الارادة القديمة بين الغزالي(ت505ه) وابن رشد(ت595ه)

جمعة طيبة عليكم أصدقائنا ها نحن نعود لكم بعد فترة إنقطاع عن النشر كنا فيها في رحلة علاجية مع مرض كرونا وقاكم الله من شره وجنبكم إبتلائه

حجج الغزالي

للغزالي حيث يقول لماذا تنكرون على خصومكم الاعتقاد بالارداة القديمة وما المحيل له, أي الاعتقاد بمبدأ التراخي: كان الله ولم يكن معه شيء, ثم تعلقت ارادته القديمة بخلق الكون في وقت دون وقت غيره. أي ان ليس هناك علاقة ضرورية بين العلة والمعلول, وحيث تكون العلة موجودة والمعلول غير موجود. وهذا يتنافى مع ما يعتقد به الفلاسفة: وهو التلازم الضروري بين العلة والمعلول. أي انهم يعتقدون بانه اذا وجد الموجُب (العلة) بتمام شروطه (العلة التامة), فلا يجوز ان يتأخر الموجَب (المعلول). أو بالاحرى يرى الفلاسفة ان وجود المَوجب عند تحقق المُوجب بتمام شروطه ضروري وتأخره محال.

فإن قيل: القديم صفاته عين ذاته, وقبل وجود العالم كان المريد موجوداً والارادة موجودة ونسبتها الى المراد موجودة ولم يتجدد لا مريد ولا ارادة ولا نسبة, فلا بد بالضرورة من حصول المعلول. او بالاحرى كيف يحصل العالم ؟ و لماذا لم يتجدد شي من هذه من قبل, اي المرجح. فان لم يحدث اي تغير لا في المريد و لا في الارادة ولا في النسبة ولا في اي حال من الاحوال فهذا قول متناقض . اي بقيت حال القديم هي هي قبل و بعد. ويعني ان عدم وجود تمايز بين حال الترك و حال الشروع امر محال.

الغزالي كان يعتقد بمبدا تخلف المعلول عن علته التامة, اي مبدا التراخي الذي هو اصل من اصول الاشاعرة. وهذا المبدأ ينص على انه ليس هناك علاقة ضرورية بين العلة و المعلول. ولكن الغزالي ادخل مواضيع على لسان الفلاسفة لم يقولوها ليضعف اقوالهم و اثارة الشك فيها (أسافينُ[2]), اي انه ادخل امور وضعية (وهي الامور المتعارف عليها من قانون او شرع او تقليد …الخ) [3].

و يقول “وهذا ليس استحالة الجنس في الموجب والموجب له بل في العرفي والوضعي ايضا” . اي إذا وجدت العلة فلابد من حصول المعلول بالضرورة.

وينطبق هذا مثلا على ان الرجل عندما يطلق زوجته فان البينونة تحصل فورا لان لفظ الطلاق هو علة الحكم وصفا و اصطلاحا و شرعا , و بالتالي لا يُعقل ان يتاخر الطلاق (المعلول ) عن اللفظ ( العلة ) . و هذا هو واحد من الاسافين التي ادخلها الغزالي على لسان الفلاسفة ليشوش ويضعف اقوالهم امام حشد المعجبين بهم

.
ويتابع الغزالي بالقول انه “اذا علق الزوج الطلاق بمجئ الغد او بدخول الدار كما القول ” اذا خرجت من هذا المنزل فانت طالق , فان الطلاق فلا يقع في الحال لانه علقه على امر منتظر .
و هذا هو المثال الشرعي, و اما في العرف و العادة فهناك نوعين من الفعل :

الاول هو القصد على الفعل

والثاني هو على الفعل العزم

و وهنا يريد ان يقول الغزالي انه اذا لم نقبل هذه الامور في العرف و العادة فكيف نقبلها في الامور الضرورية ؟ اي تخلف المعلول عن علته التامة.

في العرف و العادة ما قد لا يحصل عن القصد بوجود المقصود سببه وجود مانع. اي لا يتاخر حصول المقصود عن وجود القصد الا بمانع, لان القصد موجب للفعل بينما العزم غير كافي لوجود الفعل مالم يحصل باعث في النفس يجدد حال في الفعل .و اذا كانت الارادة قديمة فلا يتصور تاخر المقصود الا لغاية . و هذا في مجال قياس الغائب على الشاهد , و هذا ما نقضه ابن رشد: لا يجوز قياس ارادة القديم الى ارادتنا.

و يتابع الغزالي ” ثم لا يمكن تصور تاخر القصد زمنيا عن المقصود الا اذا كان هناك العزم بدلا من القصد , اي اذا كانت الارادة قديمة في حكم العزم فلا تكون كافية لحصول المعزوم عليه لان العزم بحاجة الى انبعاث يجدد حال الفعل . و هذا لا يمكن ان يحصل للقديم لانه يعني تغير في احواله .
فمهما سميت الامور قصدا او ارادة فالسؤال يبقى هو هو ,, لماذا حدث الان و لم يحصل من قبل ؟؟؟
خلاصة : اذا وجود الموجب بتمام شروطه و لم يكن قد حصل عنه شئ ثم انقلب بغتة من غير امر تجدد او شرط تحقق فان هذا قول محال متناقض بنفسه, اي يستحيل ان يحصل شي بعد ان لم يكن وإن لم يتغير شئ ما بالفعل .

ماذا يقول ابن رشد ؟

عندما رائ الغزالي عدم جواز القول بمبدا التراخي ( تراخي المفعول عن فعل الفاعل ) قال بجواز تراخيه عن ارادته .
لقد قلنا انه منذ كان الله كان عالما و قادرا و مريدا و بالتالي فاعلا ولكن عندما رائ الغزالي انه لا يجوز تراخي المفعول عن فعل الفاعل اي تراخيه عن ارادته و هذا لكي لا ينفي على الله ان يكون فاعلا ابدا . اي اذا كان المفعول يتاخر عن فعل الفاعل فهذا يعني ان الله لم يكن فاعلا ابدا .
يقول ابن رشد ان الفلاسفة اعتقدوا بامرين : فعل الفاعل بحاجة الى تغير وان كل تغير لابد له من مغير, ولكن القديم لا يتغير. وهذه من اصعب الامور برهانا كما يقول ابن رشد. اي ان الفلاسفة لا يستطيعوا برهنة ان الله لا يتغير و ان فعل الفاعل يلزمه تغير و ان كل تغير بحاجة لمغير وان القديم لا يتغير .
ابن رشد لا يكتفي ويضيف بأن كلام الغزالي سسفسطة [4] بل يريد ان يرشده الى الطريق الصحيح و هو بان ينزل فاعلا اولا او ينزل فعل له اول. ويقول ابن رشد ان هناك خلل في اعتراض الغزالي على دليل الفلاسفة في قدم العالم لأنه لا يمكن مقارنة الارادة الازلية ( الغائب ) على الارادة الحادثة ( الشاهد) اي ان الاشتراك الاسمي في كلمة ارادة لا يعطيه الحق لعمل مقارنة بينهما.
والاشتراك المعنوي بين الارادة الازلية و الحادثة غير ممكن لان الارادة الازلية مختلفة تماما عن الارادة الحادثة و يشتركان فقط بالاسم , لا بل وبينهما تضاد أيضا.
الارادة في الشاهد هي الحادثة و كما يقول ابن رشد “هي قوة فيها امكان فعل احد المتقابلين على السواء” . اما ان تفعل او ان لا تفعل , اما ان تسرق او ان لا تسرق . و فيها امكان الفعل و القبول على السواء, فيها شوق الفاعل الى فعله واذا فعله حصل المراد وكف الشوق.
و يقول ابن رشد ان ارادة الفاعل يمكن ان تكون لا ارادية و لا طبيعية , مثل قولنا عن القديم انه خارج العالم و داخل العالم. [5]
اذا كان حال التجدد لم يتميز عن الاحوال السابقة او اللاحقة فكيف يحدث اي شئ ؟. اذا كان المريد موجود و الارادة موجودة و نسبة الارادة الى المراد موجودة فما الذي تغير ؟ فلا بد ان يكون هناك شئ قد تغير و هذا غاية الاحالة لان القديم لا يتغير , و ليس استحالة هذا الجنس (التضاد, التغير …) بالعلاقة بين العلة و المعلول , الموجب و الموجب الضروري الذاتي , فهل يصح في العرف و الوضع لان الرجل لو تلفظ بطلاق زوجته ولم تحدث البينونة في الحال , لم يكن ليتصور انها ستحدث !!!. اي اذا قال الرجل : طالق و لم تحدث البينونة في الحال فهذا يعني انها لن تحدث بعد ذلك, لانه جعل اللفظ علة الحكم في الوضع و الاصطلاح , فلا يعقل تاخر المعلول (الطلاق) الا اذا عُلق بمجئ الغد او دخول الدار, أي علقه بشيء منتظر. فان لم يكن حاضرا بالوقت توقف حصول الموجب على حضور ما ليس بحاضرا فلا يحصل الموجب الا وقد تجدد امر ما, مثل مجئ الغد او دخول الدار.
فان لم يقبل هذا في الامور الوضعية فكيف نقبله بين الامور الضرورية (العلاقة بين الموجب و الموجب الذاتي الضروري ). او ان هناك اشياء تُحدث تغييرات و لا يحدث فيها تغيير ؟.
و يقول ابن رشد ان خصوم الغزالي و هم الفلاسفة قالوا ان فعل الفاعل يلزمه تغير و ان كل تغير له مغير و الاصل الثاني ان القديم لا يتغير و ان هذا كله عسير البيان على الفلاسفة . وما يجب ان يفعله الاشاعرة هو انزال الفاعل اولا او انزال فعل له اول. ويشرحها ببساطة بانه لا يمكنهم ان يضعوا ان حالة الفاعل في المفعول المحدث تكون في وقت الفعل هي نفسها في حالة عدم الفعل .!!! فاذا اوجبنا لكل حالة متجددة فاعلا فلا بد ان يكون الفاعل لها فاعلا اخر , اي انه حال الترك هي نفسها حال الشروع و هذا ما لا يعقل و لا يمكن قبوله , فلا بد من حالة متجددة او نسبة لم تكن اما في الفاعل او المفعول او في كليهما و ان كانت كذلك اما ان يكون الفاعل هو فاعلا اخر غير القديم لانه ليس الفاعل الاول و لا يكون مكتفي بفعله بنفسه بل لأن غيره الزمه على الفعل او ان تكون الحال التي هي في فعله هي نفسه, فلا يكون ذلك الفعل الذي فرض صادرا اولا عنه هو الاول بل يكون الفعل الاول لتلك الحال التي هي شرط حصول الفعل منه .
للتوضيح اذا سالتني ماذا غير رأيك ؟ فاما : ان يكون التغيير غير حاصل عني, و انما حصل من تاثير خارجي. وهذا يعني انني لست الفاعل الاول او انني غيرت رايي لانها تغيرت حالة ما كشرط لكي افعل و عندما حصلت هذه الحالة فعلت . و هذا يعني ان الفعل الاول هو تغير الحال .ثم كتب ابن رشد كتاب ماجي (محمود ابن محمد ابن عبد المعبود ابن الصباغ) وهو من سوفا يعرفكم مامعنا الفلسفه والمنطق في المستقبل .وهذا الكتاب التي قال الغزالي ان ابن رشد يكفر وينظر الي المستقبل.وياتدخل في شوأ الله وعلم الله عز وجل

بالضرورة العقلية (البديهيات) او بالنظر العقلي (القياس) ؟

يقول الغزالي على لسان الفلاسفة اذا وجد الموجب بكامل شروطه و لم يكن قد حصل عنه شيئا ثم انقلب بغتة من غير امر تجدد او شرط تحقق فانه محال بنفسه اي انه متناقض .
الغزالي يريد ان يوضح لنا ان اقوال الفلاسفة المتعلقة بالارادة القديمة هي من قبيل التحكم, اي انها وجه نظر تحكمية. فكيف تعرفتم على ان استحالة الارادة القديمة باحداث اي شئ , عن طريق ضرورة العقل (اي البديهيات) او بالنظر العقلي (بالقياس) ؟. الذي هو بحاجة لحد اوسط .

فاذا عرفتموه بطريقة العقل عليكم ان تاتوا بالبرهان

او اذا عرفتموه بضرورة العقل فيجب ان يعترف به كل الناس . و بما ان هناك الكثير من الناس يعتقدون خلافا لما تعتقدون به فهذا يستثني انكم استخدمتم الضرورة العقلية.

اذن ماذا فعلتم ايها الفلاسفة ؟. لقد قمتم بالاستبعاد و التمثيل , لقد مثلتم الارادة الالهية بالقصد الحاصل منا .
و هذا لا يجوز قياس ما له علاقة بالله مع ما له علاقة بالانسان. أما الاستبعاد فهو بحاجة لبرهان لانكم استبعدتم ان تكون الارادة الالهية قد تعقلت باحداث اي شئ .
فاذا ادلتكم ليست مبنية على القياس او على الضرورة العقلية فما هو الفصل بينكم و بين خصومكم الذين يدعون بان الارادة القديمة تعلقت باحداث الكون ؟.

تعدد العلم يؤدي الى تعدد المعلوم ؟

الفارابي و ابن سينا قالوا بان الله عقل و عاقل و معقول , و هو عقل يعقل ذاته و ذاته معقولة له من غير تكثر .
فيقول الغزالي انتم مثلكم مثل غيركم الذين يقولون ان هذا مستحيل بان يكون العلم و العالم و المعلوم امرا واحدا !! فلا بد ان يكون هنالك تمايز , كيف يمكن ان يكون هناك ذات واحدة تعرف كل الكليات والجزئيات بدون ان يكون فيها كثرة . لان تعدد العلم يؤدي الى تعدد المعلوم و بالتالي فصفات الله زائدة عن الذات الالهية و ليست عين للذات الالهية كما تقولون يا فلاسفة . اي انكم تقولون ان الله عالم بعلم هو عين ذاته مريد بارادة هي عين ذاته قادرة بقدرة هي عين ذاته . و مع انها صفات كثيرة الا انها لا تؤدي الى تكثر في الذات الالهية.

و عندما تناول الفلاسفة قصة العلم قالوا ان هناك معلومات كثيرة فكيف يمكن ان يعلمها جميعا دون ان يكون هناك تكثر في الذات الالهية. وقالوا ان الاشياء في الكون اما ان تكون من مادة او من غير مادة, أي العقل . و وبما ان الله لا يمكن ان يكون من مادة فهو بالتالي عقل, والعقل يعقل ذاته فتكون معقولة له

.
و هنا ارادوا المحافظة على احادية الذات الالهية وان ليس فيها تكثر.

وعندما اتى ابن سينا قال ان هناك جزئيات كثيرة و ان الله لا يعلمها و يعلم فقط الكليات. كما رؤية افلاطون الذي يقول ان هناك هرمية للاشياء تنتهي الى شيء واحد و هو راس الهرم. فجميع الحيوانات بمفهوم الحيوان و النباتات بمفهوم النبات و كل هذا بمفهوم الكائن الحي. كما تترتب هرمية المُثل الافلاطونية التي تنتهي الى مثال المثل و هو الله. اي ان الله يدرك الكليات الانسان و الحيوان و النبات على نحو الاجمال و لا يعلم الجزئيات. و هذا ما اخذوه على ابن سينا بالرغم من انه وجد مخرجا عن كيف ان الله يعلم الكليات و الجزئيات .

يقول الغزالي للفلاسفة لا يمكن ان يكون هناك ذات واحدة تعرف الكليات و الجزئيات من غير ان يكون فيها تكثر , اي يقول للفلاسفة لا فصل بينكم و بين خصومكم الذين يقولون ان الارادة القديمة تعلقت بحدوث لعالم , وكلا الفرضيتين مصاغتين بطريقة تحكمية . لانهما لا يعتمدان على قياس او ضرورة عقلية .

الفلاسفة قالوا بانه لا يجوز قياس الاول القديم على الحادث لان علمنا متكثر يتعدد بتعدد المعلوم. و هذا ما اجبر الفلاسفة, كما يقول الغزالي, على القول بان الله عقل و عاقل و معقول. ولكن بهذه الطريقة فهو لا يعلم الا نفسه. ولذلك كان هدف الفلاسفة هو المحافظة على احادية الذات الالهية.
يرد الغزالي: ان اتحاد العقل والعاقل والمعقول يؤدي بالضرورة الى ان الله لا يعلم صنعته, وهذا محال. فكيف يمكن ان يكون الصانع لا يعرف صنعته, وهذا هو قول الزائغين عن الحق.
فكما انتم تقولون ان الارادة القديمة لا يمكن ان تتعلق باحداث اي شيء, فنحن ايضا نقول وبنفس الطريقة التحكمية, ان العلم لا يمكن ان يكون واحد بتعدد المعلوم. ولذلك فصفات الله زائدة عن الذات الالهية.

ابن رشد ومسالة المعروف بنفسه (او الضرورة العقلية)

يصف ابن رشد اقوال الغزالي بانها ركيكة الاقناع. كما عندما طلب الغزالي من الفلاسفة برهنة مقولتهم بان المفعول لا يتأخر عن الفاعل الموجود بكامل شروطه, بواسطة قياس الحد الاوسط او ان يكون من المعارف الاولية, أي يجب ان يعترف به كل الناس. ولكن الامر ليس كذلك, يقول ابن رشد, لانه ليس من شرط المعروف بنفسه ان يعترف به كل الناس, بل على الاغلب يكون مشهورا.

جميع الفلاسفة قالوا بتعدد العلم بتعدد المعلوم, وبالتالي قالوا ان هناك اتحاد بين العالم المعلوم, للمحافظة على احادة الذات الالهية. فهل عندهم برهان على ذلك ؟.
ويقول ابن رشد ان ليس لدى الاشاعرة ايضا البرهان على تخلف المعلول عن علته التامة.

العالم بين الازلية والحدوث عند عمانؤيل كانت

طرح إيمانويل كانت منظورا جديدا في الفلسفة أثر ولا زال يؤثر في الفلسفة الأوربية حتى الآن أي أن تأثيره امتد منذ القرن الثامن عشر حتى القرن الحادي والعشرين. نشر أعمالا هامة وأساسية عن نظرية المعرفة وأعمالا أخرى متعلقة بالدين وأخرى عن القانون والتاريخ.

أما أكثر أعماله شهرة فهو كتابه نقد العقل المجرد الذي نشره سنة 1781 وهو على مشارف الستين من عمره. يبحث كانت في هذا الكتاب ويستقصي محدوديات وبنية العقل البشري ذاته. قام في كتابه هذا بالهجوم على الميتافيزيقيا التقليدية ونظرية المعرفة الكلاسيكية. وأجمل وأبدع مساهماته كانت في هذا المجال بالتحديد. ثم نشر أعمالا رئيسية أخرى في شيخوخته، منها كتابه نقد العقل العملي الذي بحث فيه جانب الأخلاق والضمير الإنساني، وكتابه نقد الحكم الذي استقصى فيه فلسفة الجمال والغائية.

تطرح الميتافيزيقا أسئلة عديدة حول الحقيقة المطلقة للأشياء. اعتقد كانت أن بالإمكان إصلاح وتهذيب الميتافيزيقا الكلاسيكية عن طريق تطبيق نظرية المعرفة عليها. حيث زعم أنه يمكننا باستخدام هذه الطريقة مواجهة الأسئلة التي تطرحها الميتافزيقا، والأهم من ذلك أن نعرف المصادر التي نستقي منها معرفتنا وأن نعرف ماهية حدود المعرفة التي يمكن الوصول إليها.

اقترح كانت أنه بعد أن نفهم ونعرف مصادر وحدود المعرفة الإنسانية والعقلية يمكننا طرح أي أسئلة ميتافيزيقية والحصول على أجوبه مثمرة. وسأل كانت سؤالا خطيرا هو هل للأشياء والمواضيع التي نعرفها خصائص معينة سابقة على تجربتنا وعلى إحساسنا. وأجاب على ذلك بأن جميع المواضيع والأشياء التي يمكن للعقل معرفتها تتم بطريقة يختارها العقل. ويضرب مثالا على ذلك أنه إذا استعد العقل للتفكير قبل أي موضوع واختار العقل التفكير بطريقة السببية فإننا بالتالي نعلم قبل ان نتعرف على أي موضوع ان الموضوع سيكون إما سببًا أو نتيجة.

ويصل كانت إلى نتيجة مفادها أن هناك مواضيع لا يمكن للعقل معرفتها عن طريق السببية. ونتيجة أخرى هي أن مبدأ السببية هو طريقة في التفكير لا يمكن أن تستقل عن التجربة والإحساس. ولا يستطيع مبدأ السببية الإجابة عن جميع الأسئلة. ويضرب مثالا للتوضيح هو هل العالم أزلي أم له مسبب؟، وبالتالي فإن أسئلة الميتافيزيقيا الأساسية لا يستطيع العقل الإنساني الإجابة عنها. لكن العقل يفهم ويعرف ويجيب عن أسئلة العلوم العادية لأنها تخضع لقوانينه.

ابتدع ايمانويل كانت نظاما مبتكرا في نظرية المعرفة هو مزيج بين المدرستين التجريبية والعقلية. فأهل المدرسة التجريبية يرون أن المعرفة لا تكون إلا من طريق التجربة لا غير. أما أهل الطريقة العقلية فيرون أن نظام الشك الديكارتي وأن العقل وحده من يمدنا بالمعرفة. خالفهم كانت في ذلك حيث يرى أن استخدام العقل وحده دون التجربة لا يقود إلى المعرفة بل يقود إلى الأوهام. أما استخدام التجربة فلا يقود إلى معرفة دقيقة ولا تعترف بوجود مسبب أول الذي يعترف به العقل المجرد.

كان فكر ايمانويل كانت مؤثرا جدا في ألمانيا أثناء حياته وبعدها. فكانت نقل الفلسفة إلى مكان آخر أرفع من المناظرة والمجادلة بين الفلاسفة العقلانيين والفلاسفة التجريبيين. تأثر به الفلاسفة الألمان بعده. مثل يوهان جوتليب فيشته وفريدريك شلنغ والفيلسوف الكبير هيغل وآرثر شوبنهاور. وأسس هؤلاء ما عرف بالفلسفة المثالية الألمانية. كل هؤلاء الفلاسفة رأوا في أنفسهم مصححين وموسعين ومطورين للنظام والفلسفة الكانتية. وهكذا ظهرت نماذج مختلفة من الفلسفة المثالية الألمانية.[18] استمر تاثير كانت وامتد ليكون مؤثرا أساسيا في الفلسفات التي جاءت بعده. فقد كان له تأثير كبير على الفلسفة التحليلية والفلسفة الأوربية القارية.[19

” إذا حاول العقل أن يقرر فيما إذا كان العالم محدودا، أو لانهائيا من حيث المكان، فسيقع حتما في تناقض وإشكال، فالعقل مسوق إلى التصور بأن وراء كل حد شيئا أبعد منه، وهكذا إلى ما لانهاية له. ومع ذلك فإن اللانهاية في حد ذاتها شيء لا يمكن إدراكه”

كانط، نقد العقل المحض،
يطرح كانط الإشكال التالي:هل العالم أزلي أم له سبب أحدثه؟

في البداية العالم من حيث هو نسق مكتمل من الواقع هو وهم من أوهام العقل يصعد بشكل غير مشروع من خلاله من الشرطي المعطى إلى اللاّشرطي المفترض أي بعبارة ابن رشد يقيس الغائب على الشاهد.

