أربعون منفعة لمن يُصلي على النبي ﷺ


🏵️قال ابن القيّم رحمه الله:
🌳أربعون فائدة للصلاة على النبي ﷺ:
🔹(1) امتثال أمر الله.
🔹(2) موافقة الله سبحانه وتعالى في الصلاة على النبي ﷺ وإن اختلفت الصلاتان.
🔹(3) موافقة الملائكة فيها.
🔹(4) الحصول على عشر صلوات من الله تعالى على المصلي مرة واحدة.
🔹(5) يرفع العبد بها عشر درجات.
🔹(6) يكتب له بها عشر حسنات.
🔹(7) يمحى عنه بها عشر سيئات.
🔹(8) أنها سبب في إجابة الدعاء.
🔹(9) سبب حصول شفاعة المصطفى ﷺ.
🔹(10) سبب لغفران الذنوب.
🔹(11) سبب لكفاية الله سبحانه وتعالى العبد ما أهمّه.
🔹(12) قُرب العبد من النبي ﷺ يوم القيامة.
🔹(13) قيام الصلاة مقام الصدقة لذي العسرة.
🔹(14) سبب لقضاء الحوائج.
🔹(15) سبب لصلاة الله وملائكته عليه.
🔹(16) سبب تزكية للمصلي وطهارة له.
🔹(17) سبب تبشير العبد بالجنة قبل موته.
🔹(18) سبب النجاة من أهوال يوم القيامة.
🔹(19) أنها سبب لتذكير العبد منسيه.
🔹(20) سبب رد سلام النبي ﷺ على المصلي والمسلم عليه.
🔹(21) سبب طيب المجلس فلا يعود حسرة على أهله يوم القيامة.
🔹(22) سبب نفي الفقر.
🔹(23) سبب نفي البخل عن العبد.
🔹(24) سبب نجاته من الدعاء عليه برغم الأنف.
🔹(25) سبب طريق الجنة، لأنها ترمي بصاحبها على طريق الجنة، وتخطئ بتاركها عن طريقها.
🔹(26) النجاة من نتن المجلس الذي لا يذكر فيه الله تعالى ورسوله ﷺ.
🔹(27) سبب تمام الكلام في الخطب وغيرها.
🔹(28) سبب وفور (كثرة) نور العبد على الصراط.
🔹(29) سبب خروج العبد من الجفاء.
🔹(30) سبب لإبقاء الله سبحانه وتعالى الثناء الحسن للمصلي عليه بين أهل السماء والأرض.
🔹(31) سبب البركة على المصلي وعمله وعمره.
🔹(32) سبب نيل رحمة الله تعالى.
🔹(33) سبب دوام محبة المصلي للرسول ﷺ.
🔹(34) سبب دوام محبة الرسول ﷺ للمصلي عليه.
🔹(35) سبب هداية العبد وحياة قلبه.
🔹(36) سبب عرض اسم المصلي على النبي ﷺ.
🔹(37) سبب تثبيت القدم على الصراط.
🔹(38) سبب أداء بعض حق المصطفى ﷺ.
🔹(39) أنها متضمنة لذكر الله وشكره تعالى.
🔹(40) أنها دعاء لأنها سؤال الله عز وجل أن يثني على خليله وحبيبه ﷺ أو سؤال العبد لحوائجه ومهماته..
☘️🌸☘️🌸☘️🌸☘️🌸🌸☘️📚(أربعون منفعة لمن يُصلي على النبي ﷺ)*

د. عبلة الكحلاوى في ذمة الله، عن عمر يناهز 72 عاما

وفاة الدكتورة عبلة الكحلاوى عن عمر يناهز 72 عاما
توفت مساء اليوم الأحد، الدكتورة عبلة الكحلاوى الداعية الإسلامي عن عمر يناهز 72 عاما.

والدكتورة عبلة الكحلاوى من مواليد (15 ديسمبر 1948)، وهى داعية إسلامية مصرية، وأستاذة للفقه فى كلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات بجامعة الأزهر، وهى ابنة الفنان محمد الكحلاوى.

التحقت الدكتورة عبلة الكحلاوى، بكلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر تنفيذا لرغبة والدها، وتخصصت فى الشريعة الإسلامية، حيث حصلت على الماجستير عام 1974 فى الفقه المقارن، ثم على الدكتوراه عام 1978 في التخصص ذاته انتقلت إلى أكثر من موقع في مجال التدريس الجامعى، منها كلية التربية للبنات في الرياض وكلية البنات في جامعة الأزهرفي عام 1979 تولت رئاسة قسم الشريعة فى كلية التربية فى مكة المكرمة.

اتجهت الدكتورة عبلة الكحلاوى إلى الكعبة المشرفة لتلقى دروسا يومية بعد صلاة المغرب للسيدات، وقد استمرت هذه الدروس منذ عام 1987 إلى 1989 كانت تستقبل خلاله مسلمات من سائر أنحاء العالم، وبعد عودتها إلى القاهرة بدأت فى إلقاء دروس يومية للسيدات فى مسجد والدها محمد الكحلاوى فى البساتين وركزت فى محاضراتها على إبراز الجوانب الحضارية للإسلام بجانب شرح النصوص الدينية والإجابة عن التساؤلات الفقهية.

وأسست الدكتورة عبلة الكحلاوى، جمعية خيرية فى المقطم لرعاية الأطفال الايتام ومرضى السرطان وكبار السن من مرضى الزهايمر تحت اسم جمعية الباقيات الصالحات، بالإضافة ل مجمع الباقيات الصالحات فى المقطم

ما هي سوسيولوجيا الاديان،ما حقلها وما هي مواضيعها؟


المحاور
1)- مدخل منهجي ابستيمولوجي حول الدين و علم الاجتماع
2)- علم الاجتماع و الظاهرة الدينية
3)- من علم الاجتماع الديني الى علم الاجتماع الاديان
4)- الظاهرة الدينية المعاصرة و بروز الحركات الدينية

ما سوسيولوجيا الأديان؟
تعد سوسيولوجيا الأديان فرعا من فروع علم الاجتماع العام و يهتم هذا التخصص بدراسة المعتقدات و الطقوس و الممارسات و الاحتفالات الدينية في ضوء المقاربة السوسيولوجية باستخدام المنهجية الكمية من جهة أو المنهجية الكيفية من جهة اخرى و يعني هذا أن الدين جزء من المجتمع أو هو بمثابة مؤسسة مجتمعية كباقي المؤسسات الاخرى التي لها دور هام داخل النسق الاجتماعي الوظيفي فالدين له تأثير كبير في المجتمع كما للمجتمع تأثيره الخاص في الدين

مفهوم الدين:
يعتبر مفهوم الدين من بين المفاهيم البالغة التعقيد سواء في الحقل السوسيولوجي أو غيره وذلك أن هذا المفهوم لا يرتبط بشكل واضح بالمعنى الشائع الذي يلصق بالدين فالسلوك الديني لا يتحدد بحدود واضحة أو يرتبط بمعنى من المعاني و لا يجد تفسيره انطلاقا من فرد بعينه و لا يجتمع ما إلا بقدر ما يمتلك الباحث الاجتماعي لحس مرهف اتجاه الظاهرة الدينية و التي تتميز بانسيابية عالمية تشمل عدة عوالم

التحديد السوسيولوجي لمفهوم الدين:
يمثل البراديغم السوسيولوجي رؤية معرفة تنظر للدين من زوايا مختلفة بحسب المقتربات التفسيرية التي اعتمدتها كل مدرسة على حدة فبينما نجد المدرسة الوظيفية أو الوظيفية البنائية ممثلة بروادها المؤسسين كدوركايم كونت بارسونز
ينظرون للدين على أساس أن له وظيفة اجتماعية يقوم بها في الحفاظ على توازن المجتمع و ضمان استمراريته فبينما يخص الاتجاه الوظيفي و الذي يتجه مباشرة الى البحث عن الوظائف أو الأدوار التي يقوم بها الدين داخل المجتمع و أثره في بعض النظم و المؤسسات الاجتماعية القائمة أو في عمليات التغيير الاجتماعي سلبا و ايجابا
و يستنتج دوركايم وظيفتين أساسيتين للدين أولا تجميع الناس و كأنه يشبه الصمغ الذي يخلق التضامن الاجتماعي و ثانيا اعطاء الناس و سيلة الادراك العالم و رؤيته
أما بارسونز ينظر للدين في العالم الحديث من خلال طريقتين الاول من خلال الفاعلية التي نسبها للدين و الثاني من خلال الخير الذي ينسبه اليه و الى نتائجه كما يتدعم ذلك في الطبيعة المطردة الاعتدال للعالم الذي يشجع عليه الدين
بعدما تعرفنا على أهم التعاريف ذات الصبغة الوظيفية للدين فإننا نعتقد أن الاتجاه الوظيفي لدراسة الدين يبقى قاصرا في ادراك كافة الأبعاد الشاملة و العميقة للمظاهر الدينية في حياة الفرد و المجتمع
مفهوم التدين:
من خلال الاشتغال على دلالة مفهوم التدين أمكننا أن نستخلص أن التدين هو الكيفية التي يعيش بها الأفراد أو الجماعات تجربتهم الدينية و قد سبق للعالم السوسيولوجي جورج سيمل أن يميز بين الدين و التدين حيث يمثل الدين الدافع الحيوي و التدين الشكل الاجتماعي الذي يسعى الى الاستحواذ و السيطرة على الأول و بالتالي فالتدين هو تجربة ذاتية عن علاقة بشرية غربية للحياة نفسها
المنظرين و المؤسسين

دوركايم:
كما رأينا شعر دوركايم بالحاجة للتركيز على التجليات المادية للحقائق الاجتماعية غير المادية. مثلا ً القانون في( تقسيم العمل) ومعدلات الانتحار في (الانتحار ) لكن في كتابه (الأشكال الأولية للحياة الدينية) شعر دوركايم بالراحة الكافية لمناقشة الحقائق الاجتماعية غير المادية، خاصة الدين، بصورة أكثر مباشرة. في الحقيقة الدين هو الحقيقة الاجتماعية غير المادية المطلقة ودراسته اتاحت له إلقاء المزيد من الضوء على كل نسقه النظرى.
بالرغم من أن البحث الوارد في ( الأشكال الأولية…) ليس لدوركايم، لكنه شعر أنه من الضروري وضع تفكيره عن الدين في معلومات منشورة. المصدر الأساسي لتلك المعلومات دراسات عن قبيلة الارونتا الأسترالية البدائية. شعر دوركايم أنه من الأهمية دراسة الدين داخل ذلك الإطار البدائي لعدة أسباب. أولا ً، كان يرى أنه من السهل التعمق في الطبيعة الأساسية للدين في إطار بدائي وليس في مجتمع حديث. الأشكال الدينية في المجتمع البدائي يمكن ” توضيحها في كل صفائها وتحتاج فقط إلى مجهود بسيط لعرضها “. ثانياً، الأنساق الأيدلوجية للأديان البدائية أقل نمواً من الأديان الحديثة ويصاحب ذلك وجود تشويش أقل. وقد ذكر دوركايم ” أن ما هو ثانوي وليس أساسى لم يغط بعد المكونات الأساسية. كل شئ مختزل إلا ما لا يمكن الاستغناء عنه، إلى الذى بدونه لا يمكن أن يكون هنالك دين ” ثالثاً، في حين أن الدين في المجتمع الحديث يأخذ أشكالاً مختلفة ففي المجتمع البدائي نجد ” انسجاماً فكرياً وأخلاقياً” . لذلك يمكن دراسة الدين في المجتمع البدائي في أكثر صوره نقاء ً. أخيراً بالرغم من أن دوركايم درس الدين البدائي لكن ذلك ليس بسبب اهتمامه بالدين البدائي في نفسه، بل درسه من أجل أن “يصل إلى فهم للطبيعة الدينية للأديان وليوضح بذلك جزءًا مهماً وأساسياً من الإنسانية” أكثر تحديداً، درس دوركايم الدين البدائي ليلقى الضوء على الدين في المجتمع الحديث.
بما أن الدين في المجتمع البدائي منسجم وشامل، يمكننا أن نقول أن ذ لك الدين يعادل الضمير الجمعي. أي أن الدين في المجتمع البدائي هو أخلاق جمعية شاملة لكن كلما تطور المجتمع وأصبح أكثر تخصصاً كلما احتل الدين نطاقاً أضيق. وبدل أن يكون ضميراً جمعياً في المجتمع الحديث أصبح الدين أحد التمثلات الجمعية. وفى حين أنه يعبر عن بعض المشاعر الجمعية فإن مؤسسات أخرى مثل (القانون والعلم) أخذت تعبر عن جوانب أخرى من الأخلاقية الجمعية. بالرغم من أن دوركايم يرى أن الدين أصبح يحتل نطاقاً ضيقاً ، لكنه أقر أن معظم إن لم يكن كل التمثلات الجمعية في المجتمع الحديث يرجع أصلها إلى الدين الشامل في المجتمع البدائي.
المقدس والمدنس:
السؤال الأساسي بالنسبة لدوركايم كان عن مصدر الدين الحديث. وبما أن التخصص والغطاء الايدولوجى يجعل من الصعب دراسة جذور الدين في المجتمع الحديث مباشرة، تناول دوركايم الموضوع في إطار المجتمع البدائي. السؤال هو من أين أتى الدين البدائي والحديث ؟.
منطلقاً من موقفه المنهجي الأساسي أن الحقيقة الاجتماعية تسببها حقيقة اجتماعية أخرى، خلص دوركايم إلى أن المجتمع هو مصدر الدين. المجتمع من خلال أفراده يخلق الدين من خلال تعريفه لظواهر معينة بأنها مقدسة وأخرى بأنها مدنسة. تلك الجوانب من الواقع الاجتماعي التى تعرّف على أنها مقدسة، تلك التى تعزل وتعتبر من المحرمات تكَّون أساس الدين. ما تبقى يعتبر مدنساً، تلك هى جوانب الحياة اليومية، العامة، النفعية والدنيوية. المقدس يؤدى إلى سلوك يحتوى على التقديس، الاحترام، الغموض، الرهبة والشرف. الاحترام الذى ينسب لظواهر معينة ينقلها من المدنس إلى المقدس .
التمييز بين المقدس والمدنس وارتفاع بعض ظواهر الحياة الاجتماعية إلى المستوى المقدس ضروري ولكن ليس كافيا ً لتطور الدين. ولابد من توفر ثلاثة ظروف أخرى. أولا ً ، يجب أن يتطور نسق من المعتقدات الدينية. والمعتقدات ” هى التمثلات التى تعبر عن طبيعة الأشياء المقدسة وعلاقاتها مع بعضها البعض أو مع الأشياء المدنسة ” . ثانيا ،ً من الضروري أيضا وجود نسق من الطقوس ” هذه هى قوانين السلوك التى تصف كيف يلائم الإنسان نفسه في وجود الأشياء المقدسة ” أخيراً يحتاج الدين إلى كنيسة، أو مجتمع أخلاقي. التداخل بين المقدس، المعتقدات، الطقوس والكنيسة قاد دور كايم إلى تعريف الدين كما يلي ” الدين نسق موحد من المعتقدات والممارسات تجاه الأشياء المقدسة، أي الأشياء التى تعتبر محرمة – المعتقدات والممارسات التى تتوحد في مجتمع أخلاقي واحد يعرف بالكنيسة وكل الذين يلتزمون بذلك

الطوطمية:

رؤية دوركايم أن المجتمع هو مصدر الدين شكلت دراسته للطوطمية وسط الأرونتا في أستراليا. الطوطمية هي نسق ديني تعتبر فيه بعض الأشياء خاصة الحيوانات والنباتات مقدسة، وترمز للعشيرة. واعتبر دوركايم أن الطوطمية هى الشكل الأكثر بدائية وبساطة للدين ويوازيها شكل بدائي من التنظيم الاجتماعي ذلكم هو العشيرة . إذا تمكن دوركايم من توضيح كيف أن العشيرة هى مصدر الطوطمية، يكون بإمكانه إثبات حجته أن المجتمع هو منبع الدين . فيما يلي عرض لحجة دوركايم ” الدين الذى يرتبط مباشرة بالنسق الاجتماعي ويتفوق على كل ما سواه في بساطته يمكن اعتباره أكثر الأديان التي نعرفها أولية. وإذا نجحنا في اكتشاف أصل المعتقدات التى حللناها سابقاً، سيكون بإمكاننا في نفس الوقت اكتشاف الأسباب التي تؤدى إلى نشوء المشاعر الدينية لدى الإنسان “.
بالرغم من أنه يمكن أن يكون للعشيرة أكثر من طوطم واحد، فإن دوركايم لا يعتبر ذلك سلسلة من المعتقدات المنفصلة وغير المترابطة حول حيوانات أو نباتات محددة، وإنما أعتبرها نسقاً مترابطاً من الأفكار تعطى العشيرة تمثيلاً كاملاً عن العالم. ليس النبات أو الحيوان هو مصدر الطوطمية، إنه فقط يمثل ذلك المصدر. الطواطم هى التمثيل المادي للقوى غير المادية فيها. وتلك القوى غير المادية ليست أكثر من الضمير الجمعي للمجتمع ” الطوطمية دين، ليس بتلك الحيوانات أو بتصورات الناس، وإنما بتلك القوى المجهولة وغير الشخصية، موجودة في كل تلك الكيانات لكنها ليست ممتزجة بأي منهما. الأفراد يموتون والأجيال تذهب ويأتي غيرها لكن هذه القوى تبقى دائماً حية كما هى. إنها تنفخ الحياة في أجيال اليوم مثلما فعلت بأجيال الأمس وكما ستفعل بأجيال الغد “.
الطوطمية خاصة والدين بشكل عام مشتقان من الأخلاق الجمعية، وهى في نفسها قوى غير شخصية. إنها ليست سلسلة من النباتات، الحيوانات والأرواح فقط .

الانفعال الجمعي:

الضمير الجمعي هو مصدر الدين كما يرى دوركايم، لكن من أين يأتي الضمير الجمعي نفسه ؟ في نظر دوركايم إنه يأتي من مصدر واحد هو المجتمع. في الحالة البدائية التى درسها دوركايم يعنى هذا أن العشيرة هى المصدر المطلق للدين. لقد كان دوركايم صريحاً حول هذه النقطة عندما ذكر ” إن القوى الدينية ليست أكثر من القوى الجمعية والمجهولة للعشيرة ” ففي حين أننا ربما نوافق على أن العشيرة هى مصدر الطوطمية يبقى السؤال كيف تخلق العشيرة الطوطمية. تقع الإجابة في مكون أساسي من مستودع مفاهيم دوركايم وإن كان لم يناقش بشكل كاف، ذلك هو الانفعال الجمعي .
مفهوم الانفعال الجمعي لم يوضح جيداً في أي من أعمال دوركايم بما في ذلك (الأشكال الأولية للحياة الدينية ) ويبدو أنه كان في ذهنه وبشكل عام اللحظات الكبرى في التاريخ التى أمكن فيها للجماعة تحقيق مستويات عليا من الرقى والتي تقود بدورها إلى تغيرات كبرى في بنية المجتمع. الإصلاح الديني وعصر النهضة في أوروبا نماذج لفترات تاريخية كان فيها للانفعال الجمعي أثر مشهود على بنية المجتمع. ذكر دوركايم أن الدين ينشأ من الانفعال الجمعي ” إنه وسط هذه البيئات الاجتماعية المنفعلة ومن هذا الانفعال نفسه يبدو أن الدين يولد ” وخلال فترات الانفعال الجمعي يخلق أفراد العشيرة الطوطمية .
باختصار، الطوطمية هى التمثيل الرمزي للضمير الجمعي والضمير الجمعي بدوره يأتي من المجتمع لذلك فإن المجتمع هو مصدر الضمير الجمعي والطوطمية
ماكس فيبر:
قاد ماكس فيبر مجموعة من الدراسات يمكن أن تدخل تحت علم الاجتماع الديني، لعل من أهمها تلك الدراسة التي حاول فيها أن يناهض الفكر الماركسي في أساسه وجوهره، والتي سبقت الإشارة إليه تحت عنوان ” الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية”.

ثم قام فيبر بعد ذلك بدراسة مقارنة تناولت الأديان الكبرى والعلاقة بين الظروف الاجتماعية والاقتصادية، من جهة والاتجاهات الدينية من جهة أخرى. وعن الدور الذي يلعبه من خلال دراسات فيبر، فإن ريمون آرون يقول: ” إن نقطة الانطلاق في دراسات فيبر علم الاجتماع الديني هما في اعتقاده بأن فهم أي اتجاه يحتاج من الباحث إلى إدراك تصور الفاعل الموجود بأكمله”. إذ في ضوء هذا الاعتقاد حدد فيبر التساؤل التالي لكي يجيب عنه في دراسته: إلى أي مدى تؤثر التصورات الدينية عن العالم والوجود في السلوك الاقتصادي لكافة المجتمعات؟ ويقول1970 (Arno) إن ماكس فيبر في دراسته لتأثير الأخلاق البروتستانتية على الرأسمالية ، كان يريد أن يؤكد قضيتين هما:

 * أن سلوك الأفراد في مختلف المجتمعات يفهم في إطار تصورهم العام للوجود ، وتعتبر المعتقدات الدينية وتفسيرها إحدى هذه التصورات للعالم، والتي تؤثر في سلوك الأفراد والجماعات بما في ذلك السلوك الاقتصادي.

* إن التصورات الدينية هي بالفعل إحدى محددات السلوك الاقتصادي ومن ثم فهي تعد من أسباب تغير هذا السلوك.

ففيبر إذن، لم يعالج الجوانب المختلفة للدين بوصفه ظاهرة اجتماعية، بل اكتفى بالدراسة الأخلاقية الاقتصادية للدين، ويقصد منها ما يؤكد عليه الدين من قيم اقتصادية.

