مجزوءة الفاعلية والإبداع:ملخص دروس التقنية والعلم,الشغل,التبادل ,والفن

1-مادة الفلسفة

2-المستوى الأولى باكالوريا

3-دروس الأسدس الثاني

4-مجزوءة الفاعلية والإبداع

5-الموضوع التقنية والعلم

6-الأستاذ محمد بضاض

أولا مفهوم التقنية والعلم

إشكال المحور

  • ماهیة التقنیة ؟
  • ما الذي یجعل التقنیة خاصیة إنسانیة ؟
  • ما الفرق بین التقنیة عند الإنسان وتلك الموجودة عند الحیوانات ؟

تحلیل نص شبنغلر: مفهوم التقنیة

مؤلف النص

شبنغلر (1880 – 1936) فیلسوف ألماني اهتم بدراسة الحضارة في إطار فلسفة التاریخ. من كتبه ”انحطاط الغرب “ و “الإنسان و التقنیة”.

إشكال النص

  • ما التقنیة ؟
  • وما الفرق بین التقنیة عند الإنسان والتقنیة عند الحیوان؟
  • وبأي معنى یمكن اعتبار التقنیة خاصیة إنسانیة ؟

أطروحة النص

تعتبر التقنیة خاصیة إنسانیة مرتبطة بالوجود الإنساني منذ القدم. و إذا كنا نتحدث عن التقنیة عند الحیوان، فهي تظل مجرد خطة حیویّة للدفاع عن نفسه، كما أنها محكومة بمحددات غریزیة، بینما ترتبط التقنیة عند الإنسان بالعقل والفكر مما یجعلها خطة للحیاة، أي أنها استراتیجیة هادفة وموجهة للسلوك  البشري.

مفاهیم النص

خطة حیویة / خطة حیاة

خطة حیویةخطة حیاة
الغریزة
الهدف حیوي مرتبطة بالحفاظ على بقاء الجسم
الحیوان
الفكر / التأمل
الهدف هو تنظیم الوجود الإنساني
الإنسان

← التقنیة عند الحیوان مرتبطة بالغریزة فقط، فهي مجرد عملیات وسلوكات غریزیة یقوم بها الحیوان من أجل المحافظة على وجوده الطبیعي. أما عند الإنسان فالتقنیة ترتبط بالفكر والعقل، فهي تلك التأملات والمخططات والاستراتیجیات الفكریة التي تقف وراء السلوكات البشریة وترسم لها غایاتها.

التقنیة / اللآلة

یرى “شبنغلر“ أن هدف التقنیة لیس هو صنع الأدوات والآلات في حد ذاتها. كما یرى أنه لاینبغي فهم التقنیة من خلال وظیفة الأداة، بل ینبغي اعتبار  التقنیة خطة حیاة، أي أنها تلك الأهداف والمخططات والاستراتیجیات التي تقف وراصنع الآلات. وهذا یعني أن التقنیة هي فكر وسلوك هادف ولیست مجرد موضوعات أو آلات خارجیة.

حجاج النص

للدفاع عن أطروحته القائلة بأن التقنیة هي خطة حیاة، استخدم صاحب النص مجموعة من الأسالیب الحجاجیة ارتكزت على الدحض والإثبات والمقارنة.

أسلوب الدحض

المؤشرات اللغویة الدالة علیه:

  • علینا ألا ننطلق من …. ولا من المفهوم الخاطئ …
  • بل هي …
  • یظهر لنا الخطأ الثاني ….
  • لا نفهم التقنیة من خلال…
  • إن مایهم لیس هو … ولا … .
  • فما یهم لیس …
  • ولا انطلاقا من…

مضمونه: دحض صاحب النص تصورین اعتبرهما خاطئین للتقنیة، الأول یعتبر أن هدف التقنیة هو صنع الأدوات والآلات، والثاني یفهم التقنیة من خلال الوظائف التي تقوم بها الآلات وكیفیة استخدامها.

أسلوب الإثبات

المؤشرات اللغویة الدالة علیه:

  • إن التقنیة ترجع في الواقع إلى …
  • وإذا أردنا أن … فعلینا الانطلاق من…
  • إنها …
  • إن التقنیة هي …
  • إن كل آلة ….
  • كل وسائل نقلنا ولدت انطلاقا من …

مضمونه:

  • التقنیة تعود إلى أزمان غابرة .
  • دلالة التقنیة مرتبطة بالروح أو النفس ،وهي ما یجعلها بالمعنى الدقیق خاصیة إنسانیة.
  • التقنیة في مستواها الإنساني هي خطة حیاة، أي أنها تلك المخططات الفكریة والتأملات التي تسبق صنع الآلات.
  • التقنیة لیست أدوات وموضوعات، بل هي أفكار تحدد أهدافا مرسومة سلفا لتلك الأدوات والموضوعات.
  • كل آلة هي نتاج لسیرورة من التأملات التي تسبق وجودها وتحدد أهدافها مسبقاٌ.

أسلوب المقارنة

المقارنة بین نمط حیاة الحیوان ونمط حیاة النبات: الغرض من ذلك هو إثبات أن التقنیة تمیز حیاة الحیوان دون النبات، لأن الأول یفعل في الطبیعة ویمتلك استقلالا إزاءها. وهنا تظهر فاعلیة الحیوان، بینما لا یتمتع النبات بهذه الخاصیة.

المقارنة بین الإنسان والحیوان: الغرض منها هو تمییز التقنیة عند الإنسان عنها عند الحیوان، فهي عند الحیوان مجرد خطة حیویة، أي سلوكات غریزیة هدفها الحفاظ على بقاء النوع. أما عند الإنسان فتعتبر التقنیة خطة للحیاة، أي أنها مرتبطة بالفكر وقائمة على التأمل ورسم أهداف للسلوك البشري.

تحلیل نص مارتن هیدغر: ما التقنیة ؟

إشكال النص

أین تكمن ماهیة التقنیة ؟

أطروحة النص

لا تتحدد ماهیة التقنیة حسب هیدغر في اعتبارها أدوات وآلات ناتجة عن العلم وعن سیطرة الإنسان باعتباره سیدا على الطبیعة، بل إن ماهیة التقنیة تكمن في اعتبارها نمط وجود إنساني لم یعد الإنسان یتحكم فیه، بل أصبح خاضعا للفكر التقني الذي یسعى إلى الكشف عن أسرار الطبیعة واستخراج مواردها.

مفاهیم النص

  • التقنیة / العلم: العلم لا یؤسس التقنیة ،بل على العكس من ذلك إن جذوره توجد في جوهر التقنیة.
  • التقنیة / الإنسان: لم یعد الإنسان حسب هیدغر كائنا حرا صانعا للأدوات ومتحكما فیها ویسخرها لتحقیق غایاته. بل إن هذا البعد الغائي یختفي في التقنیة في صورتها المعاصرة، لیحل محله البعد الآلي الذي أصبحت معه للتقنیة منطقها الخاص الذي ینفلت من سیطرة الإنسان.
  • التقنیة / الحدوث/ الكون: الحدوث هو كشف ومساءلة للطبیعة من أجل استخراج طاقاتها ومكنوناتها اعتمادا على نوع من القسر والتحریض و الاستثارة.

حجاج النص

اعتمد هیدغر في عرض أطروحته على أسلوبي الإثبات والنفي:

أسلوب الإثبات

المؤشرات اللغویة الداة علیه:

  • إن تحدیدي لماهیة التقنیة هو…
  • إنني أرى أن… وأن أمرا… وأن هذه العلاقة…
  • أرى في ماهیة التقنیة…

أسلوب النفي

المؤشرات اللغویة الدالة علیه:

  • ولیس العكس…
  • لا مجال للحدیث عن…
  • لا یمكن أن یتم ذلك…

مضمون الأسلوبین

  • التقنیة هي التي تؤسس العلم ولیس العكس.
  • الإنسان لا یتحكم في التقنیة بل إنها تتجاوزه.
  • التقنیة هي كشف لأسرار الطبیعة وطاقاتها.
  • لا یدین هیدغر التقنیة ولا یرفضها، بل یرید فقط أن یعرف ماهیتها وحقیقتها.

ینفي هیدغر أن یتم فهم ماهیة التقنیة في إطار علاقة الذات بالموضوع، والذات هنا هي الإنسان والموضوع هو التقنیة. ومعنى النفي هنا هو أن التقنیة لا تتحدد من خلال سیطرة الإنسان على الآلات التقنیة وتسخیرها لغایات یرسمها بشكل حر، بل إن التقنیة انفلتت من مراقبة الإنسان، وأصبح لها مسارها ومنطقها الخاص الذي یتجلى في الكشف عن الطاقات الموجودة في الطبیعة بشكل تراكمي ولامحدود.

خلاصة عامة للمحور

یتعلق هذا المحور بإشكال رئیسي هو تحدید ماهیة التقنیة: فما هي التقنیة ؟ وبأي معنى یمكن اعتبارها خاصیة إنسانیة ؟

في إطار الإجابة عن هذا الإشكال تعرفنا على أطروحتین متكاملتین: الأولى لشبنغلر وفیها یعتبر أن التقنیة قدیمة، وأنها تمیز نمط حیاة الحیوان عن نمط حیاة النبات، إذ أن الأول یمارس فاعلیته على الطبیعة في حین أن الثاني یستسلم لقوانینها. غیر أن شبنغلر یمیز بین التقنیة عند الإنسان واعتبارها خطة للحیاة و ممارسة فكریة هادفة، بینما تظل التقنیة عند الحیوان مجرد خطة حیویة، أي نظام للسلوك مرتبط بمحددات غریزیة. أما الثانیة فهي لهیدغر الذي یلتقي مع شبنغلر في التأكید على أن التقنیة لیست مجرد أدوات أو آلات، بل هي ذلك الفكر الذي یرتبط بالعلم والذي أصبح یسیطر على الحیاة الإنسانیة، والذي یتمیز بسیرورة خاصة به هدفها الرئیسي هو استفزاز الطبیعة وتحریضها وإرغامها على البوح بأسرارها وطاقتها الخفیة.

المحور الثاني: التقنية والعلم
إشكال المحور
كيف تتحدد العلاقة بين العلم و التقنية ؟ و ما هي النتائج المترتبة عن هذه العلاقة على الحياة الإنسانية والطبيعية ؟
تحليل نص إدغار موران : التقنية-العلم كسيرورة
إشكال النص1-
ماهي علاقة التقنية بالعلم ؟
و ما علاقتهما بالمجتمع ؟
أطروحة النص2-
يبين إدغار موران أن التقنية و العلم و المجتمع يشكلون سيرورة دائرية، و أن بينهما علاقات متبادلة ومتداخلة. فالتجريب العلمي يؤدي إلى ابتكار آلات تقنية؛ و هذه الأخيرة تساهم بدورها في إجراء التجارب العلمية و تطويرها، و يرتبط كل هذا بالمصالح الإقتصادية و السياسية للمجتمع الذي يتدخل في سيرورة العلم – التقنية
مفاهيم النص3-
* العلم / التقنية : أية علاقة ؟
هناك علاقة تفاعل وتدا خل قويين بين العلم و التقنية، إذ يساهم كل منهما في إغناء الآخر و تطويره
*
العلم – التقنية و المجتمع : أية علاقة ؟
إن سيرورة العلم – التقنية سيرورة دائرية ترتبط بالأهداف الإقتصادية و السياسية للمجتمع
حجاج النص4-
اعتمد صاحب النص في عرضه لأفكاره على التحليل و التفسير و إعطاء الأمثلة
التحليل انصب على إبراز العلاقة الموجودة سواء بين التقنية و العلم أو بين التقنية و المجتمع
تقديم مثال يتعلق بملاحظة الجزيئات و التلسكوبات
الاعتماد على رسم خطاطة توضح السيرورة التفاعلية الدائرية بين العلم و التقنية و المجتمع و الدولة
تحليل نص جلبيرهوتوا
إشكال النص1-
ماهي المبادىء التي ترتكز عليها استقلالية التقنية ؟ وما هي انعكاسات ذلك على مستوى ثقافة الإنسان وحضارته ؟
أطروحة النص 2-
إن للتقنية منطقها الخاص بها، والذي ينمو بشكل آلي وذاتي دون أن يخضع لأية غاية خارجية. وهذا ما أفقد الإنسان السيطرة على مسار التقنية، وجعل لها انعكاسات سلبية على الثقافة التقليدية والرمزية بحيث أدى إلى إخضاعها أو إعدامها
أفكار النص3-
يبرز لنا صاحب النص أن للتطور التقني منطقه الذاتي، الداخلي و الآلي، والذي لا يخضع لأية غاية خارجية. و هذا خلافا لموقف إدغار موران الذي ربط بين التطور التقني و الأهداف السياسية والإقتصادية للمجتمع
و يؤكد جلبير هوتوا على خضوع الإنسان للتقنية ” بحيث أضحى البشر مجرد منفذين لهذا الأمر التقني الضروري “
لا يمكن في نظر هوتوا اعتبارالتقنية مجرد و سائل و آلات في خدمة الإنسان، بل أصبح الإنسان خاضعا للتقنية التي تتطور و فقا لنظام داخلي خاص بها
إن للتقنية و للقوانين العلمية طابع كوني، كلياني و أحادي البعد، و لذلك فهو كثيرا ما يمارس علاقة إخضاع و سيطرة و إعدام لثقافة المجتمعات .هكذا فالعلم و التقنية لا يشكلان حسب هوتوا ثقافة أصيلة
يعتبر صاحب النص أن التقنية لا تشكل ثقافة أصيلة لأنها عابرة و غير متجذرة في ثقافة و تاريخ المجتمعات. كما أنها أحادية البعد فهي تسيطر على الإنسان و لا تتيح له إمكانية الإبداع و الاختيار بين عدة ممكنات 
هكذا فالثقافة الحقيقية حسب هوتوا هي الثقافة الرمزية و التقليدية المتجذرة في التاريخ، و الموجودة في جماعات مختلفة. أما التقنية فهي في نظره ضد الإنسانية نظرا لما تمارسه من تدمير و إخضاع و سيطرة على الثقافات المحلية
تحليل نص موسكوفيتشي: عمل المهندس
إشكال النص 1-
كيف تتحدد علاقة العلم (الهندسة والحساب) بالعمل التقني؟
أطروحة النص2-
أكد موسكوفتشي على العلاقة القوية بين العلم والتقنية، وذلك من خلال توضيحه كيف أن العمل التقني للمهندس يتطلب إلماما بالعلم الرياضي
مفاهيم النص 3-
* المهندس/الحرفي أوالصانع
إن عمل المهندس يرتكز على مبادىء علمية نظرية، بينما يرتكز عمل الحرفي أوالصانع على مجرد الخبرة أو الممارسة العملية
*
الرياضيات/التقنية: تسمح لنا المفاهيم الرياضية بمعرفة أوزان وأحجام وأشكال الآلات، كما تلعب دورا مهما في الرسم والتصميم والدراسة المتعلقة بالتطبيق التقني.

 4- حجاج النص:

 استخدم صاحب النص مجموعة من الآليات الحجاجية لتدعيم أطروحته:

 أ- آلية العرض والإثبات
* المؤشرات اللغوية الدالة عليها
لم يعد بمقدورنا… إذا لم
– …
بل يتعلق الأمر
لقد أصبح من الضروري
-…
يظهر أن تملك مفاهيم الرياضيات هو الذي
لقد أصبحت وظيفة الرياضيات معترفا بها
وهكذا نجد الرياضيات
عندما يتعلق الأمر… يكون من الضروري
*
مضمونها:
لحل الكثير من المشاكل التي واجهت الحرفيين والصناع، يكون من الضروري على المهندس أن يكون قادرا على استخدام الآلات والتقنيات الميكانيكية.
التأكيد على الارتباط القوي بين العلم (الهندسة والرياضيات) والتقنية (الرسومات والخطاطات والبناءات)، ذلك أن الرياضايات تمكن من تكميم الوقائع الحسية مما يجعل إنجازها أكثر صحة ودقة.
للرفع من أداء الآلات، لا بد من معرفة أوزانها وأحجامها وأشكالها. وهذا يبين العلاقة الوطيدة التي تربط التقنية بالرياضيات؛ إذ أن المعرفة بمفاهيم وقواعد هذه الأخيرة أصبح سمة مميزة للممارسين للتقنية الجديدة.
الاعتراف بوظيفة الرياضيات في تقدم التقنية المعاصرة. فقد أضحت الرياضيات تخترق مهارة المهندس وتشكل عنصرا مكونا لمعرفته بمختلف التقنيات التي تتطلبها ممارسته على أرض الواقع.
تمكن الرياضيات من إجراء التجارب والفحوص القبلية الضرورية لبناء منشىء أو إصلاحه، أو لحل بعض المشاكل التقنية
ب- أسلوب الاستشهاد
لتأكيد دور الرياضيات والهندسة في العمل التقني ، استشهد موسكوفيتشي بأعمال ليوناردو دافينشي في هذا الإطار؛ حيث لجأ هذا الأخير إلى الهندسة لتصميم العجلة المسننة والتروس المخروطة واللولبية… كما لجأ إلى الرياضيات في أبحاثه في الطاقة الهوائية. كما تمكن انطلاقا من قياس أجنحة الوطواط ، من قياس كم الهواء القادر على حمل وزن محدد
هكذا بين موسكوفيتشي انطلاقا من هذه الآليات الحجاجية، أن الممارسة التقنية لعمل المهندس تتطلب إلماما بالعلم الرياضي. من هنا يمكن اعتبار العلم مؤسسا للعمل التقني
المحورالثالث: نتائج تطور التقنية
إشكال المحور
ما نتائج تطور التقنية على وجود الإنسان ؟
ولمذا تحولت إلى قوة مسيطرة على مصيره ؟
تحليل نص ديكارت: السيطرة على الطبيعة
إشكال النص – 1
ما هي نتائج علم الطبيعة على الوجودين الطبيعي و الإنساني ؟ و كيف يجعلنا العلم سادة و مالكين للطبيعة؟
أطروحة النص 2-
إن موقف ديكارت من الفلسفة التأملية النظرية هو موقف تجاوز و قطيعة و رفض، لأنها في نظره فلسفة عقيمة وجوفاء، و لا تنتج عنها أية منافع ملموسة على المستوى العملي
لقد كان لازما على ديكارت الإفصاح عن مبادئ العلم الطبيعي، لأنه اختبر نجاعتها على مستوى حل العديد من المعضلات، و تبين له أنها تؤدي إلى تحقيق منافع كثيرة للناس، و هو ما يجعلها تختلف عن المبادئ التي ترتكز عليها الفلسفة السكولائية التي كانت سائدة في القرون الوسطى
إن الفلسفة العملية المرتبطة بالعلم الطبيعي تمكننا من فهم و معرفة القوانين التي تتحكم في الظواهر، وهي خطوة أساسية للسيطرة عليها و تحويلها إلى منتوجات صناعية وثقافية يستفيد منها الإنسان
هكذا تكمن أطروحة ديكارت في القول بأن العلم الطبيعية يمكننا من معرفة القوانين التي تخضع لها الظواهر الطبيعية، و هو الأمر الذي يجعل الإنسان يحول الطبيعة لخدمته فيصبح مالكا لها و سيدا عليها
مفاهيم النص3-
* الفلسفة العملية / علم الطبيعة: أية علاقة ؟
علم الطبيعة يضع المبادئ النظرية و القوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية، أما الفلسفة العملية فهي التطبيق الواقعي و الترجمة الفعلية لتلك المبادئ، عن طريق تحويل الطبيعة و تسخيرها لخدمة مصالح الإنسان. * معرفة القوانين والسيطرة على الطبيعة: أية علاقة ؟
إن معرفة القوانين التي تخضع لها الظواهر الطبيعية تؤدي إلى معرفة مكوناتها والعلاقات القائمة بينها، وهو الأمر الذي يسمح باستغلالها واستخدامها لتحقيق أغراض ومصالح الإنسان. هكذا تمكن هذه المعرفة الإنسان من أن يصبح سيدا على الطبيعة ومالكا لها
حجاج النص 4-
استخدم صاحب النص مجموعة من الآليات الحجاجية من أجل الدفاع عن أطروحته
أ- آلية الدحض:

* المؤشرات اللغوية الدالة عليه
– … و مبلغ اختلافها عن المبادئ التي استخدمت إلى الآن…
– … و أنه يمكننا أن نجد بدلا من هذه الفلسفة النظرية … فلسفة عملية…
: مضمونه
يدحض ديكارت الفلسفة التأملية النظرية التي كانت سائدة في القرون السابقة، لأنها فلسفة عقيمة، و غير اختبارية، و غير مفيدة، و لا تؤدي إلى السيطرة على الطبيعة

ب- حجة المنفعة: * المؤشرات اللغوية الدالة عليها
– … وأنا أبدأ باختبارها في مختلف المعضلات الجزئية…
-… لأن هذه المبادىء أبانت لي أنه يمكننا الوصول إلى معارف عظيمة النفع في الحياة…
-… اختراع عدد لا نهاية له من الصنائع التي تجعل المرء يتمتع من دون أي جهد بثمرات الأرض… الغرض الرئيسي منه أيضا حفظ الصحة…
* مضمونه
دافع ديكارت عن علم الطبيعة، وعن الفلسفة العملية المرتبطة به، لأنهما أثبتا فائدتهما على مستوى الواقع الفعلي، وحققا للإنسان عدة منافع؛ كاختراع التقنيات، والتمتع بخيرات الأرض، وتوفير أسباب الراحة، وحفظ الصحة
ج- آلية المثال
لتبيان فائدة العلم الطبيعي، اعتمد صاحب النص على إعطاء مجموعة من الأمثلة من الظواهر الطبيعية : النار، الماء، الهواء، الكواكب، السموات … و الغرض من ذلك هو توضيح أن معرفة مكوناتها و القوانين المتحكمة فيها، يؤدي إلى السيطرة عليها و تسخيرها لخدمة مصالح الإنسان
تحليل نص مشيل سير : ضرورة التحكم في التحكم
إشكال النص 1-
ماهي نتائج تحكم التقنية و العلم الحديث في الطبيعة على مستوى الوجودين الطبيعي و البشري ؟ و كيف ينبغي التحكم في هذا التحكم ؟
أطروحة النص 2-
لقد أدى العلم الحديث إلى التحكم المفرط في الطبيعة، مما أدى إلى ممارسة العنف عليها، و تهديد حياة الإنسان، و تكبيده خسائر فادحة. هكذا يتحتم حسب مشيل سير ضرورة التحكم في هذا التحكم الأول، وذلك عن طريق تقنين و عقلنة سيطرتنا على الطبيعة 
مفاهيم النص 3-
[ التحكم / التملك، العلم و الصناعة ]
 دلالة التحكم و التملك: إن العلم النظري يمكن الإنسان من فهم و معرفة القوانين المتحكم في الظواهر الطبيعية، كما يمكن من ابتكار تقنيات تساعد الإنسان على التحكم في الطبيعة و تسخيرها لخدمة أغراضه و مصالحه
* العلم / الصناعة : أية علاقة ؟
يبرز لنا النص نوعا من التحالف المشترك بين المشروع الصناعي و العلم، و هو التحالف الذي أدى إلى تهديد حياة الطبيعة و الإنسان
 التحكم في التحكم: التحكم الأول هو التحكم الذي نادى به ديكارت مع فجر العصر الحديث، والذي يكون هدفه هو السيطرة على الطبيعة وتملكها إلى أقصى الحدود، وهو ما أدى إلى ممارسة الدمار والعنف عليها وعلى الإنسان. لذلك يدعو ميشيل سير في هذا النص إلى تحكم ثاني، يكون هدفه هو التحكم في التقنية والعلم عن طريق تقنينهما وتوجيههما نحو تحقيق ما هو إيجابي ومفيد بالنسبة للطبيعة والإنسان.حجاج النص –  4
اعتمد ميشيل سير في صياغته لأطروحته القائلة بضرورة إعادة النظر في علاقة الإنسان بالطبيعة، وذلك من خلال إحداث تحكم جديد في التحكم العلمي والتقني الحالي، على مجموعة من الآليات الحجاجية
أ- آلية العرض:
 المؤشرات اللغوية الدالة عليه
– هذا هو شعار ديكارت…
– هذه هي الفلسفة المشتركة…
 مضمونه: يعرض صاحب النص للشعار الذي رفعه ديكارت في فجر العلم الحديث، والمتمثل في الدعوة إلى بذل أقصى الجهود من أجل استخدام العلم والتقنية للسيطرة على الطبيعة وامتلاك طاقاتها ومواردها
ب- آلية النقد:
 المؤشرات اللغوية الدالة عليه
– إن التحكم الديكارتي يؤسس العنف…
– إن علاقتنا الأساسية بموضوع العالم أضحت تتلخص في الحرب…
– إن تحكمنا لم يعد منضبطا ولا مقننا، ويتجاوز هدفه، بل أصبح ضد الإنتاج.
لقد انقلب التحكم الخالص على نفسه. –
إن التحكم لا يدوم طويلا… فيتحول إلى عبودية. –
كما أن الملكية… تنتهي إلى الهدم. –
خلاصة تركيبية للمحور:
لقد أدى التحكم الديكارتي إلى ممارسة العنف على الطبيعة، لأنه تحكم غير مقنن، فهو يلحق أضرارا بالغة على الطبيعة والإنسان مادام أن هدفه هو الإنتاج. إن تحكما كهذا يؤدي إلى نتائج معكوسة، فيجعل الإنسان في موقع الضعف والعبودية إزاء الطبيعة بدل أن يكون في موقع القوة والسيادة، وذلك بسبب تدميره للبيئة الطبيعية التي لا يمكن للإنسان الاستغناء عليها في حياته. ج- آلية المقارنة:
استخدم صاحب النص مقارنتين:
 الأولى: تمثلت في إقامة نوع من المساواة بين الخسائر التي أدى إليها التحكم التقني للطبيعة والذي بدأ مع ديكارت، وبين الخسائر التي يمكن أن تخلفها حرب عالمية وراءها.
 الثانية: تمثلت في المقارنة بين العلاقة بين الإنسان والطبيعة في القديم وفي الحديث، وذلك بإقامة نوع من التشابه بين العلاقتين؛ ففي القديم كان الإنسان خاضعا للطبيعة وفي حاجة ماسة إليها لتلبية ضرورياته البيولوجية، أما اليوم فيمكن الحديث عن خضوع من نوع ثاني للإنسان تجاه الطبيعة حيث أصبح ضعيفا أمامها وتهدده وتتملكه، وذلك بسبب إفراطه في التحكم فيها بواسطة العلم والتقنية
.

 
  Description : معلومات عن العضو   مجزوءة الفاعلية و الإبداع  
مدخل عام للمجزوءة
إذا كان الإنسان كائنا واعيا و راغبا و اجتماعيا بطبعه، فهو أيضا كائن فاعل و صانع و مبدع. و تتجلى فاعليته الإبداعية على مستوى الطبيعة من خلال سعيه الدائم إلى رسم ذاتيته عليها، و العمل على تغييرها والإستفادة من طاقاتها من خلال ما يخترعه من آلات تقنية . كما تتجلى هذه الفعالية من ظلال الشغل الذي يعتبر خاصية إنسانية، وفاعليته تدخل الإنسان و الطبيعة في علاقة منتجة لقيم نافعة.
و تتجلى أيضا في إبداع الإنسان لمختلف أشكال التبادل سواء المادية أو الرمزية.
كما تتجلى هذه الفاعلية أيضا في الإبداعات الفنية التي يسعى الإنسان من خلالها إلى إبداع عوالم رمزية جديدة، كعالم الشعر و المسرح و الرواية و غير ذلك.
هكذا فالإنسان يسعى من خلال كل هذه الأشكال الإبداعية إلى تجاوز حالات النقص التي تميز وجوده، كما يطمح من خلال ذلك إلى إبراز قدراته و تأكيد ذاته سواء في علاقته بالطبيعة او مع الآخرين .   مفهوم التقنية و العلم


المحور الأول: ماهية التقنية
إشكال المحور
ماهية التقنية ؟
ما الذي يجعل التقنية خاصية إنسانية ؟
ما الفرق بين التقنية عند الإنسان و تلك الموجودة عند الحيوانات ؟

تحليل نص شبنغلر: مفهوم التقنية   مؤلف النص
شبنغلر (1880-1936) فيلسوف ألماني اهتم بدراسة الحضارة في إطار فلسفة التاريخ. من كتبه “انحطاط الغرب ” و ” الإنسان و التقنية “.
إشكال النص1-
ما التقنية ؟ و ما الفرق بين التقنية عند الإنسان و التقنية عند الحيوان؟
و بأي معنى يمكن اعتبار التقنية خاصية إنسانية ؟
: أطروحة النص2-
تعتبر التقنية خاصية إنسانية مرتبطة بالوجود الإنساني منذ القدم . و إذا كنا نتحدث عن التقنية عند الحيوان، فهي تظل مجرد خطة حيويّة للدفاع عن نفسه، كما أنها محكومة بمحددات غريزية، بينما ترتبط التقنية عند الإنسان بالعقل و الفكر مما يجعلها خطة للحياة؛ أي أنها استراتيجية هادفة و موجهة للسلوك البشري.
: مفاهيم النص  3-
:* خطة حيوية / خطة حياة الفكر / التأمل – الهدف هو تنظيم الوجود الإنساني – الإنسانالغريزةالهدف حيوي مرتبطة بالحفاظ على بقاء الجسم – الحيوان خلاصة تركيبية: التقنية عند الحيوان مرتبطة بالغريزة فقط ، فهي مجرد عمليات و سلوكات غريزية يقوم بها الحيوان من أجل المحافظة على و جوده الطبيعي
أما عند الإنسان فالتقنية ترتبط بالفكر والعقل؛ فهي تلك التأملات والمخططات والاستراتيجيات الفكرية التي تقف وراء السلوكيات البشرية وترسم لها غاياتها التقنية / أللآلة

يرى ” شبنغلر ” أن هدف التقنية ليس هو صنع الأدوات و الآلات في حد ذاتها . كما يرى أنه لاينبغي فهم التقنية من خلال وظيفة الأداة، بل ينبغي اعتبار التقنية خطة حياة؛ أي أنها تلك الأهداف و المخططات والاستراتيجيات التي تقف و راء صنع الآلات. وهذا يعني أن التقنية هي فكر و سلوك هادف و ليست مجرد موضوعات أو آلات خارجية
حجاج النص 4
للدفاع عن أطروحته القائلة بأن التقنية هي خطة حياة، استخدم صاحب النص مجموعة من الأساليب الحاجيات ارتكزت على الدحض و الإثبات و المقارنة
 
أسلوب الدحض:
:*
المؤشرات اللغوية الدالة عليه
علينا ألا ننطلق من …. ولا من المفهوم الخاطئ .
بل هي …
يظهر لنا الخطأ الثاني ….
لا نفهم التقنية من خلال
إن مايهم ليس هو … ولا … .
فما يهم ليس …
ولا انطلاقا من
مضمونه:
دحض صاحب النص تصورين اعتبرهما خاطئين للتقنية؛ الأول يعتبر أن هدف التقنية هو صنع الأدوات والآلات، والثاني يفهم التقنية من خلال الوظائف التي تقوم بها الآلات و كيفية استخدامها.
ب – أسلوب الإثبات:
* المؤشرات اللغوية الدالة عليه :
إن التقنية ترجع في الواقع إلى …
وإذا أردنا أن … فعلينا الانطلاق من
إنها …
إن التقنية هي …
إن كل آلة ….
كل و سائل نقلنا و لدت انطلاقا من …
مضمونه:
التقنية تعود إلى أزمان غابرة .
دلالة التقنية مرتبطة بالروح أو النفس، وهي ما يجعلها بالمعنى الدقيقة خاصية إنسانية.
التقنية في مستواها الإنساني هي خطة حياة؛ أي أنها تلك المخططات الفكرية و التأملات التي تسبق صنع الآلات.
التقنية ليست أدوات و موضوعات، بل هي أفكار تحدد أهدافا مرسومة سلفا لتلك الأدوات و الموضوعات.
كل آلة هي نتاج لسيرورة من التأملات التي تسبق و جودها و تحدد أهدافها مسبقاٌ.
ج – أسلوب المقارنة:
* المقارنة بين نمط حياة الحيوان و نمط حياة النبات: و الغرض من ذلك هو إثبات أن التقنية تميز حياة الحيوان دون النبات؛ لأن الأول يفعل في الطبيعة و يمتلك استقلالا إزاءها، و هنا تظهر فاعلية الحيوان، بينما لا يتمتع النبات بهذه الخاصية.
*
المقارنة بين الإنسان و الحيوان : والغرض منها هو تمييز التقنية عند الإنسان عنها عند الحيوان؛ فهي عند الحيوان مجرد خطة حيوية، أي سلوكات غريزية هدفها الحفاظ على بقاء النوع . أما عند الإنسان فتعتبر التقنية خطة للحياة، أي أنها مرتبطة بالفكر و قائمة على التأمل ورسم أهداف للسلوك البشري
تحليل نص مارتن هيدغر: ما التقنية ؟

إشكال النص1- أين تكمن ماهية التقنية ؟
أطروحة النص 2-
لا تتحدد ماهية التقنية حسب هيدغر في اعتبارها أدوات و آلات ناتجة عن العلم، وعن سيطرة الإنسان باعتباره سيدا على الطبيعة، بل إن ماهية التقنية تكمن في اعتبارها نمط و جود إنساني لم يعد الإنسان يتحكم فيه، بل أصبح خاضعا للفكر التقني الذي يسعى إلى الكشف عن أسرار الطبيعة و استخراج مواردها

مفاهيم النص 3-
* التقنية / العلم: العلم لا يؤسس التقنية، بل على العكس من ذلك إن جذوره توجد في جوهر التقنية
*
التقنية / الإنسان: لم يعد الإنسان حسب هيدغر كائنا حرا صانعا للأدوات و متحكما فيها و يسخرها لتحقيق غاياته. بل إن هذا البعد الغائي يختفي في التقنية في صورتها المعاصرة، ليحل محله البعد الآلي الذي أصبحت معه للتقنية منطقها الخاص الذي ينفلت من سيطرة الإنسان
*
التقنية / الحدوث/ الكون
الحدوث هو كشف و مساءلة للطبيعة من أجل استخراج طاقاتها و مكنوناتها اعتمادا على نوع من القسر و التحريض و الاستثارة
حجاج النص 4-
اعتمد هيدغر في عرض أطروحته على أسلوبي الإثبات والنفي
أ- أسلوب الإثبات
* المؤشرات اللغوية الداة عليه
إن تحديدي لماهية التقنية هو
إنني أرى أن… وأن أمرا… وأن هذه العلاقة
أرى في ماهية التقنية
ب- أسلوب النفي:
* المؤشرات اللغوية الدالة عليه:
وليس العكس
لا مجال للحديث عن
لا يمكن أن يتم ذلك
*
مضمون الأسلوبين:
التقنية هي التي تؤسس العلم وليس العكس.
الإنسان لا يتحكم في التقنية بل إنها تتجاوزه.
التقنية هي كشف لأسرار الطبيعة وطاقاتها.
لا يدين هيدغر التقنية ولا يرفضها، بل يريد فقط أن يعرف ماهيتها وحقيقتها
ينفي هيدغر أن يتم فهم ماهية التقنية في إطار علاقة الذات بالموضوع؛ والذات هنا هي الإنسان، والموضوع هو التقنية. ومعنى النفي هنا هو أن التقنية لا تتحدد من خلال سيطرة الإنسان على الآلات التقنية وتسخيرها لغايات يرسمها بشكل حر، بل إن التقنية انفلتت من مراقبة الإنسان، وأصبح لها مسارها ومنطقها الخاص الذي يتجلى في الكشف عن الطاقات الموجودة في الطبيعة بشكل تراكمي ولامحدود.   خلاصة عامة للمحور
يتعلق هذا المحور بإشكال رئيسي هو تحديد ماهية التقنية: فما هي التقنية ؟ و بأي معنى يمكن اعتبارها خاصية إنسانية ؟
في إطار الإجابة عن هذا الإشكال تعرفنا على أطروحتين متكاملتين : الأولى لشبنغلر و فيها يعتبر أن التقنية قديمة، و أنها تميز نمط حياة الحيوان عن نمط حياة النبات، إذ أن الأول يمارس فاعليته على الطبيعة في حين أن الثاني يستسلم لقوانينها. غير أن شبنغلر يميز بين التقنية عند الإنسان و اعتبارها خطة للحياة و ممارسة فكرية هادفة، بينما تظل التقنية عند الحيوان مجرد خطة حيوية؛ أي نظام للسلوك مرتبط بمحددات غريزية
أما الثانية فهي لهيدغرالذي يلتقي مع شبنغلر في التأكيد على أن التقنية ليست مجرد أدوات أو آلات، بل هي ذلك الفكر الذي يرتبط بالعلم و الذي أصبح يسيطر على الحياة الإنسانية، و الذي يتميز بسيرورة خاصة به هدفها الرئيسي هو استفزاز الطبيعة و تحريضها و إرغامها على البوح بأسرارها و طاقتها الخفية   المحور الثاني: التقنية والعلم
إشكال المحور
كيف تتحدد العلاقة بين العلم و التقنية ؟ و ما هي النتائج المترتبة عن هذه العلاقة على الحياة الإنسانية والطبيعية ؟
تحليل نص إدغار موران : التقنية-العلم كسيرورة
إشكال النص1-
ماهي علاقة التقنية بالعلم ؟
و ما علاقتهما بالمجتمع ؟
أطروحة النص2-
يبين إدغار موران أن التقنية و العلم و المجتمع يشكلون سيرورة دائرية، و أن بينهما علاقات متبادلة ومتداخلة. فالتجريب العلمي يؤدي إلى ابتكار آلات تقنية؛ و هذه الأخيرة تساهم بدورها في إجراء التجارب العلمية و تطويرها، و يرتبط كل هذا بالمصالح الإقتصادية و السياسية للمجتمع الذي يتدخل في سيرورة العلم – التقنية
مفاهيم النص3-
* العلم / التقنية : أية علاقة ؟
هناك علاقة تفاعل وتدا خل قويين بين العلم و التقنية، إذ يساهم كل منهما في إغناء الآخر و تطويره
*
العلم – التقنية و المجتمع : أية علاقة ؟
إن سيرورة العلم – التقنية سيرورة دائرية ترتبط بالأهداف الإقتصادية و السياسية للمجتمع
حجاج النص4-
اعتمد صاحب النص في عرضه لأفكاره على التحليل و التفسير و إعطاء الأمثلة
التحليل انصب على إبراز العلاقة الموجودة سواء بين التقنية و العلم أو بين التقنية و المجتمع
تقديم مثال يتعلق بملاحظة الجزيئات و التلسكوبات
الاعتماد على رسم خطاطة توضح السيرورة التفاعلية الدائرية بين العلم و التقنية و المجتمع و الدولة
تحليل نص جلبيرهوتوا
إشكال النص1-
ماهي المبادىء التي ترتكز عليها استقلالية التقنية ؟ وما هي انعكاسات ذلك على مستوى ثقافة الإنسان وحضارته ؟
أطروحة النص 2-
إن للتقنية منطقها الخاص بها، والذي ينمو بشكل آلي وذاتي دون أن يخضع لأية غاية خارجية. وهذا ما أفقد الإنسان السيطرة على مسار التقنية، وجعل لها انعكاسات سلبية على الثقافة التقليدية والرمزية بحيث أدى إلى إخضاعها أو إعدامها
أفكار النص3-
يبرز لنا صاحب النص أن للتطور التقني منطقه الذاتي، الداخلي و الآلي، والذي لا يخضع لأية غاية خارجية. و هذا خلافا لموقف إدغار موران الذي ربط بين التطور التقني و الأهداف السياسية والإقتصادية للمجتمع
و يؤكد جلبير هوتوا على خضوع الإنسان للتقنية ” بحيث أضحى البشر مجرد منفذين لهذا الأمر التقني الضروري “
لا يمكن في نظر هوتوا اعتبارالتقنية مجرد و سائل و آلات في خدمة الإنسان، بل أصبح الإنسان خاضعا للتقنية التي تتطور و فقا لنظام داخلي خاص بها
إن للتقنية و للقوانين العلمية طابع كوني، كلياني و أحادي البعد، و لذلك فهو كثيرا ما يمارس علاقة إخضاع و سيطرة و إعدام لثقافة المجتمعات .هكذا فالعلم و التقنية لا يشكلان حسب هوتوا ثقافة أصيلة
يعتبر صاحب النص أن التقنية لا تشكل ثقافة أصيلة لأنها عابرة و غير متجذرة في ثقافة و تاريخ المجتمعات. كما أنها أحادية البعد فهي تسيطر على الإنسان و لا تتيح له إمكانية الإبداع و الاختيار بين عدة ممكنات 
هكذا فالثقافة الحقيقية حسب هوتوا هي الثقافة الرمزية و التقليدية المتجذرة في التاريخ، و الموجودة في جماعات مختلفة. أما التقنية فهي في نظره ضد الإنسانية نظرا لما تمارسه من تدمير و إخضاع و سيطرة على الثقافات المحلية
تحليل نص موسكوفيتشي: عمل المهندس
إشكال النص 1-
كيف تتحدد علاقة العلم (الهندسة والحساب) بالعمل التقني؟
أطروحة النص2-
أكد موسكوفتشي على العلاقة القوية بين العلم والتقنية، وذلك من خلال توضيحه كيف أن العمل التقني للمهندس يتطلب إلماما بالعلم الرياضي
مفاهيم النص 3-
* المهندس/الحرفي أوالصانع
إن عمل المهندس يرتكز على مبادىء علمية نظرية، بينما يرتكز عمل الحرفي أوالصانع على مجرد الخبرة أو الممارسة العملية
*
الرياضيات/التقنية: تسمح لنا المفاهيم الرياضية بمعرفة أوزان وأحجام وأشكال الآلات، كما تلعب دورا مهما في الرسم والتصميم والدراسة المتعلقة بالتطبيق التقني.  4- حجاج النص:  استخدم صاحب النص مجموعة من الآليات الحجاجية لتدعيم أطروحته:  أ- آلية العرض والإثبات
* المؤشرات اللغوية الدالة عليها
لم يعد بمقدورنا… إذا لم
– …
بل يتعلق الأمر
لقد أصبح من الضروري
-…
يظهر أن تملك مفاهيم الرياضيات هو الذي
لقد أصبحت وظيفة الرياضيات معترفا بها
وهكذا نجد الرياضيات
عندما يتعلق الأمر… يكون من الضروري
*
مضمونها:
لحل الكثير من المشاكل التي واجهت الحرفيين والصناع، يكون من الضروري على المهندس أن يكون قادرا على استخدام الآلات والتقنيات الميكانيكية.
التأكيد على الارتباط القوي بين العلم (الهندسة والرياضيات) والتقنية (الرسومات والخطاطات والبناءات)، ذلك أن الرياضايات تمكن من تكميم الوقائع الحسية مما يجعل إنجازها أكثر صحة ودقة.
للرفع من أداء الآلات، لا بد من معرفة أوزانها وأحجامها وأشكالها. وهذا يبين العلاقة الوطيدة التي تربط التقنية بالرياضيات؛ إذ أن المعرفة بمفاهيم وقواعد هذه الأخيرة أصبح سمة مميزة للممارسين للتقنية الجديدة.
الاعتراف بوظيفة الرياضيات في تقدم التقنية المعاصرة. فقد أضحت الرياضيات تخترق مهارة المهندس وتشكل عنصرا مكونا لمعرفته بمختلف التقنيات التي تتطلبها ممارسته على أرض الواقع.
تمكن الرياضيات من إجراء التجارب والفحوص القبلية الضرورية لبناء منشىء أو إصلاحه، أو لحل بعض المشاكل التقنية
ب- أسلوب الاستشهاد
لتأكيد دور الرياضيات والهندسة في العمل التقني ، استشهد موسكوفيتشي بأعمال ليوناردو دافينشي في هذا الإطار؛ حيث لجأ هذا الأخير إلى الهندسة لتصميم العجلة المسننة والتروس المخروطة واللولبية… كما لجأ إلى الرياضيات في أبحاثه في الطاقة الهوائية. كما تمكن انطلاقا من قياس أجنحة الوطواط ، من قياس كم الهواء القادر على حمل وزن محدد
هكذا بين موسكوفيتشي انطلاقا من هذه الآليات الحجاجية، أن الممارسة التقنية لعمل المهندس تتطلب إلماما بالعلم الرياضي. من هنا يمكن اعتبار العلم مؤسسا للعمل التقني
المحورالثالث: نتائج تطور التقنية
إشكال المحور
ما نتائج تطور التقنية على وجود الإنسان ؟
ولمذا تحولت إلى قوة مسيطرة على مصيره ؟
تحليل نص ديكارت: السيطرة على الطبيعة
إشكال النص – 1
ما هي نتائج علم الطبيعة على الوجودين الطبيعي و الإنساني ؟ و كيف يجعلنا العلم سادة و مالكين للطبيعة؟
أطروحة النص 2-
إن موقف ديكارت من الفلسفة التأملية النظرية هو موقف تجاوز و قطيعة و رفض، لأنها في نظره فلسفة عقيمة وجوفاء، و لا تنتج عنها أية منافع ملموسة على المستوى العملي
لقد كان لازما على ديكارت الإفصاح عن مبادئ العلم الطبيعي، لأنه اختبر نجاعتها على مستوى حل العديد من المعضلات، و تبين له أنها تؤدي إلى تحقيق منافع كثيرة للناس، و هو ما يجعلها تختلف عن المبادئ التي ترتكز عليها الفلسفة السكولائية التي كانت سائدة في القرون الوسطى
إن الفلسفة العملية المرتبطة بالعلم الطبيعي تمكننا من فهم و معرفة القوانين التي تتحكم في الظواهر، وهي خطوة أساسية للسيطرة عليها و تحويلها إلى منتوجات صناعية وثقافية يستفيد منها الإنسان
هكذا تكمن أطروحة ديكارت في القول بأن العلم الطبيعية يمكننا من معرفة القوانين التي تخضع لها الظواهر الطبيعية، و هو الأمر الذي يجعل الإنسان يحول الطبيعة لخدمته فيصبح مالكا لها و سيدا عليها
مفاهيم النص3-
* الفلسفة العملية / علم الطبيعة: أية علاقة ؟
علم الطبيعة يضع المبادئ النظرية و القوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية، أما الفلسفة العملية فهي التطبيق الواقعي و الترجمة الفعلية لتلك المبادئ، عن طريق تحويل الطبيعة و تسخيرها لخدمة مصالح الإنسان. * معرفة القوانين والسيطرة على الطبيعة: أية علاقة ؟
إن معرفة القوانين التي تخضع لها الظواهر الطبيعية تؤدي إلى معرفة مكوناتها والعلاقات القائمة بينها، وهو الأمر الذي يسمح باستغلالها واستخدامها لتحقيق أغراض ومصالح الإنسان. هكذا تمكن هذه المعرفة الإنسان من أن يصبح سيدا على الطبيعة ومالكا لها
حجاج النص 4-
استخدم صاحب النص مجموعة من الآليات الحجاجية من أجل الدفاع عن أطروحته
أ- آلية الدحض: * المؤشرات اللغوية الدالة عليه
– …
و مبلغ اختلافها عن المبادئ التي استخدمت إلى الآن
– …
و أنه يمكننا أن نجد بدلا من هذه الفلسفة النظرية … فلسفة عملية
مضمونه
يدحض ديكارت الفلسفة التأملية النظرية التي كانت سائدة في القرون السابقة، لأنها فلسفة عقيمة، و غير اختبارية، و غير مفيدة، و لا تؤدي إلى السيطرة على الطبيعة

ب- حجة المنفعة: * المؤشرات اللغوية الدالة عليها
– … وأنا أبدأ باختبارها في مختلف المعضلات الجزئية
-…
لأن هذه المبادىء أبانت لي أنه يمكننا الوصول إلى معارف عظيمة النفع في الحياة
-…
اختراع عدد لا نهاية له من الصنائع التي تجعل المرء يتمتع من دون أي جهد بثمرات الأرض… الغرض الرئيسي منه أيضا حفظ الصحة
مضمونه
دافع ديكارت عن علم الطبيعة، وعن الفلسفة العملية المرتبطة به، لأنهما أثبتا فائدتهما على مستوى الواقع الفعلي، وحققا للإنسان عدة منافع؛ كاختراع التقنيات، والتمتع بخيرات الأرض، وتوفير أسباب الراحة، وحفظ الصحة
ج- آلية المثال
لتبيان فائدة العلم الطبيعي، اعتمد صاحب النص على إعطاء مجموعة من الأمثلة من الظواهر الطبيعية : النار، الماء، الهواء، الكواكب، السموات … و الغرض من ذلك هو توضيح أن معرفة مكوناتها و القوانين المتحكمة فيها، يؤدي إلى السيطرة عليها و تسخيرها لخدمة مصالح الإنسان
تحليل نص مشيل سير : ضرورة التحكم في التحكم
إشكال النص 1-
ماهي نتائج تحكم التقنية و العلم الحديث في الطبيعة على مستوى الوجودين الطبيعي و البشري ؟ و كيف ينبغي التحكم في هذا التحكم ؟
أطروحة النص 2-
لقد أدى العلم الحديث إلى التحكم المفرط في الطبيعة، مما أدى إلى ممارسة العنف عليها، و تهديد حياة الإنسان، و تكبيده خسائر فادحة. هكذا يتحتم حسب مشيل سير ضرورة التحكم في هذا التحكم الأول، وذلك عن طريق تقنين و عقلنة سيطرتنا على الطبيعة 
مفاهيم النص 3-
[ التحكم / التملك، العلم و الصناعة ]
 
دلالة التحكم و التملك: إن العلم النظري يمكن الإنسان من فهم و معرفة القوانين المتحكم في الظواهر الطبيعية، كما يمكن من ابتكار تقنيات تساعد الإنسان على التحكم في الطبيعة و تسخيرها لخدمة أغراضه و مصالحه
*
العلم / الصناعة : أية علاقة ؟
يبرز لنا النص نوعا من التحالف المشترك بين المشروع الصناعي و العلم، و هو التحالف الذي أدى إلى تهديد حياة الطبيعة و الإنسان
 
التحكم في التحكم: التحكم الأول هو التحكم الذي نادى به ديكارت مع فجر العصر الحديث، والذي يكون هدفه هو السيطرة على الطبيعة وتملكها إلى أقصى الحدود، وهو ما أدى إلى ممارسة الدمار والعنف عليها وعلى الإنسان. لذلك يدعو ميشيل سير في هذا النص إلى تحكم ثاني، يكون هدفه هو التحكم في التقنية والعلم عن طريق تقنينهما وتوجيههما نحو تحقيق ما هو إيجابي ومفيد بالنسبة للطبيعة والإنسان. حجاج النص –  4
اعتمد ميشيل سير في صياغته لأطروحته القائلة بضرورة إعادة النظر في علاقة الإنسان بالطبيعة، وذلك من خلال إحداث تحكم جديد في التحكم العلمي والتقني الحالي، على مجموعة من الآليات الحجاجية
أ- آلية العرض:
 المؤشرات اللغوية الدالة عليه
هذا هو شعار ديكارت
هذه هي الفلسفة المشتركة
 
مضمونه: يعرض صاحب النص للشعار الذي رفعه ديكارت في فجر العلم الحديث، والمتمثل في الدعوة إلى بذل أقصى الجهود من أجل استخدام العلم والتقنية للسيطرة على الطبيعة وامتلاك طاقاتها ومواردها
ب- آلية النقد:
 المؤشرات اللغوية الدالة عليه
إن التحكم الديكارتي يؤسس العنف
إن علاقتنا الأساسية بموضوع العالم أضحت تتلخص في الحرب
إن تحكمنا لم يعد منضبطا ولا مقننا، ويتجاوز هدفه، بل أصبح ضد الإنتاج.
لقد انقلب التحكم الخالص على نفسه. –
إن التحكم لا يدوم طويلا… فيتحول إلى عبودية. –
كما أن الملكية… تنتهي إلى الهدم. –
خلاصة تركيبية للمحور:
لقد أدى التحكم الديكارتي إلى ممارسة العنف على الطبيعة، لأنه تحكم غير مقنن، فهو يلحق أضرارا بالغة على الطبيعة والإنسان مادام أن هدفه هو الإنتاج. إن تحكما كهذا يؤدي إلى نتائج معكوسة، فيجعل الإنسان في موقع الضعف والعبودية إزاء الطبيعة بدل أن يكون في موقع القوة والسيادة، وذلك بسبب تدميره للبيئة الطبيعية التي لا يمكن للإنسان الاستغناء عليها في حياته. ج- آلية المقارنة:
استخدم صاحب النص مقارنتين:
 
الأولى: تمثلت في إقامة نوع من المساواة بين الخسائر التي أدى إليها التحكم التقني للطبيعة والذي بدأ مع ديكارت، وبين الخسائر التي يمكن أن تخلفها حرب عالمية وراءها.
 