العالم لا يمكن معرفته بطريقة استدلالية بالانطلاق من مبادئ ميتافيزيقية لأن ما يمكن معرفته هو الكون أي الظواهر المكانية والزمانية غير المعروفة التي يوحدها الذهن بواسطة مقولاته القيلية دون أن يصل بها إلى الوحدة النهائية. لكن اذا جاز الحديث عن عالم فيزيائي ومقاربة معرفية للعالم في الفلسفة النقدية عند كانط التي تحاول التأليف بين مقولات الذهن ومعطيات التجربة،

من جهة أخرى يخضع كانط في كتاب نقد العقل المحض ظاهرات العالم بماهو فكرة كوسمولوجية الى المعالجة الريبية التي تطرحها الأفكار الترسندنتالية الأربع ويظهر وقوعها في جملة من النقائض المحتمة.

” تلك هي حقا الحالة مع مفاهيم العالم ولعلها لهذا السبب بالضبط تدفع العقل، طالما هو معلق بها، الى نقيضة محتمة:
أولا- لو افترضنا أن العالم ليس له بداية فإننا نقوم بتراجع متتال يبلغ الأزل المنقضي ، ولو سلمنا بأن له بداية كان من الضروري أن يفترض البدء زمنا يتقدمه . أما من جهة السؤال عن كم العالم فإن القول بكونه لامتناهي ولامحدود يفضي إلى الإقرار بأنه كبير جدا بحيث يصعب على الذهن البشري تصوره ، ولو قلنا بأنه متناهي ومحدود لكان صغير جدا وقريب من المكان الفارغ والمانع لكل تجربة ممكنة.

ثانيا- إذا كانت كل ظاهرة في المكان أي كل مادة تتألف مما لا يتناهى من الأجزاء فإن تراجع الانقسام هو أبداء كبيرا جدا على الأفهام. وإذا توقف الانقسام المكاني عند نقطة بسيطة فإن هذا التراجع سيكون صغيرا جدا على فكرة اللاّمشروط التي يتميز بها العالم وبالتالي يفسح المجال للتراجع نحو عدة أجزاء كامنة فيه.

ثالثا- اذا سلمنا بأن ما يحدث في العالم هو نتيجة قوانين الطبيعة ، فإن سببببية السبب هي بدورها شيئا يحدث ، وسنرغم على الصعود أثناء التراجع ضمن سلسلة الشروط حتى أسباب أعلى من دون توقف. أما إذ قلنا بأن العالم يتكون من مجموعة من الأحداث تكون محدثة بحرية وتلقائيا ، فإن العقل البشري سيهتم بالعثور على سبب وفق حتمية وجود قانون للطبيعة ولو جاء في صورة الاقتران الضروري بين الأحداث.

رابعا- لو سلمنا بكائن ضروري إطلاقا سواء كان العالمَ نفسه أو شيئا في العالم أم علة للعالم، فإننا سنضعه في زمن بعيد بلانهاية وإلا خضع لوجود آخر أقدم عصي عن الفهم ولا يمكن قط الوصول إلى إدراكه. من جهة مقابلة لو كان كل ما ينتمي الى العالم ( مشروط أو شرط) حادثا، فإن كل وجود معطى سيكون صغيرا جدا ولا يمكن إدراكه بالفهم البشري وسيضطر إلى البحث عن وجود آخر يخضع له. الخلاصة: أن فكرة العالم هي ، في جميع الحالات، هي صغيرة جدا على التراجع الخبري وعلى كل مفهوم ذهني.
النتيجة: التجربة الممكنة هي وحدها قادرة أن يعطى لمفاهيم (العالم) واقعا ومن دونها ليس أي مفهوم سوى فكرة دون حقيقة واقعية وليست له أي صلة بأي موضوع خارجي. كما أن الأفكار الكسمولوجية هي مؤسسة على مفهوم فارغ ومتخيل وحسب وعن الطريقة التي بها يعطى لنا موضوع هذه الأفكار.
(عمانوئيل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، دار الانماء القومي، بيروت، طبعة ، صص253-254-255.
“إن كل شيء في العالم المحسوس ذو وجود مشروط تجريبيا، وليس فيه أي محل بالنظر الى أي خاصية أي ضرورة لامشروطة…لا يتضمن العالم الحسي سوى ظاهرات، لكن هذه مجرد تصورات هي بدورها أبدا مشروطة حسيا، وبما أنه ليس لدينا البتة أشياء في ذاتها كموضوعات، فانه ليس مخول لنا القفز إلى الخارج والمغادرة للبحث عن علة لوجودها… ولا يؤدي إلى تراجع تجريبي يعين الظاهرات.” ص284.
لقد عمل كانط على التقليل من قيمة الخلق الالهي للعالم والرفع من شأن الخلق الاستيطيقي للأعمال الفنية وذلك في كتابه نقد ملكة الحكم بعد أن بين في كتاب نقد العقل المحض المزاعم الخاطئة التي تمسكت بها الكوسمولوجيا والتيولوجيا العقلانية واستحالة اعطاء مضمون ايجابي الى فكرة الخلق وتعذر الصعود الى مفهوم الاله الخالق والاكتفاء بفكرة مهندس العالم architecte du monde أي الاله المنظم أو الموجه.
لقد رفض كانط كليا مسألة خلق العالم والإله الخالق في الجدلية المتعالية وخاصة في لعبة النقائض وكان الحل الذي ارتضاه لمشكل الخلق يرتكز على تفسير السبب الذي يجعل المشكل لا يملك أي حل وبالتالي يدعو إلى إتباع الاستعمال المشروع للعقل الذي يسند له وظيفة توجيهية للبحوث التي يقوم بها الذهن.
من تبعات النقد الكانطي هو بروز النظريات التطورية والمادية والوضعية وتأكيدها بصفة مجتمعة على أن مسألة خلق الله للعالم اتضح أنها غير صالحة من الناحية التاريخية وغير ممكنة من الناحية النظرية.
فهل يمكن اعتبار الخلق الفني للعالم الذي ينسب إلى الله بالمعنى الكانطي هو بمثابة خلق نسبي للعالم؟
المرجع:
عمانوئيل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، دار الانماء القومي، بيروت، طبعة ، صص253-254-255.

الزمان والمكان في فلسفة كانت

المثالية المتعالية (بالإنجليزية: Transcendental idealism) عقيدة فلسفية أسسها الفيلسوف الألماني عمانويل كانت في القرن الثامن عشر الميلادي، حيث برز مذهب كانط في كتابه نقد العقل المحض الذي تم نشره عام 1781، فيعتقد كانط بأن الشخص الواعي لا يُدرك الأشياء في حد ذاتها، ولكن من خلال ظهورها حسب ما ندركها بحواسنا، وبالتالي يُقيد كانط إدراكنا للمظاهر من خلال حواسنا فقط. لا نمتلك أي قدرة على إدراك الأشياء كما هي في حد ذاتها، أي استحالة إدراكنا للأشياء كما لو أنها مستقلة عننا ولا تتداخل مع معرفتنا. فالروابط التي تربط الظواهر مع بعضها مثل المكان والزمان والسببية ليس لها وجود خارج كيانتنا المعرفية وليست منفصلة عن الظواهر المحيطة بنا، فهذه الروابط تعتمد في وجودها على العقل الكلي وتنشأ من خلاله. فعقيدة كانط يتم تلخيصها على اعتمادها على فكرة أن الزمان والمكان والسببية ليست كيانات موجودة بشكل مستقل، ولكنها الروابط العقلية اللازمة للتداخل مع الظواهر والعالم المحيطخلفية عامة

(الكانطية الجديدة)

من المغامرة القول بأن المشروع الترانسنتدالي الكانطي قد تحول برمته الي أرشيف تاريخ الفلسفة , كما ليس من السهولة الذهاب الي ان النقد الكانطي الذي كون اقسي محاكمة للعقل الخالص قد أنهار لمجرد حلول النظريات اللانيويوتنية محل الفيزياء النيوتونية والهندسات اللااقليدية محل هندسة اقليدس (وإن كان الامر لا يخلو من هذا وذاك)
لهذا دعي لفيف من العلماء في (شتوتجارت * الي العودة الي كانط بعد ان اعمل المعول (الهيغيلي ) في جسم البناء الكانطي ذلك ان فلسفة هيغل برمتها قامت علي انقاض النقد الكانطي فاذا كان كانط قد انتهي الي ان الكليات منطقة محرمة علي العقل المجرد اذ لا يستطيع ان يكون عنها افكار تركيبية بديهية كما يفعل في العلم الرياضي والطبيعي فان هذا ذات ما اراد ان يثبت عكسه هيغل من خلال الديالكتيك الذي يبدأ من العقل المجرد.
ان سقوط نظرية ( الزمان والمكان المطلقيين) الذي بناهما كانط علي منوال الفيزياء النيوتونية والهندسة الاقليدية لا يمس جوهر النقد الكانطي الذي رصف الطريق لمدارس معاصرة في النقد في مقدمتها (مدرسة فرانكفورت التي انتهت بيورجين هابرماس وكتابه في (العقل الاتصالي ) الذي جاء بطريقة او بأخري قراءة ثانية ل ( نقد العقل المجرد) عند كانط.
لقد جاءت فلسفة كانط شاملة لنظريتي ليبنتز ونيوتن و كان النقد اشد واعنف بالنسبة إلى ليبنتس، لان نظريته كانت هي السائدة في المدرسة الالمانية المعاصرة له أنذاك.
يقول “كانط” ان المكان والزمان ليسا تصورين، بل هما صورتان .الزمان والمكان تصورات اولية، الا وهي “المقولات” الاثني عشر التي يستخلصها “كانط” “كانت” من اشكال القياس. وتقسم المقولات إلى اربع مجموعات كل منها إلى ثلاث: (1) لكم: الوحدة، التعدد، والمجموع الكلي (2) الكيف: الواقع، النفي، التقييد (3) العلاقة: الجوهر والعرض، والعلة والمعلول، التبادل (4) الضرب: الامكان، الوجود، الضرورة. فهذه ذاتية بالمعنى الذي يكون المكان والزمان، يعني هذ القول بان تكويننا العقلي يكون بحيث تكون قابلة للتطبيق على الاشياء في ذاتها، ومع ذلك، ففيما يختص بالعلة ثمة تضارب، وذلك ان الاشياء في ذاتها، يعتبرها “كانت” عللا للاحساسات، والارادات الحرة هي في تقديره علل للاحداث في الزمان. هذا التضارب لم يكن سهوا غير مقصود، بل هو جزء يكشف المغالطات الناجمة عن تطبيق الزمان والمكان أو المقولات على الاشياء التي لم تجرب. وعندما يتم ذلك نجد انفسنا ازاء متاعب “النقائض” (هذا ما يؤكده كانت) ويقدم لنا كانت اربعا من هذه النقائق، كلا منها يتألف من قضية ونقيضها.

ففي القضية الاولى تقول “القضية”: للعالم بداية في الزمان، وهو ايضا محدود من حيث المكان. “ونقيض القضية”: ليس للعالم بداية في الزمان، وليست له حدود في المكان فهو لا متناه من حيث الزمان والمكان.

وفي النقيضة الثانية يثبت ان كل جوهر مركب، فهو مؤلف من اجزاء بسيطة وهو غير مؤلف منها على حد سواء.
وفي النقيضة الثالثة يؤكد ان ثمة نوعين من العلية، احدهما بمقتضى قوانين الطبيعة والنوع الاخر هو علية الحرية، وفي نقيضها يؤكد ان ثمة فقط علية بمقتضى قوانين الطبيعة.
وفي النقيضة الرابعة تثبت ان هناك، وان ليس هناك، موجود ضروري ضرورة مطلقة.
هذا الجزء من النقد، كان له نفوذ كبير على هيجل (1770-1831) الذي يسير جدله سيرا تاما على طريقة النقائض
لقد كانت اهم جزء في كتاب “نقد العقل الخالص” هو نظرية المكان والزمان،

وليس من السهل ان نشرح نظرية “كانت” في المكان والزمان شرحا واضحا، فقد سيقت في كل من كتاب “نقد العقل الخالص” و”المقدمات”.
ياخذ “كانت” كانط بان الموضوعات المباشرة للادراك تعزى في جزء منها للاشياء الخارجية، وفي الجزء الاخر إلى جهازنا الادراكي، ويجعل الكيفيات كيفيات ذاتية، و “كانط” لا يضع موضع التساؤل ان تكون لاحساساتنا علل، يدعوها “الاشياء بالذات” أو “النومينا”، فان ما يظهر لنا في الادراك، وهو الذي يدعوه “ظاهرة” يتألف من جزئين: جزء يعزى للموضوع، وهو الذي يدعوه “الاحساس”، وجزء يعزى إلى جهازنا الذاتي وهو الذي يجعل المتعدد ينتظم في علاقات معينة ويدعوه، صورة الظاهرة. هذا الجزء ليس هو نفسه احساسا، ومن ثم فهو لا يعتمد على ما تحدثه البيئة، فهو دائما، ما دمنا نحمله معنا، وهو اولى بمعنى انه لا يعتمد على التجربة. وتسمى الصورة الخالصة لحساسية “حدسا خالصا” (Anschawing). هناك اذن صورتان من هذا القبيل، اعني المكان والزمان، احداهما للحس الخارجي، والاخرى للحس الداخلي.
وعند “كانط” فئتان من الحجج لاثبات ان الزمان والمكان صورتان اوليتان، احداهما ميتافزيقية والاخرى ابستيمولوجية. والفئة الاولى من الحجج قد اخذت مباشرة من طبيعة المكان والزمان ام الفئة الاخرى فاخذت بطريق غير مباشر من امكانية الرياضيات البحتة، والحجج عن المكان بسطت بافاضة اكبر مما بسطت به الحجج عن الزمان، اذ قد ظن ان الزمان مماثل للمكان في الجوهر. ).
نبدأ بان نعرض المميزات الرئيسية لفكرة الزمان عند “كانت” فنقول ان كانت في عرضه لهذه الفكرة قد قسم هذا العرض إلى قسمين: عرض ميتافيزيقي، واخر متعال. والفارق بين العرض الميتافيزيقي والعرض المتعالي.
ان الاول يحلل الفكرة أو الامتثال في ذاته، أي بما هو مضمونه، مبينا بهذا التحليل ان هذا الامتثال ليس مستعارا أو متوقفا على التجربة، بل هو قبلي.
اما العرض المتعالي فنبينه كمبدأ على ضوئه يمكن ان نفهم امكان معارف تركيبية قبلية اخرى، أي انه يبين ان ثمة معارف اخرى مركبة تؤخذ من الامتثال، وان مثل هذه المعرفة ليست ممكنة الا إذا شرح الامتثال على نحو خاص، أي على انه قبلي.
اما العرض الميتافيزيقي فيتضمن خمس حجج يمكن ان تقسم إلى قسمين: الاول يبرهن فيه على ان الزمان ليس امتثالا تجريبيا، بل هو قبلي. والثاني يبرهن على ان الزمان عيان، وليس تصورا.

الحجة الاولى تقول ان الزمان ليس تصورا تجريبيا، أي امتثالا اخذ عن اية تجربة. وهذه الحجة تتضمن امرين: الاول ان الاختلاف الزمني لا يمكن ان يرد إلى اختلاف في الكيف، بل هو اختلاف من نوع خاص به، يشترط وجود الزمان شيئا قبليا.والثاني ان الزمان ليس تجريدا من التجربة أو الموضوعات المحسوسة، كما يزعم ليبنتس .كما نجرد الالوان أو الطعوم، لكن هذه الحجة سلبية فحسب، اذ كل ما تقوله ان الزمان ليس امتثالا ماخوذا عن التجربة. ولذا اردف بها الحجة الثانية فقال:

٠ان الزمان ضروري يقوم عليه كل عيان، ويمكن ان يدرك مستقلا عن الظواهر. والنتيجة لهذا ان الزمان قبلي، والدليل على هذا اننا لا نستطيع ان نستبعد الزمان من الظواهر العامة، مع اننا نستطيع ان نفهم الزمان خاليا من الظواهر لا يمكن ان يتم الا فيه، والنتيجة لهذ اذن ان الزمان لا يقوم على الظواهر، بل الظواهر هي التي تقوم على الزمان لا يتصور تحقق الظواهر، أي ان الزمان اذن قبلي ضروري لكل حركة حسية.

اذن ذلك هو القسم الاول من العرض الميتافيزيقي، قد اراد كانت ان يبرهن فيه على ان الزمان امتثال قبلي. وهو يريد في القسم الثاني المكون من الحجتين الرابعة والخامسة في عرضه ان يبرهن على ان الزمان عيان وليس تصورا.
يقول كانت في الحجة الاولى منهما ان الزمان ليس تصورا كليا، ولكنه شكل خالص للعيان الحسي. وذلك لان المرء لا يستطيع ان يتصور غير زمان واحد وحدي، اما الازمنة المختلفة فليست الا اجزاء لهذا الزمان، واذا كان الزمان واحد، فهو لا يقبل ان يكون ذا تصور بل ذا عيان. ما دام التصور يتركب من امتثال عدة اشياء، بينما العيان من امتثال شيء جزئي واحد. ويضيف إلى هذا دليلا اخر هو ان القضية القائلة بان الازمنة المختلفة لا يمكن ان توجد معا، هذه القضية الزمان عيانا. ذلك لان هذه القضية قضية تركيبية والقضية التركيبية لا تصدر عن التصور وحده، ولهذا فان هذه القضية متضمنة مباشرة في العيان الخاص بالزمان، أي امتثال الزمان.
اما الحجة الخامسة فخلاصتها ان التغير بما فيه الحركة لا يمكن ان نفهم دون الزمان بوصفه عيانا قبليا. وذلك لان التغير معناه الجمع بين محمولات متناقضة في موضوع واحد بالذات، مثل الجمع بين الوجود واللاوجود شيء وةاحد في مكان واحد. انما يمكن في الزمان وحده ان يتلاقى محمولان متقابلان بالتناقض في موضوع واحد، وذلك بان يكون الواحد “بعد” الاخر. فالزمان اذن هو الشرط الضروري الكلي لفهمنا للتغير والحركة.
وعن طريق هذا العرض اثبت “كانط” اذن ان الزمان عيان خالص وهذا العيان الخالص هو الشرط لكل معرفة قبلية لدينا عن الزمان بما في ذلك البديهيات العامة ثم يستخلص النتائج تتضمنها هذه الاقوال، فيجدها ثلاثة:
•الاولى ان الزمان ليس شيئا موجودا بذاته قائما مستقلا، وليس شيئا باطنا في الاشياء كصفة موضوعية لها، وهو بالتالي لا يبقى حين نجرد كل الشروط الموضوعية لامتثاله. لانه لو كان قائما بذاته، لكان شيئا واقعيا وغير واقعي معا: واقعيا من حيث انه لا يوجد مستقلا عن الاشياء المتزمنة، وغير واقعي لانه سيكون شيئا ليس له من وظيفة في الوجود الا ان يتقبل كل شيء واقعي فيه، دون ان يكون ثمة شيء أي شيء واقعي، وفي هذا رد على نيوتن وينعت “كانت” الزمان –والمكان- وفي هذه الحالة بانه سيكون لا شيئا.
•الثانية ان الاشياء في ذاتها لا تاتي إلى عقولنا كما هي دون تغيير، بل لابد ان تمر بهذا الاطار، اطار الزمان والمكان، فتترتب وفقا له، فكأنها بمجرد ان تصبح مدركة، لابد ان تظهر على هيئة الزمان و(المكان)، ونحن لا نعرفها كما هي في ذاتها، بل كما تبدو لنا ولهذا فنحن لا نعرف الا الظواهر (أي ما يظهر لنا نحن). ولا نعرف حقيقة الاشياء كما هي في ذاتها. والزمان اذن ليس الا شكل حس الباطن، اعني شكل عيان انفسنا وحالنا الباطنة بواسطة المماثلات بان نتصور توالي الزمان على هيئة خط يتقدم إلى ما لا نهاية ونستدل من خصائص هذا الخط على كل خصائص الزمان مع هذا الفارق الوحيد: “وهو انه بينما اجزاء الخط في حالة معية، فان اجزاء الزمان في حالة توال. ومن هذه الحقيقة عينها، اعني ان كل اضافات الزمان تسمح بالتعبير عنها في عيان خارجي، يكون من الجد ان الامتثال نفسه عيان”.
•الثالثة هي ان الزمان هو الشرط الشكلي القبلي لكل الظواهر ايا كانت، وفي هذا يزيد الزمان عن المكان: اذ المكان بوصفه الشكل الخالص (أي الخالي والتجربة) لكل عيان “خارجي”. اما الزمان فانه شكل خالص لكل عيان باطن وخارجي معا، لان كل الامتثالات، سواء أكانت الموضوعات خارجية فحسب ام لغيرها ايضا، تنتسب إلى حالنا الباطنية، كصفات أو تحديدات لعقلنا، ولما كانت هذه الحال الباطنة تقع تحت الشرط شرط قبلي لكل الظواهر ايا كانت، فكل الظواهر اذن خاضعة للزمان، لان الزمان شكل للعيان الباطن، والعيان الزاهر يخضع للعيان الباطن، فالزمان اذن ليس شكل قبلي للظواهر كلها.
هل معنى هذا انه ليس للزمان اية حقيقة موضوعية؟ كلا، بل له حقيقة موضوعية من حيث صلته بكل الموضوعات التي يمكن ان تقدم لنا بواسطة الحس، وهو موجود في كل امتثالاتنا عن الموضوعات الخارجية، ولكن ليس معنى هذا انه وجودا مطلقا مستقلا عن تجربتنا وامتثالاتنا أو ذا وجود مستقل قائم بنفسه هذه اذن نظرية كانت في الزمان.