مؤلـف “الأخلاق البروتستانتيـة والروح الرأسماليـة” من أهم الأعمال عند فيبر:

كما هو معروف أن رائد علم الاجتماع ماكس فيبر، ألف أعمالا كثيرة، نذكر منها: العلم كمهنة، السياسة كمهنة، الاقتصاد العام… وفي مجالات عدة، الاقتصاد، السياسة، القانون… ولكن أبرز هذه الأعمال وأكثرها تأثيرا في الفكر الاجتماعي، كان كتاب ” الأخلاق البروتستانتية الذي سبقت الإشارة إليه. وبحسب المؤرخين، فإن هذا المؤلف كان قراءة لدور القيم الدينية في ظهور قيم وأخلاق العمل في المجتمعات الصناعية الجديدة، والتي كانت أساس ظهور النظام الرأسمالي.

وتأتي أهمية دراسات وأطروحات فيبر، من اهتمام منقطع النظير بفلسفة العلوم الاجتماعية ومناهجها. وفي هذا الخصوص استطاع العالم تطوير المفاهيم والجوانب التي أصبحت بعد وفاته ركائز علم الاجتماع الحديث، ومن أهم المصطلحات التي أثرى بها علم الاجتماع، وتعتبر جزءا منها ومرجعا كبيرا للمهتمين بهذا العلم الإنساني، هي ” العقلانية” و” الكاريزما” و” الفهم” و” أخلاق العمل”.

من بين المؤلفين الذين اهتموا في مؤلفاتهم بتحليل مؤلف ماكس فيبر:

يعد مؤلف الأخلاق البروتستانتية، من أشهر مؤلفات السوسيولوجيا الدينية عند ماكس فيبر. لذا نجد عدد لا يستهان به من المؤلفين، أثاروا حوله مجموعة من المناقشات والاعتراضات والمجادلات.

ويعد جوليان فروند في كتابه “سوسيولوجيا ماكس فيبر” من بين هؤلاء المؤلفين الذين اهتموا بتحليل أفكار ومواقف “الأخلاق البروتستانتية” الذي يوضح فيه فيبر أنه لا ينبغي إعطاء العلاقة السببية بين الرأسمالية والبروتستانتية معنى علاقة آلية. فالذهنية البروتستانتية كانت أحد مصادر عقلنة الحياة التي أسهمت في تكوين ما يسميه” الروح الرأسمالية”، إذ لم تكن السبب الوحيد أو حتى الكافي للرأسمالية نفسها.

ونخلص من هذا، إلى أن موقف فيبر يتمثل في أن البروتستانتية ليست سبب الرأسمالية، إنما أحد أسبابها، أو هي بالأحرى أحد أسباب بعض مظاهر الرأسمالية. وشرح لهذا ريمون آرون في كتابه”السوسيولوجيا الألمانية المعاصرة”.

وننتقل إلى خلفية الأفكار التي أسهمت في تكوين الروح الرأسمالية، إذ يجد فيبر هذه الخلفية عند بعض الطبقات البروتستانتية الكالفينية (الهولندية خاصة) والتقوية والميثودية والمعمدانية، التي يتميز نهجها الحياتي بتقشف يمكن التدليل عليه بكلمة ” التطهرية الغامضة”.

وما يهم فيبر هي الحوافز النفسية النابعة من المعتقدات والممارسات الدينية التي أثرت على الواقع لتكوين ” الروح الرأسمالية”. وعليه فعندما يتكلم فيبر عن الكالفينية فهو يفكر فقط في الأخلاق الخاصة ببعض الأوساط الكالفينية لنهاية القرن 17م، لا بمذهب كالفن لذاته.

وما يمكن أن نخلص إليه من هذا النتاج الفيبري، وهو أن فيبر لم يحصر السوسيولوجيا الدينية في تفسير ضيق للظاهرة الدينية من أجلها بالذات، وإنما حاول أن يوضح كيف يوجه السلوك الديني بقية النشاطات الإنسانية. اقتصادية، سياسية، قانونية… وكيف يحدد مواقف ذو أصول دينية سلوكا أخلاقيا يطبق بدوره في الشؤون الدنيوية.

وسننتقل بعون الله إلى المؤلف الثاني، الذي اهتم بدوره بـ ” الأخلاق البروتستانتية”، الذي ذهب فيه فيبر إلى أن العقيدة البروتستانتية – وبخاصة الكالفينية – هيأت الظروف الاجتماعية والنفسية، التي أدت إلى ازدهار الرأسمالية، والذي أثار التحليل الذي قدمه فيبر فيه اهتمام الباحثين بدراسة العلاقة بين الدين والاقتصاد على نطاق واسع.

ويعد الكتاب “ميادين علم الاجتماع” من جملة الكتب التي تناولت الدور الذي يلعبه كل من الدين والقيم في عملية التنمية الاقتصادية.

لقد كان ماكس فيبر أظهر من ناقش العلاقة بين القيم الدينية والنشاط الاقتصادي، فأكد الأهمية البالغة للدين باعتباره عاملا مدعما للنشاط الاقتصادي الرشيد ومشجعا. فقد أدت البروتستانتية بالإنسان إلى ممارسة سيطرة عقلية على جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وذلك على العكس من الديانات الشرقية الكبرى، وبخاصة الصينية القديمة والهندية، فهي لم تهيئ للإنسان بيئة صالحة لتدعيم النشاط الاقتصادي، في حين لم يحاول فيبر أن ينظر إلى العلاقة بين الدين والاقتصاد باعتبارها علاقة متميزة، إلا أن تحليله يقابل تحليل كارل ماكس الذي نظر إلى المعتقدات الدينية على أنها عنصر في البناء الفوقي، وبالتالي تعتمد إلى حد بعيد على القوى الاقتصادية في المجتمع.

ومن المؤلفين الذين اهتموا أيضا بعمل ماكس فيبر الشهير “الأخلاق البروتستانتية”، نجد دانيال هيرفيه في مؤلفه”سوسيولوجيا الدين” الذي ذهب فيه إلى أن دراسة فيبر عن “الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية”، قد غدت جدلا ثريا ونشيطا بدأ في حياة فيبر نفسه، إذ سعى بعض النقاد إلى إظهار أن وقائع مختلفة لا تتفق مع نظرية فيبر، وأنها لا تفسر بشكل تام، إذ أن المنطق الاقتصادي من حيث الأساس منطق معارض للأديان الأخلاقية، لأن عالم الاقتصاد الحديث عالم عقلاني ورأسمالي، بمنطقه الموضوعي الفردي والغريب عن الأخلاق الدينية المتعلقة بالإخاء لا يترك ” العالم الوظيفي للرأسمالية” مكانا لدواعي أو متطلبات تصدقية إحسانية تجاه الأشخاص المحددين.

وفي المقابل ثمة نقاد آخرون لم يعترضوا على وجود بعض الصلات البروتستانتية وتطور الرأسمالية وذلك بافتراضهم لتفسيرات مختلفة لهذا التطور. واستدلوا على وجهة نظرهم بوجود العديد من الأمثلة المعاصرة التي تظهر الزهد والتقشف الدنيوي ذا الأصل الديني يمكن بالفعل أن يكون على صلة مع الروح العامة للمقاول صاحب المشروع الرأسمالي.

إلا أننا نجد كاترين كوليوثيلين قد أظهرت بشكل مقنع أن التعارض الكبير بين عالم الماضي الذي كانت فيه التمثيلات، وكذلك المؤسسات بواسطة الدين، وبين اليوم الذي تحرر من مثل هذا الاعتقاد. لا ينصف التحليلات الفيبرية التي تقاوم التفسيرات التي تستخدم المصطلحات الدنيوية، إذ أن الأديان الأخلاقية، حتى ولو كانت قد ساهمت في هذه العملية، لم يعد لها تأثير على الرأسمالية، كما أنها قد فقدت فعاليتها الاجتماعية.

فمن خلال هذا التحليل، يتضح على أن ماكس فيبر يؤكد على أن تطور وخصوصية التقشف البروتستانتي، قد تأثرا من ناحيتهم بكل الظروف الثقافية الاجتماعية، وخصوصا الظروف الاقتصادية.

خــاتمــــة:

في الختام نخلص إلى استنتاج مفاده، أن ماكس فيبر يعتبر أحد العمالقة العظام، والذي اكتشف ذلك النظام بين (الأخلاق) و(العمل)، وهو في ثلاثيته المعروفة في الكتاب، يضع يده على أحد أهم الأسرار في نهضة الغرب، فحيث انتشرت البروتستانتية انفجرت الرأسمالية. ويقول إن مثلث أو شرارة الانبعاث تكمن في: روح المبادرة، وتقديس العمل، واعتماد مبدأ الربح، وهي ثلاث قيم أنهكت الغرب مع تسلط الكثلكة، ولم يكن الغرب حسب وجهة نظره لينهض لو أن البابا والكنيسة الكاثوليكية بقيمتها المعاكسة، بقيت تمسك بتلابيب أوربا، من تقديس الزهد والفقر، والتواكل في عقيدة فاسدة لفهم العمل الإلهي والبشري، والنظر إلى الربح على أنه عمل غير صالح.

وما يمكن أن نخلص إليه من خلال دراستنا السطحية والمتواضعة جدا لهذا الكتاب، يمكن أن نجمله في ما يلي:

أن ماكس فيبر من خلال مؤلفه هذا، حاول أن يوضح كيف يوجه السلوك الديني بقية النشاطات الإنسانية، الاجتماعية، الاقتصادية، ثم السياسية… وأن يبين أن دائرة انعكاسات المجال الديني متسعة جدا ولا تنحصر في إطار محدود، بل تكتسح كل الميادين، وقد خصص في كتابه هذا مجال الاقتصاد بالدراسة، القابل بدوره إلى التغير والتأثر بالمتغيرات والمؤثرات الدينية والثقافية في المجتمع.

كارل ماركس
ان ماركس على الرغم من الأثر الكبير الذي تركه في هذا الميدان لم يدرس الدين بحد ذاته بصورة تفصيلية بل استقى أكثر أفكاره حول هذا الموضوع من كتابات عدة من الفلاسفة و المفكرين في القرن 19 و يتكون الدين في نظر فيورباخ من أفكار و قيم أنتجها البشر خلال تطورهم الثقافي و لكنهم أشبعوها على قوى سماوية أو الهية و يتفق ماركس مع الفكرة قائلا ان الدين يمثل حالة الاغتراب الانساني ويشبع الاعتقاد في أغلب الأحيان أن ماركس كان يطالب بنبذ الدين و استئصاله غير أن مثل هذا الاعتقاد بجانب الصواب فالدين في نظره هو بمثابة القلب في عالم لا قلب له و يرى ماركس أن الدين بشكله التقليدي سوف يختفي بل لا بد من أن يختفي نظرا الى أن القيم الايجابية التي يمثلها الدين قد تكون نموذجا في نظر ماركس أن لا تخشى الآلهة التي صنعنها بأنفسنا و أن لا نضفي عليها مثل القيم العليا التي يمكن للبشر أنفسهم أن يحققوها
سوسيولوجيا الاديان و الجيل الثاني من المنظرين

بارسونز:
كان بارسونز كما يحكي ذلك براين نورتر متأثر بنظرية كانط الأخلاقية و بوظيفية دوركايم و بالسوسيولوجية التفهمية عند فيبر حتى أنه عمل على ترجمة كتاب الخلاق البروتستانتية و الروح الرأسمالية و قدم له بمقدمة يشرح فيها علاقة الدين بالاقتصاد في ايجاد حياة اجتماعية مطابقة و أكثر من ذلك لم يذهب بارسونز في تأكيد فرضيات الجيل الأول من السوسيولوجيين الذين اعتبروا تراجع الدين في المجتمعات المعاصرة بل انه عمل على التأكيد على أهميته في الأنساق الاجتماعية و الفعل الاجتماعي فالدين موجه لكلا المجالين

بيير بورديو:
لا يمكن فهم البراديغم الجديد الذي أبدعه بورديو في مقاربة الحقل الديني دونما الرجوع للخلفيات الابستيمولوجية التي تفاعلت في أعقاب الحرب العالمية الأولى و قبيل الحرب العالمية الثانية ذلك أن أزمة التفسير التي واجهت العلوم الاجتماعية جعلت البعض يشكك في علمية هذه العلوم و كان اسهام بورديو أساسيا اذ أنه عمل على ازالة التعارض بين الفينومينولوجيا الاجتماعية و الفيزياء و كان يعتبر أنه للكشف عن حقيقة الظواهر الاجتماعية لا بد من تجاوز النزعة الموضوعية و أيضا النزعة الذاتية كنظريات الفعل و علم الاجتماع التأويلي و التحليل اللغوي
اذا ما بلغنا في تقدير أهمية هذا المقترب التفسيري الذي سماه بورديو الهابيتوس الفرد و لعلنا من خلال دراسة السلوك الديني ثم في المستوى الأول يقع هابيتوس الفرد و لعلنا من خلال دراسة السلوك الديني ثم في المستوى الثاني هابيتوس الجماعة المحلية المحيطة بالفرد بداية من الأسرة الجماعة و جماعة الأقارب و الجيران الأصدقاء و المستوى الثالث هو هابتوس المجال حيث يرى بورديو أن لكل مجال من المجالات القائمة (السياسي و الاقتصادي و الثقافي) في المجتمع الهابيتوس الخاص هو عبارة عن مجموعة المهارات و الأساليب الفنية و المرجعيات ونظم المعتقدات الواجب توافرها في عضو هذا المجال دون غيره من المجالات

خاتمة:
لا يمكننا أن ندعي أننا قدمنا رؤية متكاملة ناجزه عن سوسيولوجيا الأديان بقدر ما حولنا أن نتلمس بعض المعالم الكبرى لهذا التخصص المعرفي و قد علمنا قدر المستطاع أن نلقي الضوء على أهم الأطروحات و النظريات التي ناقشت الظاهرة الدينية من وجهة نظر سوسيولوجية

تلخيص جمهورية افلاطون

نبذة عن المؤلف
ولد أفلاطون في أثينا عام 428 قبل الميلاد، لعائلة أرستقراطية، وتزعم المصادر القديمة أن والده، أريستون، كان من نسل كودروس، آخر ملوك أثينا، ووالدته ، بريونسيون ، من سولون وهى مشرعة أثينية تكاد تكون أسطورية ومؤلفة أول دستور للمدينة.

يظهر شقيقا أفلاطون، وهما: (قولاكن Glaucon) و(أدمينتوس Adeimantus)، كإثنين من الشخصيات الرئيسية في كتاب الجمهورية
توفي أريستون أثناء طفولة أفلاطون، وتزوجت والدته من بيريميلامس، صديق رجل الدولة الأثيني بريكليس، ومع ولادته النبيلة ومواهبه الفكرية، كان لدى أفلاطون في فترة شبابه آفاق جيدة في السياسة الأثينية.

بعد وفاة سقراط، كرس أفلاطون نفسه لمواصلة عمل معلمه، وقضى سنوات في السفر حول البحر الأبيض المتوسط، والتعليم والتعلم، حتي توفي في 347

عن المؤلف

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

أفلاطون: أحدُ أشهر وأعظم الفلاسفة الغربيين، موسوعيُّ المعرفة، عميقُ الفكر، له طريقة فريدة في عرض أفكاره بأسلوبٍ بسيط ومنطقي يَفتِن القراء.

وُلد أرسطوقليس بن أرستون في أثينا عام ٤٢٧ق.م تقريبًا، واشتُهر باسم «أفلاطون» الذي يُعبِّر عن ضخامة الجسد. تَربَّى في عائلةٍ أرستقراطية مثقفة اهتمَّت بتربيته بدنيًّا وفكريًّا، بدأ حياته بالتعلُّم من السفسطائيين ومن أحد تلامذة هرقليطس، وبعدها قابل مُعلمه سقراط ولازمه حتى صدور حكم الإعدام الجائر للمعلم؛ الأمر الذي جعله يرى الفسادَ في نظام الحكم وضرورة أن تكون الفلسفة أساسًا لهذا النظام، وهو ما دفعه للقيام برحلته الكبرى من أجل البحث عن الحكمة؛ فسافر إلى مصر وزار إقليدس وتعلم من كهنة عين شمس، ثم إلى قورينا والتقى بالعالِم الرياضي المشهور تيودورس وتعلم الشعر والموسيقى والرياضيات والفلك … واستمرت رحلاتُه اثني عشر عامًا، عاد بعدها إلى أثينا مسقط رأسه إنسانًا ناضجًا تمامًا، وأسَّس فيها مدرستَه الفلسفية، وانقطع بعدها للكتابة والتعليم.

له العديدُ من المؤلفات التي اتَّبع فيها أسلوبَ المحاورة لشيوعه في عصره، متمثلًا شخصيةَ مُعلمه سقراط، وناقش العديد من القضايا الفلسفية، كالوجود والفضيلة والروح والمعرفة والحب … وتميَّزتْ فلسفته المثالية بالسعي الدائم لتحصيل المعرفة الكلية الشاملة من أجل الوصول إلى الحقيقة كهدفٍ أسمى. ومن أهم مؤلفاته كتاب «الجمهورية» الذي يتكلم فيه عن الفلسفة السياسية في عشرة كُتيِّبات، وكتاب «المأدبة» في فلسفة الحب.

تتلمذ على يديه العديدُ من أعلام الفلاسفة، أشهرُهم تلميذه أرسطوطاليس الذي اهتمَّ بحضور مناقشات أفلاطون، والذي نقل عنه شفهيًّا ما يصح أن يُطلَق عليه «تعاليم أفلاطون غير المكتوبة» من خلال مدرسته المشائية.

تُوفِّي أفلاطون عام ٣٤٧ق.م بعدما وضع أُسُس الفلسفة المثالية وترك أثرًا في الإنسانية لا يُمحى.

نبذة عن الكتاب

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

كتاب الجمهورية أحد أكثر أعمال أفلاطون شهرة، ويُعزى إلى الدروس التي تعلمها من سقراط، ويعتبر أول كتاب عن العلوم السياسية أو الحكومة ويستخدم والأسلوب الأفلاطوني لتأمل الأفكار حول العدالة.

في الكتاب، تقرر مجموعة إنشاء مدينة وهمية لتحديد شكل العدالة، وتنقسم المدينة إلى فصول: الحكام الذين يفهمون الصواب والخطأ، الأوصياء الذين يحمون المدينة ويعتنون بشعبها، والمنتجون الذين يقدمون السلع والخدمات للناس.

واحدٌ من أثمن الكتب المؤسِّسة للفكر السياسي؛

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

«الجمهورية» التي تتحقَّق فيها العدالة كما ارتآها «أفلاطون» قبل الميلاد بنحو أربعة عقود.

الكتاب الذي ترجَمَه «حنَّا خبَّاز» إلى اللغة العربية هو عبارة عن حوار فلسفي سياسي، يَعرض من خلاله أفلاطون رؤيتَه للدولة المثالية أو المدينة الفاضلة السقراطية؛ فسقراط هو المُحاوِر الرئيس، وحوله شخصيات عدة يُجادلها وتُجادله، وتتحدَّد مع تصاعُد الجدال ملامحُ جمهورية أفلاطون المتخَيَّلة. في جمهورية أفلاطون ينتمي كلُّ فردٍ من أفراد المجتمع إلى طبقةٍ محددة، ويعمل في مجالِ تخصُّصٍ محدد، ويتحقَّق التوازن بين القوى الثلاث التي يتكوَّن منها المجتمع: القوة العاقلة، والقوة الغضبية، والقوة الشهوانية. وبينما يحاول تقديمَ تعريفٍ للحاكم العادل ويقابله بالحاكم المُستبِد، يُقسِّم الحكومات إلى أربعة أنواع: الأرستقراطية، والأوليغاركية، والديمقراطية، والاستبدادية. وهو من جهةٍ يعلن ميْلَه إلى الملكية الدستورية، ومن جهةٍ أخرى يُقِرُّ بأن العدالة المُطلَقة تظلُّ عَصِيةً على التحقُّق.

جمهورية أفلاطون
أفلاطون
ترجمة حنا خباز

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

واحدٌ من أثمن الكتب المؤسِّسة للفكر السياسي؛ «الجمهورية» التي تتحقَّق فيها العدالة كما ارتآها «أفلاطون» قبل الميلاد بنحو أربعة عقود.

الكتاب الذي ترجَمَه «حنَّا خبَّاز» إلى اللغة العربية هو عبارة عن حوار فلسفي سياسي، يَعرض من خلاله أفلاطون رؤيتَه للدولة المثالية أو المدينة الفاضلة السقراطية؛ فسقراط هو المُحاوِر الرئيس، وحوله شخصيات عدة يُجادلها وتُجادله، وتتحدَّد مع تصاعُد الجدال ملامحُ جمهورية أفلاطون المتخَيَّلة. في جمهورية أفلاطون ينتمي كلُّ فردٍ من أفراد المجتمع إلى طبقةٍ محددة، ويعمل في مجالِ تخصُّصٍ محدد، ويتحقَّق التوازن بين القوى الثلاث التي يتكوَّن منها المجتمع: القوة العاقلة، والقوة الغضبية، والقوة الشهوانية. وبينما يحاول تقديمَ تعريفٍ للحاكم العادل ويقابله بالحاكم المُستبِد، يُقسِّم الحكومات إلى أربعة أنواع: الأرستقراطية، والأوليغاركية، والديمقراطية، والاستبدادية. وهو من جهةٍ يعلن ميْلَه إلى الملكية الدستورية، ومن جهةٍ أخرى يُقِرُّ بأن العدالة المُطلَقة تظلُّ عَصِيةً على التحقُّق.