الثانية: تمثلت في المقارنة بين العلاقة بين الإنسان والطبيعة في القديم وفي الحديث، وذلك بإقامة نوع من التشابه بين العلاقتين؛ ففي القديم كان الإنسان خاضعا للطبيعة وفي حاجة ماسة إليها لتلبية ضرورياته البيولوجية، أما اليوم فيمكن الحديث عن خضوع من نوع ثاني للإنسان تجاه الطبيعة حيث أصبح ضعيفا أمامها وتهدده وتتملكه، وذلك بسبب إفراطه في التحكم فيها بواسطة العلم والتقنية.  

ثانيا مفهوم الشغل

1-مادة الفلسفة

2-المستوى الأولى باكالوريا

3-دروس الأسدس الثاني

4-مجزوءة الفاعلية والإبداع

5-الموضوع مفهوم أولا مفهوم التقنية والعلم

6-الأستاذ محمد بضاض

المحور الأول: الشغل خاصية إنسانية

إشكال المحور

  • لماذا يعتبر الشغل فاعلية إنسانية ؟
  • و ما هي المعاني والقيم التي يضيفها على الوجود الإنساني ؟

تحليل نص كارل ماركس: الشغل سيرورة وتوسط

إشكال النص

ما هو الشغل ؟ و بأي معنى يمكن اعتباره فاعلية إنسانية ؟

أطروحة النص

يتحدد الشغل بوصفة فعلا يتم بين الإنسان والطبيعة، بموجبه يقوم العامل بتحويل المواد الطبيعية الأولية ويضفي عليها صورة انطلاقا من تصوراته العقلية القبلية. وهكذا يتميز الشغل عند الإنسان بطابعه الغائي حيث يختلف عن العمل عند الحيوان الذي يظل مجرد فعل غريزي. و هذا ما يجعل الشغل فاعلية خاصة بالإنسان وحده.

مفاهيم النص

الشغل / الإنسان

بواسطة الشغل يتدخل الإنسان في الطبيعة ويغيرها، بأن يمنحها شكلا معينا ويجعلها مفيدة له في حياته. هكذا فالشغل له آثار إيجابية على حياة الإنسان، إذ يحقق له الرفاهية في العيش ويحقق له منافع كثيرة. غير أن هذا التأثير يطال الإنسان أيضا، فينمي ملكاته العقلية ويطور سلوكه و يرتقي بذوقه.

الشغل / الوعي والإرادة

الشغل عند الإنسان خاضع للإرادة و يحضر فيه الوعي، ذلك أن الإنسان يفكر بشكل مسبق في كيفية إنجازه لعمله قبل أن يحققه على أرض الواقع. وهذا ما يجعل الشغل عند الإنسان ذا طابع غائي، أي أن الإنسان يعي شغله ويحدد له غايات معينة قبل عملية إنجازه.

مسار الشغل

يتضمن مسار الشغل أو سيرورته ثلاثة عناصر أساسية:

  • النشاط الإنساني: نشاط جسدي – نشاط عقلي.
  • موضوع الشغل: المواد الطبيعية الأولية.
  • وسائل وأدوات الشغل.

حجاج النص

من أجل توضيح أطروحته، استخدم ماركس مجموعة من الأساليب الحجاجية:

أسلوب العرض و التفسير

المؤشرات اللغوية الدالة عليه:

  • إن الشغل …
  • و في الوقت الذي … فإنه …
  • إن نقطة انطلاقنا هي …
  • إن النتيجة التي ينتهي إليها الشغل …

مضمونه:

  • تعريف الشغل باعتباره فاعلية تدخل الإنسان والطبيعة في علاقة منتجة لقيم نافعة.
  • الشغل لا يغير الطبيعة فقط، بل يغير أيضا ملكات الإنسان وقدراته الإبداعية أيضا.
  • الشغل فاعلية إنسانية.
  • نتيجة الشغل توجد بشكل قبلي في ذهن العامل ومخيلته.
أسلوب المقارنة
العمل عند الحيوانالشغل عند الإنسان
العنكبوت – النحلة.
مهارة غريزية.
عمل آلي.
التلقائية والعفوية الطبيعية.
عمل إجباري و خاضع للضرورة البيولوجية.
الحائك – المهندس.
مهارة عقلية.
عمل غائي.
القصدية والتخطيط والبرمجة.
عمل حر واختياري.

← هكذا يثبت كارل ماركس من خلال هذه المقارنة، بأن الشغل بالمعنى الدقيق ظاهرة خاصة بالإنسان وحده، لأنه فعل غائي وقصدي، يحضر فيه الوعي والإرادة العاقلة والحرة للإنسان.

تحليل نص نيتشه

إشكال النص

  • ماهي انعكاسات الشغل على الفرد العامل ؟
  • و ما هي القيم التي يضيفها الشغل على الوجود الإنساني ؟

أطروحة النص

إن الشغل الشاق في نظر نيتشه يحول دون تحقيق الرغبات والميولات الفردية، فهو يهدر طاقات الإنسان الفردية والإبداعية، إن الغرض منه هو فقط إشباع حاجات حيوانية بسيطة، كما يهدف إلى تحقيق الأمن والاستقرار والهدنة الإجتماعية.

مفاهيم النص

  • نعمة الشغل: إيجابيات الشغل وآثاره الحسية على الإنسان.
  • الأفعال المجردة: هي مجموعة من التعاليم المسطرة نظريا، والتي تحدد لأفراد المجتمع ما يجب فعله.
  • العلاقة بين الخطاب الذي يمجد الشغل والفرد: يرى نيتشه أن هناك خلفية فكرية وإيديولوجية تقف وراء الخطابات التي تمجد الشغل وتمدح الممارسين له، وهي التي تتمثل في التحكم في أفعال الأفراد وتوحيدها بغية تحقيق النظام والاستقرار داخل الجماعة. هكذا تستغل هذه الخطابات الشغل إيديولوجيا لصالحها، مما يجعلها تخشى كل عمل أو مبادرة فردية.
  • العلاقة بين الشغل الشاق من جهة والفكر والرغبة الفردية من جهة أخرى: إن الشغل الشاق – من الصباح إلى المساء – يعرقل التفكير الفردي، ويلجم رغبات وميولات الفرد الذاتية، ويهدر طاقته العصبية في تحقيق أهداف وضيعة تتمثل في إشباع حاجات الجماعة من أجل تحقيق الهدنة والنظام، وإن كان ذلك على حساب شقاء الفرد وكده المستمر.

هكذا نجد أن الفيلسوف الألماني نيتشه يوجه نقدا للشغل الشاق من الصباح إلى المساء، باعتباره مصدر شقاء للفرد ويقتل مواهبه وميولاته الشخصية، حيث يصبح هذا الأخير أداة طيعة في يد الجماعة تحقق من خلاله مصالحها وأهدافها الإيديولوجية.

المحور الثاني: تقسيم الشغل

إشكال المحور

  • ماهي آثار تقسيم الشغل على وجود العامل؟
  • وكيف يؤدي تقسيم الشغل إلى الحفاظ على تماسك المجتمع؟

تحليل نص جورج فريدمان: النظام الآلي

إشكال النص

ما هي آثار تقسيم الشغل على نفسية العامل؟

أطروحة النص

لقد أدى تقسيم الشغل إلى آثار سلبية على العامل، حيث لم يعد يتحكم في عمله عن طريق التفكير فيه والتخطيط له، بل حدث انشطار بين العمل والتفكير لدى العامل، فأصبح يقوم بعمل آلي خال من كل حافز أو تفكير عقلي حر .

مفاهيم النص

تقسيم الشغل / العامل: لقد أصبح الشغل مع نظام الآلية أكثر تجزيئا وتخصصا، وأصبحت الآلة تعوظ عمل الإنسان في الكثير من المهام، وهذا ما أدى إلى تقليص مساهمة العامل في الإنتاج وإضعاف ذكائه، ولم يعد يتحكم في مسار الشغل وفي الأهداف المرسومة له.

الشغل / تفكير العامل: لم يعد العامل يوظف تفكيره وذكاءه في التخطيط للإنتاج ورسم أهداف الشغل، بل أصبح تدخله ينحصر في بعض العمليات التي تكمل عمل الآلة. هكذا أصبح العامل مكرها على المشاركة في عمليات فارغة من كل قيمة فكرية. وحدث نوع من الانشطار بين العمل والتفكير لديه.

حجاج النص

اعتمد صاحب النص على آليتين حجاجيتين رئيسيتين من أجل إبراز أطروحته:

آلية الوصف

المؤشرات اللغوية الدالة عليها:

  • إن تقسيم الشغل … يخلق …
  • أصبح … أكثر تجزيئا … أصبحت…
  • … وضع قطعة تحت …
آلية النقد

المؤشرات اللغوية الدالة عليها

  • لم يعد العامل يختار ويقرر …
  • … وهو مكره على المشاركة في عمليات فارغة …
  • … تبرز لنا قساوة تقسيم الشغل .
مضمونهما

هكذا قدم لنا فريد مان وصفا للوضعية التي يعيشها العامل في ظل نظام الآلية وتقسيم الشغل، ليوجه انتقادا واضحا إلى هذا النظام الذي أدى إلى تبليد العامل و تشييئه، وإحداث انشطار وفصل بين إرادته وتفكيره من جهة، وما يقوم به من عمل داخل المصنع من جهة أخرى .

تحليل نص إميل دور كايم: لماذا يؤدي تقسيم الشغل إلى التماسك الاجتماعي ؟

إشكال النص

ما هي آثار تقسيم الشغل على المجتمع ؟

أطروحة النص

يولد تقسيم الشغل مشاعر الإنتماء إلى الجماعة، كما يؤدي إلى تماسكها وخلق تنافس إيجابي بين أفرادها، مما ينتج عنه تطور في الإنتاج وحيوية واستمرارية في العمل.

مفاهيم النص

الفرد / المجتمع:

  • لايستطيع الفرد أن يكتفي بذاته، فهو في حاجة إلى المجتمع من أجل تحقيق ما هو ضروري بالنسبة إليه.
  • الفرد يشتغل من أجل المجتمع.
  • الفرد جزء لايتجزء من المجتمع، فهناك روابط أخلاقية وروحية تدفعه إلى أن يشتغل من أجل الآخرين.

الشغل / النشاط الوظيفي:

  • يؤدي النشاط الوظيفي إلى تطوير الشغل وخلق تنافس وحيوية واستمرارية داخل المجتمع.

حجاج النص

استخدم صاحب النص أسلوبين حجاجين رئيسيين من أجل توضيح أطروحته

أسلوب التحليل

المؤشرات اللغوية الدالة عليه:

  • وبما أن الفرد … فهو …
  • كما أنه …
  • هكذا [ أسلوب الاستنتاج ] .
  • مثل هذه المشاعر ليس من شأنها فحسب أن تولد … و إنما تولد أيضا …

مضمونه: لايستطيع الفرد أن يحقق اكتفاء ذاتيا ويلبي كل الضروريات التي يحتاج إليها، ولذلك تتولد لديه روح الإنتماء إلى المجتمع، فيسعى إلى تقديم تضحيات ومجهودات من أجل المساهمة في تحقيق النظام داخل المجتمع.

أسلوب الإثبات

المؤشرات اللغوية الدالة عليه:

  • لا يتطور… إلا…
  • إن الأسباب التي… هي نفس الأسباب التي…
  • حينما يزداد… سينعكس…
  • وبالإضافة إلى ذلك، فإن تقسيم الشغل…

مضمونه: يؤدي النشاط الوظيفي والمتخصص في الشغل إلى خلق المنافسة والحيوية وتطوير الإنتاجية.

المحور الثالث: الشغل بين الاستلاب والتحرر

إشكال المحور

  • هل الشغل خضوع للحاجة ولنظام النشاط المنتج أم هو إبداع للذات ؟
  • وهل الشغل استلاب أم تحرر ؟

تحليل نص سارتر: الشغل تحرر

إشكال النص

هل يؤدي الشغل إلى استعباد العامل ونفي ذاته أم أنه على العكس من ذلك مصدر لتحررها وتحقيقها على مستوى الأشياء الطبيعية ؟

أطروحة النص

يرى سارتر أنه بالرغم مما في نظام التايلورية في الشغل من استعباد وقهر، فإنه مع ذلك عنصر محرر لذات العامل، إذ يؤدي إلى إثبات ذاته على الأشياء الطبيعية ويعمل على تحويلها إلى منتوجات صناعية مفيدة. إن الشغل إذن أداة تحرر للإنسان، خصوصا وأنه يخضع لقوانين ولا يتم تحت نزوات التملك لرب العمل.

مفاهيم النص

الشغل / الاستعباد

تتجلى مظاهر الاستعباد في الشغل فيما يلي:

  • لا يختار العامل شغله.
  • لا يختار العامل زمن شغله.
  • يتقاضى العامل أجرة ضئيلة لا تتناسب مع مجهوده في العمل.
  • تبليد العامل وتشييئه، والتعامل معه كآلة.
  • الروتين وتكرار نفس الحركات في العمل.

هكذا يؤدي الشغل تحت نظام الآلية إلى العديد من أشكال القهر والاستعباد بالنسبة للعامل.

الشغل / نظام التايلورية

يقوم نظام التايلورية في الشغل على تجزيء العمل، من خلال قيام العامل بحركات مضبوطة ومكررة تستهدف استغلال جهده من أجل الرفع من الإنتاج، وهو ما جعل هذا النظام يؤدي إلى تشييء العامل ونفي كل حرية وإبداع لديه في الشغل.

الشغل / الحرية

الشغل مجال لتحرر الذات لأنه:

  • لم يعد يتم تحت نزوات التملك لرب العمل، بل أصبح يخضع لقوانين تضمن الحقوق المشروعة للعامل.
  • يجعل الإنسان/ العامل يثبت ذاته على الطبيعة، فيحول أشياءها ويتحكم فيها.

حجاج النص

استخدم صاحب النص مجموعة من الأساليب الحجاجية من أجل توضيح أطروحته:

أسلوب الإثبات

المؤشرات اللغوية الدالة عليه:

  • يمثل الشغل…
  • بهذا المعنى …
  • من المؤكد أن …
  • فهو يجزىء نشاط العامل …
  • إن رب العمل يختزل …
  • وهكذا يميل …

مضمونه: إن الشغل مبدئيا هو أداة ثورية يحرر من خلالها الإنسان ذاته ويحققها، لكنه في ظل شروط نظام الآلية تحول إلى أداة لاستعباد العامل نظرا لما يتخلله من إقصاء لوعي وإرادة العامل في الشغل، والتعامل معه كآلة للإنتاج.

أسلوب المثال

الاستشهاد بمثال تورده السيدة “ستايل ” في مذكرة رحلتها إلى روسيا في بداية القرن 18م.

مضمونه: عشرون قنا من الأقنان الروس، يعزف كل واحد منهم نوطة واحدة بشكل متكرر كلما كان ذلك ضروريا، بحيث أصبح كل واحد منهم يحمل اسم النوطة التي يعزفها. وهذا شبيه بما يحدث للعمال في نظام التايلورية، حيث يتم اختزال شغل العامل في قيامه بحركات متكررة مئات المرات يوميا.

ثالثا مفهوم التبادل-شعبة الآداب والعلوم الإنسانية

1-مادة الفلسفة

2-المستوى الأولى باكالوريا

3-دروس الأسدس الثاني

4-مجزوءة الفاعلية والإبداع

5-الموضوع مفهوم التبادل- شعبة الآداب والعلوم الإنسانية-

6-الأستاذ محمد بضاض

تقديم

يتلخص مبدأ التبادل في إعطاء شيء مقابل شيء آخر قد يكون مكافئا أو غير مكافئ له، فهو إذن عطاء وأخذ أو أخذ وعطاء، وليس هناك تبادل بالعطاء فقط أو بالأخذ فقط، فالسرقة والسلب ليسا تبادلاً فهما أخذ فقط، وكذلك التبرع والتصدق وتقديم المساعدة … وينطبق الأمر كذلك على كل إجبار على العطاء دون الأخذ أو العكس.

إن التبادل من أهم آليات تشكل البنيات نتيجة مشاركة بنيتين أو أكثر في الأخذ والعطاء، فالتبادل هو الذي ينشئ التجاذب وبالتالي الترابط ضمن بنية واحدة، إن ما معي يجذبك لكي تأخذه وتضمه إليك وكذلك ما هو معك يجذبني لكي أخذه وهذا ينشئ قوى تؤدي إلى إجراء التبادل، وبعد إجراء التبادل ينتفي التجاذب إلا إذا كانت هناك قوى لتبادل جديد، فتكرار الأخذ والعطاء لا بد منه لاستمرار التجاذب. ولا يقتصر التبادل على تبادل الخيرات أو المنافع المادية بل يتعداه إلى تبادل رمزي للأفكار والمعتقدات وأنماط السلوك … ويمكن القول إن التبادل المادي يتضمن تبادلا رمزيا لأن كل سلعة تكون موضوعا للتبادل تحمل في طياتها علة ومنطق ورؤية صانعها.

  • فما هي أسس التبادل؟
  • وما العلاقة بين التبادل والمجتمع؟
  • ولماذا لا يكتفي الإنسان بالتبادل المادي فحسب؟

التبادل خاصية إنسانية صرف

لماذا يتبادل الإنسان و لا تتبادل الحيوانات؟

يقول أدم سميث: (لم نر قط كلبين “يتفاوضان” في أمر اقتسام قطعة عظم. لم نر أبدا أن حيوانا يحاول “إفهام” حيوان مثله، مستخدما صوته أو حركات جسمه، فيقول له: “هذا لي، وهذا لك، سأعطيك مالي مقابل أن تعطيني ما لك …)

ينطلق أدم سميث من هذه الملاحظة المقارنة بين الإنسان والحيوان ليخلص إلى أن التبادل خاصية إنسانية بامتياز، لأن التبادل يستلزم الحوار واللغة والتفاوض والتفكير في الأحجام والقياسات والمعادلات… وكل هذا مرتبط بالفكر والعقل، والحيوانات لا تستطيع مجاراة الإنسان في هذا المجال.

وبما أن التبادل خاصية إنسانية، فإنه لا يتأسس على العاطفة أو الشفقة أو الرحمة… بل يتأسس على مبدأ العطاء والأخذ. فكون الإنسان اجتماعيا، يعني الدخول في علاقات مع الآخرين وتبادل المنافع معهم. وإذا ما اعتمد الإنسان فقط على مساعدة الآخرين وعنايتهم به، فإنه لن يضمن إشباع حاجياته باستمرار. لذلك يستحسن أن يقدم الفرد للآخرين خدماته لقاء الحصول على خدماتهم، وبهذه الطريقة يتأسس التبادل على مبدأ الخدمات المتبادلة على أساس إشباع الاحتياجات المتبادلة.

يقول سميث: “أعطيني ما أحتاجه منك، وسأعطيك أنت ما تحتاجه مني”. بهذه الطريقة يتم الحصول على الجزء الأكبر من هذه الخدمات النافعة والضرورية بين الناس.

بيد أن ماركس يرى أن التبادل يتم على أساس مبادلة القيمة الاستعمالية بالقيمة التبادلية للخيرات. فالنجار ليس بحاجة لكل تلك الأبواب التي يخرجها للوجود بعمله. إنه بحاجة إلى خيرات وسلع من نوع آخر. أي أن الأبواب التي يصنعها لا تمثل بالنسبة إليه قيمة استعمالية، بل تمثل قيمة استعمالية عند آخرين (سباك، بقال، موظف…). لذلك يبحث الآخرون عن القيم الاستعمالية للأشياء ويبادلونها بالقيم التبادلية للأشياء التي ينتجونها.

لقد شكل التبادل أساس القيم الإنسانية منذ بداية الحياة الاجتماعية. ف”لكل شيء ثمن وكل شيء يشترى” كما قال نيتشه.

التبادل والروابط الاجتماعية

كيف يعمل التبادل على تأسيس الروابط الاجتماعية؟

يرى كلود ليفي ستراوس أن التبادل أو التواصل داخل كل مجتمع يجري على ثلاثة مستويات:

  • مستوى القرابة: من خلال الزواج.
  • مستوى الاقتصاد: من خلال المبادلات التجارية والنقدية.
  • مستوى الرموز: من خلال اللغة والآثار الأدبية والفنية.

إن الدافع للمبادلة بين البشر هو أن قدرات البشر المختلفة والظروف المختلفة لا تسمح لهم بالحصول على كافة حاجاتهم بسهولة متساوية (أرسطو، ابن خلدون)، فإنتاج السلع والخدمات أو توفرها غير متساو لدى البشر، فالإنسان الذي يسهل عليه الإنتاج الزراعي يمكن أن يصعب عليه الإنتاج الصناعي، فلكل إنسان قدراته وظروفه التي تؤهله أو تسمح له بإنتاج أو امتلاك سلع أو خدمات دون أخرى، وكذلك الجماعات والدول لكل منها قدراتها وظروفها التي تحدد إنتاجها وامتلاكها للسلع والخدمات، وهذا ما يستدعي الحاجة للمبادلة فيما بينهم.

ويجب لكي تجري مبادلة أن تختلف شدة الحاجة إلى السلع أو الخدمات المراد تبادلها، بالإضافة إلى اختلاف الكم المتوفر منها، فتوفر الهواء أو الماء المتاح للجميع مع أن الجميع بحاجة إليهما لا يستدعي إجراء مبادلة عليهما، وكذلك إذا كان لدي نقود ولديك أيضاً نقود ونحن بحاجة إلى طعام، فلن تجري مبادلة بيننا.

كان التبادل قبل ظهور السوق مجرد إنتاج عائلي وعطاء متبادل وإعادة توزيع. لكن مع تطور الإنسان ظهر السوق بوصفه نظام توزيع وتبادل ونمت معه أنماط التبادل التجاري التي جلبت معها التحضر والأخلاق المهذبة والسلام والوئام حتى بين الشعوب المتباعدة والمتنافرة لاسيما في حوض البحر الأبيض المتوسط. يقول مونتسكيو: “إن الأثر الطبيعي للتجارة هو الوصول إلى السلام. فأمتان تتفاوضان فيما بينهما، هما أمتان ترتبطان برباط متبادل…”.

لكن الحديث عن التبادل لا يكتمل دون الحديث عن النقود ودورها الأساسي في عملية التبادل. يرى ماركس أن النقود لعبت دورا حاسما في تاريخ التبادل، لقد كان التبادل يتم بواسطة المقايضة قبل ظهور النقود، أي أن طرفي التبادل يدخلان إلى السوق فيتبادلان سلعتين مختلفتين في نفس الآن. أي أن الأخذ والعطاء يتمان في لحظة واحدة. بيد أنه مع ظهور النقود أصبح من الممكن مبادلة السلعة بمقبلها النقدي، وتأجيل الحصول على المقابل السلعي إلى ما بعد، وهذا ما مكن حسب تحليلات ماركس، من تجاوز العلاقة: سلعة – نقود – سلعة (البيع من أجل الشراء) وبروز العلاقة: نقود – سلعة – نقود (الشراء من أجل البيع). العلاقة الأخيرة ساهمت في تراكم رأس المال، وظهور نمط الإنتاج الرأسمالي.

التبادل الرمزي: الهبة نموذجا

تستعمل مفردات الهبة والهدية والعطية والصدقة في نفس المعنى لأنها تتضمن كلها معنى العطاء والمنحة. لكن هذه المفرادات تختلف من حيث الدلالة اللغوية:

  • الهدية: هي الشيء الذي يمنحه الإنسان للغير إكراماً له وإجلالاً. إنها تتضمن معنى المنح والحمل.
  • الهبة: هي منح من دون حمل. إنها في الأصل تمليك، ويقصد بها تمليك الغير المال الذي يملكه الواهب على سبيل المعروف والإحسان.
  • العطية: هي عطاء مع وقف التنفيذ إلى حين وفاة الشخص الذي أعطاها. فالعطية تكون لما بعد الموت.
  • الصدقة :هي منح أو عطاء يبتغي من وراءه صاحبه أجرا معنويا في العالم الآخر.

تمنح الهبة والهدية وحتى العطية نسبيا بغرض كسب القلوب والتعاطف والمودة، أما الصدقة فيبتغى بها تحقيق المكاسب المعنوية في العالم الآخر حسب المعتقدات الدينية.

فما هي وظيفة الهبة في التبادل الرمزي؟

في دراسته لنظام البوتلاتش، وهي دراسة لمارسيل موس عن بعض قبائل الهنود الحمر التي تعيش في الجزء الشمالي الغربي من أمريكا، وهذه القبائل هي: الكيوكتيل، الهايدا والتسمشيان، لاحظ أن النظام الاجتماعي يرتكز في أساسه على أن يقوم الشخص من ذوي المكانة والمركز الاجتماعي في هذه القبائل بتوزيع نوع معين من الأغطية الصوفية على الضيوف في حفل رسمي كبير. وبعد فترة من الزمن يرد الضيوف هذه الأغطية في حفل رسمي كبير أيضاً بعد إضافة أعداد أخرى كبيرة منها قد تصل إلى أضعاف ما أخذوه منه في الأصل، وهذا التبادل الذي يتم بين أفراد المجموعة يصاحبه دائماً بعض الطقوس والشعائر. وفي هذه المجتمعات تتضمن الهبات نوعا من الإلزام حيث يتوجب على الموهوب له أن يرد الهبة وبأحسن منها، والامتناع عن القيام بهذا السلوك قد يزعزع المركز الاجتماعي للشخص ويقلل من هيبته ومكانته.

فهذه الطقوس تعمل على حفظ حقوق أطراف العلاقة في الأخذ والرد ولذلك فإنها تحقق الاستقرار وتدعم أواصر العلاقات داخل مجتمع القبيلة. بالإضافة إلى أن هذا النظام الشعائري يهدف إلى اكتساب المزيد من الشرف والسمعة الطيبة وذيوع الصيت عن طريق المنح والإعطاء والمبالغة في الرد والدليل على ذلك أن الشخص كثيراً ما يلجأ إلى إحراق هذه الأغطية ذات القيمة الاجتماعية العالية وأحياناً أخرى قد يحرق بعض ممتلكاته ليدلل على استهانته بالأشياء المادية ويدعو غيره من الأشخاص الذين يحضرون حفل البوتلاتش إلى مجاراته في أعماله. كلما أحرق أو أتلف الشخص هذه السلع المادية كلما ارتفعت مكانته في المجتمع، وهذا هونسق العطية.

أن نظام البوتلاتش يساعد على إشباع الحاجة التي يشعر بها الشخص للحصول على المزيد من السمعة وذيوع الصيت. فهو نظام شعائري تدخل فيه الكثيرمن الطقوس التي ترتبط فيها الأنظمة الاقتصادية في المجتمعات البسيطة ارتباطا وثيقا بالأنظمة الاجتماعية. إن تبادل الهدايا في البوتلاتش يتم بشكل إرادي على الرغم من وجود صفة الإلزامية فيه، وإن عمليات التبادل لاتخلو من أبعاد اقتصادية تتمثل في وجود مفهوم القيمة في هذه التبادلات التي تتم بهدف الحصول على المكانة الاجتماعية والهيبة أكثر من الحصول على السلع المادية، إن الطقوس والشعائر التي تمارس في البوتلاتش تحافظ على الاستقرار الاجتماعي لأنها تنظم قضية الأخذ والرد وتدعم أواصر العلاقات بين القبائل في الوقت الذي تحتل العلاقة بين السلع منزلة ثانوية بالنسبة للعلاقة بين الأشخاص.

أما مالينوفسكي، في دراسته لنظام تبادل الكولا الذي يمارس في جزر التروبرياند في المحيط الهادي وفي بعض جزر استراليا، فقد لاحظ أن الكولا نظام شعائري تتبعه بعض القبائل التي تعيش في منطقة جزر واحدة وتنتشر على شكل حلقة وتكون دائرة مغلقة للتبادل، وفي نطاق هذه الدائرة يتبادلون مجموعتين من السلع: مجموعة السولافا “المحار” ومجموعة الموالي.

رابعا مفهوم الفن

1-مادة الفلسفة

2-المستوى الأولى باكالوريا

3-دروس الأسدس الثاني

4-مجزوءة الفاعلية والإبداع

5-الموضوع مفهوم الفن

6-الأستاذ محمد بضاض

تحلیل نص كانط: تعریف الفن

إشكال النص

  • ما هو الفن؟
  • وما الذي یمیز العمل الفني عن الطبیعة والعلم والحرفة؟

أطروحة النص

الفنالطبیعة
الصنع
الوعي
أثر إبداعي حر
الفعل
الغریزة
فعل مقید بمحددات غریزیة
الفنالعلم
الملكة العملیة
المهارة
غیر قابل للتعلم
الموهبة
الملكة النظریة
النظر العقلي
قابل للتعلم
الاكتساب
الفنالحرفة
غایة جمالیة ووجدانیة
عمل ممتع
لعب
عمل حر
غایة مادیة وارتزاقیة
عمل شاق
شغل
عمل إجباري

← هكذا نستنتج أن الفن هو عمل إنساني واع وحر، یتطلب الموهبة من جهة والمهارة من جهة أخرى. كما أنه عمل ممتع غیر قابل للتعلم، بمعنى لا یمكن إنجازه بمجرد معرفة قواعده، كما أنه ذو غایة جمالیة وجدانیة.

البنیة المفاهیمیة

الفن ↔ الطبیعة

یختلف الفن عن الطبیعة باعتبار الأول أثرا إبداعیا حرا یتطلب حضور الوعي، بینما الثاني هو نتاج صادر عن الغریزة ومقید بقوانینها.

الفن ↔ العلم

الفن هو عمل إبداعي ناتج عن الموهبة ومخیلة الفنان، ولذلك لا یمكن تعلمه بمجرد معرفة قواعده، بینما العلم ناتج عن العقل النظري  ویمكن تعلمه بمعرفة القواعد والمبادئ التي یتأسس علیها.

الفن ↔ الحرفة

یتمیز الفن عن الحرفة باعتباره عملا ممتعا وحرا وذا غایة جمالیة ووجدانیة، في حین نجد أن الحرفة عمل شاق، إجباري وذو غایة مادیة  وارتزاقیة.

الفن ↔ اللعب

یشبه كانط الفن باللعب لأن كلیهما فیه حریة ومتعة وترفیه عن النفس.

الأسالیب الحجاجیة

استخدم صاحب النص مجموعة من الأسالیب الحجاجیة لتقدیم أطروحته، من أبرزها أسلوبي التقابل والمثال.

أسلوب التقابل

یتمثل في مجموعة من التقابلات التي أقامها صاحب النص بین الفن من جهة، والطبیعة والعلم والحرفة من جهة أخرى. والغرض من ذلك هو إبراز أوجه الاختلاف الموجودة بین الإبداع الفني وباقي الأنشطة الإنسانیة الأخرى. وقد وضحنا هذه التقابلات في تقدیمنا لأطروحة النص.

أسلوب المثال

حیث نجد في النص مثالین رئیسیین:

المثال الأول:

  • مضمونه: یتعلق بمكعبات الشمع التي ینتجها النحل انطلاقا من دوافع غریزیة، وهو ما لا یسمح لنا بأن ننعت عملها بالإبداع الفني الذي یتطلب عنصري الوعي والحریة.
  • وظیفته: الغرض من هذا المثال هو إبراز أن الفن خاصیة ممیزة للإنسان وحده دون الحیوان.

المثال الثاني:

  • مضمونه: یتعلق بعالم التشریح الهولاندي كامبیر الذي تمكن من إعطاء وصف نظري دقیق لكیفیة صنع أحسن الأحذیة، ولكنه مع ذلك لم یستطع أن یصنع أي واحد منها.
  • وظیفته: وظیفة هذا المثال في النص هو تبیان كیف أن المعرفة النظریة بقواعد الفن وضوابطه لا تكفي وحدها لإبداع أعمال فنیة، وهذا یدل على أن الإبداع في المجال الفني یشترط عنصرا أساسیا هو الموهبة.

إبن رشد(595ه) والسعادة الفلسفية

نادرا ما يصاب الروح بنشوة اللقاء بالوجود المدهش والمبتهج، لكن حين يكون الخطر الأكبر هو قدر الأقدار يستيقظ سؤال الوجود والعدم في الفكر ليحرك الروح نحو الابتهاج بعيدا عن الأسئلة،

هكذا يتم استحضار كل الفلاسفة الذين ينامون على حضن الزمن الحلو، ويكبر الشوق إلى مناداتهم من خلال نداء الحقيقة،

فإلى أي مدى يمكن للفلسفة أن تتحول إلى حياة؟

وهل تستطيع الحياة أن تلبس لباس الفلاسفة؟

وهل تدرك الفلسفة أنها بقدر ما أدخلت البهجة والفرح إلى قلوب الفلاسفة بقدر ما كانت السبب في مأساتهم؟،

وماذا يمكن لكتاب الفلاسفة أن يقدمه عن امتزاج الفرح بالمأساة؟

وكيف يستطيع أن يختار إقامته بين التراجيديا والكوميديا؟

وهل بإمكاننا أن نقدم فلسفة لا ماضي لها؟.

لا أريد سوى الاقتراب من فيلسوف المستقبل الذي يتوفر على ملكة النسيان، لأن روحه تنعم بنشوة الحلم والثمالة ولذلك يستطيع أن يشعل نار الاسئلة التي ستتمكن من حرق المحصول الرديء للعقل الأسطوري الذي اعتقل الروح في لحظة جامدة في الزمان، مما حرمها من الاستماع لأنشودة الوجود، هكذا سيهاجمها العدم إلى ان تخترقها العدمية.

جحيم العدمية

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

وما من أمة سقطت في جحيم العدمية، إلا وكان العقل الأسطوري مرشدها، ذلك أن هذا العقل لا يتحرك بحرية إلا في العدمية،

ومن ثم أصبح العدم هو غايته

ونشر العدمية هدفه، لكن غالبا ما يصاب بصدمة حين تواجهه أسئلة الفلسفة، إذ تجده يتلعثم كالأطفال، لأن كلماته خرساء تفتقد لجدلية العقل والتاريخ:

«فنحن لا نخدع إلا أنفسنا طالما تركنا العقل الأسطوري يسيطر علينا اذ سنقوم بصناعة أعظم الأشياء فراغا من المعنى».
فثمة لقب يطلق على الإنسان الذي حقق ذاته في الوعي التاريخي، ولعل هذا اللقب هو العقلاني،

لأنه بواسطة العقل يحصل على الفكر الذي سيمكنه من تمزيق الحجاب على وجه الحقيقة المشرق،

وسيصاب بالدهشة حين يجد أن الحقيقة ليست شيئا آخر غير حضور الوجود في الزمان.
فحضور الحاضر هو المعنى الذي منحته الفلسفة اليونانية للوجود،

وقد تأثر الفلاسفة العرب بهذه الحقيقة،

ولذلك نجد ابن رشد يتناول وجودية الوجود انطلاقا من الميتافيزيقا كما تركها أرسطو، وقد استطاع أن يواجه غموضها بوضوحه، وعنف أسئلتها بنعومة تفسيره،

بيد أن شراسة الزمان دمرته وبدأ يشكو من اليأس والشيخوخة اذ يقول:

«وقد اللغة» ثم يغير لغته في مقالة اللام قائلا:

«وقد كنت في شبابي أؤمل أن يتم لي هذا الفحص وأما في شيخوختي هذه، فقد يئست من ذلك، إذ أعاقتني العوائق عن ذلك، ولكن لعل هذا يكون منبها لفحص من يفحص بعد هذه الأشياء».
فبأي معنى يمكن أن نفهم هذا الانتقال من التعب الطويل إلى اليأس المطلق؟

، ألا تكون الميتافيزيقا قد أرغمت الفيلسوف على الرحيل باكرا قبل أن توجه إليه تهمة الزندقة؟ .

ألم يكن ابن رشد في شبابه متحمسا وفي شيخوخته يائسا؟

وما قيمة هذه الحياة التي بدأت وانتهت في الميتافيزيقا؟

لم يكن الفيلسوف يبحث عن سعادته خارج دائرة الميتافيزيقا،

بل لأنها شغف بالحياة الفاضلة، ولذلك فإن هذا العشق المأساوي يحمل في ماهيته نشوة الوجود التي تسمح للفيلسوف بالانتقال من مرتبة المعرفة إلى مقام الكشوفات الروحية،

هكذا يتعاظم الشوق، وتكبر معه مشاكل الفيلسوف، وبخاصة وأنه يواجه آراء أهل المدينة الجاهلة بآراء أهل المدينة الفاضلة،

اذ يعلن بصوت مرتفع: «وبلوغ السعادة إنما يكون بزوال الشرور عن المدن وعن الأمم»

وعوض أن يصبح الجهل شرا أصبحت الحكمة هي الشر انطلاقا من معيار تهافت الفلاسفة، هكذا تم الإعلان عن الحرب ضد الفلاسفة، وبخاصة المشائين أتباع أرسطو
.

العقل الإنساني من الظلام إلى الأنوار

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ليس هناك فيلسوف واحد لم يكن ضحية عشقه لكتاب الميتافيزيقا لأرسطو،

إلى درجة أن هيغل يعلن بصوت مرتفع

انه لو كانت الفلسفة تسعى لأن تصبح جادة لاختصرت تاريخها في أرسطو،

لأنه وحده استطاع أن يوجه العقل الإنساني من الظلام إلى الأنوار،

ولذلك كان مرعبا لتلك الأمم التي تعودت على الإقامة الأبدية في الليل الروحاني،

وهذه الأمة التي اضطهدت الحكمة ووقفت عند كتاب تهافت الفلاسفة وقدسته، ولعل تفسير الحكمة بوصفها زندقة ممكنة عند العقل الاسطوري الذي أبدع أمة منحطة تعيش على ايقاع نسيان الوجود والفكر، لكون ضجيج العواطف أضحى شرسا، وتحولت عين الروح نحو الابتهالات والأبخرة المقدسة.

مما حكم عليها بتكرار نفسها في ثقافة بدائية تصارع العلم والموضة باسم التطرف الديني، ولم يعد الفكر شيئا آخر سوى تكرار ذاته في الحقيقة الموروثة، بل إن السؤال المتعلق بإشكالية الفكر والوجود تم اختصاره في اشكالية التوفيق بين الحكمة والشريعة، ولذلك تم اعتقال العقل في سجن التأويل الشرعي للحلال والحرام، هكذا والشاهد على ذلك أن الدفاع عن وجوب الحكمة بالشرع، قد جعلت ابن رشد ينتحل صفة المحامي، من أجل دحض تهمة الزندقة والتكفير، كما روج لهما الغزالي، الذي كان سفسطائيا مضللا للعامة بآرائه السفسطائية، التي كانت تهدف إلى نسف الفلاسفة، من اجل هدم بيت الحكمة، يقول ابن رشد: «فقد يجب علينا أن ألقينا لمن تقدمنا من الأمم السالفة نظرا في الموجودات واعتبارا لها حسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم، وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم».
وبما أن الغزالي قد عجز عن الخروج من المنظور العدمي للفلسفة العربية فإن نقده لم يفض إلى شيء آخر سوى نشر الكراهية للفلسفة والعلم، وبخاصة عند العامة والخطباء، هكذا تحطمت إرادة المعرفة وتحولت إلى بخس لقيمة الحياة والوجود، ومنحها أبعادا عدمية». ولذلك لم يستطع الفكر العربي بعده أن يميط اللثام عن هذه النزعة العدمية، بل تحول هو نفسه إلى فكر عدمي لا يرى ذاته سوى في اجترار التراث، وتقديسه لميثولوجيا الخلافة مع غياب مطلق للوعي التاريخي.

العودة إلى التراث

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ولعل هذا العود الأبدي للتراث قد حطم كل الجسور المؤدية إلى فلسفة المستقبل، بمعنى الهدم المطلق لكل أمل يقود إلى بناء النهضة العقلانية والثورات العلمية، ما دام أن التراكم التاريخي ظل ثابتا في لحظة مقدسة للزمان، تحاكمه بمعيار اخلاقي وثيولوجي، مما ارغم الصيرورة على التوقف نهائيا عن الحركة، لأنها لا تؤمن الا بالاختلاف والتعدد كما يحددهما الوجود، فالصيرورة والوجود هما الشيء ذاته. ولعل هذه الوحدة بين الوجود والصيرورة، بين العقل والتاريخ قد ازعجت الغزالي، وحركته إلى الدفاع عن النزعة العدمية التي تسعى إلى الهدم من أجل الهدم . فبأي مفهوم يمكن ان نواجه هذه النزعة العدمية؟ هل بمفهوم الصيرورة؟ ام بمفهوم الوجود؟ ام لا بد من استنبات فيلسوف المستقبل إلى أن يصير له ظل على هذه الأرض؟
مهما يكن من أمر هذا الزمان العبثي، فإن وعي الأمة لا يحقق ذاته إلا في الحرية والفكر، ونظرا لكونهما لا يتحققان سوى في فلسفة الصيرورة، فينبغي لفيلسوف
المستقبل، باعتباره طبيبا للحضارة أن يصالح روح هذه الأمة مع التاريخ في أسمى صوره أي حين يصبح جدلا بين الصيرورة والوجود. والحال أن الصيرورة قد تتساقط في التاريخ كقطرات المطر على الأرض، بيد أنها لا تريد أن تصبح هي التاريخ، لأنها لا تملك في ذاتها بداية ونهاية، ومن طبيعة التغيير أن يؤثر في الزمن، دون أن يتأثر به، والفلسفة بدون رغبة في التغيير لا جدوى منها، ذلك أن الفلاسفة الذين يفسرون العالم قد ماتوا من اجل ولادة الفلاسفة الذين سيغيرون العالم ويحررون الإنسانية من العبودية، هكذا ستعانق الفلسفة السياسية مأساة الإنسان كما أراد لها ماركس، وكل الفلاسفة الذين نسجوا على منواله.
ولعل هذا ما يسميه آلان باديوب ”الفلسفة في الحاضر»، ومعنى ذلك أن السياسة لا تحقق كمالها إلا حين تنصهر في فلسفة الحاضر، او بالأحرى التدبير الحكيم والفضيل لهذا الحاضر، ولذلك ينبغي على السياسي المحترف ان يكون فيلسوفا محترفا أو هاويا حتى لا يسعى إلى جعل من المثقفين مجرد هواة في العمل السياسي.
ومن الحكمة أن تساهم الفلسفة في تدبير الدولة المدنية: «ثمة التزامات سياسة تنيرها الفلسفة، أو حتى قد تكون الفلسفة سببا في ضرورتها، ولكن الفلسفة والسياسة متمايزتان، فالسياسة تهدف إلى تحويل الاوضاع الجمعية، فيما تسعى الفلسفة إلى طرح مشكلات جديدة للجميع .. تتعلق بالنضال السياسي المباشر. وبإمكان خصوم العقل أن يتهموا الفلسفة بالغموض والتجريد، بيد أن مهمة الفكر تتجاوز جدود الواقع الملتبس، من أجل خلق المسافات بين المشاكل والحلول. أما ان يقال للفيلسوف: «لن توجد جمهوريتك في اي مكان» فسيجيب قائلا على لسان سقراط: «ففي كل الأحوال لعلها ستوجد في مكان ما غير بلادنا

تلخيص جمهورية افلاطون

نبذة عن المؤلف
ولد أفلاطون في أثينا عام 428 قبل الميلاد، لعائلة أرستقراطية، وتزعم المصادر القديمة أن والده، أريستون، كان من نسل كودروس، آخر ملوك أثينا، ووالدته ، بريونسيون ، من سولون وهى مشرعة أثينية تكاد تكون أسطورية ومؤلفة أول دستور للمدينة.