  • المكان ليس تصورا تجريبيا، هو مجرد من التجربة الخارجية، وذلك لان المكان مفترض مقدما في دلالة الاحساسات على شيء خارجي، والتجربة ممكنة فقط من خلا مثول المكان.
  • المكان تمثل ضروري اولي، يشكل الاساس لجميع الادراكات الخارجية، اذ لا يمكننا ان نتخيل ان ليس هناك مكان، ومع ذلك يمكنا ان نتخيل اللاشيء في المكان.
    وهكذا يكتسب الزمان والمكان عند كانط قالبا تجريديا منافيا للواقع العلمي الذي رسخته فيزاياء اينشتين وميكانيكا الكوانت مع ماكسويل وبهلروهاينزبرج ’ لكن المنهج الذي اتبعه كانط في تحليل هانين المقولتين والوصول الي ان للعقل حدودا لا يقوي علي تجاوزها جعل من المستحيل نسيان النقد الكانطي و ولهذا ظهر الكانطيون الجدد من اجل العودة الي كانط وان استدعي الامر 0 نقد كانط نفسه).
    يُعدد الباحثون في تاريخ الكانطية الجديدة العديد من المدارس ، وصل عددها إلى سبعة مدارس أو مدارس فرعية . إلا إن من الملاحظ إن هناك مدرستين كانطيتين جديدتين كبيرتين فرضتا هيمنتهما على تاريخ الكانطية الجديدة وذلك بسبب إستمرارهما والتأثيرات التي تركتهما ؛ المدرسة الأولى هي ” مدرسة ماربورج ” . والثانية هي ” مدرسة بادن ” والتي يطلق عليها كذلك ” مدرسة هيدلبيرج ” أو ” مدرسة ألمانيا الجنوبية ” . مع الإشارة إلى إن هناك عدد من المفكرين الأخرين حاولوا إنعاش الروح في فلسفة كانط وتحت مظلة عامة ، هي ” الفلسفة النقدية ” .
    مدرسة ماربوج للكانطية الجديدة
    إن مدرسة ماربوج للكانطية الجديدة ، في الأصل هي حركة معارضة للتفسيرات الخاطئة التي تعرض لها كانط وفلسفته .. وترتبط هذه المدرسة الكانطية الجديد بإسم إثنين من فلاسفة الكانطية الجديدة ؛ الأول هو البرفسور ” فردريك ألبرت لانج ” الذي قبل عرض جامعة ماربوك ، وباشر عمله بروفسوراً في الجامعة عام 1872 . والثاني هو تلميذه في جامعة ماربوك ” هرمان كوهن ” . وإذا كان لانج هو الأب الروحي المبكر للمدرسة ، فإن هرمان كوهن هو المؤسس الحقيقي والقائد للمدرسة وهو من الجيل الأول من مفكري الكانطية الجديدة . أما الممثلون الأخرون للمدرسة ، فهم كل من ” بول نتورب ” (1854 – 1924) و ” إرنست كاسيرر ” (1874 – 1945) . وأخيراً ” نيكولاي هرتمان ” (1882 – 1950) . تميزت مدرسة ماربوك في كانطيتها الجديدة بالتأكيد القوي على توجهاتها العلمية والرياضية .
    لقد قام كوهن بنقد النزعة النفسية من وجهة نظر كانطية (وبالمناسبة ستتكرر هذه التجربة النقدية للنزعة النفسية مرة أخرى مع ” أدموند هوسرل ” (1859 – 1938) فيما بعد ولكن من زاوية فينومونولوجية تحمل نفساً ومذاقاً كانطيين) . والنزعة النفسية هي مشروع يختصر القوانيين المنطقية في عمليات تجريبية ونفسية . ولهذا فإن المعرفة عند كوهين كما يقول ” لا ترتبط بالفاعل فقط كما هو واضح في الرياضيات التي تعلمنا كل يوم بأنها موضوعية وليست لها علاقة بالفاعل (رجل الرياضيات) “.
    أما الكانطي الجديد ” بول نتورب ” فكان مشغولاً بشكل رئيس بالأسس المنطقية للعلوم الدقيقة (الرياضيات والفيزياء النظرية .. ) ، حاله حال أغلب الكانطيين الجدد . ونتورب رفض الوجود الفرضي ” للشئ بذاته ” (وهو واحد من مفاهيم كانط ، وهو عصي على المعرفة) والذي يقف خلف الظاهرة (التي هي بإصطلاحات كانت الشئ كما يبدو لنا) .
    ومن بين فلاسفة مدرسة ماربوك ، فيلسوف التاريخ ” كارل فورلندر ” (1860 – 1928) وكان أستاذاً في ” سولينكن ” ، ومن أهم مؤلفاته ” العلاقة بين الفكر الكانطي والفكر الإشتراكي ” ، وفي عام 1924 نشر كتابه المعنون ” سيرة كانط الذاتية ” والذي تحول إلى مصدر كلاسيكي تعتمد عليه كل الدراسات الأكاديمية . ومن ثم نشر أنواعاً مختلفة من الدراسات حول مؤلفات كانط ، من ضمنها الدراسة المعنونة ” أثر كانط على كتابات جوهان غوته ” (1749 – 1832) . وكان فورلندر مهتماً بالتركيز على ” الماركسية و ” رودلف ستاملر ” (1856 – 1938) ، وستاملر كان بروفسوراً في جامعة ماربوك والذي إشتغل على العلاقة بين القانون والمجتمع .
    في حين كان ” إرنست كاسيرر ” . الذي ترتبط معظم أفكاره بفلسفة القرن العشرين ، مهتماً بالسؤال الذي يدور حول فلسفة اللغة ، من مثل معاني الأسس الرمزية . وبمنظاره إن المقولات ما هي إلا تراكيب مشروطة من الزاوية التاريخية ، وتم التعبير عنها في إطار الصور (الرموز) اللنكوستية (بينما المقولات عند كانط هي قوانين العقل الأولية) . وحسب كاسيرر يمكن التعبير عن هذه المقولات بصور جمالية ودينية كذلك . والحقيقة إن نظرية الرموز عند كاسيرر مؤسسة على فينومنولوجيا المعرفة (وكاسيرر معارض لفيلسوف التاريخ ” إسولد شبنجلر ” (1880 – 1939)).) .
    ومن أخر أعضاء مدرسة ماربوج الكانطي الجديد ” نيكولاي هرتمان ” ، وهو في الأصل فيلسوف ألماني من البلطيق . درس الطب أولاً وتحول إلى الفلسفة . وفي جامعة ماربورك أكمل دراسته للدكتوراه ، ومن ثم كتب إطروحة دكتوراه أخرى للعمل في الجامعة (تسمى في ألمانيا دكتوراه التأهيل) ، ومن ثم أصبح بروفسوراً في ماربورك . ومن ثم طور له فلسفة خاصة توصف بكونها ” الوجودية المتعددة أو الواقعية النقدية ” . ولعل من أهم أعماله الفلسفية المبكرة ” فلسفة البايولوجيا ” . وكتب الكثير من المؤلفات ، ولكن ما لفت نظري ، هو كتابه المعنون ” الطرق الجديدة للإنطولوجيا ” والذي طبع في العام 1952 أي بعيد وفاته بسنتين . ونحسب إن نيكولاي هرتمان كان أخر حبة من عنقود العنب الكانطي الجديد .
    ويجري الحديث في الأوساط الأكاديمية وفي بعض الكتابات عن مدرسة كانطية جديدة روسية ، بداياتها كانت ترتبط بمدرسة ماربورج . وفعلاً وجدنا إن بعض الكانطيين الجدد كانوا روسيون من إصول ألمانية درسوا في جامعة ماربورك ، من أمثال الفيلسوف الروسي الثويني ” فازيلي سيسمان (1884 – 1963) والذي درس الفلسفة وعلم النفس والتربية على كل من الكانطيين الجدد ؛ ” هرمان كوهن ” و ” بول نتروب ” و ” إرنست كاسيرر ..)) .) .
    مدرسة بادن أو هيدلبيرج للكانطية الجديدة
    وعلى خلاف مدرسة ماربوج ، فإن مدرسة بادين أو هيدلبيرك للكانطية الجديدة (نسبة إلى ولاية بادن وهيدلبيرج نسبة إلى الجامعة) قد أكدت على أسئلة القيم أو الأكسيولوجيا . ومثل هذه المدرسة عدد من مفكري الكانطية الجديدة من أمثال ” ويلهلم وندلباند ” (1848 – 1915) ، و ” هنريخ ريكارت ” (1863 – 1936) ، و ” أميل لاسك ” (1875 – 1915) . فمثلاً ويندلباند يعتقد إن مهمة الفلسفة الأولى ، هي تعليم القيم الكونية السليمة ، والتي تتمثل بثلاثية القيم : الصدق في التفكير ، والخيرية في الإرادة والفعل ، والجمال في المشاعر . وهذه التقسيمات الثلاثية تعود في أساسها مباشرة إلى الفيلسوف كانط .
    لقد ميز وندلباند بين التاريخ والعلوم الطبيعية ، وألح على إن ” فهم كانط يتطلب العودة إلى خلفياته ” وهو الشعارالذي ظل مرتبطاً بالكانطية الجديدة .وفعلاً فإن خليفة وندلباند ” هنريخ ريكارت ” طور أكسيولوجيا خاصة به ، مع تأكيد على إن فلسفة كانط النقدية يجب أن تتوسع فتشمل كل العلوم ، ومن ضمنها علوم العقل وعلوم الحضارة (الثقافة) . ولهذا التأكيد إرتبط ريكارت بتراث المثالية الألمانية . ومن ثم كان تلميذه ” برنو باخ ” (1877 – 1942) كانطي جديد من أتباع مدرسة بادين ، وهو الذي جمع مؤلفات كانط ونشرها في الأكاديمية البروسية ، كما كان رئيس تحرير مجلة ” جمعية كانط ” ومجلة ” دراسات كانط ” حتى عام 1916 ، ولكنه نشر مقالاً معادياً للسامية ، فأحدث جدلاً داخل جمعية كانط ، وأُجبر على الإستقالة . والحقيقة إن برنو باخ وأستاذه ” هنريخ ريكارت ” كانا من الرموز القيادية في مدرسة بادين بعد ويلهلم ويندلباند . ومن المفيد أن نشير إلى إن باخ كان مشاركاً لكانطيي مدرسة بادين في إهتمامهم بفلسفة القيم (الأكسيولوجيا) ، ولكنه ركز إهتمامه حول فلسفة الرياضيات والمنطق . ولذلك كان على خلاف إستاذه ريكارت متعاطفاً مع صديقه عام المنطق الرمزي ” جوتلوب فريجه ” (1848 – 1925) .
    ونحسب إن في إرتباط مدرسة بادن بقضايا المعنى والقيمة بدلاً من أولوية العلوم الطبيعية ، قد منح هذه المدرسة إمكانية الإتصال والتأثير على عدد من كبير من المفكرين الذين بحثوا عن جواب للسؤال : لماذا عمت الفوضى الثقافية (أو الحضارية) ؟ وهذا شمل كل من ” ويلهلم ديلثي ” (1833 – 1911) و ” جورج ساميل ” (1858 – 1918) .. . كما ويرتبط بالمدرسة ” إرنست ترولتسج ” (1865 – 1923) والذي كانت كتاباته تتوزع بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ . وجاء إلى الكانطية الجديدة من من مضمار اللاهوت البروتستانتي .) ..
    ثم جاءت محاولة الكانطي الجديد ” فردريك بيولسن ” (1846 – 1908) ، وهي متابعة لمثابرة كانط المثمرة ، ولو جزئياً وذلك من أجل الوصول إلى الميتافيزيقا التي تقف وراء الأبستمولوجيا . وفعلاً بيولسن زعم ” إن كانط دائماً كان رجل ميتافيزيقا في الأساس ” ..
    كما إن تأثير الكانطية الجديدة لم يقتصرعلى دائرة الثقافة الألمانية ، وإنما تعدت ذلك لتشمل الثقافة الأوربية برمتها ، فكانت لها مضارب في شرق القارة وغربها وجنوبها ، فمثلاً ظهرت بدايات مدرسة كانطية جديدة روسية ، حمل مشعلها الفيلسوف الكانطي الجديد الروسي الرائد ” أفرايكن ألكسندروفش سبر ” في كتابه ” الفكر والحقيقة : محاولة لتجديد الفلسفة النقدية ” والذي ترك إنطباعاً قوياً على الروائي الروسي ” تولستوي ” بعد إن قرأه في العام 1996 وربط بينه وبين كتاب شوبنهور ” العالم إرادة وصورة ” ، ومن ثم جاء الفيلسوف الكانطي الجديد الروسي (ألثويني) ” فازيلي سيسمان ” والذي ينتمي إلى مدرسة ماربورك ، فأنبت بذور مدرسة كانطية جديدة روسية ذات مذاق ماربوكية (نسبة إلى مدرسة ماربوك للكانطية الجديدة) . هذا حدث للكانطية الجديدة شرق ألمانيا .
    أما غرب ألمانيا فقد حدث التأثير في الثقافة الفرنسية مبكراً ، وذلك عندما أقدم الفيلسوف الكانطي الجديد ” أفرايكن سبر ” وهو الروسي الألماني الفرنس لغة ، بكتابة موجز لمؤلفه الموسوم ” الفكر والحقيقة : محاولة في تجديد الفلسفة النقدية ” باللغة الفرنسية ، وصدر بعنوان ” موجز للفلسفة النقدية ” في العام 1877 . وبعد وفاته بأربعين عاماً (أي عام 1930) صدرت طبعة جديدة للكتاب بمقدمة كتبها الفيلسوف الفرنسي ” ليون برنسيفك ” .
    )المصادر ( نقد العقل المجرد – كانط – ماهي الابستمولوجيا محمد وقيدي – مراجع اخري بتصرف)

على الرغم من تأثير عقيدة كانط على الفلسفة الألمانية اللاحقة بشكل كبير، فإن تفسير هذه العقيدة كانت محل جدال بين فلاسفة القرن العشرين. ابرز كانط عقيدته في كتاب ( نقد العقل الخالص) حيث وضح فكرته وميزها عن الأراء الفلسفية المعاصرة مثل الواقعية والمثالية، لكن الفلاسفة اللاحقون له لم يتفقوا على تميز فكرة كانط بشكل واضح عن الفلسفات المعاصرة له. يربط بعض الفلاسفة بين المثالية المتعالية والمثالية الشكلية على أساس بعض المقدمات النقدية الواردة في كتاب ‹‹مقدمة تمهيدية للميتافيزقيا المستقبلية« ( وهو مقالة قصيرة يشرح فيها كانط بعض أراءه عن كتابه نقد العقل الخالص)، بالرغم من أن الأبحاث الحديثة تعترض على هذه الرأي. وتبنى المثالية المتعالية بعض الفلاسفة الألمان اللاحقين على كانط مثل (يوهان غوتليب فيشت)، و(فريدريك فيلهلم جوزيف فون شيلينغ)، و(آرثر شوبنهاور)، وفي أوائل القرن العشرين بعض الفلاسفة مثل ( إدموند هوسرل) الذي تبنى شكل جديد من المثالية التجريبية المتعالية.

مثالية كانط المتعالية
يستعرض كانط طرق استكشافنا للأشياء من حولنا وادراكنا للزمان والمكان والتفاعل معهما. فقبل كانط توصل بعض المفكرين مثل (ليبنتز) إلى استنتاج مفاده أن الزمان والمكان ليسا أشياءَ موجودة ولكن يتم استنتاجهما من خلال العلاقات بين الأشياء فقط. بينما أكد مفكرون آخرون ومن بينهم (إسحق نيوتن) بأن الزمان والمكان موجودان بشكل حقيقي. توصل (ليبينتز) إلى طريقة فهم مختلفة تمامًا للكون والأشياء الموجودة فيه، فحسب إحدى كتابات (ليبينتز) التي يشرح فيها أفكاره الفلسفية المتأخرة وهي مخطوطة «Monadology»، فإن كل الأشياء التي يعتقد البشر على أنها نتاج تفاعل الأفراد مع الأفكار العقلية مثل ( مواقعهم بالنسبة للزمان والمكان) تكون في الأساس في عقل الواحد المتعالي (الله) ولا يمكن أن نتصور وجودهم في الكون ككيانات مجردة.

حسب الواقعيين تتصل الأشياء الفردية مع بعضها عن طريق روابط وعمليات فيزيائية، وتربط تلك العمليات الأشياء مع الأدمغة البشرية، ومن ثَم توجه الدماغ البشرية نحو سلسلة من الأفعال المحددة تجاه تلك الأشياء وتصحح رؤية الدماغ البشرية نحوها، ومعرفتها بيها. ادرك كانط المشاكل الناجمة من تلك الرؤية الواقعية، فمع تأثره بفيزياء نيوتن، وإدراكه لوجود سلسلة من التفاعلات المادية بين الأشياء المُتصورة وتلك التي نتصورها بالفعل، إلا أن العقل يستقبل البيانات الواردة إليه ويحللها ويعالجها مما يُحدث اختلافا بسيطًا عن البيانات الخارجية الأصلية. [1]

«إذا ما حاولنا أن نبقى في إطار ما يُمكن إثباته بواسطة الحُجة الكانطية، فيُمكننا القول أنه من الممكن إثبات الواقع التجريبي من خلال الزمان والمكان، أي أن جميع الموضوعات التي تقع في إطار الفيزياء والرياضيات صالحة، إلا أن هذه الحقيقة التجريبية تتضمن المثالية المُتعالية التي تنص على أن الزمان والمكان مكنونات عقلية ناشئة من الحدس البشري، ويمكن إثبات فعاليتهما على أنهما مفيدان لإدراك الأشياء كما تظهر لنا وليس كما هي في ذاتها».[2]

من الواضح أن المكان والزمان بدلًا من كونهما أشياء حقيقية بحد ذاتها أو مظاهر يُمكن إدراكها تجريبيًا، إلا إنهما من أشكال الحدس ونستخدمهما لإدراك الأشياء، وبالتالي لا يُمكن إثبات وجودهما ككيانات جوهرية مستقلة، وبالرغم من أنها أشياء ذاتية أو شخصية لكل فرد على حدى إلا أنها ضرورية، شريطة أن يكون ذلك الكائن مظهرًا وليس شيئًا في حد ذاته. يتعامل البشر بالضرورة مع الأشياء المُحيطة بهم على أنها موجودة في حيز مكاني وزماني، وهذا شرط ضروري ليدرك الإنسان ويفهم ما حوله كأشياء مكانية وزمانية على حد سواء. «المثالية المُتعالية هي العقيدة التي تنص على أن المظاهر موجودة ولكن بشكل ظاهري وليس كما هي في حد ذاتها، وبالتالي فإن الزمان والمكان مجرد أشكال عقلية لحدسنا». ويناقش كانط ادعاءاته في قسم خاص من كتابه (نقد العقل الخالص) تحت عنوان (جماليات المثالية المُتعالية)،[3] حيث خصص هذا القسم للتحقق من الشروط السابقة لاستخدام الإنسان لحواسه كأدوات معرفية، بينما يتعلق القسم التالي من الكتاب والمُعنون بأسم (منطق المثالية المتعالية) بطرق التفكير في الأشياء وإدراكه

توضيح الدين وفلسفة الملة عند المعلم الثاني الفيلسوف الفارابي

ولد الفارابي في مدينة فاراب، ولهذا اشتهر باسمه. نسبة إلى المدينة التي عاش فيها. كان أبوه قائد جيش، وكان ببغداد مدة ثم انتقل إلى سوريا وتجوّل بين البلدان وعاد إلى مدينة دمشق واستقر بها إلى حين وفاته. يعود الفضل إليه في إدخال مفهوم الفراغ[؟] إلى علم الفيزياء. تأثر به كل من ابن سينا وابن رشد.

تنقّل في أنحاء البلاد وفي سوريا، قصد حلب وأقام في بلاط سيف الدولة الحمداني فترة ثم ذهب لدمشق وأقام فيها حتى وفاته عن عمر يناهز 80 عامًا ودفن في دمشق، ووضع عدة مصنفات وكان أشهرها كتاب حصر فيه أنواع وأصناف العلوم ويحمل هذا الكتاب اسم إحصاء العلوم.

سُمّي الفارابي “المعلم الثاني” نسبة للمعلم الأول أرسطو والإطلاق بسبب اهتمامه بالمنطق لأن الفارابي هو شارح مؤلفات أرسطو المنطقية

مصادر التأثير
وقد تأثّرت فلسفة الفارابي بصفة خاصة بالمذهب الأرسطي المحدث الغالب على الإسكندرية. ويتسم الفارابي بغزارة كتاباته، حيث نُسب إليه ما يزيد عن مائة كتابة. ومن بينها كتابات تمهيدية عن الفلسفة بصفة عامة، وتعليقاته على أعمال أرسطو (مثل «علم الأخلاق إلى نيقوماخس» نسبة إلى ابن أرسطو نيقوماخس) بالإضافة إلى أعماله الخاصة. وتتسم كتاباته بالإتساق والترابط المنطقي، رغم أنها مشتقة من عدة مدارس ومذاهب فلسفية. وكذلك تأثر الفارابي بنموذج الكواكب والشمس لبطليموس، وعناصر الأفلاطونية المحدثة، وبالتحديد موقفها من الميتافيزياء والفلسفة العملية أو السياسية (والتي هي أقرب إلى «الجمهورية» لأفلاطون منها إلى «السياسة» لأرسطو).

الفارابي وأرسطو وموسى بن ميمون
وقد لعب الفارابي دورًا حيويًا في انتقال أفكار أرسطو من اليونان القديمة إلى الغرب المسيحي في العصور الوسطى، وذلك ما نراه في ترجمة تعليق الفارابي على «العبارة» لأرسطو إلى اللغات اللاتينية. وقد تأثر موسى بن ميمون (وهو يعد أهم مفكري اليهود في العصور الوسطى) بالفارابي بدرجة عظيمة. فمن بين كتاباته الشهيرة «مقالة في فن المنطق»، وفيها أوجز موسى بأسلوب بارع أصول منطق أرسطو في ضوء تعليقات الفيلسوفين الفارسيين: ابن سينا، وبالطبع الفارابي. وأكّد الكاتب ريمي براغ حقيقة أن الفارابي هو المفكر الوحيد الذي تعني به تلك المقالة.

ويعد كلًا من الفارابي وابن سينا وابن رشد من أتباع المدرسة المشائية أو الاستدلالية. إلا أن الفارابي في كتابه «الجمع بين رأيي الحكيمين» حاول أن يجمع بين كل من المذهب الأرسطي والأفلاطوني.

وطبقًا لأدامسون، فإن الهدف الواحد الأوحد التي توجهت كتابات الفارابي نحوه هو إعادة إحياء واستحداث المدرسة الإسكندرية في الفلسفة آنيًا، والتي كان ينتمي إليها معلمه المسيحي يوحنا بن حيلان. ويشهد اللقب التشريفي الذي عرف به (المعلم الثاني) على نجاحه في ذلك. وذكر أدامسون أيضًا أن الفارابي لم يذكر مطلقًا أي شئ عن أفكار الكندي، أو أبو بكر الرازي الذي عاصره، مما قد يدل على أن الفارابي لم يعتقد بصحة مناهجهم.

فلسفة الملة عند الفارابي

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

لعله من نافلة القول، الحديث عن الوشائج الوثقى بين الفلسفة والدين عبر التاريخ والعصور؛ فذلك أصبح من البديهيات، التي يمكن القول معها: إنه لا وجود للفلسفة دون الدين، ولا وجود للدين دون الفلسفة.

وهذا القول لا ينطبق على الإسلام وحده؛ بل يسري على جميع الأديان، ولعل اهتمام الفارابي بالدين، من خلال أعماله الفلسفية المختلفة، خير دليل على اهتمام الفلاسفة المسلمين، وانشغالهم بالدين، ومعالجتهم لقضاياه المتنوعة[

فالفارابي، حسب محسن مهدي: هو أول فيلسوف طور فلسفة للملّة، تعتمد، في أساسها، على التراث الفلسفي الأفلاطوني والأرسطي، بشكل عام، وعلى الفلسفة الأفلاطونية، بصورة خاصة.

