى افتراضات

، فقد عبر في البداية عن الحالة الأخيرة قائلاً: ارتقي ‹‹من المستنبط صعوداً نحو الاعلى في سلسلة المبادئ بالقدر الذي اريده.. كي ارضي بشكل كامل عقلي الباحث في هذه الأمور››..
أما الحاجة إلى العقل العملي فهي

‹‹مؤسسة على واجب ان يجعل من شيء ما (أي الخير الأسمى)

موضوع إرادتي لكي اقوم بكل ما بوسعي لأحققه››.

لذا يجب عليّ افتراض إمكانية الشروط لذلك، أي افتراض الله والحرية والخلود. ويقيني في هذا مستمد من القانون الأخلاقي، حيث انني اريد ان يوجد إله[43].

هذه هي الفائدة التي جناها فيلسوف بروسيا بعد شكّه المطبق وتعليقه للحكم،
التنوير (كانت)[44].

ومن الناحية الابستيمية رأى انه اذا لم تتخذ القوانين الأخلاقية كأساس

؛ فان من المحال ان تكون هناك الهيات للعقل.

ومعلوم ان الالهيات الطبيعية تتضمن ازدواجاً من السببية الضرورية والحرية.

وعليه استدل بأن هناك نظامين طبيعي وأخلاقي

، حيث يرتفع الاستدلال من قوام ونظام ووحدة العالم ليتجه إلى العقل الأسمى

؛ بوصفه مبدءاً لكل نظام وكمال طبيعيين كانا أم خلقيين. وتسمى في الحالة الأولى الهيات طبيعية، وفي الثانية الهيات أخلاقية
هكذا ان الالهيات الأخلاقية هي اقتناع بوجود كائن أسمى مؤسس على قوانين خلقية،

وان مفهوم العقل الأسمى مشتق من طبيعة انفسنا

( )
وهذا التحليل هو أقرب المعاني للنظرة الكلامية القائلة بنظرية الحسن والقبح العقليين

كما التزمت بها العديد من المدارس الدينية، كالمعتزلة مثلاً، فمفهوم الله ينتمي إلى الأخلاق لا الفيزياء أو العقل النظري،

والشيء نفسه يقال حول مفاهيم الخلود وحرية العلية كمصادرات للعقل العملي. وهذا ما أشار إليه (كانت) مراراً في (نقد العقل العملي) ( )،

لكنه في (نقد العقل المحض)

اعتبر هذه الموضوعات الثلاثة تارة تمثل غرض العقل الترسندالي، وأخرى غاية الميتافيزيقا

، من دون ان يزيد عليها موضوع رابع ،( )

.
فمن منطلق اعتبار الغايات،

دلل (كانت) على حياة النفس بعد الموت؛ طالما ان للطبيعة وحدتها الغائية كمصادرة أخلاقية عملية ( ).

فمن حيث الأساس اعتقد بأنه من المحال ان يكون الخير الأسمى ممكناً عملياً إلا بافتراض خلود النفس ( ).

إن أهمية الاعتقاد بالله والوعد والوعيد بالنسبة إلى الأخلاق، وعلاقة ذلك بالخير الأسمى، هو ما يجعل المرء جديراً بالسعادة. والامل هو الذي يهتم بهذه السعادة عبر جمعه بين العقلين النظري والعملي ( ).

وهو يعتبر ان اثبات الحرية

شرطاً ضرورياً للأخلاق،

فمفهوم الحرية يشكل حجر الغَلَق ف

ي بناء منظومة العقل المحض بكامله

ا حتى النظري وكافة المفاهيم الأخرى،

وهي الله والخلود.

وسبق لباركلي

ان اعتبر بأن القانون الأخلاقي محكوم بمبدأين هما حرية الانسان ووجود الله[ ).