يظهر شقيقا أفلاطون، وهما: (قولاكن Glaucon) و(أدمينتوس Adeimantus)، كإثنين من الشخصيات الرئيسية في كتاب الجمهورية
توفي أريستون أثناء طفولة أفلاطون، وتزوجت والدته من بيريميلامس، صديق رجل الدولة الأثيني بريكليس، ومع ولادته النبيلة ومواهبه الفكرية، كان لدى أفلاطون في فترة شبابه آفاق جيدة في السياسة الأثينية.

بعد وفاة سقراط، كرس أفلاطون نفسه لمواصلة عمل معلمه، وقضى سنوات في السفر حول البحر الأبيض المتوسط، والتعليم والتعلم، حتي توفي في 347

عن المؤلف

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

أفلاطون: أحدُ أشهر وأعظم الفلاسفة الغربيين، موسوعيُّ المعرفة، عميقُ الفكر، له طريقة فريدة في عرض أفكاره بأسلوبٍ بسيط ومنطقي يَفتِن القراء.

وُلد أرسطوقليس بن أرستون في أثينا عام ٤٢٧ق.م تقريبًا، واشتُهر باسم «أفلاطون» الذي يُعبِّر عن ضخامة الجسد. تَربَّى في عائلةٍ أرستقراطية مثقفة اهتمَّت بتربيته بدنيًّا وفكريًّا، بدأ حياته بالتعلُّم من السفسطائيين ومن أحد تلامذة هرقليطس، وبعدها قابل مُعلمه سقراط ولازمه حتى صدور حكم الإعدام الجائر للمعلم؛ الأمر الذي جعله يرى الفسادَ في نظام الحكم وضرورة أن تكون الفلسفة أساسًا لهذا النظام، وهو ما دفعه للقيام برحلته الكبرى من أجل البحث عن الحكمة؛ فسافر إلى مصر وزار إقليدس وتعلم من كهنة عين شمس، ثم إلى قورينا والتقى بالعالِم الرياضي المشهور تيودورس وتعلم الشعر والموسيقى والرياضيات والفلك … واستمرت رحلاتُه اثني عشر عامًا، عاد بعدها إلى أثينا مسقط رأسه إنسانًا ناضجًا تمامًا، وأسَّس فيها مدرستَه الفلسفية، وانقطع بعدها للكتابة والتعليم.

له العديدُ من المؤلفات التي اتَّبع فيها أسلوبَ المحاورة لشيوعه في عصره، متمثلًا شخصيةَ مُعلمه سقراط، وناقش العديد من القضايا الفلسفية، كالوجود والفضيلة والروح والمعرفة والحب … وتميَّزتْ فلسفته المثالية بالسعي الدائم لتحصيل المعرفة الكلية الشاملة من أجل الوصول إلى الحقيقة كهدفٍ أسمى. ومن أهم مؤلفاته كتاب «الجمهورية» الذي يتكلم فيه عن الفلسفة السياسية في عشرة كُتيِّبات، وكتاب «المأدبة» في فلسفة الحب.

تتلمذ على يديه العديدُ من أعلام الفلاسفة، أشهرُهم تلميذه أرسطوطاليس الذي اهتمَّ بحضور مناقشات أفلاطون، والذي نقل عنه شفهيًّا ما يصح أن يُطلَق عليه «تعاليم أفلاطون غير المكتوبة» من خلال مدرسته المشائية.

تُوفِّي أفلاطون عام ٣٤٧ق.م بعدما وضع أُسُس الفلسفة المثالية وترك أثرًا في الإنسانية لا يُمحى.

نبذة عن الكتاب

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

كتاب الجمهورية أحد أكثر أعمال أفلاطون شهرة، ويُعزى إلى الدروس التي تعلمها من سقراط، ويعتبر أول كتاب عن العلوم السياسية أو الحكومة ويستخدم والأسلوب الأفلاطوني لتأمل الأفكار حول العدالة.

في الكتاب، تقرر مجموعة إنشاء مدينة وهمية لتحديد شكل العدالة، وتنقسم المدينة إلى فصول: الحكام الذين يفهمون الصواب والخطأ، الأوصياء الذين يحمون المدينة ويعتنون بشعبها، والمنتجون الذين يقدمون السلع والخدمات للناس.

واحدٌ من أثمن الكتب المؤسِّسة للفكر السياسي؛

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

«الجمهورية» التي تتحقَّق فيها العدالة كما ارتآها «أفلاطون» قبل الميلاد بنحو أربعة عقود.

الكتاب الذي ترجَمَه «حنَّا خبَّاز» إلى اللغة العربية هو عبارة عن حوار فلسفي سياسي، يَعرض من خلاله أفلاطون رؤيتَه للدولة المثالية أو المدينة الفاضلة السقراطية؛ فسقراط هو المُحاوِر الرئيس، وحوله شخصيات عدة يُجادلها وتُجادله، وتتحدَّد مع تصاعُد الجدال ملامحُ جمهورية أفلاطون المتخَيَّلة. في جمهورية أفلاطون ينتمي كلُّ فردٍ من أفراد المجتمع إلى طبقةٍ محددة، ويعمل في مجالِ تخصُّصٍ محدد، ويتحقَّق التوازن بين القوى الثلاث التي يتكوَّن منها المجتمع: القوة العاقلة، والقوة الغضبية، والقوة الشهوانية. وبينما يحاول تقديمَ تعريفٍ للحاكم العادل ويقابله بالحاكم المُستبِد، يُقسِّم الحكومات إلى أربعة أنواع: الأرستقراطية، والأوليغاركية، والديمقراطية، والاستبدادية. وهو من جهةٍ يعلن ميْلَه إلى الملكية الدستورية، ومن جهةٍ أخرى يُقِرُّ بأن العدالة المُطلَقة تظلُّ عَصِيةً على التحقُّق.

جمهورية أفلاطون
أفلاطون
ترجمة حنا خباز

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

واحدٌ من أثمن الكتب المؤسِّسة للفكر السياسي؛ «الجمهورية» التي تتحقَّق فيها العدالة كما ارتآها «أفلاطون» قبل الميلاد بنحو أربعة عقود.

الكتاب الذي ترجَمَه «حنَّا خبَّاز» إلى اللغة العربية هو عبارة عن حوار فلسفي سياسي، يَعرض من خلاله أفلاطون رؤيتَه للدولة المثالية أو المدينة الفاضلة السقراطية؛ فسقراط هو المُحاوِر الرئيس، وحوله شخصيات عدة يُجادلها وتُجادله، وتتحدَّد مع تصاعُد الجدال ملامحُ جمهورية أفلاطون المتخَيَّلة. في جمهورية أفلاطون ينتمي كلُّ فردٍ من أفراد المجتمع إلى طبقةٍ محددة، ويعمل في مجالِ تخصُّصٍ محدد، ويتحقَّق التوازن بين القوى الثلاث التي يتكوَّن منها المجتمع: القوة العاقلة، والقوة الغضبية، والقوة الشهوانية. وبينما يحاول تقديمَ تعريفٍ للحاكم العادل ويقابله بالحاكم المُستبِد، يُقسِّم الحكومات إلى أربعة أنواع: الأرستقراطية، والأوليغاركية، والديمقراطية، والاستبدادية. وهو من جهةٍ يعلن ميْلَه إلى الملكية الدستورية، ومن جهةٍ أخرى يُقِرُّ بأن العدالة المُطلَقة تظلُّ عَصِيةً على التحقُّق.

تاريخ إصدارات هذا الكتاب‎‎

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

صدر الكتاب الأصلي عام ١٧٩٣
صدرت هذه الترجمة عام ١٩٢٩
صدرت هذه النسخة عن مؤسسة هنداوي عام ٢٠١٧

محتوى الكتاب

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

مقدمة المترجم
الكتاب الأول: العدالة
الكتاب الثاني: المدينة السعيدة
الكتاب الثالث: دستور المدينة
الكتاب الرابع: الفضائل الأربع
الكتاب الخامس: المسألة الجنسيَّة
الكتاب السادس: الفلاسفة
الكتاب السابع: المُثُل
الكتاب الثامن: الحكومات الدُّنيا
الكتاب التاسع: المستبد
الكتاب العاشر: التقليد وجزاء الفضيلة

تتمة ملخص كتاب جمهورية افلاطون

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

يتم عرض الكتاب في شكل حوار بين سقراط وثلاثة محاورين مختلفين، وهو عبارة عن استقصاء لمفهوم المجتمع المثالي والفرد المثالي بداخله، وأثناء المحادثة، يتم طرح أسئلة أخرى: ما هو الخير؟ ما هي الحقيقة؟ وما هي المعرفة؟ يتناول الكتاب أيضا غرض التعليم ودور كل من النساء والرجال كأوصياء على الشعب.

تتمثل استراتيجية أفلاطون في الكتاب في توضيح المفهوم الأساسي للعدالة الاجتماعية أو السياسية، ومن ثم استنباط مفهوم مماثل للعدالة الفردية، وفي الكتب الثاني والثالث والرابع، يحدد العدالة السياسية على أنها وئام في هيئة سياسية منظمة، ويمكن تلخيص أهم محاور الكتاب فيما يلي:

يتكون المجتمع المثالي من ثلاثة فئات رئيسية من الناس: المنتجون (الحرفيون، المزارعون، غيرهم)، المساعدين (المحاربين)، والأوصياء (الحكام)، المجتمع ينشأ فقط عندما تكون العلاقات بين هذه الطبقات الثلاث صحيحة.
يجب أن تؤدي كل مجموعة وظيفتها المناسبة فقط، ويجب أن تكون كل مجموعة في وضع القوة المناسب بالنسبة إلى المجموعات الأخرى، ويجب أن يحكم الحكام، وأن يدعم المساعدون قناعات الحكام، ويقتصر المنتجون على ممارسة أي مهارات تمنحها لهم الطبيعة (الزراعة، الحدادة، الرسم، وغيره.)
العدالة مبدأ من مبادئ التخصص: مبدأ يتطلب من كل شخص أن يحقق دوره في المجتمع الذي هيئته له الطبيعة وألا يتدخل في أي عمل آخر.
في نهاية الكتاب الرابع، يحاول أفلاطون إظهار أن العدالة الفردية تعكس العدالة السياسية.
يدعي أفلاطون في الكتاب أن روح كل فرد لها هيكل من ثلاثة أجزاء يشبه الطبقات الثلاثة في المجتمع، هناك جزء عقلاني، يسعى وراء الحقيقة وهو مسؤول عن ميولنا الفلسفية، وجزء مفعم بالحيوية، وهو مسؤول عن مشاعر الغضب والسخط، جزء شهواني (لتلبية الاحتياجات الجسدية)، ولكن المال أهم من ذلك كله (حيث يجب استخدام المال لتحقيق أي رغبة أساسية أخرى)
في الفرد العادل، تهدف الروح بأكملها إلى تحقيق رغبات الجزء العقلاني، كما هو الحال في المجتمع العادل حيث يهدف المجتمع بأكمله إلى تحقيق ما يريده الحكام.
يوضح أفلاطون أن العالم منقسم إلى عالمين، المرئي (الذي نفهمه مع حواسنا) والواضح (الذي نفهمه فقط بعقلنا)
العالم المرئي هو الكون الذي نراه من حولنا، ويتكون العالم الواضح من الأشكال وهي نماذج مجردة غير قابلة للتغيير، مثل الخير، والجمال.
في الكتاب التاسع، يقدم ثلاث حجج لاستنتاج أنه من المستحسن أن يكون عادلا، من خلال رسم صورة نفسية للطاغية، يحاول أن يثبت أن الظلم يعذب نفسية الرجل، في حين أن الروح العادلة هي روح صحية وسعيدة وهادئة.
ينهي أفلاطون كتابه بعد أن حدد العدالة وأثبت أنها أعظم خير، فإنه ينفي الشعراء من مدينته، لأن الشعراء، كما يزعم، يشجعونا على الانغماس في العواطف الباطلة في التعاطف مع الشخصيات التي نسمع عنها.
في الختام روى أفلاطون أسطورة (إر Er) الإغريقية، التي تصف مسار الروح بعد الموت، وتكافأ النفوس العادلة لألف عام، بينما تتم معاقبة أولئك الظالمين على نفس القدر من الوقت، وبعدها كل روح يجب أن تختار حياتها القادمة.

ملخص كتاب جمهورية أفلاطون

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

جمهورية افلاطون, لمعرفة جذور الفلسفة الغربية في الحكم ,
هذا الكتاب كتبه أفلاطون على لسان أستاذه سقراط, حوالي 400 قبل الميلاد, وهو عبقري بلا شك, حيث تناول مناقشة قضايا تخص الدول والمجتمعات الشرقية والغربية منذ فجر التاريخ الإنساني , وحتى يومنا هذا
يناقش أفلاطون في بداية الكتاب فكرة العدالة, وكيف نبني دولة عادلة أو أفراد يحبون العدالة

يقدم سقراط في المحاورات داخل الكتاب تعريفا للعادل وهو الحكيم والصالح ,
وإن المتعدي هو الشرير والجاهل
وهو يظن ان الانسان يميل بطبعه الى التعدي أكثر من العدالة, والدولة ينبغي أن تعلم الافراد حب العدالة
ويشبه أجزاء الدولة بأجزاء الإنسان …
الدولة تنقسم الى :
طبقة الحكام , طبقة الجيش , طبقة الصناع والعمال

ويقسم الانسان الى :
الرأس وفيه العقل, وفضيلته هي الحكمة
القلب , وفيه العاطفة, وفضيلته هي الشجاعة
البطن, وفيه الشهوات, وفضيلته هي الاعتدال

والدولة العادلة هي التي يقوم كل فرد فيها بالعمل الخاص بطبيعته :
الحاكم يحكم, الجندي يحمي , العامل يشتغل

وهكذا تكون فكرة العدالة في النفس البشرية :
العقل يضبط الشهوات, العواطف تساعد العقل في عمله, كالغضب ضد الاعمال المنحطة والخجل من الكذب

والعدالة الاجتماعية هي جزء من هذه العدالة الداخلية / عدالة

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ثم يتساءل : هل نطلب القوة أم نطلب الحق؟
وهل خير لنا ان نكون صالحين أو أن نكون أقوياء؟
ويقول سقراط في المحاورات ان الطمع وحب المزيد من الترف هي العوامل التي تدفع بعض الناس للتعدي على الجيران وأخذ ممتلكاتهم, أوالتزاحم على الأرض وثرواتها, وكل ذلك سيؤدي الى الحروب

ويقول ان التجارة تنمو وتزدهر في الدولة, وتؤدي الى تقسيم الناس بين فقراء وأغنياء,
وعندما تزيد ثروة التجار تظهر منهم طبقة يحاول أفرادها الوصول الى المراتب الاجتماعية السامية عن طريق المال, فتنقلب احوال الدولة, ويحكمها التجار وأصحاب المال والبنوك, فتهبط السياسة, وتنحط الحكومات وتندثر
ثم يأتي زمن الديمقراطية, فيفوز الفقراء على خصومهم ويذبحون بعضهم وينفون البعض الاخر ويمنحون الناس أقساطا متساوية من الحرية والسلطان..
لكن الديمقراطية قد تتصدع وتندثر من كثرة ديمقراطيتها, فإن مبدأها الاساسي تساوي كل الناس في حق المنصب وتعيين الخطة السياسية العامة للدولة..
وهذا النظام يستهوي العقول, لكن الواقع أن الناس ليسوا أكفاء بالمعرفة والتهذيب ليتساووا في اختيار الحكام وتعيين الافضل, وهنا منشأ الخطر..
ينشأ من الديمقراطية الاستبداد, إذا جاء زعيم يطري الشعب داعيا نفسه حامي حمى الوطن, ولاه الشعب السلطة العليا , فيستبد بها…
ثم يتعجب سقراط من هذا ويقول : إذا كنا في المسائل الصغيرة كصنع الاحذية مثلا لا نعهد بها الا الى اسكافي ماهر, أو حين نمرض لا نذهب الا الى طبيب بارع , ولن نبحث عن اجمل واحد ولا أفصح واحد
وإذا كانت الدولة تعاني من علة , ألا ينبغي ان نبحث عن أصلح الناس للحكم ؟

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ثم يقول ان الدولة تشبه ابناءها, فلا نطمع بترقية الدولة الا بترقية ابنائها..
وتصرفات الانسان مصدرها ثلاثة:
الشهوة : وهؤلاء يحبون طلب المال والظهور والنزاع, وهم رجال الصناعة والتجارة والمال
العاطفة: وهؤلاء يحبون الشجاعة والنصر وساحات الحرب والقتال, وهم من رجال الجيش
العقل : وهؤلاء أقلية صغيرة تهتم بالتأمل والفهم , بعيدون عن الدنيا واطماعها, هؤلاء هم الرجال المؤهلين للحكم, والذين لم تفسدهم الدنيا

ويقول أن افضل دولة هي التي فيها العقل يكبح جماح الشهوات والعواطف
يعني , رجال الصناعة والمال ينتجون ولا يحكمون, ورجال الحرب يحمون الدولة ولا يتسلمون مقاليد الحكم, ورجال الحكمة والمعرفة والعلم , يطعمون ويلبسون ويحمون من قبل الدولة , ليحكموا…
لأن الناس إذا لم يهدهم العلم كانوا جمهورا من الرعاع من غير نظام , كالشهوات اذا اطلق العنان لها
الناس في حاجة الى هدى الفلسفة والحكمة…
وإن الدمار يحل بالدولة حين يحاول التاجر الذي نشأت نفسه على حب الثروة أن يصبح حاكما , أو حين يستعمل القائد جيشه لغرض ديكتاتورية حربية…

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ثم يقترح سقراط طريقة صناعة هؤلاء القادة الحكماء, وان تربيهم الدولة منذ الصغر على الفضيلة والعلم, وان يجتازوا امتحانات كثيرة حتى يبلغوا سن الخامسة والثلاثين , فيخرجوا لمخالطة الناس في المجتمع وكل الطبقات , ويرون كل الحيل والدهاء الذي عند بعض الناس , حيث هكذا يصبح كتاب الحياة مفتوحا أمامهم…..
ثم من غير( خدع ولا انتخابات ) يعين هؤلاء الناس حكاما للدولة, ويصرف هؤلاء نظرهم عن كل شيء آخر سوى شؤون الحكم, فيكون منهم مشرعين وقضاة وتنفيذيين
وخوفا من وقوعهم في تيار حب المال والسلطان, فإن الدولة توفر لهم المسكن والملبس والحماية, وممنوع ان يكون في بيوتهم ذهب او فضة…
وطبعا ستكون اعمارهم لا تقل عن خمسين سنة, وهي سن النضوج والحكمة كما يقول سقراط
وإذا كنا في ظروف لم نحصل على مثل هؤلاء, فعلى الاقل نفحص ماضي هذا المرشح للحكم , كم عنده مباديء كم عنده نزاهة؟ كيف أمضى حياته قبل استلام الحكم ؟
هذه هي أبسط طريقة….
وفي النهاية يقول ان العدالة اذن هي ليست القوة المجردة, وهي ليست حق القوي, انما هي تعاون كل اجزاء المجتمع تعاونا متوازنا فيه الخير للكل

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

الكتاب مذهل, لانه كتب قبل حوالي 2400 سنة
وتكلم عن مشاكل مازالت المجتمعات تعاني منها…
قد يبدو مثاليا , لكنه لا يخلو من واقعية ومنطقية…

مثالية أفلاطون في مواجهة عقلانية ارسطو

الميتافيزيقيا وطبيعة الله :

♧♧♧♧♧♧♧

لقد “نشأت ميتافيزيقا أرسطو من علم احيائه. كل شيء في العالم يحركه باعث داخلي ليصبح شيئاً اكبر مما كان عليه. وكل شيء هو كلتا الصورة أو الحقيقة التي نشأت عن شيء كان مادة لها. والذي قد يكون بدوره مادة لصور أكبر تنشأ عنه. وهكذا فإن الرجل هو الصورة الذي كان الطفل مادة لها. والطفل هو الصورة التي كان الجنين مادة لها. والجنين هو الصورة والبويضة هي المادة. وهكذا نعود إلى الخلف إلى ان نصل بطريقة غامضة إلى تصور المادة بغير صورة اطلاقاً، ولكن هذه المادة بغير صورة سوف لا تكون شيئاً، لأن كل شيء صورة. ان المادة بمعناها الأوسع، هي إمكانية الصورة، والصورة هي الحقيقة، الحقيقة التامة للمادة. المادة تسد والصورة تبني، ان الصورة ليست الشكل فقط ولكنها القوة المشكلة، وهي ضرورة داخلية وباعث يعجن المادة المجردة إلى شكل وغرض خاص، انها تحقيق مقدرة المادة القوية، انها كمية القوى الكامنة في أي شيء ليعمل ويكون ويصبح، وبالتالي فإن الطبيعة غزو الصورة للمادة والتدرج والتقدم الدائم وانتصار الحياة”

ان هذا النظام والتصميم بالنسبة إلى ارسطو أمر داخلي وينشأ من نوع الشيء وعمله، فهو يعتقد بان العناية الإلهية تنسجم تماماً مع عملية الأسباب الطبيعية.

يقول أرسطو: “انه لا بد أن يكون للحركة مصدر اذا اردنا أن لا نغطس في رجوع لا نهائي. واضعين خلفنا مشاكلنا خطوة فخطوة إلى ما لا نهاية. ويجب أن نقوي الايمان بالله المحرك الأكبر ولكنه هو نفسه لا يتحرك، وهو كائن، معنوي لا مادي غير مرئي، ولا مكان له لا مذكر ولا مؤنث، ولا يتغير أو يتأثر، تام وأبدي، ان الله لا يخلق العالم، بل يحركه، ولا يحرك العالم كقوة ميكانيكية ولكن كمحرك كلي لجميع عمليات العالم. ان الله يحرك العالم كما يحرك المحبوب المحب. انه السبب النهائي للطبيعة. والقوة الدافعة للاشياء وهدفها، انه صورة العالم، ومبدأ حياته ومجموع تفاعله الحيوي وقوته، وهدف نموه الغريزي”.

ومع ذلك “فإن ارسطو بتناقضه المعتاد يصور الله روحاً مدركة لنفسها، أو بالأحرى يصوره روحاً غامضة مبهمة، لان الله لا يفعل شيئاً أبداً في نظر ارسطو وليست له رغبات ولا إرادة ولا هدف، انه حيوية خالصة لدرجة انه لا يعمل ابداً، وهو كامل كمالا مطلقاً، لذلك ليس بمقدوره أن يغرب بأي شيء لذلك فهو لا يفعل شيئاً، وعمله الوحيد هو التفكير في جوهر الأشياء. وبما انه نفسه جوهر جميع الأشياء وصورة جميع الصور، فان وظيفته الوحيدة هي التفكير في ذاته، يا له من اله فقير هذا الاله الذي يعتقد به ارسطو، انه ملك لا يفعل شيئاً ملك بالاسم لا بالفعل. ولا غرابة في ان يحب البريطانيون ارسطو لأن إلهه صورة طبق الأصل من ملكهم، أو صورة عن ارسطو نفسه. لقد احب فيلسوفنا التأمل والفكر إلى درجة أن ضحى من اجل هذا التأمل بمفهومه عن الله. ان الهه –كما يقول ديورانت- من نوع لا خيال فيه، وهو منعزل في برجه العاجي بعيداً عن صراع الأشياء”.

الأخلاق وطبيعة السعادة عند أرسطو :

ذ♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

يعترف أرسطو “بأن هدف الحياة ليس الخير في حد ذاته، بل السعادة، لاننا نختار السعادة لذاتها، لا لشيء آخر، ونحن نختار الشرف، والسرور والادراك..لاننا نعتقد اننا نصل عن طريقها إلى السعادة، ونكون سعداء بفضلها، ولكن ارسطو يعرف ان تسمية السعادة بالخير الاسمى مجرد حقيقة اولية، وما نريده هو تفسير أوضح عن طبيعة السعادة، وطريق الوصول إليها، عن طريق التفكير والعقل، لذلك يمكننا ان نفترض أن تطور هذه المقدرة الفكرية سيحقق له السعادة. عندئذ تكون حياة العقل شرطاً للسعادة باستثناء قضاء بعض اللوازم الجسدية”

أما “الطريق لبلوغ السعادة، الذي يوفر على الإنسان الكثير من التأخير والعناء، فهو –عند أرسطو- الطريق الوسط، أو الوسط الذهبي، حيث تنظم الاخلاق في شكل ثلاثي يكون الطرفان الأول والاخير فيه تطرفاً ورذيلة، والوسط فضيلة أو فضل، وهكذا يكون بين التهور والجبن فضيلة الشجاعة، وبين البخل والاسراف فضيلة الكرم، وبين التهور والجبن فضيلة الطموح، وبين الخضوع والعتو فضيلة الاعتدال، وبين الكتمان والثرثرة فضيلة الامانة، وبين الكآبة والمزاح فضيلة البشاشة وبين محبة الخصام والتملق فضيلة الصداقة، عندئذ لا يختلف الصواب في الاخلاق والسلوك عن الصواب في الرياضيات والهندسة، حيث يعني الصحيح والمناسب وافضل عمل لأفضل نتيجة” .

في هذا الجانب يقول أرسطو: “ان الفضيلة فن يمكن كسبه بالمران والعادة، اننا لا نعمل الصواب لان لدينا فضيلة أو فضل. ولكن الفضيلة موجودة فينا لأننا عملنا الصواب. هذه الفضائل تتشكل في الإنسان بعمله لها. اننا عبارة عما نفعل دائماً، لكن أرسطو يعتقد بأن الوسط الذهبي ليس كل السعادة، بحيث يجب أن يتوفر لدينا جانب من متاع الدنيا وحاجاتها، فالفقر يجعل من الإنسان بخيلاً شحيحاً، بينما المال يحرر الإنسان من الحرص والشَّرَه، كما أن أنبل الأمور التي تساعد في الوصول إلى السعادة هي الصداقة، لإنها ضرورية للإنسان السعيد أكثر من الإنسان التعيس، لان السعادة تزيد وتتضاعف بمشاركة الاخرين فيها، وهي اكثر أهمية من العدالة، اذ لا حاجة للعدالة عندما يكون الناس أصدقاء، فعندما يكون الناس عادلين مقسطين، تبقى الصداقة نعمة وفضل، فالصديق روح واحد في جسدين، ومع ذلك فإن الصداقة تعني قلة الأصدقاء، لا كثرتهم، وذلك الذي له أصدقاء كثيرون لا صديق له. ومن المتعذر ان تكون صديقاً لكثير من الأصدقاء اذا اردت الصداقة المخلصة”

إن الإنسان المثالي في رأي أرسطو “هو الذي لا يُعَرِّض نفسه بغير ضرورة للمخاطر، ولكنه على استعداد لان يضحي حتى بنفسه في الازمات الكبيرة، مدركاً أن الحياة لا قيمة لها في ظروف معينة، وهو يعمل على مساعدة الناس، ولكنه يرى العار في مساعدة الناس له، لان مساعدة الناس ونفعهم دليل التفوق والعلو، ولكن تلقى المساعدات منهم دليل التبعية وانحطاط المنزلة، كما أن الإنسان المثالي –كما يراه أرسطو- لا يشترك في المظاهر العامة، وينأى بنفسه عن التفاخر والتظاهر، وهو صريح في كراهيته وميوله، وقوله وفعله، بسبب استخفافه بالناس وقلة اكتراثه بالأشياء، ولا يهزه الاعجاب بالناس أو اكبارهم، اذا لا شيء يدعو إلى الاعجاب والاكبار في نظره، ولا يساير الاخرين، الا اذا كان صديقاً لان المسايرة من شيم العبيد، ولا يشعر بالغل أو الحقد ابداً، ويغفر الإساءة وينساها، ولا يكثر الحديث.. ولا يبالي بمدح الناس له أو ذمهم لغيره، ولا يتكلم بالسوء عن الاخرين ولو كانوا أعداء له، شجاعته رصينه، وصوته عميق، وكلامه موزون، لا تأخذه العجلة، لان اهتمامه قاصر على أشياء قليلة فقط. ولا تأخذه الحدة أو يستبد به الغضب، ويتحمل نوائب الحياة بكرامة وجلال، باذلاً جهده قدر طاقته وظروفه، كقائد عسكري بارع ينظم صفوفه بكل ما في الحرب من خطط. وهو أفضل صديق لنفسه، ويبتهج في الوحدة، بينما نرى الجاهل العاجز المجرد عن الفضيلة أو المقدرة عدو نفسه ويخشى الوحدة، هذا هو الرجل المثالي في نظر أرسطو”

أشكال المعرفة عند أرسطو:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

“في حين رأى أفلاطون رابطة بين أشكال المعرفة المختلفة ومسائلها، فلم يميز تمييزاً حاداً بين نظرية المُثُلْ وعقيدة الدولة والأخلاق والإستطيقا.. إلخ، فإن الفيلسوف التحليلي أرسطو ميز بين أنظمة المعرفة المختلفة. فميز بين ما هو نظري وما هو عملي وما هو شعري من الأنظمة (وهذه تطابق، على التوالي، النظرية والتطبيق العملي والشعر التي ترتبط بالمعرفة والحكمة العملية والفن أو المهارة التقنية، وهدف المعارف النظرية تعيين الحقيقة.

“اعتبر أرسطو ثلاثة معارف نظرية هي فلسفة الطبيعة والرياضيات والماورائيات ، وهدف الفلسفة الطبيعية تحديد الأشياء المدركة بالحس والمتغيرة. وهدف الرياضيات تحديد الصفات الكمية الثابتة، أما الميتافيزيقا، فتستهدف تحديد الأشكال الثابتة المستقلة، وهو، بهذا المعنى، كان يتكلم بمصطلحات المستويات المتزايدة في التجريد، بدءاً من الفلسفة الطبيعية مروراً بالرياضيات إلى الميتافيزيقا”

عالم المُثُلْ وعالم المحسوس لدى أفلاطون وأرسطو:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

بينما يقول أفلاطون إن الُمُثْل هي الموجودات الحقيقية، وهي النظرة الشائعة في التأويلات في الكتب المدرسية، يرى أرسطو أن الموجودات المستقلة هي الأشياء الجزئية، أو “الجواهر” مستخدمين المصطلح الأرسطي، فبرج إيفل وحصان الجار وهذا القلم أمثلة على الأشياء الجزئية؛ عن الجواهر بالمعنى الأرسطي، أي: هي ذات وجود مستقلاً، أما ارتفاع برج إيفل واللون الذهبي لحصان الجار والمقطع السداسي الشكل للقلم فهي صفات لا وجود مستقلاً لها عن البرج والحصان والقلم.

الجواهر لها صفات، والصفات توجد كصفات للجواهر، لكن ما عدا ذلك لا وجود مستقلاً للصفات. ويمكننا النظر إلى أشياء صفراء متعددة، ونتكلم على صفة “الاصفرار”، ونتكلم عما يقابله من أشياء وصفات، غير أن ذلك كله لا يجعل صفة الاصفرار فكرة ذات وجود مستقل، بحسب ما رأى أرسطو.

وهكذا، فإن أرسطو رأى أن الجواهر هي ما له وجود فعلي، أما الصفات والأنواع فوجودها نسبي لأنها توجد في الجواهر (الأشياء الجزئية) أو معها

وتكون النتيجة أن أرسطو أنزل الأفكار (المُثُل) إلى مستوى الأشياء، أي: الصفات والأنواع موجودة، لكن وجودها ليس إلا في الأشياء الجزئية، وفي الخلاصة يمكننا تفسير العلاقة بين أفلاطون وأرسطو بما يلي: يعتقد أفلاطون وأرسطو معاً بأنَّ الكلمات التصوراتية (أسماء الصفات، مثل “أحمر”و”دائري”..إلخ، وأسماء الأنواع مثل “حصان” و”إنسان” …إلخ) تشير إلى أشياء موجودة، غير ان أفلاطون اعتقد أن هذه “الأشياء” هي مُثُلْ موجودة “وراء” الظواهر الحسية، أي: نحن مصيبون عندما نقول هذه كرسي، وذلك أزرق، ولكن لرؤية ذلك، لابد من أن يكون في حوزتنا، بشكل مسبق مثال الكرسي، ومثال الأزرق، فالمُثُلْ هي التي تمكننا من أن نرى الظواهر بما هي عليه، مثلاً ككرسي وكأزرق، بينما عد أرسطو تلك “الأشياء” صوراً توجد في الظواهر الحسية، وفي التجارب والخبره الحسيه.

“غير أنه يجب أن لا يفهم ذلك بشكل حرفي متطرف، فقد رأى أرسطو أننا نستطيع بعون من العقل إدراك الكليات أو الصور إدراكاً حسياً. وبحسب أفلاطون فإن الخبرة الحسية شكل ناقص من المعرفة، أما المعرفة الحقة فهي في رؤية المثل رؤية متبصرة.

لكن، “على الرغم من أن أرسطو لا يرى، في نهاية المطاف، وجوداً إلا للأشياء الجزئية (الجواهر). غير أننا بمساعدة العقل نتمكن من أن نميز الصور الكلية في الأشياء. وبكلام آخر نقول: إن للتجربة الحسية والعقل مرتبتين متكافئتين عند أرسطو أكثر مما لهما عند أفلاطون، فاذا كانت الكائنات الإنسانية هي الأعلى من بين المخلوقات التي لها وجود مادي، ففي أعلى هذا العالم الهرمي، “تصور أرسطو وجود مبدأ أول، الله، وتصوره وجوداً فعلياً محضاً، أي خالياً من الوجود بالقوة، وبالتالي لا يتغير، فالله مستقر في ذاته، وهكذا يتوج أرسطو الميتافيزيقا التي وضعها بثيولوجيا ، أي بتعليم عن الكائن الأعلى، وليس هذا الإله إلهاً شخصياً: فقد اعتبر أرسطو الكائن الأعلى المحرك الذي لا يتحرك المستقر في ذاته”

وهذا المبدأ الأعلى هو وجود فعلي محض، لا وجود قوة فيه للتحقق، وهو، لذلك السبب والغاية النهائية لكل شيء، فالمحرك الذي لا يتحرك هو الذي تتحرك جميع الموجودات متجهة إليه، أما المستوى الأدنى في العالم الهرمي، فهو المادة المحض (القوة)، ويمثل تصور المادة المحض تصوراً فاصلاً، لا نستطيع أن نتخيله، بكلام دقيق، لأنه لا يحوز على فعل (صفات فعلية)”

مميزات نظرية المثل الافلاطونية

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

“إعتقد أرسطو وأفلاطون بأن البشر لا يتمكنون من العيش إلا في مجتمع، وكلاهما عَنَيا بالمجتمع في دولة المدينة اليونانية، ولكن يتوضح التعارض العام بين أفلاطون العقلي المثالي وفيلسوف الفطرة النقدي أرسطو من خلال نظرتهما إلى المجتمع، أي: ينتقد أفلاطون الأحوال الواقعية باللجوء إلى مطالب العقل، ويعتبر السياسة مهمة يجب القيام بها: وهي تقريب الأحوال الواقعية لتصير متسقة مع المثال الأعلى.

أما أرسطو، فهو ينطلق من الأشكال الموجودة للدولة، وليس للعقل من دور سوى أن يكون وسيلة لتصنيف الموجود في الواقع وتقويمه، وهذا يعني أن أفلاطون ينظر إلى ما وراء النظام القائم، إلى شيء جديد، نوعياً، أما أرسطو، فيبحث عما هو الأفضل بين الموجودات، وما يقوله هو أكثر واقعية، لأنه يلائم بشكل أفضل الأحوال السياسية للدول –المدينية في زمانه، غير أن تنبيهنا إلى تلك الفروق يجب أن لا يحجب عنا الحقيقة المفيدة أن للفيلسوفين الكثير من الأمور المشتركة، بحيث يمكننا القول إن أرسطو يمثل نوعاً من الاستمرارية العقلية لأفلاطون، من دون اتخاذ موقف يتعلق بأي منهما كان المفكر الأفضل”

لكن، على الرغم مما تقدم، فالتلميذ ارسطو لايختلف جوهرياً عن استاذه افلاطون، فإذا كان افلاطون فيلسوف الفردية الارستقراطية، فإن ارسطو هو الفيلسوف الرسمي لامبراطورية أوتوقراطية، انه القائل ” منذ المولد هناك أُناس مُعَدُّون للعبودية واناس معدون للإماره “، وهذا لا يعني تطابقهما على الرغم من ان كليهما من الناحية الفلسفية التقيا على ارضية المثالية الموضوعية التي تقر بمعرفة العالم الخارجي، وتقول بأن هناك صانعاً أو خالقاً موضوعياً خارج الذات أوجد هذا الكون، فقد انتقد أرسطو نظرية افلاطون منطلقاً من أن:-

1- مُثُل افلاطون صورة أونُسخ عن الاشياء الحسية ( نحن في كهف، ندير ظهورنا للشمس لانرى سوى ظلال الأشياء او صورتها على جدار الكهف… هذه هي مثل افلاطون ).

2- أفلاطون يفصل عالم ” المُثُلْ ” عن عالم ” الأشياء ” فهو يعتبر ان المادة مشتقة من “المُثُلْ” او الأفكار السابقة عليها ( الوجود الحق ) .

3- في حين يعتبر أفلاطون الأشياء الحسية ظلالاً او أشباحاً للوجود الحق “المُثُلْ”، ينظر ارسطو إلى الأشياء او الموجودات على أنها تمثل وحدة للصورة والمادة موجودة وجوداً قطعياً (الرجل هو الصورة الذي كان الطفل مادة لها، والطفل هو الصورة التي كان الجنين مادة لها، والجنين هو الصورة والبويضة هي المادة، ولابد ان يكون هناك محرك أكبر لهذه العملية.. هو الله السبب النهائي للطبيعة، الصورة الأولى.. انه صورة العالم وهو كامل كمالاً مطلقاً لادخل له بالتفاصيل، ملك بالإسم لا بالفعل كما يقول “ول ديورانت” في كتابه قصة الفلسفة).

عند أرسطو .. العالم موجود في الخاص، أي اننا لانصل إلى معرفة الكلي اذا لم نتعرف على الجزئي، الجزئي نتعرف عليه بالحواس، الكلي نعرفه بالعقل، نشير في هذا الصدد ان ارسطو كان يحتقر الفعل الجسدي ويقدس العقل وهو القائل ” كل من كان بمقدوره ان يتنبأ بعقله هو بطبيعته معد ليصبح سيداً “، ومن ناحية ثانية، فإن أفضل أشكال الحكم عنده، النظام الأرستقراطي الذي يعتمد حكم القلة من النخبة المختارة، يرفض ارسطو الديمقراطية لأنها كما يقول تقوم على افتراض كاذب بالمساواة، من آرائه، أن الإنسان ينتمي إلى مجموعة واحدة من الحيوانات الولود ذات الثدي، أما المرأة عنده، فهي ناقصة عقل وهي مرتبه دنيا عن الرجل ( في تراثنا الاسلامي المرأة ناقصة عقل ودين ،الرجال قوامون على النساء ) الإنسان الفاضل عنده هو الذي يختار الوسط بين الافراط والتقتير ( في التراث الإسلامي أيضاً: وخلقناكم أمة وسطا، وخير الامور الوسط )!.

المجتمع الطبقي لدى أرسطو:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧◇♧◇♧♧◇

ميز أرسطو بين الرجال الأحرار المستقلين – أي الإنسان بأفضل معنى- والرجال ذوي عقلية العبودية، طبيعياً، أي: جرت العادة على استخدام العبيد في الأعمال الجسدية، ورأى أرسطو أن مثل تلك الحياة هي أقل قيمة من حياة الرجال الأحرار اليونانيين. واعتقد أرسطو أيضاً أن هؤلاء العبيد المستعبدين هم عبيد بطبيعتهم.

“بالنسبة إلى أرسطو هناك علاقة تضايف بين عمل العبد وهو في حالة العبودية وصفاته الشخصية، بحيث يبدو العبيد، من المنظورين كليهما، دون الإنسان اليوناني الحر، وبهذه الطريقة وضع أرسطو العبيد والنساء في وضع سفلي نسبة إلى وضع الرجال اليونانيين الأحرار: فكلاهما ينتميان إلى المنزل، وليس إلى الحياة العامة في السوق، فالنساء والعبيد كلاهما، بطبيعتهما ونسبة إلى صفاتهما، يقعان في مستوى أدنى من مستوى الرجال الأحرار الذين يظهرون في الأمكنة العامة لدولة المدينة”.

تجدر الإشارة إلى أن الكائن البشري عند أرسطو هو الذكر بشكل رئيسي، بينما ترتبط النساء، بشكل رئيسي بالأسرة والبيئة الأهلية، وهناك يمكنهن أن يحققن أفضل إمكانياتهن. لذلك، عندما نقول إن الإنسان يحقق طبيعته في دولة المدينة، علينا ان لا ننسى أن هذا القول لا ينطبق، عند أرسطو، على النساء ولا على العبيد.

“يقول أرسطو : ان المرأة من الرجل كالعبد من السيد، وكالعمل اليدوي من العمل العقلي، وكالبربري من اليوناني، والمرأة رجل ناقص، تُرِكَتْ واقفة على درجة دنيا من سلم التطور، والذكر متفوق بالطبيعة؛ والمرأة دونه بالطبيعة، والأول حاكم والثانية محكومة؛ وهذا المبدأ ينطبق بالضرورة على جميع الجنس البشري. ان المرأة ضعيفة الإرادة، وبذلك فهي عاجزة عن الاستقلال في المرتبة والخلق. وافضل مكان لها حياة بيتية هادئة، تكون لها السيادة المنزلية بينما يحكمها الرجل في شؤونها الخارجية، لذلك يجب أن لا تتساوى النساء مع الرجال كما في جمهورية افلاطون، ولا بد من زيادة الفوارق بينهما”

ادعى البعض أن أرسطو لم يكن واضحاً، في مسألة ما إذا كانت الحياة الصالحة هي الحياة المعروفة في النشاط النظري أو هي الحياة في متَّحد اجتماعي سياسي عقلاني، غير أنه عندما تكون المسألة مسألة العلاقة بين المتَّحد السياسي العقلاني والعمل المنتج الضروري، فالواضح أن أرسطو اعتبر الأول هو خير للبشر، وهو هدف في حد ذاته، وأن العمل الجسدي مع ما يرافقه من استجمام لا يمثل الحياة الجيدة، وليس له قيمة في ذاته.

لذلك، فإن الذين يُنَفِّذونَ مثل ذلك العمل، سواء أكانوا عبيداً أم لم يكونوا، لا يحققون الحياة الإنسانية بأفضل أشكالها، لأن الفروق الطبقية في زمن أرسطو شكل تمييز بين من يقومون بعمل يدوي ومن يقومون بنشاط فكري وسياسي، لذلك إعتقد أرسطو أن هذه العملية التشكيلية “الأنسنة” تحدث بشكل رئيسي في النشاط الفكري والسياسي، وليس في العمل الجسدي، وهنا لا يختلف أرسطو عن أستاذه أفلاطون، فقد كان الفكر الافلاطوني ينهض برمته على أساس اتحاد وثيق العرى للغاية بين الحياة العقلية والاخلاقية والسياسية وفق منطلقات ارستقراطية.

بيد أن هذا الكل المترابط –كما يعلق إميل برهييه- “يتفكك ويتناثر لدى أرسطو: فالخير الاخلاقي أو الخير العملي، أي الخير الذي يمكن للإنسان بلوغه بأعماله، لا يمت بصلة إلى مثال الخير الذي كان الجدل وضعه في اعلى الموجودات ؛ وليست الاخلاق علماً من العلوم الدقيقة مثل الرياضيات، وانما تعليم يرمي إلى أن يجعل الناس أفضل مما هم عليه، وليست غايته أن يزودهم بآراء قويمة حول الاشياء التي ينبغي عليهم طلبها أو الهرب منها فحسب، بل أن يحملهم فعلاً على طلبها أو الهرب منها.

إذ “لا يكفي أن تعرف الفضيلة، بل ينبغي أيضاً أن تمتلك وتمارس”. ولا يجوز لمعلم الاخلاق أن يتعلل بالأوهام بصدد نجع تعليمه: فالخطب والمواعظ لا تكفي لتلهم الناس الطيبة؛ صحيح انها ستثمر إذا ما توجهت إلى فتيان من ذوي النفوس الكريمة والشريفة، لكنها تقف عاجزة عن الأخذ بيد السوقي إلى الفضيلة.

الاخلاق تعليم اذن، لكنه تعليم ارستقراطي؛ وما هي بوعظ وإرشاد للجمهور، وانما دعوة اهل المواهب إلى التفكير والتأمل، أما الباقون فحسبهم العادة وخوف القصاص، بل أكثر من ذلك: فالفضيلة لا يكتب لها تمام النماء فيما يظهر إلا بين ظهراني الطبقات الميسورة: “فمن المتعذر أو من العسير للغاية على المعوز ان يأتي كريم الفعال، إذ كثيرة هي الاشياء التي لا يستطيع الإنسان قياماً بها إلا إذا اعتمد، في جملة وسائطه، على أصدقاء وثروة وسلطان سياسي”؛ ولا يسع إنساناً عظيم القبح، خسيس النسب، منفرداً ولا نسل له، أن يبلغ إلى السعادة الكاملة، كما وليس في المستطاع ممارسة بعض الفضائل النفسية، نظير الشجاعة والسخاء والادب والعدل، إلا في مستوى اجتماعي محدد؛ “لا يملك الفقير ان يكون يكون كريماً؛ إذ ليس في حوزته ما يمكنه من الانفاق على سعة؛ ولو حاول ذلك، لكان غبياً أحمق”.

لذا نقول “إن أرسطو كان أقرب إلى الآراء الشائعة في زمانه من أفلاطون، فهو مشارك في النظره التقليدية التي كانت تقول إن الرجال أعلى مرتبة من النساء، حتى أنه يوظف حججاً بيولوجية لدعمها، أما بالنسبة إلى نظرة أرسطو إلى الأخلاق، فإننا نجده يميز نفسه من أفلاطون في عدد من النقاط، لقد رأينا أن أرسطو انتقد نظرية أفلاطون المفيدة أن للمُثُلْ وجوداً مستقلاً عن الأشياء، وهذا النقد ينطبق أيضاً على مثال الخير، فالخير الذي هو هدف الحياة الإنسانية ليس عند أرسطو شيئاً منفصلاً عن الإنسان، فالخير موجود في طريقة حياة الكائنات البشرية”

والخير عند أرسطو، هو “السعادة أو النعيم، أي الحالة التي تتطلب على وجه التحديد أن يحقق الناس أفضل قدراتهم في المجتمع، عبر مراحل التشكل الاجتماعي الثلاث، بحيث يجد كل شخص موقعه، أو موقعها، في المجتمع، أي يصير إنساناً فاضلاً، كما رأى أرسطو أيضاً أن الحياة في في نشاط نظري ملائمة لجلب السعادة، وبخاصة لمن يملكون قدرات نظرية جيدة. غير أن الأشخاص المختلفين لهم قدرات وإمكانيات مختلفة، لذا، ليس ملزماً أن تكون الحياة الجيدة متشابهة عند الجميع”.