لقد سبق للفارابي أن تناول الدين في كتبه المتعددة، وخاصة في كتاب الحروف، لكنه أبى إلا أن يخصص كتابًا بعينه لفحص هذه المسألة، هو: كتاب “الملة”، وقد يكون، هذا الكتاب، لاحق التأليف لكتاب الحروف، بقرينة عدم ذكره في كتاب الحروف، وذكر غيره من كتب الفارابي في المنطق.

الملّة عند الفارابي:

1- الملة في كتاب الملة:

لقد خصص الفارابي كتابًا للبحث في الدين، هو “كتاب الملة”: الذي نرى أن غاية الفارابي الأولى، أو القريبة من تأليفه، هي؛ توضيح حقيقة الدين، وصفات رئيسه الأول، وخلفائه، وعلاقته بعلمي الفقه والكلام، وكذلك، علاقته بالفلسفة

ينطلق الفارابي في تفسيره لمحددات حدوث الملة من فرضية أساسية، مضمونها؛ أنه بعد اكتمال العلوم النظرية والعملية، تأتي مرحلة وضع النواميس، وهذا يحتاج إلى صناعة خاصة بذلك، وهي “صناعة وضع النواميس”، والحاجة إلى وضع هذه الأخيرة؛ هي التي أدت إلى حدوث الملة.

ويستعمل الفارابي كتاب “المتناول”، حاليًّا، بالدرس، لتعريف الملة، قائلًا: “الملة؛ هي آراء، وأفعال مقدرة ومقيدة بشرائط يرسمها للجمع رئيسهم الأول، ويلتمس أن ينال باستعمالهم لها غرضًا محدّدًا له، فيهم أو بهم، والجمع، ربما كان عشيرة، أو مدينة، أو صقعًا، أو أمة عظيمة، أو أممًا كثيرة. والرئيس الأول، إن كان فاضلًا، وكانت رئاسته فاضلة، في الحقيقة؛ فإنه يلتمس بما يرسم، أن ينال، هو وكل من تحت رئاسته، السعادة القصوى؛ التي هي، في الحقيقة، سعادة. وتكون تلك الملّة فاضلة”.

إن هذا التعريف الواسع والمحايد، حسب الباحث محسن مهدي، لا يبين أي رأي خاص في الله، والملائكة، والنبوة، والوحي، والثواب والعقاب في الآخرة، أو في مجال الأخلاق، ويتكون من أربعة عناصر، تجيب عن أربعة أسئلة:

1) ما هي الملة؟

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧◇◇

إنها جملة آراء وأفعال مقيدة بشرائط؛ أي جانب نظري وجانب عملي. النظري: هو مجموعة الآراء المتعلقة بالله وبالملائكة؛ أي الإلهيات، وكذلك، الآراء الخاصة بتركيبة العالم، ومنشئه؛ أي الكوسمولوجيا، والآراء المتعلقة “بالإنسان وحصول النفس فيه”

إضافة إلى تضمن الملة آراء خاصة بالعقل، ومرتبته من العالم، ومنزلته من الله، وكيف يكون من الروحانيين، و”النبوة ما هي؟ والوحي كيف هو؟”

وإذا كان ما سبق من آراء نظرية متعلقة بأشياء نظرية؛ فإن الجانب الثاني من الآراء النظرية، يتعلق بأشياء إرادية؛ أي عملية تخص أفعال الأنبياء، والملوك، والمدن، والأمم إن كل هذه الآراء، وإن كانت نظرية؛ فإنها تهدف إلى العمل؛ لأنها مجموعة من المثالات، التي يجب أن تساعد الناس في مراسهم

“إن آراء الملة؛ هي صفات تحيل إلى المدنيين، جميع ما في المدينة من ملوك، ورؤساء، وخدم، ومراتبهم، وارتباط بعضهم ببعض، وجميع ما يرسم لهم، ليكون ما يوصف لهم من ذلك، أمثلة يقتفونها في مراتبهم وأفعالهم”.

إن الطبيعة العملية للملة، تتجلى بوضوح أكثر في الجانب العملي منها؛ أي الأفعال، وهي: مجموعة الأقاويل التي ترد إلى العبادات، تمجيدًا وتعظيمًا لله، والملائكة، والأنبياء، …إلخ[، وكذلك، معاملات أهل المدن

2) من هو الفاعل الذي يحقق له أن يكون الرئيس الأول، واضع الملة؟

فالملة تفترض رجلًا يأتي بشريعة وعقيدة، فيجتمع الناس حوله، لا للاعتقاد فقط؛ وإنما ليقودهم إلى غرض معين؛ فالرئيس الأول: هو الذي يؤسس المدينة الفاضلة، والملة، حسب النص، لا تكون فاضلة إلا إذا كان الرئيس فاضلًا، ولا يكون الرئيس فاضلًا، إلا إذا كان نبيًّا فاضلًا يوحى إليه بالحقائق.

3) لمن تقدر تلك الآراء والأفعال؟

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

إنها جماعة ما، أو جمهور من الناس؛ إذ لا يقدرها الرئيس الأول للملة لنفسه، أو لبعض الأتباع وحسب؛ وإنما يقدرها لجماعة ذات حجم معين.

4) ما هو الغرض؟

في الرئاسة الفاضلة، وهي؛ الرئاسة المؤيدة بالوحي، تقدر الآراء والأفعال في الدين، بحيث “إذا استعملت في المدن أو الأمم، عمرت بها مساكنهم، ونال بها أهلها الخيرات في هذه الدنيا، والسعادة القصوى في الحياة الآخرة[16]، ويوضح الفارابي في السعادة الحقيقية، وهي التي تطلب لذاتها، ولا تطلب في وقت من الأوقات لينال بها غيرها أشياء أخرى؛ إنما تطلب لتنال هذه، فإذا نيلت، كفّ الطلب” هذه السعادة لا تتحقق إلا بإقامة المدينة الفاضلة.

أما في الرئاسة الجاهلية، وهي رئاسة غير مؤدية بالوحي، يكون هدف الدين وغايته تحقيق الخيرات الجاهلية، والتي هي خيرات دنيوية محضة، إما للرئيس الأول، من خلال استعمال أتباعه، واستغلالهم لتحقيق هذه المصالح الدنيوية، وإما للأتباع والجمهور، وإما للرئيس والجمهور معًا؛ فالغاية من الدين، هنا، مقصورة على الدنيا، ولا تتجاوزها

2- الملة والدين والشريعة:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

مثلث (الملة، والدين، والشريعة) تتساوى أضلاعه في الدلالة عند الفارابي تارة، وتتفاوت تارة أخرى، ويقول الفارابي في هذا الصدد: “والملة والدين، يكادا يكونان اسمين مترادفين، وكذلك، الشريعة والسنة؛ فإن هذين يدلان، ويقعان عند الأكثر من الأفعال المقدرة من جزأي الملة، ويمكن أن تسمى الآراء المقدرة شريعة، أيضًا؛ فتكون (الشريعة، والملة، والدين) أسماء مترادفة.

فإن الملة تلتئم من جزأين: تحديد آراء، وتقدير أفعال؛ فآراء الغرب المحددة للملة نوعان: إما رأي عبّر عنه باسمه الخاص به؛ الذي جرت العادة أن يكون دالًّا على ذاته، أو رأي عبر عنه باسم مثاله المحاكي له؛ فالآراء المقدرة التي في الملة الفاضلة؛ إما حق، أو مثال حق”.

ثم هناك مسألة أخرى، يجب الاهتمام بها، وهي: مسألة الترابط بين الملة والسنة؛ حيث إن الثنائي اللفظ الآخر، يطلق على أفعال مقدرة؛ أي على الجزء الثاني من الجزئين، اللذين منهما تلتئم الملة، وعلى الفرائض، والأقوال، والمعاملات، غير أن أحد اللفظين اللذين يلتئم منهما الثنائي؛ وهو الشريعة، يمكن أن يدل على الآراء المقدرة، أو على الجزء الأول من الملّة أيضًا. وبالتالي؛ فإن الشريعة، والملة، والدين، ألفاظ مترادفة حقًّا، وإن لم تكن كذلك؛ فإن الفروقات فيما بينها ليست ذات بال، وقد وضع لفظ سنّة جانبًا، لأنه، بلا ريب؛ لا يدل على آراء.

حسب حسن مهدي؛ فإن هذا الاستعمال العام، يبدو أنه يفترض، مسبقًا، التمييز بين آراء الملّة، وأفعالها، وبين الملل التي منحاها الرأي، وتلك التي منحاها الأفعال على حد سواء.

غير أن الأفعال وحدها، كما الآراء وحدها، لا تكفي لأن تلتئم الملة بها، وبصورة عامة؛ يتطابق عرض الفارابي مع الرؤية المشتركة للملة، غير أن هذه الأخيرة، تميل إلى اعتبار الملة، بالأحرى، شريعة؛ أي أفعال مقدرة، وآراء محددة، ينبغي قبولها، والتقييد بها.

الملة في كتاب “الحروف”:

♧♧♧♧♧♧♧♧◇♧♧♧♧♧♧♧♧♧

خصص أبو نصر الفارابي حيزًا مهمًّا للملة، في كتابه الحروف، خاصة في الباب الثاني (131-161)، ويدرسها في علاقتها بالفلسفة واللغة.

مما لا شك فيه أن كتاب الحروف؛ هو تفسير لكتاب أرسطو طاليس، فيما بعد الطبيعة، (الحروف- مهدي 35)، غير أننا نجد ضمن هذا التفسير؛ “غرض أرسطو طاليس في كتاب ما بعد الطبيعة”، ضمن لغة جديدة، وعصر جديد؛ بل وإضافة غرض جديد؛ هو الملة.

يقدم الفارابي في الباب الثاني، حسب الدكتور محمد عابد الجابري، نوعًا من فلسفة التاريخ، حاول الفارابي أن يشرح فيها تطور الثقافة في المجتمعات، من مرحلة التعبير المشخص بالإشارة والتصويت، إلى أعلى مراحل التعبير المجرد، وهي؛ مرحلة الدين والفلسفة.

وقد لجأ في محاولته هذه إلى المقايسة بين تطور الفكر اليوناني، وتطور الفكر الإسلامي، تارة يقرأ الأول بواسطة الثاني، وتارة أخرى، يقرأ الثاني بواسطة الأول، غير أنه يعرج تارة على الفكر الفارسي، وطورًا على الفكر الهندي، مبرزًا تداخل هذه الثقافات، وانتقال بعضها إلى ميدان الأخرى، محاولًا إثبات الأسبقية الزمنية للفلسفة على الدين، إلى جانب أسبقيتها المنطقية، التي شرحها في كتبه الأخرى، وخاصة في كتاب “الملة”، وكل ذلك بأسلوب تعميمي متقطع، وبطريقة تجريدية جدّ ملتوية، فيها تردد، وغموض، وتستّر، …إلخ.

فيستعرض الفارابي تطور التعبير، ابتداءً من حدوث حروف الأمة وألفاظها، مرورًا بأصل لغة الأمة، ووصولًا إلى حدوث الصنائع العامة؛ الخطابة، والشعر، ورواية الأخبار، وعلم اللسان، وصناعة الكتابة، ثم إلى حدوث الصنائع القياسية، والعلوم النظرية، ثم يتتبع تطور هذه من مرحلة الطرق الخطابية السفسطائية، إلى الطرق الجدلية، التي تأخذ بالاقتراب، شيئًا فشيئًا، من الطرق اليقينية إلى أن: “يصير الحال في الفلسفة، كما يقول، إلى ما كانت عليه في زمن أفلاطون، ثم يتداول ذلك، إلى أن يستقر الأمر على ما استقر عليه أيام أرسطو طاليس؛ فيتناهى النظر العلمي، وتتميز الطرق كلها، وتكمل الفلسفة النظرية، الفلسفة العلمية الكلية، ولا يبقى فيها موضع فحص؛ فتصير صناعة تتعلم، وتعلم فقط، ويكون تعليمها تعليمًا خاصًّا، وتعليمًا مشتركًا.

فالتعليم الخاص؛ يكون بالطرق البرهانية فقط. والتعليم المشترك؛ يكون بالطرق الجدلية، أو الخطابية، أو الشعرية”، ثم ينتقل الفارابي، عبر هذا التأويل الإيديولوجي، إلى هدفه الأساسي، فيقول: “ومن بعد هذه كلها، نحتاج إلى وضع النواميس، وتعليم الجمهور ما قد استنبط وفرغ منه، وصحّح بالبراهين من الأمور النظرية، وما استنبط بقوة التعقل من الأمور العملية؛ فإذا وضعت النواميس في هذين الصنفين، أو ضفنا إليهما الطرق التي يقنع بها الجمهور، ويعلّم، ويؤدّب؛ فقد حصلت الملّة، التي علم الجمهور بها، وأدّبوا، وأخذوا كل ما ينالون به السعادة”.

إذن؛ فالملة هدفها تعليم الجمهور بالإقناع، أو التخييل، أو بهما معًا، ما تنتجه الفلسفة برهانيًّا (الحروف 151).

ولأن الملة تخيل للجمهور الأشياء التي برهنت عليها الفلسفة؛ فلا يتردد الفارابي في إعلان؛ أن الأولى تتقدم على الثانية (الحروف 133)، وذلك؛ لأنها تابعة لها (الحروف 153)، تبعية مزدوجة؛ فهي تبعية زمنية، إذن؛ فالملة إذا جعلت إنسانية، تلت الفلسفة في الزمان، وكذلك، تبعية في المرتبة؛ إذ إنه إذا كانت الملة مستندة إلى فلسفة قديمة مظنونة أو مموهة (الحروف 151)، كانت ملة فاسدة (الحروف 154). أما عندما تكون الفلسفة التي تؤسس الملة فلسفة يقينية؛ فإن الملة، بدورها، تكون صحيحة

يمكن القول: إن معيار التمييز في كتاب الحروف، بين الدين الفاضل، والدين الفاسد؛ هو نوع الفلسفة التي يتبع لها الدين.

فالدين الصحيح: هو الذي يتبع فلسفة برهانية يقينية.

أما الدين الفاسد؛ فهو الذي يتبع فلسفة غير برهانية.

ولكن هناك مشكل يطرح بالقول: (إن الملة جاءت بعد الفلسفة)؛ لأن السؤال المطروح، هنا، هو: إذا كانت الملة قد جاءت بعد الفلسفة، ينبغي أن تكون أكثر تقدمًا منها؛ فكيف يجعل الفارابي الملة إنسانية وهي ليست إنسانية لأنها عبارة عن وحي أو سنة؟

والجواب: إن علم الكلام والفقه، يخضعان الملة لمقتضيات العقل، وبفضلهما يتحول هذا النبع؛ الذي هو الملة، إلى أمر إنساني يمكن الخوض فيه[24]، فالفارابي يقول: “إنه يمكن تأسيس الملة الإنسانية في أي وقت من مسار تطورها، ما دامت تتكون من المعتقدات والممارسات، التي يفرضها المشرّع الإنساني، ولكن كمالها سيعتمد على مدى تقدم الفكر الإنساني، والخبرة الإنسانية، في ذلك الوقت.

فالملة الإنسانية عالقة، أيضًا، في هذه الحركة الدائرية للتاريخ الإنساني، وهي تتشابه مع حركة النواتج الثقافية عبر حدود الأمم، وهي عرضة للانتحال من قبل مدَّعِي تأسيس الملل، الذين يبحثون عن الشهرة والمجد؛ لذلك تكون الملة الإنسانية الأفضل: هي تلك الملة التي تتأسس في ذروة تطور الصناعات الفكرية والعملية”.

ونحن نعتقد أن الملة، عندما تصبح إنسانية؛ فهي عبارة عن فقه، وعلم كلام

3– الملّة في تحصيل السعادة:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

يعالج الفيلسوف (أبو نصر الفارابي) مسألة الملة في كتاب “تحصيل السعادة”، باعتبار الملّة محاكية للفلسفة، وليست هي نفسها الفلسفة؛ حيث إن الفلسفة معرفة بالموجودات والأفعال عن طريق البرهان الإقناعي؛ فإن هذه الموجودات “متى علمت أن تخيلات بمثالاتها التي تحاكيها، وحصول التصديق بما خيل منها عن الطرق الإقناعية، كان المشتمل على تلك المعلومات يسميه القدماء ملّة”

كما أن الفلسفة والملة، لا تنحصران في الموضوع؛ بل تشتركان كذلك في المقصدان، وهما: “تعطيان الغاية القصوى، التي لأجلها كوّن الإنسان، وهي؛ السعادة القصوى”.

ولكن السبل النظرية مختلفة؛ إذ إن كل ما تعطيه الفلسفة من مبادئ، وأسباب، وغايات، (معقولًا أو متصوّرًا)؛ فإن الملة تعطيه متخيلًا، وإن كانت الأولى تتوسل “براهين يقينية”

إيمانه بوحدة الحقيقة

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

” ”واجب الوجود عقل محض، يعقل ذاته بذاته، فهو عاقل ومعقول في آن واحد.“ “

إيمانه بوحدة الحقيقة كان يعتقد أن الحقيقة الطبيعية الفلسفية واحدة وليس هناك حقيقتان في موضوع واحد بل هناك حقيقة واحدة وهي التي كشف عنها أفلاطون وأرسطو، وبرأيه أن كل الفلسفات التي تقدم منظومة معرفية ينبغي أن تحذو حذو أفلاطون وأرسطو. ولكن بين أفلاطون وأرسطو تناقض أساسي وكان الفارابي يعتقد أن فلسفة أفلاطون هي عين فلسفة أرسطو ووضع كتاب (الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو) أفلاطون وأرسطو كلاهما يبحثان في الوجود من جهة علله الأولى، وعند أفلاطون الوجود والعلل الأولى هي (المثل) وأرسطو (العلل الأربعة) ولكن الفارابي كان يعتقد في كتابه أنه لا فرق وحاول أن يوفق بين الفيلسوفين وقدم مجموعة من الأدلة ليقول أن هؤلاء كشفا الحقيقة وكل من جاء بعدهما يجب أن يحذو حذوهما.

نظريته الخاصة بالوجود

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

” ”فما الدار دار خـلـود لنا ولا المرء في الأرض بالمعجز“ “
—أبو نصر محمد الفارابي

ترجمه لاتينية لـ كتاب “إحصاء العلوم” ترجمة جيراردو الكريموني.
نظريته في الوجود، وهنا تبدو النظرية التي تسمى بالصدور والفيض وهي أبرز ما يميز الفارابي فهو يميز بين نوعين من الموجودات:

الموجود الممكن الوجود
الموجود الواجب الوجود
هنالك موجودات ممكنة الوجود كثيرة، لكن موجود واحد واجب الوجود. الموجود الممكن الوجود: الموجود الذي متى فُرِض موجودا أو غير موجود لم يعرض منه محال. يعني وجوده أو عدم وجوده ليس هناك ما يمنع ذلك. لكن إذا وجدت لابد لها من علة وكل الموجودات التي تحقق وجودها حوادث. الموجود الواجب الوجود: الموجود الذي متى فرضناه غير موجود عرض منه (الهاء تعود على الفرض) محال. يعني لا يمكن إلا أن يكون موجودا وهو في المصطلح الديني (الله) فنحن لا يمكن أن نقول الله ليس موجود؛ لأنه لا يمكن لنا أن نقول بعد أن قلنا الله ليس موجود كيف وجد العالم. (مؤيس الأيسات عن ليس) تعني موجود الموجودات من العدم (أليس أي أوجد). س/ لا نستطيع أن نفهم كيف وجدت الموجودات الممكنة عن واجب الوجود؟ وكان جواب الكندي هو (مؤيس…..) أما الفارابي يقول أن واجب الوجود طبيعته عقل محض واحد من كل الجهات جوهر عقل محض يعقل ذاته وموضوع تعقله هو ذاته، خلافا لنا نعقل ذاتنا ونعقل أيضا الموجودات الطبيعية ولكن واجب الوجود عند الفارابي يعقل ذاته فقط ويقول الفارابي أنه من تعقله لذاته يفيض عنه عقل أول، يكفي أن يعقل واجب الوجود ذاته حتى يصدر عنه عقل أول أي فعل التعقل فعل مبدع يصدر على سبيل الضرورة لا الإرادة والقصد. يصدر عقل من تعقله لما فوقه يصدر عقل آخر ومن تعقله لذاته يصدر فلك..إلخ العقل الأخير هو العقل الفعال والفلك الخاص به فلك القمر.

المصادر والمراجع

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

[1]– محمد آيت حمو، الدين والسياسة في فلسفة الفارابي، ص 27.

[2]– أحمد العلمي حمدان، الكلام كجنس، دراسة لذاتيات الكلام من زوايا ومباحث متعددة، منشورات ما بعد الحداثة، ط1، 2007م، ص 10.

[3]– عزمي طه، سيد أحمد الدين والإيديولوجيا في الفكر السياسي للفارابي، دار المسار، الأردن، 2002م، ص 15.

[4]– عبد الله الطني، معجم الفلسفة الفارابية، بحث لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة، تحت إشراف الدكتور: طه عبد الرحمن، السنة الجامعية 2003م- 2002م، جامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، ص 180.

[5]– أبو نصر الفارابي، كتاب الملة، نصوص أخرى، تحقيق: محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، ط2، 1991م، ص 43.

[6]– محسن مهدي، الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية، ترجمة: وداد حاج حسن، دار الفارابي، 2009م، ص 142.

[11]– صالح مصباح، مسألة الملة عند الفارابي، ضمن دراسات حول الفارابي، جامعة صفاقس تونس، 1995م، ص 190.

[15]– محمد آيت حمو، الدين والسياسة عند الفارابي، دار التنوير، بيروت، ط1، 2011م، ص 31.

[20]– محسن مهدي، الفارابي وتأسيس الفلسفة السياسية الإسلامية، ص 155.

[22]– محمد عابد الجابري، نحن والتراث مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2006م، ص ص 118-119.

[23]– صالح مصباح، مسألة الملة عند الفارابي، ص 199.

[24] – محمد آيت حمو، الدين والسياسة عند الفارابي، ص 75.

[25] – محسن مهدي، الفارابي وتأسيس الفلسفة السياسية الإسلامية، ص 107.

[26] – محمد آيت حمو، م س، ص 75.

[27] – أبو نصر الفارابي، تحصيل السعادة، ص 90.

الفيلسوفة هيباتيا شهيدة الفلسفة، الفيلسوفة التي رجمها التطرف المَسِيحِي الكَنَسِي

لا توجد معلومات مؤكدة عن تاريخ ميلادها لكن دراسات أجريت مؤخراً تشير إلى أنها قد ولدت عام 370م بالإسكندرية. أي أنها كانت تبلغ 45 عامًا عند وفاتها. يبدو أن هيياتيا كان تعرف باسمين مختلفين أو كان هناك طريقتان لكتابة نفس الاسم، الأولى هيباتيا والثانية هيباشيا. وقد كان هناك آنذاك امرأتان تحملان ذلك الاسم، هيباتيا ابنة ثيون السكندري، وهيباتيا ابنة اريتريوس. كان والد الأولى هو عالم الرياضيات والفلك الشهير ثيوس الذي عاصر ببس الرومي الذي عاش بالإسكندرية خلال فترة حكم الإمبراطور ثيوذوسيوس الأول. وقد اعتبر كُتّاب السيرة الذاتية لثيون، رئيس جامعة الإسكندرية، أنه كان فيلسوفًا.