وقبل ذلك رأى الفيلسوف الحسي جون لوك

بأن الأخلاق تتأسس على وجود الله، لهذا فانه وإن تسامح مع اختلاف الطوائف والاديان فانه لم يتسامح مع الملحدين[54]

. ومثل ذلك ما ذهب إليه روسو

في علاقة الأخلاق بوجود الله

، وقد كان له تأثير بارز على الأخلاق الكانتية،

وقيل انه من علّم (كانت) احترام قيمة كل انسان من حيث انه غاية في ذاته[55]

. في حين نجد نظرية أخرى مختلفة ترى القضية الأخلاقية مستقلة تماماً عن المسألة الإلهية،

وهي الدعامة الأساسية للأخلاق العلمانية،

كالتي طرحها الفيلسوف الفرنسي بيير بيل خلال القرن السابع عشر الميلادي

، وبحسبه ان لدينا معرفة طبيعية يقينية بثلاثة مبادئ اجتماعية، وهي: ان نحيا حياة شريفة، وان لا نؤذي احداً، وان نعطي لكل انسان حقه ( )

وتقف نظرية (كانت)

موقفاً وسطاً بين النظريتين السابقتين،

فهي لا تعتبر القانون الأخلاقي مستقلاً عن المسألة الإلهية،

كذلك فانها لا تعتبر من جانب آخر فكرة الله ومثلها الخلود شرطاً للقانون الأخلاقي

. فالمهم لدى هذا المفكر هو مفهوم الحرية،

حيث ان به يكون لبقية المفاهيم قوام وحقيقة موضوعية، لأن إمكانيتها قد حازت على برهان بحسب العقل العملي

بأن الحرية حقيقية، وتتجلى هذه الفكرة عبر القانون الأخلاقي.

وهي وان لم ندركها لكنها شرط هذا القانون كما نعرفه

إن الأخلاق هي قانون قبلي ذات صلة بالسعادة،

وان ضرورة الله وعالم الاخرة هي لحوافز الفعل الأخلاقي.

وان الأخلاق هي كالرياضيات لا تخضع للرأي بل للعلم. فكلاهما يقينان

م.

نقد العقل المحض، ص312 و296 و316.

[4] الله كبرهان على وجود الله، ص65 وما بعدها.

[7] رينيه ديكارت: تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ترجمة كمال الحاج، منشورات عويدات، بيروت، الطبعة الرابعة، 1988م، التأمل الثالث، فقرة 22ـ25، عن م

[11] ابن سينا: الاشارات والتنبيهات، طبعة دار المعارف، القسمان الثالث والرابع، ص482-483.

[12] لاحظ: صدر المتألهين: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، مصدر سابق، ج6، ص14ـ15. وأسرار الآيات، مقدمة وتصحيح محمد خواجوي، انتشارات انجمن اسلامي حكمت وفلسفه ايران، 1402هـ، ص26ـ27.

ر م (توما الاكويني: الخلاصة اللاهوتية، ترجمة الخوري بولس عواد، دار صادر، بيروت، ج1، ص32ـ34، عن مكتبة ال
[20] ابن رشد: تهافت التهافت، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ص56ـ57.
[.