في ضوء ما تقدم، فإن القراءه الدقيقة لفكر أرسطو، تبين أنه –كما يرى بحق د. حامد خليل- لم يخرج من حيث الجوهر عن إطار نظرية سلفه، استاذه أفلاطون في الإنسان، وكل ما في الامر هو أن البنية الطبقية للمجتمع اليوناني طرأ عليها بعض التعديل، مما اقتضى من أرسطو القيام بتعديلات طفيفة على نظرية أفلاطون، تتناسب مع حجم التحويل الاجتماعي المذكور. أما جوهر النظرية فقد ظل على ما هو عليه دونما تغيير، لقد كان أرسطو في خدمة فيليب المقدوني، الذي استولى باسم الوحدة على مدن اليونان، التي كان قد استشرى فيها الفساد التجاري، وعمت فيها الفوضى السياسية. فالتجار ورجال المال كانوا يبتلعون الموارد الحيوية، ولا شك أن ذلك الخضم الهائل من الفوضى والصراع والتناحر الطبقي، فرض على فيليب أن يكون حذراً، وقد بدا له أن اللجوء إلى الحسم لصالح احدى الطبقات ليس بالوسيلة الممكنة لتحقيق حلمه الكبير بإقامة امبراطورية يكون هو على رأسها يأمر فيطاع، والأصح أن يمسك بالعصا من الوسط، وأن يبتكر توليفة للدولة تحقق التوازن بين تلك المصالح المتعارضة، وطبعاً سيقتضي الامر التخفيف من غلواء مطالب الطبقة الأولى من جانب، وضبط جموح تلك الجموع الغفيرة من القوى المتوسطة الثروة الصاعدة والمتطلعة إلى تصدر قيادة المجتمع من جانب آخر، والحق أن القارئ لفلسفة أرسطو –كما يستطرد د. حامد خليل- يكتشف أنها كانت انعكاساً دقيقاً لذلك الاسلوب الوسطي في معالجة الامور، الذي يهدف في نهاية الامر إلى ترسيخ قيم ما يمكن تسميته بلغتنا الدارجة بالطبقة الوسطى الفتية، ولذلك ظهرت فكرة الاعتدال كفكرة محورية تتمركز حولها نظرية الإنسان عند أرسطو بالكامل”

وبالطبع “فان الاعتدال المذكور والتوازن الذي يترتب عليه، لم يكونا يستهدفان مصلحة كل الناس في الإمبراطورية، وإنما مصلحة الطبقات العليا منهم، أي ان أرسطو ظل أمينا مخلصا لتراث سلفه أفلاطون في الابقاء على التقسيم الطبقي للإنسان، والفرق الوحيد بينهما في هذا المجال هو أن “أفلاطون” كان منحازاً بالكامل إلى صف الطبقة العليا التي كانت تشكل الاقلية في المجتمع الاثيني، بينما انحاز أرسطو إلى جانب الطبقة المتوسطة التي كانت تشكل الاغلبية من بين المالكين والتجار، مستجيباً في ذلك لمقتضيات مرحلة فيليب الجديدة”.

الإنسان والمجتمع والدولة عند أرسطو :

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧◇♧♧♧♧

أرسطو لا يسلم بأن الفرد يتشكل بثقافة المجتمع التي تنمو باطراد عبر التاريخ، تماماً كما هو الحال لدى أفلاطون، وعلى هذا النحو يكون المجتمع عنده مجرد حزمة من الأفراد، وتكون وظيفته الوحيدة هي توزيع السلع والمنتجات بين الناس على أسس حسابية صرفة، على أنه حين ينتقل إلى الدولة ليحدد علاقة الأفراد بها، تجد أن الامر مختلف تماماً، فالامبراطور بحاجة إلى سند عقلي لتبرير قيام دولة يكون هو على رأسها، وليس بحاجة إلى تكوين نسيج اجتماعي تكون مهمته إعداد آدميين”.

ويبدو أن “أرسطو” كان أفضل من يقوم بهذا الدور –كما يقول د. حامد خليل- “فالدولة بالنسبة له هي غاية في ذاتها، وليست وسيلة من اجل خدمة المواطنين، ولهذا ففي مقدورها التضحية بأي مواطن تشاء، يقول أرسطو تأكيداً لذلك : “لا يوجد مواطن ينتمي إلى نفسه، وإنما الكل ينتمون إلى الدولة”.

اذ يجب ان يكون المواطن الصالح قادراً على اطاعة الأوامر والقيادة معاً، والنظام المدرسي الحكومي وحده هو الذي يستطيع تحقيق الوحدة الاجتماعية بين الاجناس والسلالات المختلفة، فالدولة –كما يقول أرسطو- هي تّجّمُّع لطوائف متعددة مختلفة، لذلك يجب توحيد هذا التعدد عن طريق التعليم.

لذلك “ينبغي على الحاكم الذي يريد أن يتجنب الثورة ان يمنع في بلاده تطرف الفقر وتطرف الثروة، ويشجع الاستعمار في الخارج كمخرج لتكاثف السكان الخطير في بلاده. ويكون متديناً وينمي النزعة الدينية في بلاده، كما ينبغي ان يظهر الحاكم، وخصوصاً الحاكم المطلق أو المستبد اهتمامه في إقامة شعائر الدين وعبادة الالهة، لان الناس اذا اعتقدوا بتدين الحاكم وتوقيره للالهة، يقل خوفهم من نزول الظلم بهم على يديه، ويقل ميلهم وتدبيرهم في التآمر عليه، لاعتقادهم بأن الآلهة ستحارب بجانبه”

أما التبرير الذي ساقه لتدعيم فكرة الدولة على النحو المذكور، فلم يكن خلق اتحاد تعاوني حقيقي بين المواطنين بوصفهم جميعهم كائنات بشرية، وإنما جعل مواطنيها عادلين وصالحين، وقد يبدو هذا التسويغ مقبولاً إذا فهمنا منه أن أرسطو كان يستهدف فعلاً صلاح المواطنين وخيرهم، وتنمية قواهم الروحية، والارتقاء بإنسانيتهم، لكن فهم ما يقصده بالعدالة والصلاح يبدد هذا الوهم، إذ هو يجعل من مصلحة فيليب ومصلحة الطبقة الوسطى المثل الأعلى والوحيد الذي كان يرجو تحقيقه في الواقع. وهذا ما تكشف عنه الصورة التي رسمها للعدالة أولاً، وللدولة الفاضلة أو المثلى ثانياً، فالعدالة هي الاعتدال، أو هي الحد الأوسط بين طرفين مرذولين: الافراط والتفريط”

وحين ترجم أرسطو هذا إلى لغة اجتماعية، “بدت العدالة أنها الحد من افراط استبدادية الاوليجاركية، ومن التفريط في الديمقراطية؛ بحيث يؤدي الامر في نهاية المطاف إلى تحقيق حكم الشعب – الغوغاء على حد تعبيره، أو قل إن العدالة هي تحديد حكم طبقة متوسطة قوية تتألف من أولئك الذين ليسوا بالأغنياء جد الغنى، ولا بالفقراء غاية الفقر، وطبعاً لم يكن يقصد أرسطو مشاركة الطبقة المذكورة لفيليب في ادارة شؤون الحكم تماماً، وإنما أن يضمن الدستور مصالح تلك الطبقة لكي تكون السند القوي له في استمراره على رأس تلك الامبراطورية”

المصادر والمراجع

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

([1]) غنارسكيربك و نلز غيلجي – تاريخ الفكر الغربي .. من اليونان القديمة إلى القرن العشرين – ترجمة: د.حيدر حاج إسماعيل – مركز دراسات الوحدة العربية – الطبعة الأولى ، بيروت، نيسان (ابريل) 2012- ص 155

([2]) بعكس المثالية الذاتية التى تقول بأن ما دام كل فرد مغلق فى افكارة الخاصة، فانة يعرف نفسه فقط دون العالم الخارجي أو حتىدون الآخرين من بنى الأنسان (بيركلى هو فيلسوف المثالية الذاتية…وهي فلسفة رجعية الى أبعد الحدود).

([3]) غنارسكيربك و نلز غيلجي – مرجع سبق ذكره – تاريخ

([7]) ول ديورانت– مرجع سبق ذكره – قصة الفلسفة –

([14]) غنارسكيربك و نلز غيلجي – مرجع سبق ذكره – تاريخ الفكر الغربي – ص 181

([15]) ول ديورانت– مرجع سبق ذكره – قصة الفلسفة – ص97

([16]) اميل برهييه – مرجع سبق ذكره – تاريخ الفلسفة – ص 305-307

([17]) غنارسكيربك و نلز غيلجي – مرجع سبق ذكره – تاريخ الفكر الغربي – ص

([19]) د. حامد خليل – مشكلات فلسفية – الطبعة الثالثة – دار الكتاب – دمشق – 1989/1990 م – ص 46

([20]) المرجع نفسه– ص 48

([21]) ول ديورانت– مرجع سبق ذكره – قصة الفلسفة – ص100-101

([22]) د. حامد خليل – مشكلات فلسفية – الطبعة الثالثة – دار الكتاب – دمشق – 1989/1990 م – ص 49

تلخيص كتاب تساعيات أفلوطين اومايعرف بكتاب أثلوجيا أرسطو

ان إصطلاح الفلسفة الإسلامية المشائية خاطئ لأسباب تاريخية وفلسفية .. فإن هذا الإصطلاح أطلقه خصوم الفلسفة الإسلامية وأعداء الفلاسفة المسلمون ، أو في الإصطلاح الأخف وطأة ” أنشئه وتداوله باحثين غير عارفين بمصادر الفلسفة الإسلامية في المشرق ” . ولعل البدايات التاريخية لهذا الإصطلاح تجد صداه في المشروع الإشعري المخاصم للفلسفة والمعاند للفلاسفة ، وتحت عناوين تهافت الفلاسفة ومصارعة الفلاسفة أو مصارعة الفيلسوف وفضائح اليونانية … وذلك لأن مصادر الفلاسفة المسلمين الثلاثة ، هي مصادر فلسفية لم تكن هي مصادر أرسطو الأصلية ( ومعلوم للجميع إن المشائية هي مدرسة فلسفية أسسها أرسطو بعد إن فشل وخاب أمله من قيادة أكاديمية إفلاطون بعد وفاة الأخير ووراثة إبن أخت إفلاطون الفيلسوف المشائي ” سيبسيوس (408 – 339 ق.م) قيادة أكاديمية خاله) ، وإنما هي مصادر الإفلاطونية المحدثة .. وقد فات هذا الحشد من الباحثين من التدقيق في مشائية الفلسفة الإسلامية .. ولذلك نقول لهم إن الفلسفة الإسلامية من طرف مصادرها هي إفلاطونية محدثة ، ومن طرف منهجها هي إفلاطونية محدثة ، والتي سعت إلى التوفيق ” بين أرسطو (الإفلوطيني) وإفلاطون (الإفلوطيني) .

ونذكر القارئ بأن الإفلاطونية ، هو الإصطلاح الذي كان يطلق يومذاك على عموم أعلام الحركة الإفلاطونية المحدثة . والإفلاطونية المحدثة ، هي ” مزيج فلسفي ، فيه أشياء من إفلاطون ، وأشياء من أرسطو ، وأشياء من الفيثاغورية (وربما المشروع الفيثاغوري الجديد في القرن الأول الميلادي) ، وأشياء من الرواقية وأشياء من الفكر الهرمسي (تسرب من الإفلاطونية المحدثة السورية التي قادها إمبيلكوس وخصوصاً كتابه الأسرار المصرية (أنظر محمد جلوب الفرحان : إمبيلكوس السوري ؛ مؤرخاً للفلسفة اليونانية / منشور في مجلة أوراق فلسفية جديدة العدد الثاني ربيع 2011)) ..

لقد حمل المشروع الإفلوطيني أولاً ، ومن ثم الإفلاطوني المحدث لاحقاً ، بالإضافة إلى التقريب بين أرسطو (الإفلوطيني) وإفلاطون (الإفلوطيني) التوفيق ما بين الحكمة والشريعة أو التقريب ما بين العقل (الفلسفة) والدين . قُدمت أطراف هذا المزيج الفلسفي للعقل المسلم خلال كتاب منتحل غير أصيل ونسب إلى المعلم الأول ” أرسطو” . ولعل الشاهد الإسلامي المتابع للإفلاطونية المحدثة ، عنوان كتاب الفارابي شهير الصيت ” الجمع بين رأيي الحكيمين ” .

ونرى إن سبب الإشكال الكبير في الفلسفة الإسلامية المشرقية ، وبالتحديد فلسفة الكندي ، والفارابي وإبن سينا ، هو بعض من تساعيات إفلوطين (وهي بعض من الأصل) والتي ترجمت إلى اللغة العربية خطأً تحت العنوان المُشكل ” أثولوجيا أرسطو ” (وهو المنتحل) . والذي جلب معه إلى الدار الثقافية الإسلامية ، ودوائر التفكير الإسلامي خاصة ” نظرية الفيض ” التي هي من نتاج إفلوطين والمدرسة الإفلاطونية المحدثة ، والتي ليست لها علاقة بأرسطو لا من بعيد أو قريب . وإن القارئ لنصوص الفلسفة الإسلامية وعلى الأخص نصوص الفارابي ، يلحظ ببساطة هيمنة هذه النظرية الفيضية ، وتراتبيتها المعروفة في كتاب التساعيات وفي نصوص الكتاب المنتحل ” أثولوجيا أرسطو ” . ولذلك نرى إنه لايمكن فهم الفلسفة الإسلامية في المشرق ، وبالتحديد فلسفة الكندي والفارابي وإبن سينا .. دون الإطلاع على :

أولاً – كتاب أثولوجيا أرسطو ، وهو متوافر في نشرته العربية وتحت عنوان ” أرسطو عند العرب ” والتي قام بتحقيقها ونشرها لأول مرة عام 1947 الدكتور عبد الرحمن بدوي طيب الله ثراه .

ثانياً – كتاب تساعيات إفلوطين التي جمعها ، ورتبها ، ووضع مدخلاً شارحاً لها ونشرها لأول مرة عام 270م تلميذه وحواريه فرفريوس الصوري .

والحقيقة إن نشر فرفريوس الصوري لكتاب التساعيات تم فيه الإعلان التاريخي عن بزوغ حركة الإفلاطونية المحدثة في الثلث الأخير من القرن الثالث الميلادي . وبالتحديد في عام 270 ، وهو عام نشر كتاب التساعيات ، وهو كذلك العام الذي تحول كتاب التساعيات إلى إنجيل الحركة الفلسفية الجديدة التي يسميها الأكاديميون الغربيون في بداية العصر الحديث بالإفلاطونية المحدثة (أنظر: محمد جلوب الفرحان؛ فرفريوس الصوري مؤرخاً للفلسفة اليونانية ، منشور في مجلة أوراق فلسفية جديدة ، المجلد الأول / العدد الثاني ربيع 2011 ونشرت منه صفحات في مجلة أفيروس (إبن رشد) ) .

وفي هذا المقال سنقدم دراسة نحسب إنها ضرورية لإجيال المستقبل من الباحثين وطلاب الفلسفة ، اللذين يرغبون في الدراسة والتخصص في الفلسفة الإسلامية في المشرق عامة ، والتخصص في فلسفة الكندي والفارابي وإبن سينا .. على وجه الخصوص ، والذين أطلق عليهم خطأً فلاسفة المشائية الإسلامية . وهذه الدراسة ستركز :

أولاً – على الأصل ؛ كتاب التساعيات

ثانياً – على المنحول ؛ كتاب أثولوجيا أرسطو

كتاب تساعيات إفلوطين :

وسنحاول هنا تقديم عرض لسيرة إفلوطين (204 / 205 – 270م) أولاً ومن ثم تقديم عرض تاريخي لكتاب التساعيات ومضمونه :

ن إصطلاح الفلسفة الإسلامية المشائية خاطئ لأسباب تاريخية وفلسفية .. فإن هذا الإصطلاح أطلقه خصوم الفلسفة الإسلامية وأعداء الفلاسفة المسلمون ، أو في الإصطلاح الأخف وطأة ” أنشئه وتداوله باحثين غير عارفين بمصادر الفلسفة الإسلامية في المشرق ” . ولعل البدايات التاريخية لهذا الإصطلاح تجد صداه في المشروع الإشعري المخاصم للفلسفة والمعاند للفلاسفة ، وتحت عناوين تهافت الفلاسفة ومصارعة الفلاسفة أو مصارعة الفيلسوف وفضائح اليونانية … وذلك لأن مصادر الفلاسفة المسلمين الثلاثة ، هي مصادر فلسفية لم تكن هي مصادر أرسطو الأصلية ( ومعلوم للجميع إن المشائية هي مدرسة فلسفية أسسها أرسطو بعد إن فشل وخاب أمله من قيادة أكاديمية إفلاطون بعد وفاة الأخير ووراثة إبن أخت إفلاطون الفيلسوف المشائي ” سيبسيوس (408 – 339 ق.م) قيادة أكاديمية خاله) ، وإنما هي مصادر الإفلاطونية المحدثة .. وقد فات هذا الحشد من الباحثين من التدقيق في مشائية الفلسفة الإسلامية .. ولذلك نقول لهم إن الفلسفة الإسلامية من طرف مصادرها هي إفلاطونية محدثة ، ومن طرف منهجها هي إفلاطونية محدثة ، والتي سعت إلى التوفيق ” بين أرسطو (الإفلوطيني) وإفلاطون (الإفلوطيني) .

ونذكر القارئ بأن الإفلاطونية ، هو الإصطلاح الذي كان يطلق يومذاك على عموم أعلام الحركة الإفلاطونية المحدثة . والإفلاطونية المحدثة ، هي ” مزيج فلسفي ، فيه أشياء من إفلاطون ، وأشياء من أرسطو ، وأشياء من الفيثاغورية (وربما المشروع الفيثاغوري الجديد في القرن الأول الميلادي) ، وأشياء من الرواقية وأشياء من الفكر الهرمسي (تسرب من الإفلاطونية المحدثة السورية التي قادها إمبيلكوس وخصوصاً كتابه الأسرار المصرية (أنظر محمد جلوب الفرحان : إمبيلكوس السوري ؛ مؤرخاً للفلسفة اليونانية / منشور في مجلة أوراق فلسفية جديدة العدد الثاني ربيع 2011)) ..

لقد حمل المشروع الإفلوطيني أولاً ، ومن ثم الإفلاطوني المحدث لاحقاً ، بالإضافة إلى التقريب بين أرسطو (الإفلوطيني) وإفلاطون (الإفلوطيني) التوفيق ما بين الحكمة والشريعة أو التقريب ما بين العقل (الفلسفة) والدين . قُدمت أطراف هذا المزيج الفلسفي للعقل المسلم خلال كتاب منتحل غير أصيل ونسب إلى المعلم الأول ” أرسطو” . ولعل الشاهد الإسلامي المتابع للإفلاطونية المحدثة ، عنوان كتاب الفارابي شهير الصيت ” الجمع بين رأيي الحكيمين ” .

ونرى إن سبب الإشكال الكبير في الفلسفة الإسلامية المشرقية ، وبالتحديد فلسفة الكندي ، والفارابي وإبن سينا ، هو بعض من تساعيات إفلوطين (وهي بعض من الأصل) والتي ترجمت إلى اللغة العربية خطأً تحت العنوان المُشكل ” أثولوجيا أرسطو ” (وهو المنتحل) . والذي جلب معه إلى الدار الثقافية الإسلامية ، ودوائر التفكير الإسلامي خاصة ” نظرية الفيض ” التي هي من نتاج إفلوطين والمدرسة الإفلاطونية المحدثة ، والتي ليست لها علاقة بأرسطو لا من بعيد أو قريب . وإن القارئ لنصوص الفلسفة الإسلامية وعلى الأخص نصوص الفارابي ، يلحظ ببساطة هيمنة هذه النظرية الفيضية ، وتراتبيتها المعروفة في كتاب التساعيات وفي نصوص الكتاب المنتحل ” أثولوجيا أرسطو ” . ولذلك نرى إنه لايمكن فهم الفلسفة الإسلامية في المشرق ، وبالتحديد فلسفة الكندي والفارابي وإبن سينا .. دون الإطلاع على :

أولاً – كتاب أثولوجيا أرسطو ، وهو متوافر في نشرته العربية وتحت عنوان ” أرسطو عند العرب ” والتي قام بتحقيقها ونشرها لأول مرة عام 1947 الدكتور عبد الرحمن بدوي طيب الله ثراه .

ثانياً – كتاب تساعيات إفلوطين التي جمعها ، ورتبها ، ووضع مدخلاً شارحاً لها ونشرها لأول مرة عام 270م تلميذه وحواريه فرفريوس الصوري .

والحقيقة إن نشر فرفريوس الصوري لكتاب التساعيات تم فيه الإعلان التاريخي عن بزوغ حركة الإفلاطونية المحدثة في الثلث الأخير من القرن الثالث الميلادي . وبالتحديد في عام 270 ، وهو عام نشر كتاب التساعيات ، وهو كذلك العام الذي تحول كتاب التساعيات إلى إنجيل الحركة الفلسفية الجديدة التي يسميها الأكاديميون الغربيون في بداية العصر الحديث بالإفلاطونية المحدثة (أنظر: محمد جلوب الفرحان؛ فرفريوس الصوري مؤرخاً للفلسفة اليونانية ، منشور في مجلة أوراق فلسفية جديدة ، المجلد الأول / العدد الثاني ربيع 2011 ونشرت منه صفحات في مجلة أفيروس (إبن رشد) ) .

وفي هذا المقال سنقدم دراسة نحسب إنها ضرورية لإجيال المستقبل من الباحثين وطلاب الفلسفة ، اللذين يرغبون في الدراسة والتخصص في الفلسفة الإسلامية في المشرق عامة ، والتخصص في فلسفة الكندي والفارابي وإبن سينا .. على وجه الخصوص ، والذين أطلق عليهم خطأً فلاسفة المشائية الإسلامية . وهذه الدراسة ستركز :

أولاً – على الأصل ؛ كتاب التساعيات

ثانياً – على المنحول ؛ كتاب أثولوجيا أرسطو

كتاب تساعيات إفلوطين :

وسنحاول هنا تقديم عرض لسيرة إفلوطين (204 / 205 – 270م) أولاً ومن ثم تقديم عرض تاريخي لكتاب التساعيات ومضمونه :
لوجود (الثالثة) (تسع 6 ميم 3)

45 – في الآبدية والزمن (تسع 3 ميم 7) .

ومن ثم يعلق فرفريوس :

وهكذا يكون في حوزتنا أربعة وعشرين رسالة ، تم تأليفها خلال السنوات الست التي لازمت فيها إفلوطين . والعناوين تدل على إن مثل هذه المشكلات قد أُثيرت في جلسات النقاش . وإذا أضفنا إليها الرسائل الإحدى والعشرين التي كتبها قبل وصولنا ، فإننا نمتلك خمس وأربعين رسالة (فرفريوس الصوري ؛ المصدر السابق ؛ الفقرة رقم 5) .

ويضيف فرفريوس إليها خمس رسائل أخرى ، أرسلها إليه إفلوطين حينما كان يعيش (فرفريوس) في سيسلي . وجاءت بالشكل الآتي :

46 – في السعادة (تسع 1 ميم 4)

47 – في العناية (الإلهية) (الرسالة الأولى) (تسع 3 ميم 2)

48 – في العناية (الإلهية) (الثانية) (تسع 3 ميم 3)

49 – في الطبيعة (أو الجوهر) الواعي وصعود الكل (تسع 5 ميم 3)

50 – في الحب (تسع 3 ميم 5)

ويقول فرفريوس معلقاً على هذه الرسائل الخمس :

كتب إفلوطين هذه الرسائل الخمس ، وأرسلها إلي ، حيث كنت أعيش في سيسلي ، وقد كان حكم كالينيوس في السنة الخامسة عشر (فرفريوس الصوري المصدر السابق ، الفقرة رقم 6) .

وبحسابات التاريخ وإعتماداً على رواية فرفريوس المتعلقة بحكم الإمبراطور الروماني كالينيوس . فإن السنة التي أرسل له الرسائل ، كانت 268م

أي قبل وفاة الأستاذ إفلوطين بسنتين (ومعلوم إن وفاته كانت في العام 270م) . ولكن هذه التواريخ لا تتناغم مع التواريخ التي ذكرها فرفريوس سابقاً ، وخصوصاً تاريخ لقائه الأول بالمعلم إفلوطين والذي حدث عندما كان إفلوطين في التاسعة والخمسين وبالتحديد في السنة العاشرة من حكم كالينيوس كما ذكر فرفريوس .(وإن حكم كالينيوس إستمر خمسة عشر سنة إمتدت من عام 253 وإلى موته في العام 268م) أي إن فرفريوس إستلم الرسائل الخمس قبيل موت أستاذه بسنتين .

ومن الثابت لدينا وفقاً لرواية فرفريوس إنه لازم إفلوطين في روما مدة ست سنوات ، وسافر إلى سيسلي وظل بعيداً عن الأستاذ مدة خمس سنوات ، وثم عاد إلى روما عندما سمع أخبار موت إفلوطين في العام 270 م . ويبدو لنا إن هناك مشكلة تاريخية ليس لها حل حسب رواية فرفريوس .

وللتبسيط نبينها بالشكل الآتي :

إنه قابل إفلوطين وكان عمر المعلم :

59 عاماً + 6 سنوات ملازمة في روما + 5 سنوات في سيسلي وعاد إلى روما عام 270 م وهو تاريخ موت المعلم إفلوطين والذي مات وعمره حسب رواية فرفريوس 66 عاماً .

والحقيقة إن عمر إفلوطين لحظة موته حسب التواريخ التي ذكرها فرفريوس أعلاه ، كان سبعين عاماً وليس كما ذكر فرفريوس الصوري .

أو حل التناقض بقبول الرأي القائل بأن هناك شك حول السنوات الست التي لازم فيها فرفريوس إفلوطين في روما . أو ربما إن فرفريوس وقع في خطأ عندما ذكر إنه عاش في سيسلسي مدة خمس سنوات أو إن فرفريوس أخطأ في حساب الفترتين ؛ فترة الملازمة في روما والفترة التي قضاها في سيسلي . ولذلك كله نحن نقتنع بأن فرفريوس مات عام 270 وعمره ست وستين عاماً وخلاف ذلك هو محض تقدير خاطئ للتواريخ من قبل فرفريوس .

وبعيد سطر واحد فقط ، يقول فرفريوس ما نصه :

وتلك الرسائل الخمس ، قد أرسلها إفلوطين في السنة الأولى من حكم كلوديوس (وهو الإمبراطور الروماني كلوديوس الثاني (213 – 270) وكان إمبراطوراً من 268 وإلى 270) (المصدرالسابق) أي سنة 268 وهي سنة موت كالينيوس وصعود كلوديوس .

ثم يتابع فرفريوس قائلاً :

وفي الأشهر الأولى من السنة الثانية (من حكم كلوديوس ، أي عام 269) وقبيل موته بقليل (وللصدفة فإن الأثنين ؛ كلوديوس وإفلوطين ماتا في عام 270) إستلمت الرسائل الأربعة الآتية :

51 – في الشر (تسع 1 ميم 8)

52 – فيما إذا كان للنجوم فعاليات سببية (تسع 2 ميم 3)

53 – في الحي (أو الأحياء) (تسع 1 ميم 1)

54 – في السعادة (تسع 1 ميم 7) (المصدر السابق) .

وفي نهاية هذا الطرف من كتاب فرفريوس الصوري ” حياة إفلوطين وترتيب عمله ” ، بين حقيقتين :

الأولى – إن مجموع رسائل إفلوطين التي في حوزتنا الآن هي أربع وخمسين رسالة . وبلسان فرفريوس ” إذا أضفنا الرسائل التسع الأخيرة إلى الرسائل الخمسة والأربعين ، وهي رسائل المجموعتين الأولى والثانية ، فإن المجموع أربعة وخمسين ” (المصدر السابق) .

الثانية – إن رسائل إفلوطين تتفاوت في قوتها ودرجة نضوجها . وعلى هذا الأساس وزعها فرفريوس في ثلاث مراحل مرت بها عملية الكتابة الإفلوطينية ؛ أولاً رسائل المرحلة المبكرة ، والتي شملت الرسائل الإحدى والعشرين الأولى . وحسب رأي فرفريوس إنها كشفت عن قدرة بدرجات ما ، ودللت على صور من الذكاء . ولكنه لم يصل إلى درجات عالية من النضوج . مع قوة تصاحبها حساسية وتوتر. ثانياً رسائل المرحلة المتوسطة ، والتي ضمت رسائل المجموعة الثانية ، والتي تكونت من أربع وعشرين رسالة ، تميزت بالقوة العالية . ما عدا الرسائل القصيرة التي إتصفت بالكمال . ثالثاً رسائل المرحلة المتأخرة ، والتي تكونت من الرسائل التسع الأخيرة . وقد حملت هذه الرسائل شواهد على بداية الضعف في قوى إفلوطين العقلية . بل ويرى فرفريوس بأن هناك إختلافاً ملحوظاً حتى ما بين الرسائل الأربع الأخيرة مقارنة بالرسائل الخمسة التي تتقدم عليها . فمثلاً نلحظ إن الحماس كان أقل في الرسائل الأربعة الأخيرة مما هو عليه في الخمسة الأولى (المصدر السابق) . كان هذا هو تاريخ تأليف الرسائل التي كتبها المعلم إفلوطين ، والتي كونت محتوى كتاب التساعيات الستة حسب رواية فرفريوس . أما قصة الخطة التي إقترحها فرفريوس لترتيب كتاب التساعيات ، فهي موضوع المحور القادم .

خطة فرفريوس في ترتيب ونشر كتاب التساعيات :

في الفقرة الرابعة والعشرين من كتابه ” حياة إفلوطين وترتيب عمله ” أفصح فرفريوس عن خطته الشاملة في ترتيب كتاب التساعيات ومن ثم إعداده للنشر . وهذه الخطة تكشف عن رؤية التلميذ الأكاديمية العالية لعمل الأستاذ المعلم . وهنا نسعى إلى توفير بعض الحقائق المتعلقة بخطة فرفريوس ، وبالنقاط الآتية :

أولاً – يعلن فرفريوس بصراحة إن المعلم إفلوطين طلب منه أن يقوم بترتيب التساعيات ، وكان ذلك بالتحديد ” في حياة إفلوطين ” . وبالمقابل إن فرفريوس تعهد لإفلوطين ” والحلقة المحيطة به ، على إنه سيقوم بإنجازها ” (فرفريوس الصوري : حياة إفلوطين وترتيب عمله / الفقرة رقم 24) .

ثانيا – يعترف فرفريوس بأنه قام بمراجعة جميع رسائل المعلم إفلوطين . كما إنه ضمناً إعترف بأن هناك أمامه خيارين في الترتيب تقدمهما الرسائل بحد ذاته . الخيار الأول منطقي (أي هناك إمكانية لترتيبها وفق الإعتبارات المنطقية أو التتابع المنطقي) . والخيار الثاني تاريخي زمني (اي ممكن ترتيب الرسائل وفقاً لزمن كتاباتها) . والذي حدث إن فرفريوس أهمل الخيارين ، فلم يأخذ بالتتابع المنطقي ولا بتاريخ كتابة الرسائل معياراً منهجياً في الترتيب (المصدر السابق) .

حقيقة إن نشرة فرفريوس قد تجاهلت التاريخ الذي كتب فيه إفلوطين رسائله . والتاريخ مفتاح مهم في فهم درجات التطور والنمو الفلسفي الواقع خلال عملية التأليف . وهذه مسألة مهمة قد لا يجدها الباحث في نشرة فرفريوس لكتاب التساعيات . ولكن فرفريوس وفر لنا بنفسه فرصة لقراءة التساعيات من وجهة نظر تاريخية ، خصوصاً في الفقرات الرابعة والخامسة والسادسة من كتابه حياة إفلوطين وترتيب عمله (أنظر المحور السابق من هذا البحث) .

ثالثاً – إعترف فرفريوس بصدق بأنه بعد إن أهمل الخيارين ؛ التتابع المنطقي للرسائل ، وتاريخ كتابتها ، فأنه أخذ وتابع المنهج المتوافر في بعض النصوص السائدة . فقد كانت أمام ناظريه حالات تشبه حال مؤلفات إستاذه إفلوطين . وقد رتبها ونشرها تلاميذ وحواريين مثل حال فرفريوس الصوري . وحقيقة إن فرفريوس قدم لنا كشفاً عن هذه المؤلفات . منها أعمال الشاعر اليوناني ” باكروس ” (عاش مئة عام وللفترة مابين 550 و450 ق.م ، وقد جاء ذكره عند إفلاطون في محاورة جورجياس ، وعند أرسطو في كتاب الشعر . أنظر: أم برنارد ؛ تاريخ كيمبريدج للأدب الكلاسيكي (الأدب اليوناني) 1985 / الفصل الثاني عشر ، ص 367) . والتي قام بنشرها المؤرخ الإسكندراني – الأثيني ” أبلودورس ” في عشرة مجلدات (ولد عام 180 ومات بعد عام 120 ق.م ، وهو عالم نحوي وباحث يوناني ، وكان من طلاب الفيلسوف العراقي ديوجانس البابلي (الرواقي ورئيس المدرسة الرواقية في أثينا ، وأبلودورس هرب من الأسكندرية وإستقر في أثينا . أنظر: سيمون هورن بلور : أبلودورس الأثيني ؛ معجم أكسفورد الكلاسيكي ، نشرة مطبعة جامعة أكسفورد 1996 ، 124 وما بعد) .

وكذلك كانت أمام أنظار فرفريوس أعمال الفيلسوف أرسطو (384 – 322 ق.م) وأعمال خليفته على المدرسة المشائية الفيلسوف المشائي ثيوفروتس (371 – 287 ق.م) والتي قام بتصنيفها ونشرهما على أساس الموضوعات الفيلسوف المشائي إندرنيقوس (إزدهر عام 60 ق.م ، وهو فيلسوف من رودس ، ورئيس المدرسة المشائية في روما حوالي عام 58 ق.م أنظر: هيك كسهولم ؛ الموسوعة البريطانية ، نشرة مطبعة جامعة كيمبريج 1911 ، ط 11) .

وفعلاً فإن كل من أبلودورس وإندرنيقوس قد وفرا سوية نصوصاً رتبت ونشرت على أساس الموضوعات . وهذا المنهج سيتبناه فرفريوس الصوري ويشتغل عليه في ترتيب ونشر رسائل المعلم إفلوطين . يقول فرفريوس صراحة :

لقد تبنيت خطة مشابهة (فرفريوس الصوري : المصدر السابق) .

أما عن خطته في ترتيب ونشر التساعيات ، والتي ركز الحديث عنها في الفقرات الثلاثة الأخيرة من كتابه حياة إفلوطين وترتيب عمله ، وهي الفقرات الرابعة والعشرين والخامسة والعشرين والسادسة والعشرين ، فيقول بلسانه :

كانت رسائل إفلوطين الرابعة والخمسين أمامي ، فقمت بتقسيمها إلى ست مجموعات . وكل مجموعة تألفت من تسع رسائل . وهو ترتيب أسرني كثيراً ، وذلك لأنها سعادة مرتبطة بالتكامل ما بين العددين 6 و 9 . وكل تساعية عالجت موضوع واحد

وبصورة عامة . ولهذا تميزت النشرة ببساطة في تقديم موضوعات الرسائل (المصدر السابق) . وهكذا كانت هناك تساعية عالجت موضوعات الأخلاق ، وأخرى ركزت على الفيزياء … وهذا ما سنبينه بالشكل الذي رتبه فرفريوس الصوري :

التساعية الأولى : وإعتماداً على الخطة ، فأن معظم رسائل هذه التساعية تركز على الأخلاق ، وهي :

1 – في الحي والإنسان

2 – في الفضائل

3 – في الجدل

4 – في السعادة

5 – هل السعادة تعتمد عل طول الوقت

6 – في الجمال

7 – في الخير الأولي والأشكال الثانوية للخير

8 – في الشر

9 – في هوامل المعقولات من الحياة

التساعية الثانية : وهي ذات طبيعة فيزيائية ، وتتكون من رسائل حول العالم وما يتعلق به . وهي :

1 – في العالم

2 – في الحركة الدائرية

3 – هل للكواكب تأثيرات سببية

4 – في نظامي المادة

5 – في الإمكانية والواقعية

6 – في الكيفية والصورة

7 – في الوحدة (أو الإتحاد)

8 – لماذا تظهر الأشياء البعيدة صغيرة

9 – ضد الذين يدعون إن خالق العالم ، والعالم ذاته هما شران

التساعية الثالثة : وهي إستمرار لموضوع العالم ، وتتضمن معالجة فلسفية لبعض مظاهره . وهي :

1 – في القدر

2 – الرسالة الأولى في العناية

3 – الرسالة الثانية في العناية

4 – في أرواحنا الحارسة

5 – في الحب

6 – في عدم إمكانية اللامادي من الشعور بالألم

7 – في الزمن والأبدية

8 – في الطبيعة ، والتأمل والواحد

9 – أسئلة متنوعة (المصدر السابق) .

قدم فرفريوس في الطرف الأول من الفقرة الخامسة والعشرين ، بياناً كشف فيه الأسباب ، وعرض التبريرات التي حملته على نقل بعض الرسائل إلى التساعيات الثلاثة الإولى . فيقول :

إن التساعيات الثلاثة الأولى تؤلف وحدة منسجمة . فمثلاً إن رسالة في أرواحنا الحارسة ، قذ نقلت إلى التساعية الثالثة ، وذلك بسب إن الروح لم تعالج كموضوع بحد ذاته ، وإنما جاءت مقالة تصنف تحت مضمار أصل الإنسان . والشئ ذاته فيما يتعلق برسالة في الحب . أما رسالة في الزمن والأبدية ، فقذ نقلت إلى التساعية الثالثة بسبب إنها ركزت على الزمن . والحال كذلك بالنسبة لرسالة في الطبيعة ، والتأمل والواحد ،فكان نقلها بسبب تركيزها على الطبيعة ( المصدر السابق ، الفقرة رقم 25) .

أما التساعيتان الرابعة والخامسة ، فلهما قصة أخرى . وهذا ما سيتم معالجته .

التساعية الرابعة : وتتضمن رسائل عالجت موضوع النفس . وهي :

1 – في جوهر النفس (رسالة رقم 1)

2 – في جوهر النفس (رسالة رقم 2)

3 – أسئلة متعلقة بالنفس (رسالة رقم 1)

4 – أسئلة متعلقة بالنفس (رسالة رقم 2)

5 – أسئلة متعلقة بالنفس (رسالة رقم 3)

6 – في الحواس والذاكرة

7 – في خلود النفس

8 – في هبوط النفس إلى الأجسام

9 – هل النفوس واحدة (فرفريوس الصوري ؛ المصدر السابق ، الفقرة رقم 25) .

التساعية الخامسة : وتكونت من عدة رسائل درست مضمار النفس ؛ منها رسائل ركزت على المبدأ العقلي . وفيها معالجة لصعود الكل إلى المبدأ العقلي في النفس ، وإلى الأفكار . وهي:

1 – في الأصول (المبادئ) الثلاثة الأولية (الشرح منا : وهي عند إفلوطين : الواحد ، العقل والنفس)

2 – في أصل نظام عالم ما بعد الأوليات

3 – في الطبيعة (أو الجوهر) الواعي وصعود الكل

4 – كيف يصدر ما بعد الأولي عن الأولي ، وفي الواحد

5 – إن المعقولات لا توجد خارج المبدأ العقلي ، وفي الخير

6 – إنه لا يوجد فعل عقلي يتعالى على الموجود الحقيقي ، وفي الطبيعة فهناك فعل عقلي أولي وأخر ثانوي

7 – هل هناك أفكار للجزئيات

8 – في الجمال العقلي

9 – في المبدأ العقلي ، في الأفكار ، والموجود الحقيقي (المصدر السابق )

ومن ثم يعلن فرفريوس بأنه رتب التساعية الرابعة والخامسة على أساس إنهما يبحثان في مضمار واحد (المصدر السابق ، الفقرة رقم 26) . ووفقاً لفرفريوس فإن التساعية السادسة تؤلف لوحدها مضماراً مستقلاً . وعلى هذا الأسس ذهب إلى إن عمل إفلوطين برمته يتوزع تحت ثلاثة مجالات ؛ الأول ضم التساعيات الثلاثة الأولى . والثاني تكون من التساعية الرابعة والخامسة . والثالث جاء ليشمل التساعية السادسة (المصدر السابق) .

التساعية السادسة :

ونود هنا أن نلفت أنظار القارئ إلى إن أرباكاً قد أصاب أرقام أقسام أو ميامر التساعية السادسة أو ترتيب رسائلها . ففعلاً قد وقع خطأ في ترتيب الرسالة الأولى والتي تبحث في أنواع الوجود ففي الترتيب التاريخي منحها رقم 6 (ومنح رقم 6 لرسالة في الأعداد كذلك والتي جاءت في الترتيب التاريخي تحمل الرقم 34). ولعل الخطأ أصبح واضحاً وهو إن الرسالة الأولى في أنواع الوجود كان من المفروض أن تحمل الرقم 1 بدلاً من 6 الذي سبب الأرباك . وفعلاً إن فرفريوس في خطته الخاصة في ترتيب التساعية السادسة منحها الرقم 1 . ونحسب إن الخطأ وقع في الترتيب التاريخي (ولذلك ندعو القارئ والباحث إلى مقارنة الترتيب التاريخي للرسائل التي تحمل الأرقام 42 ، 43 ، 44 ، والخطأ وقع في رقم رسالة 42 . وقارن ذلك بمكونات التساعية السادسة ، الفقرة رقم 26 من كتاب فرفريوس ؛ حياة إفلوطين وترتيب عمله). ويبدو لنا إن فرفريوس أدرك هذا الإرتباك ولكنه حله بدمج رسائل أنواع الوجود الثلاثة في ثلاثة أرقام متتالية (1 ، 2 ، 3) .

وتكونت التساعية السادسة حسب ترتيب فرفريوس ، من الرسائل الأتية :

1 ، 2 ، 3 – في أنواع الوجود . وأفضل العودة إلى الترتيب التاريخي ووضعها بما ينسجم وخطة فرفريوس التي خرج عليها هنا وبالشكل الآتي :

1 – في أنواع الوجود (الرسالة الأولى)

2 – في أنواع الوجود (الرسالة الثانية)

3 – في أنواع الوجود (الرسالة الثالثة)

ومثلما حدث مع الرسائل الثلاث الأولى ، حدث مع الرسالة الرابعة والخامسة والتي دمجهما معاً وبالشكل الآتي :

4 ، 5 – الموجود الحقيقي كلي وواحد ، والوحدة الذاتية للمتشابهات (وفي الترتيب التاريخي جاءتا مستقلتين (أنظر الترتيب التاريخي أعلاه ، وبالتحديد الرسائل التي تحمل الأرقام : 22 ، 23 والذي نهض على إتفاق بين فرفريوس وإميليوس تلميذ إفلوطين لمدة ثمانية عشر سنة قبل أن يأتي فرفريوس إلى روما ويقابل إفلوطين . إن دمجهما معاً يثير سؤال مهم يتعلق بمصداقية رواية فرفريوس حول الإتفاق بينه وبين إميليوس . ويبدو هنا إن فرفريوس تخلى عن قواعد الإتفاق . وهذه مسألة ثانية تثير الحيرة ؛ فهناك ضاع دفتر ملاحظات إميليوس ، وهنا تخلى فرفريوس عن الإتفاق بينهما في تحديد هوية الرسالة 22 و الرسالة 23 وهي الرسائل التي كتبها إفلوطين عندما تمتع بإجازة صيفية حسب إميليوس الحاضر وفرفريوس الغائب) . ونحن نفضل العودة إلى الترتيب التاريخي ، وترتيبهما حسب خطة فرفريوس في ترتيب رسائل التساعية السادسة وبالشكل الآتي :

4 – الموجود الحقيقي كلي وواحد

5 – الوحدة الذاتية للمتشابهات

6 – في الأعداد

7 – في وجود الوفرة في الأفكار ، وفي الخير

8 – في الإرادة الحرة ، وإرادة الواحد

9 – في الخير أو في الواحد (المصدر السابق ، الفقرة رقم 26) .

وفي ختام الفقرة رقم 26 من كتاب فرفريوس الصوري ” حياة إفلوطين وترتيب عمله ” ، أعلن فرفريوس عن بعض الأفكار البالغة الأهمية ، والمتعلقة بدوره في ترتيب كتاب التساعيات ، والإضافات التي ضمها إليه ، ووضع الشروح عليها . كما إنه صرح بأن في ترتيب رسائل التساعيات ، عاد إلى الترتيب التاريخي . ومن ثم راجع عمل إفلوطين بشكل شامل ، ووضع الفواصل بين جمل النص ، وصحح بعض الأخطاء في الأفعال . فقال :

وهكذا فإن ما قمت بترتيبه من (عمل إفلوطين برمته) أربع وخمسين رسالة . وقمت بترتيبها في ست مجموعات ، وكل مجموعة ضمت تسع رسائل . وقد أضفت لبعض الرسائل شروحاً معمقة ، وذلك إستجابة لطلب الأصدقاء ، وسؤالهم عن إيضاح هذه النقطة أو تلك . وأخيراً وضعت موجزاً لكل رسالة من مجموع رسائل إفلوطين (ما عدا رسالة في الجمال) . وقد رتبت الرسائل إعتماداً على المنهج التاريخي . وسيجد القارئ إضافة إلى الموجزات ، نمواً وتطوراً . كما أني إتبعت المنهج التاريخي في ترقيمها . ومن ثم قمت بمراجعة العمل برمته ، فوضعت الفواصل (الفوارز) وصححت الأخطاء في الأفعال وما ورد في النص . والقارئ سيلاحظ ذلك بنفسه (فرفريوس الصوري ؛ حياة إفلوطين وعمله ، الفقرة رقم 26) .

ولعل من الملفت للنظر إن النشرات المعاصرة لكتاب التساعيات ، قد إستسلمت لرؤية التلميذ فرفريوس ، ولم تتمكن أن تتجاوز خطته المنهجية الأكاديمية العالية قيد أُنملة على الإطلاق ، سواء في نشرته اليونانية (ومعلوم إن المعلم والتلميذ كانت ثقافتهم ولغتهم اليونانية) أو الترجمة الإنكليزية . فمثلاً نشرها باليونانية الأستاذ ” كيرشوف ” في لايبزك عام 1856 . كما نشره باليونانية مع ترجمة مقابلة بالإنكليزية وشروح مضافة الأستاذين ستيفن ماكينا وب. أس بيج ، وبعدة مجلدات وللفترة الواقعة ما بين عامي 1917 و 1930 . ثم توالت النشرات لأجزاء من التساعيات وتحت عناوين منتخبة من نشرة فرفريوس الأصلية الأولى . حقيقة إن أقل ما يقال عن التساعيات إنها موسوعة فلسفية كبيرة عكست تطورات فلسفية ، أسهم فيها نومنيوس الأفامي السوري ، وأمونيوس ساكس الإسكندراني ، وتتوجت في رسائل هذه الموسوعة التي كتبها إفلوطين ، والتي لعب التلميذ البار فرفريوس الصوري ، دوراً غير إعتيادي في جمعها ، وترتيبها ووضع الشروح لها ، وكتابة مقدمة لها .

فعلاً لقد كانت التساعيات الإنجيل الروحي للحركة الفلسفية الجديدة التي سيقودها التلميذ فرفريوس الصوري بعد موت الأستاذ ، والذي كان يحمل الأمل في قلبه وضميره في قيام هذه الحركة – المدرسة الفلسفية التي ستملأ القرون الثالث والرابع والخامس .. وحتى إغلاق جوستنيان لمدارس الفلسفة عام 529م ، وإتهام الفلاسفة بالهرطقة ، ومن ثم طردهم خارج الإمبراطورية .. ورغم فعل جوستنيان السلبي على الفلسفة والفلاسفة ، فإن أثر الحركة الفلسفية التي ولدها كتاب التساعيات إمتد إلى عصر النهضة (الرينسانس) الإيطالية على أقل تقدير ، والتي سيطلق عليها كتاب العصر الحديث إصطلاح الإفلاطونية المحدثة .