كانت هيباتيا تتبع المدرسة الأفلاطونية المحدثة الفلسفية القديمة، لذا فكانت تتبع النهج الرياضي لأكاديمية أفلاطون في أثينا، التي مثّلها إيودوكيوس الكنيدوسي،تأثرت هيباتيا بفكر أفلوطين الذي عاش في القرن الثالث الميلادي، الذي كان يفضّل الدراسة المنطقية والرياضياتية بدلاً من المعرفة التجريبية، ويرى أن للقانون أفضلية على الطبيعة.حياة العقل لأتباع أفلوطين كان الهدف منها الاتحاد مع الصوفية الإلهية.

عاشت هيباتيا في مصر الرومانية، وماتت على يد حشد من المسيحيين بعد اتهامها بممارسة السحر والإلحاد والتسبب في اضطرابات دينية. ترى كاثلين وايلدر أن مقتل هيباتيا يُعدّ نهاية للعصر الكلاسيكي القديم،كما لاحظ ستيفن غرينبلات إن مقتلها “أثَّر بشدة في انحدار الحياة الفكرية السكندريَّة”، وعلى النقيض فيرى كريستيان فيلدبرغ وماريا زيليسكا أن الفلسفة الهلنستية ظلت في حالة متألقة خلال القرنين الخامس والسادس، وربما حتى إبَّان عهد الإمبراطور جستينيان الأول.

مركز الأخبار ـ أول شهيدة علم رجمها التطرف الديني بالحجارة، وعملوا على تقطيع جسدها وحرقها بتهمة التمسك بالوثنية، وممارسة السحر والإلحاد، والخروج عن مفاهيم الكنيسة بابتكار نظريات علمية تضلل البشر، سقطت هيباتيا ضحية للفكر المتعصب الذي لا يؤمن بحق الاختلاف ولا يعرف إلا خطاب العنف والكراهية.

ولدت هيباتيا في الإسكندرية عام 355م، والدها الفيلسوف وعالم الرياضيات الفيثاغوري ثيون ألكنسدروس الذي يعد من أفضل الفلاسفة الذين عاشوا في منتصف القرن الرابع وعاصر الرياضي اليوناني ببس الرومي، كان الأبناء يتلقون تعليمهم من الأسرة التي تؤهلهم للعمل العلمي الثقافي، ولقنها ثيون تربية علمية وجعلها تترعرع بين المخطوطات، وعمل على أن تكون فيلسوفة ورياضية مثقفة.

وكانت تعرف باسم “هيباشيا”، كان للاسم طريقتين مختلفتين في الكتابة، الأولى “هيباتيا” والثانية “هيباشيا”، سافرت إلى أثينا وإيطاليا للدراسة قبل أن تكون عميدة المدرسة الأفلاطونية عام 400 م، وقد عُرفت بدفاعها عن الفلسفة والتساؤل، وعارضت الإيمان المجرد.

حازت هيباتيا على شهرة علمية في مجال الرياضيات والفلسفة والفلك، بدرجة عالية من الذكاء والعلم الواسع، وبحسب الموسوعة البيزنطية “سودا” التي صدرت في القرن العاشر الميلادي، فإن هيباتيا عملت أستاذة للفلسفة، وكان من بين طلابها عدد من المسيحين وأجانب يهود ووثنيين، ورغم أنها لم تكن تؤمن بأي إله إلا أنها كانت رمزاً للفضيلة لأغلب المؤلفين المسيحين.

نشأتها

لم ينقل لنا كتاب السيرة الذاتية لهيباتيا سوى القليل عن حياتها الخاصة المبكرة. ونعلم أنها نشأتها على صلة وثيقة مع جامعة الإسكندرية وقد تلقت الجزء الأكبر من تعلمها على يد والدها.

إذا كنا سوف نحكم بناءًا على السجلات التي تركها المؤرخون يمكننا أن نستخلص أن حياتها المبكرة لم تكن مليئة بالأحداث وإنها قد قضت الجزء الأكبر من وقتها في الدراسة والقراءة مع والدها في الجامعة. وقد دفعنا سويداس وسقراط وآخرون إلى الاعتقاد بأن هيباتيا كانت رائعة الجمال ليس فقط من حيث الشكل بل أيضاً من حيث الشخصية.

ولدت هيباتيا في الإسكندرية حوالي عام 355م. والدها هو الفيلسوف وعالم الرياضيات ثيون. ومع أنه من أفضل الفلاسفة الذين عاشوا في منتصف القرن الرابع، إلا أن المصادر لم تذكر أي شيء بشأن زوجته والدة هيباتيا. لكنها ربما كانت تنتمي إلى أسرة من المفكرين حيث كانت تتم العديد من الزيجات التي جمعت بلاغيين وفلاسفة ببنات زملائهم خلال الفترة التي تزوج فيها والدي هيباتيا. على سبيل المثال تزوج الفيلسوف ثامسطيوس من ابنة فيلسوف آخر خلال أربعينات القرن الثاني (340م)، كما تزوج البلاغي هوميروس من فتاة تنتمي إلى أسرة عريقة من المفكرين بأثينا في نفس الفترة تقريبًا.

في العادة كان الأبناء الذين يولدون لمثل تلك الزيجات يتلقون تعليمًا يؤهلهم للعمل الثقافي الذي تمتهنه الأسرة. هذا الأمر ليس مفاجئًا، لكن الأبناء الإناث أيضًا كن بحاجة إلى التعليم. وقد كانت بعضهن تتدربن كذلك على التدريس، لكن حتى اللاتي لم ترغبن في التدريس كن بحاجة إلى تدريب كافٍ كي تتمكن من تعليم أبنائها. كانت الزوجات الرومانيات أصغر سنًا بكثير من أزواجهن وأدى الواقع الديموغرافي آنذاك إلى أن تتولى النساء تعليم الأبناء بعد وفاة الأزواج. إذا كان الأبناء سوف يرثون مهنة العائلة فلا بد أن يكون باستطاعة الأمهات تحديد ما إذا كان المعلم قادراً أم لا.

ليس بإمكاننا أن نحدد قدر التعليم التي تلقته والدة هيباتيا لكن من الواضح أن ثيون وزوجته أنشآها على أن تكون شابة فيلسوفة ورياضية مثقفة، وهو ما يعني أن التعليم الذي حظيت به هيباتيا اختلف تمامًا عن التدريب العملي الذي كانت تتلقاه المصريات. وعلى الرغم من تعلم نساء الطبقتين الفقيرة والمتوسطة اللاتي تعيشن في المناطق الريفية مبادئ الآداب إلا أنهن لم يحتجن إلى مستوى أكثر تقدمًا. قد يكون الحال أفضل قليلاً بالنسبة للفقيرات من سكان الحضر، فقد كانت لديهن فرصة أكبر في التعلم لكن ذلك لم يكن يتعدى مجرد التعرف على الحروف وكتابتها. أما نساء الطبقة العليا فقد كن يحظين بفرص أكثر، على الأقل نظريًا.

وقد كان التعليم لدى الصفوة في القرن الرابع عبارة عن عملية متعددة المراحل، تبدأ في المنزل بإعطاء مقدمة عن سبل الخطابة الملائمة ثم تحليل القصص التي تستخلص منها دروساً حول السلوك اللائق. وقد كان معظم هذا التدريب المبدأي يتم بواسطة مرضعات تعينهن الأسر للاعتناء بالطفل حتى سن السادسة أو السابعة. وفي سن السابعة تبدأ الفتاة في تعلم اللغة وقواعد السلوك الأساسية التي ستجعل منها أحد أفراد الصفوة.

بلغت هيباتيا مرحلة التدريب النحوي في بداية مراهقتها وهو يرتكز على تمارين تساعدها على تعلم كيفية تصحيح القواعد النحوية، وتطوير مهارات التعبير البلاغي، وإجادة المحتوى الرئيسي لبعض الأعمال الأدبية الشهيرة التي تنتمي للعصور الوسطى. كان هذا التدريب ذا إهمية مضاعفة نظرًا لاختلاف اللغة اليونانية التي يستخدمها صفوة المصريين في الكتابة، عن اللغة اليونانية المستخدمة التي يتحدث بها معظم الناس. فبعد مرور 700 عام على الفترة التي عاش فيها أفلاطون، وبينما ظلت اللغة اليونانية الأدبية إلى حد ما كما هي طوال تلك القرون، تطورت اللغة الشفهية بشكل ملحوظ. فقد كانت اللغة اليونانية في الفترة الكلاسيكية تنطق بلهجة مختلفة عما أصبحت عليه في القرن الرابع، مما جعل من الصعب على متحدثي اللغة اليونانية الرومانية الأواخر أن يستوعبوا الأوزان الشعرية اليونانية (وحتى بعض الكلمات المنفردة). لذلك فقد كان لا بد من تعلم اللغة اليونانية الأدبية لمن كانت اليونانية لغتهم الأم مثل هيباتيا.

كان التدريب النحوي بمثابة تمهيد لكيفية القراءة والكتابة وفهم اللغة، ولكن كان له أيضًا غرض خفي. فقد كان المعلمون يصممون دروسهم بحيث يتم قراءة مجموعة من النصوص والتوقف عند كل مرة يتم فيها الإشارة إلى حدث أو شخصية مهمة لشرحها للطلاب. ومع تقدم الفتاة في التدريب، بدأت تعمل على تمرينات تعرف باسم “بروجيمناسماتا”.

وقد دفعتها تلك التمارين إلى تناول تفاصيل بعض القصص شهيرة، والمقولات المؤثرة المنسوبة لشخصيات تاريخية مثل ديوجانس الكلبي وإيسقراط، بالإضافة إلى تحديد الموضوعات بإستخدام المهارات اللغوية التي كانت قد اكتسبتها مسبقًا. وقد ساعدها ذلك على تطوير مهاراتها في الكتابة والقراءة كما كان هذا التدريب أيضا بمثابة تربية أخلاقية فقد تم اختيار النصوص التي قرأت والقصص التي حللت والشخصيات التاريخية التي نوقشت لأنها تساعد أفراد الصفوة الصغار على فهم السلوكيات اللائقة

شخصية هيباتيا جزء من التسامح الإغريقي

كانت هيباتيا ذات مظهر جذاب وأمضت حياتها عذراء، وعند سؤالها عن سبب حبها لعلوم الرياضيات ورفضها للزواج كانت تجيبهم بأنها متزوجة بالحقيقة، ويحكى أنها رفضت إعجاب أحد طلابها عن طريق إعطائه منديل أبيض ملطخة ببقع من دمها موضحة له أنه لا يوجد شيء جميل في الرغبات الجنسية.

الشيء الذي يوحي رفضها لإعجاب طالبها، كان محكوم بالسياق التاريخي الذي عاشت فيه، إنه سياق ارتبط بنشأة المسيحية التي كانت تنبذ الجنس والجسد وتنظر إلى المرأة كعورة، ففي شخصية هيباتيا جزء من التسامح الإغريقي بدعوتها إلى التعايش بين المؤمنين والملحدين، لكن المسيح حاصروا مكتبة الإسكندرية لأنها في نظرهم تدرس علوماً شيطانية.

تبادلت هيباتيا المراسلات مع تلميذها سينوسيوس القورينائي، الذي أصبح عام 410م، أسقف بتلومياس في ليبيا، وتعتبر هذه الرسائل مع كتابات دامسكيوس عنها المصادر الوحيدة المتبقية عن هيباتيا.

يتحدث المؤرخ الكنسي سقراط عن هيباتيا في كتابه “تاريخ الكنيسة”، قائلاً “كانت هناك امرأة في الإسكندرية تدعى هيباتيا، وهي ابنه الفيلسوف ثيون، كانت بارعة في تحصيل كل العلوم المعاصرة، مما جعلها تتفوق على كل الفلاسفة المعاصرين لها، حيث كانت تقدم تفسيراتها وشروحها الفلسفية، خاصة فلسفة أفلاطون لمريديها الذين قدموا من كل المناطق، بالإضافة إلى تواضعها الشديد لم تكن تهوى الظهور أمام العامة، رغم ذلك كانت تقف أمام قضاة المدينة وحكامها دون أن تفقد مسلكها المتواضع المهيب، الذي كان يميزها عن سواها، والذي اكسبها احترامهم وتقدير الجميع لها، كان والي المدينة ارستوس في مقدمة الذين كانوا يكنون لها عظيم الاحترام”.

ارتباط هيباتيا بمدرسة الإسكندرية

استقطب بطليموس الأول إلى مدينة الإسكندرية المصرية عدداً من المفكرين، وطلب من رجل البلاغة والسياسة “ديمتريوس فاليرويوس” تأسيس مكتبة، التي أصبحت فخر الإسكندرية، ومركز نادراً للعلوم الإنسانية مع تأسيس الموزيوم “بور سعيد” حالياً.

وأصبحت هذه المكتبة مركزاً يجتمع فيه كبار رجال الفكر والفلسفة والعلم، وتحول إلى ملتقى لكل الشباب الراغبين بالتحصيل الثقافي والفني، وارتبط اسم هيباتيا باسم مكتبة الإسكندرية.

وبلغ هذا المركز إلى أوج ازدهاره خلال فترة 100 سنة من تأسيسه، وبعد أن احتل الرومان مدينة الإسكندرية سنة 31 قبل الميلاد، وعزلوا البطالمة عن الحكم، خاب ذكر هذه المدرسة وقلت شهرتها.

ومع العهد الروماني أصبحت مهمة التعليم محصورة بالسكان الأصليين، أي مواطني الإسكندرية، الأمر الذي خفف أكثر فأكثر من شهرتها.

وفي سنة 273 ميلادية أمر الإمبراطور الروماني أورليانوس بهدم الجزء الذي كان للحكام، وتم هدم الموزيوم أيضاً، ولم يبق من هذا الصرح سوى المكتبة، وانسحب رجال العلم وأخذوا معهم كنوزهم الفكرية، من كتب ومراجع ونقلوها إلى صرح المكتبة.

ومع دخول المسيحية إلى العالم الروماني زاد حجم التغيير الثقافي، وتشعب ليطال أنماط جديدة من الطروحات الفلسفية والفكرية. وبقيت الإسكندرية مركزاً طبياً كبيراً ومرموقاً، وعوضاً عن الفلسفة توجهت الأبحاث العلمية نحو الرياضيات والطب.

التخصص

تخصصت هيباتيا في مجال الفلسفة الأفلاطونية المحدثة وعلم الفلك، حيث كانت تتبع المنهج الرياضي لأكاديمية أفلاطون في أثينا، وترتكز الأفلاطونية المحدثة على “الجوانب الروحية والكونية في الفكر الأفلاطوني مع مزجها بالديانتين المصرية واليهودية”، والذي مثلها الفلكي اليوناني إيودوكيوس الكنيدوسي، كما تأثرت بفكر أفلوطين الملقب بـ “الشيخ اليوناني”، الذي عاش في القرن الثالث الميلادي، وكان يفضل الدراسة المنطقية والرياضياتية بدلاً من المعرفة التجريبية، ويرى أن للقانون أفضلية على الطبيعة، وحياة العقل لأتباع أفلوطين كان الهدف منها الاتحاد مع الصوفية الإلهية.

ويعود الفضل لهيباتيا في ابتكار طريقة جديدة في الرياضيات لحساب المدة الزمنية المعروفة بـ “القسمة الستينية” التي تعد هذه القسمة أقرب إلى طريقة البابليين من طريقة أبيها، كما نقحت شروح أبيها في علم الفلك كتاب “المجسطي”، لبطليموس الأشهر في الفلك.

ويرى المؤرخ اليوناني سويداس أنها كتبت شروحاً عن أعمال أبوللونيوس وقوانين بطليموس الفلكية، لكنها فقدت وحرقت بموتها.

التدريب النحوي والتمرينات

بلغت هيباتيا مرحلة التدريب النحوي في بداية مراهقتها، الذي يرتكز على تمارين تساعدها في كيفية تصحيح القواعد النحوية، وتطوير مهارات التعبير البلاغي، وإجادة المحتوى الرئيسي لبعض الأعمال الأدبية الشهيرة التي تنتمي للعصور الوسطى.

كان لهذا التدريب أهمية مضاعفة نظراً لاختلاف اللغة اليونانية التي يستخدمها صفوة المصريين في الكتابة، فضلاً عن اللغة اليونانية المستخدمة التي يتحدث بها معظم الناس، فبعد مرور 700 عام على الفترة التي عاش فيها أفلاطون، وبينما ظلت اللغة اليونانية الأدبية إلى حد ما كما هي طوال تلك القرون، تطورت اللغة الشفهية بشكل ملحوظ، وكانت اللغة اليونانية تنطلق بلهجة مختلفة عما أصبحت عليه في القرن الرابع، مما جعل من الصعب على متحدثي اللغة اليونانية الرومانية الأواخر أن يستوعبوا الأوزان الشعرية اليونانية، لذلك فقد كان لابد من تعلم اللغة اليونانية الأدبية لمن كانت اليونانية لغتهم الأم مثل هيباتيا.

وكان التدريب النحوي بمثابة تمهيد لكيفية القراءة والكتابة، بالإضافة لغرضه الخفي، فقد كان المعلمون يصممون دروسهم بحيث يتم قراءة مجموعة من النصوص والتوقف عند كل مرة يتم فيها الإشارة إلى حدث أو شخصية مهمة لشرحها للطلاب، ومع تقدم هيباتيا في التدريب بدأت تعمل في التمرينات التي عرفت باسم “بروجيمناسماتا”.

ودفعتها تلك التمارين إلى تناول تفاصيل بعض القصص الشهيرة، والمقولات المؤثرة المنسوبة لشخصيات تاريخية مثل الفيلسوف اليوناني “ديوجانس الكلبي”، الذي يعتبر من أبرز ممثلي المدرسة الكلبية الأوائل، والكاتب والمعلم اليوناني “إبسقراط”، بالإضافة إلى تحديد الموضوعات باستخدام المهارات اللغوية التي كانت قد اكتسبتها مسبقاً، وقد ساعدتها هذه التمارين على تطوير مهاراتها في القراءة والكتابة.

تعليمها

تعلمت هيباتيا العلوم الرياضية على يد والدها، ونتيجة الاطلاع والخبرات توسعت لدى فكرها صوراً أخرى من الفلسفة بالمعنى الواسع والشامل، كما برعت في مجال اللغة والقواعد النحوية، مما برز تفوقها على والدها في هذه المجالات.

ولم يذكر اسم أي معلم تلقت التعاليم على يده سوى والدها، وهذا ما يثير الغموض حول طرق تلقيها العلوم التي ترجح في الأغلب أنها تلقتها المنزل، ففي القرن الرابع، كانت الحواجز بين فروع النحو والبلاغة والفلسفة، قد بدأت تتلاشى مقارنة بالفلسفة والرياضيات التي نالت بشكل خاص اهتمام كبير.

قضت هيباتيا فترة قصيرة في دراسة البلاغة، وانتقلت بعدها إلى علوم الرياضيات بعد دراسة اتجاهات كتاب “بروجيمناسماتا” “Prgymnasmata”، واستعراض باقي المسائل العلمية الأساسية مثل الكتابة الفعالة للخطابات.

كانت مدرسة ثيون تركز على الرياضيات عندما كانت هيباتيا تتلقى التعاليم فيها، وكان الفلاسفة يقومون بتدريس الرياضيات كمنهج تمهيدي بحيث يتم تهيئة التلاميذ لدراسة فلسفة أرسطو وأفلاطون، وتضمن تدريبها قراءة منهجية لمجموعة من النصوص الرياضية التي تم إعدادها صورة خاصة بحيث تسمح لها باكتساب وتطوير المهارات الرياضية الأكثر تعقيداً.

وانتقلت هيباتيا من كونها طالبة تدرس العلوم الرياضية في مدرسة والدها، إلى أن أصبحت أحد زملائه.

أعمالها

كانت معظم أعمال هيباتيا مشتركة مع والدها الفيلسوف ثيون ألكنسدروس نتيجة ندرة وجود أعمال أنثوية منفردة للنساء في العصور القديمة، ومن مساهماتها في مجال العلوم أنها رسمت مواقع للأجرام السماوية، واخترعت مقياس ثقل السائل النوعي المستخدم في قياس كثافة ولزوجة السوائل، وقد قال تلميذها سنيوسيوس أنها صنعت أيضاً نوع من آلات الاسطرلاب.

وتضمنت أعمال هيباتيا تعليقات على كتاب “أريثميتيكا” من تأليف ديوفانتوس، وفي إحدى المسائل الرياضية التي طرحتها على طلابها طلبت منهم إيجاد حل وهو رقم صحيح للزوج التالي من المعادلات: س ـ ص = أ، س2 ـ ص2 =(س ـ ص) + ب، إذا كان أ و ب معروفين، أوجد قيمة س، و ص، و أ، و ب لجعل كلتي المعادلتين صحيحتان.

سبب تهديدها

كانت هيباتيا تمتاز بميزات تجعلها متفوقة وبارعة في مجالاتها، مما زاد محبتها بين الناس، وإقبال الطلبة عليها، هذه المحبة ونجاح منهجها سبباً لتحقير رئيس أساقفة الإسكندرية، مما اطلق عليها لقب “ساحرة”.

ولأن الكنيسة مرجع الدولة الرومانية التي تدين بالنصرانية، وتعمل على قطع كل مظاهر العلم والثقافة ومطاردة العلماء، حاولوا توقيف هيباتيا بعد نجاحها، كما بدأ التخطيط لإسكاتها.

رجمها حتى الموت

كانت هيباتيا تعتبر نفسها محدثة أفلاطونية، ووثنية من أتباع فيثاغورس، وكان التفاف المثقفين حولها يسبب حرجاً حول الكنيسة المسيحية وراعيها الأسقف كيرلس الأول الملقب بـ “عمود الدين”.

ويقول عالم المنطق والمؤرخ البريطاني برتراند رسل أن القديس كيرلس كان غيوراً على الدين غيرة فيها هوس التعصب، فاستخدم منصبه في إثارة المذابح ضد الجالية اليهودية في الإسكندرية، وأشهر ما كتب عنه هو محاكمته ومعاقبته لـ “هيباتيا” غير مستند إلى قانون.

واعتبر المسيحيون المنافسون لفلسفة هيباتيا أقوالها الأفلاطونية حول طبيعة الإله والحياة الأخرى كفراً، بالإضافة إلى عدم التزامها بمبادئ الدين المسيحي، وصداقتها المتينة للوالي أوريستوس الذي كان على خلاف سياسي مع أسقف الإسكندرية كيرلس الأول، حيث بدأت أعداد متلقي تعاليمها تزداد بصورة لافتة للأنظار، مما زاد من مخاوف كيرلس.