تاريخ إصدارات هذا الكتاب‎‎

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

صدر الكتاب الأصلي عام ١٧٩٣
صدرت هذه الترجمة عام ١٩٢٩
صدرت هذه النسخة عن مؤسسة هنداوي عام ٢٠١٧

محتوى الكتاب

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

مقدمة المترجم
الكتاب الأول: العدالة
الكتاب الثاني: المدينة السعيدة
الكتاب الثالث: دستور المدينة
الكتاب الرابع: الفضائل الأربع
الكتاب الخامس: المسألة الجنسيَّة
الكتاب السادس: الفلاسفة
الكتاب السابع: المُثُل
الكتاب الثامن: الحكومات الدُّنيا
الكتاب التاسع: المستبد
الكتاب العاشر: التقليد وجزاء الفضيلة

تتمة ملخص كتاب جمهورية افلاطون

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

يتم عرض الكتاب في شكل حوار بين سقراط وثلاثة محاورين مختلفين، وهو عبارة عن استقصاء لمفهوم المجتمع المثالي والفرد المثالي بداخله، وأثناء المحادثة، يتم طرح أسئلة أخرى: ما هو الخير؟ ما هي الحقيقة؟ وما هي المعرفة؟ يتناول الكتاب أيضا غرض التعليم ودور كل من النساء والرجال كأوصياء على الشعب.

تتمثل استراتيجية أفلاطون في الكتاب في توضيح المفهوم الأساسي للعدالة الاجتماعية أو السياسية، ومن ثم استنباط مفهوم مماثل للعدالة الفردية، وفي الكتب الثاني والثالث والرابع، يحدد العدالة السياسية على أنها وئام في هيئة سياسية منظمة، ويمكن تلخيص أهم محاور الكتاب فيما يلي:

يتكون المجتمع المثالي من ثلاثة فئات رئيسية من الناس: المنتجون (الحرفيون، المزارعون، غيرهم)، المساعدين (المحاربين)، والأوصياء (الحكام)، المجتمع ينشأ فقط عندما تكون العلاقات بين هذه الطبقات الثلاث صحيحة.
يجب أن تؤدي كل مجموعة وظيفتها المناسبة فقط، ويجب أن تكون كل مجموعة في وضع القوة المناسب بالنسبة إلى المجموعات الأخرى، ويجب أن يحكم الحكام، وأن يدعم المساعدون قناعات الحكام، ويقتصر المنتجون على ممارسة أي مهارات تمنحها لهم الطبيعة (الزراعة، الحدادة، الرسم، وغيره.)
العدالة مبدأ من مبادئ التخصص: مبدأ يتطلب من كل شخص أن يحقق دوره في المجتمع الذي هيئته له الطبيعة وألا يتدخل في أي عمل آخر.
في نهاية الكتاب الرابع، يحاول أفلاطون إظهار أن العدالة الفردية تعكس العدالة السياسية.
يدعي أفلاطون في الكتاب أن روح كل فرد لها هيكل من ثلاثة أجزاء يشبه الطبقات الثلاثة في المجتمع، هناك جزء عقلاني، يسعى وراء الحقيقة وهو مسؤول عن ميولنا الفلسفية، وجزء مفعم بالحيوية، وهو مسؤول عن مشاعر الغضب والسخط، جزء شهواني (لتلبية الاحتياجات الجسدية)، ولكن المال أهم من ذلك كله (حيث يجب استخدام المال لتحقيق أي رغبة أساسية أخرى)
في الفرد العادل، تهدف الروح بأكملها إلى تحقيق رغبات الجزء العقلاني، كما هو الحال في المجتمع العادل حيث يهدف المجتمع بأكمله إلى تحقيق ما يريده الحكام.
يوضح أفلاطون أن العالم منقسم إلى عالمين، المرئي (الذي نفهمه مع حواسنا) والواضح (الذي نفهمه فقط بعقلنا)
العالم المرئي هو الكون الذي نراه من حولنا، ويتكون العالم الواضح من الأشكال وهي نماذج مجردة غير قابلة للتغيير، مثل الخير، والجمال.
في الكتاب التاسع، يقدم ثلاث حجج لاستنتاج أنه من المستحسن أن يكون عادلا، من خلال رسم صورة نفسية للطاغية، يحاول أن يثبت أن الظلم يعذب نفسية الرجل، في حين أن الروح العادلة هي روح صحية وسعيدة وهادئة.
ينهي أفلاطون كتابه بعد أن حدد العدالة وأثبت أنها أعظم خير، فإنه ينفي الشعراء من مدينته، لأن الشعراء، كما يزعم، يشجعونا على الانغماس في العواطف الباطلة في التعاطف مع الشخصيات التي نسمع عنها.
في الختام روى أفلاطون أسطورة (إر Er) الإغريقية، التي تصف مسار الروح بعد الموت، وتكافأ النفوس العادلة لألف عام، بينما تتم معاقبة أولئك الظالمين على نفس القدر من الوقت، وبعدها كل روح يجب أن تختار حياتها القادمة.

ملخص كتاب جمهورية أفلاطون

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

جمهورية افلاطون, لمعرفة جذور الفلسفة الغربية في الحكم ,
هذا الكتاب كتبه أفلاطون على لسان أستاذه سقراط, حوالي 400 قبل الميلاد, وهو عبقري بلا شك, حيث تناول مناقشة قضايا تخص الدول والمجتمعات الشرقية والغربية منذ فجر التاريخ الإنساني , وحتى يومنا هذا
يناقش أفلاطون في بداية الكتاب فكرة العدالة, وكيف نبني دولة عادلة أو أفراد يحبون العدالة

يقدم سقراط في المحاورات داخل الكتاب تعريفا للعادل وهو الحكيم والصالح ,
وإن المتعدي هو الشرير والجاهل
وهو يظن ان الانسان يميل بطبعه الى التعدي أكثر من العدالة, والدولة ينبغي أن تعلم الافراد حب العدالة
ويشبه أجزاء الدولة بأجزاء الإنسان …
الدولة تنقسم الى :
طبقة الحكام , طبقة الجيش , طبقة الصناع والعمال

ويقسم الانسان الى :
الرأس وفيه العقل, وفضيلته هي الحكمة
القلب , وفيه العاطفة, وفضيلته هي الشجاعة
البطن, وفيه الشهوات, وفضيلته هي الاعتدال

والدولة العادلة هي التي يقوم كل فرد فيها بالعمل الخاص بطبيعته :
الحاكم يحكم, الجندي يحمي , العامل يشتغل

وهكذا تكون فكرة العدالة في النفس البشرية :
العقل يضبط الشهوات, العواطف تساعد العقل في عمله, كالغضب ضد الاعمال المنحطة والخجل من الكذب

والعدالة الاجتماعية هي جزء من هذه العدالة الداخلية / عدالة

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ثم يتساءل : هل نطلب القوة أم نطلب الحق؟
وهل خير لنا ان نكون صالحين أو أن نكون أقوياء؟
ويقول سقراط في المحاورات ان الطمع وحب المزيد من الترف هي العوامل التي تدفع بعض الناس للتعدي على الجيران وأخذ ممتلكاتهم, أوالتزاحم على الأرض وثرواتها, وكل ذلك سيؤدي الى الحروب

ويقول ان التجارة تنمو وتزدهر في الدولة, وتؤدي الى تقسيم الناس بين فقراء وأغنياء,
وعندما تزيد ثروة التجار تظهر منهم طبقة يحاول أفرادها الوصول الى المراتب الاجتماعية السامية عن طريق المال, فتنقلب احوال الدولة, ويحكمها التجار وأصحاب المال والبنوك, فتهبط السياسة, وتنحط الحكومات وتندثر
ثم يأتي زمن الديمقراطية, فيفوز الفقراء على خصومهم ويذبحون بعضهم وينفون البعض الاخر ويمنحون الناس أقساطا متساوية من الحرية والسلطان..
لكن الديمقراطية قد تتصدع وتندثر من كثرة ديمقراطيتها, فإن مبدأها الاساسي تساوي كل الناس في حق المنصب وتعيين الخطة السياسية العامة للدولة..
وهذا النظام يستهوي العقول, لكن الواقع أن الناس ليسوا أكفاء بالمعرفة والتهذيب ليتساووا في اختيار الحكام وتعيين الافضل, وهنا منشأ الخطر..
ينشأ من الديمقراطية الاستبداد, إذا جاء زعيم يطري الشعب داعيا نفسه حامي حمى الوطن, ولاه الشعب السلطة العليا , فيستبد بها…
ثم يتعجب سقراط من هذا ويقول : إذا كنا في المسائل الصغيرة كصنع الاحذية مثلا لا نعهد بها الا الى اسكافي ماهر, أو حين نمرض لا نذهب الا الى طبيب بارع , ولن نبحث عن اجمل واحد ولا أفصح واحد
وإذا كانت الدولة تعاني من علة , ألا ينبغي ان نبحث عن أصلح الناس للحكم ؟

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ثم يقول ان الدولة تشبه ابناءها, فلا نطمع بترقية الدولة الا بترقية ابنائها..
وتصرفات الانسان مصدرها ثلاثة:
الشهوة : وهؤلاء يحبون طلب المال والظهور والنزاع, وهم رجال الصناعة والتجارة والمال
العاطفة: وهؤلاء يحبون الشجاعة والنصر وساحات الحرب والقتال, وهم من رجال الجيش
العقل : وهؤلاء أقلية صغيرة تهتم بالتأمل والفهم , بعيدون عن الدنيا واطماعها, هؤلاء هم الرجال المؤهلين للحكم, والذين لم تفسدهم الدنيا

ويقول أن افضل دولة هي التي فيها العقل يكبح جماح الشهوات والعواطف
يعني , رجال الصناعة والمال ينتجون ولا يحكمون, ورجال الحرب يحمون الدولة ولا يتسلمون مقاليد الحكم, ورجال الحكمة والمعرفة والعلم , يطعمون ويلبسون ويحمون من قبل الدولة , ليحكموا…
لأن الناس إذا لم يهدهم العلم كانوا جمهورا من الرعاع من غير نظام , كالشهوات اذا اطلق العنان لها
الناس في حاجة الى هدى الفلسفة والحكمة…
وإن الدمار يحل بالدولة حين يحاول التاجر الذي نشأت نفسه على حب الثروة أن يصبح حاكما , أو حين يستعمل القائد جيشه لغرض ديكتاتورية حربية…

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ثم يقترح سقراط طريقة صناعة هؤلاء القادة الحكماء, وان تربيهم الدولة منذ الصغر على الفضيلة والعلم, وان يجتازوا امتحانات كثيرة حتى يبلغوا سن الخامسة والثلاثين , فيخرجوا لمخالطة الناس في المجتمع وكل الطبقات , ويرون كل الحيل والدهاء الذي عند بعض الناس , حيث هكذا يصبح كتاب الحياة مفتوحا أمامهم…..
ثم من غير( خدع ولا انتخابات ) يعين هؤلاء الناس حكاما للدولة, ويصرف هؤلاء نظرهم عن كل شيء آخر سوى شؤون الحكم, فيكون منهم مشرعين وقضاة وتنفيذيين
وخوفا من وقوعهم في تيار حب المال والسلطان, فإن الدولة توفر لهم المسكن والملبس والحماية, وممنوع ان يكون في بيوتهم ذهب او فضة…
وطبعا ستكون اعمارهم لا تقل عن خمسين سنة, وهي سن النضوج والحكمة كما يقول سقراط
وإذا كنا في ظروف لم نحصل على مثل هؤلاء, فعلى الاقل نفحص ماضي هذا المرشح للحكم , كم عنده مباديء كم عنده نزاهة؟ كيف أمضى حياته قبل استلام الحكم ؟
هذه هي أبسط طريقة….
وفي النهاية يقول ان العدالة اذن هي ليست القوة المجردة, وهي ليست حق القوي, انما هي تعاون كل اجزاء المجتمع تعاونا متوازنا فيه الخير للكل

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

الكتاب مذهل, لانه كتب قبل حوالي 2400 سنة
وتكلم عن مشاكل مازالت المجتمعات تعاني منها…
قد يبدو مثاليا , لكنه لا يخلو من واقعية ومنطقية…

مثالية أفلاطون في مواجهة عقلانية ارسطو

الميتافيزيقيا وطبيعة الله :

♧♧♧♧♧♧♧

لقد “نشأت ميتافيزيقا أرسطو من علم احيائه. كل شيء في العالم يحركه باعث داخلي ليصبح شيئاً اكبر مما كان عليه. وكل شيء هو كلتا الصورة أو الحقيقة التي نشأت عن شيء كان مادة لها. والذي قد يكون بدوره مادة لصور أكبر تنشأ عنه. وهكذا فإن الرجل هو الصورة الذي كان الطفل مادة لها. والطفل هو الصورة التي كان الجنين مادة لها. والجنين هو الصورة والبويضة هي المادة. وهكذا نعود إلى الخلف إلى ان نصل بطريقة غامضة إلى تصور المادة بغير صورة اطلاقاً، ولكن هذه المادة بغير صورة سوف لا تكون شيئاً، لأن كل شيء صورة. ان المادة بمعناها الأوسع، هي إمكانية الصورة، والصورة هي الحقيقة، الحقيقة التامة للمادة. المادة تسد والصورة تبني، ان الصورة ليست الشكل فقط ولكنها القوة المشكلة، وهي ضرورة داخلية وباعث يعجن المادة المجردة إلى شكل وغرض خاص، انها تحقيق مقدرة المادة القوية، انها كمية القوى الكامنة في أي شيء ليعمل ويكون ويصبح، وبالتالي فإن الطبيعة غزو الصورة للمادة والتدرج والتقدم الدائم وانتصار الحياة”

ان هذا النظام والتصميم بالنسبة إلى ارسطو أمر داخلي وينشأ من نوع الشيء وعمله، فهو يعتقد بان العناية الإلهية تنسجم تماماً مع عملية الأسباب الطبيعية.

يقول أرسطو: “انه لا بد أن يكون للحركة مصدر اذا اردنا أن لا نغطس في رجوع لا نهائي. واضعين خلفنا مشاكلنا خطوة فخطوة إلى ما لا نهاية. ويجب أن نقوي الايمان بالله المحرك الأكبر ولكنه هو نفسه لا يتحرك، وهو كائن، معنوي لا مادي غير مرئي، ولا مكان له لا مذكر ولا مؤنث، ولا يتغير أو يتأثر، تام وأبدي، ان الله لا يخلق العالم، بل يحركه، ولا يحرك العالم كقوة ميكانيكية ولكن كمحرك كلي لجميع عمليات العالم. ان الله يحرك العالم كما يحرك المحبوب المحب. انه السبب النهائي للطبيعة. والقوة الدافعة للاشياء وهدفها، انه صورة العالم، ومبدأ حياته ومجموع تفاعله الحيوي وقوته، وهدف نموه الغريزي”.

ومع ذلك “فإن ارسطو بتناقضه المعتاد يصور الله روحاً مدركة لنفسها، أو بالأحرى يصوره روحاً غامضة مبهمة، لان الله لا يفعل شيئاً أبداً في نظر ارسطو وليست له رغبات ولا إرادة ولا هدف، انه حيوية خالصة لدرجة انه لا يعمل ابداً، وهو كامل كمالا مطلقاً، لذلك ليس بمقدوره أن يغرب بأي شيء لذلك فهو لا يفعل شيئاً، وعمله الوحيد هو التفكير في جوهر الأشياء. وبما انه نفسه جوهر جميع الأشياء وصورة جميع الصور، فان وظيفته الوحيدة هي التفكير في ذاته، يا له من اله فقير هذا الاله الذي يعتقد به ارسطو، انه ملك لا يفعل شيئاً ملك بالاسم لا بالفعل. ولا غرابة في ان يحب البريطانيون ارسطو لأن إلهه صورة طبق الأصل من ملكهم، أو صورة عن ارسطو نفسه. لقد احب فيلسوفنا التأمل والفكر إلى درجة أن ضحى من اجل هذا التأمل بمفهومه عن الله. ان الهه –كما يقول ديورانت- من نوع لا خيال فيه، وهو منعزل في برجه العاجي بعيداً عن صراع الأشياء”.

الأخلاق وطبيعة السعادة عند أرسطو :

ذ♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

يعترف أرسطو “بأن هدف الحياة ليس الخير في حد ذاته، بل السعادة، لاننا نختار السعادة لذاتها، لا لشيء آخر، ونحن نختار الشرف، والسرور والادراك..لاننا نعتقد اننا نصل عن طريقها إلى السعادة، ونكون سعداء بفضلها، ولكن ارسطو يعرف ان تسمية السعادة بالخير الاسمى مجرد حقيقة اولية، وما نريده هو تفسير أوضح عن طبيعة السعادة، وطريق الوصول إليها، عن طريق التفكير والعقل، لذلك يمكننا ان نفترض أن تطور هذه المقدرة الفكرية سيحقق له السعادة. عندئذ تكون حياة العقل شرطاً للسعادة باستثناء قضاء بعض اللوازم الجسدية”

أما “الطريق لبلوغ السعادة، الذي يوفر على الإنسان الكثير من التأخير والعناء، فهو –عند أرسطو- الطريق الوسط، أو الوسط الذهبي، حيث تنظم الاخلاق في شكل ثلاثي يكون الطرفان الأول والاخير فيه تطرفاً ورذيلة، والوسط فضيلة أو فضل، وهكذا يكون بين التهور والجبن فضيلة الشجاعة، وبين البخل والاسراف فضيلة الكرم، وبين التهور والجبن فضيلة الطموح، وبين الخضوع والعتو فضيلة الاعتدال، وبين الكتمان والثرثرة فضيلة الامانة، وبين الكآبة والمزاح فضيلة البشاشة وبين محبة الخصام والتملق فضيلة الصداقة، عندئذ لا يختلف الصواب في الاخلاق والسلوك عن الصواب في الرياضيات والهندسة، حيث يعني الصحيح والمناسب وافضل عمل لأفضل نتيجة” .

في هذا الجانب يقول أرسطو: “ان الفضيلة فن يمكن كسبه بالمران والعادة، اننا لا نعمل الصواب لان لدينا فضيلة أو فضل. ولكن الفضيلة موجودة فينا لأننا عملنا الصواب. هذه الفضائل تتشكل في الإنسان بعمله لها. اننا عبارة عما نفعل دائماً، لكن أرسطو يعتقد بأن الوسط الذهبي ليس كل السعادة، بحيث يجب أن يتوفر لدينا جانب من متاع الدنيا وحاجاتها، فالفقر يجعل من الإنسان بخيلاً شحيحاً، بينما المال يحرر الإنسان من الحرص والشَّرَه، كما أن أنبل الأمور التي تساعد في الوصول إلى السعادة هي الصداقة، لإنها ضرورية للإنسان السعيد أكثر من الإنسان التعيس، لان السعادة تزيد وتتضاعف بمشاركة الاخرين فيها، وهي اكثر أهمية من العدالة، اذ لا حاجة للعدالة عندما يكون الناس أصدقاء، فعندما يكون الناس عادلين مقسطين، تبقى الصداقة نعمة وفضل، فالصديق روح واحد في جسدين، ومع ذلك فإن الصداقة تعني قلة الأصدقاء، لا كثرتهم، وذلك الذي له أصدقاء كثيرون لا صديق له. ومن المتعذر ان تكون صديقاً لكثير من الأصدقاء اذا اردت الصداقة المخلصة”

إن الإنسان المثالي في رأي أرسطو “هو الذي لا يُعَرِّض نفسه بغير ضرورة للمخاطر، ولكنه على استعداد لان يضحي حتى بنفسه في الازمات الكبيرة، مدركاً أن الحياة لا قيمة لها في ظروف معينة، وهو يعمل على مساعدة الناس، ولكنه يرى العار في مساعدة الناس له، لان مساعدة الناس ونفعهم دليل التفوق والعلو، ولكن تلقى المساعدات منهم دليل التبعية وانحطاط المنزلة، كما أن الإنسان المثالي –كما يراه أرسطو- لا يشترك في المظاهر العامة، وينأى بنفسه عن التفاخر والتظاهر، وهو صريح في كراهيته وميوله، وقوله وفعله، بسبب استخفافه بالناس وقلة اكتراثه بالأشياء، ولا يهزه الاعجاب بالناس أو اكبارهم، اذا لا شيء يدعو إلى الاعجاب والاكبار في نظره، ولا يساير الاخرين، الا اذا كان صديقاً لان المسايرة من شيم العبيد، ولا يشعر بالغل أو الحقد ابداً، ويغفر الإساءة وينساها، ولا يكثر الحديث.. ولا يبالي بمدح الناس له أو ذمهم لغيره، ولا يتكلم بالسوء عن الاخرين ولو كانوا أعداء له، شجاعته رصينه، وصوته عميق، وكلامه موزون، لا تأخذه العجلة، لان اهتمامه قاصر على أشياء قليلة فقط. ولا تأخذه الحدة أو يستبد به الغضب، ويتحمل نوائب الحياة بكرامة وجلال، باذلاً جهده قدر طاقته وظروفه، كقائد عسكري بارع ينظم صفوفه بكل ما في الحرب من خطط. وهو أفضل صديق لنفسه، ويبتهج في الوحدة، بينما نرى الجاهل العاجز المجرد عن الفضيلة أو المقدرة عدو نفسه ويخشى الوحدة، هذا هو الرجل المثالي في نظر أرسطو”

أشكال المعرفة عند أرسطو:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

“في حين رأى أفلاطون رابطة بين أشكال المعرفة المختلفة ومسائلها، فلم يميز تمييزاً حاداً بين نظرية المُثُلْ وعقيدة الدولة والأخلاق والإستطيقا.. إلخ، فإن الفيلسوف التحليلي أرسطو ميز بين أنظمة المعرفة المختلفة. فميز بين ما هو نظري وما هو عملي وما هو شعري من الأنظمة (وهذه تطابق، على التوالي، النظرية والتطبيق العملي والشعر التي ترتبط بالمعرفة والحكمة العملية والفن أو المهارة التقنية، وهدف المعارف النظرية تعيين الحقيقة.