تعقيب :

هذا هو أصل التساعيات التي كتبها إفلوطين أو ” الشيخ اليوناني ” كما يطلق عليه العقل العربي الإسلامي في عصور ما يسمى بالوسطى . ولكن الذي وصل إلى دائرة التفكير الفلسفي العربي الإسلامي في المشرق ، بعض من التساعيات تحت عنوان منحول ، أو كتاب منحول هو أثولوجيا أرسطو . وتعامل الفلاسفة (الكندي والفارابي وإبن سينا .. ) أو ما أطلق عليهم خطأً بالفلاسفة الإسلاميون المشائيون ، على إنه كتاب ألفه فيلسوف إسطاغيرا . وخصوصاً الفارابي الذي قارب على أساسه بين الحكيمين أرسطو وإفلاطون ، وبين الفلسفة والشريعة أو العقل والوحي . ولعل كتاب الفارابي ” الجمع بين رأيي الحكيمين ” شاهد على دور المنحول في مشروع الفارابي الفلسف

ثانياً – مضمون كتاب التساعيات :

¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤

نحاول أولاً أن نذكر بعض الحقائق المتعلقة بالمؤلف إفلوطين وكتابه ، ومن ثم ننتقل للإشارة إلى بعض الملاحظات التي تركها فرفريوس الصوري حول نظام نشر الكتاب واخيراً ننتقل إلى مضمون كتاب التساعيات .

بعض الحقائق عن المؤلف إفلوطين وكتابه :

¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤

تلقى إفلوطين تعاليم أستاذه الفلسفية “أمونيوس ساكس” الشفهية وعمل على تطويرها في محاضراته التي كان يلقيها على طلبته وخصوصاً تلميذه فرفريوس الصوري ، والتي تركها على شكل ملاحظات غير كاملة وغير منشورة . مات إفلوطين وفرفريوس الصوري كان مريضاً يعاني من حالة إعتلال صحي ، وترك إفلوطين في روما وذهب إلى سسيلي للعلاج والراحة بناءً على نصيحة أستاذه إفلوطين ، وظل هناك بعيداً عن إفلوطين مدة خمس سنوات .

إن من الشائع عن إفلوطين ، إنه كان مهملاً في ترتيب محاضراته ، ولم يعتني بتصحيح الأخطاء التي تقع فيها . إضافة إلى إنه لم يخطط إلى ضمها في كتاب ، فتركها على صورة ملاحظات (مشروع مقالات وكان إفلوطين حريصاً على سرية تداولها بين طلابه ومحبيه) يعتمد عليها في إلقاء محاضراته . كما إنه غالباً ما يترك مهمة تصحيحها وترتيبها على عاتق تلميذه فرفريوس الصوري .

عاد فرفريوس إلى روما فقام بإلقاء المحاضرات في الفلسفة . ومن ثم بدأ بجمع رسائل أستاذه إفلوطين ، ونقحها ووضع لها مقدمة ونشرها مع سيرة إفلوطين في العام 270 م . وفرفريوس هو الذي وضع لها عنوان ” التساعيات ” وهو العنوان الذي أستنبطه من رسائل إفلوطين ذاتها . وفعلاً فأن كتاب التساعيات جاء بنشرة فرفريوس يتألف من ستة تساعيات ، وأحسب إن لمسات فرفريوس واضحة على الكتاب . كما إن مقدمة الكتاب التي كتبها فرفريوس ، هي في الحقيقة بيان بعث للإفلاطونية المحدثة على يديه وبعزمه (أنظر: محمد جلوب الفرحان ؛ حقيقة تساعيات إفلوطين وإسطورة أثولوجيا أرسطو ، قيد الإنجاز) .

إن فرفريوس أسس تقليداً فلسفياً سيتبلور لاحقاً في صورة مدرسة فلسفية ، هي المدرسة الإفلاطونية المحدثة ، فبعد العودة من سيسيلي ، ونشر كتاب التساعيات والسيرة الذاتية لإفلوطين ، أخذ يقدم المحاضرات في الفلسفة ، وبدأ يتهافت عليه الطلاب من روما أو من الخارج ، فمثلاً مارسللا زوجته كانت طالبة مواضبة على حضور محاضراته ، بالإضافة إلى حضور طالبتين أخريين . كما أن أمبيلكوس السوري كان طالباً مواضباً على حلقته الفلسفية . ومن المعروف إن الفيلسوف الإفلاطوني المحدث إمبيلكوس سيقود المدرسة بعد موت فرفريوس ، وبعد موت إمبيلكوس سيسير على الدرب الإفلاطوني المحدث عدد من ورثة إمبيلكوس .

وعلى هذا الأساس يصبح فرفريوس الصوري هو المسؤول تاريخياً عن الإعلان الفلسفي عن إنبثاق حركة فلسفية جديدة ، هي الإفلاطونية المحدثة وذلك عندما قام بنشر كتاب ” التساعيات ” (أنظر: أرمسترونك ؛ إفلوطين ، نشرة مطبعة جامعة هارفارد 1966- 1988 وهو سبعة مجلدات) ، والذي تحول لحظة نشره إلى إنجيل الحركة الفلسفية الجديدة ، والتي سيطلق عليها إصطلاح ” الإفلاطونية المحدثة ” .

ومن زاوية المصادر الغربية الحديثة ، وعلى الأقل المصادر الأنكليزية وما ترجم إليها ، فأنها ترى إن فرفريوس قد لعب دوراً تاريخياً في التعريف الواسع بإسم أستاذه إفلوطين وذلك من خلال كتابة سيرته ومن خلال نشر كتاب التساعيات والشرح الممتاز الذي قدمه لفلسفة إفلوطين سواء في المقدمة التي كتبها لكتاب التساعيات أو في محاضراته وكتبه الأخرى . ولعل الشاهد على ذلك الأثر الذي تركه فرفريوس على الفيلسوف الإفلاطوني المحدث أمبيلكوس وورثته ، والذي درس الفلسفة على يد فرفريوس الصوري ، ونحسب إن محور دروس فرفريوس كانت فلسفة إفلوطين .

وأخيراً فقد لاحظ روبرت بيركمان إن هناك عدداً من الكتاب في عالم الثقافة الرومانية ، وعالم الثقافة اللاتينية ، والثقافة البيزنطية المسيحية ، من يعبر عن إعجابه وخوفه في الوقت ذاته من فرفريوس الصوري . كما وإن رؤية فرفريوس الخاصة للفلسفة الإفلاطونية المحدثة قد فرضت هيمنتها على دوائر التفكير الفلسفي في العالم الغربي وحتى القرن التاسع عشر (أنظر: فرفريوس ضد المسيحيين ، الفصل الأول ، ص 2) . ونحسب إن كل هذه الجوانب تركت أثارها على كتابات التساعيات ، الذي جمعه ونشره تلميذ إفلوطين ” فرفريوس الصوري ” هذا طرف من القضية ، والطرف الثاني سيأتي الحديث عنه في الفقرة الآتية .

دور فرفريوس الصوري في ترتيب كتاب التساعيات :

☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆

كتب فرفريوس الصوري سيرة إفلوطين ، وملاحظات حول الكيفية التي إتبعها في ترتيب كتاب التساعيات . وكان عنوانها المترجم إلى اللغة الإنكليزية ” فرفريوس الصوري : حياة إفلوطين وترتيب عمله ” (ترجمه عن اليونانية ستيفن ماكينا ، نشرة المطبعة الإسكندرانية ، الولايات المتحدة الأمريكية 1984) . وإن المتصفح لهذا الكتاب ، يقف على الحقائق الآتية :

أولاً – إن إفلوطين حسب رواية فرفريوس منحه تفويضاً في مراجعة مايكتب . يقول فرفريوس الصوري :

أنا فرفريوس الصوري ، واحد من أصدقاء إفلوطين المقربين ، وكان إفلوطين يفوضني على مراجعة ما يكتب (فرفريوس الصوري ؛ حياة إفلوطين وترتيب عمله ، ترجمه من اليونانية إلى الإنكليزية ستيفن ماكينا ، نشرة المطبعة الإسكندرانية ، الولايات المتحدة 1984 ، الفقرة رقم 7) .

ثانياً – إن المعلومات التي قدمها لنا فرفريوس ، تؤكد بشكل واضح على إن هناك عدداً من الطلبة قد سبقوا فرفريوس في ملازمة الأستاذ إفلوطين . منهم ” إميليوس ” ، والذي كان أحد المصادر المهمة لكتابة ” حياة إفلوطين وترتيب أعماله ” . خصوصاً في ناحيتين : الأولى إن إميليوس كان شاهد عين على حياة إفلوطين ولمدة ثمانية عشر عاماً حتى لحظة وصول فرفريوس إلى روما ، ومقابلة المعلم إفلوطين . الثانية إن فرفريوس الصوري بنفسه يذكر بإن إميليوس قد ألف كتاباً عن أستاذه الأول ” نومنيوس الأفامي السوري ” ، وإشتغل على ترتيب أعماله ، وهذا الكتاب تكون من مئة رسالة ، وبعد إكماله قدمها لولده بالتبني ” هوستيالينوس الأفامي السوري ” .

والسؤال : ماذا يعني هذا ؟ يعني إن إميليوس قد سبق فرفريوس في هذا النوع من الكتابة ، وإن كتابه عن أستاذه نومنيوس ، سيكون موضوع تفكير فرفريوس ، حين سيباشر في التأليف عن حياة إفلوطين وترتيب عمله ،إضافة إلى إن إميليوس كان يحمل معه دفتر ملاحظات ، يسجل فيه يوميات إفلوطين ، وبالتأكيد هذه اليوميات مصدر معرفي في غاية الأهمية . إلا إن فرفريوس يفاجئنا عندما يعلن عن ضياعه (أنظر: محمد جلوب الفرحان ؛ ملاحظات منهجية حول كتاب فرفريوس الصوري ” حياة إفلوطين وترتيب عمله “) . يقول فرفريوس الصوري ما نصه :

وصلت إلى اليونان في السنة العاشرة من حكم الإمبراطور الروماني ” كالينيوس ” وبرفقة إنطونيوس الروديسي ، ووجدنا إميليوس برفقة إفلوطين ما يقارب الثمانية عشر عاماً . وكان ينقص إميليوس القدرة على كتابة أي شئ ، ما عدا إنه كان يحمل دفتر ملاحظات ضاع وإنطمر بعد ذلك ، وكان إفلوطين في التاسعة والخمسين عندما قابلته كنت في الثلاثين (فرفريوس الصوري ؛ المصدر السابق / الفقرة رقم 4) .

ثالثاً – يعلن فرفريوس الصوري عن مسألة في غاية الأهمية ، تتعلق بشخصية المؤلف إفلوطين ، فقد ناهز الخمسين من عمره ولم يكتب شيئاً (وصل إفلوطين إلى روما ، وهو في الأربعين زائداً عشر سنوات ، وهي الفترة التي لم يكتب فيها) . ونحسب إن في رواية فرفريوس إشكال ؛ ففريوس كان غائباً هذه الفترة ، وبعيداً عن روما وحياة المعلم إفلوطين . والسؤال : ما هي المصادر التي إعتمد عليها في كتابة هذه الرواية ؟ حقيقة إن فرفريوس كتبها دون أن يذكر شيئاً . ونظن إن مصدره إميليوس أو كتاب ملاحظات إميليوس الذي ضاع وإنطمر. وإن هذه المسألة تظل مفتوحة لقبول أراء أخرى .

يقول فرفريوس الصوري عن الكاتب إفلوطين :

☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆

عقد إفلوطين عهداً مع كل من أرنيوس وأوركن ، بأن لا يتكلموا عن عقائد أمونيوس (وهو أمونيوس ساكس معلم إفلوطين في الإسكندرية) . وفعلاً فقد حافظ إفلوطين على هذا العهد ، وحاول تجنب الحديث عن النظام الفكري للمعلم أمونيوس ، خصوصاً خلال مناقشاته مع زملاء الحلقة . إلا إن هذه السرية لم تستمر طويلاً ، فقد إنفرط العهد أولاً من قبل أرنيوس ، ومن ثم من قبل أوركن . حقيقة أوركن لم يكتب شيئاً . ولكن ذلك جاء في رسالة ” الموجودات الروحية ” .

أما فيما يخص المعلم إفلوطين ، فإنه ولفترة طويلة لم يكتب شيئاً . ولكنه بدأ يؤسس لقاعدة نقاش حول ما جمعه من دراسات تمت تحت إشراف أمونيوس . وفي ضوء ذلك فإنه لم يكتب شيئاً ، سوى التشاور والنقاش المستمرين مع جماعة من الزملاء ، وهذه الفترة إستمرت مدة عشر سنوات . (فرفريوس الصوري ؛ المصدر السابق ، الفقرة رقم 3) .

رابعاً – ووفقاً لرواية فرفريوس ، وحسابات السنين من حياة المعلم إفلوطين ، نحسب إن فترة السنوات العشرة الممتدة ما بين الخمسين من عمره والتاسعة والخمسين (وهي السنة التي قابل فرفريوس إفلوطين) هي فترة نشاط الفيلسوف في التأليف والكتابة . ومثلما واجهنا إشكال في أطراف من الروايات الفرفوريسية السابقة ، نرى إن الإشكال يتجدد مرة أخرى . خصوصاً إذا ما وضعنا في الإعتبار غياب التلميذ فرفريوس عن روما وعن حياة المعلم إفلوطين على حد سواء . وهنا لا يذكر فرفريوس أي مصدره زوده بهذه المعلومات ؛ وهل هو إفلوطين ذاته أو تلميذه وصديقه إميليوس أو زيثوس العربي … لا أحد يستطيع أن يقول شيئاً عن ذلك .

ويرى فرفريوس إن المعلم إفلوطين بدأ الكتابة ” في السنة الأولى من حكم الإمبراطور الروماني ” كالينيوس ” (218 – 268م) ، والذي شارك الحكم مع والده في العام 253م . وإذا قبلنا ذلك من فرفريوس ، فأننا نحسب إن هناك نوعاً من عدم التناغم بين سني عمر المعلم إفلوطين ، والتي إقترحها فرفريوس بنفسه ، وسنوات إعتلاء الإمبراطور ” كالينيوس ” سدة الإمبراطورية الرومانية .

يقول فرفريوس الصوري عن فترة الكتابة ، وعدد الرسائل التي كتبها المعلم إفلوطين :

بدأ إفلوطين في الكتابة ، في السنة الأولى من حكم كالينيوس ، وعن موضوعات أخذ النقاش يدور حولها . وحين وصولي لمقابلة إفلوطين ، كانت السنة العاشرة من الحكم (حكم الإمبراطور كالينيوس) . وقد بلغ مجموع ما ألفه إفلوطين إحدى وعشرين رسالة (فرفريوس الصوري ؛ المصدر السابق ، الفقرة رقم 4) .

خامساً – كشف فرفريوس عن حقيقة هذه الرسائل التي كتبها الفيلسوف المعلم إفلوطين ، وبين مايحيط بها . فهي من ناحية رسائل مقيدة بطابعها الخاص ، ولذلك كان تداولها فيه تباطئ وحذر ، ونشرها كان يأخذ طابع السرية . وإن من حصل عليها قد خضع لتمحيص دقيق . ومن ناحية أخرى ، فإن هذه الرسائل كانت لا تحمل عناويناً لها . ولذلك كان كل فرد يقترح عناوين يعتقد مناسبة لها (أنظر : المصدر السابق) . ويقول فرفريوس معلقاً على عناوين الرسائل :

وأنا هنا إقتبستهم تحت عناوين وضعت لهم فيما بعد . وهذه العناوين ليست إلا الكلمات الأولى التي تبدأ بها كل رسالة ، وذلك لتسهيل مهمة التعريف بهويتها

(فرفريوس الصوري ؛ المصدر السابق) . ونحسب إن عناويين الرسائل تعبر عن مضمون التساعيات . وهذه قصة سنقوم بتناولها في المحور اللاحق . كما إن هذه الرسائل (21 رسالة) لا تشكل إلا جزء من نشرة التساعيات المتداولة

أولاً – السيرة الذاتية لإفلوطين :

☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆

نحسب أن تكون البداية ، هي التعريف بمؤلف الكتاب ، وذلك لأن الكتاب يعكس شخصية كاتبه ؛ فلسفته ومنهجه . ولعل السؤال المفتاح : من هو الفيلسوف ” إفلوطين ” ؟ وما هو إتجاهه الفلسفي ؟ عرف التراث الثقافي العربي الإسلامي عامة ، و دوائر التفكير الفلسفي في المشرق الإسلامي خاصة الفيلسوف ” إفلوطين ” وأطلقت عليه لقب ” الشيخ اليوناني ” . ولا أعرف مدى دقة تسمية النصوص العربية ، وإفلوطين حسب رواية تلميذه ” فرفريوس الصوري ” مات وعمره ست وستين عاماً . وهو المؤسس الحقيقي لما سيطلق عليه في بواكير العصر الحديث ” المدرسة الإفلاطونية المحدثة ” (أنظر: بحثنا القادم والمعنون : إشكالية الفلسفة الإسلامية : بين المشائية والإفلاطونية المحدثة) .

الحقيقة لم تأتي المعلومات عن سيرة إفلوطين ، من المصدر الأول ، وذلك إن إفلوطين ذاته لم يذكر أو يترك بيراعه معلومات عن إصول عائلته (أجداده) ، وعن طفولته ، بل ولم يتكلم عن مكان وتاريخ ولادته . ولكن جميع المصادر التي تتكلم عنه لاحقاً ، تتحدث عنه كرجل عاش حياته الشخصية والإجتماعية في ضوء معايير أخلاقية وروحية عالية جداً . ورغم هذا الحال ، فإننا محظظون جداً في معرفة شخصية الأستاذ إفلوطين من زاوية حواريه التلميذ الروحي ” فرفريوس الصوري ” (233 – 305 والبعض يرى إنه توفي في عام 309 تقريباً) الذي لازمه ودرس تحت يده في روما فترة ليست بالقصيرة (ست سنوات ركزها على دراسة فلسفة إفلوطين ومشروعه الفلسفي الدي سيعرف بالإفلاطوني المحدث) ، وإن كان بعيداً في السنوات الآخيرة من حياته (خمس سنوات كان فرفريوس بعيداً عن إفلوطين) ، ومات إفلوطين في روما ، وفرفريوس الصوري ذهب للعلاج إلى سيسلي الإيطالية (بعد حالة فرفريوس النفسية ، ومحاولته على الإقدام على الإنتحار..) بناءً على إقتراح أستاذه إفلوطين . وفعلاً بعد سماعه بأخبار موت أستاذه ، ركب البحر وعاد سريعاً . فجمع أوراق أستاذه ، وبدأ يرتبها ويفكر بطريقة نشرها . وهذه قضية سيكون الحديث عنها في المحور الخاص بكتاب التساعيات . ولكن فرفريوس لم يكتفي بنشر كتاب التساعيات ، بل وكتب مدخلاً شرح فيه فلسفة إفلوطين ، وسيرة ذاتية له ونشرها مع التساعيات (أنظر : محمد جلوب الفرحان : فرفريوس الصوري مؤرخاً للفلسفة اليونانية / المحور المعنون الإعلان عن الإفلاطونية المحدثة / مصدر سابق) .

وعلى هذا الأساس فإن مصدرنا القريب للمعلومات عن حياة وسيرة إفلوطين ، هو حواريه وتلميذه فرفريوس الصوري . فقد كتب فرفريوس قائلاً : ” كان عمر إفلوطين ست وستين عاماً عندما جاءته المنية في عام 270 م ، وبالتحديد في السنة الثانية من إعتلاء الإمبراطور الروماني ” كلوديوس الثاني ” . وهذا كان دليلاً تاريخياً مكن الباحثون من إقتراح 205 سنة لولادة إفلوطين . وقد ولد حسب رواية المؤرخ السفسطائي ” يونبيوس ” (من كُتاب القرن الرابع والخامس الميلاديين) في مدينة يونانية ، تقع في دلتا مصر السفلى (أنظر : إفلوطين / موسوعة جامعة كولومبيا الإلكترونية / 2003) .

ونرجح إن موت إفلوطين كان في بداية عام 270  والسبب إن فرفريوس نشر كتاب التساعيات والسيرة الذاتية والمدخل الشارح لفلسفة إفلوطين في عام 270 كذلك . فبعد سماع فرفريوس أخبار موت أستاذه في العام 270 ، عاد من سيسلي ، وبالتأكيد يحتاج العمل إلى وقت لترتيب الملاحظات التي تركها إفلوطين لمحاضراته الشفهية ، وفرفريوس يحتاج إلى وقت للإتصال ببعض تلاميذ إفلوطين ليرى ما يمتلكون وما يحفظون من معلومات عن فلسفة الأستاذ إفلوطين . كما إن المدخل الشارح لفلسفة إفلوطين الذي كتبه فرفريوس يحتاج إلى وقت ، كما إن كتابة سيرة إفلوطين تحتاج إلى وقت لجمعها والتدقيق فيها وكتابتها ونشرها . وكل ذلك حملنا على القول إن فرفريوس عمل كل ذلك ونشره في وقت متأخر من عام 270م .

بدأ إفلوطين بدراسة الفلسفة عندما كان في السابعة والعشرين من عمره ، ولدراسته للفلسفة قصة ذات طعم خاص ، فبالتحديد في عام 232 ، شد الرحال إلى مدينة الإسكندرية . وهناك عاش تجربة معرفية ، إختبر فيها الكثير من معلمي الفلسفة ، وكان ساخطاً وغير راض على مادتهم الفلسفية ، وغير مقتنع بهم ، حتى شكى حاله لواحد من معارفه ، فإقترح عليه الإستماع إلى أفكار ” أمونيوس ساكس ” (القرن الثالث الميلادي) وهو المؤسس الروحي للحركة الفلسفية الجديد التي ستعرف بإسم الإفلاطونية المحدثة . وبعد إن إستمع إفلوطين لمحاضرته ، صرح لصديقه قائلاً : ” هذا هو الرجل الذي أبحث عنه ” . ومن ثم بدأ بحماس ونشاط يدرس الفلسفة تحت إشراف هذا المعلم الجديد . والحقيقة إن أمونيوس كان معلماً لأفلوطين مدة إحدى عشر عاماً ، وبالتحديد إمتدت من عام 232 وحتى عام 243 . وكان لأمونيوس بالتأكيد تأثيراً كبيرا على إفلوطين في تطوير الإفلاطونية المحدثة . ولكننا اليوم لا نعرف إلا القليل القليل من وجهات نظره الفلسفية (أنظر : محمد جلوب الفرحان : فرفريوس الصوري مؤرخاً للفلسفة اليوناني / المحور المعنون ” الإعلان عن الإفلاطونية المحدثة / مصدر سابق ) .

ومن النافع أن نشير إلى إن جميع المعلومات التي توافرت لدينا عن معلم إفلوطين الفيلسوف ” أمونيوس ساكس ، قد جاءت إلينا من طرف فقرات تركها فرفريوس الصوري عندما تحدث عن حياة أستاذه إفلوطين . حيث قال بالنص :

وعندما كان عمره ثمانية عشر عاماً (الحديث عن إفلوطين) شعر بالرغبة في دراسة الفلسفة ، وقد نُصح بالذهاب إلى الإسكندرية ، وإكتساب التعليم على يد معلمي الفلسفة هناك ، والذين كانت لهم سمعة مشهودة . ولكن محاضراتهم سببت له السأم ، فإنصرف منها حزيناً . وفعلاً فقد أخبر صديق له بالمصاعب التي يواجهها في تعلم الفلسفة . وفهم الصديق رغبة قلبه ، فأرسله إلى أمونيوس ، والذي لم يكن بعيداً ، وإقترح عليه إن يحاول حضور محاضراته . وعندما ذهب للإستماع إليه ، رجع وأخبر صديقه ، قائلاً : ” هذا هو الرجل الذي أبحث عنه ” . ومن ذلك اليوم لازم إفلوطين أمونيوس ، وإكتسب منه المعرفة والتدريب الفلسفي الكاملين . وبعد ذلك إتصل بتعالم الفرس الفلسفية ، والتي كانت متداولة بين الهنود ” ( فرفريوس الصوري ؛ حياة إفلوطين / نقلاً من ج . ريل ؛ تاريخ الفلسفة القديمة / ج 4 والمعنون ” مدارس العصور الإمبراطورية ، مطبعة الشمس 1990 ، ص 298) بالإضافة إلى أمونيوس ساكس ، فأن إفلوطين تأثر بكتابات ” الإسكندر الإفروديسي ” وهو واحد من شراح أرسطو في القرن الثالث الميلادي . وجاء الإفروديسي إلى أثينا في نهايات القرن الثاني الميلادي . وكان تلميذاً لإثنين من الرواقيين ، أو ربما كان واحد من معلميه مشائياً . وفعلاً في أثينا أصبح الأفروديسي رئيس المدرسة المشائية (أنظر : ج . ب . لونش ؛ مدرسة أرسطو ، نشرة جامعة باركلي 1972 ، ص 215) . كما وتأثر بالفيلسوف الفيثاغوري الجديد الإفلاطوني ” نومينوس الآفامي السوري ” (إزدهر خلال النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي) . ويبدو إن نومينوس قد لعب دوراً في تاريخ التمهيد لتأسيس المدرسة الإفلاطونية المحدثة (أنظر : كتابات نومينوس الإفلاطوني المحدث ، ترجمة كينث كوثري ، نشرة دار سيلين للكتب ، بلا تاريخ) . وقرأ أثار عدد من الفلاسفة الرواقيين .

وبعد إن صرف أحد عشرة سنة أخرى ، قرر إفلوطين البحث عن تعاليم الفلاسفة الفرس والهنود ، وكان عمره يومذاك ثمان وثلاثين عاماً (أنظر : فرفريوس الصوري ؛ حياة إفلوطين وترتيب كتبه ، الفصل الثالث) .ولإنجاز هذه الرغبة ، ترك الإسكندرية ، وإلتحق بجيش الإمبراطور الروماني ” جورديان الثالث ” (225 – 244م) ، وبعد تقدم الحشود نحو بلاد فارس ، فشلت الحملة ومات الإمبراطور فجأة ، فوجد إفلوطين نفسه معزولاً في بيئة معادية ، وبصعوبات مضنية ، تلمس طريق العودة إلى مدينة إنطاكيا .

وفي سن الأربعين ، وبالتحديد خلال حكم الإمبراطور الروماني ” فيليب العربي ” (204 – 244) ، عاد إفلوطين إلى روما (للإطلاع أنظر: ألين بومان ؛ تاريخ كيمبريدج القديم : إزمة الإمبراطورية من 193 وحتى 337 ، نشرة مطبعة كيمبريدج 2005) ، والتي قضى سنواته الآخيرة فيها . وفي روما جذب حوله العديد من الطلبة والرموز الثقافية يومذاك ، من أمثال فرفريوس الصوري ، وإميليوس جنتاليتيوس (إفلاطوني محدث وكاتب من النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي) ، وهو في الأصل تلميذ نومنيوس الآفامي . ولكنه بدأ يحضر محاضرات إفلوطين ، وبالتحديد في السنة الثالثة من عودة الآخير إلى روما (أنظر : وليم سميث ؛ معجم السير والآساطير اليونانية والرومانية ، نشرة مطبعة براون ، بوسطن 1867 ، ص 142 وما بعد) .

كما وكان السناتور كاستريوس فرموس (وهو إفلاطوني محدث من القرن الثالث) من المقربيين للفيلسوف إفلوطين . وكان حسب رواية فرفريوس الصوري ” يحترم إفلوطين بإجلال ، ولازمه إلى نهاية حياته ” (أنظر : فرفريوس الصوري ؛ حياة إفلوطين ، ترجمة ستيفن ماكينا ، لندن1917 – 1930) . والقائمة طويلة . ولكن من أهم حواريه وطلابه ، كان العربي ” زيثوس ” (إفلاطوني محدث من القرن الثالث) ، وهو حسب رواية فرفريوس ، من أصول عربية ومات قبل موت إفلوطين ، وكان مقرباً جداً إلى إفلوطين ، ويقضيان أوقاتهما في الريف (أنظر : فرفريوس الصوري ؛ المصدر السابق) . وكان للنساء حصة في التلمذة على يد إفلوطين ، فمثلاً كانت جيمينا تلميذة له ، وكان يعيش في بيتها خلال حياته في روما . كما كانت إبنتها جيمينا الثانية تلميذة لإفلوطين كذلك . والثالثة كانت إمفيسلا وهي زوجة أرستون إبن إمبيلكوس الفيلسوف الإفلاطوني المحدث ، ورئيس المدرسة السورية للإفلاطونية المحدثة (أنظر: محمد جلوب الفرحان : الملك الفيلسوف إمبيلكوس السوري مؤرخاً للفلسفة اليونانية / منشور في المجلد الأول ، العدد الثاني من مجلة أوراق فلسفية جديدة / ربيع 2011) .

وفي السنوات الأخيرة من حياته في روما ، إكتسب إفلوطين إحترام كل من الإمبراطور الروماني ” كالينيوس ” (218 – 268م) وزوجته ” سالونيا ” (لا تذكر المصادر شيئاً عن حياتها ، سوى إنها تزوجت الإمبراطور قبل عشر سنوات من أن يصبح إمبراطوراً ، وإعدمت عام 268 م مع أفراد عائلتها بقرار من مجلس السناتورات (أنظر: بات سوذرن ؛ الإمبراطورية الرومانية من سيفريوس وحتى قسطنطين ، نشر دار روتلدج ، لندن 2001) .

ولعل المهم في علاقته بالإمبراطور ، إنه حاول إقناعه بإعادة تجديد مستعمرة كامبيا المهجورة ، والتي كانت تعرف بمدينة الفلاسفة ، والتي كان سكانها يعيشون في ظل دستور صاغه إفلاطون في محاورة القوانين . وحسب رواية فرفريوس الصوري ، فإن المساعدات المالية لهذا المشروع لم تحصل على الإطلاق ، ولأسباب غير معروفة حتى لفرفريوس الصوري الذي أخبرنا بهذه الحادثة .

بعد ذلك رحل فرفريوس إلى سيسلي ، وبعد خمس سنوات ، جاءت الأخبار عن موت إستاذه إفلوطين . ويذكر إن إفلوطين صرف أيامه الآخيرة في ضيعة في كمبانيا وهي الضيعة التي ورثها من حواريه العربي الإفلاطوني المحدث ” زيثوس ” بناءً على أساس وصية الأخير له قبيل موته .

ومات إفلوطين ولم ينشر اي شئ على الإطلاق . ولكنه حسب رواية فرفريوس الصوري ، ترك بعض المقالات الناقصة ، وملاحظات كان يعتمد عليها في إلقاء محاضراته (أنظر: محمد جلوب الفرحان ؛ فرفريوس الصوري مؤرخاً للفلسفة اليوناني / مصدر سابق) . ولذلك سنفضل التخلي عن المصادر الثانوية التي كتبت عن إفلوطين ، ونعتمد على ما كتبه فرفريوس بيراعه وهو المصدر الأول ، والذي عاش مع إستاذه مدة ست سنوات ، ورحل إلى سيسلسي والتواصل مستمر بينهما ولمدة خمس سنوات أخرى ، وفعلاً فإن إفلوطين كان يرسل إليه كل ما هو جديد مما يكتب . وهذه قصة سنتناول أطرافها لاحقاً .

مشكلة المكان في فلسفة فيلسوف قرطبة إبن رشد(595ه)

يهدف هذا المقال إلى تقديم نظرة عامة حول مشكلة المكان في فلسفة أبي الوليد بن رشد من خلال بعض تواليفه الطبيعية والمنطقية، لا سيما منها “جوامع السماع الطبيعي” و”تلخيص السماء والعالم” وتلخيص كتاب المقولات، لندرك مدى تطور فكر الرجل بصدد مشكلة المكان وما يحوم في فلكها من معضلات فلسفية تستأثر باهتمام العديد من المفكرين والفلاسفة على امتداد تاريخ الفكر البشري بوجه عام. وقبل أن نمحص طبيعة المكان لدى ابن رشد يحسن بنا أولا أن نبحث عن أصول وجذور مشكلة المكان كما أثارها أرسطو في كتاب “الطبيعة”. الأمر الذي يستوجب التساؤل عن الأسباب التي دفعت بالمعلم الأول إلى إثارة مسألة المكان في المقالة الرابعة من كتاب “الطبيعة” دون غيره من النصوص الطبيعية الأخرى.

أصول مشكلة المكان:

●●●●●●●●●●●●●●●●●●

إن المتأمل في كتاب الطبيعة لأرسطو سيقف لا محالة على أصلين أساسيين لمشكلة المكان كغيرها من المشكلات الفلسفية والعلمية الأخرى الواردة في هذا الكتاب. هذان الأصلان هما:

أ – أصل علمي: يتمثل في دفاع أرسطو عن إمكانية قيام العلم الطبيعي -ضدا على منكريه- اعتمادا على مبادئ علمية، ذلك أن كتاب الطبيعة لأرسطو يتناول من جهة أولى المبادئ المؤسسة للعلم الطبيعي من قبيل: المادة والصورة والعدم، لا للبرهنة على وجودها، لأن ذلك يتكفل ببيانه صاحب علم ما بعد الطبيعة، بل فقط لحصر عددها، والحديث عن علاقة بعضها ببعض، وبيان ما السبب الذي بالذات والذي بالعرض(1). كما أنه يتناول بالدراسة والتحليل من جهة ثانية، اللواحق العامة للأجسام الطبيعية كالمكان والزمان والحركة واللانهاية… ولما كانت الطبيعة في نظر أرسطو مبدأ حركة وسكون في الشيء”(2) فإنه يستوجب على صاحب العلم الطبيعي أن ينظر في أمر الحركة ليعلم الطبيعة ما دامت الحركة تدخل في حد الطبيعة، ولكي يعلم الحركة يجب على صاحب هذه الصناعة أن يتحدث عن المكان والزمان، إذ لا وجود لحركة بدونهما.

ب – أصل سجالي: ينحصر أساسا في الرد على بعض التيارات الفكرية والفلسفية سواء منها التي تنفي وجود مبادئ يقوم عليها العلم بدليل أن كل شيء قابل للبرهنة بما في ذلك مبادئ العلوم (السوفسطائيون)، أو تلك التي ترى أن المبادئ واحدة (الطبيعيون الأوائل)، أو متعددة (الذريون)(3). كما يتمثل هذا الأصل السجالي أيضا في الرد على نفاة المكان وعلى القائلين بالخلاء سواء الذين يتبثونه بعدا مفارقا أو غير مفارق. وسنفرد لهذه المسألة حديثا مفصلا في ثنايا هذا العرض لا سيما في سياق الحديث عن ماهية المكان.

طبيعة المكان عند ابن رشد.

●●●●●●●●●●●●●●●●●●●

أول ما يثير انتباه الدارس لكتاب جوامع السماع الطبيعي خاصة المقالة الرابعة منه هو أن ابن رشد لا يكلف نفسه عناء البحث عن الحجج ليثبت من خلالها وجود المكان خلافا لأرسطو وابن سينا اللذين يسهبان في الرد على نفاة المكان، إذ يصادر على وجوده، وذلك بمجرد تأمل محمولاته الذاتية التي لا تليق إلا بالموجود(4) إلا أنه لا بد من التساؤل هنا عن الأسباب التي دفعت بابن رشد وقبله ابن باجة إلى عدم الخوض في مجادلة نفاة المكان، فهل المسألة تعود إلى عدم أهميتها في الغرب الإسلامي، خاصة إذا علمنا أن ابن سينا سيحدو حدو أرسطو في هذا السياق أم أن الأمر يرجع إلى مجرد عملية تلخيص النص الأرسطي وعدم متابعته متابعة حثيثة؟

مهما يكن من أمر هذه التساؤلات، فإن الغرض من هذا القول أن نمحص طبيعة المكان عند ابن رشد. وقبل ذلك نتساءل ما مختلف المواقف التي يعارضها أبو الوليد بصدد مشكلة المكان؟ كيف يتصور فيلسوف قرطبة ومراكش ماهية المكان؟ وأخيرا، ما الطريقة التي يسلكها في استنباط الحد التام لمفهوم المكان؟

يقترح ابن رشد أربعة احتمالات لا تخرج عنها ماهية المكان وهي: إما أن يكون المكان هو الهيولى، أو الصورة، أو الخلاء، أو النهاية المحيطة بالجسم الطبيعي.

المكان/الهيولى أو الصورة.

●●●●●●●●●●●●●●●●●●

يرفض ابن رشد أن يكون المكان هو الهيولى أو الصورة لسبب بسيط هو أن حركة النقلة (المكانية) تصبح كونا وفسادا(5). وهذا ما يعبر عنه ابن باجة في قوله “فمنهم من رأى الهيولى هي المكان، وهذا بين الفساد، فإن المكان ليس بمنتقل بانتقال المتمكن فيه والهيولى هي التي تنتقل لا الصور”(6). أما ابن سينا فيرفض هو الآخر أن يكون المكان هو الهيولى أو الصورة اعتمادا على بعض التقابلات بين الطرفين، وذلك أن من يرى الهيولى أو الصورة مكانا فهو قول فاسد، لأن المكان يفارق عند الحركة، أما الهيولى أو الصورة لا يفارقان، كما أن المكان تكون الحركة فيه وإليه، أما الهيولى والصورة لا تكون الحركة فيهما، بل معهما، ولا تكون إليهما الحركة البتة(7). نفس الأمر نجده لدى أرسطو، إذ ينفي أن يكون المكان هو الهيولى أو الصورة معتمدا في ذلك على بعض القرائن يمكن أن نشير إليها فيما يلي:

  • الهيولى والصورة لا يفارقان المركب، بينما المكان يفارق المركب، فالمكان إذن غيرهما.
  • المكان من حيث هو مفارق ليس بصورة للمركب، ومن حيث إنه يحيط ليس بهيولى، لأن الهيولى لا تحيط، بل يحاط بها.
  • المكان إما فوق وإما أسفل، وليس بشيء من الهيولى أو الصورة فوق أو أسفل.
  • لو كان المكان صورة لكان يفسد، إذا انتقل الماء إلى الهواء واستحال إليه، لأن صورة الماء قد فسدت.
  • لو كان المكان هيولى أو صورة مع أن المركب قد ينتقل من مكان إلى مكان لكان المكان قد تحرك إلى مكان، فيكون مكان في مكان وذلك مستحيل.
  • المكان ينتقل إليه أما الهيولى والصورة فتنتقلان(8).

المكان/الخلاء:

●●●●●●●●●●●●●●●●●●

ينفي ابن رشد أن يكون المكان هو الخلاء سواء كان بعدا مفارقا أو غير مفارق، ويفرد بحثا عميقا في مساجلة القائلين بالخلاء لا سيما منهم أصحاب المذهب الذري الذي يتبثونه كعلة للحركة، إذ يعتقدون أنه لا وجود لحركة ما لم يكن هناك خلاء. لكن أبا الوليد يرى أن مثل هذا القول يؤدي إلى محالات كثيرة منها:

1 – استحالة وجود بعد مفارق.

يقدم فيلسوف قرطبة مثال “النقطة” ليثبت من خلاله استحالة وجود بعد مفارق للجسم، إذ يرى أنه إذا أمكن أن يوجد بعد مفارق للجسم، فيمكن ذلك أيضا في النقطة، لأن نسبة النقطة إلى الخط هي نسبة الخط إلى السطح، والسطح إلى الجسم، لذلك يلزم ضرورة متى فارق الجسم الأبعاد أن يفارق السطح الجسم، وأن يفارق الخط السطح، وبالتالي أن تفارق النقطة الخط، وهذا محال، لأن النقطة لا وجود لها إلا بنسبتها إلى الخط. ذلك أن صاحب العلم الطبيعي ينظر إلى النقطة من حيث هي نهايات أجسام طبيعية لا من حيث هي ذوات قائمة بذاتها كما ينظر إليها التعاليمي، لذلك التبس الأمر عند قوم (الفيتاغوريون) فظنوا أن ما هو مفارق بالقول مفارق بالوجود أيضا، فقالوا بمفارقة الأعداد والأعظام.

2 – استحالة تداخل الأجسام.

إن الأجسام الطبيعية تحل في المكان بأبعادها لا بأعراضها، ومن ثم يمتنع أن يحل جسمان في مكان واحد من جهة امتناع تداخل الأجسام بعضها ببعض.

3 – استحالة حلول مكان في مكان:

يحل الجسم الطبيعي في المكان بأبعاده، ولو كانت الأبعاد هي المكان لاحتاجت إلى مكان، وبالتالي يحل المكان في مكان وتمر المسألة إلى ما لا نهاية، ومن ثم يلزم شك زينون الإيلي في عدم إمكانية وجود المكان(9).

أما ابن باجة فيشك في وجود الخلاء، بل يذهب أبعد من ذلك، إذ يرى بأن الخلاء هو سبب لبطلان الحركة(10).

المكان هو النهاية المحيطة.

●●●●●●●●●●●●●●●●●●●

بعد أن يرفض ابن رشد القول بأن المكان هو الهيولى أو الصورة أو الخلاء، يبقى إذن الاحتمال الرابع والأخير الذي مفاده أن المكان هو النهايات المحيطة بالجسم الطبيعي، إذ يقول في هذا السياق: “المكان هو النهاية المحيطة لكونها استكمالا للأجسام المتحركة وغاية تحريكها”(11). إذا تأملنا هذا التعريف نجد أن المكان يدل على نهاية الحركة وغاية الجسم المتحرك وكماله، ذلك أن الأجسام الطبيعية تنتقل إلى مكانها الطبيعي حيث تسكن. وقد اعتمد ابن رشد في حد مفهوم المكان حدا تاما على البرهان المطلق أو ما يسميه أرسطو في الحقيقة برهانا متغيرا بالوضع، إذ يرى أن المكان هو الذي تنتقل إليه الأجسام الطبيعية وتسكن فيه، وما كان بهذه الصفة فهو نهاية جسم محيط. فإذا قمنا بتغيير وضع هذا البرهان، أي ننطلق من النتيجة إلى المقدمات، فإننا نحصل على الحد التام للمكان فنقول بأنه النهاية المحيطة لكونها استكمالا للأجسام المتحركة وغاية تحريكها. ونفس التعريف نجده لدى ابن سينا إذ يقول: “المكان ليس بجسم ولا مطابقا للجسم، بل محيطا به، بمعنى أنه منطبق على نهايته انطباقا أوليا”(12).

إذا كانت حركة الأجسام الطبيعية لا سيما التي تتحرك حركة نقلة تقتضي وجود المكان، فهناك إشكال يثار بصدد مكان الجسم المساوي الذي يتحرك حركة دورية، مفاده: ما هو مكان الجسم السماوي؟ كيف يمكن أن يتحرك، خاصة إذا علمنا أن من ضرورة وجود الحركة المكان؟

يورد ابن رشد حلا لهذا الإشكال مؤداه أن حركة الجسم السماوي حركة دورية، ومن ثم فهو يحتاج إلى مركز ثابت عليه يتحرك، وأن علاقته بالمكان بالعرض لا بالذات، وهذا ما يذهب إليه أرسطو نفسه خلافا للفارابي وابن باجة اللذين يعتقدان أن الكرة في مكان بالذات، ومثل هذا القول يلزم أن المحيط في المحاط به في مكان بالذات وذلك مستحيل. أما ابن سينا فيرى أن الحركة الدورية ليست في مكان أصلا لا بالذات ولا بالعرض، وإنما هي في الوضع. إلا أن أبا الوليد يرى أن الشيخ الرئيس إن أراد القول بأن الحركة تنتقل من وضع إلى وضع من غير أن تبدل المكان بجملتها فهو قول صحيح. أما إذا أراد القول بأن حركة الكرة في الوضع نفسه وهذا هو الراجح من كلامه، فليس بصحيح، لأن الوضع ليس فيه حركة أصلا بدليل أن الوضع لا يتقوم بذاته بل بالمكان(13). كما يرى فيلسوف قرطبة ومراكش أن الجرم السماوي الذي يتحرك حركة مستديرة لا يمكنه أن يتحرك لا حركة إلى الوسط (إلى أسفل) ولا حركة من الوسط (إلى أعلى) لا بالذات ولا بالعرض لسبب بسيط هو أنه ليس بثقيل ولا بخفيف(14).

مما تقدم ذكره نستنتج أن الحديث عن المكان لا يتأتى إلا في علاقته ببعض المفاهيم المتاخمة له من قبيل: الحركة، الاتصال، الزمان…باعتبارها من المفاهيم المؤسسة للعلم الطبيعي، إذ لا وجود لمفهوم بسيط ومنعزل، فلكل مفهوم علاقة تجاور بمفاهيم أخرى بها يتحدد، كما يذهب إلى ذلك كل من ج. دولوز وف. جاتاري في كتابهما “ما الفلسفة”؟(*)

المكان والحركة:

●●●●●●●●●●●●●●●●●

من أهم الحجج التي يعتمدها مثبتو المكان وجود حركة النقلة، إذ لولاها لما وجد مكان، ذلك أن الحركة هي التي قادت إلى البحث في أمر المكان، فالنظر في المكان يستوجب النظر في الحركة ما دامت تدخل في حد المكان كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فالمكان إذن لا يتوقم بذاته، بل بالحركة، كما أن الحركة ليست جوهرا قائما بذاته، إذ لا يمكن تصورها من غير مكان، لأن كل حركة هي حركة لجسم ما، والجسم لا يكون إلا في مكان. فإذا كان الأمر كذلك فإننا نتساءل: هل المكان من طبيعة الكم المنفصل أم المتصل؟

المكان والاتصال:

●●●●●●●●●●●●●●●●●

يقدم ابن رشد تعريفا للكم المتصل في كتابه “تلخيص كتاب المقولات” مفاده أنه هو الذي يمكن أن يوجد له حد مشترك يربط بين أجزائه. فالحد المشترك إذن للخط هو النقطة، وللبسيط (السطح) هو الخط، وللجسم هو البسيط، وللزمان هو الآن، ما دام الآن هو نهاية الماضي وبداية المستقبل(15). إلا أن الإشكال يطرح بصدد مفهوم المكان، الأمر الذي يدعونا إلى التساؤل: هل للمكان أجزاء؟ وما الحد المشترك الذي يربط بين أجزائه؟ كيف إذن يحل ابن رشد هذه المعضلة؟

يبرهن فيلسوف قرطبة على أن للمكان أجزاء، وبالتالي فهو من طبيعة الكم المتصل، إذ يرى أن المكان يشغله الجسم، وأن للجسم أجزاء هو البسيط، فإذن للمكان أجزاء، ومن ثم، فإن له حدا مشتركا يربط بين أجزائه، ومن كان بهذه الصفة فهو من الكم المتصل، أما البرهان الثاني فيمكن أن نصوغه في الشكل التالي: الكم المتصل له أجزاء، المكان له أجزاء، إذن المكان كم متصل.

نلخص مما تقدم قوله إلى أن المكان من الكم المتصل الذي له أجزاء لها وضع، أي موجودة معا بخلاف الزمان الذي ليس من الكم المتصل ذي الوضع، لأن أجزاء الزمان التي هي الماضي والآن والمستقبل لا توجد معا. وهذا ما نلمسه في تعريف ابن باجة للمكان إذ يقول في هذا السياق: “المكان كله متصل متشابه الأجزاء وقوامه بالحركة”(16). إلا أن السؤال المطروح هو: ما الدافع بابن رشد وغيره من فلاسفة الإسلام إلى إثبات أن المكان من طبيعة الكم المتصل؟

إن دفاع ابن رشد على أن المكان من الكم المتصل يعارض من خلاله أطروحة الانفصال التي تعتقد أن المكان عبارة عن نقط متناثرة خاصة أصحاب المذهب الأشعري اعتمادا على نظرية “الجزء الذي لا يتجزأ” أو ما يسمى “بالجواهر الفردة” لنفي كل علة طبيعية وترك المجال للعلة الميتافيزيقية هي سبب الحركة.

المكان ولزمان:

●●●●●●●●●●●●●●●●●

يعد الزمان أيضا من المفاهيم المتاخمة لمفهوم المكان، إذ لا يمكن الحديث عن المكان إلا في علاقته بالزمان، ما دام الزمان يشبه الحركة لا سيما منها حركة النقلة التي هي أشرف الحركات على الإطلاق، وذلك أن أجزاء الحركة بعضها قد تفسد وبعضها قد تكون كالحال في الزمان، وبالتالي، فإننا متى لم نشعر بالحركة لم نشعر بالزمان، خصوصا إذا علمنا أن الزمان يدخل في حد الحركة ومقايس لها بالذات لا بالعرض.