ودخل الأسقف في صراع مع اليهود الموجودين بمدينة الإسكندرية لإخراجهم منها، وشكلوا ما يمكن تسميته بـ “جيش الكنيسة”، ولم يكن باستطاعة الوالي التصدي لهذا الصراع، بل وتعرض للإهانة والقذف بالحجارة، تأزمت العلاقات بين المسيحين والوالي أوريستوس المسيحي بسبب علاقته وصداقته مع هيباتيا التي أثرت عليه، ولا سبيل للخلاص من هذه الصراعات إلا بالخلاص منها.

وفي شهر مارس/آذار عام 415، بعد خطبة نارية ألقاها كيرلس على جمع غفير من الناس في الكنيسة المرقسية، كان يحرضهم فيها على الفلاسفة ويصفهم بالكفار والمهرطقين، فشكلت جماعة متشددة قذفت الوالي الروماني ارستوس بالحجارة، وخرجت جموع الناس المسيحية بالركض نحو قاعة الدرس التي كانت هيباتيا تلقي فيها محاضراتها في الفلسفة، وعند خروجها من القاعة لبيتها بعد إحدى الندوات، قامت هذه الجموع بنزع هيباتيا لملابسها وجرها من شعرها عارية مكبلة اليدين بحبل، ليتسنى لهم سلخ جلدها والقيام بتعذيبها، كما قاموا برمي أصداف الحجارة عليها إلى أن غدت جثة دامية، وهم يرددون “باسم الرب سنسحق الكافرين، باسم الرب سنقتل المهرطقين أعداء الله والمسيح”.

وأشعلوا بها النار ملقين عليها تهمة الزندقة والكفر، وأحرقوها لإخفاء معالمها وجثمانها، وطمس مؤلفاتها ومخطوطاتها التي طالما سعت لتحقيق النظريات وبيان صحتها.

نهاية تاريخها

بعد أن قام المتطرفون بقتل هيباتيا وتقطيعها، جمعوا أعمالها ومخطوطاتها العلمية الخاصة بها، وقاموا بحرقها، كما حاولوا محو اسمها من التاريخ بالكامل دون ذكرها، كما كانت تُفرض عقوبة الموت بتهمة “الوثنية والإلحاد” على كل من يلفظ اسم هيباتيا.

وكان موت هيباتيا نهاية لقرون من التقدم اليوناني في مجال الرياضيات، والمعروف بعصر التنور الفكري والتقدم المعرفي الذي شهدته مدينة الإسكندرية لمدة 750 عاماً، حيث قام العديد من العلماء بترك المدينة والانتقال إلى أثينا.

ترى العالمة كاثلين وايلدر أن مقتل هيباتيا يُعدُّ نهاية للعصر الكلاسيكي القديم، كما لاحظ الناقد الإنكليزي ستيفن غرينبلات أن مقتلها أثر بشدة في انحدار الحياة الفكرية السكندرية، وعلى النقيض يرى المؤرخان الفرنسيان كريستيان فيلدبرغ وماريا زيليسكا أن الفلسفة الهلنستية ظلت في حالة متألقة خلال القرنين الخامس والسادس حتى عهد الإمبراطور الروماني البيزنطي جستينيان الأول.

أشهر أقوالها

وبحسب الدراسة التي أعدها الكاتب والباحث “مكاريوس جبور” من مكتبة الكتب المسيحية، حول التعاليم التي درستها هيباتيا، كان أشهر ما قالته هيباتيا عن الحقيقة أن “الحياة عبارة عن حالة من التكشف، وكلما سافرنا ازدادت الحقيقة التي يمكننا فهمها، من أجل فهم الأشياء الموجودة أمامنا، الأفضل أن نفهم تلك التي تكمن ورائها”.

وقد تحدثت عن الأساطير والخرافات والمعجزات بقولها “يجب أن تدرس الخرافات كخرافات والأساطير كأساطير والمعجزات كأوهام شعرية، أن تعلم الخرافات على أنها حقائق هو أمر فظيع، إن عقل الطفل سيقبل بها ويصدقها، ومن خلال الألم الشديد فقط وربما المأساة، سيتمكن بعد سنين من أن يعفي منها”.

ورفضت قبول الأديان للإنسان العاقل الذي يحترم نفسه بقولها “إن جميع الأديان العقائدية والرسمية خادعة ويجب عدم قبولها نهائياً من قبل الأشخاص الذين يحترمون أنفسهم”.

وفرقت هيباتيا بين الحقيقة والوهم “الخرافة” بقولها “في الواقع، سيقاتل الرجال من أجل الخرافات بنفس السرعة التي يقومون بها في القتال من أجل الحقائق الحية، وأحياناً أكثر لأن الخرافات غير ملموسة، ولا يمكنك الوصول إليها لدحضها أما الحقيقة فهي وجهة ويمكن تغييرها”.

دعت هيباتيا الإنسان بالتفكير دوماً بقولها “احفظ حقك في التفكير، حتى ولو كان التفكير بشكل خاطئ، فهو أفضل من عدم التفكير على الإطلاق”.

النسخ الخاصة بهيباتيا والأثر الذي خلفته

قام المسيحون المتمردون بمهاجمة مباني الجامعة العظيمة، وتخريب المكتبة، وحرق عدد كبير من الكتب التي كانت أغلب تلك النسخ خاصة بهيباتيا وثيون منها كتاب “الأصول” لإقليدس، وتعليقات هيباتيا على كل من كتاب “أريثميتيكا” لديوفانتوس، وكتاب “الجداول” “Handy Tables” لبطليموس، وكتاب بليناس “القطع المخروطي” “Conics”، لم يتم الحفاظ عليها إلا من خلال النسخ التي جلبها العلماء إلى مدن الشرق الأدنى حيث تمت ترجمتها إلى العربية، أما الكتابات الفلسفية فقد فقدت إلى الأبد.

ونتيجة فكر الفيلسوفة هيباتيا الأفلاطوني، ومصرعها بطريقة خارجة عن الأخلاق، نقل المؤرخون والكتاب قصتها على مدار القرون، حيث ذكرت النصوص التاريخية من القرن الخامس والسابع والعاشر قصة حياتها ومساهمتها في علوم الرياضيات والفلسفة، وطريقة موتها البشعة على يد المتطرفين في الديانة المسيحية.

وفي عام 1851م، قام الروائي الإنجليزي تشارلز كينجسلي بتحويل قصة حياة ومقتل هيباتيا إلى عمل درامي في كتابه “هيباتيا”، كما وصف ألبرت هابرت” في كتابه “رحلات إلى بيوت معلمين عظام” السيرة الذاتية لهيباتيا، الذي تم نشره عام 1908م.

وأسس علماء العصر الحديث مجلة “هيباتيا” للنشر، تم نشر الأوراق العلمية الخاصة بالنساء، كما تناولت الدراسات الفلسفية ودراسات المرأة.

5-المواقف الفلسفية لمجزوءة المعرفة/6-ملخص التصورات لمجزوءة المعرفة

1-مادة الفلسفة

2- المستوى الثانية باكالوريا شعبة العلوم والآداب

3-دروس الأسدس الأول

4- مجزوءة المعرفة

5- الموضوع المواقف الفلسفية لمجزوءة المعرفة

6- الأستاذ محمد بضاض

النظریة والتجربة

المحور الأول: التجربة والتجریب

مما لا مناص فیه، تعتبر المعرفة العلمیة نموذجا للموضوعیة والدقة في أبحاثها ونتائجها، لكن ما سبب قوتها ومصداقیتها ؟ ثم كیف تبني موضوعها ؟ هل بالاعتماد على الوقائع الحسیة أم باللجوء إلى الفكر العقلاني؟

1-موقف كلود برنار

یرى أن المنهج التجریبي الذي ینطلق من التجربة مرورا بالمقارنة وانتهاء بالحكم یشكل جوهر المعرفة العلمیة لكونه هو المصدر الوحید للمعرفة الإنسانیة، ولاسیما في إدراك العلاقات بین الظواهر، وفي اعتماد الاستدلال التجریبي لاستنباط الأحكام والقوانین من الظواهر الطبیعیة بغیة التحكم فیها.

2-موقف دافید هیوم

لا یرى ضرورة ابتداء المعرفة بالتجربة وحدها بل علیها أن تقوم كلیا على التجربة. فما یمكن ملاحظته هي الظواهر التي لایمكن تفسیرها، إذ لا شيء یمكن معرفته قبلیا دونما أي تجربة.

3-موقف رونیه طوم

یعتقد أن الواقعة التجریبیة لا یمكن أن تكون علمیة إلا إذا استوفت شرطین أساسین: قابلیة إعادة صنعها في مجالات زمكانیة مختلفة.

المحور الثاني: العقلانية العلمیة

في الوقت الذي یشكل فیه العقل مصدرا لبناء النظریة، یؤسس الواقع موضوعها. لكن ما الأساس الذي تبنى علیه العقلانیة العلمیة ؟ هل العقل أم التجربة، أم هما معا ؟

1-موقف دیكارت

يرى ضرورة بناء المعرفة العلمیة اعتمادا على العقل وحده دونما الاستعانة بالتجارب والمعارف النابعة من الحواس، لأن له جمیع الخاصیات والمؤهلات التي تتیح له إنتاج الحقیقة. فالعقل یعتمد على المبادئ التي تساعده على بلوغ أهدافه ببداهة ووضوح تامتین.

2-موقف كانط

له موقف یجمع فیه بین قدرات العقل ومعطیات التجربة، بمعنى التكامل بین المعرفة العقلیة القبلیة والمعرفة التجریبیة البعدیة. فالتجربة لیست إلا مجرد وسیلة یتم بموجبها الحكم على المبادئ العقلیة القبلیة لان بلوغ الأحكام الكونیة رهین بالتفكیر العقلي المنقح بالتجربة.

3-موقف ألبیر إنشتاین

یذهب إلى أن للعقل الدور الایجابي في المعرفة العلمیة. فالعقل هو الذي یمنح النسق الریاضي – الذي أصبح في ظل الفیزیاء المعاصرة المحدد الرئیسي – بنیته. أما التجربة فینبغي أن تتناسب مع نتائج النظریة تناسبا تاما. لأن البناء الریاضي الخالص یمكننا من اكتشاف المفاهیم والقوانین والتي تمنحنا مفتاح فهم ظواهر الطبیعة التي یرى اینشتاین أنها تتحدث لغة الأرقام.

المحور الثالث: معايير علمية النظريات العلمية

من المصادر عنه أن المعرفة العلمیة حققت نجاحا باهرا في كل مجالات اشتغالها، والفضل في ذلك یرجع إلى زخم كبیر من الأسباب التي جعلتها تحظى بالدقة والموضوعیة والصرامة، لكن ألا یحق لنا أن نتساءل عن ما هي معاییر علمیة المعرفة العلمیة ؟ وما هي مقاییس صلاحیتها ؟

1-موقف برتراند راسل

أن المعرفة العلمیة التي یحصلها الإنسان على وجهین: معرفة بالحقائق الخاصة، ومعرفة بالحقائق العلمیة. فالحقائق الخاصة هي وقائع تتضمن استنتاجات تتباین درجة صحتها وصلاحیتها، في حین تتخذ الحقائق العلمیة صورة استنتاجات یقینیة.  إلا أن هذه الحقائق العلمیة قد تقصر على استیفاء شرط العلمیة حینما لا تفي بمعاییر منهجیة ثلاثة تتلخص فيما يلي:

  • الشك في صحة الاستقراء.
  • صعوبة استنتاج ما لا یقع في تجربتنا، قیاسا على ما یقع فیها.
  • افتراض إمكانیة استنتاج ما لا یدخل في تجربتنا یكون ذا طابع مجرد لذلك یعطي قدرا من المعلومات أقل مما یبدو أنه معطیه لو استخدمت اللغة العادیة.
2-موقف بوانكاري

یذهب إلى أن معیار الموضوعیة في العلم فیتحدد في العلاقة الموجودة بین الظواهر، لهذا لم یعد ینظر إلیها بشكل معزول مما أتاح للباحثین إمكانیة تحقیق المسافة العلمیة الضروریة بینهم وبین الموضوع المدروس. والخاصیة التي تمیز النظریات العلمیة هي قابلیتها للتطور والمراجعة والتغییر، فالنظریة قد تصبح یوما ما متجاوزة لتفسح المجال لأخرى لتحل محلها. وتتخذ لاحقا النظریة حلة جدیدة.

مسألة العلمیة في العلوم الإنسانیة

المحور الأول: موضعة الظاهرة الإنسانية

هل یمكن اعتبار الإنسان موضوعا للدراسة العلمیة ؟ هل یمكن تطبیق منهج صارم على الإنسان قیاسا لما یتم في العلوم التجریبیة ؟

1-موقف أوجست كونت

من الممكن أن یصبح علم الاجتماع مثلا علما حقیقیا، ولذلك یمكن اعتباره “فیزیاء اجتماعیة”، ویدل هذا النعت على إمكانیة استعمال المنهج التجریبي كما هو الشأن في الفیزیاء والحصول على نتائج یقینیة…

2-موقف إمیل دوركایم

من الممكن دراسة الظاهرة الاجتماعیة دراسة علمیة وفق “قواعد منهجیة” خاصة بعلم الاجتماع مثلا، والحصول على نتائج جد مقنعة كما تم ذلك في دراسة ظاهرة الانتحار من طرف دوركایم نفسه. و یعبر هذا الموقف عن نزعة علمیة هي موضع جدال بین المتخصصین في هذا المجال وذلك لخصوصیة الظاهرة الاجتماعیة مقارنة بالظاهرة الطبیعیة.

3-موقف جان بیاجي

توجد عدة عوائق تعترض تحقیق العلمیة في العلوم الإنسانیة تتعلق بطبیعة موضوعاتها. فالعلوم الإنسانیة تتمیز بخصوصیة تتمثل في كون الذات الملاِحظة تلاحظ ذاتها (الذات الأخرى موضوع الدراسة)، مقارنة بانفصال الذات عن الموضوع (على الأقل بشكل عام) في العلوم التجریبیة. یتعلق الأمر بتداخل الذات والموضوع إضافة إلى التزام الباحث بمواقف فلسفیة وإیدیولوجیة. وهو الأمر الذي یشدد علیه أیضا

المحور الثاني: التفسير والفهم في العلوم الإنسانية

هل تتحدد وظیفة النظریة العلمیة في مجال العلوم الإنسانیة في الفهم أم في التفسیر ؟

1-موقف جیل غاستون غرانجي

یرى أن النظریات العلمیة في مجال العلوم الإنسانیة تتشكل في صورة أبنیة عقلیة یتراوح نشاط العقل فیها بین نموذجین معرفیین׃ التفسیر باعتباره كشفا موضوعیا للعلاقات السببیة القائمة بین الحوادث الإنسانیة، والفهم بوصفه نشاطا عقلیا تأویلیا یستخلص الدلالات و القیم.

2-موقف دلتاي

یرى أن الفرق البین بین موضوع العلوم الطبیعیة وموضوع العلوم الإنسانیة یفرض على العلوم الإنسانیة منهجا بلائم موضوعها، وهو المنهج القائم على الفهم.

3-موقف كلود ليفي ستروس

یبین انه إذا كانت العلوم الحقة حققت تقدما بفضل عملیتي التفسیر والتنبؤ، فان وضع العلوم الإنسانیة لا زال یتأرجح بین التفسیر والتنبؤ، بل إنها علوم محكوم علیها بان تظل في وسط الطریق׃ بین التفسیر والتنبؤ.

المحور الثالث: مسألة نموذجية العلوم الإنسانیة

أي نموذج للعلمیة في العلوم الإنسانیة ؟

1-موقف میرلوبونتي

یرى بأن المعرفة العلمیة الوضعیة تجاهلت أهمیة تجربة الذات في العالم. تلك التجربة المعیشیة التي تشكل أساس المعرفة بدواتنا وبالعالم. فالذات هي المصدر المطلق لكل معرفة. كما یشكك میرلوبونتي في قدرة المعرفة الموضوعیة على النفاذ إلى عمق الوجود الإنساني. فالمعرفة الموضوعیة تشیيء الإنسان وتجزؤه وتتجاهل تجربته الذاتیة التي هي أساس وجوده الموضوعي. ولهذه الأسباب یدعو میرلوبونتي إلى القطیعة التامة مع نموذج العلوم التجریبیة في میدان العلوم الإنسانیة.

2-موقف دوركهایم

یرى أن الظواهر الاجتماعیة یجب أن تدرس كأشیاء، وهو بذلك یدعو إلى محاكاة النموذج العلمي الموجود في میدان العلوم التجریبیة. ومن هنا قوله “یجب أن یضع عالم الاجتماع نفسه في وضع فكري شبیه بالوضع الذي یكون علیه الفیزیائیون والكیمیائیون والفیسیولوجیون حینما ینخرطون في استكشاف منطقة مجهولة عن میدانهم العلمي”.

3-موقف لادییر

یؤكد على ضرورة التفاعل مع نموذج العلوم التجریبیة بالشكل الذي یحقق الموضوعیة ولا یلغي فاعلیة الذات، لأنه إذا اخترنا تناول الوقائع الاجتماعیة بوصفها أشیاء فإننا بذلك سننفي من مجال المعرفة الإنسانیة كل ما یتصل بالقیم والغایات و المقاصد … وإذا ما اخترنا تناول الوقائع الإنسانیة بوصفها أشخاصا سقطنا في منظور ذاتي.

4-موقف إدغار موران

إن السوسیولوجیة الإنشائیة هو نمط من أنماط الخطاب السوسیولوجي المعاصر، لكنه لم یتحرر بعد من الثقل المیتافیزیقي والتأمل الأخلاقي، بل إنه لا زال محتفظا بالنظر التأملي في جوهر الموجودات، فهو یفترض وجود ذوات أو قوى فاعلة تساهم وتؤثر في الظاهرة الاجتماعیة، ومن هذا المنطلق فلا یمكن اعتماده على النموذج الفیزیائي وبالتالي على المنهج العلمي، مما یجعله یفتقر إلى الموضوعیة.

مفهوم الحقیقة

المحور الأول: الحقیقة والرأي

نتساءل في هذا المحور عن ماهیة الحقیقة. هل هي معطى جاهز لا یحتاج إلى تحقیق أو تنقیب ، أم أنها بناء یتأسس على الانفتاح على استكشاف الواقع دون ما حاجة إلى أفكار قبلیة جاهزة ؟

1-موقف دیكارت

یرفض تأسیس الحقیقة على الحواس، لأن الحواس في نظره تخدعنا وتقدم لنا حقائق ظنیة ینبغي تلافیها. رغم أنه لا ینكر وجود العالم الحسي إلا أنه لا یعتبره منطلقا مضمونا لاكتشاف الحقیقة، لأنها في نظره من شأن العقل وحده وهو ما یقبله العقل تلقائیا دونما حاجة إلى برهان، فالحقیقة في الأصل لیست واقعا بل أفكارا في العقل ولما كانت الحدود بین الصادق والكاذب من الأفكار لیست بینة منذ البدایة فإن الطریق إلى الحقیقة في نظر دیكارت هو الشك المنهجي.

2-موقف كانط

یعتبر أن الحقیقة لیست لا ذاتیة ولا موضوعیة، ولیست معطاة أو جاهزة خارج الفكر والواقع ولا داخله بل إنها منتوج (بناء)، إنها حاصل تفاعل الفكر والواقع، یبنیهما العقل انطلاقا من معطیات التجربة الحسیة مادة المعرفة التي یضفي علیها الفهم الصور والأشكال. فالحقیقة تستلزم الـــمادة والصورة، الواقع والفكر معا. وعلى هذا المضي أضحت الحقیقة متعددة ونسبیة وغیر معطاة، بل لم تعد مطابقة الفكر للواقع بل انتظام معطیات الواقع في أطر أو مقولات العقل.

3-موقف هایدجر

یذهب إلى أن الحقیقة تتخذ طعما آخر ومفهوما جدیدا، إنها في نظره توجد في الوجود. ما دام هذا الوجود لا یتمكن من التعبیر عن ذاته والكشف عن حقیقته فإنه یحتاج إلى من یقوم بذلك، والإنسان هو الكائن الوحید الذي تتجلى فیه حقیقة الوجود، لا لأنه یفكر وإنما لأنه ینطق ویتكلم ویعبر. فالإنسان في نظره نور الحقیقة في ظلمات الكینونة، فالحقیقة لیست فكرا ینضاف إلى الوجود من الخارج كما ادعى دیكارت وكانط، وإنما هي توجد في صمیم الوجود نفسه. ولیس الإنسان سوى لسان حال الوجود أو كلمة الوجود المنطوقة، الأمر الذي یدل على أن الحقیقة هي فكر یطابق لغة معینة تعبر عن وجود معین أي كشف للكائن وحریته، أي استعداد الفكر للانفتاح على الكائن المنكشف له، واستقباله إذا ما تحقق التوافق و الانسجام.

المحور الثاني: معايير الحقيقة

إذا كان هدف الحقیقة هو معانقة الیقین في إنتاجها لمختلف أصناف المعارف وفي مختلف الوسائل للإقناع وبسط سلطاتها المعرفیة، فإننا نكون أمام تعدد معاییر الحقیقة. فما هو معیار الحقیقة ؟ هل هو معیار منطقي أم مادي ؟

1-موقف دیكارت

یرى أننا لا نخطئ إلا حینما نحكم على شيء لا تتوفر لدینا معرفة دقیقة عنه، ویعتبر أن الحقیقة بسیطة ومتجانسة خالصة وبالتالي متمیزة وواضحة بذاتها. فالحقیقي بدیهي بالنسبة للعقل ولا یحتاج إلى دلیل ومتمیز عما لیس حقیقیا، إنه قائم بذاته كالنور یعرف بذاته دونما حاجة إلى سند كما قال اسبینوزا، واللاحقیقي كالظلام یوجد خارج النور، فالفكرة الصحیحة (الكل أكبر من الجزء) صادقة دوما ونقیضها خاطئ دوما.

2-موقف باشلار

یعتبر أن الحقیقة العلمیة خطأ تم تصحیحه، وأن كل معرفة علمیة تحمل في ذاتها عوائق ابستمولوجیة تؤدي إلى الخطأ، وأول هذه العوائق الظن أو بادئ الرأي. وهذا یعني أن الحقیقة لا تولد دفعة واحدة، فكل الاجتهادات الإنسانیة الأولى عبارة عن خطأ، واكتشاف الخطأ وتجاوزه هو الخطوة الأولى نحو الحقیقة.

3-موقف نیتشه

یرى أن الحقائق مجرد أوهام نسینا أنها أوهام وذلك بسبب نسیان منشأ اللغة وعملها، لأن اللغة ما هي إلا استعارات وتشبیهات زینت بالصورة الشعریة والبلاغیة مما یجعل من الصعب التوصل إلى الحقائق بواسطة الكلمات أو إلى تعبیر مطابق للواقع وللكیانات الأصلیة للأشیاء بالإضافة إلى نسیان الرغبات والأهواء والغرائز التي تحول دون السلوك الإنساني وتدفعه إلى الكذب والأخطاء ، بدل الكشف والإظهار وبذلك یصبح الطریق إلى الحقیقة لیس هو العقل أو اللغة بل النسیان واللاشعور.