“اعتبر أرسطو ثلاثة معارف نظرية هي فلسفة الطبيعة والرياضيات والماورائيات ، وهدف الفلسفة الطبيعية تحديد الأشياء المدركة بالحس والمتغيرة. وهدف الرياضيات تحديد الصفات الكمية الثابتة، أما الميتافيزيقا، فتستهدف تحديد الأشكال الثابتة المستقلة، وهو، بهذا المعنى، كان يتكلم بمصطلحات المستويات المتزايدة في التجريد، بدءاً من الفلسفة الطبيعية مروراً بالرياضيات إلى الميتافيزيقا”

عالم المُثُلْ وعالم المحسوس لدى أفلاطون وأرسطو:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

بينما يقول أفلاطون إن الُمُثْل هي الموجودات الحقيقية، وهي النظرة الشائعة في التأويلات في الكتب المدرسية، يرى أرسطو أن الموجودات المستقلة هي الأشياء الجزئية، أو “الجواهر” مستخدمين المصطلح الأرسطي، فبرج إيفل وحصان الجار وهذا القلم أمثلة على الأشياء الجزئية؛ عن الجواهر بالمعنى الأرسطي، أي: هي ذات وجود مستقلاً، أما ارتفاع برج إيفل واللون الذهبي لحصان الجار والمقطع السداسي الشكل للقلم فهي صفات لا وجود مستقلاً لها عن البرج والحصان والقلم.

الجواهر لها صفات، والصفات توجد كصفات للجواهر، لكن ما عدا ذلك لا وجود مستقلاً للصفات. ويمكننا النظر إلى أشياء صفراء متعددة، ونتكلم على صفة “الاصفرار”، ونتكلم عما يقابله من أشياء وصفات، غير أن ذلك كله لا يجعل صفة الاصفرار فكرة ذات وجود مستقل، بحسب ما رأى أرسطو.

وهكذا، فإن أرسطو رأى أن الجواهر هي ما له وجود فعلي، أما الصفات والأنواع فوجودها نسبي لأنها توجد في الجواهر (الأشياء الجزئية) أو معها

وتكون النتيجة أن أرسطو أنزل الأفكار (المُثُل) إلى مستوى الأشياء، أي: الصفات والأنواع موجودة، لكن وجودها ليس إلا في الأشياء الجزئية، وفي الخلاصة يمكننا تفسير العلاقة بين أفلاطون وأرسطو بما يلي: يعتقد أفلاطون وأرسطو معاً بأنَّ الكلمات التصوراتية (أسماء الصفات، مثل “أحمر”و”دائري”..إلخ، وأسماء الأنواع مثل “حصان” و”إنسان” …إلخ) تشير إلى أشياء موجودة، غير ان أفلاطون اعتقد أن هذه “الأشياء” هي مُثُلْ موجودة “وراء” الظواهر الحسية، أي: نحن مصيبون عندما نقول هذه كرسي، وذلك أزرق، ولكن لرؤية ذلك، لابد من أن يكون في حوزتنا، بشكل مسبق مثال الكرسي، ومثال الأزرق، فالمُثُلْ هي التي تمكننا من أن نرى الظواهر بما هي عليه، مثلاً ككرسي وكأزرق، بينما عد أرسطو تلك “الأشياء” صوراً توجد في الظواهر الحسية، وفي التجارب والخبره الحسيه.

“غير أنه يجب أن لا يفهم ذلك بشكل حرفي متطرف، فقد رأى أرسطو أننا نستطيع بعون من العقل إدراك الكليات أو الصور إدراكاً حسياً. وبحسب أفلاطون فإن الخبرة الحسية شكل ناقص من المعرفة، أما المعرفة الحقة فهي في رؤية المثل رؤية متبصرة.

لكن، “على الرغم من أن أرسطو لا يرى، في نهاية المطاف، وجوداً إلا للأشياء الجزئية (الجواهر). غير أننا بمساعدة العقل نتمكن من أن نميز الصور الكلية في الأشياء. وبكلام آخر نقول: إن للتجربة الحسية والعقل مرتبتين متكافئتين عند أرسطو أكثر مما لهما عند أفلاطون، فاذا كانت الكائنات الإنسانية هي الأعلى من بين المخلوقات التي لها وجود مادي، ففي أعلى هذا العالم الهرمي، “تصور أرسطو وجود مبدأ أول، الله، وتصوره وجوداً فعلياً محضاً، أي خالياً من الوجود بالقوة، وبالتالي لا يتغير، فالله مستقر في ذاته، وهكذا يتوج أرسطو الميتافيزيقا التي وضعها بثيولوجيا ، أي بتعليم عن الكائن الأعلى، وليس هذا الإله إلهاً شخصياً: فقد اعتبر أرسطو الكائن الأعلى المحرك الذي لا يتحرك المستقر في ذاته”

وهذا المبدأ الأعلى هو وجود فعلي محض، لا وجود قوة فيه للتحقق، وهو، لذلك السبب والغاية النهائية لكل شيء، فالمحرك الذي لا يتحرك هو الذي تتحرك جميع الموجودات متجهة إليه، أما المستوى الأدنى في العالم الهرمي، فهو المادة المحض (القوة)، ويمثل تصور المادة المحض تصوراً فاصلاً، لا نستطيع أن نتخيله، بكلام دقيق، لأنه لا يحوز على فعل (صفات فعلية)”

مميزات نظرية المثل الافلاطونية

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

“إعتقد أرسطو وأفلاطون بأن البشر لا يتمكنون من العيش إلا في مجتمع، وكلاهما عَنَيا بالمجتمع في دولة المدينة اليونانية، ولكن يتوضح التعارض العام بين أفلاطون العقلي المثالي وفيلسوف الفطرة النقدي أرسطو من خلال نظرتهما إلى المجتمع، أي: ينتقد أفلاطون الأحوال الواقعية باللجوء إلى مطالب العقل، ويعتبر السياسة مهمة يجب القيام بها: وهي تقريب الأحوال الواقعية لتصير متسقة مع المثال الأعلى.

أما أرسطو، فهو ينطلق من الأشكال الموجودة للدولة، وليس للعقل من دور سوى أن يكون وسيلة لتصنيف الموجود في الواقع وتقويمه، وهذا يعني أن أفلاطون ينظر إلى ما وراء النظام القائم، إلى شيء جديد، نوعياً، أما أرسطو، فيبحث عما هو الأفضل بين الموجودات، وما يقوله هو أكثر واقعية، لأنه يلائم بشكل أفضل الأحوال السياسية للدول –المدينية في زمانه، غير أن تنبيهنا إلى تلك الفروق يجب أن لا يحجب عنا الحقيقة المفيدة أن للفيلسوفين الكثير من الأمور المشتركة، بحيث يمكننا القول إن أرسطو يمثل نوعاً من الاستمرارية العقلية لأفلاطون، من دون اتخاذ موقف يتعلق بأي منهما كان المفكر الأفضل”

لكن، على الرغم مما تقدم، فالتلميذ ارسطو لايختلف جوهرياً عن استاذه افلاطون، فإذا كان افلاطون فيلسوف الفردية الارستقراطية، فإن ارسطو هو الفيلسوف الرسمي لامبراطورية أوتوقراطية، انه القائل ” منذ المولد هناك أُناس مُعَدُّون للعبودية واناس معدون للإماره “، وهذا لا يعني تطابقهما على الرغم من ان كليهما من الناحية الفلسفية التقيا على ارضية المثالية الموضوعية التي تقر بمعرفة العالم الخارجي، وتقول بأن هناك صانعاً أو خالقاً موضوعياً خارج الذات أوجد هذا الكون، فقد انتقد أرسطو نظرية افلاطون منطلقاً من أن:-

1- مُثُل افلاطون صورة أونُسخ عن الاشياء الحسية ( نحن في كهف، ندير ظهورنا للشمس لانرى سوى ظلال الأشياء او صورتها على جدار الكهف… هذه هي مثل افلاطون ).

2- أفلاطون يفصل عالم ” المُثُلْ ” عن عالم ” الأشياء ” فهو يعتبر ان المادة مشتقة من “المُثُلْ” او الأفكار السابقة عليها ( الوجود الحق ) .

3- في حين يعتبر أفلاطون الأشياء الحسية ظلالاً او أشباحاً للوجود الحق “المُثُلْ”، ينظر ارسطو إلى الأشياء او الموجودات على أنها تمثل وحدة للصورة والمادة موجودة وجوداً قطعياً (الرجل هو الصورة الذي كان الطفل مادة لها، والطفل هو الصورة التي كان الجنين مادة لها، والجنين هو الصورة والبويضة هي المادة، ولابد ان يكون هناك محرك أكبر لهذه العملية.. هو الله السبب النهائي للطبيعة، الصورة الأولى.. انه صورة العالم وهو كامل كمالاً مطلقاً لادخل له بالتفاصيل، ملك بالإسم لا بالفعل كما يقول “ول ديورانت” في كتابه قصة الفلسفة).

عند أرسطو .. العالم موجود في الخاص، أي اننا لانصل إلى معرفة الكلي اذا لم نتعرف على الجزئي، الجزئي نتعرف عليه بالحواس، الكلي نعرفه بالعقل، نشير في هذا الصدد ان ارسطو كان يحتقر الفعل الجسدي ويقدس العقل وهو القائل ” كل من كان بمقدوره ان يتنبأ بعقله هو بطبيعته معد ليصبح سيداً “، ومن ناحية ثانية، فإن أفضل أشكال الحكم عنده، النظام الأرستقراطي الذي يعتمد حكم القلة من النخبة المختارة، يرفض ارسطو الديمقراطية لأنها كما يقول تقوم على افتراض كاذب بالمساواة، من آرائه، أن الإنسان ينتمي إلى مجموعة واحدة من الحيوانات الولود ذات الثدي، أما المرأة عنده، فهي ناقصة عقل وهي مرتبه دنيا عن الرجل ( في تراثنا الاسلامي المرأة ناقصة عقل ودين ،الرجال قوامون على النساء ) الإنسان الفاضل عنده هو الذي يختار الوسط بين الافراط والتقتير ( في التراث الإسلامي أيضاً: وخلقناكم أمة وسطا، وخير الامور الوسط )!.

المجتمع الطبقي لدى أرسطو:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧◇♧◇♧♧◇

ميز أرسطو بين الرجال الأحرار المستقلين – أي الإنسان بأفضل معنى- والرجال ذوي عقلية العبودية، طبيعياً، أي: جرت العادة على استخدام العبيد في الأعمال الجسدية، ورأى أرسطو أن مثل تلك الحياة هي أقل قيمة من حياة الرجال الأحرار اليونانيين. واعتقد أرسطو أيضاً أن هؤلاء العبيد المستعبدين هم عبيد بطبيعتهم.

“بالنسبة إلى أرسطو هناك علاقة تضايف بين عمل العبد وهو في حالة العبودية وصفاته الشخصية، بحيث يبدو العبيد، من المنظورين كليهما، دون الإنسان اليوناني الحر، وبهذه الطريقة وضع أرسطو العبيد والنساء في وضع سفلي نسبة إلى وضع الرجال اليونانيين الأحرار: فكلاهما ينتميان إلى المنزل، وليس إلى الحياة العامة في السوق، فالنساء والعبيد كلاهما، بطبيعتهما ونسبة إلى صفاتهما، يقعان في مستوى أدنى من مستوى الرجال الأحرار الذين يظهرون في الأمكنة العامة لدولة المدينة”.

تجدر الإشارة إلى أن الكائن البشري عند أرسطو هو الذكر بشكل رئيسي، بينما ترتبط النساء، بشكل رئيسي بالأسرة والبيئة الأهلية، وهناك يمكنهن أن يحققن أفضل إمكانياتهن. لذلك، عندما نقول إن الإنسان يحقق طبيعته في دولة المدينة، علينا ان لا ننسى أن هذا القول لا ينطبق، عند أرسطو، على النساء ولا على العبيد.

“يقول أرسطو : ان المرأة من الرجل كالعبد من السيد، وكالعمل اليدوي من العمل العقلي، وكالبربري من اليوناني، والمرأة رجل ناقص، تُرِكَتْ واقفة على درجة دنيا من سلم التطور، والذكر متفوق بالطبيعة؛ والمرأة دونه بالطبيعة، والأول حاكم والثانية محكومة؛ وهذا المبدأ ينطبق بالضرورة على جميع الجنس البشري. ان المرأة ضعيفة الإرادة، وبذلك فهي عاجزة عن الاستقلال في المرتبة والخلق. وافضل مكان لها حياة بيتية هادئة، تكون لها السيادة المنزلية بينما يحكمها الرجل في شؤونها الخارجية، لذلك يجب أن لا تتساوى النساء مع الرجال كما في جمهورية افلاطون، ولا بد من زيادة الفوارق بينهما”

ادعى البعض أن أرسطو لم يكن واضحاً، في مسألة ما إذا كانت الحياة الصالحة هي الحياة المعروفة في النشاط النظري أو هي الحياة في متَّحد اجتماعي سياسي عقلاني، غير أنه عندما تكون المسألة مسألة العلاقة بين المتَّحد السياسي العقلاني والعمل المنتج الضروري، فالواضح أن أرسطو اعتبر الأول هو خير للبشر، وهو هدف في حد ذاته، وأن العمل الجسدي مع ما يرافقه من استجمام لا يمثل الحياة الجيدة، وليس له قيمة في ذاته.

لذلك، فإن الذين يُنَفِّذونَ مثل ذلك العمل، سواء أكانوا عبيداً أم لم يكونوا، لا يحققون الحياة الإنسانية بأفضل أشكالها، لأن الفروق الطبقية في زمن أرسطو شكل تمييز بين من يقومون بعمل يدوي ومن يقومون بنشاط فكري وسياسي، لذلك إعتقد أرسطو أن هذه العملية التشكيلية “الأنسنة” تحدث بشكل رئيسي في النشاط الفكري والسياسي، وليس في العمل الجسدي، وهنا لا يختلف أرسطو عن أستاذه أفلاطون، فقد كان الفكر الافلاطوني ينهض برمته على أساس اتحاد وثيق العرى للغاية بين الحياة العقلية والاخلاقية والسياسية وفق منطلقات ارستقراطية.

بيد أن هذا الكل المترابط –كما يعلق إميل برهييه- “يتفكك ويتناثر لدى أرسطو: فالخير الاخلاقي أو الخير العملي، أي الخير الذي يمكن للإنسان بلوغه بأعماله، لا يمت بصلة إلى مثال الخير الذي كان الجدل وضعه في اعلى الموجودات ؛ وليست الاخلاق علماً من العلوم الدقيقة مثل الرياضيات، وانما تعليم يرمي إلى أن يجعل الناس أفضل مما هم عليه، وليست غايته أن يزودهم بآراء قويمة حول الاشياء التي ينبغي عليهم طلبها أو الهرب منها فحسب، بل أن يحملهم فعلاً على طلبها أو الهرب منها.

إذ “لا يكفي أن تعرف الفضيلة، بل ينبغي أيضاً أن تمتلك وتمارس”. ولا يجوز لمعلم الاخلاق أن يتعلل بالأوهام بصدد نجع تعليمه: فالخطب والمواعظ لا تكفي لتلهم الناس الطيبة؛ صحيح انها ستثمر إذا ما توجهت إلى فتيان من ذوي النفوس الكريمة والشريفة، لكنها تقف عاجزة عن الأخذ بيد السوقي إلى الفضيلة.

الاخلاق تعليم اذن، لكنه تعليم ارستقراطي؛ وما هي بوعظ وإرشاد للجمهور، وانما دعوة اهل المواهب إلى التفكير والتأمل، أما الباقون فحسبهم العادة وخوف القصاص، بل أكثر من ذلك: فالفضيلة لا يكتب لها تمام النماء فيما يظهر إلا بين ظهراني الطبقات الميسورة: “فمن المتعذر أو من العسير للغاية على المعوز ان يأتي كريم الفعال، إذ كثيرة هي الاشياء التي لا يستطيع الإنسان قياماً بها إلا إذا اعتمد، في جملة وسائطه، على أصدقاء وثروة وسلطان سياسي”؛ ولا يسع إنساناً عظيم القبح، خسيس النسب، منفرداً ولا نسل له، أن يبلغ إلى السعادة الكاملة، كما وليس في المستطاع ممارسة بعض الفضائل النفسية، نظير الشجاعة والسخاء والادب والعدل، إلا في مستوى اجتماعي محدد؛ “لا يملك الفقير ان يكون يكون كريماً؛ إذ ليس في حوزته ما يمكنه من الانفاق على سعة؛ ولو حاول ذلك، لكان غبياً أحمق”.

لذا نقول “إن أرسطو كان أقرب إلى الآراء الشائعة في زمانه من أفلاطون، فهو مشارك في النظره التقليدية التي كانت تقول إن الرجال أعلى مرتبة من النساء، حتى أنه يوظف حججاً بيولوجية لدعمها، أما بالنسبة إلى نظرة أرسطو إلى الأخلاق، فإننا نجده يميز نفسه من أفلاطون في عدد من النقاط، لقد رأينا أن أرسطو انتقد نظرية أفلاطون المفيدة أن للمُثُلْ وجوداً مستقلاً عن الأشياء، وهذا النقد ينطبق أيضاً على مثال الخير، فالخير الذي هو هدف الحياة الإنسانية ليس عند أرسطو شيئاً منفصلاً عن الإنسان، فالخير موجود في طريقة حياة الكائنات البشرية”

والخير عند أرسطو، هو “السعادة أو النعيم، أي الحالة التي تتطلب على وجه التحديد أن يحقق الناس أفضل قدراتهم في المجتمع، عبر مراحل التشكل الاجتماعي الثلاث، بحيث يجد كل شخص موقعه، أو موقعها، في المجتمع، أي يصير إنساناً فاضلاً، كما رأى أرسطو أيضاً أن الحياة في في نشاط نظري ملائمة لجلب السعادة، وبخاصة لمن يملكون قدرات نظرية جيدة. غير أن الأشخاص المختلفين لهم قدرات وإمكانيات مختلفة، لذا، ليس ملزماً أن تكون الحياة الجيدة متشابهة عند الجميع”.

في ضوء ما تقدم، فإن القراءه الدقيقة لفكر أرسطو، تبين أنه –كما يرى بحق د. حامد خليل- لم يخرج من حيث الجوهر عن إطار نظرية سلفه، استاذه أفلاطون في الإنسان، وكل ما في الامر هو أن البنية الطبقية للمجتمع اليوناني طرأ عليها بعض التعديل، مما اقتضى من أرسطو القيام بتعديلات طفيفة على نظرية أفلاطون، تتناسب مع حجم التحويل الاجتماعي المذكور. أما جوهر النظرية فقد ظل على ما هو عليه دونما تغيير، لقد كان أرسطو في خدمة فيليب المقدوني، الذي استولى باسم الوحدة على مدن اليونان، التي كان قد استشرى فيها الفساد التجاري، وعمت فيها الفوضى السياسية. فالتجار ورجال المال كانوا يبتلعون الموارد الحيوية، ولا شك أن ذلك الخضم الهائل من الفوضى والصراع والتناحر الطبقي، فرض على فيليب أن يكون حذراً، وقد بدا له أن اللجوء إلى الحسم لصالح احدى الطبقات ليس بالوسيلة الممكنة لتحقيق حلمه الكبير بإقامة امبراطورية يكون هو على رأسها يأمر فيطاع، والأصح أن يمسك بالعصا من الوسط، وأن يبتكر توليفة للدولة تحقق التوازن بين تلك المصالح المتعارضة، وطبعاً سيقتضي الامر التخفيف من غلواء مطالب الطبقة الأولى من جانب، وضبط جموح تلك الجموع الغفيرة من القوى المتوسطة الثروة الصاعدة والمتطلعة إلى تصدر قيادة المجتمع من جانب آخر، والحق أن القارئ لفلسفة أرسطو –كما يستطرد د. حامد خليل- يكتشف أنها كانت انعكاساً دقيقاً لذلك الاسلوب الوسطي في معالجة الامور، الذي يهدف في نهاية الامر إلى ترسيخ قيم ما يمكن تسميته بلغتنا الدارجة بالطبقة الوسطى الفتية، ولذلك ظهرت فكرة الاعتدال كفكرة محورية تتمركز حولها نظرية الإنسان عند أرسطو بالكامل”

وبالطبع “فان الاعتدال المذكور والتوازن الذي يترتب عليه، لم يكونا يستهدفان مصلحة كل الناس في الإمبراطورية، وإنما مصلحة الطبقات العليا منهم، أي ان أرسطو ظل أمينا مخلصا لتراث سلفه أفلاطون في الابقاء على التقسيم الطبقي للإنسان، والفرق الوحيد بينهما في هذا المجال هو أن “أفلاطون” كان منحازاً بالكامل إلى صف الطبقة العليا التي كانت تشكل الاقلية في المجتمع الاثيني، بينما انحاز أرسطو إلى جانب الطبقة المتوسطة التي كانت تشكل الاغلبية من بين المالكين والتجار، مستجيباً في ذلك لمقتضيات مرحلة فيليب الجديدة”.

الإنسان والمجتمع والدولة عند أرسطو :

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧◇♧♧♧♧

أرسطو لا يسلم بأن الفرد يتشكل بثقافة المجتمع التي تنمو باطراد عبر التاريخ، تماماً كما هو الحال لدى أفلاطون، وعلى هذا النحو يكون المجتمع عنده مجرد حزمة من الأفراد، وتكون وظيفته الوحيدة هي توزيع السلع والمنتجات بين الناس على أسس حسابية صرفة، على أنه حين ينتقل إلى الدولة ليحدد علاقة الأفراد بها، تجد أن الامر مختلف تماماً، فالامبراطور بحاجة إلى سند عقلي لتبرير قيام دولة يكون هو على رأسها، وليس بحاجة إلى تكوين نسيج اجتماعي تكون مهمته إعداد آدميين”.

ويبدو أن “أرسطو” كان أفضل من يقوم بهذا الدور –كما يقول د. حامد خليل- “فالدولة بالنسبة له هي غاية في ذاتها، وليست وسيلة من اجل خدمة المواطنين، ولهذا ففي مقدورها التضحية بأي مواطن تشاء، يقول أرسطو تأكيداً لذلك : “لا يوجد مواطن ينتمي إلى نفسه، وإنما الكل ينتمون إلى الدولة”.

اذ يجب ان يكون المواطن الصالح قادراً على اطاعة الأوامر والقيادة معاً، والنظام المدرسي الحكومي وحده هو الذي يستطيع تحقيق الوحدة الاجتماعية بين الاجناس والسلالات المختلفة، فالدولة –كما يقول أرسطو- هي تّجّمُّع لطوائف متعددة مختلفة، لذلك يجب توحيد هذا التعدد عن طريق التعليم.