في خاتمة هذا المقال يمكن القول بأن نظرة أبي الوليد بن رشد للمكان نظرة طبيعية محضة تعكس تطور علوم الحكمة الطبيعية في الغرب الإسلامي. هذا التطور الذي دشنه فيلسوف سرقسطة أبو بكر الصائغ (ابن باجة) من خلال شروحه الطبيعية التي تعد مرحلة النضج الفكري تجاوز فيها ابن باجة حدود النظر المنطقي والتعاليمي وتفرغ للمتن الأرسطي المشائي(17). كما يمكن أن نعتبر تجربة ابن رشد لحظة تجمع كل التجارب السابقة عليه فارابية كانت أو سنيوية أو باجوية.

•●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

الهوامش

1 – أرسطو طاليس، الطبيعة، ترجمة إسحاق بن حنين، تحقيق عبد الرحمن بدوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1984، الجزء الأول: “فمن البين أن في العلم بأمر الطبيعة أيضا قد ينبغي أن نلتمس أولا فيه تلخيص أمور مبادئها” ص 1.

2 – أرسطو، ن.م. “الطبيعة مبدأ وسبب لأن يتحرك ويسكن الشيء الذي هي فيه أولا بالذات لا بطريق العرض” ص 79. ويقول أيضا “الطبيعة مبدأ للحركة والوقوف والتغير”، ص 165.

3 – أرسطو، ن.م. “وقد يجب ضرورة أن يكون المبدأ إما واحد، وإما أكثر من واحد. وإن كان واحدا فإما أن يكون غير متحرك على مثال ما قاله برمنيدس ومالسس، وإما أن يكون متحركا على ما قاله الطبيعيون… وإن كانت المبادئ أكثر من واحد: فإما أن تكون متناهية، وإما أن تكون غير متناهية” ص 5.

4 – ابن رشد، جوامع السماع الطبيعي، تحقيق جوزيف بويج، مدريد، 1983 “أما أن المكان شيء موجود فذلك بين بنفسه، فإنه يظهر أن ههنا محمولات ذاتية لا تليق إلا بالموجود، كقولنا أن المكان منه فوق ومنه أسفل، وأنه الذي إليه تنتقل الأجسام بالطبع وتسكن فيه، وأنه يحيط بالمتمكن، وأنه يفارق المتمكن، وأنه لا أعظم ولا أصغر من المتمكن”، ص 47.

5 – ابن رشد، ن.م. “أما القسم الأول (يقصد المكان هو الهيولى)، وهو أن يكون الشيء كالصورة في الهيولى، فيكون المكان على هذا هيولى، فامتناع ذلك بين بنفسه، وإلا كانت النقلة كونا وفسادا، وكذلك الحال في القسم الثاني”. (يقصد المكان هو الصورة) ص 50.

6 – ابن باجة، “شرح السماع الطبيعي لأرسطوطاليس”، تحقيق ماجد فخري، دار النهار للنشر، بيروت، 1973، ص 46.

7 – ابن سينا، الشفاء، السماع الطبيعي، تحقيق سعيد زايد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983، ص 118.

10 – ابن باجة، ن.م “والذي يثبت الخلاء فيجعله سببا للحركة، وهو مع التأمل لو كان، سبب لبطلانها، وذلك أن الذي منه فوق يحرك شيئا، والذي منه أسفل يحرك ذلك بعينه، فيلزم أن يقف الشيء بين الحركتين” ص 48.

14 – ابن رشد، تلخيص السماء والعالم، تحقيق جمال الدين العلوي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، ط 1، 1984. “وكان الجسم المستدير قد تبين من أمره أنه لا يمكن أن يتحرك إلى الوسط ولا من الوسط حركة طبيعية ولا عرضية”، ص 84.

(*) انظر كتاب “ما الفلسفة؟” لجيل دولوز وفيليكس جاتاري، منشورات مينري، باريس، 1991، ص 8.

15 – ابن رشد، تلخيص كتاب المقولات، تحقيق موريس بويج، دار المشرق، بيروت، ط 2، 1983. “وأما الخط والبسيط والجسم والزمان والمكان فمن المتصل، لأن كل واحد منها يمكن أن يوجد له حد مشترك يصل بعض أجزائه ببعض. وهذا الحد أما في الخط فهو النقطة وأما في البسيط فالخط وأما في الجسم فالبسيط وأما في الزمن فالآن، وذلك أن بالنقطة تتصل أجزاء الخط وبالخط تتصل أجزاء السطح وبالسطح تتصل أجزاء الجسم وبالآن تتصل جزءا الزمان الذي هو الماضي والمستقبل”، ص 39-40.

17 – محمد ألوزاد، الديناميكا في شروح السماع الطبيعي لابن باجة السرقسطي، استدراك على مقال سالمون بنيس S. Pines، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية ااا، المحمدية، ص 23.

إشكالية قدم العالم وحدوثه بين ابن رشد وكانط

تتناول هذه الدراسة بالمقارنة موقف كل من ابن رشد (1126-1198) وكانط (1724-1804) من إشكالية قدم العالم وحدوثه. لقد كانت هذه الإشكالية محورية في الفكر الإسلامي، ومحل نزاع بين المتكلمين والفلاسفة. أثبت الفارابي وابن سينا قدم العالم بالضد على المتكلمين، معتزلة وأشاعرة وغيرهم، وكفرهما الغزالي في كتابه الشهير “تهافت الفلاسفة”؛ وعاد ابن رشد للدفاع عن الفلسفة وتبنى نظرية قدم العالم وقدم لها براهين جديدة خالف بها الفارابي وابن سينا، وأعاد صياغة النظرة الأرسطية للعالم بوجهة نظر إسلامية، وذهب إلى أن إثبات وجود الله لا يتأتي من دليل الحدوث الكلامي الجدلي بل من دليل القدم البرهاني الفلسفي.
وعلى الجانب الآخر نجد أن إشكالية القدم والحدوث كانت لا تزال تشغل الفكر الأوروبي الحديث، وخاصة كانط في كتابه “نقد العقل الخالص”. أراد كانط من كتابه تقديم نقد للميتافيزيقا التقليدية، عن طريق توضيح أنها علم غير مشروع، بسبب أنها تمثل توسيعاً لتصورات ملكة الفهم البشري إلى ما يتجاوز كل خبرة تجريبية. وإشكالية القدم والحدوث بالنسبة لكانط هي نقيضة Antinomy يقع فيها العقل الخالص؛ إذ أن أدلة القدم وأدلة الحدوث متساوية في القيمة. ولا يستطيع العقل الخالص الفصل في هذه الإشكالية ويظل متناقضاً مع نفسه إزاءها. وانتهى كانط إلى عدم قدرة العقل البشري على ترجيح أحد المتناقضين.
يشترك ابن رشد وكانط إذن في البحث في إشكالية واحدة. دافع ابن رشد عن القدم ، أما كانط فرفض الفصل في الإشكالية وقام بالتوقف عن الحكم ورفع النقيضين معاً. والهدف من هذه الدراسة توضيح أن خيار القدم لدى ابن رشد أكثر اتساقاً ومعقولية من رفض كانط للإشكالية برمتها، وذلك بإثبات أن كانط لم يكن محقاً في تخليه عن الفصل في الإشكالية، وأنه وضعها في صورة مبسطة للغاية سهلت عليه التخلي عنها، في حين أن تناول ابن رشد للإشكالية كان أكثر شمولاً وتنوعاً واتساقاً، وحله كان أكثر معقولية.
أولاً – الخلفية الأرسطية للمشروع النقدي الرشدي والكانطي:
نحاول في هذه الدراسة عقد مقارنة بين المشروعين النقديين لابن رشد ولكانط، مركزين على إشكالية مركزية وهامة عالجها كل منهما بطريقته الخاصة وحسب مذهبه الفلسفي، وهي إشكالية قدم العالم وحدوثه. اشتهر كانط بنقده للميتافيزيقا في عمله الأساسي “نقد العقل الخالص”. وضع كانط هذا النقد تحت عنوان “الجدل الترانسندنتالي” Transcendental Dialectic،( ) وقصد به التناقضات التي يقع فيها العقل الخالص في مجال الميتافيزيقا من جراء توسيع تصورات ملكة الفهم خارج مجال الخبرة التجريبية، سعياً إلى اللامشروط. ينقد كانط كل الميتافيزيقات التقليدية على اعتبار أنها دوجماطيقية، أي تقوم بتوكيدات أنطولوجية بطريقة غير مبررة إبستيمولوجياً. والميتافيزيقا الوحيدة التي يقبلها كانط هي ميتافيزيقا الأخلاق،( ) لأنه لا خوف منها إذ أن توكيداتها الميتافيزيقية تكون في صالح العقل العملي الأخلاقي.
وكذلك كان ابن رشد صاحب مشروع نقدي تمثل في مؤلفاته الثلاثة الهامة: “فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال”، و”الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة”، و”تهافت التهافت”. فقد نقد علم الكلام باعتباره طريقة في التفكير والمحاجة، وبالأخص علم الكلام الأشعري وعلى رأسه الغزالي أهم ممثل له( )؛ لكنه أيضاً لا يرفض كل الميتافيزيقا، إنه يرفض الميتافيزيقا الكلامية فقط، وبالأخص الأشعرية منها، تلك الميتافيزيقا التي تثبت وجود الله وخلود النفس وحدوث العالم من منطلق مقدمات كلامية وباستخدام حجج وأدلة جدلية وخطابية وسوفسطائية، ويدافع عن تصور آخر للكون يعد تطويراً للتصور الأرسطي( ). ويشترك ابن رشد وكانط في البحث في المسائل الثلاث الرئيسية للميتافيزيقا: الله والعالم والنفس. فما هي النتائج التي يمكن أن نتوصل إليها عندما نضع المشروعين النقديين الرشدي والكانطي أمام بعضهما البعض على ما فيهما من اشتراك في المسائل؟ هذا ما سوف نحاول اكتشافه فيما يلي.

أول ما نلاحظه من اتفاق بينهما هو أنهما يعتمدان على خلفية أرسطية وهي المتمثلة في منظومة أرسطو المنطقية، حيث يستفيدان منها في النقد الميتافيزيقي. وثاني أوجه الاتفاق يتمثل في طريقة النقد نفسها والتي تمثلت في نقد ابن رشد لقياس الغائب على الشاهد، وفي نقد شبيه به للغاية لدى كانط وإن لم يستخدم تعبير “نقد قياس الغائب على الشاهد”، بل استخدم تعبيرات أخرى ومارس النقد بطريقة مطابقة لهذا النوع من النقد الرشدي، وهو المعروف بنقد الانتقال من المشروط إلى اللامشروط، أو من سلسلة شروط معطاة إلى لامشروط غير معطى. لنبدأ أولاً بتناول الخلفية الأرسطية، ثم سيأتي الحديث عن نقد قياس الغائب على الشاهد تباعاً.
نقصد بالخلفية الأرسطية منطق أرسطو لا فلسفة أرسطو الطبيعية والميتافيزيقية، فالإثنان استفادا من المنطق الأرسطي كأداة للنقد. أسس كانط نظريته في المعرفة ونقده للميتافيزيقا بالتوازي مع، وعلى أساس نموذج، المنطق الأرسطي، الذي أطلق عليه “المنطق العام”. فمثلما ينقسم المنطق الأرسطي إلى تصورات وأحكام واستدلالات، انقسم المنطق الترانسندنتالي الكانطي Transcendental Logic إلى نفس هذه الأقسام( ). التصورات هي المقولات القبلية، والأحكام هي مبادئ التركيب القبلية بين الحدوس والتصورات، بما أن الحكم يتكون من موضوع ومحمول، فالموضوع في المنطق الكانطي هو الحدس الحسي والمحمول هو التصور القبلي؛ أما مبحث الاستدلالات عند كانط فيظهر في نقده للاستدلالات الميتافيزيقية- الترانسندنتالية للعقل الخالص، وهي الاستدلالات المغالطة Paralogisms لعلم النفس العقلي، والاستدلالات المتناقضة Antinomies للكوزمولوجيا العقلية، والاستدلالات الزائفة لللاهوت العقلي. وكما يحتوي المنطق الأرسطي على الجدل، يحتوي المنطق الكانطي على “الجدل الترانسندنتالي” وهو الذي ينقد فيه علوم الميتافيزيقا الثلاثة.
واعتمد ابن رشد كذلك على المنطق الأرسطي في نقده لعلم الكلام، إذ تبنى المنظومة المنطقية الأرسطية وتمييزها في الأقوال الإقناعية بين البرهان والجدل والخطابة والسفسطة( ). البرهان عند ابن رشد هو خطاب الفلسفة ويعتمد على مبادئ العقول وأوليات الوجود ويوصل إلى اليقين. أما الجدل فهو استدلال يبدو أنه برهاني إلا أنه يعتمد على المشهور لا على اليقيني، والخطابة تقنع باستثارة العاطفة الأخلاقية عند المتلقي، أما السفسطة فهي لا تهدف الإقناع ولا الوصول إلى الحقيقة بل إلى بلبلة الخصم وبث الفوضى والشك في حججه. والخطاب الكلامي في نقد ابن رشد له ليس خطاباً برهانياً لأنه يعتمد على المشهور وعلى مغالطة الاشتراك في الاسم مما يجعله جدلياً، وفي بعض الأحيان يصير خطابياً بل وسوفسطائياً، كما أثبت ابن رشد في نقده للغزالي في “تهافت التهافت” رداً على “تهافت الفلاسفة”.
وظَّف كل من ابن رشد وكانط المنطق الأرسطي في النقد الميتافيزيقي؛ وظَّفه ابن رشد في حل النزاع بين المتكلمين والفلاسفة، أو بين الخطاب الكلامي الجدلي والخطاب الفلسفي البرهاني؛ واستخدمه كانط في حل نزاع العقل الخالص مع نفسه والذي يظهر في صورة أغاليط ونقائض وأوهام يقع فيها في سعيه الميتافيزيقي. والاثنان يواجهان التناقض بين قدم العالم وحدوثه، فهو تناقض زائف عندهما ويمكن حله. لكن في حين يحل كانط التناقض بالتخلي عن الفصل فيها منكراً قدرة العقل على اختيار أو ترجيح أحد طرفي التناقض، يحل ابن رشد التناقض بأن يتوسط بين النقيضين ويقدم حله الشهير وهو نظريته في أن العالم قديم ومحدث في الوقت نفسه.

فما يشترك فيه ابن رشد وكانط حتى الآن هو:
1.البحث في إشكالية واحدة هي القدم والحدوث.
2.نقد الميتافيزيقا، الكلامية في حالة ابن رشد، والدوجماطيقية في حالة كانط، بتوظيف المنطق الأرسطي.
3.توضيح أن التناقض بين القدم والحدوث هو تناقض زائف وأنه يجب التخلي عن البديلين معاً. والفرق هو في الحل الذي قدمه ابن رشد بعد التخلي عن البديلين، في حين أن كانط لم يحسم الأمر.
وعلى الرغم من أن الاثنين يوظفان المنظومة الأرسطية في نقدهما للنزاعات الميتافيزيقية، فإن هناك اختلافاً جوهريا بينهما في هذا الشأن. ففي حين استخدم ابن رشد المنظومة المنطقية الأرسطية كما هي دون تعديل كبير عليها( )، أجرى كانط تعديلات جوهرية على مبحث الجدل الأرسطي بناء على نظريته في المعرفة، وحوله من مجرد معيار لاكتشاف الخطأ في الاستدلال الصوري إلى معيار للحكم على مضمون التفكير الميتافيزيقي نفسه( ). لكن الشئ المشترك بين منطق النقد الكانطي ومنطق النقد الرشدي أن الاثنين يعتمدان على المحسوسات وأوائل العقول كمعيار يقيسان به تعارض المذاهب الميتافيزيقية. فلدى كل واحد منهما لجوء إلى الحس والعقل معاً، أو الحدس الحسي والتصور العقلي بالتعبير الكانطي. الحس والتصور العقلي عند ابن رشد أرسطيان تماماً، لكنهما عند كانط يستندان على نظريته هو في المعرفة والتي يكون التصور العقلي فيها قبلياً.
لم ينشئ ابن رشد نظرية في المعرفة مستقلة عن أرسطو، بل أخذ نظرية المعرفة الأرسطية كما هي لكنه طور استخدامها ووظفها في نقد علم الكلام، والأشعري منه على وجه الخصوص. أما نظرية المعرفة عند كانط فلا نستطيع أن نقول عنها إنها أرسطية تماماً، إلا أن بها ملامح أرسطية لا يمكن إنكارها( ). فالمعرفة عند كانط هي اتحاد من مادة وصورة، المادة توفرها الحدوس الحسية والصورة هي التصورات العقلية القبلية، والتلاحم بينهما هو مثل التلاحم الأرسطي من المادة والصورة، أي أنه لا يمكن فصله، فقد أصر كانط دائماً على أن الحدوس الحسية بدون تصورات عمياء، والتصورات بدون حدوس حسية فارغة. كما يعالج كانط المعرفة من منطلق الملكات والقدرات العقلية، والملكة والقدرة من المصطلحات الأرسطية الشهيرة في وصف أفعال النفس في الإدراك والتصور( ). بل إن تقسيم كانط للملكات المعرفية إلى ملكة الحس Sinnlichkeit/Sensibility وملكة الفهم Verstand/Understanding وملكة العقل Vernunft/Reason يناظر التقسيم الأرسطي لقوى النفس المعرفية إلى العقل الهيولاني الذي يقابل ملكة الحس، والعقل المستفاد الذي يقابل ملكة الفهم، والعقل الفعال الذي يقابل العقل الخالص. هذا مع العلم بأن قوى النفس الأرسطية يختلط فيها الطبيعي بالسيكولوجي والميتافيزيقي، في حين أن القوى المعرفية عند كانط إبستيمولوجية وحسب. لكن التشابه بينهما لا يزال قائما على الرغم من ذلك.
نرى مما سبق كيف أن المشروع النقدي الرشدي يعتمد على المنظومة المنطقية الأرسطية، وأن المشروع النقدي الكانطي يعتمد على منظومة منطقية شبه أرسطية، تستوحي منطق أرسطو وتبني عليه لكنها لا تتجاوزه أبداً.

ثانياً – كانط والنقيضة الكوزمولوجية الأولى حول الحدوث والقدم:

¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤

نقد كانط علوم الميتافيزيقا الثلاثة التي تبحث في النفس والعالم والإله. فعلم النفس العقلي يبحث في النفس من حيث جوهريتها وبساطتها وروحيتها وخلودها، وعلم الكوزمولوجيا العقلية يبحث في العالم من حيث أصله وكمه وتركيبه وعلته، وعلم اللاهوت العقلي يثبت وجود كائن ضروري بإطلاق، ببراهين أنطولوجية وكوزمولوجية. وما يهمنا تناوله هو نقده لعلم الكوزمولوجيا العقلية، لأنه هو ما تظهر فيه معالجة كانط لإشكالية قدم العالم وحدوثه، والتي هي محل المقارنة مع ابن رشد.
تسعى الكوزمولوجيا العقلية، في وصف كانط لها، إلى تكوين معرفة شاملة ونهائية بالعالم من حيث طبيعته وتكوينه وأصله؛ إذ تريد الوصول إلى التمام المطلق في معرفتنا بالعالم في كليته. وبذلك فهي تبحث في كَمِّه من حيث ما إذا كانت له حدود نهائية أم لا؛ ومن حيث الكيف فهي تبحث في تكوينه وما إذا كان مركباً من أجزاء بسيطة أم أن كل ما فيه معقد ولا يمكن أن ينحل إلى البسيط؛ ومن حيث السببية فهي تبحث فيما إذا كان كل ما فيه يسير حسب الضرورة والحتمية أم أن فيه علة تفعل بحرية؛ ومن حيث علته فهي تبحث فيما إذا كان مسيراً ذاته بذاته أم أنه معلول لكائن ضروري بإطلاق Absolutely Necessary Being ( ).
الكوزمولوجيا العقلية إذن تسعى نحو اللامشروط Unconditioned عن طريق التمام المطلق للشروط Absolute Completeness of Conditions. وحجتها في ذلك تراجعية، لأنها تنتقل من بعض الشروط المعطاة إلى الحكم على العالم في كليته وهو غير معطى للخبرة التجريبية باعتباره كذلك ، وتسعى نحو لامشروط غير معطى، لأن اللامشروط لا يخضع بطبيعته للحدس الحسي ولا للخبرة التجريبية( )؛ ناهيك عن أن كلية الشروط ذاتها غير معطاة، فالخبرة البشرية لا تحيط بالأسباب كلها. ولا يمكن أن نفهم كون كلية الشروط غير معطاة للخبرة وكون اللامشروط نفسه غير معطى إلا بالمقارنة بين كانط وابن رشد، ذلك لأن كانط بذلك يمارس نوعاً من نقد قياس الغائب على الشاهد الذي سبق لابن رشد استخدامه في نقد علم الكلام وخاصة نقد دليل الحدوث الكلامي في إثبات وجود الله، ذلك لأن كلية الشروط واللامشروط هما في حكم الغائب عند كانط، ولا يمكن الحكم على الغائب (اللامشروط) بالقياس على الشاهد (الشروط المعطاة للخبرة التجريبية).
ويتمثل نقد كانط لعلم الكوزمولوجيا العقلية في توضيح أن هذا العلم يقع في نقائض، والنقيضة تتمثل في قضيتين متعارضتين تنفي كل واحدة منهما ما تثبته الأخرى، وهما يستندان على استدلالين مختلفين لكل منهما وجاهته المنطقية وقوته الإقناعية. والنقيضة عند كانط هي ما لا نتمكن معها من ترجيح أحد الاستدلالين( ). والحل الذي يقدمه كانط هو في التخلي عنهما معاً، أي في توضيح تجاوزهما لقدرات العقل البشري، ذلك لأنهما نتاج سعي العقل الخالص في استعماله التأملي الميتافيزيقي نحو تجاوز نطاق الخبرة التجريبية والتفكير فيما لا يمكن أن يكون موضوعاً للتجربة. والنقائض أربع، تتكون كل واحدة منها من قضية ونقيض:

1.القضية: للعالم بداية في الزمان، كما أنه محدود في المكان (محدث).

نقيض القضية: ليس للعالم بداية وليس له حد في المكان، وهو لامتناه بالنظر إلى الزمان والمكان (قديم)( ).
2.القضية: كل جوهر مركب في العالم مكون من أجزاء بسيطة، ولا يوجد شئ إلا البسيط أو المركب من البسيط.
نقيض القضية: لا شئ مركب في العالم مكون من أجزاء بسيطة، ولا يوجد أي شئ بسيط في العالم( ).
3.القضية: ليست السببية وفق قوانين الطبيعة هي السببية الوحيدة التي ترجع إليها ظاهرات العالم. ولتفسير هذه الظاهرات يجب افتراض سببية أخرى من الحرية.
نقيض القضية: ليست هناك حرية؛ وكل شئ في العالم يحدث وفق قوانين الطبيعة وحسب( ).
4.القضية: ينتمي إلى العالم كائن ضروري بإطلاق، سواء كان جزءاً منه أو علة له.
نقيض القضية: لا يوجد كائن ضروري بإطلاق في العالم، ولا خارجه باعتباره علة له( ).
ومن الواضح أن النقيضة الأولى تمثل التعارض بين حدوث العالم وقدمه. وهذه هي الإشكالية التقليدية والمحورية التي كانت محل نزاع بين المتكلمين والفلاسفة في الإسلام؛ كفَّر الغزالي من أجلها الفلاسفة في “تهافت الفلاسفة” وعاد ابن رشد للدفاع، لا عن الفارابي وابن سينا، بل عن الفلسفة ذاتها، في “تهافت التهافت”. والنقيضة الثانية ظهرت في مشكلة نظرية الجوهر الفرد ودفاع الأشاعرة عنها ونقد الفارابي وابن سينا وابن رشد لها؛ والنقيضة الثالثة هي المشكلة التقليدية حول الحرية والحتمية، وتوازي الإشكاليات الإسلامية حول السببية وخرق العادة والإرادة الإلهية والإنسانية وموقعهما من قوانين الطبيعة؛ والنقيضة الرابعة هي مسألة وجود أو عدم وجود إله.
يمكن أن تكون النقائض الكوزمولوجية الأربع إذن محل دراسة مقارنة شاملة بين كانط من جهة وفلاسفة الإسلام من جهة أخرى. لكن علينا أن نركز في هذه الدراسة على الإشكالية الأساسية والمحورية وهي إشكالية القدم والحدوث، لأنها هي ما تلتف حولها بقية الإشكاليات. ما الذي يمكن أن نتوصل إليه عندما نقرأ نقد كانط للنقيضة الكوزمولوجية في الحدوث والقدم على خلفية مناقشة ابن رشد لنفس هذه الإشكالية في كتبه الثلاثة الرئيسية؟ إن كانط يوضح أن العقل البشري لا يستطيع الفصل في هذه الإشكالية واختيار أحد النقيضين لأنها تتجاوز قدراته المعرفية، أما ابن رشد فيدافع عن القدم ضد هجوم الغزالي عليه، ويثبت للعالم وضعاً وسيطاً بين القدم المطلق والحدوث المطلق، وينقد البرهنة الكلامية على وجود الله من دليل حدوث العالم ويذهب إلى أن البرهان الأفضل هو برهان القدم. هذه هي الملامح العامة للحل النهائي الكانطي والرشدي.
ولكن قبل المقارنة المفصلة بينهما يجب علينا التعرف على كيفية عرض كانط لإشكالية الحدوث والقدم، والتي لا يسميها بهذا الاسم بالطبع، بل يطلق عليها “التناهي واللاتناهي”.
تقول القضية إن العالم متناه في الزمان والمكان، أي محدث، ويقول نقيض القضية إن العالم لامتناه في الزمان والمكان، أي قديم. ويوضح كانط ما تتصف به القضية ونقيض القضية من معقولية، مما يثبت تساوي الأدلة التي في صالح الحدوث والأدلة التي في صالح القدم في الوقت نفسه. وهو يبدأ بالأدلة التي في صالح تناهي العالم. فإذا افترضنا أن العالم بدون بداية في الزمان فإن هذا يعني أن كل حادثة فيه قد سبقتها حوادث أخرى لانهاية لها، ولا يمكن أن تأتي حادثة من سلسلة لامتناهية من الحوادث. فكي نثبت ظهور حادثة يجب علينا افتراض بداية أولى للزمان. أما فيما يخص المكان فإذا افترضناه كلاً لامتناهياً فلا معنى لوجود الأمكنة الجزئية، لأن المكان الجزئي ما هو إلا تركيب لبعض خصائص المكان الواحد الكلي، أي اللامتناهي. واللامتناهي لا يمكن أن يُخصَّص أو يُجزأ، وبالتالي فلا يمكن انقسام المكان اللامتناهي، لأن المنقسم هو المتناهي وحده. وبما أن هناك أمكنة جزئية، وبما أنه من الممكن أن ينقسم المكان، فيجب علينا القول بتناهي المكان( ).
أما نقيض القضية فهو يثبت لاتناهي العالم من حيث الزمان والمكان ببراهين لا تقل قوة ولا إقناعاً عن براهين التناهي. فإذا افترضنا أن للعالم بداية، وبما أن كل بداية تفترض زماناً خالياً سبقها، فمعنى هذا أننا نفترض زماناً سابقاً على وجود العالم كان خالياً منه. لكن لا يمكن ظهور شئ من زمان خالٍ، لأن الزمان الخالي لا يمتلك شرطاً يميز وجود أو عدم وجود العالم، أي ليس به مرجح للوجود على العدم بالتعبير الإسلامي. وإذا افترضنا فيما يخص المكان أن العالم متناه ومحدود من حيث الكم الممتد، فمعنى هذا أن العالم يقع في مكان خالٍ، وهذا مستحيل إذ ينطوي على القول بأن للعالم صلة بمكان خالٍ، أي باللاشئ. فلا يبقى إلا القول بأن العالم لامتناه من حيث الامتداد( ).
وينقد كانط نقيضة القدم والحدوث عن طريق نظريته في المعرفة بذهابه إلى أن المكان والزمان ليسا موضوعين للمعرفة حتى يمكن أن نفكر في تناهيهما أو لاتناهيهما، ذلك لأنهما مجرد شكلان لحدسنا، أي تمثلان قبليان في العقل البشري يجعلان المعرفة ممكنة. وأخذ الشرط الذاتي للمعرفة على أنه موضوع للمعرفة غير مشروع لدى كانط. هذا بالإضافة إلى أن كل ما نعرفه من العالم هو الظاهر، والمكان والزمان هما الشرطان الذاتيان اللذان تُعطى لنا عن طريقهما الموضوعات في عالم الظاهر، وبالتالي فالعلاقات المكانية والزمانية بين الأشياء هي عالم الظاهر الذي يبدو لنا حسب الشروط الذاتية لمعرفتنا، أما الأشياء في ذاتها فلا يمكننا معرفتها وليس لدينا من سبيل للوصول إليها انطلاقاً من شروطنا المعرفية الذاتية( )؛ فالبحث في طبيعة المكان والزمان هو بحث غير مشروع لما هو مجرد شرط ذاتي للمعرفة وتوسيعه بالنظر إليه على أنه يوجد قائماً بذاته، أي أخذهما على أنهما شيئان في ذاتيهما والنظر إليهما على أنهما الطريقة التي تترتب بها الأشياء في ذاتها لا مجرد الطريقة التي تعطى لنا بها موضوعات الخبرة بعالم الظاهر.
وهكذا سد كانط الطريق على أية إمكانية لحل إشكالية القدم والحدوث بذهابه إلى أنها تتجاوز قدرة العقل البشري، وهي بحد ذاتها نتيجة للتوسيع غير المشروع لما هو مجرد شرط ذاتي للمعرفة البشرية إلى اعتباره قائماً بذاته. يتمثل جوهر النقد الكانطي للميتافيزيقا إذن في تقييد المعرفة بالمجال الإبستيمولوجي وحده وبيان عدم مشروعية الانتقال مما هو إبستيمولوجي إلى ما هو أنطولوجي، أو أخذ الشروط الذاتية للمعرفة البشرية على أنها شروط موضوعية للوجود الأنطولوجي للأشياء في ذاتها. والحقيقة أن هذا النقد هو صورة جديدة من صور نقد قياس الغائب على الشاهد والذي سبق لابن رشد استخدامه. فالغائب هو الأنطولوجي، أو عالم الأشياء في ذاتها، والذي لا يمكننا أن نقيسه على الشاهد، أو الإبستيمولوجي الخاص بعالم الظاهر، أي عالم الخبرة التجريبية. وسوف نتناول بالتفصيل علاقة النقد الكانطي بنقد ابن رشد لقياس الغائب على الشاهد. أما عن قول كانط بعدم مشروعية الفصل والاختيار بين القدم والحدوث على أساس أنها إشكالية تتعدى قدرات المعرفة البشرية فلنا عليه رد ومن داخل نظرية كانط في المعرفة، وسوف يأتي تباعاً؛ لأن كانط الذي رفض لاتناهي العالم أنطولوجياً في “الجدل الترانسندنتالي” كان قد سبق وأن أثبته إبستيمولوجياً في “الإستطيقا الترانسندنتالية” و”التحليلات الترانسندنتالية”.
ولا ينسى كانط أن يناقش حلاً شبيهاً بحله لإشكالية القدم والحدوث، وهو الحل الذي يرفض الإشكالية ويقول بأن العالم لا هو بالمتناهي ولا هو باللامتناهي في الوقت النفسه. فكانط ينبه القارئ على أنه لا يقول بهذا الرأي، لأن هذا الرأي يصدر حكماً بالفعل على العالم ويؤكد بصدده على طبيعة معينة يثبتها له، في حين أن العالم عند كانط غير معطى باعتباره كلاً في حدس حسي أو في خبرة تجريبية، بل معطى باعتباره كُلاً في التسلسل الترانسندنتالي للأسباب والموجه بفكرة الكل الترانسندنتالية( )، وهذا التسلسل ومعه الفكرة الترانسندنتالية الموجهة له غير مشروع في نظر كانط حسب نظريته في المعرفة.
كان هذا هو كل حديث كانط عن إشكالية قدم العالم وحدوثه. ونفاجأ بأن إشكالية وجود أو عدم وجود كائن ضروري للعالم، وهي مشكلة الألوهية وعلاقتها بالعالم، تشغل النقيضة الرابعة. لقد فصل كانط بين إشكالية العالم وإشكالية الألوهية ووضع كل إشكالية في نقيضة مستقلة عن الأخرى، تتوسطهما نقيضتا العالم بين البساطة والتركيب، وبين الحرية والحتمية. والحقيقة أن هذا الفصل يعد عيباً خطيراً في نظرية كانط في النقائض، وفي كل نقده للميتافيزيقا التقليدية؛ ذلك لأنه لا يمكن مناقشة إشكالية قدم العالم وحدوثه بمعزل عن قدم الإله وإشكالية علاقة الألوهية بالعالم. وعندما نأتي على نظرية ابن رشد في العالم وموقفه من إشكالية القدم والحدوث سنلاحظ مدى التلاحم بين الألوهية والعالم، مما يدل على استحالة الفصل بينهما وخطأ هذا الفصل ابتداء، لكن هذا هو ما فعله كانط. هذا بالإضافة إلى أن النقيضة الرابعة لا تجد أي مشكلة في القول بكائن ضروري داخل العالم أو خارجه؛ إنها تقول : “ينتمي إلى العالم كائن ضروري بإطلاق، سواء كان جزءاً منه أو علة له”، أي علة خارجة عنه. لم يلاحظ كانط أن هذه القضية في حد ذاتها تعبر عن نقيضة، تتمثل في التناقض في القول بكائن ضروري داخل العالم وفي القول بكائن ضروري خارج العالم؛ فهذا التناقض كان بالفعل محل نزاع ميتافيزيقي واسع في تاريخ الفلسفة، وهو المميز للنزاع بين المذاهب التي تقول بالإله المفارق للعالم ومذاهب وحدة الوجود. وسوف نلاحظ في مقارنتنا مع ابن رشد كيف أن الأخير كان على وعي بهذه الإشكالية وقدم لها حلاً مبتكراً، ذلك لأنها تدخل فيما يعرف في الفلسفة الإسلامية بإشكالية صدور الكثرة عن الواحد وإشكالية علم الله للجزئيات.
هذا علاوة على أن عرض كانط للنقائض الكوزمولوجية بالطريقة السابق توضيحها يوحي أن القضية في كل نقيضة تنتمي إلى مذهب واحد، ونقيض القضية في كل نقيضة يمثل المذهب الآخر المضاد، بمعنى أن القضايا الأربع تشكل مذهباً ونقائضها الأربع تشكل مذهباً آخر مضاداً؛ بحيث يكون المذهب القائل بحدوث العالم هو نفسه الذي يقول بتكونه من أجزاء بسيطة وبوجود سببية حرة فيه وبكائن ضروري بإطلاق (وبذلك يكون قريباً للغاية من مذهب الأشاعرة الذين يقولون بالجزء الذي لا يتجزأ، وقد كان في عصر كانط مذهباً شبيهاً به وهو مذهب المونادات عند لايبنتز)، ويكون المذهب المقابل هو الذي يقول بقدم العالم ولاتناهيه من حيث الزمان والمكان وبعدم تكونه من أجزاء بسيطة وبعدم وجود سببية حرة فيه وبعدم وجود كائن ضروري بإطلاق. والواضح أن هذين المذهبين لا يستوعبان كل المذاهب الميتافيزيقة التي عرفها الفكر الإنساني، كما لا يستوعبان كل الخلافات المذهبية التي نشبت بين المذاهب الميتافيزيقية المختلفة. إن التعارض الذي يقيمه كانط في النقائض الكوزمولوجية هو تعارض واحد فقط بين مذهبين وحسب، وهما مذهب الخلق من العدم والمذهب الدهري. المذهب الأول يمثله أفلاطون وأوغسطين وعلماء الكلام المسلمون وكل فلاسفة العصور الوسطى المسيحية، والمذهب الدهري يمثله في عصر كانط بعض الماديين الفرنسيين من أصحاب الموسوعة وبعض أتباع السبينوزية ( ). والحقيقة أن كانط اعتقد خطأً أنه ليس هناك خيار ثالث بين النقائض الكوزمولوجية الأربع، ذلك لأن مذهب ابن رشد نفسه هو الذي قدم خياراً ثالثاً وسيطاً بين القدم المطلق والحدوث المطلق، وبذلك لا يشمله نقد كانط للكوزمولوجيا العقلية ولا يقع في الإحراجات المنطقية التي يقيمها بين القدم والحدوث.

ثالثاً – توسط ابن رشد بين القدم المطلق والحدوث المطلق:

  1. سياقات معالجة ابن رشد للمسألة:

أ. السياق المنطقي:

كان ابن رشد يعلم أن السؤال عن العالم أهو قديم أم محدث هو سؤال جدلي، وذلك كما يتضح في شرحه لكتاب “الجدل” لأرسطو. فالسؤال عن قدم العالم أو حدوثه هو مطلوب جدلي حسب تعبيره. ويقول عنه: “وأما المطلوب الجدلي فهو ما لم يكن معلوماً صدقه بنفسه بحسب المشهور، بل يلحقه شك ما في المشهور..والسبب في الشك الواقع فيها [=في مقدمات القياس الجدلي] إما تضاد الشهادة، وإما عدم الشهادة فيها، وإما تضاد الأقيسة.. وربما كان سبب ذلك عسر وجود القياس عليها.. مثل قولنا: هل العالم محدث أم لا؟… وأما ما تتضاد فيه الأقيسة، فمثل قولنا: هل العالم قديم أو محدث؟”( ). الواضح من النص أن ابن رشد يفصل بين السؤال عن حدوث العالم والسؤال عن الاختيار بين قدمه وحدوثه. والسبب في فصله هذا يرجع إلى أنه قدم نقداً لبراهين المتكلمين على حدوث العالم، وهي مستقلة تماماً عن أدلته هو في القول بقدم وحدوث العالم في الوقت نفسه ( ).
والملاحظ أن ابن رشد يعالج الأسئلة عن قدم العالم وحدوثه على أنها مطالب جدلية، لأن الأقيسة تتضاد فيها. لقد كان كانط على حق إذن عندما عالج إشكالية القدم والحدوث تحت باب “الجدل الترانسندنتالي”( )، وعندما وضع الإشكالية في صورة نقيضة Antinomy، إذ اتضح تضاد الأقيسة الذي يقصده ابن رشد من برهان الحدوث وبرهان القدم اللذان وضعهما كانط في مقابل بعضهما البعض في تقسيمه الشهير للصفحة الواحدة إلى عمودين. لكن يجب علينا الانتباه إلى أن النص السابق هو من شرح ابن رشد لكتاب أرسطو في الجدل، فهو يكتفي فيه بتوضيح أن السؤال عن القدم والحدوث مطلب جدلي لكنه لم يقدم حله لهذا السؤال في شرحه للجدل نفسه، بل في كتبه الأساسية الثلاثة: “فصل المقال” و”الكشف عن مناهج الأدلة” و”تهافت التهافت”. والسبب في ذلك واضح، وهو أن أرسطو لم يكن حاسماً في حله لمسألة القدم والحدوث، مثلما كان في مسألة العقل الفعال واتصاله بالبدن؛ وربما يكون أرسطو قد سكت عن هذه المسألة لكونها مطلباً جدلياً كما يقول، لكن ابن رشد هو الذي تجاوز الصعوبة الجدلية للمسألة بمحاولة حلها. والحقيقة أن المسألة الجدلية لا تحل إلا برفع النقيضين معاً، وهذا ما فعله ابن رشد عندما قام برفع القدم المطلق والحدوث المطلق وقال بأن العالم قديم ومحدث في الوقت نفسه. وهذا أيضاً ما فعله كانط؛ لقد رفع النقيضين معاً، لكن لا بالتوسط بينهما بل برفض الفصل في المسألة أصلاً واعتبارها مما يفوق قدرات العقل البشري، مكرراً بذلك نفس الحل الذي قال به من قبل فلاسفة العصور الوسطى وعلى رأسهم ألبرت الكبير والقديس توماس الأكويني( ). ولذلك فالحل الذي قدمه ابن رشد للمسألة هو حله هو، ولا يعد أبداً نقلاً عن أرسطو، فنظرية التوسط بين القدم والحدوث لم يقل بها أرسطو ولم تظهر في أي من مؤلفاته، بل هي نظرية رشدية أصيلة.
ب. سياق نقد علم الكلام:

رفض ابن رشد نظرية حدوث العالم الكلامية. ومن أسباب رفضه لها أنها:

  1. ليست قائمة على أدلة برهانية يقينية.
  2. لا تستطيع البرهنة الصادقة على وجود الله، لأن البرهنة على أن العالم حادث تنطوي على إشكالية صدور الحادث عن القديم، وإشكالية التناقض بين الإرادة القديمة والفعل الحادث.
  3. تعصف بالثبات والضرورة التي لقوانين الطبيعة وتكرس لمبدأ الاتفاق وتنظر إلى السببية على أنها مجرد عادة، وبالتالي لا تستطيع أن تنظر إلى حكمة الله في خلق العالم وفق ما فيه من ضرورة.
    والحقيقة أن نظرية ابن رشد في أن الطريقة البرهانية اليقينية في إثبات وجود الله هي دليل القدم لا دليل الحدوث يعني أنه يدافع عن النظرة العلمية للكون والتي تنظر إليه على أن قوانينه ضرورية وتحكمه السببية الشاملة. وليس هناك أي تعارض لدى ابن رشد في القول بحتمية وأبدية وأزلية قانون الطبيعة والقول بإله صانع للعالم، لأن قانون الطبيعة عنده هو إرادة الله وحكمته في خلقه، وهو “سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا”. “وينبغي أن تعلم أن من جحد كون الأسباب مؤثرة بإذن الله من مسبباتها، أنه قد أبطل الحكمة وأبطل العلم” على الله وعلى الإنسان معاً “والقول بنفي الأسباب في الشاهد ليس له من سبيل إلى إثبات سبب فاعل في الغائب”( )
    ذهب ابن رشد إلى أن دليل المتكلمين على وجود الله من حدوث العالم ليس يقينياً ولا برهانياً. فهذا الدليل ينبني على ثلاث مقدمات تقول: “الجواهر لا تنفك عن الأعراض أي لا تخلو منها، والثانية أن الأعراض حادثة، والثالثة أن ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث” ( ). وبالتالي فالعالم حادث لأنه لا ينفك عن الحوادث، وبما أن العالم حادث فهو يفتقر إلى محدث له وهو الله.
    وينقد ابن رشد هذا الدليل بذهابه إلى أن القول بأن الجواهر لا تنفك عن الأعراض لا يعني بالضرورة أنها هي ذاتها أعراض، وذلك نظراً لإمكان حدوث أعراض لانهاية لها على الجواهر؛ ويقول في ذلك: “وأما المفهوم الأول.. فليس يلزم عنه حدوث المحل، أعني: الذي لا يخلو من جنس الحوادث. لأنه يمكن أن يتصور المحل الواحد، أعني الجسم، تتعاقب عليه أعراض غير متناهية.. كأنك قلت: حركات لانهاية لها”( ) كما أن الجواهر تنحل، لدى الأشاعرة خاصة، إلى الجزء الذي لا يتجزأ، وانحلالها هذا لا يعني أنها أعراض، لأن التحليل وصل إلى الجزء، أي إلى شئ متقدم في وجوده على الجسم المركب، وهذا لا يعني الحدوث.
    أما المقدمة الثانية القائلة بأن الأعراض حادثة فهي تنطوي على قياس الغائب على الشاهد، أي الانتقال مما هو حاضر أمام الحس من الحادثات إلى الحكم على ما لا يحضر، أي الغائب. ومعنى هذا النقد أن المتكلمين على خطأ في انتقالهم من حدوث الأعراض إلى حدوث العالم كله، لأن الأعراض هي الشاهد الذي لا يصح أن نقيس عليه العالم كله وهو الغائب، ذلك لأن النقلة من حكم الأعراض الجزئية إلى الحكم على العالم في كليته غير صحيح، لأن الأعراض الجزئية ليست من طبيعة العالم الكلي: “فتؤول أدلتهم على حدوث جميع الأعراض إلى قياس الشاهد على الغائب، وهو دليل خطابي إلا من حيث النقلة معروفة بنفسها، وذلك عند التيقن باستواء طبيعة الشاهد والغائب”( ).
    أما المقدمة الثالثة القائلة إن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث فهي جدلية لأنها ترتكب مغالطة الاشتراك في الاسم، فالحادث الذي لا تخلو الجواهر منه ليس هو حدوث العالم، فالحدوث مستخدم بمعنيين مختلفين في كل شق من المقدمة. كما أن عبارة “ما لا يخلو من الحوادث” يمكن أن تعني ما لا يخلو من جنس الحوادث كله وما لا يخلو من واحد منها. لكن ما لا يخلو من جنس الحوادث يمكن ألا يكون حادثاً بل قديماً تمر عليه الحوادث إلى ما لا نهاية( ). وهكذا يثبت ابن رشد أن دليل الحدوث جدلي وخطابي ولا يرقى للبرهان.
  4. التمييز بين القدم المطلق والحدوث المطلق:

القديم بإطلاق عند ابن رشد هو ما ليس له علة ولا يوجد من شئ، أما المحدث بإطلاق فهو ما له علة ووجد من شئ. القديم المطلق هو الله سبحانه، والحادث المطلق هو الأشياء الجزئية أو الأجسام. أما العالم فهو يتوسط القدم المطلق والحدوث المطلق؛ إنه أزلي الحدوث. سبق أن لاحظنا في عرضنا للنقيضة الكوزمولوجية الأولى عند كانط أنه يقيم تعارضاً بين القدم المطلق والحدوث المطلق ويقول بأن العالم إما متناهياً في الزمان والمكان وإما لامتناهياً في الزمان والمكان ولا شئ غير ذلك، أي أنه لم يتعرض أبداً للخيار الوسيط. أما ابن رشد فنجد لديه عرضاً أكثر شمولاً للإشكالية وحلاً وسيطاً مبتكراً لها. ولأن ابن رشد قد ركز عرضه للإشكالية وحله لها في صفحة ونصف من كتابه “فصل المقال” فسوف نوردها بنصها كاملة لنعرف كيف عالج ابن رشد مسألة القدم والحدوث وكيف حلها في بضعة أسطر. وما يبرر لنا إيراد النص التالي كاملاً ما يظهر فيه من توسط ابن رشد بين القدم والحدوث للعالم، وهو ما ليس له نظير عند كانط. إن هذه الأسطر القليلة التي حل بها المسألة تقف دليلاً على عبقرية هذا الرجل، وفي الوقت نفسه على أن كانط لم يقرأ “فصل المقال” ولا أي من مؤلفات ابن رشد، وقد خسر الكثير من جراء ذلك.
يقول ابن رشد( ): “وأما مسألة قدم العالم [أو] حدوثه [فإن الاختلاف] [فيها] عندي بين المتكلمين من الأشعرية وبين الحكماء المتقدمين يكاد أن يكون راجعاً للاختلاف في التسمية، وبخاصة عند بعض القدماء. وذلك أنهم اتفقوا على أن هاهنا ثلاثة أصناف من الموجودات: طرفان وواسطة بين الطرفين. فاتفقوا في [تسمية] الطرفين واختلفوا في الواسطة. فأما الطرف الواحد فهو: موجود وجد من شئ غيره وعن شئ: أعني عن سبب فاعل ومن مادة، والزمان متقدم عليه: أعني على وجوده. وهذه هي حال الأجسام التي يدرك تكونها بالحس، مثل تكون الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات وغير ذلك. فهذا الصنف من الموجودات اتفق الجميع من القدماء والأشعريين على تسميتها محدثة. وأما الطرف المقابل لهذا فهو موجود لم يكن من شئ ولا عن شئ، ولا تقدمه زمان. وهذا أيضاً اتفق الجميع من الفرقتين على تسميته قديماً. وهذا الموجود مدرك بالبرهان، وهو الله تبارك وتعالى الذي هو فاعل الكل، وموجده، والحافظ له، سبحانه وتعالى قدره.وأما الصنف من الموجود الذي بين هذين الطرفين فهو موجود لم يكن من شئ ولا تقدمه زمان، ولكنه موجود عن شئ: أعني عن فاعل. وهذا هو العالم بأسره. والكل منهم متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم. فإن المتكلمين يسلمون أن الزمان غير متقدم عليه، أو يلزمهم ذلك. إذ الزمان عندهم شئ مقارن للحركات والأجسام، وهم أيضاً متفقون مع القدماء على أن الزمان المستقبل غير متناه، وكذلك الوجود المستقبل، وإنما يختلفون في الزمان الماضي والوجود الماضي. فالمتكلمون يرون أنه متناه، وهذا هو مذهب أفلاطون وشيعته. وأرسطو وفرقته يرون أنه غير متناه كالحال في المستقبل. فهذا الموجود الآخر الأمر فيه بَيـِّن أنه قد أخذ شبهاً من الوجود الكائن الحقيقي ومن الوجود القديم. فمن غلَّب عليه ما فيه من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدث سماه قديماً. ومن غلَّب عليه ما فيه من شبه المحدث سماه محدثاً. وهو في الحقيقة ليس محدثاً حقيقياً ولا قديماً حقيقياً. فإن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة. والقديم الحقيقي ليس له علة”( ).
أي أن العالم ليس قديماً على الحقيقة وليس محدثاً على الحقيقة، بل هو قديم ومحدث في الوقت نفسه، قديم بمعنى صدوره الدائم والأبدي عن الله تعالى، ومحدث بمعنى افتقاره إلى علة موجدة له تقع خارجه. يتضح من النص السابق كيف استطاع ابن رشد التمييز بدقة بين القدم المطلق والحدوث المطلق والتوسط بينهما بالنسبة للعالم. والحقيقة أن هذا التمييز ليس موجوداً في فلسفة أرسطو، بل هو فكرة رشدية أصيلة. صحيح أنها تعد تطويراً لبعض الأفكار الأرسطية، إلا أن ابن رشد هو أول من قال بها، وهي من الأفكار التي نجح ابن رشد في التوفيق بها بين الفلسفة والدين. وهذا التوسط بين القدم والحدوث لا نجده في عرض كانط للنقائض الكوزمولوجية.
كما نلاحظ أن ابن رشد يعالج القدم والحدوث بطريقة أكثر شمولاً، ذلك لأنه يُدخل في المناقشة قدم الله، ويقيم علاقة ثلاثية بين القديم المطلق وهو الله والحادث المطلق وهو الأجسام الجزئية والوسيط بينهما وهو العالم؛ في حين أن كانط قد فصل بين إشكالية العالم وإشكالية وجود الله؛ فإشكالية القدم والحدوث تشغل النقيضة الأولى، وإشكالية وجود أو عدم وجود الكائن مطلق الضرورة تشغل النقيضة الرابعة، أي أنه تناول قضية القدم والحدوث بمعزل عن قضية الكائن مطلق الضرورة. أما الأجسام الجزئية فهي تناظر عند كانط النقيضة الثانية الخاصة ببساطة أو تركيب الجواهر المفردة في العالم، وقد عزل مناقشته لها عن إشكاليتي العالم والإله أيضاً.
وما قاله ابن رشد في التمييز بين القدم المطلق والحدوث المطلق باختصار في “فصل المقال”، يعود ليُفصِّله بمزيد من الشرح في “تهافت التهافت”، ويضيف عليه التمييز بين قدم الله وقدم العالم. يقول ابن رشد: “وأما إن كان العالم قديماً بذاته وموجوداً لا من حيث هو متحرك، لأن كل حركة مؤلفة من أجزاء حادثة، فليس له فاعل أصلاً، وأما إن كان قديماً بمعنى أنه في حدوث دائم وأنه ليس لحدوثه أول ولا منتهى، فإن الذي أفاد الحدوث الدائم أحق باسم الإحداث من الذي أفاد الحدوث المنقطع. وإنما سمت الحكماء العالم قديماً تحفظاً من المحدث الذي هو من شئ وبعد العدم”( ). يتضح من هذا النص أن ابن رشد يميز بين القديم بإطلاق والمحدث بإطلاق. القديم بإطلاق هو ما ليس له علة، وإذا كان العالم قديماً بهذا المعنى فليس له علة؛ وهذا هو قدم العالم الذي ينفي وجود الإله، وهو ما يظهر في النقيضة الكوزمولوجية الرابعة لكانط، ويقابل المذهب الدهري. فالواضح أن كانط لم يفهم القدم والحدوث بالمعنى الذي يشير إليه ابن رشد في النص السابق. فكانط يربط بين قدم العالم من جانب وكونه بدون إله صانع من جانب آخر، ولم يستوعب أبداً كيف يمكن للعالم أن يكون قديماً وله صانع في الوقت نفسه. لا يقول ابن رشد بقدم العالم بمعنى كونه بدون علة موجدة، بل يقول بقدم العالم بمعنى الحدوث الدائم، ويقول بأن ما هو دائم الحدوث أولى بأن يسمى حادثاً مما حدوثه منقطع، أي ما وجد بعد العدم. ليس العالم قديماً بذاته عند ابن رشد، بل هو قديم بغيره، أي بالإله، وهو ليس محدثاً بإطلاق، بل محدث بذاته.