[29] يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة، ص ٢١١

[35] نقد العقل العملي، ص٦٩ ٢ و ٢٤٩ ٢٤٢

الفيلسوف إبن رشد : الفلسفة طريق النجاة

حين ترحل الفلسفة، أو تُنفى، يتبعها العقلُ تلقائياً، مثلما تغيب الشمسُ فيلحقها النورُ والظل ويغرق هذا الجزء من الكرة الأرضية أو ذاك في الظلام. ومن دون تدبير وتخطيط تقيم الخرافاتُ والأساطير، وتستعيد مجدها مخلفاتُ العصور البدائية؛ السحر والتعاويذ والتمائم، وتستوطن وتمدّ جذورها. هذا هو ما حدث منذ عهد تكاد تنساه ذاكرة الثقافة العربية على رغم أنها تعيش تبعاته حتى هذه اللحظة. ولكن، مثلما أن غياب الشمس عن نصف الكرة يعني إشراقها على النصف الآخر، ولا يعني أنها ستنطفئ أو تغرق في البحر، كذلك هو رحيل الفلسفة والعقل؛ حيث يرحلان عن بلاد ليشرقا في بلاد أخرى.
رمز هذا الحدث الإنساني/ الطبيعي، كما يروي الناقد المعاصر عبد الفتاح كيليطو، كان ترحيل جثمان الفيلسوف أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد (1126م 1198م) من أرض منفاه إلى الأندلس أرض مولده.
وضع من أشرفوا على الترحيل، جثمان ابن رشد في خرج على جانب من جوانب الدابة التي حملته، وكدسوا في خرج على الجانب الآخر مجموعة من تصانيفه وكتبه المشهورة، التي ستبدأ رحلتها إلى الغرب اللاتيني، أو ستواصل حياتها ومعها ابن رشد، مثلما واصل قبل ذلك ابن سينا صاحب كتاب «الشفاء» الطبي حياته سنوات عديدة بعد وفاته، أي حين ظل كتابه أداة لعلاج وشفاء المرضى، كما يرى الكاتب الأوروغوائي إدواردو غاليانو (1940م- 2015).
ويرى الكاتب العربي، كيليطو، في هذا الترحيل، بمعناه الجسدي/‏ الرمزي، ترحيلاً لنهج في التوفيق بين الفلسفة (الحكمة) والشريعة في أحد جوانبه، وهي القضية التي اكتسبت في تاريخ الفكر العربي/‏ الإسلامي صدارة غير مسبوقة، فمن قائل إنها محاولة «تلفيق»، ومن قائل إنها محاولة «توفيق»، ومن رافض للمحاولتين، قديماً وحديثاً، وحامل حملة شعواء على القائلين بهما.
في جانب آخر، يعني ترحيل هذا الفيلسوف الذي كان قد أبعد عن قرطبة قسراً، ولوحقت كتبه وتعرضت للحرق؛ بسبب تهم ملفقة وجهها إليه ندماء بلاط الموحدي أبي يعقوب يوسف في قرطبة، ترحيلاً لصاحب البرهان العقلي، أو شارح منطق أرسطو، والمدافع عن آرائه بلا انحراف. أو بكلمة مختصرة، ترحيلاً للحكمة العليا ومنح إقامة دائمة للحكمة الجدلية والخطابية والمغالطية، أي كل ما يكاد يصبح من أساسيات تفكير العربي منذ غياب شمس حضارته حتى الزمن الراهن، وهو ما بدأت أوروبا اللاتينية بإلقائه جانباً حين تعرفت إلى ابن رشد، ومنجزات الحضارة التي أنتجته، وعن طريقه تعرفت إلى أرسطو وأثينا في عصر نهضتها خلال القرن الخامس عشر وما تلاه.
لم يكن ابن رشد حين رحّله قومه جسداً وروحاً، واحتفى به الأوربيون، توفيقياً إذاً، بقدر ما كان أرسطياً، أي أنهم أخذوا الجانب الجوهري في فلسفته، وسيكون على العرب الذي عادوا وتعرفوا إليه في القرن العشرين، أخذ جانب آخر؛ منهجه، المنهج الخاص بواحدة من المعضلات التي لم تجد لها أي حل إلا في الثقافة العربية/‏ الإسلامية كما يقول د.محمد عمارة، في إشارة إلى كتابه الصغير «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال».