لذلك “ينبغي على الحاكم الذي يريد أن يتجنب الثورة ان يمنع في بلاده تطرف الفقر وتطرف الثروة، ويشجع الاستعمار في الخارج كمخرج لتكاثف السكان الخطير في بلاده. ويكون متديناً وينمي النزعة الدينية في بلاده، كما ينبغي ان يظهر الحاكم، وخصوصاً الحاكم المطلق أو المستبد اهتمامه في إقامة شعائر الدين وعبادة الالهة، لان الناس اذا اعتقدوا بتدين الحاكم وتوقيره للالهة، يقل خوفهم من نزول الظلم بهم على يديه، ويقل ميلهم وتدبيرهم في التآمر عليه، لاعتقادهم بأن الآلهة ستحارب بجانبه”

أما التبرير الذي ساقه لتدعيم فكرة الدولة على النحو المذكور، فلم يكن خلق اتحاد تعاوني حقيقي بين المواطنين بوصفهم جميعهم كائنات بشرية، وإنما جعل مواطنيها عادلين وصالحين، وقد يبدو هذا التسويغ مقبولاً إذا فهمنا منه أن أرسطو كان يستهدف فعلاً صلاح المواطنين وخيرهم، وتنمية قواهم الروحية، والارتقاء بإنسانيتهم، لكن فهم ما يقصده بالعدالة والصلاح يبدد هذا الوهم، إذ هو يجعل من مصلحة فيليب ومصلحة الطبقة الوسطى المثل الأعلى والوحيد الذي كان يرجو تحقيقه في الواقع. وهذا ما تكشف عنه الصورة التي رسمها للعدالة أولاً، وللدولة الفاضلة أو المثلى ثانياً، فالعدالة هي الاعتدال، أو هي الحد الأوسط بين طرفين مرذولين: الافراط والتفريط”

وحين ترجم أرسطو هذا إلى لغة اجتماعية، “بدت العدالة أنها الحد من افراط استبدادية الاوليجاركية، ومن التفريط في الديمقراطية؛ بحيث يؤدي الامر في نهاية المطاف إلى تحقيق حكم الشعب – الغوغاء على حد تعبيره، أو قل إن العدالة هي تحديد حكم طبقة متوسطة قوية تتألف من أولئك الذين ليسوا بالأغنياء جد الغنى، ولا بالفقراء غاية الفقر، وطبعاً لم يكن يقصد أرسطو مشاركة الطبقة المذكورة لفيليب في ادارة شؤون الحكم تماماً، وإنما أن يضمن الدستور مصالح تلك الطبقة لكي تكون السند القوي له في استمراره على رأس تلك الامبراطورية”

المصادر والمراجع

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

([1]) غنارسكيربك و نلز غيلجي – تاريخ الفكر الغربي .. من اليونان القديمة إلى القرن العشرين – ترجمة: د.حيدر حاج إسماعيل – مركز دراسات الوحدة العربية – الطبعة الأولى ، بيروت، نيسان (ابريل) 2012- ص 155

([2]) بعكس المثالية الذاتية التى تقول بأن ما دام كل فرد مغلق فى افكارة الخاصة، فانة يعرف نفسه فقط دون العالم الخارجي أو حتىدون الآخرين من بنى الأنسان (بيركلى هو فيلسوف المثالية الذاتية…وهي فلسفة رجعية الى أبعد الحدود).

([3]) غنارسكيربك و نلز غيلجي – مرجع سبق ذكره – تاريخ

([7]) ول ديورانت– مرجع سبق ذكره – قصة الفلسفة –

([14]) غنارسكيربك و نلز غيلجي – مرجع سبق ذكره – تاريخ الفكر الغربي – ص 181

([15]) ول ديورانت– مرجع سبق ذكره – قصة الفلسفة – ص97

([16]) اميل برهييه – مرجع سبق ذكره – تاريخ الفلسفة – ص 305-307

([17]) غنارسكيربك و نلز غيلجي – مرجع سبق ذكره – تاريخ الفكر الغربي – ص

([19]) د. حامد خليل – مشكلات فلسفية – الطبعة الثالثة – دار الكتاب – دمشق – 1989/1990 م – ص 46

([20]) المرجع نفسه– ص 48

([21]) ول ديورانت– مرجع سبق ذكره – قصة الفلسفة – ص100-101

([22]) د. حامد خليل – مشكلات فلسفية – الطبعة الثالثة – دار الكتاب – دمشق – 1989/1990 م – ص 49

تلخيص كتاب تساعيات أفلوطين اومايعرف بكتاب أثلوجيا أرسطو

ان إصطلاح الفلسفة الإسلامية المشائية خاطئ لأسباب تاريخية وفلسفية .. فإن هذا الإصطلاح أطلقه خصوم الفلسفة الإسلامية وأعداء الفلاسفة المسلمون ، أو في الإصطلاح الأخف وطأة ” أنشئه وتداوله باحثين غير عارفين بمصادر الفلسفة الإسلامية في المشرق ” . ولعل البدايات التاريخية لهذا الإصطلاح تجد صداه في المشروع الإشعري المخاصم للفلسفة والمعاند للفلاسفة ، وتحت عناوين تهافت الفلاسفة ومصارعة الفلاسفة أو مصارعة الفيلسوف وفضائح اليونانية … وذلك لأن مصادر الفلاسفة المسلمين الثلاثة ، هي مصادر فلسفية لم تكن هي مصادر أرسطو الأصلية ( ومعلوم للجميع إن المشائية هي مدرسة فلسفية أسسها أرسطو بعد إن فشل وخاب أمله من قيادة أكاديمية إفلاطون بعد وفاة الأخير ووراثة إبن أخت إفلاطون الفيلسوف المشائي ” سيبسيوس (408 – 339 ق.م) قيادة أكاديمية خاله) ، وإنما هي مصادر الإفلاطونية المحدثة .. وقد فات هذا الحشد من الباحثين من التدقيق في مشائية الفلسفة الإسلامية .. ولذلك نقول لهم إن الفلسفة الإسلامية من طرف مصادرها هي إفلاطونية محدثة ، ومن طرف منهجها هي إفلاطونية محدثة ، والتي سعت إلى التوفيق ” بين أرسطو (الإفلوطيني) وإفلاطون (الإفلوطيني) .

ونذكر القارئ بأن الإفلاطونية ، هو الإصطلاح الذي كان يطلق يومذاك على عموم أعلام الحركة الإفلاطونية المحدثة . والإفلاطونية المحدثة ، هي ” مزيج فلسفي ، فيه أشياء من إفلاطون ، وأشياء من أرسطو ، وأشياء من الفيثاغورية (وربما المشروع الفيثاغوري الجديد في القرن الأول الميلادي) ، وأشياء من الرواقية وأشياء من الفكر الهرمسي (تسرب من الإفلاطونية المحدثة السورية التي قادها إمبيلكوس وخصوصاً كتابه الأسرار المصرية (أنظر محمد جلوب الفرحان : إمبيلكوس السوري ؛ مؤرخاً للفلسفة اليونانية / منشور في مجلة أوراق فلسفية جديدة العدد الثاني ربيع 2011)) ..

لقد حمل المشروع الإفلوطيني أولاً ، ومن ثم الإفلاطوني المحدث لاحقاً ، بالإضافة إلى التقريب بين أرسطو (الإفلوطيني) وإفلاطون (الإفلوطيني) التوفيق ما بين الحكمة والشريعة أو التقريب ما بين العقل (الفلسفة) والدين . قُدمت أطراف هذا المزيج الفلسفي للعقل المسلم خلال كتاب منتحل غير أصيل ونسب إلى المعلم الأول ” أرسطو” . ولعل الشاهد الإسلامي المتابع للإفلاطونية المحدثة ، عنوان كتاب الفارابي شهير الصيت ” الجمع بين رأيي الحكيمين ” .

ونرى إن سبب الإشكال الكبير في الفلسفة الإسلامية المشرقية ، وبالتحديد فلسفة الكندي ، والفارابي وإبن سينا ، هو بعض من تساعيات إفلوطين (وهي بعض من الأصل) والتي ترجمت إلى اللغة العربية خطأً تحت العنوان المُشكل ” أثولوجيا أرسطو ” (وهو المنتحل) . والذي جلب معه إلى الدار الثقافية الإسلامية ، ودوائر التفكير الإسلامي خاصة ” نظرية الفيض ” التي هي من نتاج إفلوطين والمدرسة الإفلاطونية المحدثة ، والتي ليست لها علاقة بأرسطو لا من بعيد أو قريب . وإن القارئ لنصوص الفلسفة الإسلامية وعلى الأخص نصوص الفارابي ، يلحظ ببساطة هيمنة هذه النظرية الفيضية ، وتراتبيتها المعروفة في كتاب التساعيات وفي نصوص الكتاب المنتحل ” أثولوجيا أرسطو ” . ولذلك نرى إنه لايمكن فهم الفلسفة الإسلامية في المشرق ، وبالتحديد فلسفة الكندي والفارابي وإبن سينا .. دون الإطلاع على :

أولاً – كتاب أثولوجيا أرسطو ، وهو متوافر في نشرته العربية وتحت عنوان ” أرسطو عند العرب ” والتي قام بتحقيقها ونشرها لأول مرة عام 1947 الدكتور عبد الرحمن بدوي طيب الله ثراه .

ثانياً – كتاب تساعيات إفلوطين التي جمعها ، ورتبها ، ووضع مدخلاً شارحاً لها ونشرها لأول مرة عام 270م تلميذه وحواريه فرفريوس الصوري .

والحقيقة إن نشر فرفريوس الصوري لكتاب التساعيات تم فيه الإعلان التاريخي عن بزوغ حركة الإفلاطونية المحدثة في الثلث الأخير من القرن الثالث الميلادي . وبالتحديد في عام 270 ، وهو عام نشر كتاب التساعيات ، وهو كذلك العام الذي تحول كتاب التساعيات إلى إنجيل الحركة الفلسفية الجديدة التي يسميها الأكاديميون الغربيون في بداية العصر الحديث بالإفلاطونية المحدثة (أنظر: محمد جلوب الفرحان؛ فرفريوس الصوري مؤرخاً للفلسفة اليونانية ، منشور في مجلة أوراق فلسفية جديدة ، المجلد الأول / العدد الثاني ربيع 2011 ونشرت منه صفحات في مجلة أفيروس (إبن رشد) ) .

وفي هذا المقال سنقدم دراسة نحسب إنها ضرورية لإجيال المستقبل من الباحثين وطلاب الفلسفة ، اللذين يرغبون في الدراسة والتخصص في الفلسفة الإسلامية في المشرق عامة ، والتخصص في فلسفة الكندي والفارابي وإبن سينا .. على وجه الخصوص ، والذين أطلق عليهم خطأً فلاسفة المشائية الإسلامية . وهذه الدراسة ستركز :

أولاً – على الأصل ؛ كتاب التساعيات

ثانياً – على المنحول ؛ كتاب أثولوجيا أرسطو

كتاب تساعيات إفلوطين :

وسنحاول هنا تقديم عرض لسيرة إفلوطين (204 / 205 – 270م) أولاً ومن ثم تقديم عرض تاريخي لكتاب التساعيات ومضمونه :

ن إصطلاح الفلسفة الإسلامية المشائية خاطئ لأسباب تاريخية وفلسفية .. فإن هذا الإصطلاح أطلقه خصوم الفلسفة الإسلامية وأعداء الفلاسفة المسلمون ، أو في الإصطلاح الأخف وطأة ” أنشئه وتداوله باحثين غير عارفين بمصادر الفلسفة الإسلامية في المشرق ” . ولعل البدايات التاريخية لهذا الإصطلاح تجد صداه في المشروع الإشعري المخاصم للفلسفة والمعاند للفلاسفة ، وتحت عناوين تهافت الفلاسفة ومصارعة الفلاسفة أو مصارعة الفيلسوف وفضائح اليونانية … وذلك لأن مصادر الفلاسفة المسلمين الثلاثة ، هي مصادر فلسفية لم تكن هي مصادر أرسطو الأصلية ( ومعلوم للجميع إن المشائية هي مدرسة فلسفية أسسها أرسطو بعد إن فشل وخاب أمله من قيادة أكاديمية إفلاطون بعد وفاة الأخير ووراثة إبن أخت إفلاطون الفيلسوف المشائي ” سيبسيوس (408 – 339 ق.م) قيادة أكاديمية خاله) ، وإنما هي مصادر الإفلاطونية المحدثة .. وقد فات هذا الحشد من الباحثين من التدقيق في مشائية الفلسفة الإسلامية .. ولذلك نقول لهم إن الفلسفة الإسلامية من طرف مصادرها هي إفلاطونية محدثة ، ومن طرف منهجها هي إفلاطونية محدثة ، والتي سعت إلى التوفيق ” بين أرسطو (الإفلوطيني) وإفلاطون (الإفلوطيني) .

ونذكر القارئ بأن الإفلاطونية ، هو الإصطلاح الذي كان يطلق يومذاك على عموم أعلام الحركة الإفلاطونية المحدثة . والإفلاطونية المحدثة ، هي ” مزيج فلسفي ، فيه أشياء من إفلاطون ، وأشياء من أرسطو ، وأشياء من الفيثاغورية (وربما المشروع الفيثاغوري الجديد في القرن الأول الميلادي) ، وأشياء من الرواقية وأشياء من الفكر الهرمسي (تسرب من الإفلاطونية المحدثة السورية التي قادها إمبيلكوس وخصوصاً كتابه الأسرار المصرية (أنظر محمد جلوب الفرحان : إمبيلكوس السوري ؛ مؤرخاً للفلسفة اليونانية / منشور في مجلة أوراق فلسفية جديدة العدد الثاني ربيع 2011)) ..

لقد حمل المشروع الإفلوطيني أولاً ، ومن ثم الإفلاطوني المحدث لاحقاً ، بالإضافة إلى التقريب بين أرسطو (الإفلوطيني) وإفلاطون (الإفلوطيني) التوفيق ما بين الحكمة والشريعة أو التقريب ما بين العقل (الفلسفة) والدين . قُدمت أطراف هذا المزيج الفلسفي للعقل المسلم خلال كتاب منتحل غير أصيل ونسب إلى المعلم الأول ” أرسطو” . ولعل الشاهد الإسلامي المتابع للإفلاطونية المحدثة ، عنوان كتاب الفارابي شهير الصيت ” الجمع بين رأيي الحكيمين ” .

ونرى إن سبب الإشكال الكبير في الفلسفة الإسلامية المشرقية ، وبالتحديد فلسفة الكندي ، والفارابي وإبن سينا ، هو بعض من تساعيات إفلوطين (وهي بعض من الأصل) والتي ترجمت إلى اللغة العربية خطأً تحت العنوان المُشكل ” أثولوجيا أرسطو ” (وهو المنتحل) . والذي جلب معه إلى الدار الثقافية الإسلامية ، ودوائر التفكير الإسلامي خاصة ” نظرية الفيض ” التي هي من نتاج إفلوطين والمدرسة الإفلاطونية المحدثة ، والتي ليست لها علاقة بأرسطو لا من بعيد أو قريب . وإن القارئ لنصوص الفلسفة الإسلامية وعلى الأخص نصوص الفارابي ، يلحظ ببساطة هيمنة هذه النظرية الفيضية ، وتراتبيتها المعروفة في كتاب التساعيات وفي نصوص الكتاب المنتحل ” أثولوجيا أرسطو ” . ولذلك نرى إنه لايمكن فهم الفلسفة الإسلامية في المشرق ، وبالتحديد فلسفة الكندي والفارابي وإبن سينا .. دون الإطلاع على :

أولاً – كتاب أثولوجيا أرسطو ، وهو متوافر في نشرته العربية وتحت عنوان ” أرسطو عند العرب ” والتي قام بتحقيقها ونشرها لأول مرة عام 1947 الدكتور عبد الرحمن بدوي طيب الله ثراه .

ثانياً – كتاب تساعيات إفلوطين التي جمعها ، ورتبها ، ووضع مدخلاً شارحاً لها ونشرها لأول مرة عام 270م تلميذه وحواريه فرفريوس الصوري .

والحقيقة إن نشر فرفريوس الصوري لكتاب التساعيات تم فيه الإعلان التاريخي عن بزوغ حركة الإفلاطونية المحدثة في الثلث الأخير من القرن الثالث الميلادي . وبالتحديد في عام 270 ، وهو عام نشر كتاب التساعيات ، وهو كذلك العام الذي تحول كتاب التساعيات إلى إنجيل الحركة الفلسفية الجديدة التي يسميها الأكاديميون الغربيون في بداية العصر الحديث بالإفلاطونية المحدثة (أنظر: محمد جلوب الفرحان؛ فرفريوس الصوري مؤرخاً للفلسفة اليونانية ، منشور في مجلة أوراق فلسفية جديدة ، المجلد الأول / العدد الثاني ربيع 2011 ونشرت منه صفحات في مجلة أفيروس (إبن رشد) ) .

وفي هذا المقال سنقدم دراسة نحسب إنها ضرورية لإجيال المستقبل من الباحثين وطلاب الفلسفة ، اللذين يرغبون في الدراسة والتخصص في الفلسفة الإسلامية في المشرق عامة ، والتخصص في فلسفة الكندي والفارابي وإبن سينا .. على وجه الخصوص ، والذين أطلق عليهم خطأً فلاسفة المشائية الإسلامية . وهذه الدراسة ستركز :

أولاً – على الأصل ؛ كتاب التساعيات

ثانياً – على المنحول ؛ كتاب أثولوجيا أرسطو

كتاب تساعيات إفلوطين :

وسنحاول هنا تقديم عرض لسيرة إفلوطين (204 / 205 – 270م) أولاً ومن ثم تقديم عرض تاريخي لكتاب التساعيات ومضمونه :
لوجود (الثالثة) (تسع 6 ميم 3)

45 – في الآبدية والزمن (تسع 3 ميم 7) .

ومن ثم يعلق فرفريوس :

وهكذا يكون في حوزتنا أربعة وعشرين رسالة ، تم تأليفها خلال السنوات الست التي لازمت فيها إفلوطين . والعناوين تدل على إن مثل هذه المشكلات قد أُثيرت في جلسات النقاش . وإذا أضفنا إليها الرسائل الإحدى والعشرين التي كتبها قبل وصولنا ، فإننا نمتلك خمس وأربعين رسالة (فرفريوس الصوري ؛ المصدر السابق ؛ الفقرة رقم 5) .

ويضيف فرفريوس إليها خمس رسائل أخرى ، أرسلها إليه إفلوطين حينما كان يعيش (فرفريوس) في سيسلي . وجاءت بالشكل الآتي :

46 – في السعادة (تسع 1 ميم 4)

47 – في العناية (الإلهية) (الرسالة الأولى) (تسع 3 ميم 2)

48 – في العناية (الإلهية) (الثانية) (تسع 3 ميم 3)

49 – في الطبيعة (أو الجوهر) الواعي وصعود الكل (تسع 5 ميم 3)

50 – في الحب (تسع 3 ميم 5)

ويقول فرفريوس معلقاً على هذه الرسائل الخمس :

كتب إفلوطين هذه الرسائل الخمس ، وأرسلها إلي ، حيث كنت أعيش في سيسلي ، وقد كان حكم كالينيوس في السنة الخامسة عشر (فرفريوس الصوري المصدر السابق ، الفقرة رقم 6) .

وبحسابات التاريخ وإعتماداً على رواية فرفريوس المتعلقة بحكم الإمبراطور الروماني كالينيوس . فإن السنة التي أرسل له الرسائل ، كانت 268م

أي قبل وفاة الأستاذ إفلوطين بسنتين (ومعلوم إن وفاته كانت في العام 270م) . ولكن هذه التواريخ لا تتناغم مع التواريخ التي ذكرها فرفريوس سابقاً ، وخصوصاً تاريخ لقائه الأول بالمعلم إفلوطين والذي حدث عندما كان إفلوطين في التاسعة والخمسين وبالتحديد في السنة العاشرة من حكم كالينيوس كما ذكر فرفريوس .(وإن حكم كالينيوس إستمر خمسة عشر سنة إمتدت من عام 253 وإلى موته في العام 268م) أي إن فرفريوس إستلم الرسائل الخمس قبيل موت أستاذه بسنتين .

ومن الثابت لدينا وفقاً لرواية فرفريوس إنه لازم إفلوطين في روما مدة ست سنوات ، وسافر إلى سيسلي وظل بعيداً عن الأستاذ مدة خمس سنوات ، وثم عاد إلى روما عندما سمع أخبار موت إفلوطين في العام 270 م . ويبدو لنا إن هناك مشكلة تاريخية ليس لها حل حسب رواية فرفريوس .

وللتبسيط نبينها بالشكل الآتي :

إنه قابل إفلوطين وكان عمر المعلم :

59 عاماً + 6 سنوات ملازمة في روما + 5 سنوات في سيسلي وعاد إلى روما عام 270 م وهو تاريخ موت المعلم إفلوطين والذي مات وعمره حسب رواية فرفريوس 66 عاماً .

والحقيقة إن عمر إفلوطين لحظة موته حسب التواريخ التي ذكرها فرفريوس أعلاه ، كان سبعين عاماً وليس كما ذكر فرفريوس الصوري .

أو حل التناقض بقبول الرأي القائل بأن هناك شك حول السنوات الست التي لازم فيها فرفريوس إفلوطين في روما . أو ربما إن فرفريوس وقع في خطأ عندما ذكر إنه عاش في سيسلسي مدة خمس سنوات أو إن فرفريوس أخطأ في حساب الفترتين ؛ فترة الملازمة في روما والفترة التي قضاها في سيسلي . ولذلك كله نحن نقتنع بأن فرفريوس مات عام 270 وعمره ست وستين عاماً وخلاف ذلك هو محض تقدير خاطئ للتواريخ من قبل فرفريوس .