  1. التمييز بين نوعين من الأزلية:

تبنى ابن رشد تمييز أرسطو بين نوعين من الأزلية أو القدم: النوع الأول هو الأزلية الثابتة اللازمانية، أي التي لا يمر عليها الزمان ولا يلحقها التبدل أو التحول، وهي عند أرسطو أزلية المحرك الأول الذي لا يتحرك؛ والنوع الثاني هو الأزلية الزمانية المتحركة أو الاستمرارية الأبدية في الحركة، وهي الحركة الدائرية اللامتناهية للسماء والأفلاك. وهذا التمييز هو الذي يستطيع إفهامنا لكيفية قول ابن رشد بقدم الله وقدم العالم في الوقت نفسه؛ فليس هناك أي تناقض عنده في القول بقديمين، لأن كل قدم منهما بمعنى مختلف عن قدم الآخر. الله والعالم عند ابن رشد أزليان أبديان لكن لا بمعنى واحد. أزلية الله عند ابن رشد هي الأزلية الثابتة اللازمانية غير المتحركة، فالله لا يخضع للزمان ولا للتبدل والتحول الذي للحركة؛ أما أزلية العالم فهي الأزلية المتحركة حركة لانهاية لها. وعندما ذهب ابن رشد إلى أن العالم يأخذ شبهاً من الوجود القديم وشبهاً من الوجود الحادث فقد كان يعني أنه يأخذ معنى الدوام الأزلي الأبدي الذي يميز القديم، وفي الوقت نفسه معنى الحركة الذي ينطوي على الحدوث. فالعالم عند ابن رشد أزلي الحركة، أي أزلي الحدوث؛ إنه في حالة حدوث دائم وأبدي وأزلي. وهكذا نرى أن ابن رشد نجح في تجاوز إشكالية القدم والحدوث بأن تجاوزهما معاً عن طريق التوسط بينهما والجمع في شأن العالم بين معنى للقدم ومعنى آخر للحدوث. لقد تجاوز إحراج الاختيار بين القدم المطلق والحدوث المطلق الذي ظهر في النقيضة الكوزمولوجية الأولى عند كانط. تنص هذه النقيضة على أن العالم إما قديم أو محدث، ولا ثالث لهما، وقد كان من السهل على كانط رفض الفصل في الإشكالية بحجة أنها تتجاوز قدرات العقل البشري. أما ابن رشد فقد نجح في التوصل إلى الخيار الثالث الوسيط بين القدم المحض والحدوث المحض، ذلك الخيار الذي لم يطرحه كانط أصلاً وغاب عن أفق تفكيره.

  1. التمييز بين الحدوث الذاتي والحدوث من العدم:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ميز ابن رشد أيضاً بين معنيين للحدوث: الحدوث الذاتي وهو افتقار الشئ إلى علة موجدة له، والحدوث من العدم وهو وجود شئ بعد أن لم يكن( ). وعندما يسمي ابن رشد العالم حادثاً فهو يعني به الحدوث الذاتي، أي أن العالم يفتقر إلى علة موجدة له تسبقه منطقياً لا زمانياً، لكنه ليس حادثاً من العدم. الحادث من العدم هو الذي يسبقه العدم، وذلك مثل الأجسام المادية في العالم، أما العالم كله فهو حادث بذاته قديم بغيره، أي أنه يصدر بالضرورة عن فعل الله، أو هو بالأحرى فعل الله نفسه( )، ولا يمكن أن يتوقف الله عن الفعل أو يبدأ في الفعل بعد أن كان متوقفاً عنه.
وعندما ناقش كانط مسألة العالم في النقيضة الأولى ومسألة الكائن الضروري بإطلاق في النقيضة الرابعة (وهو واجب الوجود بتعبير ابن سينا) لم يتناول هذه التقسيمات الفرعية بين القدم والحدوث. فكما أوضح لنا ابن رشد، فللقدم معنيان وللحدوث معنيان، ومن الممكن التوسط بينهما. أما كانط فالعالم عنده إما قديم أو محدث، هكذا ببساطة؛ وهو إما أن يكون قديماً بدون إله أو محدثاً بإله، هكذا ببساطة أيضاً. لكن معالجة ابن رشد لإشكاليات القدم والحدوث لم تكن بالبساطة التي ظهرت في معالجة كانط، بل كانت أكثر تنوعاً وتعقيداً وثراءً. إن كانط يكشف عن تعارض واحد فقط وهو بين المذهب الدهري ومذهب الخلق من العدم. وهو يعتقد أن هذا التعارض هو المشكلة الأساسية للعقل الخالص، لكنها ليست كذلك. المشكلة الأساسية كانت هي المشكلة محل النزاع الفارابي وابن سينا من جهة والمتكلمين من جهة أخرى، وبين الغزالي والفلاسفة، وبين ابن رشد والغزالي. إن السبب في بساطة عرض كانط للنقائض الكوزمولوجية والتي تصل إلى حد السذاجة يرجع إلى أنه لم يطلع على النزاعات والصراعات الكلامية والفلسفية في الفكر الإسلامي؛ ولو كان قد اطلع عليها لزاد كتابه ثراء، ولرأى كيف أن بين القدم والحدوث خيار ثالث وسيط وضعه ابن رشد.

  1. العالم قديم بالجنس حادث بالأجزاء:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ينظر ابن رشد إلى العالم على أنه قديم أو أزلي بالجنس حادث بالأجزاء. فالعالم عنده أزلي بالجنس أي في كليته وشموله وإذا ما اتخذ على أنه الكل الشامل، لأنه بذلك فعل للإله، وفعل القديم قديم مثله. لكنه في الوقت نفسه حادث بالأجزاء، أي الأشياء المادية من أجسام وعناصر، لأنها هي التي تمر بالتغير والتحول والتبدل، أو الكون والفساد. يقول ابن رشد في ذلك: “الجهة التي منها أدخل القدماء موجوداً قديماً ليس بمتغير أصلاً ليست هي من جهة وجود الحادثات عنه بما هي حادثة، بل بما هي قديمة بالجنس؛ والأحق عندهم أن يكون هذا المرور إلى غير نهاية لازماً عن وجود فاعل قديم، لأن الحادث إنما يلزم أن يكون بالذات عن سبب حادث”( )، ويقول أيضاً: “..وجه صدور الحادث عن القديم الأول لا بما هو حادث بل بما هو أزلي بالجنس حادث بالأجزاء، وذلك أن كل فاعل قديم عندهم إن صدر عنه حادث بالذات فليس هو القديم الأول عندهم..”( ). إن وجود أجسام جزئية حادثة عند ابن رشد لا يعني أن العالم كله حادث، لأن هذا يعد قياساً للغائب، وهو العالم كله، على الشاهد، وهو الأجسام الجزئية. فالعالم كله هو في حكم الغائب عند ابن رشد لأنه ليس خاضعاً للحس باعتباره كلاً، ولأننا نطلب حكماً يخص أوله وآخره وهما أيضاً في حكم الغائب. وابن رشد بذلك يخالف المتكلمين من معتزلة وأشاعرة والذين ذهبوا إلى أن العالم كله حادث بما أنه يحوي أجساماً حادثة، لأن هذا الدليل، بالإضافة إلى أنه قياس للغائب على الشاهد، فهو أيضاً قياس الكل على أجزائه أو الامتداد بحكم الجزء إلى الحكم على الكل، وهو قياس غير صحيح وفقاً لقواعد البرهان. ونلاحظ من ذلك أن ابن رشد لم يكن بحاجة إلى الخروج عن المنطق الأرسطي واختراع منطق آخر لنقد الميتافيزيقا الدوجماطيقية لعلم الكلام مثلما اضطر كانط لاختراع منطق جديد بالتوازي مع المنطق الأرسطي وأسماه “المنطق الترانسندنتالي”. تثبت لنا أعمال ابن رشد أن المنطق الأرسطي كان لا يزال صالحاً عنده كأداة لنقد الميتافيزيقا، أي أورجانوناً Organon ، دون الحاجة إلى اختراع منطق جديد.
ونلاحظ كذلك أن قول ابن رشد “والأحق عندهم أن يكون هذا المرور إلى غير نهاية لازماً عن وجود فاعل قديم” يدل على أن توالي وتسلسل حدوث الحادثات إلى ما لا نهاية هو ما يليق بحق القديم، لأن القديم هو ما لا يتوقف عن الفعل وهو أيضاً ما لا يتوقف فعله. فحدوث العالم عند ابن رشد هو حدوث لانهائي، أزلي وأبدي.
ويتضح لنا من النص السابق من “فصل المقال” أن العالم قديم ومحدث في الوقت نفسه عند ابن رشد، قديم بالجنس من حيث كونه كلاً، حادث بالأجزاء؛ وتعد هذه النظرية هي الأفضلية التي يتفوق فيها ابن رشد على كانط في التعامل مع إشكالية القدم والحدوث، بها تكون فلسفة ابن رشد متجاوزة للنقائض الكوزمولوجية الكانطية ومتجنبة الوقوع في الإحراجات المنطقية التي أوضحها كانط. ذلك لأن كانط اعتقد أن العالم إما أن يكون قديماً كلاً وأجزاءً أو حادثاً كلاً وأجزاءً، والحقيقة أن النقائض الكوزمولوجية الكانطية هي بين هذين النوعين المحدودين من القدم والحدوث. لكننا رأينا كيف توسط ابن رشد بين هاتين النقيضتين اللتين قطع كانط بعدم إمكان العقل البشري الفصل فيهما. ويبدو أن عقل كانط وحده هو الذي لم يتمكن من الفصل فيهما، لا العقل البشري كما ادعى هو.قدم لنا كانط الخياران المتناقضان في كل نقيضة على أنهما كل ما هو متاح للعقل البشري، لكن اتضح لنا من النص الرشدي كيف يمكن التوسط وكيف أن الخيار الثالث الوسيط بين القدم والحدوث يمكن تبريره عقلياً وبالبرهان، أي دون الخروج عن قواعد المنطق.
رابعاً – وحدة الوجود هي ما يقتضيه مذهب ابن رشد، وهي المختفية من النقد الكانطي للميتافيزيقا:
الحقيقة أن كانط قد نقد نوعاً واحداً فقط من الميتافيزيقا على الرغم من أن كتابه “نقد العقل الخالص” يوحي بأنه ينقد كل الميتافيزيقا بمختلف أنواعها. وبأنه ينقد كل تفكير ميتافيزيقي. إنه بالأحرى ينقد صنفاً واحداً من التفكير الميتافيزيقي والذي ينتج الميتافيزيقا القائلة بنظرية معينة في النفس والعالم والإله، وهي ميتافيزيقا أفلاطون وفلاسفة العصور الوسطى المسيحيين وديكارت ومدرسته. بالإضافة إلى اقترابها الشديد من فلسفة المتكلمين من معتزلة وأشاعرة. هذه النظرية تنظر إلى النفس على أنها جوهر مستقل عن البدن وتقول بروحيتها وخلودها بعد فناء البدن، وتقول بأن العالم إما قديم أو محدث ولا ثالث لهما، وتقدم أخيراً أدلة وبراهين على وجود الإله، لكنها أدلة وبراهين تثبت وجود الإله المفارق المنفصل عن العالم. ومعنى هذا أن النقد الكانطي للميتافيزيقا لا يستوعب المذهب الأرسطي – الرشدي القائل بوحدة الكيان الإنساني من حيث كونه يتكون من مادة وصورة، أي بدن ونفس لا ينفصلان ولا يحيا هذا الكيان الإنساني بدون اتحادهما، ولا يستوعب كذلك المذهب الرشدي الأصيل القائل بالتوسط بين القدم والحدوث للعالم وبأن العالم قديم ومحدث في الوقت نفسه، ولا يستوعب أيضاً النتيجة المنطقية لفلسفة ابن رشد والتي يقتضيها مذهبه وهي وحدة الوجود، أي النظر إلى الإله على أنه ليس مفارقاً أو منفصلاً عن العالم بل القول بالهوية التامة بينه وبين فعله، وبين هذا الفعل ونتاج هذا الفعل وهو ما يعني بوضوح وحدة الوجود. سوف نوضح فيما يلي كيف أن مذهب وحدة الوجود عند ابن رشد هو الذي ينجح في تجاوز النقد الكانطي للميتافيزيقا، وأن هذا النقد لا يستوعبه ولا يمكن أن يشمله، ليس فقط لأن مصطلح “وحدة الوجود” Pantheism مختفٍ تماماً من “نقد العقل الخالص”، بل كذلك لأن النقد الكانطي هو لنوع واحد فقط من الميتافيزيقا ولا يشمل ميتافيزيقا وحدة الوجود.
يتفق كل من أرسطو والفارابي وابن سينا وابن رشد في القول بأن العالم قديم. واعترض الغزالي على الفارابي وابن سينا لأن القول بقدم العالم هو قول بقديمين، وهذا في نظره قريب من الشرك( )، لأن القديم يجب أن يكون واحداً فقط وهو الله وحده. لكن الشرك الحقيقي هو في القول بشركاء للإله الواحد في الفعل والخلق والإيجاد، أي القول بإلهين أو أكثر. أما القول بقدم العالم عند ابن رشد فليس بشرك، لأن قدم العالم عنده لا يعني أن العالم شريك للإله، ولا يعني كذلك نقصاً في وحدانية الإله؛ فالإله يبقى واحداًَ مع قدم العالم، ويبقى العالم من صنعه وإبداعه مع كونه قديماً، وذلك بناءً على أن العالم هو فعل الإله الدائم والمستمر من الأزل إلى الأبد، ولا يمكن تأخر المفعول وهو العالم عن فعل الفاعل وهو الإله، وكذلك لا يمكن تأخر الإله عن فعله أو تراخيه في فعل هذا الفعل. ولذلك نقد ابن رشد نظرية تراخي الإرادة عند الغزالي والأشاعرة.
لكن لا يمكن التوفيق بين إله قديم وعالم قديم وتجنب الوقوع في الإشكاليات الناتجة عن القول بقديمين إلا بناءً على مذهب وحدة الوجود؛ أي بالذهاب إلى أن القديم واحد، إله وفعل هذا الإله. فالإله وفعله متلازمان، هو قديم وفعله قديم في الوقت نفسه. فالتوحيد الحقيقي هو التوحيد بين الإله وفعله، أما القول بوجود عالم منفصل ومختلف عن الإله حتى ولو كان محدثاً فهو نقص في وحدانية الله، لأن اللإله الواحد الحق هو الذي لا يقف أي شئ في مقابله ويواجهه في تناقض، كأن يكون الإله روحي والعالم مادي، وكأن يكون الإله مفارقاً للعالم وكأنه في مكان فوق العالم أو خارجه. والحقيقة أن مذهب وحدة الوجود هو النتيجة المنطقية التي تقتضيها فلسفة ابن رشد. وسوف نحاول فيما يلي توضيح ذلك من نصوص ابن رشد.
تتمثل الاعتبارات التي تجعلنا نقطع بأن مذهب ابن رشد يؤدي منطقياً إلى القول بوحدة الوجود فيما يلي:

  1. أنه يتبنى النظرية الأرسطية القائلة إن الإله عقل وعاقل ومعقول وإنه لا يعقل إلا ذاته.
  2. أنه يقول بالتلازم التام بين الإله وفعله، وفعل الإله هو العالم.
  3. أنه يقول بأن الإله لا يفعل بآلة، وبأن المخلوقات تصدر عنه بدون وسائط.
  4. أنه يقول بإمكان وجود موجود ليس داخل العالم وليس خارجه، مع رفع التناقض الظاهري في ذلك؛ وهو الإله عنده.
    ولتوضيح كيف أن هذه الأفكار الأربع تشير بقوة إلى وحدة الوجود نشرحها بالتفصيل فيما يلي.
  5. الإله عقل وعاقل ومعقول:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
تبنى ابن رشد النظرية الأرسطية القائلة إن الإله عقل وعاقل ومعقول، وأنه تبعاً لذلك لا يعقل إلا ذاته. لكن أدت هذه الفكرة إلى إشكالية وهي أن الإله على أساسها لن يعقل الجزئيات. ولتجنب هذه الصعوبة ذهب ابن سينا إلى أن الإله يعقل الجزئيات على نحو كلي. وأخذ الغزالي على الفلاسفة الذين يقولون بذلك أن قولهم هذا يؤدي إلى القول بأن صانع العالم لا يعلم صنعه. وقد حل ابن رشد هذه الإشكالية بذهابه إلى أن الصفات ليست زائدة على الذات، بمعنى أنها هي هي عين الذات؛ ولأن العلم من صفات الذات، فالعلم ليس صفة منفصلة عن الذات الإلهية. ومعنى هذا أن الإله باعتباره عاقلاً لا يتعقل بقوة أو ملكة متمايزة عن ذاته، بل يتعقل بذاته نفسها. وبذلك وحد ابن رشد بين العقل وهو الإله والتعقل وهو العلم الإلهي. وكذلك وحد بينهما وبين المعقول. ذلك لأن العالم عنده هو المعقول، وعندما نقول إن الإله عقل وعاقل ومعقول، وعندما نقوم بالتوحيد وإقامة الهوية بين الثلاثة، فكأننا وحدنا بين الإله وفعله ونتاج هذا الفعل الذي هو العالم ومعرفته بهذا العالم؛ وهذه هي وحدة الوجود بعينها. وقد تجاوز ابن رشد إشكالية القول بأن الله لا يعلم الجزئيات بذهابه إلى أن هذه الجزئيات هي صنعه، ومجموعها هو العالم كله، ولأنه يعقل ذاته وفعله، ولأن فعله غير منفصل عنه، فمعنى هذا أن الإله عندما يتعقل ذاته فهو يتعقل العالم في الوقت نفسه، لأن العالم نتاج فعله.
إن حل إشكالية القول بأن الإله لا يعلم إلا ذاته هو مذهب وحدة الوجود؛ فالإله بالفعل لا يعلم إلا ذاته، لأنه ليس هناك في الوجود إلا الإله وذاته وأفعاله. وقد سبق لابن رشد أن وحد بين الذات والصفات، والأفعال أيضاً. إن ذات الإله في هوية تامة مع صفاته وأفعاله عند ابن رشد. صحيح أن الإله لا يعلم إلا ذاته حسب ما يقول أرسطو والفلاسفة المشائين، إلا أن هذه الفكرة لا تؤدي إلى القول بأنه لا يعلم غيره، فليس هناك غير. فحسب مذاهب وحدة الوجود ليس هناك إله مفارق ومنفصل عن العالم ومختلف عنه جوهرياً، لأن الإله ليس له ضد وليس أمامه مقابل؛ وهذا ما تشترك فيه بالرغم من الاختلافات الجزئية بينها.

  1. التلازم التام بين الإله وفعله:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
أما عن التلازم التام بين الإله وفعله فيقول ابن رشد: “فيلزم أن تكون أفعال الفاعل الذي لا مبدأ لوجوده ليس لها مبدأ كالحال في وجوده”( ). أي أن أفعال الفاعل، التي هي العالم، لامتناهية وقديمة، لأنها أفعاله هو. وهذا هو التوحيد بين الإله وفعله، أي الإله والعالم، أي وحدة الوجود. لقد تبنى ابن رشد مذهب وحدة الوجود على نحو أكثر وضوحاً وصراحة من أرسطو ومدرسته، لأن الإله عند أرسطو هو مجرد محرك أول لا يتحرك، أي أنه ليس له أي دور فاعل في حركة العالم، ذلك لأن العالم عند أرسطو متحرك بذاته حركة شوق إلى المحرك الأول الثابت، وهي حركة غائية فقط، والإله عنده علة غائية للعالم وليس علة فاعلة، لكنه علة فاعلة عند ابن رشد، وهذا هو ما يفصله ويميزه عن أرسطو. والعالم عند ابن رشد ليس صادراً عن الإله على التوالي وفي تسلسل هابط مثلما هو الحال في الأفلاطونية المحدثة وأتباعها الإسلاميين مثل الفارابي وابن سينا، بل العالم صادر عنه مباشرة وهو يفعل مباشرة في العالم دون وسائط. يقول في ذلك: “وإذا كان ذلك كذلك، لزم ضرورة أن لا يكون واحد من أفعاله الأولى شرطاً في وجود الثاني، لأن كل واحد منهما هو غير فاعل بالذات، وكون بعضها قبل بعض هو بالعرض”( ). إن فعل الإله عند ابن رشد واحد، ولا يصدر عنه مفعول يفعل بذاته؛ ونتاج هذا الفعل الواحد هو عالم واحد. ونتاجه هذا ملازم له دائماً، وهذه هي وحدة الوجود.

  1. الإله يفعل بلا آلة:
    أما أن الإله لا يفعل بآلة، أي لا يفعل في العالم بوسيط أو أداة عند ابن رشد، فمعناه أن فعله في العالم مباشر. ذهب ابن رشد إلى أننا لا يمكننا أن نقيس فعل الإله على أفعال البشر، لأن هذا القياس هو قياس للغائب على الشاهد، ولأنه ينطوي على تشبيه الإله بالإنسان. فالإنسان يولد بإنسان يسبقه، وهو يفعل باستخدام وسيط بينه وبين موضوع فعله، لأن هناك انفصالاً بينه وبين موضوعه. لكن الإله ليس في حاجة إلى وسيط كما أنه ليس هناك انفصال بينه وبين موضوع فعله. ومعنى هذا أن الإله هو العلة الفاعلة المباشرة في العالم، ولا يمكن أن يكون علة فاعلة مباشرة إذا كان هناك انفصال بينه وبين العالم، فالإله محايث للعالم، وإرادته هي قوانين الطبيعة ذاتها( ).

القول بموجود ليس داخل العالم وليس خارجه:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

أما عن دفاعه عن القول بموجود ليس داخل العالم وليس خارجه فيقول في ذلك: “..كما أدى البرهان إلى أشياء هي متوسطة بين أشياء يظن بها، في بادئ الرأي، أنها متقابلة، وليست متقابلة، مثل قولنا موجود لا داخل العالم ولا خارجه”( ). ويقصد ابن رشد نظرية أرسطو في موقع المحرك الأول، إذ يذهب إلى أنه إذا كان داخل العالم فكيف يكون محركاً له والحركة تفترض أن تكون هناك مسافة بين المحرك والمتحرك، وإذا كان خارج العالم فكيف يحركه أيضاً وليس بينهما احتكاك. والحل الذي قدمه أرسطو هو القول بأنه داخل وخارج العالم في الوقت نفسه. إنه داخل العالم لكن لا على سبيل احتواء العالم له ولا على سبيل أنه جزء منه، وهو خارج العالم لكن لا على سبيل أنه منفصل عنه. والعالم يتحرك إليه شوقاً، أي حركة غائية وحسب. والواضح أن هذه النظرية تؤدي إلى وحدة الوجود أيضاً.
وأعتقد أن ابن رشد قد تبنى تلك النظرية لكن بكثير من التعديلات ولم يقبلها كما هي موجودة في مذهب أرسطو. فعندما كان ابن رشد يناقش مسألتي الجسمية والجهة في “الكشف عن مناهج الأدلة”، نفى الجسمية تماماً وقام بتأويل الآيات التي تفيد بظاهرها معنى الجسمية، وقد كان واضحاً جداً في ذلك؛ أما عندما أتى على مسألة الجهة فلم يكن بمثل ذلك الوضوح. ذلك لأنه بدأ بالقول بأن “ظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة.. لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء، وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السماء نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي (ص)”( ). وبعد ذلك مباشرة قام بتوضيح موقف المعتزلة في نفي الجهة وذهب إلى أن ما دعاهم إلى ذلك أنهم اعتقدوا أن كل ما في الجهة فهو في المكان وهو جسم: “والشبهة الي قادت نفاة الجهة إلى نفيها، هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية”( ). وينشغل ابن رشد بعد ذلك بإثبات أن القول بالجهة لا يعني إثبات المكان ولا الجسمية. صحيح أنه أثبت للإله الجهة حسب ظاهر الشرع، إلا أنه لم يوضح كيف يكون الإله في جهة دون أن يكون في مكان ودون أن يكون جسماً. وإذا نظرنا في “تهافت التهافت” وجدناه يرفض النظرية القائلة بأن الإله هو نفس العالم، بمعنى أنه ليس هو النفس لجسد هو العالم( )، لأن هذا في نظره يعد تشبيها للإله بالإنسان وينطوي على القول بأن الإله إنسان أزلي( ).
لقد ترك ابن رشد مسألة الجهة دون حسم. لكنني أعتقد أن الحل هو ربطها بما يقتضيه مذهبه من وحدة الوجود. ذلك لأن الإله عند ابن رشد ليس بجسم ولا في مكان لكنه في جهة. وكونه ليس في مكان يعني أنه ليس في مكان واحد جزئي بحيث يكون هذا المكان أكبر منه ويشمله، لكنه في الوقت نفسه في جهة، فكيف نحل هذه الإشكالية؟ أعتقد أن الحل يكمن في القول بأن الإله ليس في مكان واحد بل هو في كل مكان، مما يعني وحدة الوجود. وهذا أيضاً ما تدل عليه الآية القائلة “أينما تولوا فثم وجه الله”، والوجه والجهة متلازمان، وكل مكان به وجه الله، أي جهة لله. وكذلك يقول الكتاب العزيز: “الله نور السموات والأرض”؛ أي أنه نور في السموات والأرض، وليس نوراً خارجهما ينيرهما عن بعد، إنه النور الداخل والمحايث للعالم.
الإله إذن ليس داخل العالم بمعنى أنه ليس جزءاً منه، لكنه داخل العالم باعتبار أنه العلة الفاعلة لكل ما يحدث في العالم حسب نظرية ابن رشد في الخلق المستمر، وإرادته تشمل كل العالم والتي هي قوانين الطبيعة؛ وهو ليس خارج العالم بمعنى أنه ليس منفصلاً عنه ولا يشكل العالم جوهراً مادياً مستقلاً ومنفصلاً عن الإله ذي الجوهر الروحي، فليس هناك جوهران بل جوهر واحد كما يقول سبينوزا، ولكنه خارج العالم بمعنى أنه مفارق للمادة ولا يخضع للتغير والتبدل والتحول الذي يحدث للعالم. أعتقد أن هذا هو المعنى الذي كان يقصده ابن رشد عندما تبنى نظرية أرسطو في الموجود الذي لا هو داخل العالم ولا هو خارجه؛ وهو ما تؤيده نصوص رشدية كثيرة للغاية، خاصة في “تهافت التهافت”( ).
ومن الواضح أن نقد كانط للميتافيزيقا، وبالأخص للكوزمولوجيا العقلية، لا يستوعب هذه الأفكار، وهذا ما يتضح إذا قارناها بالنقائض الأربع التي سبق وأن عرضناها. هذا علاوة على أن كانط قد فصل بين نقده للمذهب الميتافيزيقي في العالم ونقده للبراهين الميتافيزيقية على وجود الإله. فنقده لمذهبي القدم والحدوث يوجد في فصل يسمى “نقائض العقل الخالص” The Antinomy of Pure Reason و ينقد فيه الكوزمولوجيا العقلية، أما نقده لبراهين وجود الإله فهو في الفصل التالي له بعنوان “مثال العقل الخالص” The Ideal of Pure Reason. لكننا رأينا كيف أن ابن رشد لا يفصل بين العالم والإله، سواء في عرض موقفه الخاص في “فصل المقال” و”الكشف عن مناهج الأدلة”، أو في تفنيده للغزالي ودفاعه عن الفلسفة في “تهافت التهافت”. إن كانط فصل بين المذهب الميتافيزيقي في العالم والبراهين الميتافيزيقية على وجود الإله لأنه يفصل من الأصل بينهما، أما ابن رشد فلم يفصل، أولاً لأن الفحص في الإله وفي العالم لا يمكن أن يتم بمعزل الواحد منهما عن الآخر، وثانياً لأن المذهب الرشدي هو مذهب وحدة الوجود، فكان من الطبيعي أن يتناول ابن رشد الإله والعالم معاً وفي تلازم عبر كل مؤلفاته

ا

منهج إبن رشد(595ه) في الاستدلال بين الدين والفلسفة

يُعدْ أبن رشد من الفلاسفة التوفيقين الذين اجهدوا أنفسهم للتوفيق بين الدين والفلسفة أو بين (النقل) و (العقل) فهو يرى أن ثمة توافقاً قائماً بين (الحكمة) وبراهينها العقلية وبين(الشريعة) المستندة على الوحي والنص، وفي هذا المنهج تتأخى (الحكمة) و (الشريعة) ويتزامل (العقل) مع (النقل) .

وأبن رشد يؤكد هذا المنهج بقوله: »اذا كانت الشريعة حقاً، وداعية الى النظر المؤدي الى معرفة الحق ، فأنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لايؤدي النظر البرهاني الى مخالفة ماورد في الشرع فأن الحق لايضاد بالحق بل يوافقه ويشهد له« .

وقد استخدم ابن رشد التأويل لرفع التعارض والتناقض بين النصوص الشرعية وبين الحقائق اليقينية التي تجئ ثمرة البرهان عند أهل النظر والمشتغلين بصناعة الحكمة. وهو يقطع بصلاحية التأويل في كل المواطن والمواقف التي يبدو فيها التعارض بين ظواهر النصوص ومعطيات البرهان، والتأويل عنده: »هو أخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية الى الدلالة المجازية من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهة أو بسببه او لاحقه أو مقارنة أو غير ذلك من الاشياء التي عددت في التعريف اصناف الكلام المجازي«  .

ورغم أيمانه بأستخدام التأويل لرفع التناقض بين النصوص الشرعية والبراهين الفسفية، الا أنه لايتوسع في التأويل كثيراً الى الحد الذي يؤدي الى الغاء معنى النص القرآني، ذلك أنه كان راسخاً في العلوم الشرعية والعلوم العقلية معاً لذا لم يقع في مثل ماوقع غيره كالفارابي وابن سينا من مخالفات صريحة لقواعد التفسير وأصوله حين أسرفوا في تاويل النص الالهي، وبذلك تقول: »والفلسفة تفحص عن كل ماجاء به الشرع فأن أدركته استوى الادراكان، وكان ذلك اتم في المعرفة، وان لم تدركه اعلمت بقصور العقل الانساني عنه وان يدركه الشرع فقط .

ويبدو لي أن أبن رشد في قوله بالتأويل حاول رفع التداخل بين المصطلحات اللفظية واتجاهتها وبين مضامينها وابعادها، واعطاء كل لفظ مضمونه الخاص به على مستوى البحث المطلوب والغاية المنشودة منه، أي أنه ادخل المجازات اللغوية للحد من الاشكالية الفكرية والمنهجية للتوفيق بين (النقل) و (العقل)، وزواج بين المباحث الفلسفية والمباحث اللغوية في البرهنة الطبيعية، والالهية، والكلامية، والتفسيرية، ولايسقط الاتصال بينها نظراً للتداخل بين هذه العلوم ، لذا استخدم التأويل باعتباره السبيل الوحيد لازالة التعارض الذي يبدو احياناً بين ظواهر النصوص ومعطيات البرهان العقلي، وهو يؤكد ذلك بقوله: »ونحن نقطع قطعاً ان كل ما أدى اليه البرهان، وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي، وهذه قضية لايشك فيها مسلم ولايرتاب فيها مؤمن« .

وابن رشد لايخرج من ضوابط النص الشرعي لذا فالتأويل عنده ماشهدت له (الفاظ) الشرع وظواهر نصوصه وبذلك يصرح في كتابة فصل المقال: »أنه ما من منطوق به الشرع مخالف بظاهره لما أدى اليه البرهان، الا اذا اعتبر وتصفحت سائر اجزاءه، وجد في الفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التاويل، او يقارب ان يشهد، ولهذا المعنى اجمع المسلمون على انه ليس يجب ان تحمل الفاظ الشرع كلها على ظاهرها ولا ان تخرج كلها عن ظاهرها بالتاويل« .

وهو بالتزامه بالضوابط الشرعية في تفسير النصوص انما ينطلق من اصول عقيدته الاسلامية وباستخدامه المقدمات العقلية الموصله الى النتائج البرهانية انما يؤكد ايضاً بان الشرع بذاته قد اوجب النظر الفلسفي واعمال العقل، فالاعتبار الشرعي يقضي باستخراج المجهول من المعلوم، لذا فهو يرى ان التاويل والاستنباط في حالة الدلالة افضل الوسائل لمعرفة الله سبحانه وتعالى فيقول »واذا تقرر ان الشرع اوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس اكثر من: استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه، وهذا هو القياس، او بالقياس، فواجب ان نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي.

وبين ان هذا النحو من النظر، الذي دعا اليه الشرع، وحث عليه، هو أتم انواع النظر باتّم أنواع القياس، وهو المسمى برهاناً« .

ورغم اعتماد ابن رشد منهج التاويل في تفسير الالفاظ التي لايمكن حملها على ظاهرها الا انه كان يتبع قواعد التفسير المعروفة ولايتعسف بأستخدام التأويل بأدخال تأويلات بعيدة عن الجو البياني للأيات القرآنية وأنه يفسر تلك الايات كما هو المتبادر في فهمها في أول نظرة. وهو يرى أن تلك الطريقة هي الطريقة المثلى في فهم معاني الايات القرآنية، لذلك فهو يطلق على هذه الطريقة أسم (الطريقة النظرية)، وهي التي أمر الله تعالى بها الناس في كتابه الكريم لأنهم يدركونها بنظرهم وهي طريقة الجمهور والخواص معاً، فالجمهور يفهمون ظاهرها والخاصة من العلماء والحكماء يتعمقون في معانيها، فالاختلاف بينهما في التفصيل ليس الاّ .

وابن رشد في كلامه عن فهم الناس لمعاني الالفاظ الشرعية والبرهانية يذكر ثلاثة أصناف منهم :

الاول: الخطابيون، وهم الجمهور الغالب ممن ليسوا من أهل التأويل، وهؤلاء تستجيب للوعظ والارشاد والادلة الخطابية وأنها غير مهيأة للاستدلال المنطقي المنظم، وتلك العقول موجودة في جميع الناس وهم السواد الاعظم الذين لايستجيبون الا للخيال والعاطفة.

الثاني: الجدليون، وهم اصحاب التأويل الجدلي سواء كان ذلك بالطبع فقط أو بالطبع والعادة، وهؤلاء اصحاب العقول المنطقية التي تكتفي بالبراهين الجدلية.

الثالث: البرهانيون، وهم أهل التأويل اليقيني بالطبع والصناعة، أي صناعة الحكمة، وهؤلاء اصحاب العقول القادرة على الاستدلال بالادلة البيانية المحكمة للوصول الى نتائج يقينية ضرورية، وهذه العقول لاتتوفر الا لقلة من الناس اصحاب الموهبة وهم الخواص.

أن فهم القرآن الكريم ووجوه اعجازه في رأي أبن رشد ميسر للاصناف الثلاثة فكل منها يتبين الحق فيه بمايتفق مع قدرته العقلية فليس هناك مشكلة في فهم الايات المحكمة فالجميع يفهمونها ويدركون معناها بشكل واضح، أما الايات المتشابهة فلا يفهمهاالا الفلاسفة وحدهم لما فيها من أمثال ومجازات فهم اصحاب العقول الذين يستطيعون أدراك التسلسل الدقيق للاستدلال، وهم الذين يفهمون المعنى الاعمق، أما الجمهور فانهم يفهمون ظواهر النصوص ومعناها الحرفي فقط، وهؤلاء لايسمح لهم بالنظر الى المعنى البعيد الخفي لتلك الايات لانهم لا يستطيعون سبر اغواره فيتزعزع ايمانهم .

ويتضح ان منهج ابن رشد يقوم على التوفيق بين (الشرع) و (العقل) لاثبات وحدانية الله تعالى والوهيته الحقة، وانه استخدم المجاز اللغوي والتأويل المنضبط لتفسير النصوص المقدسة، لذا فانه لم يجار الفلاسفة وطريقتهم بأثبات الوحدانية عن طريق نفي الكثرة المتعددة، وأنه تعالى لايتركب من أجزاء، اذ انه تعالى لو كان كذلك لاحتاج الى كل جزء من أجزاءه للضرورة أذ لايوجد الكل الا بوجود اجزاءه. والاحتياج علامة الحدوث، والله تعالى منزه عن ذلك. والفلاسفة بذلك نفوا أن يكون مع الله الهاً آخر .

كذلك فأن أبا الوليد لم يتابع المتكلمين في برهانهم لأثبات الوحدانية في الذات الالهية عن طريق : نفي ( الكم المتصل)* و( الكم المنفصل)**، وأثباتهم الوحدانية في الصفات بنفي (الكم المتصل) و (الكم المنفصل) أيضاً وأثبات الوحدانية في الافعال بنفي (الكم المنفصل) فقط .

وأبن رشد أنما أستخدم مسلكه التوفيقي وأستدل بذات الآيات القرآنية الكريمة التي أستدل بها الطرفان (الجمهور والمتكلمون) لكنه أخضع تلك الآيات للتأويل العقلي المنضبط بضوابط الشرع واللغة، منتقدا طريقة المتكلمين خاصة في الاستدلال لما أدت اليه من تفريع لامبرر له.

وهذا ماسنبحثه فيما بعد، بعد استعراض أدلة الجمهور والمتكلمين لأثبات وحدانية الله تعالى والوهيته وهي ذات الادلة التي أستدل بها وبرهن عليها وفق منهجه التوفيقي.

الفيلسوف إبن رشد(595ه) رحمه الله عند الغرب

عُرٍف ابن رشد في الغرب بتعليقاته وشروحه لفلسفة وكتابات أرسطو والتي لم تكن متاحة لأوروبا اللاتينية في العصور الوسطى المبكرة، فقبل عام 1100 م كان عدد قليل من كتب أرسطو في المنطق تم ترجمته إلى اللغة اللاتينية على يد الفيلسوف المسيحي بوتيوس مع أن أعمال أرسطو الكاملة كانت معروفةً في بيزنطة. ثم بعدما انتشرت الترجمات اللاتينية للأعمال الأرسطية الأخرى من اليونانية والعربية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين أضحى أرسطو أكثر تأثيراً على الفلسفة الأوروبية في العصور الوسطى. وقد ساهمت شروح ابن رشد في ازدياد تأثير أرسطو في الغرب القروسطي. في أوروبا القروسطية أثرت مدرسة ابن رشد المعروفة بالرشدية في الفلسفة تأثيراً قوياً على الفلاسفة المسيحيين أمثال توما الأكويني، واليهود أمثال موسى بن ميمون وجرسونيدوس. وعلى الرغم من ردود الفعل السلبية من رجال الدين اليهود والمسيحيين إلا أن كتابات ابن رشد كانت تدرس في جامعة باريس وجامعات العصور الوسطى الأخرى، وظلت المدرسة الرشدية الفكر المهيمن في أوروبا الغربية حتى القرن السادس عشر الميلادي وقد قدم في كتاب “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” مسوّغاً للتحرر من العلم والفلسفة من اللاهوت الأشعري، وبالتالي عدّ بعضهم الرشدية تمهيداً للعلمانية الحديثة.

وقد كتب جورج سارتون أبو تاريخ العلوم ما يلي:

«”ترجع عظمة ابن رشد إلى الضجة الهائلة التي أحدثها في عقول الرجال لعدة قرون. وقد يصل تاريخ الرشدية إلى نهاية القرن السادس عشر الميلادي، وهي فترة من أربعة قرونٍ تستحق أن يطلق عليها العصور الوسطى حيث إنها كانت تعد بمثابة مرحلةٍ انتقاليةٍ حقيقيةٍ بين الأساليب القديمة والحديثة.”» ” “

وقد عكف ابن رشد على شرح أعمال أرسطو ثلاثة عقود تقريباً، وكتب تعليقاتٍ على جلَّ فلسفاته ماعدا كتاب السياسة الذي لم يك متاحاً له، وكانت أعمال ابن رشد الفلسفية أقل تأثيراً على العالم الإسلامي في العصور الوسطى منها على العالم المسيحي اللاتيني وقتها، كما يدل على ذلك حقيقة أن الأصل العربي لكثيرٍ من أعماله لم يعش، بينما ظلت الترجمات اللاتينية والعبرية موجودة. ومع ذلك فإن أعماله وعلى وجه التحديد موضوعات الفقه الإسلامي والتي لم تترجم إلى اللاتينية أثرت بالطبع في العالم الإسلامي بدلاً من الغرب. وقد تزامنت وفاته مع وجود تغيير في ثقافة الأندلس. والترجمات العبرية لأعماله كان لها تأثيرٌ لاينسى على الفلسفة اليهودية، خاصةً الفيلسوف اليهودي جرسونيدس الذي كتب شروحاً فرعيةً على العديد من أعمال ابن رشد. وفي العالم المسيحي استوعب فلسفته سيجر البرابانتي وتوما الأكويني وغيرهم (وخصوصاً في جامعة باريس) من المجالس المسيحية التي قدرت المنطق الأرسطي. وبلغ ابن رشدٍ عند بعض الفلاسفة مثل توما الأكويني من الأهمية مكانةً لدرجة أنهم لم يكونوا يشيرون له باسمه بل بـ”المعلق” أو “الشارح”، فيما يطلقون على أرسطو “الفيلسوف”. وتأثراً بفلسفات ابن رشد أسس الفيلسوف الإيطالي بيترو بمبوناتسي مدرسةً عرفت باسم “المدرسة الأرسطية الرشدية”.

أما عن علاقته بأفلاطون فقد لعبت رسالة ابن رشد وشرحه لكتاب أفلاطون “الجمهورية” دوراً رئيساً في نقل وتبني التراث الأفلاطوني في الغرب، وكان المصدر الرئيس للفلسفة السياسية في العصور الوسطى.

من ناحيةٍ أخرى كان العديد من اللاهوتيين المسيحيين يخشون فلسفته حتى اتهموه بالدعوة إلى “الحقيقة المزدوجة” ورفضه المذاهب التقليدية التي تؤمن بالخلود الفردي، وبدأت تنشأ أقاويل وأساطير تصل به للكفر والإلحاد نهاية المطاف، واستندت هذه الاتهامات إلى حدٍّ كبيرٍ على التأويل الخاطئ لأعماله.