المحور الثالث: الحقیقة كقیمة

إن اعتقاد الإنسان في الحقائق وسعیه وراءها أمر ضروري لاستمرار الحیاة الاجتماعیة والأخلاقیة كما تبین في المحور السابق، ولعل هذا ما یطرح مسألة الحقیقة كقیمة. فمن أین تستمد الحقیقة قیمتها ؟ وما الذي یجعل الحقیقة مرغوبا فیها وغایة وهدفا للجهد الإنساني؟

1-موقف كیركجارد

یرى أن الحقیقة لها قیمة أخلاقیة. إنها فضیلة على الطریقة السقراطیة، قبل أن تكون مجرد معرفة، فهي لا تنكشف في العقل ولا تدرك في الاستدلال وإنما تولد في الحیاة وتعاش بالمعاناة. الحقیقة لیست شيء ثابت، إنها حوار واختلاف وهي ذاتیة لأنها لا تتكرر في كل واحد منا، إنها أخلاق وفضیلة ولیست قضیة معرفیة وغایة مذهبیة بعیدة عن شروط وجود الإنسان.

2-موقف ولیام جیمس

فلسفته كانت ثورة على المطلق والتأملي والمجرد. فقیمة الحقیقة هي قدرتها على تحقیق نتائج وتأثیرات في الواقع، و بالنسبة لجیمس قد تكون تلك نتائج مباشرة كما هو في الواقع المادي، وقد تكون غیر مباشرة بمعنى غیر فعالة بشكل مباشر كحدیث ولیام جیمس عن تأثیر الإیمان في الفرد بحیث ینحت داخله مجموعة من القیم التي باكتسابها تسود قیم من قبیل الخیر والفضیلة.

6-ملخص التصورات لمجزوءة المعرفة

1-مادة الفلسفة

2- المستوى الثانية باكالوريا شعبة العلوم والآداب

3-دروس الأسدس الأول

4- مجزوءة المعرفة

5- الموضوع ملخص التصورات لمجزوءة المعرفة

6- الأستاذ محمد بضاض

النظرية والتجربة

التجربة والتجريب

  • كلود بيرنار: التجريب هو ذلك الحوار بين الفكر النظري، والواقع المادي، ويقوم على خطوات المنهج التجريبي: الملاحظة/الفرضية/التجربة.
  • رونيه طوم: التجربة تقوم على ضرورة توفر مختبر، ووسائل وأدوات، وإحداث خلل في المنظومة وتسجيل استجاباتها.

العقلانية العلمية

  • كلود بيرنار: العقلانية العلمية هي عقلانية تجريبية محضة، تقوم على التجربة في منطلقها ومنتهاها من خلال الملاحظة والتجربة ضمن المنهج التجريبي.
  • باشلار: العقلانية العلمية تقوم على الحوار الجدلي بين العقل والتجربة، وعدم الاستغناء عن أي طرف منهما.
  • آينشتين: تقوم العقلانية العلمية على إبداع العقل بالدرجة الأولى، أما التجربة فإن دورها ينحصر في التطابق مع البنية العقلية المنتجة للنظرية.

معايير علمية النظريات العلمية

  • تويليي: معيار علمية نظرية ما هو تعدد الاختبارات: تغير الفرضيات – لصدق الداخلي – عدم التناقض مع النظريات الأخرى.
  • كارل بوبر: معيار علمية نظرية ما هو قابيلتها للتكذيب والتزييف التجريبي في جزء من مكوناتها، وهو ما يسمح بالتطور العلمي.
  • آينشتين: معيار علمية نظرية ماهو قيامها على العقل وعلى المنهج الأكسيوماتيكي ذي القاعدة الرياضية.

مسألة العلمية في العلوم الإنسانية

موضعة الظاهرة الإنسانية

  • جون بياجي: تداخل الذات بالموضوع في العلوم الإنسانية، يصعب الفصل بينهما لأنهما من طبيعة متماثلة، وبالتالي تعذر تحقيق الموضوعية.
  • فرانسوا بستيان: صعوبة انفصال الباحث الاجتماعي عن المجتمع الذي يقوم بدراسته لأنه طرف في الصراعات الموجودة في المجتمع.
  • ستراوس: التداخل بين الذات والموضوع لا يقتصر على العلوم الإنسانية، بل يتجاوزها الى البيولوجيا والفيزياء المعاصرتين، وما هو مطلوب من العلوم الإنسانية هو إقصاء تدخل الوعي.

التفسير والفهم في العلوم الإنسانية

  • ستراوس: العلوم الإنسانية تتأرجح بين التفسير والتبؤ، الأمر الذي يفقد تفسيراتها وتنبؤاتها على السواء الدقة المطلوبة.
  • دولتاي: على العلوم الإنسانية التخلي عن مناهج العلوم الفيزيائية القائمة على التفسير، وإيجاد مناهج تلائم طبيعتها وتقوم على الفهم.
  • كارل بوبر: لا يمكن تعميم مناهج العلوم الطبيعية على العلوم الإنسانية لأن قوانين هذه الأخيرة تخضع لمنطق التاريخ.

نموذجية العلوم التجريبية

  • طولرا ووارنيي: لا يمكن آعتماد العلوم التجريبية كنموذج للعلوم الإنسانية لاختلاف مواضيعهما، فموضوع هذه الأخيرة غني وغير خاضع للحتمية والضرورة، وهو ما يقتضي قيامها على الفهم.
  • ميرلوبونتي: يدافع عن تدخل الذات في الموضوع لأن العلم يبنى على المعيش أو التجربة الخاصة باعتبارهما نوعا من القصدية.
  • ادريار: ينتقد كلا من التصور القائل بنموذجية العلوم التجريبية، والتوجه القائل بخلق مناهج خاصة بالعلوم الإنسانية لأن لكل واحد منهما سلبياته.

الحقيقة

الحقيقة والرأي

  • باشلار: الرأي يتعارض مع العلم لأنه لا يقوم على التفكير، لذلك ينبغي رفضه باعتباره عائقا أمام قيام المعرفة العلمية.
  • باسكال: حقائق القلب (المبادئ) لها نفس قيمة حقائق العقل (الاستنباط)، بل وتعتبر أساسا لقيامها.
  • ليبنتس: يمكن للرأي أن يرقى الى مستوى الحقيقة شريطة قيامه على أعلى درجات الاحتمال.

معايير الحقيقة

  • اسبينوزا: معيار الحقيقة هو ذاتها ويتمثل في عدم الشك فيها وقيامها على اليقين وعلى الوضوح والبداهة والاكتمال.
  • ديكارت: الحقيقة تقوم على معيارين أساسين هما الحدس العقلي البسيط والاستنباط باعتباره تلك الحركة المتصلة للاستنتاج.
  • ليبنتس: معيار الحقيقة هو قيامها على البرهنة السليمة سواء من حيث الشكل أو المضمون، المادة أو الصورة.

الحقيقة بوصفها قيمة

  • إريك فايل: الحقيقة تستمد قيمتها من كونها مضادة للعنف القائم على الخطاب المتفكك المعبر عن المشاعر الشخصية.
  • هيدجر: الحقيقة لا قيمة لها لكونها نوعا من التيه الذي يفتح الباب أمام الغلط.
  • نيتشه: قيمة الحقيقة تتمثل في كونها وهما يساهم في الحفاظ على بقاء الإنسان ويشكل أساس كل ماهو جميل وخير.

4-مفهوم الحقيقة

1-مادة الفلسفة

2- المستوى الثانية باكالوريا شعبة العلوم و الآداب

3-دروس الأسدس الأول

4- مجزوءة المعرفة

5- الموضوع المحور الثالث الحقيقة

6- الأستاذ محمد بضاض

تقديم

يرتبط مفهوم الحقيقة بالمعرفة كفاعلية إنسانية تتحدد من خلالها علاقة الإنسان بذاته وبغيره وبالعالم، ويتحدد مجالها الإشكالي بسعي الإنسان إلى اكتشاف ذاته والغير والعالم وفتح مغاليقها وإزاحة ما أشكل عليه فيها، من هنا يفتح مفهوم الحقيقة على مشكل طرقها ومعاييرها وغاياتها وقيمتها.

  • ما علاقة الحقيقة بالرأي؟
  • هل الحقيقة معطاة أم أنها بناء؟
  • ما هو سبيل بلوغها؟
  • ما علاقة الإنسان بالحقيقة؟
  • ما قيمة الحقيقة ولماذا نرغب فيها؟
  • وهل الحقيقة منفصلة عن أضدادها كاللاحقيقة والوهم؟

المحور الأول: الرأي والحقيقة

عادة ما تنادي الفلسفات ومنذ اليونان أن طريق الحقيقة مفارق لعالم الحس والرأي، فأفلاطون يرى أن عالم الحقيقة هو عالم المثل، وسقراط يوصي بعدم الاستكانة إلى العادة والتقليد والحس المشترك، فما تعتقد الجماعة أنه حقيقي لا يعني بالضرورة أنه كذلك، فالحكم إذن هو العقل، على خلاف ذلك، هناك من يرى أن الحقيقة ليست حكرا على العقل وحده، ف”بليز باسكال” يعتبر أن العقل لا يمكنه احتكار الحقيقة، لأن هناك طرقا أخرى لمعرفتها، منها القلب أو العاطفة أو الرأي، فإذا كان العقل أداة لمعرفة القضايا عن طريق البرهنة والاستدلال العقليين، فإن القلب أداة لإدراك المبادئ الأولى عن طريق الشعور والحدس، ويشير القلب عند “بليز باسكال” إلى قوة الإدراك المباشر للحقائق، فالمبادئ هي الحقائق الأولى التي يتعذر الوصول إليها بالاستدلال العقلي كالمكان والزمان والحركة والأعداد ،… وعليها يستند العقل لتأسيس قضاياه وخطابه بكامله، إننا نشعر بالمبادئ أما القضايا فنستخلص بعضها من بعض عن طريق الاستدلال العقلي، ولكل منهما نفس اليقين وإن اختلفت الطرق المؤدية إليه، في مقابل هذا الطرح يرى الإبستملوجي الفرنسي غاستون باشلار أن العلم يتعارض مع الرأي، فالحقيقة العلمية لا ينبغي أن تأسس على الرأي لأن الرأي تفكير سيئ بل إنه لا يفكر البتة، إنه يربط المعرفة بالمنفعة، ويترجم الحاجات إلى معارف، إن الرأي عائق ابستملوجي ينبغي هدمه وتخطيه وإحداث قطيعة إبستملوجية معه.

استنتاج

يمكن أن نستنتج أن هناك مفارقة بين الحقيقة والرأي، فقد يبدو الرأي هشا على اعتبار أنه حقيقة خاصة مرتبطة بشخص أو اعتقاد صادر عن الوجدان أو العاطفة أو القلب، وفي المقابل نعتقد أن الحقيقة تكون صلبة حينما تصدر عن العقل، لكن ألا يكون الرأي أكثر صلابة من الحقيقة؟ ألا نؤمن ونركن لما يصدر عن القلب والوجدان أكثر مما نرتاح لما يصدر عن العقل؟ ألا يكون العقل عاجزا عن معرفة كل شيء؟

المحور الثاني: معايير الحقيقة

  • على ماذا يمكن أن تتأسس الحقيقة؟
  • ما معيار صدقها وصلاحيتها؟
  • ومن أين تستمد الحقيقة قوتها؟

يعتبر روني ديكارت أن الأفعال العقلية التي تمكن من بلوغ الحقيقة هما الحدس والاستنباط، ويعني الحدس في نظره إدراكا عقليا بسيطا يصدر عن عقل خالص ويقض، لا يبقى معه أدنى شك، أما الاستنباط فهو مصدر غير مباشر لإدراك الحقائق يتم من خلاله استنتاج حقائق جديدة من حقائق أولى معلومة من قبل وإن لم تكن بديهية، فالاستنباط يضمن الترابط الضروري بين الحقائق الأولى والنتائج، لذا يربط ديكارت قواعد المنهج بالحدس والاستنباط، فالبداهة ترتبط بالحدس، أما التحليل والتركيب والمراجعة فترتبط بالاستنباط.

استنتاج

نستنتج أن إدراك الحقيقة يتم بواسطة الحدس أولا ثم الاستنباط ثانيا، لأنهما فعلان لفحص الحقائق وتمييزها عن الأخطاء، بل هما أساس المنهج المؤدي إلى الحقيقة.

أما الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا فيرى أن الحقيقة معيار ذاتها ولا تحتاج لأي شيء خارج عنها، إنها بديهية واضحة تفرض نفسها بوضوحها التام، على النظر ولا يمكن حجبها، إنها في نظر اسبينوزا كالنور بها ينقشع الظلام، وهي بذلك لا تحتاج إلى ما يكشفها أو يؤكدها، ومن ثمة فهي التي تكشف وتضيء جميع الأفكار.

إذا كانت الحقيقة تستهدف بلوغ اليقين والإقناع وفرض سلطتها المعرفية، فإن ذلك يطرح مشكل معاييرها وسبل تحقيقها لذلك، فهل تكون كذلك لكونها حدسية أم عقلية أم واقعية، ويتضح من خلال ما سبق أن معيار الحقيقة يتمثل في انسجام الفكر مع ذاته ومع مبادئه من منظور عقلاني، أما الاتجاهات التجريبية فيكون معيارها لديها مدى مطابقتها للواقع.

المحور الثالث: الحقيقة بوصفها قيمة

  • ما قيمة الحقيقة؟
  • هل تستمد قيمتها الفلسفية من ذاتها كحقيقة أم من خلال أضدادها كالتيه والخطأ والوهم؟
  • أليست للحقيقة قيمة نفعية؟

ينتقد هايدجر التصور التقليدي للحقيقة لأنه يتأسس على مفهوم المطابقة،إنها في نظره تتمثل في العلاقة الاشهادية بين الحكم والشيء، فالحكم يشهد ويحضر الشيء أمامنا باعتباره موضوعا، وتنبثق الحقيقة باعتبارها انكشافا للموجود أمام فكر منفتح عليه، ويدل الكشف من هذا المنظور عن نسيان ونفي للخفاء، وتكون الحقيقة كانكشاف مشروطة بالذات وحريتها، وإذا كان الأمر كذلك وبما أن الذات تتحدد من خلال وجودها مع الغير، أي من خلال الوجود الزائف الذي يخلقه “الوجود ـ مع ـ الغير”، وهذا الوجود هو نسيان للموجود وانصراف إلى ما هو أكثر رواجا، فإن الحقيقة تكون مشروطة باللاحقيقة والتيه، باعتبار التيه هو ميدان نسيان الوجود.

1-استنتاج

نستنتج أن الإنسان لا يقيم في الحقيقة فقط، بل يقيم في اللاحقيقة وفي التيه كذلك، من هنا لا يمكن للحقيقة أن تشتغل في معزل عن اللاحقيقة، أي أن الحقيقة ليست قيمة مطلقة وليست لها ماهية خاصة معزولة عن ضدها وهو التيه، من منطلقات فلسفية مغايرة يربط “إريك فايل” بين الحقيقة والخطاب، فمشكل الحقيقة لا يمكن اختزاله في مطابقة الفكر للواقع ليكون الخطأ، بالتالي تعبيرا عن عدم المطابقة بينهما إن مشكل الحقيقة في نظر فايل هو مطابقة الإنسان مع الفكر، ذلك من خلال بناء خطاب متماسك عقلاني يؤسس المعنى وينفي العنف، إن الوعي الصحيح إذن لا يتحدد في امتلاك الحقيقة بل في الفعل وفهم الفعل، وقيمة الحقيقة لا تتحدد في تجاوز الخطأ واللامعنى بل في إلغاء العنف لصالح المعنى.

2-خلاصة عامة

يتضح من خلال ما سبق أن الحقيقة مفهوم إشكالي يحيل على تفكير الإنسان في ذاته وفي العالم والغير، ومن جهة أخرى تحيل الحقيقة كغاية للمعرفة البشرية على مفاهيم محايدة لها كالرأي والقلب ،… كما يحيل التفكير في الحقيقة على مشكل معاييرها، فبقدر ما يطرح الحدس والاستنباط العقلي كأسس لها، بقدر ما يعتبر البعض أنها معيار ذاتها، وأخيرا تحيل الحقيقة كقيمة على التوتر الأنطلوجي بينها وبين أضدادها كاللاحقيقة والتيه والوهم والخطأ والعنف …

3-خلاصة المجزوءة

يتأسس الوجود البشري على نشاط عقلي منتج للمعرفة، وجود لا يتوقف عند وعيه بذاته وبالعالم وبالغير، بل يحاول فهم وتفسير ذاته وغيره والعالم، وغايته في ذلك بلوغ الحقيقة والمعرفة باعتبارها فعالية إنسانية تتميز من جهة بالموضوعية حين تحاول التعامل مع الواقع ومع الظواهر الإنسانية بمناهج اختبارية تتأسس على التجريب والصياغة الرياضية، ومن جهة ثانية تتميز بحضور الذات وتجاوز الموضوعية، بحيث لا ينصت العالم للطبيعة بل يسائلها ويستنطقها من خلال اعتماد فروض وكيانات من إنتاج الذات، وإذا كانت الحقيقة في الأولى موضوعية مستقلة عن تدخل الذات، تكون في الثانية ذاتية، من هنا يتضح أنه في مجال المعرفة الإنسانية يصعب وضع خط فاصل بين ما هو موضوعي وما هو ذاتي، ومن ثمة تفترض المعرفة البشرية مقاربة مفتوحة يتداخل فيها الذاتي والموضوعي، العقلي والواقعي، الحقيقي واللاحقيقي، النظري والتجريبي .

3-مسألة العلمية في العلوم الإنسانية

1-مادة الفلسفة

2- المستوى الثانية باكالوريا شعبة والآداب العلوم الإنسانية

  • 3-دروس الأسدس الأول

4- مجزوءة المعرفة

5- الموضوع المحور الثاني مسألة العلمية في العلوم الإنسانية

6- الأستاذ محمد بضاض

1-الطرح الإشكالي

إن كان العلم يستنبط قوانين ضرورية وحتمية في العلوم الدقيقة، فإن هذا الأمر يصبح متعذرا على مستوى العلوم الإنسانية. لأن الموضوع هذه المرة هو كائن يتميز بالوعي والإرادة والقدرة على الاختيار، مما يجعل العلمية تتميز في هذا المجال بالاحتمال والترجيح، نتيجة عدة قضايا تتمثل في العلاقة غير الواضحة بين الذات العارفة وموضوع المعرفة. إضافة إلى صعوبة التفسير والتنبؤ في العلوم الإنسانية. وأخيرا علاقة العلوم الإنسانية بالعلوم الحقة على مستوى المنهج. وهذا ما يمكن طرحه من خلال الإشكالات التالية:

  • ما طبيعة العلاقة التي تربط الذات بالموضوع في العلوم الإنسانية؟
  • هل العلوم الإنسانية قادرة على فهم وتفسير والتنبؤ بالظواهر؟
  • ما الدور الذي لعبته العلوم الحقة في العلوم الإنسانية؟

2-موضعة العلوم الإنسانية

أ-عوائق موضعة الظاهرة الإنسانية

إن العلوم الإنسانية – في نظر جان بياجي – لها وضعية أكثر تعقيدا مقارنة بالعلوم التجريبية، لأن الذات مُلاحِظة لذاتها ولغيرها، ومجربة على نفسها وعلى غيرها، لهذا تـُخْلَق وضعية التداخل بين الذات والموضوع في العلوم الإنسانية، مقارنة بالعلوم الطبيعية، حيث أصبح من المعتاد الفصل بين الذات والموضوع. إن عملية إزاحة تمركز الذات حول ذاتها، والتي هي عملية ضرورية لتحقيق الموضوعية، تكون أكثر صعوبة في الحالة التي يكون فيها الموضوع هو الذات، نظرا لسببين وهما:

إن الحد الفاصل بين الذات المتمركزة حول ذاتها، والذات العارفة يكون أقل وضوحا عندما تكون أنا الملاحظ جزء من الظاهرة التي يجب عليه أن يلاحظها ويدرسها من الخارج.
إن الملاحظ يكون أكثر ميلا للاعتقاد في معرفته الحدسية بالوقائع لانـخراطه في هذه الأخيرة.

هكذا فالعالِم – في نظر بياجي – لا يكون أبدا معزولا، بل هو ملتزم بشكل ما بموقف فلسفي وإيديولوجي.

ب-مفارقة علاقة الذات بالموضوع

إن كل باحث هو عضو ينتمي لجماعة كبيرة أو صغيرة (سواء كانت طبقة اجتماعية، أو مهنة، أو أمة…)، في نظر فرانسوا بستيان، وبالتالي يكون منخرطا بالضرورة في صراعات صريحة أو ضمنية من أجل الاعتراف، والحظوة، والسلطة، وهي صراعات تحرك المعتقدات والمثل…الخ. وتتمثل الصعوبة لدى الباحث الاجتماعي في كونه لا يستطيع الانفصال كلية عن مجتمعه الذي هو موضوع دراسته، في حين يعتبر هذا الانفصال مبدأ كل جهد علمي (الموضوعية). لذلك نجد كل مجهودات مؤسسي العلوم الاجتماعية قامت على مبدأ تباعد الباحث عن جماعته، حيث دعا “دوركايم” إلى اعتبار الوقائع الاجتماعية أشياء، وكذلك توصية “ماكس فيبر” باحترام مبدأ الحياد القيمي.

3-التفسير والفهم في العلوم الإنسانية

أ-التفسير والتنبؤ في العلوم الإنسانية

إن العلوم الدقيقة – حسب كلودء ليفي ستروس – تقدمت بفضل عمليتي التفسير والتنبؤ، حيث يمكن لهذه العلوم أن تفسر ظواهر لم تتنبأ بها، كما فعلت الداروينية، كما يمكنها أن تتنبأ بظواهر لا تكون قادرة على تفسيرها، كما يحدث في علم الأرصاد الجوية. أما العلوم الإنسانية، فتجد نفسها في وسط الطريق بين التفسير والتنبؤ، فهي لا تفسر الظواهر تفسيرا نهائيا، ولا تتنبأ بيقين تام، لقد أكتفت العلوم الإنسانية، حتى حدود اليوم، بتفسيرات فضفاضة وتقريبية تنقصها الدقة، ورغم أنها مهيأة، لأن تمارس التنبؤ وتطوره، فإن الخطأ كان دائما حليف تنبؤاتها.

ومع ذلك فإن العلوم الإنسانية – حسب ستروس – يمكن أن تقدم للذين يمارسونها انطلاقا من نتائجها، شيئا وسيطا بين المعرفة الخالصة والمعرفة النافعة، لكن من غير الفصل بين التفسير والفهم.