وبعيد سطر واحد فقط ، يقول فرفريوس ما نصه :

وتلك الرسائل الخمس ، قد أرسلها إفلوطين في السنة الأولى من حكم كلوديوس (وهو الإمبراطور الروماني كلوديوس الثاني (213 – 270) وكان إمبراطوراً من 268 وإلى 270) (المصدرالسابق) أي سنة 268 وهي سنة موت كالينيوس وصعود كلوديوس .

ثم يتابع فرفريوس قائلاً :

وفي الأشهر الأولى من السنة الثانية (من حكم كلوديوس ، أي عام 269) وقبيل موته بقليل (وللصدفة فإن الأثنين ؛ كلوديوس وإفلوطين ماتا في عام 270) إستلمت الرسائل الأربعة الآتية :

51 – في الشر (تسع 1 ميم 8)

52 – فيما إذا كان للنجوم فعاليات سببية (تسع 2 ميم 3)

53 – في الحي (أو الأحياء) (تسع 1 ميم 1)

54 – في السعادة (تسع 1 ميم 7) (المصدر السابق) .

وفي نهاية هذا الطرف من كتاب فرفريوس الصوري ” حياة إفلوطين وترتيب عمله ” ، بين حقيقتين :

الأولى – إن مجموع رسائل إفلوطين التي في حوزتنا الآن هي أربع وخمسين رسالة . وبلسان فرفريوس ” إذا أضفنا الرسائل التسع الأخيرة إلى الرسائل الخمسة والأربعين ، وهي رسائل المجموعتين الأولى والثانية ، فإن المجموع أربعة وخمسين ” (المصدر السابق) .

الثانية – إن رسائل إفلوطين تتفاوت في قوتها ودرجة نضوجها . وعلى هذا الأساس وزعها فرفريوس في ثلاث مراحل مرت بها عملية الكتابة الإفلوطينية ؛ أولاً رسائل المرحلة المبكرة ، والتي شملت الرسائل الإحدى والعشرين الأولى . وحسب رأي فرفريوس إنها كشفت عن قدرة بدرجات ما ، ودللت على صور من الذكاء . ولكنه لم يصل إلى درجات عالية من النضوج . مع قوة تصاحبها حساسية وتوتر. ثانياً رسائل المرحلة المتوسطة ، والتي ضمت رسائل المجموعة الثانية ، والتي تكونت من أربع وعشرين رسالة ، تميزت بالقوة العالية . ما عدا الرسائل القصيرة التي إتصفت بالكمال . ثالثاً رسائل المرحلة المتأخرة ، والتي تكونت من الرسائل التسع الأخيرة . وقد حملت هذه الرسائل شواهد على بداية الضعف في قوى إفلوطين العقلية . بل ويرى فرفريوس بأن هناك إختلافاً ملحوظاً حتى ما بين الرسائل الأربع الأخيرة مقارنة بالرسائل الخمسة التي تتقدم عليها . فمثلاً نلحظ إن الحماس كان أقل في الرسائل الأربعة الأخيرة مما هو عليه في الخمسة الأولى (المصدر السابق) . كان هذا هو تاريخ تأليف الرسائل التي كتبها المعلم إفلوطين ، والتي كونت محتوى كتاب التساعيات الستة حسب رواية فرفريوس . أما قصة الخطة التي إقترحها فرفريوس لترتيب كتاب التساعيات ، فهي موضوع المحور القادم .

خطة فرفريوس في ترتيب ونشر كتاب التساعيات :

في الفقرة الرابعة والعشرين من كتابه ” حياة إفلوطين وترتيب عمله ” أفصح فرفريوس عن خطته الشاملة في ترتيب كتاب التساعيات ومن ثم إعداده للنشر . وهذه الخطة تكشف عن رؤية التلميذ الأكاديمية العالية لعمل الأستاذ المعلم . وهنا نسعى إلى توفير بعض الحقائق المتعلقة بخطة فرفريوس ، وبالنقاط الآتية :

أولاً – يعلن فرفريوس بصراحة إن المعلم إفلوطين طلب منه أن يقوم بترتيب التساعيات ، وكان ذلك بالتحديد ” في حياة إفلوطين ” . وبالمقابل إن فرفريوس تعهد لإفلوطين ” والحلقة المحيطة به ، على إنه سيقوم بإنجازها ” (فرفريوس الصوري : حياة إفلوطين وترتيب عمله / الفقرة رقم 24) .

ثانيا – يعترف فرفريوس بأنه قام بمراجعة جميع رسائل المعلم إفلوطين . كما إنه ضمناً إعترف بأن هناك أمامه خيارين في الترتيب تقدمهما الرسائل بحد ذاته . الخيار الأول منطقي (أي هناك إمكانية لترتيبها وفق الإعتبارات المنطقية أو التتابع المنطقي) . والخيار الثاني تاريخي زمني (اي ممكن ترتيب الرسائل وفقاً لزمن كتاباتها) . والذي حدث إن فرفريوس أهمل الخيارين ، فلم يأخذ بالتتابع المنطقي ولا بتاريخ كتابة الرسائل معياراً منهجياً في الترتيب (المصدر السابق) .

حقيقة إن نشرة فرفريوس قد تجاهلت التاريخ الذي كتب فيه إفلوطين رسائله . والتاريخ مفتاح مهم في فهم درجات التطور والنمو الفلسفي الواقع خلال عملية التأليف . وهذه مسألة مهمة قد لا يجدها الباحث في نشرة فرفريوس لكتاب التساعيات . ولكن فرفريوس وفر لنا بنفسه فرصة لقراءة التساعيات من وجهة نظر تاريخية ، خصوصاً في الفقرات الرابعة والخامسة والسادسة من كتابه حياة إفلوطين وترتيب عمله (أنظر المحور السابق من هذا البحث) .

ثالثاً – إعترف فرفريوس بصدق بأنه بعد إن أهمل الخيارين ؛ التتابع المنطقي للرسائل ، وتاريخ كتابتها ، فأنه أخذ وتابع المنهج المتوافر في بعض النصوص السائدة . فقد كانت أمام ناظريه حالات تشبه حال مؤلفات إستاذه إفلوطين . وقد رتبها ونشرها تلاميذ وحواريين مثل حال فرفريوس الصوري . وحقيقة إن فرفريوس قدم لنا كشفاً عن هذه المؤلفات . منها أعمال الشاعر اليوناني ” باكروس ” (عاش مئة عام وللفترة مابين 550 و450 ق.م ، وقد جاء ذكره عند إفلاطون في محاورة جورجياس ، وعند أرسطو في كتاب الشعر . أنظر: أم برنارد ؛ تاريخ كيمبريدج للأدب الكلاسيكي (الأدب اليوناني) 1985 / الفصل الثاني عشر ، ص 367) . والتي قام بنشرها المؤرخ الإسكندراني – الأثيني ” أبلودورس ” في عشرة مجلدات (ولد عام 180 ومات بعد عام 120 ق.م ، وهو عالم نحوي وباحث يوناني ، وكان من طلاب الفيلسوف العراقي ديوجانس البابلي (الرواقي ورئيس المدرسة الرواقية في أثينا ، وأبلودورس هرب من الأسكندرية وإستقر في أثينا . أنظر: سيمون هورن بلور : أبلودورس الأثيني ؛ معجم أكسفورد الكلاسيكي ، نشرة مطبعة جامعة أكسفورد 1996 ، 124 وما بعد) .

وكذلك كانت أمام أنظار فرفريوس أعمال الفيلسوف أرسطو (384 – 322 ق.م) وأعمال خليفته على المدرسة المشائية الفيلسوف المشائي ثيوفروتس (371 – 287 ق.م) والتي قام بتصنيفها ونشرهما على أساس الموضوعات الفيلسوف المشائي إندرنيقوس (إزدهر عام 60 ق.م ، وهو فيلسوف من رودس ، ورئيس المدرسة المشائية في روما حوالي عام 58 ق.م أنظر: هيك كسهولم ؛ الموسوعة البريطانية ، نشرة مطبعة جامعة كيمبريج 1911 ، ط 11) .

وفعلاً فإن كل من أبلودورس وإندرنيقوس قد وفرا سوية نصوصاً رتبت ونشرت على أساس الموضوعات . وهذا المنهج سيتبناه فرفريوس الصوري ويشتغل عليه في ترتيب ونشر رسائل المعلم إفلوطين . يقول فرفريوس صراحة :

لقد تبنيت خطة مشابهة (فرفريوس الصوري : المصدر السابق) .

أما عن خطته في ترتيب ونشر التساعيات ، والتي ركز الحديث عنها في الفقرات الثلاثة الأخيرة من كتابه حياة إفلوطين وترتيب عمله ، وهي الفقرات الرابعة والعشرين والخامسة والعشرين والسادسة والعشرين ، فيقول بلسانه :

كانت رسائل إفلوطين الرابعة والخمسين أمامي ، فقمت بتقسيمها إلى ست مجموعات . وكل مجموعة تألفت من تسع رسائل . وهو ترتيب أسرني كثيراً ، وذلك لأنها سعادة مرتبطة بالتكامل ما بين العددين 6 و 9 . وكل تساعية عالجت موضوع واحد

وبصورة عامة . ولهذا تميزت النشرة ببساطة في تقديم موضوعات الرسائل (المصدر السابق) . وهكذا كانت هناك تساعية عالجت موضوعات الأخلاق ، وأخرى ركزت على الفيزياء … وهذا ما سنبينه بالشكل الذي رتبه فرفريوس الصوري :

التساعية الأولى : وإعتماداً على الخطة ، فأن معظم رسائل هذه التساعية تركز على الأخلاق ، وهي :

1 – في الحي والإنسان

2 – في الفضائل

3 – في الجدل

4 – في السعادة

5 – هل السعادة تعتمد عل طول الوقت

6 – في الجمال

7 – في الخير الأولي والأشكال الثانوية للخير

8 – في الشر

9 – في هوامل المعقولات من الحياة

التساعية الثانية : وهي ذات طبيعة فيزيائية ، وتتكون من رسائل حول العالم وما يتعلق به . وهي :

1 – في العالم

2 – في الحركة الدائرية

3 – هل للكواكب تأثيرات سببية

4 – في نظامي المادة

5 – في الإمكانية والواقعية

6 – في الكيفية والصورة

7 – في الوحدة (أو الإتحاد)

8 – لماذا تظهر الأشياء البعيدة صغيرة

9 – ضد الذين يدعون إن خالق العالم ، والعالم ذاته هما شران

التساعية الثالثة : وهي إستمرار لموضوع العالم ، وتتضمن معالجة فلسفية لبعض مظاهره . وهي :

1 – في القدر

2 – الرسالة الأولى في العناية

3 – الرسالة الثانية في العناية

4 – في أرواحنا الحارسة

5 – في الحب

6 – في عدم إمكانية اللامادي من الشعور بالألم

7 – في الزمن والأبدية

8 – في الطبيعة ، والتأمل والواحد

9 – أسئلة متنوعة (المصدر السابق) .

قدم فرفريوس في الطرف الأول من الفقرة الخامسة والعشرين ، بياناً كشف فيه الأسباب ، وعرض التبريرات التي حملته على نقل بعض الرسائل إلى التساعيات الثلاثة الإولى . فيقول :

إن التساعيات الثلاثة الأولى تؤلف وحدة منسجمة . فمثلاً إن رسالة في أرواحنا الحارسة ، قذ نقلت إلى التساعية الثالثة ، وذلك بسب إن الروح لم تعالج كموضوع بحد ذاته ، وإنما جاءت مقالة تصنف تحت مضمار أصل الإنسان . والشئ ذاته فيما يتعلق برسالة في الحب . أما رسالة في الزمن والأبدية ، فقذ نقلت إلى التساعية الثالثة بسبب إنها ركزت على الزمن . والحال كذلك بالنسبة لرسالة في الطبيعة ، والتأمل والواحد ،فكان نقلها بسبب تركيزها على الطبيعة ( المصدر السابق ، الفقرة رقم 25) .

أما التساعيتان الرابعة والخامسة ، فلهما قصة أخرى . وهذا ما سيتم معالجته .

التساعية الرابعة : وتتضمن رسائل عالجت موضوع النفس . وهي :

1 – في جوهر النفس (رسالة رقم 1)

2 – في جوهر النفس (رسالة رقم 2)

3 – أسئلة متعلقة بالنفس (رسالة رقم 1)

4 – أسئلة متعلقة بالنفس (رسالة رقم 2)

5 – أسئلة متعلقة بالنفس (رسالة رقم 3)

6 – في الحواس والذاكرة

7 – في خلود النفس

8 – في هبوط النفس إلى الأجسام

9 – هل النفوس واحدة (فرفريوس الصوري ؛ المصدر السابق ، الفقرة رقم 25) .

التساعية الخامسة : وتكونت من عدة رسائل درست مضمار النفس ؛ منها رسائل ركزت على المبدأ العقلي . وفيها معالجة لصعود الكل إلى المبدأ العقلي في النفس ، وإلى الأفكار . وهي:

1 – في الأصول (المبادئ) الثلاثة الأولية (الشرح منا : وهي عند إفلوطين : الواحد ، العقل والنفس)

2 – في أصل نظام عالم ما بعد الأوليات

3 – في الطبيعة (أو الجوهر) الواعي وصعود الكل

4 – كيف يصدر ما بعد الأولي عن الأولي ، وفي الواحد

5 – إن المعقولات لا توجد خارج المبدأ العقلي ، وفي الخير

6 – إنه لا يوجد فعل عقلي يتعالى على الموجود الحقيقي ، وفي الطبيعة فهناك فعل عقلي أولي وأخر ثانوي

7 – هل هناك أفكار للجزئيات

8 – في الجمال العقلي

9 – في المبدأ العقلي ، في الأفكار ، والموجود الحقيقي (المصدر السابق )

ومن ثم يعلن فرفريوس بأنه رتب التساعية الرابعة والخامسة على أساس إنهما يبحثان في مضمار واحد (المصدر السابق ، الفقرة رقم 26) . ووفقاً لفرفريوس فإن التساعية السادسة تؤلف لوحدها مضماراً مستقلاً . وعلى هذا الأسس ذهب إلى إن عمل إفلوطين برمته يتوزع تحت ثلاثة مجالات ؛ الأول ضم التساعيات الثلاثة الأولى . والثاني تكون من التساعية الرابعة والخامسة . والثالث جاء ليشمل التساعية السادسة (المصدر السابق) .

التساعية السادسة :

ونود هنا أن نلفت أنظار القارئ إلى إن أرباكاً قد أصاب أرقام أقسام أو ميامر التساعية السادسة أو ترتيب رسائلها . ففعلاً قد وقع خطأ في ترتيب الرسالة الأولى والتي تبحث في أنواع الوجود ففي الترتيب التاريخي منحها رقم 6 (ومنح رقم 6 لرسالة في الأعداد كذلك والتي جاءت في الترتيب التاريخي تحمل الرقم 34). ولعل الخطأ أصبح واضحاً وهو إن الرسالة الأولى في أنواع الوجود كان من المفروض أن تحمل الرقم 1 بدلاً من 6 الذي سبب الأرباك . وفعلاً إن فرفريوس في خطته الخاصة في ترتيب التساعية السادسة منحها الرقم 1 . ونحسب إن الخطأ وقع في الترتيب التاريخي (ولذلك ندعو القارئ والباحث إلى مقارنة الترتيب التاريخي للرسائل التي تحمل الأرقام 42 ، 43 ، 44 ، والخطأ وقع في رقم رسالة 42 . وقارن ذلك بمكونات التساعية السادسة ، الفقرة رقم 26 من كتاب فرفريوس ؛ حياة إفلوطين وترتيب عمله). ويبدو لنا إن فرفريوس أدرك هذا الإرتباك ولكنه حله بدمج رسائل أنواع الوجود الثلاثة في ثلاثة أرقام متتالية (1 ، 2 ، 3) .

وتكونت التساعية السادسة حسب ترتيب فرفريوس ، من الرسائل الأتية :

1 ، 2 ، 3 – في أنواع الوجود . وأفضل العودة إلى الترتيب التاريخي ووضعها بما ينسجم وخطة فرفريوس التي خرج عليها هنا وبالشكل الآتي :

1 – في أنواع الوجود (الرسالة الأولى)

2 – في أنواع الوجود (الرسالة الثانية)

3 – في أنواع الوجود (الرسالة الثالثة)

ومثلما حدث مع الرسائل الثلاث الأولى ، حدث مع الرسالة الرابعة والخامسة والتي دمجهما معاً وبالشكل الآتي :

4 ، 5 – الموجود الحقيقي كلي وواحد ، والوحدة الذاتية للمتشابهات (وفي الترتيب التاريخي جاءتا مستقلتين (أنظر الترتيب التاريخي أعلاه ، وبالتحديد الرسائل التي تحمل الأرقام : 22 ، 23 والذي نهض على إتفاق بين فرفريوس وإميليوس تلميذ إفلوطين لمدة ثمانية عشر سنة قبل أن يأتي فرفريوس إلى روما ويقابل إفلوطين . إن دمجهما معاً يثير سؤال مهم يتعلق بمصداقية رواية فرفريوس حول الإتفاق بينه وبين إميليوس . ويبدو هنا إن فرفريوس تخلى عن قواعد الإتفاق . وهذه مسألة ثانية تثير الحيرة ؛ فهناك ضاع دفتر ملاحظات إميليوس ، وهنا تخلى فرفريوس عن الإتفاق بينهما في تحديد هوية الرسالة 22 و الرسالة 23 وهي الرسائل التي كتبها إفلوطين عندما تمتع بإجازة صيفية حسب إميليوس الحاضر وفرفريوس الغائب) . ونحن نفضل العودة إلى الترتيب التاريخي ، وترتيبهما حسب خطة فرفريوس في ترتيب رسائل التساعية السادسة وبالشكل الآتي :

4 – الموجود الحقيقي كلي وواحد

5 – الوحدة الذاتية للمتشابهات

6 – في الأعداد

7 – في وجود الوفرة في الأفكار ، وفي الخير

8 – في الإرادة الحرة ، وإرادة الواحد

9 – في الخير أو في الواحد (المصدر السابق ، الفقرة رقم 26) .

وفي ختام الفقرة رقم 26 من كتاب فرفريوس الصوري ” حياة إفلوطين وترتيب عمله ” ، أعلن فرفريوس عن بعض الأفكار البالغة الأهمية ، والمتعلقة بدوره في ترتيب كتاب التساعيات ، والإضافات التي ضمها إليه ، ووضع الشروح عليها . كما إنه صرح بأن في ترتيب رسائل التساعيات ، عاد إلى الترتيب التاريخي . ومن ثم راجع عمل إفلوطين بشكل شامل ، ووضع الفواصل بين جمل النص ، وصحح بعض الأخطاء في الأفعال . فقال :

وهكذا فإن ما قمت بترتيبه من (عمل إفلوطين برمته) أربع وخمسين رسالة . وقمت بترتيبها في ست مجموعات ، وكل مجموعة ضمت تسع رسائل . وقد أضفت لبعض الرسائل شروحاً معمقة ، وذلك إستجابة لطلب الأصدقاء ، وسؤالهم عن إيضاح هذه النقطة أو تلك . وأخيراً وضعت موجزاً لكل رسالة من مجموع رسائل إفلوطين (ما عدا رسالة في الجمال) . وقد رتبت الرسائل إعتماداً على المنهج التاريخي . وسيجد القارئ إضافة إلى الموجزات ، نمواً وتطوراً . كما أني إتبعت المنهج التاريخي في ترقيمها . ومن ثم قمت بمراجعة العمل برمته ، فوضعت الفواصل (الفوارز) وصححت الأخطاء في الأفعال وما ورد في النص . والقارئ سيلاحظ ذلك بنفسه (فرفريوس الصوري ؛ حياة إفلوطين وعمله ، الفقرة رقم 26) .

ولعل من الملفت للنظر إن النشرات المعاصرة لكتاب التساعيات ، قد إستسلمت لرؤية التلميذ فرفريوس ، ولم تتمكن أن تتجاوز خطته المنهجية الأكاديمية العالية قيد أُنملة على الإطلاق ، سواء في نشرته اليونانية (ومعلوم إن المعلم والتلميذ كانت ثقافتهم ولغتهم اليونانية) أو الترجمة الإنكليزية . فمثلاً نشرها باليونانية الأستاذ ” كيرشوف ” في لايبزك عام 1856 . كما نشره باليونانية مع ترجمة مقابلة بالإنكليزية وشروح مضافة الأستاذين ستيفن ماكينا وب. أس بيج ، وبعدة مجلدات وللفترة الواقعة ما بين عامي 1917 و 1930 . ثم توالت النشرات لأجزاء من التساعيات وتحت عناوين منتخبة من نشرة فرفريوس الأصلية الأولى . حقيقة إن أقل ما يقال عن التساعيات إنها موسوعة فلسفية كبيرة عكست تطورات فلسفية ، أسهم فيها نومنيوس الأفامي السوري ، وأمونيوس ساكس الإسكندراني ، وتتوجت في رسائل هذه الموسوعة التي كتبها إفلوطين ، والتي لعب التلميذ البار فرفريوس الصوري ، دوراً غير إعتيادي في جمعها ، وترتيبها ووضع الشروح لها ، وكتابة مقدمة لها .

فعلاً لقد كانت التساعيات الإنجيل الروحي للحركة الفلسفية الجديدة التي سيقودها التلميذ فرفريوس الصوري بعد موت الأستاذ ، والذي كان يحمل الأمل في قلبه وضميره في قيام هذه الحركة – المدرسة الفلسفية التي ستملأ القرون الثالث والرابع والخامس .. وحتى إغلاق جوستنيان لمدارس الفلسفة عام 529م ، وإتهام الفلاسفة بالهرطقة ، ومن ثم طردهم خارج الإمبراطورية .. ورغم فعل جوستنيان السلبي على الفلسفة والفلاسفة ، فإن أثر الحركة الفلسفية التي ولدها كتاب التساعيات إمتد إلى عصر النهضة (الرينسانس) الإيطالية على أقل تقدير ، والتي سيطلق عليها كتاب العصر الحديث إصطلاح الإفلاطونية المحدثة .