في هذا الكتاب الصغير استهدف ابن رشد الإجابة عن أسئلة حساسة، مثل هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح شرعاً، أم محظور؟ أو هو مأمورٌ به؟ وبهذا المعنى تناول غرضاً استدعته ظروف القرن الثاني عشر الميلادي في الأندلس. وبسبب مجرد التفكير في إيجاد أجوبة تنسجم مع العقل والتطور المعرفي، تم إبعاد ابن رشد عن قرطبة مع عدد من العلماء والفلاسفة في البداية، قبل أن ينفى إلى المغرب؛ حيث أحرقت كتبه وسائر كتب الفلسفة، وحظر النظر فيها من قبل الجمهور وطالبي العلم على حد سواء.
ويبدو أن محاولة الفيلسوف في كتابه «فصل المقال..» جعلته هدفاً للمتعيشين في بلاط الموحدين الذين لفقوا له تهم الكفر والإلحاد، ولحقهم العوام، تماماً مثلما حدث قبل ذلك في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) مع الفيلسوف أبو الحسن العامري (913م- 992م) في المشرق. فعد أعداء التفكير العقلاني محاولته، ومحاولات من سبقه، في التوفيق بين الفلسفة والشريعة، تحايلاً هدفه هدم سلطة الشريعة. ويذكر أبو حيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» (922-1023) أن العامري «ظل مطروداً من صقع إلى صقع، ينذر دمه، ويترصد قتله، فمرة يتحصن بفناء ابن العميد، ومرة يلجأ إلى صاحب الجيش في نيسابور، ومرة يتقرب إلى العامة بكتب يصنفها في نصرة الإسلام».
هل كان ابن رشد متقرباً من العامة؟ وهل كانت محاولته في كتابه نشداناً للسلامة؟
إذا تركنا جانباً هذا الوصف الذي وصف به التوحيدي حالة العامري، وعممه على كل الفلاسفة والمتحدثين حديث المناطقة، نجد أن كتاب ابن رشد كان تعبيراً عن منحى فكري جاد، يبدأه بمحاكمة عقلية. فعل الفلسفة لديه ليس أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع. الموجودات كما يرى تدل على الصانع بمعرفة صنعتها. وكلما كانت هذه المعرفة أتم، كانت المعرفة بالصانع أتم.
ويضيف دليلاً آخر، فالشرع ندب إلى اعتبار الموجودات، وحث على ذلك، ودعا إلى اعتبارها بالعقل، مستشهداً بآيات من القرآن الكريم، ليتوصل إلى أن الاعتبار ليس شيئاً أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه. وهذا هو القياس. وعلينا أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي، وأتم أنواعه البرهان.
ومن هذه المقدمة، يتدرج ابن رشد إلى القول إن «المعرفة العقلية ضرورية شرعاً» ويتلو ذلك «أن المعرفة الأكمل تتم عن طريق البرهان»، ليصل إلى استنتاج أن معرفة البرهان وقياساته وأنواعه ضرورية.

  • *

وبالوصول إلى هذه النتيجة، يعرفنا بأنواع القياسات، وهي القياس البرهاني، والقياس الجدلي، والقياس الخطابي، والقياس المغالطي. ولا يمكن معرفة الاختلاف بين هذه القياسات، ولا الأخذ بالقياس الصحيح وطرح القياس الفاسد، إلا بعد معرفة القياس المطلق وأنواعه، وما هو صالح كقياس وما هو غير صالح. أي أنه يصل من مقدماته إلى نتيجة واضحة هي ضرورة المنطق، أو الفلسفة بعمومها، الذي هو عدة الشغل بأبسط معنى.
ستعني هذه النتيجة عدة أشياء في وقت واحد معاً: تكامل المعرفة بين متقدم ومتأخر بالمفهوم الشائع، أي أن المعرفة تراكمية، وأن استخدام الأداة البرهانية (القياس البرهاني) تعني براءة المعرفة من أي انحياز أيديولوجي، كما قد يقول قائل اليوم، وأخيراً، إذا كان غيرنا قد بحث في هذا الأمر، فمن الواضح أنه يجب أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك.
هنا تتجلى نظرة ابن رشد الإنسانية، ونزعته المعرفية الخالصة، حين يعد البحث في الحكمة (الفلسفة) تراثاً مشتركاً بين الأمم والديانات.
ويرى أن شرط الأخذ بآلة من الآلات صحّتها بذاتها، لا بصاحبها أو قومها.
وكون غيرنا يشاركنا في الملة أو غير مشارك لا أهمية له إذا توفرت في الآلة شروط الصحة. يقول حرفياً «أعني بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام.. وينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم فننظر فيما قالوه، فإن كان كله صواباً قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا إليه».
في سياق نهجه هذا ينبه ابن رشد إلى واقع تطور المعارف والعلوم، تلك التي يقول إن المتأخر يستعين بالمتقدم في فحصها، على مثال ما يعرض في علوم التعاليم (الرياضيات)، لأن إنساناً واحداً لا يستطيع اختراع المعرفة دفعة واحدة، حتى لو كان أذكى الناس، وهذا الأمر واضح، ليس في الصنائع العلمية فقط؛ بل وفي الصنائع العملية.
بعد كل هذا، والأوضح من كل هذا، أننا بحاجة إلى استعادة منهج ابن رشد، ذاك الذي، في ظل الظلام السائد، يتقدم علينا سنوات طويلة. وسيعني هذا استعادة الفلسفة التي وضعت في خرج ورُحلت، وسيعني، وهذا هو الهدف، استعادة العقل الذي انحسر ظله وذهب معها.