على العموم لم يكن ابن رشدٍ فيلسوفاً أصيلاً بقدر ماكان شارحاً ومعلقاً على أعمال أرسطو، إذ ليست له أفكارٌ فلسفيةٌ خاصّةٌ مقارنةً بأعلام الفلسفة الإسلامية الكبار كابن سينا والرازي والفارابي. إن تراثه الرئيس يتمحور حول ترجمة أرسطو إلى العربية وشرحه والتعليق عليه ترجمةً دقيقةً -مقارنةً بما كان سبق من ترجماتٍ- ساعدته عليها خلفيته المعرفية والفلسفية واللغوية، وهذه الأعمال هي التي نُقلت إلى العبرية واللاتينية وأرهصت لفلاسفةٍ كابن ميمون وسيجر دو برابانت والإكويني، ولمدارسَ كالفلسفة المدرسية (السكولاتية)، ومن هنا اهتمام الغربيين المحدثين به وإعلاء شأنه -وبخاصةٍ المستشرقين- بوصفه ممثلاً أميناً للحضارة الإسلامية في لبوسها الاستشراقي، بمعنى تصويرها كأنْ لم تك -في أفضل أحوالها- أكثر من ناقلٍ للتراث اليوناني إلى الغرب وليس ثمة من إبداعٍ أصيلٍ يُنسب لها، والدليل الباهر ابن رشد. وجاءت محنته لترفع من قيمته أكثر بنظر هؤلاء ليعتبروه تجسيداً لفكرٍ متحررٍ في وجه المتشددين، مع أنه كان فقيهاً أصولياً مالكياً لاتزال كتاباته الفقهية مراجعَ لها قيمتها الرفيعة على مر القرون حتى يومنا، ومع أن محنته لم تك أكثر من مكيدةٍ على يد الحساد والوشاة الذين لايخلو منهم زمان أو بلاط.

يقول محمد لطفي جمعة (1886-1953): “لأنَّ… ابن رشدٍ لم يكن في الحقيقة فيلسوفاً إنما كان مترجماً وناقلاً، نقل فلسفة أرسطو إلى اللغة العربية واعتبرها خاتمة الحكمة، ورأى أنه من المحتم عليه وهو حكيمٌ إسلامي أن يوفق بين هذه الآراء اليونانية وبين الشريعة الإسلامية”، إلى أن يقول: “لايمكننا أن نعد ابن رشدٍ فيلسوفاً ولكنه كان مصلحاً”

في الموروثات اليهودية

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

كان موسى بن ميمون (توفي عام 1204) من أوائل الفقهاء اليهود الذين استقبلوا أعمال ابن رشد بحماس زائد، فقد قال أنه «على إطلاع دائم بكتابات ابن رشد عن أعمال أرسطو، وأنه (ابن رشد) على صواب مطلق».[39] وكذلك اعتمد كتاب اليهود في القرن الثالث عشر على كتابات ابن رشد في أعمالهم بغزارة، ومن بينهم صاموئيل بن تيبون في كتابه «رأي الفلاسفة»، ويهوذا بن سليمان كوهين في «البحث عن الحكمة»، وشيم توف بن فالقويرا. [39] وفي عام 1232، شرع يوسف بن أبا ماري في ترجمة تعليقات ابن رشد عن أورغانون (وهي مجموعة كتابات أرسطو في المنطق)، وكانت تلك أول ترجمة يهودية لأحد أعماله الكاملة. وفي عام 1260، انتهى موسى بن تيبون من نشر تراجم جميع تعليقات ابن رشد تقريبًا، وكذلك بعض أعماله في مجال الطب.[39] ووصلت شهرة المذهب الرشدي في الأوساط اليهودية إلى أوجها في القرن الرابع عشر.[40] ومن بين الكتاب اليهود الذين شرعوا في ترجمة كتابات ابن رشد أو تأثروا بها: كلونيموس بن كلونيموس وتوضروس توضروسي من آرل، فرنسا، وجرسونيدس من لانغيدوك.

ذم الكنيسة له

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

لكن ابن رشد لم يسلم من ألسنة رجال الكنيسة؛ فقد ذَمُّوه بكل شفة ولسان، وطعنوا عليه أقبح طعن؛ فقد قال عنه بترارك: «إنه ذلك الكلب الكلِب الذي هاجه غيظ ممقوت؛ فأخذ ينبح على سيده ومولاه المسيح والديانة الكاثوليكية». وأما دانتي فقد جعله في هدوء ووقار يتبوَّأ مقعده في الجحيم جزاء له على كفره واعتزاله.[

وجاء تعليم ابن رشد مؤكدًا ومعززًا لمذهب أرسطو فاستُقْبِلَ بحماس، وابتدأت آراؤه تنتشر في الأوساط العلمية، واعتُبِرَ — كما كان شأنه عند علماء اليهود — «المفسر» بمعنى الكلمة مما أثار مخاوف السلطات الكنسية في باريس، فشرعت باتخاذ إجراءات شديدة لتحريم تعليمه في الجامعة بدون تنقيح، وفي سنة ١٢١٠ أصدر أسقف باريس أمرًا بمنع تعليم النصوص الأرسطية الخاصة بالميتافيزيقا والعلوم الطبيعية وتفاسيرها، وإلا يُحْكَم على مَنْ يخالف الحرمان، وفي سنة ١٢١٥ أُعيد هذا الحظر وأُضيف إليه اسمان: دافيد دي دينان وأموري دي بين مع مشاركة شخص ثالث اسمه موريسيوس الإسباني وقد ظنَّ البعض أن موريسيوس هذا هو ابن رشد، ولكن قد رجَّحت الدراسات الحديثة أن هذا من غير المحتمل.
وعلى كلٍّ، ابتدأت أفكار ابن رشد تنتشر في بعض الأوساط وتجد لها أنصارًا، وقد استفحل الأمر لدرجة أن أسقف باريس إتيين طامبييه أصدر في العاشر من ديسمبر ١٢٧٠ قائمة مكونة من ثلاثة عشر قضايا اعتُبِرَت «رشدية» تستوجب الحظر، وفي فترة لاحقة في سنة ١٢٢٧ ارتفع عدد القضايا المحظورة إلى ٢٢١، وقام ألبرت الكبير وتوما الأكويني بكتابة — كل منهما — رسالة لدحض الرشدية؛ الأول: في رسالة اسمها «في وحدة العقل ضد الرشديين» ، والثاني: في رسالة اسمها «المسائل الخمسة عشر»
وقد كانت أهم مآخذ اللاهوتيين على الرشديين اللاتين قولهم بوحدة العقل المنفعل لجميع البشر بالنوع وبالعدد وما يلزم عنها من استحالة الخلود الشخصي، فإذا انحلَّ الجسد لدى الوفاة عاد العقل إلى حالته الأولى من الوحدة، أما الفرد من حيث هو عقل وجسد فلا بقاء له بعد الموت.

ولم يقتصر الأمر على باريس فحسب بل وصل إلى إيطاليا، فذهب عدد من «المفكرين المتحررين» إلى أن الله هو مجرد المحرك الأول للعالم، وأن ما يحدث في العالم المادي والروحي والشخصي والاجتماعي ليس هو إلا من أثر الفلك، ومجموع هذه الآراء المنحرفة الخاصة بعدم خلود النفس والحتمية الفلكية واللا أخلاقية، وعدم العناية الإلهية بالفرد … إلخ وُصِمَ «بالرشدية» وقد تسرَّبت هذه الآراء إلى بعض فئات من الشعب بحيث أصبحوا لا يبالون بالقيم الدينية والأخلاقية (انظر رينان ص).
وإزاء هذا النوع من «الرشدية اللاتينية» المتطرفة كان هناك نوع من الرشدية المعتدلة التي اعتمدها ألبرت الكبير وتوماس الأكويني، فهما يرفضان في مذهب ابن رشد كل ما يخالف العقيدة الدينية، ولكن يستعينان به في بعض مسائل فلسفية مثل خلق العالم وفي منهجه في التفسير لنصوص أرسطو؛ لأنهما يعتقدان أن فلسفة أرسطو — التي كان ابن رشد من خير مفسريها — قابلة للانسجام مع العقيدة الدينية على شرط أن تُطهَّر مما يشوبها من أخطاء.

وهناك كان مذهب رشدي آخر ألا وهو الذي ذهب إليه سيجير دي برابان البلجيكي الذي كان أستاذًا في كلية العلوم والفنون، جاء إلى باريس سنة ١٢٦٠، وعُلِّمَ في جامعتها الفلسفية، وهو لم يحاول أن يتمثَّل المذهب الرشدي، بل توخَّى في تعليمه أن يقدِّم الفلسفة الأرسطية الرشدية بحذافيرها كما وجدها في أيامه بالرغم مما فيها من مخالفة للتعليم الديني، مع العلم بأنه كان يقر صراحة بأن التعليم الديني هو الذي يملك الحقيقة، نعم، لم يقل «بالحقيقة المزدوجة ولكنه صرَّح أنه من الممكن أن يؤدي البرهان العقلي إلى نتيجة تخالف العقيدة الدينية، وهذا ما يميز هذا النوع من الرشدية اللاتينية.
لقد أدانته السلطة الكنيسة سنة ١٢٧٧، فاختفى من المسرح الجامعي، كما توقَّف أيضًا من التعليم رشدي آخر بؤئيس دي داسي
وقام دفاعًا عن الرشدية الراهب الكرملي جيوفاني باكونتورب من المتخصصين في الرشدية، وقد لُقِّبَ برئيس الرشديين والفرنسكاني جيوفاني دي ريباترانسوني وهنري دي هاركلي الذي كان أستاذًا في جامعة أكسفورد.
وفي النصف الأولى من القرن الرابع عشر يمكننا أن نذكر في باريس كمدافع عن الرشدية: جان دي جاندان الذي حاول أن يجدد ويؤكد التضاد بين العقل والإيمان على غرار ما ذهب إليه سيجير ، وهناك أيضًا بعض علماء من إنجلترا الذين كان لهم نزعة رشدية مثل توماس دي ويلتون وبارلي وقد اتصلت بهما مجموعة العلماء الرشديين التي أُنْشِئَت في جامعة بولونيا في أوائل القرن الرابع عشر مثل: أنجلو دي أريزو وأربانو دي بولونيا وتاديئو دا بارما
ومن مناهضي الرشدية اللاتينية يجب أن نذكر إيجيديوس رومانس أي جيل دي روم الذي سنتكلم عنه بعد قليل، وريمون لول المتوفَّى سنة ١٣١٥ الذي حمل عليه حربًا شعواء وألَّف ضده عدة كتب.
وكان من أشهر المراكز المهتمة بالرشدية اللاتينية مركز في جامعة بادوا أنشأه بييترو دابان وقد استمر نشاط المركز لغاية القرن السابع عشر، وحاول ببيترو بومبونازي أن يجدد النزعة الرشدية بربطها بأفكار إسكندر الأفروديسي فسمَّى مذهبه بالمذهب الإسكندراني وضد هذا التيار ذات النزعة المادية قام تيار آخر بحث في الباباليون العاشر وبقيادة أغسطينو نيفو ، وهذا التيار الجديد كان مبنيًّا على آراء الشارح الروحي لأرسطو سنبلقيوس ويقر بأن ابن رشد في مذهبه الخاص بوحدة العقل لم ينفِ روحية النفس الإنسانية وعدم فنائها.
وفي عصر النهصة ظهر — كما قلنا سابقًا — عدد من تفاسير لابن رشد وأرسطو، غير أن الروح الجديدة «الإنساوية» كانت تفضل أن تتجه نحو أرسطو اليوناني لا بقصد أخذه كمرشد فكري بل بغية التبحر العلمي، أما الرشدية الأصلية فقد احتفظت بين فلاسفة اليهود مثل ليفي بن جيرسون وإليا دي مديغو في بدوا

مجزوءة الإنسان:ملخص دروس الوعي واللاوعي,الرغبة,واللغة

1-مادة الفلسفة
2-المستوى الأولى باكالوريا
3-دروس الأسدس الأول
4-مجزوءة الإنسان
5-الموضوع المحور 1- مفهوم الوعي واللاوعي
6-الأستاذ محمد بضاض
تحلیل نص سيكموند فروید: فرضیة اللاشعور
إشكال النص
 ما هي العلاقة الموجودة بین الوعي و اللاوعي ؟
 ومن منهما یتحكم في الحیاة النفسیة للإنسان ؟
أطروحة النص
یعطي فروید الأسبقیة لللاشعور واللاوعي في تفسیر الأنشطة الصادرة عن الجهاز النفسي، فالجزء الأكبر في هذا الجهاز تحتله الدوافع الللاشعوریة التي تقف وراء معظم أفعال الإنسان وإبداعاته الفكریة والفنیة.
البنیة المفاهیمیة للنص
مكونات الجهاز النفسي حسب فروید:
الهو
 هو أصل الجهاز النفسي.
 یمثل الرغبات الغریزیة التي تهدف إلى تحقیق اللّذة الحسیة.
 لاعقلي، لاشعوري و لا منطقي .
 لا زماني ولا مكاني .
الأنا
 ینشأ عن اصطدام رغبات الهو بالواقع
 یمثل منطقة الصراع في الجهاز النفسي، حیث یقوم بوظیفة أساسیة هي التوفیق بین الرغبات اللامعقولیة للهو والأوامر المثالیة للأنا الأعلى.
 یمثل مبدأ الواقع.
الأنا الأعلى
 یمثل مبدأ المثال.
 یمثل القیم الأخلاقیة العلیا (الضمیر الأخلاقي).
 ینشأ عن تقمص الطفل للأوامر العلیا لوالدیه أو لمن یعتبرهم قدوة بالنسبة إلیه.
الشعور
هو معرفة مباشرة بالحالات النفسیة، ومجال الشعور هو مجموع العواطف والأفكار والصور التي تؤسس الحیاة العقلیة لكل فرد.
اللاشعور
هو جانب عمیق في الحیاة النفسیة یتكون من المیولات والرغبات المكبوتة، والتي تعبر عن نفسها في الأحلام و النكت وزلات القلم وفلتات اللسان .
الحلم
هو تعبیر رمزي عن رغبات لاشعوریة یصعب تحقیقها في الواقع نظرا لرقابة الأنا والأنا الأعلى، فیحتال علیهما الهو لیلا أو نهارا لكي یحقق رغباته .
اللیبیدو
هو الطاقة النفسیة المتعلقة بالغرائز الجنسیة، كما یقصد فروید باللیبیدو “الرغبة الجنسیة المتجهة نحو الموضوع“.
عقدة أودیب
تتلخص في حب الطفل لأمه وكرهه لأبیه، ویسمي فروید هذه الحالة بعقدة أودیب نسبة إلى الملك أودیب الذي روت الأسطورة الیونانیة أنه قتل أباه من غیر علم منه، فلما علم الحقیقة فقأعینیه حزنا و كمدا .
البنیة الحجاجیة للنص
دافع فروید عن أطروحته القائلة بأن اللاشعور هو أساس الحیاة النفسیة بالإعتماد على الأسالیب الحجاجیة التالیة:
 أسلوب المقارنة: إذا ما قارنا الشعور واللاشعور على مستوى الحیاة النفسیة سنجد أن الحیز الأكبر منها تمثله منطقة اللاشعور، بینما لا تمثل منطقة الشعور إلا الجزء الضئیل.
 أسلوب المثال: یتجلى في مثال الحلم الذي یعبر عن الرغبات اللاشعوریة التي تفصح عن نفسها بكیفیة مقنعة و مرموزة، وأیضا مثال الهستیریا التي هي عبارة عن اضطرابات عصابیة تعبر عن دوافع لاشعوریة وجنسیة.
الأدوات اللغویة / المنطقیة وظائفها الحجاجیة
لا نبالغ …
أن نفترض …
فأما و قد …
إننا لن نعزوها إلى … بل إلى… رفض الأطروحة النقیض التي ترتكز على الشعور في تفسیر
الحیاة النفسیة .
طرح الفرضیة/ الأطروحة القائلة بأن اللاشعور هو أساس
الحیاة النفسیة .
الإشارة إلى الدراسات النفسیة التي تؤكد على أهمیة الحلم
و علاقته
بالدوافع اللاشعوریة.
الوقائع التي تظهر في الحلم لا یجب فهمها كما تظهر فیه،
بل یجب اعتبارها تعبیرا عن رغبات لاشعوریة.

یقول فروید: “الأحلام هي الطریق الملكي إلى اللاشعور“، ویقول أیضا: “إن الفوضى الظاهرة في الحلم لیست إلا شیئا ظاهریا لا یلبث أن یختفي حینما نمعن النظر في الحلم“ .
تحلیل نص ألان
إشكال النص
مالذي یتحكم في أفكار الإنسان وسلوكاته الشعور أم اللاشعور؟
أطروحة النص
یرفض ألان فكرة فروید القائلة بأن اللاشعور هو الذي یتحكم في الذات، ویقول على العكس من ذلك أن أفكارنا و سلوكاتنا هي نتائج للوعي، أي لذات فاعلة ومتكلمة.
مفاهیم النص
العلیة
هي المبدأ القائل بأن لكل حادث سبب أدى إلى حدوثه، و جعله على هذه الكیفیة ولیس على كیفیة أخرى. حسب أرسطو هناك أربع علل ضروریة من أجل إیجاد شیئا ما (مثلا صنع كرسي):
 العلة الفاعلة: النجار
 العلة المادیة: الخشب
 العلة الصوریة: شكل الكرسي
 العلة الغائیة: الجلوس
الرمزیة
هي ظهور وقائع الحلم في شكل رموز وعلامات مخالفة للوقائع الحقیقیة على مستوى الواقع.
الذات الفاعلة
هي العقل الواعي المتحكم في أفكار الإنسان وسلوكاته.
حجاج النص
یعتمد صاحب النص على أسلوبي السجال ونقد مفهوم اللاشعور كما قدمه علم النفس الفرویدي:
صعوبة فهم وتحدید اللاشعوري .
 لفظ اللاشعور هو من نسج خیال فروید، إنه شخصیة أسطوریة.
 لا یمكن القول بأن الغریزة لاشعوریة، والسبب هو أنه لا یوجد أمامها شعور حیواني تتمظهر من خلاله، وهذا یعني أن كل وعي أو شعور هو عقلي ومفكر فیه من قبل العقل الواعي.
 اعتبر ألان أن علامات الأحلام عادیة ویمكن تفسیرها انطلاقا من نظام رمزي سهل، وهذا بخلاف فروید الذي یذهب إلى أن الأحلام ذات رمزیة ملتویة ومعقدة.
 یرفض ألان أن یكون اللاشعور أنا آخر، بل إن كل أفكارنا وسلوكاتنا هي نتاج لإرادة صادرة عن الذات الواعیة الفاعلة والمتحكمة.
خلاصة تركیبیة
لقد تم اعتبار الإنسان في الفلسفة حیوانا ناطقا، وتم اعتبار أن الوعي هو السمة الأساسیة الممیزة له عن باقي الكائنات. هكذا فالوعي عند الفلاسفة كدیكارت وسارتر وألان هو المصدر أو الأساس الذي تنبني علیه كل الحقائق، فسلوكات الإنسان و أفكاره صادرة عن الوعي، غیر أن أبحاث فروید في مجال علم النفس أدت إلى اكتشاف اللاوعي أو اللاشعور، بحیث ثم اعتباره أساس الحیاة النفسیة وأنه یحتل الحیز الأكبر في الجهاز النفسي، وما الوعي سوى الجزء الضئیل الذي یتواجد على سطح هذا الجهاز، واعتبر فروید أن معظم سلوكات الإنسان وأشكال وعیه بذاته وبالعالم صادرة عن دوافع لاشعوریة تجد تجلیاتها في الأحلام والنكت وفلتات اللسان، وفي الإبداعات الفنیة والأمراض النفسیة.
1-مادة الفلسفة
2-المستوى الأولى باكالوريا
3-دروس الأسدس الأول
4-مجزوءة الإنسان
5-الموضوع المحور 2-مفهوم الرغبة
6-الأستاذ محمد بضاض

إشكال المحور
كیف تتفاعل الرغبة والإرادة في الإنسان؟
تحلیل نص إرنست بلوك
إشكال النص
 كیف تتحدد علاقة الرغبة بكل من الأمل والإرادة؟
 وكیف یمكن التمییز بین الأمل والإرادة؟
 وهل الإرادة رغبة قابلة للتنفیذ؟
أطروحة النص
یمیز إرنست بلوك بین سلبیة الرغبة حینما تقترن بمجرد الأمل، وبین إیجابیتها حینما تقترن بالإرادة. فالأمل یجعل الرغبة حبیسة الخیال وغیر معقولة أحیانا، في حین توفر الإرادة للرغبة شروط وعناصر التحقق الفعلي على أرض الواقع، كما تجعلها معقولة في ذاتها. إن الإرادة إذن هي رغبة قابلة للتنفیذ.
البنیة المفاهیمیة للنص
الرغبة ↔ الأمل: حینما تقترن الرغبة بالأمل تظل بعیدة عن العمل والنشاط الفعلي، وتبقى في حدود التمني والحلم.
الرغبة ↔ الإرادة: تأجج الرغبة من حماس الإرادة وتمثل طاقة نفسیة لتحریكها، بینما تجعل الإرادة الرغبة قابلة للتنفیذ وتوفر لها أسباب التحقق والإنجاز الفعلیین.
الأمل ↔ الإرادة: الأمل سلبي ویرتبط بالخیال والتمني كما لا یكون معقولا أحیانا، بینما الإرادة إیجابیة وتتضمن العمل والنشاط الواقعي.
یقول فولكیي: “تعني الإرادة ملكة یملكها الكائن المفكر من أجل أن یقرر فعل شيء وفق أسباب مختلفة، الشيء الذي یفترض الوعي والتأمل”. ← تتمیز الإرادة إذن بعنصرین أساسیین هما المعقولیة والواقعیة، فهي تفترض عنصر العقل والوعي مما یجعلها خاصیة إنسانیة، كما تتطلب الأسباب والشروط الكفیلة بتحقیقها على أرض الواقع.
الأسالیب الحجاجیة
اعتمد صاحب النص على أسلوبین حجاجیین رئیسیین من أجل التمییز بین الأمل والإرادة:
أسلوب المثال
وقد قدم صاحب النص ثلاثة أمثلة رئیسیة:
 مثال الشخص الذي یتمنى أن یكون الطقس جمیلا غدا: وقد أراد إرنست بلوك أن یوضح من خلال هذا المثال طبیعة الأمل، وكیف أنه یظل في نطاق التمني ولا یتحقق واقعیا.
 مثال الشخص الذي یتمنى عودة میت إلى الحیاة: أراد صاحب النص أن یوضح لنا في هذا المثال لامعقولیة الأمل.
 مثال لأناس ضعاف الشخصیة أو مترددین ومتخاذلین: فهؤلاء ذوو آمال وتمنیات، لكن تنقصهم الإرادة. فالغرض من هذا المثال إذن هو التمییز بین الأمل والإرادة، إذ یظل الأول حبیس التمني والخیال، بینما ترقى الثانیة إلى مستوى الواقع والتحقق الفعلي.
أسلوب المقارنة
حیث نجد في الفقرة الأخیرة مقارنة بین الأمل والإرادة یمكن توضیحها كما یلي:
خصائص الأمل خصائص الإرادة
الكثرة
انعدام الوسائل
الطول
الخیال
رغبة غیر قابلة للتنفیذ
إیقاع بطيء
رغبة غیر محددة بدقة
رغبات غیر معقولة في الغالب القلة
توفر الوسائل
القصر
الواقع
رغبة قابلة للتنفیذ
إیقاع سریع
رغبة محددة بدقة
رغبات معقولة

یتبین من خلال الجدول الاختلافات الموجودة بین الأمل والإرادة في مجموعة من الخصائص التي تمیزهما. ففي الوقت الذي نجد أن الآمال كثیرة، فإنه لا یتحقق منها إلا القلیل، كما قد تطول فترة الأمل لأنها غیر محددة بدقة من جهة، ولأن الإیقاع الذي تتحرك فیه سعیا نحو التحقق هو إیقاع بطيء، في حین أن إیقاع الإرادة سریع لأنها تحقق هدفها في وقت وجیز، والسبب في ذلك هو أن الإرادة توفر لنفسها الأسباب والوسائل الضروریة لإنجاز الفعل وتحقیقه على أرض الواقع، في حین تغیب تلك الوسائل والأسباب في الأمل وتظل الرغبات المقترنة به راقدة وحبیسة الخیال.
1-مادة الفلسفة
2-المستوى الأولى باكالوريا
3-دروس الأسدس الأول
4-مجزوءة الإنسان
5-الموضوع المحور 3-مفهوم اللغة (شعبة الآداب والعلوم الإنسانية)
6-الأستاذ محمد بضاض

إطار الدرس
يعتبر مفهوم اللغة من بين أهم المفاهيم التي إنشغلت بها الفلسفة المعاصرة واللسانيات وكذلك بعض العلوم الإنسانية مثل علم النفس اللغوي وعلم الاجتماع، وهكذا فإن مقاربتنا لهذا المفهوم ستخضع لمقاربة فلسفية وأخرى علمية.
من الدلالات إلى الإشكالية
الدلالة العامة
في هذه الدلالة ترتبط اللغة بالكلام إذ يقول عامة الناس فلان يتكلم اللغة العربية أو الفرنسية… إذا تمعنا في هذا التعريف لن نستطيع التمييز بين اللغة والكلام. فهل اللغة هي الكلام، أم تتجاوزه إلى أشياء أخرى ؟ هذا ما سنعرفه من خلال دلالتين اللغوية والفلسفية.
الدلالة اللغوية
يقول إبن منضور عن اللغة “أصوات يعبر بها قوم عن أغراضه”، لنحلل هذا التعريف:
يحصر هذا التعريف اللغة في الأصوات وهذا يعين أن الأصوات كلام، الشيء الذي يجعل إبن منضور لايخرج عن الدلالة العامية التي تربط اللغة بالكلام. إن إعتبار اللغة أصوات يجعلنا نطرح تساؤلين: كيف يتواصل الحدواليك إذا إختزلنا اللغة في الكلام والصوت؟ بمعنى آخر هل الأصوات هي الوسيلة الوحيدة للتواصل والتعبير ؟ (الحيوانات لها أصوات، فهل معنى هذا أن لها لغة ؟)، نضيف إلى هذه الاستنتاجات خلاصة أخرى ترتبط بالوظيفة النجيرية للغة، الشيء الذي يدفعنا إلى طرح التساؤل التالي: أليست هناك وظائف أخرى للغة غير التعبير كمثل الإخفاء – الكذب… ؟
يجعل التعريف السالف الذكر اللغة مرتبطة بقوم معين الشيء الذي يدفع إلى التساؤل إن كانت هناك لغة كونية ؟
الدلالة الفلسفية
كل هذه الأمثلة السابقة تبين بوضوح المغالطات والتناقضات التي تقع فيها الدلالة اللغوية، مما يفرض علينا الأنتقال إلى الدلالة الفلسفية . يقول لا لونك أن للغة معنيان، معنى خاص ومعنى عام. معنى خاص : وظيفة التعبير الكلامي عن الفكر داخليا وخارجيا. معنى عام: ذلك وكل نسق من العلامات يمكن أن يتخذ وسيلة للتواصل”.
إستنتاج
نستنتج من هذا التعريف أن اللغة بالمعنى الخاص تتقابل مع الكلام واللسان، باعتبار الكلام نوعا من اللغة وليس كلها واللسان خاص بمجتمع معين، أما اللغة فهي مشتركة بين البشر.
من خلال هذه الاستنتاجات يمكن إستخلاص الإشكالية الفلسفية لدرس اللغة، نحملها على الشكل التالي: إذا كانت اللغة حسب لا لند تعبر عن الفكر أفلا يمكن أن نقول العكس، أنها تؤدي إلى الأخطاء والكذب أكثر من الكشف والتعبير ؟ ثم ماهي علاقتها بالفكر والأشياء (الواقع) ؟ واذا كانت اللغة علامات صوتية والحيوانات لها أصوات، فهل معنى ذلك أنها تشترك مع الانسان في إمتلاك اللغة ؟ أم أن اللغة تبقى خاصية إنسانية ؟ ما طبيعة العلامة والرمز اللسانيات وما علاقتهما بالمعنى والدلالة ؟ هل اللغة تعبر عن الواقع أم عن الفكر ؟ وهل يمكن تصور فكر في إستقلال عن اللغة ؟ كيف تؤدي اللغة وظيفة التواصل ؟.
اللغة الانسانية واللغة الحيوانية: تحليل نص “الكلام خاصية للإنسان”
مقدمة
مثل هذا النص وجهة النظر العقلانية حول إشكالية اللغة الإنسانية والحيوانية، وقد إنطلق في هذا النص من التساؤل التالي: هل يمكن إعتبار اللغة قاسما مشتركا بين الانسان والحيوان ؟ بمعنى آخر هل الحيوان قادر عن الكلام كما هو الشأن بالنسبة للإنسان. واذا كان الجواب بالنفي فما الذي يفسر قدرة الإنسان على الكلام. هل يرجع ذلك إلى العقل أم إلى الغريزة.
موقف ديكارت
لايخرج جواب ديكارت على هذه التساؤلات خارج إطار فلسفية العقلانية التي تجعل من العقل أساس تصوره إشكالية اللغة، وبناء عليه يؤكد ديكارت أن اللغة خاصية تقتصر على الإنسان ولا وجود للغة بهذا المعنى لذى الحيوان، ويفسر ديكارت ذلك، أي قدرة الانسان على الكلام بإمتلاكه العقل مهما كانت درجة هذا العقل من البساطة، حتى ولو كان هذا الإنسان يفتقر لجهاز النطق فإنه قادر على التعبير والتواصل كما هو حال الصم والبكم. أما ما تردده بعض الحيوانات مثل العقعق والببغاء من كلام فيعتبره ديكارت مجرد إنفعالات غريزية وإستجابات آلية لا تعكس وعيه بما يقول، وبالتالي فإن اللغة خاصة بالإنسان دونه والحيوان.
وقد اعتمد ديكارت في دفاعه عن موقفه (أطروحته) هاته إعتمادا على منهجية إستدلالية أو حجاجية تنبني على المقارنة بين الإنسان والحيوان فيما يتعلق بإشكالية اللغة، وقد قدم في هذا الإطار مجموعة من الأمثلة المدعمة والموضحة لأطروحته (كالصم والبكم والعقعق والببغاء)، كما وظف الروابط المنطقية (هما – حنين وبالعكس ولكنها – أي في حين) والهدف من كل هذا هو الوصول إلى الخلاصة التالية وهي أن الكلام خاصية إنسانية فقط نظرا لإمتلاك الانسان للعقل.
الموقف اللساني
يؤثر هذا التصور الفلسفي نتائج الدراسات اللسانية المعاصرة، إذ يؤكد بناء على دراسات العالم الألماني لأشكال التواصل لدى النحل حدد فيها ثلاث خصائص للغة الإنسانية وهي :
 الإرتكاز على الصوت.
 تحرر العلامة أو الرمز من الموضوع الخارجي.
 قابلية الكلام البشري للتفكيك إلى وحدات لغوية وصوتية دالة وأخرى غير دالة قابلة للتأليف واعادة التأليف إلى مالا نهاية.
وبناء على هذه الخاصية الثالثة تستخلص خاصية رابعة هي التمفصل المزدوج، ولتوضيح هذه الخاصية يميز نوعين من الوحدات اللغوية:
 الشوينقان: وهي وحدات لغوية دالة تقبل التجزئة إلى وحدات أصغر غير دالة وهي ما يسمى بالكلمات (كوثر).
 الفويمات: وهي وحدات صوتية غير دالة لاتقبل التجزئة مثل الحروف ويتمثل التمفصل المزدوج في المثال التالي، ستذهب كوثر.

  1. المفصل الأول : وهو الذي يكون بين المونيمات والكلمات، وحينما نغير موقع الكلمة أو حذفها ونستبدلها بأخرى بتغير كلمة المعنى وهذا ما يسمى بالتأليف واعادة التأليف بين المونيمات لإنتاج دلالات جديدة : س + قد + ذهب + كوثر. نحذف ذهب ونستبدلها بكلمة أتى.
  2. المنفصل الثاني : وهو الذي يكون بين الحروف أو الفونسيان حيث إذا غيرنا مواقعنا داخل الكلمة (المونيمة) أو إذا إستبدلناها بأخرى فتعطي معنى جديد مثل : كل ملك – لك.
    خلاصة
    هكذا يكون بمقدور الانسان أن ينتج مالا نهاية من العبارات والكلمات ومن تم من الدلالات والمعاني من عدد محدود من الوحدات اللغوية البسيطة، هذا ويعتبر أن العلامة والزمن نتاج للنشاط العقلي للإنسان حيث يتخذها وسائط رمزية تمثيلية تربط بشكل غير مباشر بين الفكر والواقع. وتمكن الانسان من التحرر من سلطة الواقع المادي بواسطة ذلك النظام الرمزي الذي يتشكل من: علوم – فلسفات – بيانات – فنون – أساطير… وهكذا يكون الانسان عبارة عن حيوان رامز لايدرك الواقع ولا يتواصل مع الآخرين إلا من خلال أنساق رمزية. وكلما تقدم هذا النسق الرمزي إلا وتوارى الواقع إلى الوراء ليعيش الانسان وجها لوجه أمام الفكر كبعد آخر من أبعاد الواقع حيث يجد نفسه أمام نظام رمزي لا يحيل مباشرة على الواقع الخارجي، وانما يحيل على
    تصور أو فكرة. ذلك أن الأفكار هي العمل الطبيعية للأشياء، أما العلامات والرموز اللسانية فهي علامات للأفكار، فكيف تنشأ الدلالة والمعنى ؟ كيف تنشأ الدلالة والرمز اللسانيات ؟ وماعلاقتهما بالأشياء والموضوعات.
    تحليل نص هيكل Hegel
    مقدمة
    يمثل النص الذي بين أيدينا وجهة النظر العقلانية الجدلية حول إشكالية العلامة والرمز اللسانيات فما هي العلامة وماهو الرمز ؟ وما هو الفرق بينهما ؟ وما هي علاقتها بالأشياء والفكر ؟ .
    عرض
    يعطي هيكل في هذا النص معنيان للعلامة، معنى عام حيث يكون للرمز والعلامة لنفس المعنى، ومعنى خاص حيث يكون لهما معنيان متناقضان. وهكذا يعتبر هيكل أن العلاقة بين الدال والمدلول في العلامة الخاصة هي علاقة إعتباطية، نتيجة المواضعة والاتفاق، فالعلاقة هنا غريبة وعرضية إذ ليس هناك أي قاسم مشترك بين الدال والمدلول اللهم ما إصطلح عليه الناس. لكن في المقابل نجد أن العلاقة بين الدال والمدلول في العلامة الخاصة التي تكون الرمز هي علاقة طبيعية فهي ليست علامة إعتباطية ولا محايدة، بل إنهما يشتركان في بعض الخصائص مع أنهما يختلفان في أخرى، فتطابقهما ليس كاملا ولا تاما بل هو تطابق جزءي والا لما كان الرمز رمزا.
    وقد قسم هيكل نصه هذا إلى قسمين (فقرتين) تبتدأ الفقرة الأولى من بداية النص الأمة مثلا، حاول من خلالها أن يحلل إشكالية العلامة، أما الفقرة الثانية فتبدأ من الأمر مختلف إلى نهاية النص تطرق فيها إلى إشكالية الرمز.
    وقد دافع عن موقفه من العلامة والرمز إعتمادا على أسلوب التمثيل حيث قدم مجموعة من الأمثلة الملموسة كالألوان التي تدل على أمة من الأمم أما في الرمز فقد قدم مثال الأسد والثعلب والدائرة موظفا في هذا الإطار أسلوب المقارنة والتقابل بين العلامة من جهة والرمز من جهة أخرى، مستعملا مجموعة من الروابط المنطقية مثل : غير – بين – إنما – هكذا – ذلك… كما إستعمل أسلوب النفي لايتلان والاستثناء ولكن ..بل والتأكيد إن وكذلك الاستنتاج وهكذا… وهكذا تنتهي مع هيكل إلى أن العلامة إعتباطية بينما الرمز علامة طبيعية.
    لكن هل يمكن إعتبار جميع العلامات ذات بعد إعتباطي متفق عليه ؟ ألا نجد بعض العلامات تحاكي الطبيعية مثل كلمة دقيق – حرير – نافذة…؟ .
    في مقابل أطروحة هيكل حول العلامة يعتبر أفلاطون العلاقة بين الدال والمدلول طبيعية وليست إعتباطية إذ يرى أن لكل شيء علامة أو إسما منسوبا إليه بصورة طبيعية وأن هذا الإسم ليس مصدره الانفاق ولكن الطبيعة هي التي منحت للأسماء معانيها، وأن كل شيء يأخذ إسمه من الطبيعة من خلال المحاكاة وتقليدها، وأن المشرع الذي يستطيع محاكاة الطبيعة هو المؤهل في نظر هيكل لتجزئ الصورة في الحروف والمقاطع اللسانية. وهكذا فإن الكلمات والأسماء تحاكي أصوات الطبيعة مثل حرير المياه، لفيف الأشجار.
    خاتمة
    في هذا النص نرى أن هناك علاقة تعارضية بين هيكل وأفلاطون في إعطاء مفهوم العلامة والرمز فكل حسب مايراه، فهيكل يرى أن العلامة لاترتبط بالطبيعة عكس أفلاطون الذي يراها محاكاة للطبيعة.
    اللغة – الفكر – التواصل – السلطة
    تمهيد
    من تطرق في هذا المحور إلى دراسة طبيعة العلاقة بين اللغة والفكر من جهة والسلطة من جهة ثانية، ثم وظائف اللغة، فإذا علمنا أن لكل من اللغة والفكر طبيعتان متناقضتان فكيف يمكن الحديث عن العلاقة بينهما ؟ بمعنى آخر ماهي طبيعة العلاقة بين اللغة والفكر ؟ هل هما منفصلان أم متصلان ؟ هل الفكر سابق عن اللغة أم مستقل عنها .؟ أم أنها أساسا الفكر ومنتجة ؟
    الأطروحة الميتاويزيفية
    تقول بأسبقية الفكر عن اللغة واستقلاله عنها ويتبناها كل من أفلاطون – ديكارت – برجسون.
    موقف أفلاطون
    إذا كانت المعرفة حسب أفلاطون تذكر والجهل نسيان، فإن الأفكار تكون موجودة في أعماق النفس ينبغي فقط تذكرها بواسطة التأمل العقلي، وعليه فاللغة حسب أفلاطون لاتصنع الفكر لأنه سابق في وجوده عليها وما ينبغي القيام به هو تذكر من أجل معرفته، فالفكر هنا صورة توجد في عالم المثل أما اللغة فهي في العالم نفسه عالم الحلال والأوهام.
    موقف ديكارت
    إنطلاقا من “أنا أفكر إذا أنا موجود” يعتبر ديكارت الفكر جوهر روحي مستقل خاصيته الوحيدة هي التفكير أما اللغة بإعتبارها أصوات فهي جوهر ممتد، ومن تم فاللغة والفكر حسب ديكارت من طبيعتين متناقضين هو روحي وهي مادية وبالتالي فالفكر مستقل عن اللغة و منفصل عنها.
    موقف هنري برجسون
    يرى برجسون أن لغة العقل التي تقوم علم التقسيم والتجزئ والقياس والتكمين تبقى عاجزة عن التعبير عن الفكر وادراك الأيمومة النفسية التي لانفردها إلا بالحدس، خصوصا ما يتعلق بالتجارب الروحية والاشراقات الصوفية حيث تبدو هذه التجارب أغنى وأوسع من اللغة العادية التي رغم أنها مكنت الانسان من السيطرة على الطبيعة وتحريره من سلطة الأشياء فإنها تبقى في نطاق التجارب السطحية في حالات الوعي والشعور.
    الأطروحة العلمية (اللسانية)
    على عكس التصور التقريبي لعلاقة اللغة بالفكر يعتبر هذا الفيلسوف أن الفكر بدون لغة ليس سوف كتلة عديمة الشكل غير متميزة لا فواحل فيها ولا وحدات، إنه ليس سوى غماء وشديد ليس فيه شيء محدد، وهو مضطر لكي يزول عن عمائه إلى الاستعانة باللغة من أجل التمييز بين فكرتين ومعنيين بصورة واضحة، فاللغة هي التي تضع تقسيمات وتفصل بين الوحدات لكي تتضح الأفكار وتتمايز، وهكذا ليس هناك فكر سابق عن اللغة ومنفصل عنها. ومن أجل البرهنة على هذه الأطروحة قدم هذا الفيلسوف مجموعة من الأمثلة وقد شبهها بنسمة ريح هبت على صهريج ماء فادت إلى جعل سطح الماء ينقسم إلى تقسيمات وتموجات، فهذه التموجات هي التي تعطينا فكرة عن علاقة اللغة بالفكر، كما قدم مثالا آخر شبه فيه علاقة اللغة بالفكر بوجهي الورقة النقدية، فالوجه هو الفكر والمظهر هو اللغة، ولا يمكن أن نحدث قطعا في وجه الورقة دون أن نقطع ظهرها في نفس الوقت. وهكذا لايمكن تصور فكر بمجزل عن اللغة بل هما متداخلات كل منهما محتوى الآخر.
    تحليل نص “الفكر والكلام”
    مقدمة
    نعتبر النص الذي بين أيدينا أحد النماذج الفلسفية، التي تحاول التفكير في إشكالية اللغة والفكر وطبيعة العلاقة التي تجمعهما، من الناحية الفينومونولوجية، وبناء عليه يمكن طرح الإشكالية التالية :
     ماهي طبيعة العلاقة بين الكلام والفكر ؟
     هل يمكن أن يكون الكلام مجرد علامة للفكر ؟
     هل يمكن أن نقبل أن تكون علاقة الكلام بالفكر علاقة إنفصال ؟
     ألا يمكن على العكس من ذلك أن يكون الكلام هو جسد الفكر وحضوره ؟
    التحليل
    يؤكد ميرلوبونين في هذا النص أن علاقة اللغة بالفكر لا يمكن أن تكون إلا علاقة إتصال واحتواء متبادل لأنهما يتكونان في آن واحد، وهكذا فهو يرفض الموقف الكلاسيكي لعلاقة اللغة بالفكر، والذي يجعل الكلام مجرد علامة منفصلة عن ما تدل عليه. بمعنى آخر ينفي ميرلوبونتي أن يكون الكلام مجرد لباس أو غلاف للفكر لأن الكلام هو جسد الفكر وشعاره، فما يجعل الفكر يحصر إلى العالم الخارجي هذا الكلام إذ لا وجود لفكر خارج الكلمات والعلامات. وحتى التفكير الصامت الذي قد يوحي بانفصال اللغة عن الفكر في نظره كلام مهموس وبالتالي فالفكر ليس داخليا والكلام ليس شيئا خارجيا بل إنهما مظهران لوحدة اللغة مع الفكر.
    وقد إتخذ النص أسلوبا حجاجيا سجاليا بين موقفين متعارضين الأول يمثل التيار الكلاسيكي وهو الذي استهل به نصه ثم يتلوه مباشرة بموقفه الخاص مستعملا في ذلك مجموعة من الآليات الحجاجية، تعتمد بالخصوص على النفي (أليس – فلا – لا يحتل) أو الاستثناء (إلا) في محاولة لنفي الموقف الكلاسيكي. ثم تعتمد على آلية التأكيد للدفاع عن موقفه الخاص (إن – لابدء بل – خيران… كما إستعمل المنطق الشرطي دون أن ينسى توظيف تقنية نفسه (الصمت صحيح الكلام) الاستبطان لملاحظة التفكير الصامت الذي يبدو أنه تفكير لا يخلو من كلام ولو أن هذا الكلام غير مسموع. وفي هذا الإطار يمكن إستحضار تصور اللسانيات المعاصرة ممثلة في رائدها دي سوسي الذي يشبه علاقة اللغة بالفكر بوجهي الورقة النقدية… أو يشبه علاقة اللغة بالفكر بعلاقة الرياح بسطح الماء.
    هذه الأمثلة تؤكد على إتحاد اللغة بالفكر بحيث لايمكن تصور فكر بدون لغة. لكن ألا نجد في بعض الأحيان أن اللغة عاجزة عن التعبير عن الفكر ؟ أليست الطبيعة متناقضة لكل من الكلام والفكر سببا في إنفصالهما ؟ .
    المناقشة
    نجيب عن السؤال الأول : يؤكد برجسون (للرجوع إلى الدرس) بينما يذهب ديكارت في نفس إتجاه برجسون بناء على تناقض خصائص كل من اللغة والفكر….
    اللغة والتواصل
    تمهيد
    إذا كانت اللغة أداة للتعبير عن الفكر فهي أيضا عنصر للتواصل الاجتماعي، فلا مجتمع بدون لغة، كما أنه ليس هناك مجتمع بدون تواصل، فكيف يتحقق هذا التواصل ؟ هل في إطار من الوضوح والشفافية ؟ أم أن عملية التواصل هي عملية غير بريئة يشوبها الكذب والاخفاء ؟
    أطروحة رومان جاكوبسون
    تعتبر اللغة في النظرية التواصلية لجاكوبسون أداة تبليغ للمعرفة والأفكار والمشاعر والمعلومات في إطار من الوضوح والشفافية بشرط توفر العناصر التالية:
     السياق
     المرسل
     الرسالة
     المرسل إليه
    لكن هذه الوظيفة التواصلية للغة باعتبارها علاقة نقل خبر أو معلومات وأن هذه المعلومات هي بالتعريف تظهر على نحو صريح مكشوف أمام المتلقي قد أضحت موضع تساؤل من طرف اللسانيين أنفسهم، فهل تكون اللغة أداة شفافة وبريئة تمكن من نقل الأخبار بهذا الوضوح والشفافية ؟ ألا يمكن أن نقول العكس، أن اللغة أداة إخفاء وكتمان وكذب ؟
    أطروحة ديكرو
    يرى ديكرو أن العلاقات بين الذوات لاترتد إلى التواصل بمعناه الضيق، وانما تندرج تحت طائلة من العلاقات البشرية لا يصبح فيها اللسان أداة تواصل فقط، وانما إطار مؤسسا تقوم عليه تلك العلاقات، لايصبح اللسان شرطا للحياة الاجتماعية فقط وانما بمطالها، يحقد معها براءته، وشفافيته، هذا ما تؤكده التجربة اليومية، ذلك أن اللغة ليست وسيطا نزيها وشفافا بين الدوان المتخاطبة بل كثيرا ما تنقلب إلى آلية للإخفاء والكتمان، أو التظاهر بالإخفاء بواسطة آلية
    الاخصار، تتحول معها اللغة إلى قواعد لعب يومي لا بالمعنى السطحي للكلمة وانما كاستراتيجية تعتمد الحساب والتقدير المسبقين للنتائج، لايتحمل معها المتكلم مسؤولية النطاق بها. تعود ضرورة الاخمار هذه في العلاقات الاجتماعية إلى مجموعة من المحرمات اللغوية والدينية والاجتماعية والثقافية والى عوامل نفسية لاشعورية أو شعورية، ولاتقف هذه الإكراهات عند هذا الحد بل هناك إكراهات والزامات أخرى تفرض سلطتها على المتكلم تسمى بالإكراهات اللسانية، فما هي هذه الاكراهات ؟ وكيف تفرض اللغة تسيطرتها على المتكلم ؟ .
    اللغة والسلطة
    أطروحات رولان بارت
    يرى رولان بارت أن كل إنسان هو عبارة عن تصنيف قمتي يتحدد بالالزام والاكراه والارغام أكثر مما يتحدد بالمستحسن والمباح، وهكذا فالمتكلم ملزم باحترام قواعد معينة، ملزم باستعمال إما المذكر أو المؤنث، ملزم بتمييز ذاته عن الغير باستعمال ضمير المخاطب أنت أو أنتم، وهكذا فالفرد لايتكلم حسب إرادته ولكن سبقا لما تريده وتحدده القوانين اللسانية، لذلك تتجاوز اللغة في نظر رولان بارت وظيفة التبليغ والتواصل لتصبح أداة للسلطة والايضاح والارغام، وعليه يعتقد رولان بارت أنه ما أن ينطق الانسان حتى ينخرط في خدمة سلطة معينة، التي تجبر الأفراد على إنتاج خطابات تبعا لقواعد محددة سلفا.
    وهكذا يميز رولان بارت بين نمطين من السلطة في اللغة، تجعل المتكلم سيدا وعبدا في نفس الوقت، سيد من حيث الطابع الالكاتي التوكيلي للغة الذي تجعله ينصت ما يقوله. وعبدا من حيث الطابع القطيعي للتكرار. هكذا نخلص مع رولان بارت أن لا حرية إلا خارج اللغة، وبما أن اللغة لا خارج لها فلا محيل لنا عنها إلا عن طريق المستحيل.