تعقيب :

هذا هو أصل التساعيات التي كتبها إفلوطين أو ” الشيخ اليوناني ” كما يطلق عليه العقل العربي الإسلامي في عصور ما يسمى بالوسطى . ولكن الذي وصل إلى دائرة التفكير الفلسفي العربي الإسلامي في المشرق ، بعض من التساعيات تحت عنوان منحول ، أو كتاب منحول هو أثولوجيا أرسطو . وتعامل الفلاسفة (الكندي والفارابي وإبن سينا .. ) أو ما أطلق عليهم خطأً بالفلاسفة الإسلاميون المشائيون ، على إنه كتاب ألفه فيلسوف إسطاغيرا . وخصوصاً الفارابي الذي قارب على أساسه بين الحكيمين أرسطو وإفلاطون ، وبين الفلسفة والشريعة أو العقل والوحي . ولعل كتاب الفارابي ” الجمع بين رأيي الحكيمين ” شاهد على دور المنحول في مشروع الفارابي الفلسف

ثانياً – مضمون كتاب التساعيات :

¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤

نحاول أولاً أن نذكر بعض الحقائق المتعلقة بالمؤلف إفلوطين وكتابه ، ومن ثم ننتقل للإشارة إلى بعض الملاحظات التي تركها فرفريوس الصوري حول نظام نشر الكتاب واخيراً ننتقل إلى مضمون كتاب التساعيات .

بعض الحقائق عن المؤلف إفلوطين وكتابه :

¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤

تلقى إفلوطين تعاليم أستاذه الفلسفية “أمونيوس ساكس” الشفهية وعمل على تطويرها في محاضراته التي كان يلقيها على طلبته وخصوصاً تلميذه فرفريوس الصوري ، والتي تركها على شكل ملاحظات غير كاملة وغير منشورة . مات إفلوطين وفرفريوس الصوري كان مريضاً يعاني من حالة إعتلال صحي ، وترك إفلوطين في روما وذهب إلى سسيلي للعلاج والراحة بناءً على نصيحة أستاذه إفلوطين ، وظل هناك بعيداً عن إفلوطين مدة خمس سنوات .

إن من الشائع عن إفلوطين ، إنه كان مهملاً في ترتيب محاضراته ، ولم يعتني بتصحيح الأخطاء التي تقع فيها . إضافة إلى إنه لم يخطط إلى ضمها في كتاب ، فتركها على صورة ملاحظات (مشروع مقالات وكان إفلوطين حريصاً على سرية تداولها بين طلابه ومحبيه) يعتمد عليها في إلقاء محاضراته . كما إنه غالباً ما يترك مهمة تصحيحها وترتيبها على عاتق تلميذه فرفريوس الصوري .

عاد فرفريوس إلى روما فقام بإلقاء المحاضرات في الفلسفة . ومن ثم بدأ بجمع رسائل أستاذه إفلوطين ، ونقحها ووضع لها مقدمة ونشرها مع سيرة إفلوطين في العام 270 م . وفرفريوس هو الذي وضع لها عنوان ” التساعيات ” وهو العنوان الذي أستنبطه من رسائل إفلوطين ذاتها . وفعلاً فأن كتاب التساعيات جاء بنشرة فرفريوس يتألف من ستة تساعيات ، وأحسب إن لمسات فرفريوس واضحة على الكتاب . كما إن مقدمة الكتاب التي كتبها فرفريوس ، هي في الحقيقة بيان بعث للإفلاطونية المحدثة على يديه وبعزمه (أنظر: محمد جلوب الفرحان ؛ حقيقة تساعيات إفلوطين وإسطورة أثولوجيا أرسطو ، قيد الإنجاز) .

إن فرفريوس أسس تقليداً فلسفياً سيتبلور لاحقاً في صورة مدرسة فلسفية ، هي المدرسة الإفلاطونية المحدثة ، فبعد العودة من سيسيلي ، ونشر كتاب التساعيات والسيرة الذاتية لإفلوطين ، أخذ يقدم المحاضرات في الفلسفة ، وبدأ يتهافت عليه الطلاب من روما أو من الخارج ، فمثلاً مارسللا زوجته كانت طالبة مواضبة على حضور محاضراته ، بالإضافة إلى حضور طالبتين أخريين . كما أن أمبيلكوس السوري كان طالباً مواضباً على حلقته الفلسفية . ومن المعروف إن الفيلسوف الإفلاطوني المحدث إمبيلكوس سيقود المدرسة بعد موت فرفريوس ، وبعد موت إمبيلكوس سيسير على الدرب الإفلاطوني المحدث عدد من ورثة إمبيلكوس .

وعلى هذا الأساس يصبح فرفريوس الصوري هو المسؤول تاريخياً عن الإعلان الفلسفي عن إنبثاق حركة فلسفية جديدة ، هي الإفلاطونية المحدثة وذلك عندما قام بنشر كتاب ” التساعيات ” (أنظر: أرمسترونك ؛ إفلوطين ، نشرة مطبعة جامعة هارفارد 1966- 1988 وهو سبعة مجلدات) ، والذي تحول لحظة نشره إلى إنجيل الحركة الفلسفية الجديدة ، والتي سيطلق عليها إصطلاح ” الإفلاطونية المحدثة ” .

ومن زاوية المصادر الغربية الحديثة ، وعلى الأقل المصادر الأنكليزية وما ترجم إليها ، فأنها ترى إن فرفريوس قد لعب دوراً تاريخياً في التعريف الواسع بإسم أستاذه إفلوطين وذلك من خلال كتابة سيرته ومن خلال نشر كتاب التساعيات والشرح الممتاز الذي قدمه لفلسفة إفلوطين سواء في المقدمة التي كتبها لكتاب التساعيات أو في محاضراته وكتبه الأخرى . ولعل الشاهد على ذلك الأثر الذي تركه فرفريوس على الفيلسوف الإفلاطوني المحدث أمبيلكوس وورثته ، والذي درس الفلسفة على يد فرفريوس الصوري ، ونحسب إن محور دروس فرفريوس كانت فلسفة إفلوطين .

وأخيراً فقد لاحظ روبرت بيركمان إن هناك عدداً من الكتاب في عالم الثقافة الرومانية ، وعالم الثقافة اللاتينية ، والثقافة البيزنطية المسيحية ، من يعبر عن إعجابه وخوفه في الوقت ذاته من فرفريوس الصوري . كما وإن رؤية فرفريوس الخاصة للفلسفة الإفلاطونية المحدثة قد فرضت هيمنتها على دوائر التفكير الفلسفي في العالم الغربي وحتى القرن التاسع عشر (أنظر: فرفريوس ضد المسيحيين ، الفصل الأول ، ص 2) . ونحسب إن كل هذه الجوانب تركت أثارها على كتابات التساعيات ، الذي جمعه ونشره تلميذ إفلوطين ” فرفريوس الصوري ” هذا طرف من القضية ، والطرف الثاني سيأتي الحديث عنه في الفقرة الآتية .

دور فرفريوس الصوري في ترتيب كتاب التساعيات :

☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆

كتب فرفريوس الصوري سيرة إفلوطين ، وملاحظات حول الكيفية التي إتبعها في ترتيب كتاب التساعيات . وكان عنوانها المترجم إلى اللغة الإنكليزية ” فرفريوس الصوري : حياة إفلوطين وترتيب عمله ” (ترجمه عن اليونانية ستيفن ماكينا ، نشرة المطبعة الإسكندرانية ، الولايات المتحدة الأمريكية 1984) . وإن المتصفح لهذا الكتاب ، يقف على الحقائق الآتية :

أولاً – إن إفلوطين حسب رواية فرفريوس منحه تفويضاً في مراجعة مايكتب . يقول فرفريوس الصوري :

أنا فرفريوس الصوري ، واحد من أصدقاء إفلوطين المقربين ، وكان إفلوطين يفوضني على مراجعة ما يكتب (فرفريوس الصوري ؛ حياة إفلوطين وترتيب عمله ، ترجمه من اليونانية إلى الإنكليزية ستيفن ماكينا ، نشرة المطبعة الإسكندرانية ، الولايات المتحدة 1984 ، الفقرة رقم 7) .

ثانياً – إن المعلومات التي قدمها لنا فرفريوس ، تؤكد بشكل واضح على إن هناك عدداً من الطلبة قد سبقوا فرفريوس في ملازمة الأستاذ إفلوطين . منهم ” إميليوس ” ، والذي كان أحد المصادر المهمة لكتابة ” حياة إفلوطين وترتيب أعماله ” . خصوصاً في ناحيتين : الأولى إن إميليوس كان شاهد عين على حياة إفلوطين ولمدة ثمانية عشر عاماً حتى لحظة وصول فرفريوس إلى روما ، ومقابلة المعلم إفلوطين . الثانية إن فرفريوس الصوري بنفسه يذكر بإن إميليوس قد ألف كتاباً عن أستاذه الأول ” نومنيوس الأفامي السوري ” ، وإشتغل على ترتيب أعماله ، وهذا الكتاب تكون من مئة رسالة ، وبعد إكماله قدمها لولده بالتبني ” هوستيالينوس الأفامي السوري ” .

والسؤال : ماذا يعني هذا ؟ يعني إن إميليوس قد سبق فرفريوس في هذا النوع من الكتابة ، وإن كتابه عن أستاذه نومنيوس ، سيكون موضوع تفكير فرفريوس ، حين سيباشر في التأليف عن حياة إفلوطين وترتيب عمله ،إضافة إلى إن إميليوس كان يحمل معه دفتر ملاحظات ، يسجل فيه يوميات إفلوطين ، وبالتأكيد هذه اليوميات مصدر معرفي في غاية الأهمية . إلا إن فرفريوس يفاجئنا عندما يعلن عن ضياعه (أنظر: محمد جلوب الفرحان ؛ ملاحظات منهجية حول كتاب فرفريوس الصوري ” حياة إفلوطين وترتيب عمله “) . يقول فرفريوس الصوري ما نصه :

وصلت إلى اليونان في السنة العاشرة من حكم الإمبراطور الروماني ” كالينيوس ” وبرفقة إنطونيوس الروديسي ، ووجدنا إميليوس برفقة إفلوطين ما يقارب الثمانية عشر عاماً . وكان ينقص إميليوس القدرة على كتابة أي شئ ، ما عدا إنه كان يحمل دفتر ملاحظات ضاع وإنطمر بعد ذلك ، وكان إفلوطين في التاسعة والخمسين عندما قابلته كنت في الثلاثين (فرفريوس الصوري ؛ المصدر السابق / الفقرة رقم 4) .

ثالثاً – يعلن فرفريوس الصوري عن مسألة في غاية الأهمية ، تتعلق بشخصية المؤلف إفلوطين ، فقد ناهز الخمسين من عمره ولم يكتب شيئاً (وصل إفلوطين إلى روما ، وهو في الأربعين زائداً عشر سنوات ، وهي الفترة التي لم يكتب فيها) . ونحسب إن في رواية فرفريوس إشكال ؛ ففريوس كان غائباً هذه الفترة ، وبعيداً عن روما وحياة المعلم إفلوطين . والسؤال : ما هي المصادر التي إعتمد عليها في كتابة هذه الرواية ؟ حقيقة إن فرفريوس كتبها دون أن يذكر شيئاً . ونظن إن مصدره إميليوس أو كتاب ملاحظات إميليوس الذي ضاع وإنطمر. وإن هذه المسألة تظل مفتوحة لقبول أراء أخرى .

يقول فرفريوس الصوري عن الكاتب إفلوطين :

☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆

عقد إفلوطين عهداً مع كل من أرنيوس وأوركن ، بأن لا يتكلموا عن عقائد أمونيوس (وهو أمونيوس ساكس معلم إفلوطين في الإسكندرية) . وفعلاً فقد حافظ إفلوطين على هذا العهد ، وحاول تجنب الحديث عن النظام الفكري للمعلم أمونيوس ، خصوصاً خلال مناقشاته مع زملاء الحلقة . إلا إن هذه السرية لم تستمر طويلاً ، فقد إنفرط العهد أولاً من قبل أرنيوس ، ومن ثم من قبل أوركن . حقيقة أوركن لم يكتب شيئاً . ولكن ذلك جاء في رسالة ” الموجودات الروحية ” .

أما فيما يخص المعلم إفلوطين ، فإنه ولفترة طويلة لم يكتب شيئاً . ولكنه بدأ يؤسس لقاعدة نقاش حول ما جمعه من دراسات تمت تحت إشراف أمونيوس . وفي ضوء ذلك فإنه لم يكتب شيئاً ، سوى التشاور والنقاش المستمرين مع جماعة من الزملاء ، وهذه الفترة إستمرت مدة عشر سنوات . (فرفريوس الصوري ؛ المصدر السابق ، الفقرة رقم 3) .

رابعاً – ووفقاً لرواية فرفريوس ، وحسابات السنين من حياة المعلم إفلوطين ، نحسب إن فترة السنوات العشرة الممتدة ما بين الخمسين من عمره والتاسعة والخمسين (وهي السنة التي قابل فرفريوس إفلوطين) هي فترة نشاط الفيلسوف في التأليف والكتابة . ومثلما واجهنا إشكال في أطراف من الروايات الفرفوريسية السابقة ، نرى إن الإشكال يتجدد مرة أخرى . خصوصاً إذا ما وضعنا في الإعتبار غياب التلميذ فرفريوس عن روما وعن حياة المعلم إفلوطين على حد سواء . وهنا لا يذكر فرفريوس أي مصدره زوده بهذه المعلومات ؛ وهل هو إفلوطين ذاته أو تلميذه وصديقه إميليوس أو زيثوس العربي … لا أحد يستطيع أن يقول شيئاً عن ذلك .

ويرى فرفريوس إن المعلم إفلوطين بدأ الكتابة ” في السنة الأولى من حكم الإمبراطور الروماني ” كالينيوس ” (218 – 268م) ، والذي شارك الحكم مع والده في العام 253م . وإذا قبلنا ذلك من فرفريوس ، فأننا نحسب إن هناك نوعاً من عدم التناغم بين سني عمر المعلم إفلوطين ، والتي إقترحها فرفريوس بنفسه ، وسنوات إعتلاء الإمبراطور ” كالينيوس ” سدة الإمبراطورية الرومانية .

يقول فرفريوس الصوري عن فترة الكتابة ، وعدد الرسائل التي كتبها المعلم إفلوطين :

بدأ إفلوطين في الكتابة ، في السنة الأولى من حكم كالينيوس ، وعن موضوعات أخذ النقاش يدور حولها . وحين وصولي لمقابلة إفلوطين ، كانت السنة العاشرة من الحكم (حكم الإمبراطور كالينيوس) . وقد بلغ مجموع ما ألفه إفلوطين إحدى وعشرين رسالة (فرفريوس الصوري ؛ المصدر السابق ، الفقرة رقم 4) .

خامساً – كشف فرفريوس عن حقيقة هذه الرسائل التي كتبها الفيلسوف المعلم إفلوطين ، وبين مايحيط بها . فهي من ناحية رسائل مقيدة بطابعها الخاص ، ولذلك كان تداولها فيه تباطئ وحذر ، ونشرها كان يأخذ طابع السرية . وإن من حصل عليها قد خضع لتمحيص دقيق . ومن ناحية أخرى ، فإن هذه الرسائل كانت لا تحمل عناويناً لها . ولذلك كان كل فرد يقترح عناوين يعتقد مناسبة لها (أنظر : المصدر السابق) . ويقول فرفريوس معلقاً على عناوين الرسائل :

وأنا هنا إقتبستهم تحت عناوين وضعت لهم فيما بعد . وهذه العناوين ليست إلا الكلمات الأولى التي تبدأ بها كل رسالة ، وذلك لتسهيل مهمة التعريف بهويتها

(فرفريوس الصوري ؛ المصدر السابق) . ونحسب إن عناويين الرسائل تعبر عن مضمون التساعيات . وهذه قصة سنقوم بتناولها في المحور اللاحق . كما إن هذه الرسائل (21 رسالة) لا تشكل إلا جزء من نشرة التساعيات المتداولة

أولاً – السيرة الذاتية لإفلوطين :

☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆☆

نحسب أن تكون البداية ، هي التعريف بمؤلف الكتاب ، وذلك لأن الكتاب يعكس شخصية كاتبه ؛ فلسفته ومنهجه . ولعل السؤال المفتاح : من هو الفيلسوف ” إفلوطين ” ؟ وما هو إتجاهه الفلسفي ؟ عرف التراث الثقافي العربي الإسلامي عامة ، و دوائر التفكير الفلسفي في المشرق الإسلامي خاصة الفيلسوف ” إفلوطين ” وأطلقت عليه لقب ” الشيخ اليوناني ” . ولا أعرف مدى دقة تسمية النصوص العربية ، وإفلوطين حسب رواية تلميذه ” فرفريوس الصوري ” مات وعمره ست وستين عاماً . وهو المؤسس الحقيقي لما سيطلق عليه في بواكير العصر الحديث ” المدرسة الإفلاطونية المحدثة ” (أنظر: بحثنا القادم والمعنون : إشكالية الفلسفة الإسلامية : بين المشائية والإفلاطونية المحدثة) .

الحقيقة لم تأتي المعلومات عن سيرة إفلوطين ، من المصدر الأول ، وذلك إن إفلوطين ذاته لم يذكر أو يترك بيراعه معلومات عن إصول عائلته (أجداده) ، وعن طفولته ، بل ولم يتكلم عن مكان وتاريخ ولادته . ولكن جميع المصادر التي تتكلم عنه لاحقاً ، تتحدث عنه كرجل عاش حياته الشخصية والإجتماعية في ضوء معايير أخلاقية وروحية عالية جداً . ورغم هذا الحال ، فإننا محظظون جداً في معرفة شخصية الأستاذ إفلوطين من زاوية حواريه التلميذ الروحي ” فرفريوس الصوري ” (233 – 305 والبعض يرى إنه توفي في عام 309 تقريباً) الذي لازمه ودرس تحت يده في روما فترة ليست بالقصيرة (ست سنوات ركزها على دراسة فلسفة إفلوطين ومشروعه الفلسفي الدي سيعرف بالإفلاطوني المحدث) ، وإن كان بعيداً في السنوات الآخيرة من حياته (خمس سنوات كان فرفريوس بعيداً عن إفلوطين) ، ومات إفلوطين في روما ، وفرفريوس الصوري ذهب للعلاج إلى سيسلي الإيطالية (بعد حالة فرفريوس النفسية ، ومحاولته على الإقدام على الإنتحار..) بناءً على إقتراح أستاذه إفلوطين . وفعلاً بعد سماعه بأخبار موت أستاذه ، ركب البحر وعاد سريعاً . فجمع أوراق أستاذه ، وبدأ يرتبها ويفكر بطريقة نشرها . وهذه قضية سيكون الحديث عنها في المحور الخاص بكتاب التساعيات . ولكن فرفريوس لم يكتفي بنشر كتاب التساعيات ، بل وكتب مدخلاً شرح فيه فلسفة إفلوطين ، وسيرة ذاتية له ونشرها مع التساعيات (أنظر : محمد جلوب الفرحان : فرفريوس الصوري مؤرخاً للفلسفة اليونانية / المحور المعنون الإعلان عن الإفلاطونية المحدثة / مصدر سابق) .

وعلى هذا الأساس فإن مصدرنا القريب للمعلومات عن حياة وسيرة إفلوطين ، هو حواريه وتلميذه فرفريوس الصوري . فقد كتب فرفريوس قائلاً : ” كان عمر إفلوطين ست وستين عاماً عندما جاءته المنية في عام 270 م ، وبالتحديد في السنة الثانية من إعتلاء الإمبراطور الروماني ” كلوديوس الثاني ” . وهذا كان دليلاً تاريخياً مكن الباحثون من إقتراح 205 سنة لولادة إفلوطين . وقد ولد حسب رواية المؤرخ السفسطائي ” يونبيوس ” (من كُتاب القرن الرابع والخامس الميلاديين) في مدينة يونانية ، تقع في دلتا مصر السفلى (أنظر : إفلوطين / موسوعة جامعة كولومبيا الإلكترونية / 2003) .

ونرجح إن موت إفلوطين كان في بداية عام 270  والسبب إن فرفريوس نشر كتاب التساعيات والسيرة الذاتية والمدخل الشارح لفلسفة إفلوطين في عام 270 كذلك . فبعد سماع فرفريوس أخبار موت أستاذه في العام 270 ، عاد من سيسلي ، وبالتأكيد يحتاج العمل إلى وقت لترتيب الملاحظات التي تركها إفلوطين لمحاضراته الشفهية ، وفرفريوس يحتاج إلى وقت للإتصال ببعض تلاميذ إفلوطين ليرى ما يمتلكون وما يحفظون من معلومات عن فلسفة الأستاذ إفلوطين . كما إن المدخل الشارح لفلسفة إفلوطين الذي كتبه فرفريوس يحتاج إلى وقت ، كما إن كتابة سيرة إفلوطين تحتاج إلى وقت لجمعها والتدقيق فيها وكتابتها ونشرها . وكل ذلك حملنا على القول إن فرفريوس عمل كل ذلك ونشره في وقت متأخر من عام 270م .

بدأ إفلوطين بدراسة الفلسفة عندما كان في السابعة والعشرين من عمره ، ولدراسته للفلسفة قصة ذات طعم خاص ، فبالتحديد في عام 232 ، شد الرحال إلى مدينة الإسكندرية . وهناك عاش تجربة معرفية ، إختبر فيها الكثير من معلمي الفلسفة ، وكان ساخطاً وغير راض على مادتهم الفلسفية ، وغير مقتنع بهم ، حتى شكى حاله لواحد من معارفه ، فإقترح عليه الإستماع إلى أفكار ” أمونيوس ساكس ” (القرن الثالث الميلادي) وهو المؤسس الروحي للحركة الفلسفية الجديد التي ستعرف بإسم الإفلاطونية المحدثة . وبعد إن إستمع إفلوطين لمحاضرته ، صرح لصديقه قائلاً : ” هذا هو الرجل الذي أبحث عنه ” . ومن ثم بدأ بحماس ونشاط يدرس الفلسفة تحت إشراف هذا المعلم الجديد . والحقيقة إن أمونيوس كان معلماً لأفلوطين مدة إحدى عشر عاماً ، وبالتحديد إمتدت من عام 232 وحتى عام 243 . وكان لأمونيوس بالتأكيد تأثيراً كبيرا على إفلوطين في تطوير الإفلاطونية المحدثة . ولكننا اليوم لا نعرف إلا القليل القليل من وجهات نظره الفلسفية (أنظر : محمد جلوب الفرحان : فرفريوس الصوري مؤرخاً للفلسفة اليوناني / المحور المعنون ” الإعلان عن الإفلاطونية المحدثة / مصدر سابق ) .