ملاكي وحبيبتي الغالية التي كانت تضيء دنيتي تركت هذا العالم البائس وظلمته لتلتحق بجوار ربها…يونس نظيف

أجد نفسي مضطراً لكتابة هذه الكلمات إبراءً للذمة وبدافع الواجب تجاه أبناء وبنات هذا الوطن.
دخلَت أمي رحمة الله عليها المستشفى – مولاي يوسف بالدار البيضاء – الشهر المنصرم، قضت فيه 13 يوماً، في الأيام الأربعة الأخيرة ساءت حالتها جداً وقررنا حينها أن أشاركها غرفتها لأعتني بها (ليتنا علمنا بهذا قبلاً لدخل أحدنا عندها منذ أول يوم وضعت فيه رجلها في ذلك الجحيم).
دخلتُ عندها بعد عصر الاثنين رغم أنني كنت حاضراً مع أخي منذ الثامنة والنصف صباحاً أمام المستشفى… ثم دخلت، لا أريد الحديث عما حصل حينها.
أخبرتني أنها لم تأكل شيئاً منذ 4 أيام، وأنها كانت تعيش فقط على الماء، حتى قنينات الماء لم تجد من يفتحها لها، أو بالأحرى لم يرد أحد ذلك رغم طلبها، فكانت غالباً تفتحها بأسنانها.
كانت عاملات النظافة يأتين بالأكل صباحاً، يضعنه في مكان ليس بقريب من أمي، مكان لم تقدر على الوصول إليه، ثم يرجعن عند الـ 2 زوالاً، يضعن الغذاء في نفس المكان ويخرجن رغم نداء أمي، يعدن في المساء ويقمن بنفس العملية ويخرجن متجاهلين نداء أمي، ثم في الصباح يأتين على الساعة السابعة للتنظيف، يجدن الأكل كما هو لم يُفتح، يرمينه ولا يبالين بشيء كأنهن آلات.
ظلت أمي هكذا بلا أكل 4 أيام!
أين الأطباء والممرضات من هذا؟ لا أعلم.
الغريب أن إحدى الممرضات أخبرتني أن أمي ضعفت مقارنة بأول يوم دخلت فيه المستشفى، عجيب! ولم تُحركوا ساكناً؟
الممرضات تدخلن 3 مرات في اليوم، صباحاً، زوالاً وقبيل منتصف الليل، يفعلون شيئاً واحداً لا غير، قياس نسبة الأوكسيجين ومعدل ضربات القلب والسكر، إعطاء حقن للمريض، والخروج.
مجرد آلات مبرمجة على فعل معين كل فترة من الزمن خلال اليوم، لا أقل ولا أكثر.
الأطباء بدورهم مجرد آلات، غير أنهم يقضون يومهم على مكاتبهم ولا يزورون المرضى إلا مرات معدودة في الأسبوع.

أغلب المرضى لا يستطيعون التنفس بدون أقنعة الأوكسيجين التي تحتاج من يراقبها كل 3 ساعات لملئها بالماء، طبعاً عندما ينتهي الماء يظل المرضى كذلك حتى تدخل الآلات مجدداً للقيام بعملها المُبرمَج.

بعد أيام قليلة دخل رجل له قرابة بطبيبة من الطاقم – فيما وصلني -، وفي مسائه جاءت الممرضات على غير عادتهن هذه المرة، لم يأتين محملات بالأدوية بل بالأكل – والتي هي في الأساس وظيفة عاملات النظافة -، وزعن الأكل على الغرف، ودخلن تحديداً لغرفة ذلك الرجل ليطعمنه بأيديهن، هذا لم يخبرني به أحد بل شاهدته.