ب-الفهم في العلوم الإنسانية

إذا كنا نفسر الطبيعة، باعتبارها ظواهر معزولة وخارجية في العلوم الفيزيائية والطبيعية – في نظر دلتاي – فإننا نفهم الإنسان في علم النفس، من خلال فهم حياته النفسية، فعمليات الاكتساب، ومختلف الوظائف العقلية والنفسية وعناصرها تجتمع وتكون كلا يعطى لنا عن طريق التجربة الداخلية. فالكل المعيش هو الأساسي، ولا يتجزأ إلى أجزاء إلا بعد ذلك. وينتج عن هذا أن المناهج التي ندرس بها الحياة النفسية والتاريخ والمجتمع تختلف عن المناهج التي تقود إلى معرفة الطبيعة.

إن العلوم الإنسانية الحقيقية – حسب دلتاي – هي التي تبني منهجها بنفسها، انطلاقا من موضوعها

4-نموذجية العلوم التجريبية

أ-خصوصية المنهج في العلوم الإنسانية

تعتبر العلوم الإنسانية مقارنة بالعلوم الطبيعية – في نظر كل من طولرا/ وارنيي – حديثة النشأة، أما نتائجها فهي قليلة وغير أكيدة لأن الواقع الحي الذي تحاول الإحاطة به (المجتمعات، العقليات، السلوكيات…)، هو أكثر غنى وأقل انتظاما من الظواهر الطبيعية، وبالتالي فإن استخدام العقل في هذه العلوم مطالب بأن يكون حذرا، كما أن الروح العلمية مطالبة بأن تكون أكثر تطورا من مثيلتها في العلوم الطبيعية، حيث تكون التجربة محكا مباشرا وحاسما.

ويفترض إدراك الموضوع – حسب طولرا/ وارنيي – أن تكون الذات مستعدة لفهم ما يخالفها ويعتبر آخرها. وفي هذه الحالة، تتمثل الروح العلمية في القدرة على استيعاب التناقض والقدرة على مواجهة ما هو غريب ومزعج لكل تلقائية، أي اللقاء الدائم مع الواقع.

ب-خداع النظرة العلمية

إن كل ما أعرفه عن العالَم، ولو كان مصدره العلم – يقول موريس ميرلوبونتي – أعرفه انطلاقا من وجهة نظر خاصة بي، أو أعرفه من خلال تجربتي الخاصة التي بدونها لن تعني رموز العلم أي شيء، لأن العلم يُبنى بكامله على العالم المعيش (أي التجربة الذاتية للأنا) وانطلاقا منه. فأنا الذي أوجد من أجلي أنا، وأنا الوحيد الذي يوجد وجودا متفردا. لا يوجد أحد مكاني ولا أوجد في مكان أحد.

وهكذا فإن وجهة النظر العلمية التي أكون بمقتضاها مجرد لحظة من لحظات العالم هي دائما وجهة نظر خادعة، لأنها وجهة نظر يكون العالم حولي حسبها موضوعا، ولا يوجد لأجلي. إن الرجوع إلى الأشياء ذاتها هو الرجوع إلى العالم المعيش قبل أن يكون موضوع معرفة، وهكذا فكل معرفة للإنسان – حسب ميرلوبونتي – هي معرفة ذاتية، لأن العلم يفترض وجود نظرة موضوعية للذات تتعالى عن كل الذوات، هي في الواقع غير موجودة.

5-استنتاجات عامة

إن أكثر المعارف فائدة وأقلها تقدما، من كل المعارف الإنسانية، في الآن نفسه، هي تلك المتعلقة بالإنسان – حسب ج. ج. روسو – إنها أكثر فائدة لأنها تدرس الكائن الوحيد في هذا الكون الذي يملك عقلا ووعيا. وأقلها تقدما لأن زمن نشأتها جاء متأخرا جدا. وهي التي تشكل العلوم الإنسانية.

إن العلوم الإنسانية هي علوم مأزومة، لأنها ولدت بأزمتها التي تتمثل، من جهة، في تداخل الذات والموضوع، واضطراب العلاقة بينهما. كما تتمثل، من جهة أخرى، في استعارة مناهج العلوم التجريبية، بدل إبداع مناهج تتواءم وطبيعة موضوعها الذي يتميز بالتعقيد.

2-مفهوم النظرية والتجربة

1-مادة الفلسفة

2- المستوى الثانية باكالوريا شعب العلوم والآداب

  • دروس الأسدس الأول

4- مجزوءة المعرفة

5- الموضوع المحور الأول مفهوم  النظرية و التجربة

6- الأستاذ محمد بضاض

1-الطرح الإشكالي

من المباحث الأساسية في الفلسفة المعاصرة نجد مبحث الإبستمولوجيا (الدراسة النقدية للمعرفة العلمية)، لقد ارتكز هذا المبحث على مجموعة من المفاهيم الفلسفية المرتبطة بالمجال العلمي وعلى رأسها مفهومي النظرية والتجربة اللذان يطرحان عدة قضايا فلسفية سواء على مستوى النظرية أو على مستوى التجربة، أو على مستوى العلاقة بينهما، إضافة إلى تعدد المعايير لتمييز النظرية العلمية عن باقي أنواع النظريات الأخرى، وهي قضايا يمكن أن تتخذ شكل أسئلة فلسفية منها:

  • ما هي شروط التجربة؟ وما هي خصائص النظرية؟
  • ما طبيعة العلاقة بينهما؟ وأي منهما يؤكد صحة الآخر؟
  • ما هي المعايير التي يمكن اعتمادها لتمييز المعرفة العلمية؟

المحور الأول: التجربة والتجريب

1-خطوات المنهج التجريبي

إن المنهج التجريبي يفترض في العالم – حسب كلود بيرنار – الإحاطة بشرطين:

  • أن تكون لديه فكرة (فرضية) يخضعها للفحص في ضوء الوقائع.
  • أن يلاحظ بساطة الظاهرة الماثلة أمامه ملاحظة أكثر شمولية.

على الملاحظ أن يكون بمثابة آلة تصوير أثناء معاينته للظاهرة ينقل بالضبط ما هو موجود في الطبيعة، حيث يجب أن يلاحظ بدون فكرة مسبقة.

إن العالم المتكامل هو الذي يجمع بين الفكر النظري والممارسة التجريبية عبر الخطوات التالية:

  • يعاين واقعة، أي الملاحظة.
  • ميلاد فكرة (فرضية) في ذهنه تبعا للمعاينة.
  • الاستدلال على الفكرة بعد معاينتها ذهنيا، وذلك باللجوء إلى التجربة.
  • تنتج عن التجربة ظواهر جديدة عليه أن يلاحظها، وهكذا دواليك.

إن ذهن العالم – حسب بيرنار – يشتغل بين ملاحظتين تمثل الملاحظة الأولى منطلق الاستدلال العلمي، وتمثل الملاحظة الثانية خلاصة الاستدلال، أي التجربة.

2-التجريب العلمي

كثيرا ما تم الحديث عن التجربة التي شكلت إحدى السمات الأكثر تمييزا للعلم الكلاسيكي، غير أن في الأمر غموضا، بالنسبة لألكسندر كويري فالتجربة بمعناها الخام والملاحظة العامية لم تلعب أي دور في نشأة العلم الكلاسيكي، اللهم إلا دور العائق، أما التجريب وهو المساءلة المنهجية للطبيعة، فيفترض افتراضا مسبقا اللغة التي يطرح من خلالها العالم أسئلته، حيث يسائل الطبيعة بلغة رياضية، أو بتعبير أدق بلغة هندسية حسب كويري.

المحور الثاني: العقلانية العلمية أو النظرية

1-التجربة تـحدد النظرية

إن النظرية الفيزيائية يتم بناؤها – في تصور بيير دوهيم – من خلال أربع عمليات متتالية وهي:

  • اختيار الخصائص الفيزيائية البسيطة، والتعبير عنها برموز رياضية، وأعداد، ومقادير.
  • الربط بين هذه المقادير بواسطة عدد من القضايا التي تستخدم كمبادئ لاستنتاجاتنا، هذه المبادئ يطلق عليها اسم الفرضيات.
  • تركيب فرضيات النظرية حسب قواعد التحليل الرياضي، وأن نستنبط منها نتائج ضرورية.
  • إن النتائج التي استخرجناها من الفرضيات هي التي تشكل النظرية الفيزيائية الجديدة.

وهكذا فالنظرية الصحيحة – حسب دوهيم – هي التي تعبر بشكل مرضي عن مجموعة من القوانين التجريبية، أما النظرية الخاطئة فهي التي لا تتوافق مع القوانين التجريبية.

2-النظرية تـحدد التجربة

إن نسقا كاملا للفيزياء النظرية يتكون من مبادئ وقوانين تربط بين تلك المبادئ وقضايا مستنبطة منها بشكل ضروري بواسطة الاستنباط المنطقي، هذه النتائج هي التي يجب أن ترتبط بالتجربة، وهكذا حدد ألبير آينشتاين لكل من العقل والتجربة مكانتهما في نسق الفيزياء النظرية، فالعقل يمنح النسق بنيته، أما المعطيات التجريبية وعلاقاتها المتبادلة فيجب أن تطابق القضايا الناتجة عن النظرية، إن البناء الرياضي الخالص وليس التجربة هو الذي يمكننا من اكتشاف المبادئ والقوانين التي تسمح بفهم ظواهر الطبيعة، وإذا كانت الوقائع التجريبية لا تتطابق مع النظرية فينبغي تغيير الوقائع وليس النظرية حسب آينشتاين.

المحور الثالث: معايير علمية النظريات العلمية

1-معيار القابلية للتجريب

إن الواقعة التجريبية لا يمكن أن تكون علمية – في نظر رونيه طوم – إلا إذا استوفت شرطين هما:

  • أن تكون قابلة لإعادة الصنع، وهذا يتطلب أن تكون محاضر إعداد التجربة وإجرائها دقيقة بما يكفي للتمكن من إعادتها في أزمنة وأمكنة أخرى.
  • أن تثير اهتماما قد يكون تطبيقيا أو نظريا، يتمثل الاهتمام التطبيقي في الاستجابة لحاجيات بشرية، أما الاهتمام النظري فيعني أن البحث يدخل ضمن إشكالية علمية قائمة.

في هذه الحالة يكون الهدف من التجريب – حسب طوم – هو التحقق من صدق فرضية ما (نظرية) تتضمن قضايا عقلية يتم التسليم بوجودها، كالعلاقات السببية، أي الربط بين السبب والنتيجة.

2-معيار القابلية للتكذيب

إن القابلية للتكذيب (أوالتفنيد) – في نظر كارل بوبر – هو معيار التمييز بين النظريات التجريبية والنظريات اللاتـجريبية، لذلك يطلق عليه كذلك معيار القابلية للاختبار، إن اختبار نظرية ما يعني محاولة تبين العيب فيها، وبالتالي فإن النظرية التي نعرف مقدما أنه لا يمكن تبيان العيب فيها أو تفنيدها، لهي نظرية غير علمية لأنها نظرية غير قابلة للاختبار، إن نظرية نيوتن في الجاذبية قابلة الاختبار، لأنها تتنبأ بانحرافات معينة عن المدارات الكوكبية عند كبلر، وهذا التنبؤ يمكن تفنيده، ونظرية آينشتاين في الجاذبية قابلة للاختبار كذلك، لأنها تتنبأ بانحرافات معينة عن المدارات الكوكبية عند نيوتن، وهذا التنبؤ يمكن تفنيده مجددا.

3-استنتاجات عامة

إن العلاقة التي تربط النظرية بالتجربة علاقة جدلية (أي علاقة تأثير وتأثر)، فالنظرية تؤثر في التجربة من خلال تأطيرها وتوجيهها عندما تـحدد عناصر وتفاعلات التجربة، والتجربة تؤثر في النظرية من خلال تصحيحها، عندما تكتشف الأخطاء التي تتضمنها، وبذلك تتقدم النظرية، وهذا ما يجعل المعرفة العلمية معرفة متطورة، تتطور بفعل هذا الجدل بين النظرية والتجربة.

1-تأطير إشكالي عام لمجزوءة المعرفة

1-مادة الفلسفة

2- المستوى الثانية باكالوريا شعب العلوم والآداب

  • دروس الأسدس الأول

4- مجزوءة المعرفة

5- الموضوع تأطير إشكالي عام لمجزوءة المعرفة

6- الأستاذ محمد بضاض

-تأطير إشكالي عام لمجزوءة المعرفةعندما ينفتح الفكر، من خلال مجموعة من الأنشطة العقلية، على موضوع خارجي أو على الذات نفسها، مستهدفا الفهم أو الوصف أو التفسير أو التنبؤ…نسمي ما ينتج عن ذلك معرفة بصفة عامة. إلا أن هذا الانفتاح، عندما يستهدف موضوعا خارجياء دون تدخل للذات في ذلك الموضوعء نسمي ذلك معرفة علمية، تفضي بنا الى ما يعرف عادة بالعلوم “الحقة” أما عندما يكون موضوع المعرفة هو الذات نفسها، حيث يصعب القيام بعملية الفصل بين الذات الدارسة والموضوع المدروس، وما يترتب عن ذلك من صعوبات في مطلب الموضوعية، فإننا نتحدث عن علوم إنسانية، أو دراسات إنسانية، أو إنسانيات على حد تعبير لويس ألتوسير. وسواء تعلق الأمر بالشكل الأول، أو بالشكل الثاني، فإننا نجد أنفسنا دوما أمام ذات وموضوع، وما يمكن أن يترتب عن العلاقة التي ينبغي ان تكون بينهما، وهي العلاقة التي تتراوح بين الانفصال التام، وأي فصل الذات عن الموضوع (الموضوعية) وبين عدم القدرة على تحقيق هذا المطلب (الذاتية). إن طبيعة العلاقة بين الذات والموضوع هي الإشكال الأساسي للمعرفة عموما، وللمعرفة العلمية على وجه الخصوص، سواء كانت طبيعية أو إنسانية.

انطلاقا من ذلك يبدو أن جدلية الفكري (أو ما ينتمي الى الذات) والواقعي (أو ماهو مرتبط بالموضوع) هي جدلية تحتل مكانا أساسيا في صيرورة وبناء المعرفة العلمية، ومن ثمة يمكننا طرح التساؤل التالي: هل يمكن لهذه المعرفة أن تبنى بناء عقليا صرفا (أي بناء نظريا خالصا) أم أنها مطالية لكي تصبح نظرية علمية حقة، بأن تستحضر موضوع دراستها استحضارا واقعيا (تجريبيا) بالإصغاء أو الإنصات إليه؟ إن طبيعة هذا التساؤل تعكس الإشكالية الأساسية للنظرية والتجربة. فإذا كان العلم علم بواقع ما ءكما يرى البعضء (كلود بيرنار) فإن ذلك الواقع يقتضي منا استحضاره كمنطلق لبناء أية نظرية وكتمحيص لصدقها أو عدم صدقها. ولعل عملية الاستحضار هذه هي ما يقودنا الى إثارة مسألة التجريب والتجربة. فما المقصود بالتجريب ؟ وما المقصود بالتجربة ؟ هل يمكن اعتبار كل من التجريب والتجربة إسمين يحملان نفس الدلالة، أم أن لكل واحد منهما دلالته الخاصة، بالرغم مما يمكن أن يحصل من تداخل أو تقاطع بينهما ؟ يقودنا مفهوم التجربة أيضا الى طرح التساؤل التالي: هل المقصود دوما بالتجربة هو تلك الممارسة التي تتم داخل المختبر، ونكون خاضعة لشروط محددة، أم أن التجربة يمكن أن تحمل دلالة أخرى تجعل منها فكرية محضة (روني طوم).

وسواء كانت المعرفة العلمية مؤسسة وقائمة على تجارب مخبرية أو على تجارب عقلية نظرية صرفة فإن ذلك هو ما سيقودنا بالضرورة الى التساؤل عن طبيعة العقلانية العلمية: فهل تعتبر هذه العقلانية عقلانية مشروطة بالتجربة في مسار بنائها أم أنها قادرة على أن تكون مجرد أفكار تربط بينها قوانين وتشق منها قضايا بواسطة الاستنباط المنطقي أم أنها ليست لا هذا ولا ذاك، أو هذا وذاك في نفس الوقت بحيث يستلزم بناؤها اعتماد الحوار المتبادل بين ماهو عقلاني وماهو تجريبي، حتى يحصل ذلك اليقين المزدوج، الذي يجعل الواقع خاضعا لما هو عقلي، مثلما يجعل الحجج العقلية المرتبطة بالتجربة لا تخرج عن نطاقها (باشلار) ؟

انطلاقا من مجمل التساؤلات السابقة، يمكننا أن نثير إشكالا مرتبطا بسابقيه،و يتعلق الأمر بمعايير علمية النظريات العلمية. فما هي المعايير التي يمكن اعتمادها للحكم على علمية نظرية ما أو عدم علميتها؟ هل يكون لزاما علينا أن نعدد الاختبارات التجريبية وألا نكتفي بالاختبار الواحد، أو التجربة المعزولة حتى نقول عن تلك النظرية بأنها نظرية علمية (تويليي) أم أنه يلزم أن نركز على بنائها الداخلي الذي ينبغي أن يقوم على نسق من القضايا، يتم استنباطها من عدد قليل من المبادئ وفق قواعد التحليل الرياضي،و بعيدا عن أية وقائع محسوسة (أينشتين)، أم أنه ينبغي اعتبار القابلية للتكذيب، القائمة على القدرة على تفنيد نظرية ما باعتبارها نظرية غير تجريبية، من خلال تبيان العيب الممكن فيها، هو ما يمكن أن يمنح لتلك النظرية طابعها العلمي (كارل بوبر) ؟

وإذا كان هذا ينطبق على العلوم المسماة علوما حقة، فإن العلوم الإنسانية تطرح إشكالات من نوع آخر، ولعل أهمها هو صعوبة موضعة الظاهرة الإنسانية، فإلى أي مدى يمكن الفصل بين الذات والموضوع عندما يكون هذا الموضوع ذاتا أخرى ؟ (بياجيه) كيف يمكن للباحث الاجتماعي الانفصال الكلي عن المجتمع الذي يعيش فيه حتى يضمن الموضوعية المنشودة (بيستيان) ؟ وهل يمكن اعتبار صعوبة موضعة الظاهرة المدروسة مقرونا بالعلوم الإنسانية وحدها، أم أن العلوم الحقة المعاصرة تجد نفس الصعوبة (ستراوس) ؟ ما هو الهدف الذي تسعى إليه هذه العلوم، هل هو هدف يقوم على التفسير أم على التنبؤ، أم عليهما معا (ستراوس) ؟ وبصفة عامة ما طبيعة منهج العلوم الإنسانية؟ هل يمكنها اقتباس منهج العلوم التجريبية أم أنها مطالبة بالبحث عن مناهج تلائم طبيعتها (دولتاي – بوبر) ؟ هل يمكن أن تشكل العلوم التجريبية نموذجا يقتدى به من طرف العلوم الإنسانية (طولراوواريني) أم أن العلم ماهو إلا تعبير عن المعيش بنوع من القصدية (ميرلوبونتي) ؟ هل يعتبر كل من الاقتداء بالعلوم التجريبية أو عدم الاقتداء بها خالين مما يحول دون دراسة الظواهر الإنسانية دراسة علمية (لادريار) ؟

إن كل معرفة سواء كانت معرفة علمية أو غير علمية، إنما هي سعي الى امتلاك الحقيقة، حقيقة الأشياء حقيقة الذات، حقيقة الأفكار، حقيقة الأفعال… وليس الى الباطل أو اللاحقيقة، إلا أن هذا السعي يفضي بالضرورة الى حقائق متعددة ومختلفة ومتعارضة، الأمر الذي يجعل منها حقائق تجمع بين الحق والباطل، بين الحقيقة والرأي. انطلاقا من ذلك يمكننا أن نتساءل: ما علاقة الحقيقة بالرأي؟ هل يشكل الرأي نوعا من الحقائق أم أنه لا يعدو أن يكون مجرد انطباع ذاتي، لا يمكنه أن يرقى الى مستوى الحقيقة؟ هل بإمكاننا أن نعتبر الرأي قادرا على أن يمنحنا حقائق قائمة على القلب والغريزة، باعتبارهما مبدأين للاشتغال العقلي، أي للاستنباط (باسكال) ؟ أم أن الحقيقة – ومن ضمنها الحقيقة العلمية – لا يمكنها أن تقوم على الرأي، لأن هذا الأخير لا يفكر أو لنقل إنه يفكر بشكل سيء الأمر الذي يجعله عائقا أمام قيام المعرفة العلمية (باشلار) ؟ ألا يملك الرأي قيمة علمية عندما يكون مؤسسا على أعلى درجات الاحتمال، الأمر الذي يمكن أن يجعله قدوة لباقي المعارف (ليبنتس) ؟

إن مجمل تساؤلاتنا حول علاقة الحقيقة بالرأي، تقودنا بالضرورة الى طرح إشكال معايير الحقيقة. فما هي المعايير التي ينبغي أن تقوم عليها الحقيقة حتى تستحق أن تسمى بهذا الاسم ؟ هل ينبغي أن تقوم على الحدس والاستنباط، بحيث يكون الحدس تصورا صادرا عن ذهن خالص ويقظ، ويكون الاستنباط هو ما يمكن أن يتم استنتاجه بالضرورة من أشياء أخرى (ديكارت) ؟ وهل تكفي البساطة والوضوح والتمايز لجعل فكرة ما فكرة حقيقية، أم أن الأمر يقتضي قيام تلك الحقيقية على برهنة سليمة، سواء على المستوى المادي أو المستوى الصوري (لايبنتس) أم أن الأمر يتجاوز هذا وذاك، بحيث ينبغي البحث عن معيار الحقيقة في ذاتها بالاستناد الى يقينها وكمالها (اسبينوزا) ؟

إن مجمل تساؤلاتنا حول معيار الحقيقة، ترجع بالأساس الى كون هذه الأخيرة ذات قيمة لا يمكن لأحد أن ينتقص منها، لأنها ما يسعى إليه كل إنسان. لكن السؤال المطروح هو: من أين تستمد الحقيقة قيمتها؟ هل تستمدها من ذلك التيه الذي يحكم حياة الإنسان، وينتمي الى البنية الداخلية لكينونته ويجعله منفتحا على الغلط (هيدجر) ؟ هل تستمد الحقيقة قيمتها من اعتبارها نقيضا للخطإ أم من اعتبارها نقيضا للعنف، حيث يتم التحول من التطابق بين الفكر والواقع، الى التطابق بين الإنسان وبين الفكر أو الخطاب المتماسك الذي يعرف فيما يفكر ، ويفكر فيما يعرف (إريك فايل) ؟ ألا يمكن القول بأن الحقيقة تستمد قيمتها من كونها ما يسمح ببقائنا واستمرارنا، ولو منخلال تلك الأوهام التي نسينا أنها كذلك بفرط الاستعمال، وبتدخل اللغة القائمة على الاستعارات، والكنايات، والتشبيهات (نيتشه) ؟

يتضح أن ما كان يحكم مختلف تساؤلاتنا حول المعرفة (علمية كانت أو غير علمية)، وحول الحقيقة هو ثنائية ذات/ موضوع بالأساس، ذات عارفة، وموضوع للمعرفة، وكل ما يمكن أن يثيره ذلك من صعوبات إن على مستوى الذات، أو على مستوى الموضوع، أو على المستويين معا.