فيما حدث أيضاً، على الساعة الخامسة والنصف صباحاً، استيقظت لأملأ قنينة الماء المرتبطة بقناع الأوكسيجين ولتشرب أمي، سمعتُ أحدهم يصرخ: “عتقو الروح”، غرفته كانت بعيدة عنا وقريبة من الممرضات، سمعته ولم يسمعنه!!!
خرجت من غرفة أمي لأرى ما يحدث، المكان فارغ، لا أحد مبالٍ بما يحدث، في طريقي إلى الطاقم الطبي خرج رجل من الغرفة المقابلة لنا ليخبرني أن مريضاً معه انتهت قنينة الماء وأنه توفي.
بعد طرقي للباب بمدة، أخبرتهم بما يجري وعدت إلى غرفة أمي.
سألتني رحمها الله أين كنت، فقلت لها إن رجلاً كان يصرخ فذهبتُ إلى الممرضات (ولم أخبرها بالرجل الذي توفي رحمه الله)، ردت رحمها الله: “ما تمشيش، ديك النهار مرضت بزاف مشات فلانة عيطت لهم جاو بقاو يخاصمو عليها وقالو لها ما تبقايش تعيطي علينا ودگو ليها برا”.
كلمات أمي هذه كانت تعبيراً عن خوفها أن يطردوني فتبقى وحدها.
وكانت دائماً تعبر عن هذا الخوف إذا قلت لها سأذهب لأناديهم عندما تشعر بتعب ما، تصبر على تعبها وتطلب ألا أذهب، لكني كنت أذهب على كل حال.
مما أخبرتني به، أن رجلاً كان معها في المستعجلات (أول يوم دخلت مولاي يوسف) توفي، فجاء رجلان، قال أحدهما للآخر بكلمات أمي: “حيد عليا هاد البوگليب”، طبعاً قال كلمة قبيحة لكن كعادة أمي رحمها الله تعوضها بـ”البوگليب” .
مما أتذكره، أنها قالت لي: “كون ما جيتيش كون مت”، وهذه الكلمات لها دلالة قوية جداً، فأمي رُزِقت صبراً لم أرى له مثيلاً أبداً، وإذا قالت هذه الكلمات فهذا يعني أن الوضع جد كارثي.

ثم قبل أسبوع، تدهورت صحة أمي وكانت في حاجة للإنعاش، طاف إخوتي حينها بالدار البيضاء كلها لم يجدوا مكاناً، كذلك بعض الأحبة بالرباط، كنا حينها نجهل أن أسرة الإنعاش بمولاي يوسف للبيع، نعم، للبيع وليست بالمجان.

والحديث يطول جداً في هذا الموضوع، لستُ أعمم، فقد كان بعض الممرضين/الممرضات وطبيبة في قمة الطيبة، لكن 99٪ مجرد آلات حاشا لله أن يكونوا إنساناً.

ملاكي وحبيبتي الغالية التي كانت تضيء دنيتي تركت هذا العالم البائس وظلمته لتلتحق بجوار ربها…

تقبلك الله يا أمي من الشهداء، كنت في مرضك صابرة محتسبة كما عهدتك، كنت كأنك الصلاح يمشي على الأرض، حزت رضى والديك، وأبي، وأولادك، وإخوتك الذين اعتبروك أماً لهم، ورضى كل من قابلك يا أمي… سامحينا يا أمي على تقصيرنا في حقك فمهما فعلنا لم نكن قط لنوفيك حقك، ولن نفعل أبداً مهما فعلنا.
يوم دخلتُ المستشفى عندها، وهي طريحة الفراش، ونسبة الأوكسيجين لا تتجاوز 70٪ وشبه مستيقظة بعد أن تُركت بلا أكل مدة 4 أيام – انتقم الله منهم – لم تفكر في نفسها بل ظلت تطلب من عاملات المستشفى أن يجلبن لي غطاء وأكلاً.
فكيف نوفيك حقك يا أمي وما هذا الذي ذكرت إلا حبة رمل في صحراء حنانك وعطائك وتضحياتك؟
رحمك الله يا غاليتي، فقد كنت لي ولإخوتي الأم المثالية، والأخت المثالية، والصاحب المثالي، والحبيبة المثالية وكل شيء يمكن أن يتمناه الإنسان في هذه الدنيا المظلمة، رحمك الله وجعل مثواك الجنة بغير حساب يا حبيبتي.
شكر الله لكل من اتصل ومعذرة ممن لم أستطع أخذ اتصاله.