ومن النافع أن نشير إلى إن جميع المعلومات التي توافرت لدينا عن معلم إفلوطين الفيلسوف ” أمونيوس ساكس ، قد جاءت إلينا من طرف فقرات تركها فرفريوس الصوري عندما تحدث عن حياة أستاذه إفلوطين . حيث قال بالنص :

وعندما كان عمره ثمانية عشر عاماً (الحديث عن إفلوطين) شعر بالرغبة في دراسة الفلسفة ، وقد نُصح بالذهاب إلى الإسكندرية ، وإكتساب التعليم على يد معلمي الفلسفة هناك ، والذين كانت لهم سمعة مشهودة . ولكن محاضراتهم سببت له السأم ، فإنصرف منها حزيناً . وفعلاً فقد أخبر صديق له بالمصاعب التي يواجهها في تعلم الفلسفة . وفهم الصديق رغبة قلبه ، فأرسله إلى أمونيوس ، والذي لم يكن بعيداً ، وإقترح عليه إن يحاول حضور محاضراته . وعندما ذهب للإستماع إليه ، رجع وأخبر صديقه ، قائلاً : ” هذا هو الرجل الذي أبحث عنه ” . ومن ذلك اليوم لازم إفلوطين أمونيوس ، وإكتسب منه المعرفة والتدريب الفلسفي الكاملين . وبعد ذلك إتصل بتعالم الفرس الفلسفية ، والتي كانت متداولة بين الهنود ” ( فرفريوس الصوري ؛ حياة إفلوطين / نقلاً من ج . ريل ؛ تاريخ الفلسفة القديمة / ج 4 والمعنون ” مدارس العصور الإمبراطورية ، مطبعة الشمس 1990 ، ص 298) بالإضافة إلى أمونيوس ساكس ، فأن إفلوطين تأثر بكتابات ” الإسكندر الإفروديسي ” وهو واحد من شراح أرسطو في القرن الثالث الميلادي . وجاء الإفروديسي إلى أثينا في نهايات القرن الثاني الميلادي . وكان تلميذاً لإثنين من الرواقيين ، أو ربما كان واحد من معلميه مشائياً . وفعلاً في أثينا أصبح الأفروديسي رئيس المدرسة المشائية (أنظر : ج . ب . لونش ؛ مدرسة أرسطو ، نشرة جامعة باركلي 1972 ، ص 215) . كما وتأثر بالفيلسوف الفيثاغوري الجديد الإفلاطوني ” نومينوس الآفامي السوري ” (إزدهر خلال النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي) . ويبدو إن نومينوس قد لعب دوراً في تاريخ التمهيد لتأسيس المدرسة الإفلاطونية المحدثة (أنظر : كتابات نومينوس الإفلاطوني المحدث ، ترجمة كينث كوثري ، نشرة دار سيلين للكتب ، بلا تاريخ) . وقرأ أثار عدد من الفلاسفة الرواقيين .

وبعد إن صرف أحد عشرة سنة أخرى ، قرر إفلوطين البحث عن تعاليم الفلاسفة الفرس والهنود ، وكان عمره يومذاك ثمان وثلاثين عاماً (أنظر : فرفريوس الصوري ؛ حياة إفلوطين وترتيب كتبه ، الفصل الثالث) .ولإنجاز هذه الرغبة ، ترك الإسكندرية ، وإلتحق بجيش الإمبراطور الروماني ” جورديان الثالث ” (225 – 244م) ، وبعد تقدم الحشود نحو بلاد فارس ، فشلت الحملة ومات الإمبراطور فجأة ، فوجد إفلوطين نفسه معزولاً في بيئة معادية ، وبصعوبات مضنية ، تلمس طريق العودة إلى مدينة إنطاكيا .

وفي سن الأربعين ، وبالتحديد خلال حكم الإمبراطور الروماني ” فيليب العربي ” (204 – 244) ، عاد إفلوطين إلى روما (للإطلاع أنظر: ألين بومان ؛ تاريخ كيمبريدج القديم : إزمة الإمبراطورية من 193 وحتى 337 ، نشرة مطبعة كيمبريدج 2005) ، والتي قضى سنواته الآخيرة فيها . وفي روما جذب حوله العديد من الطلبة والرموز الثقافية يومذاك ، من أمثال فرفريوس الصوري ، وإميليوس جنتاليتيوس (إفلاطوني محدث وكاتب من النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي) ، وهو في الأصل تلميذ نومنيوس الآفامي . ولكنه بدأ يحضر محاضرات إفلوطين ، وبالتحديد في السنة الثالثة من عودة الآخير إلى روما (أنظر : وليم سميث ؛ معجم السير والآساطير اليونانية والرومانية ، نشرة مطبعة براون ، بوسطن 1867 ، ص 142 وما بعد) .

كما وكان السناتور كاستريوس فرموس (وهو إفلاطوني محدث من القرن الثالث) من المقربيين للفيلسوف إفلوطين . وكان حسب رواية فرفريوس الصوري ” يحترم إفلوطين بإجلال ، ولازمه إلى نهاية حياته ” (أنظر : فرفريوس الصوري ؛ حياة إفلوطين ، ترجمة ستيفن ماكينا ، لندن1917 – 1930) . والقائمة طويلة . ولكن من أهم حواريه وطلابه ، كان العربي ” زيثوس ” (إفلاطوني محدث من القرن الثالث) ، وهو حسب رواية فرفريوس ، من أصول عربية ومات قبل موت إفلوطين ، وكان مقرباً جداً إلى إفلوطين ، ويقضيان أوقاتهما في الريف (أنظر : فرفريوس الصوري ؛ المصدر السابق) . وكان للنساء حصة في التلمذة على يد إفلوطين ، فمثلاً كانت جيمينا تلميذة له ، وكان يعيش في بيتها خلال حياته في روما . كما كانت إبنتها جيمينا الثانية تلميذة لإفلوطين كذلك . والثالثة كانت إمفيسلا وهي زوجة أرستون إبن إمبيلكوس الفيلسوف الإفلاطوني المحدث ، ورئيس المدرسة السورية للإفلاطونية المحدثة (أنظر: محمد جلوب الفرحان : الملك الفيلسوف إمبيلكوس السوري مؤرخاً للفلسفة اليونانية / منشور في المجلد الأول ، العدد الثاني من مجلة أوراق فلسفية جديدة / ربيع 2011) .

وفي السنوات الأخيرة من حياته في روما ، إكتسب إفلوطين إحترام كل من الإمبراطور الروماني ” كالينيوس ” (218 – 268م) وزوجته ” سالونيا ” (لا تذكر المصادر شيئاً عن حياتها ، سوى إنها تزوجت الإمبراطور قبل عشر سنوات من أن يصبح إمبراطوراً ، وإعدمت عام 268 م مع أفراد عائلتها بقرار من مجلس السناتورات (أنظر: بات سوذرن ؛ الإمبراطورية الرومانية من سيفريوس وحتى قسطنطين ، نشر دار روتلدج ، لندن 2001) .

ولعل المهم في علاقته بالإمبراطور ، إنه حاول إقناعه بإعادة تجديد مستعمرة كامبيا المهجورة ، والتي كانت تعرف بمدينة الفلاسفة ، والتي كان سكانها يعيشون في ظل دستور صاغه إفلاطون في محاورة القوانين . وحسب رواية فرفريوس الصوري ، فإن المساعدات المالية لهذا المشروع لم تحصل على الإطلاق ، ولأسباب غير معروفة حتى لفرفريوس الصوري الذي أخبرنا بهذه الحادثة .

بعد ذلك رحل فرفريوس إلى سيسلي ، وبعد خمس سنوات ، جاءت الأخبار عن موت إستاذه إفلوطين . ويذكر إن إفلوطين صرف أيامه الآخيرة في ضيعة في كمبانيا وهي الضيعة التي ورثها من حواريه العربي الإفلاطوني المحدث ” زيثوس ” بناءً على أساس وصية الأخير له قبيل موته .

ومات إفلوطين ولم ينشر اي شئ على الإطلاق . ولكنه حسب رواية فرفريوس الصوري ، ترك بعض المقالات الناقصة ، وملاحظات كان يعتمد عليها في إلقاء محاضراته (أنظر: محمد جلوب الفرحان ؛ فرفريوس الصوري مؤرخاً للفلسفة اليوناني / مصدر سابق) . ولذلك سنفضل التخلي عن المصادر الثانوية التي كتبت عن إفلوطين ، ونعتمد على ما كتبه فرفريوس بيراعه وهو المصدر الأول ، والذي عاش مع إستاذه مدة ست سنوات ، ورحل إلى سيسلسي والتواصل مستمر بينهما ولمدة خمس سنوات أخرى ، وفعلاً فإن إفلوطين كان يرسل إليه كل ما هو جديد مما يكتب . وهذه قصة سنتناول أطرافها لاحقاً .

مشكلة المكان في فلسفة فيلسوف قرطبة إبن رشد(595ه)

يهدف هذا المقال إلى تقديم نظرة عامة حول مشكلة المكان في فلسفة أبي الوليد بن رشد من خلال بعض تواليفه الطبيعية والمنطقية، لا سيما منها “جوامع السماع الطبيعي” و”تلخيص السماء والعالم” وتلخيص كتاب المقولات، لندرك مدى تطور فكر الرجل بصدد مشكلة المكان وما يحوم في فلكها من معضلات فلسفية تستأثر باهتمام العديد من المفكرين والفلاسفة على امتداد تاريخ الفكر البشري بوجه عام. وقبل أن نمحص طبيعة المكان لدى ابن رشد يحسن بنا أولا أن نبحث عن أصول وجذور مشكلة المكان كما أثارها أرسطو في كتاب “الطبيعة”. الأمر الذي يستوجب التساؤل عن الأسباب التي دفعت بالمعلم الأول إلى إثارة مسألة المكان في المقالة الرابعة من كتاب “الطبيعة” دون غيره من النصوص الطبيعية الأخرى.

أصول مشكلة المكان:

●●●●●●●●●●●●●●●●●●

إن المتأمل في كتاب الطبيعة لأرسطو سيقف لا محالة على أصلين أساسيين لمشكلة المكان كغيرها من المشكلات الفلسفية والعلمية الأخرى الواردة في هذا الكتاب. هذان الأصلان هما:

أ – أصل علمي: يتمثل في دفاع أرسطو عن إمكانية قيام العلم الطبيعي -ضدا على منكريه- اعتمادا على مبادئ علمية، ذلك أن كتاب الطبيعة لأرسطو يتناول من جهة أولى المبادئ المؤسسة للعلم الطبيعي من قبيل: المادة والصورة والعدم، لا للبرهنة على وجودها، لأن ذلك يتكفل ببيانه صاحب علم ما بعد الطبيعة، بل فقط لحصر عددها، والحديث عن علاقة بعضها ببعض، وبيان ما السبب الذي بالذات والذي بالعرض(1). كما أنه يتناول بالدراسة والتحليل من جهة ثانية، اللواحق العامة للأجسام الطبيعية كالمكان والزمان والحركة واللانهاية… ولما كانت الطبيعة في نظر أرسطو مبدأ حركة وسكون في الشيء”(2) فإنه يستوجب على صاحب العلم الطبيعي أن ينظر في أمر الحركة ليعلم الطبيعة ما دامت الحركة تدخل في حد الطبيعة، ولكي يعلم الحركة يجب على صاحب هذه الصناعة أن يتحدث عن المكان والزمان، إذ لا وجود لحركة بدونهما.

ب – أصل سجالي: ينحصر أساسا في الرد على بعض التيارات الفكرية والفلسفية سواء منها التي تنفي وجود مبادئ يقوم عليها العلم بدليل أن كل شيء قابل للبرهنة بما في ذلك مبادئ العلوم (السوفسطائيون)، أو تلك التي ترى أن المبادئ واحدة (الطبيعيون الأوائل)، أو متعددة (الذريون)(3). كما يتمثل هذا الأصل السجالي أيضا في الرد على نفاة المكان وعلى القائلين بالخلاء سواء الذين يتبثونه بعدا مفارقا أو غير مفارق. وسنفرد لهذه المسألة حديثا مفصلا في ثنايا هذا العرض لا سيما في سياق الحديث عن ماهية المكان.

طبيعة المكان عند ابن رشد.

●●●●●●●●●●●●●●●●●●●

أول ما يثير انتباه الدارس لكتاب جوامع السماع الطبيعي خاصة المقالة الرابعة منه هو أن ابن رشد لا يكلف نفسه عناء البحث عن الحجج ليثبت من خلالها وجود المكان خلافا لأرسطو وابن سينا اللذين يسهبان في الرد على نفاة المكان، إذ يصادر على وجوده، وذلك بمجرد تأمل محمولاته الذاتية التي لا تليق إلا بالموجود(4) إلا أنه لا بد من التساؤل هنا عن الأسباب التي دفعت بابن رشد وقبله ابن باجة إلى عدم الخوض في مجادلة نفاة المكان، فهل المسألة تعود إلى عدم أهميتها في الغرب الإسلامي، خاصة إذا علمنا أن ابن سينا سيحدو حدو أرسطو في هذا السياق أم أن الأمر يرجع إلى مجرد عملية تلخيص النص الأرسطي وعدم متابعته متابعة حثيثة؟

مهما يكن من أمر هذه التساؤلات، فإن الغرض من هذا القول أن نمحص طبيعة المكان عند ابن رشد. وقبل ذلك نتساءل ما مختلف المواقف التي يعارضها أبو الوليد بصدد مشكلة المكان؟ كيف يتصور فيلسوف قرطبة ومراكش ماهية المكان؟ وأخيرا، ما الطريقة التي يسلكها في استنباط الحد التام لمفهوم المكان؟

يقترح ابن رشد أربعة احتمالات لا تخرج عنها ماهية المكان وهي: إما أن يكون المكان هو الهيولى، أو الصورة، أو الخلاء، أو النهاية المحيطة بالجسم الطبيعي.

المكان/الهيولى أو الصورة.

●●●●●●●●●●●●●●●●●●

يرفض ابن رشد أن يكون المكان هو الهيولى أو الصورة لسبب بسيط هو أن حركة النقلة (المكانية) تصبح كونا وفسادا(5). وهذا ما يعبر عنه ابن باجة في قوله “فمنهم من رأى الهيولى هي المكان، وهذا بين الفساد، فإن المكان ليس بمنتقل بانتقال المتمكن فيه والهيولى هي التي تنتقل لا الصور”(6). أما ابن سينا فيرفض هو الآخر أن يكون المكان هو الهيولى أو الصورة اعتمادا على بعض التقابلات بين الطرفين، وذلك أن من يرى الهيولى أو الصورة مكانا فهو قول فاسد، لأن المكان يفارق عند الحركة، أما الهيولى أو الصورة لا يفارقان، كما أن المكان تكون الحركة فيه وإليه، أما الهيولى والصورة لا تكون الحركة فيهما، بل معهما، ولا تكون إليهما الحركة البتة(7). نفس الأمر نجده لدى أرسطو، إذ ينفي أن يكون المكان هو الهيولى أو الصورة معتمدا في ذلك على بعض القرائن يمكن أن نشير إليها فيما يلي:

  • الهيولى والصورة لا يفارقان المركب، بينما المكان يفارق المركب، فالمكان إذن غيرهما.
  • المكان من حيث هو مفارق ليس بصورة للمركب، ومن حيث إنه يحيط ليس بهيولى، لأن الهيولى لا تحيط، بل يحاط بها.
  • المكان إما فوق وإما أسفل، وليس بشيء من الهيولى أو الصورة فوق أو أسفل.
  • لو كان المكان صورة لكان يفسد، إذا انتقل الماء إلى الهواء واستحال إليه، لأن صورة الماء قد فسدت.
  • لو كان المكان هيولى أو صورة مع أن المركب قد ينتقل من مكان إلى مكان لكان المكان قد تحرك إلى مكان، فيكون مكان في مكان وذلك مستحيل.
  • المكان ينتقل إليه أما الهيولى والصورة فتنتقلان(8).

المكان/الخلاء:

●●●●●●●●●●●●●●●●●●

ينفي ابن رشد أن يكون المكان هو الخلاء سواء كان بعدا مفارقا أو غير مفارق، ويفرد بحثا عميقا في مساجلة القائلين بالخلاء لا سيما منهم أصحاب المذهب الذري الذي يتبثونه كعلة للحركة، إذ يعتقدون أنه لا وجود لحركة ما لم يكن هناك خلاء. لكن أبا الوليد يرى أن مثل هذا القول يؤدي إلى محالات كثيرة منها:

1 – استحالة وجود بعد مفارق.

يقدم فيلسوف قرطبة مثال “النقطة” ليثبت من خلاله استحالة وجود بعد مفارق للجسم، إذ يرى أنه إذا أمكن أن يوجد بعد مفارق للجسم، فيمكن ذلك أيضا في النقطة، لأن نسبة النقطة إلى الخط هي نسبة الخط إلى السطح، والسطح إلى الجسم، لذلك يلزم ضرورة متى فارق الجسم الأبعاد أن يفارق السطح الجسم، وأن يفارق الخط السطح، وبالتالي أن تفارق النقطة الخط، وهذا محال، لأن النقطة لا وجود لها إلا بنسبتها إلى الخط. ذلك أن صاحب العلم الطبيعي ينظر إلى النقطة من حيث هي نهايات أجسام طبيعية لا من حيث هي ذوات قائمة بذاتها كما ينظر إليها التعاليمي، لذلك التبس الأمر عند قوم (الفيتاغوريون) فظنوا أن ما هو مفارق بالقول مفارق بالوجود أيضا، فقالوا بمفارقة الأعداد والأعظام.

2 – استحالة تداخل الأجسام.

إن الأجسام الطبيعية تحل في المكان بأبعادها لا بأعراضها، ومن ثم يمتنع أن يحل جسمان في مكان واحد من جهة امتناع تداخل الأجسام بعضها ببعض.

3 – استحالة حلول مكان في مكان:

يحل الجسم الطبيعي في المكان بأبعاده، ولو كانت الأبعاد هي المكان لاحتاجت إلى مكان، وبالتالي يحل المكان في مكان وتمر المسألة إلى ما لا نهاية، ومن ثم يلزم شك زينون الإيلي في عدم إمكانية وجود المكان(9).

أما ابن باجة فيشك في وجود الخلاء، بل يذهب أبعد من ذلك، إذ يرى بأن الخلاء هو سبب لبطلان الحركة(10).

المكان هو النهاية المحيطة.

●●●●●●●●●●●●●●●●●●●

بعد أن يرفض ابن رشد القول بأن المكان هو الهيولى أو الصورة أو الخلاء، يبقى إذن الاحتمال الرابع والأخير الذي مفاده أن المكان هو النهايات المحيطة بالجسم الطبيعي، إذ يقول في هذا السياق: “المكان هو النهاية المحيطة لكونها استكمالا للأجسام المتحركة وغاية تحريكها”(11). إذا تأملنا هذا التعريف نجد أن المكان يدل على نهاية الحركة وغاية الجسم المتحرك وكماله، ذلك أن الأجسام الطبيعية تنتقل إلى مكانها الطبيعي حيث تسكن. وقد اعتمد ابن رشد في حد مفهوم المكان حدا تاما على البرهان المطلق أو ما يسميه أرسطو في الحقيقة برهانا متغيرا بالوضع، إذ يرى أن المكان هو الذي تنتقل إليه الأجسام الطبيعية وتسكن فيه، وما كان بهذه الصفة فهو نهاية جسم محيط. فإذا قمنا بتغيير وضع هذا البرهان، أي ننطلق من النتيجة إلى المقدمات، فإننا نحصل على الحد التام للمكان فنقول بأنه النهاية المحيطة لكونها استكمالا للأجسام المتحركة وغاية تحريكها. ونفس التعريف نجده لدى ابن سينا إذ يقول: “المكان ليس بجسم ولا مطابقا للجسم، بل محيطا به، بمعنى أنه منطبق على نهايته انطباقا أوليا”(12).

إذا كانت حركة الأجسام الطبيعية لا سيما التي تتحرك حركة نقلة تقتضي وجود المكان، فهناك إشكال يثار بصدد مكان الجسم المساوي الذي يتحرك حركة دورية، مفاده: ما هو مكان الجسم السماوي؟ كيف يمكن أن يتحرك، خاصة إذا علمنا أن من ضرورة وجود الحركة المكان؟

يورد ابن رشد حلا لهذا الإشكال مؤداه أن حركة الجسم السماوي حركة دورية، ومن ثم فهو يحتاج إلى مركز ثابت عليه يتحرك، وأن علاقته بالمكان بالعرض لا بالذات، وهذا ما يذهب إليه أرسطو نفسه خلافا للفارابي وابن باجة اللذين يعتقدان أن الكرة في مكان بالذات، ومثل هذا القول يلزم أن المحيط في المحاط به في مكان بالذات وذلك مستحيل. أما ابن سينا فيرى أن الحركة الدورية ليست في مكان أصلا لا بالذات ولا بالعرض، وإنما هي في الوضع. إلا أن أبا الوليد يرى أن الشيخ الرئيس إن أراد القول بأن الحركة تنتقل من وضع إلى وضع من غير أن تبدل المكان بجملتها فهو قول صحيح. أما إذا أراد القول بأن حركة الكرة في الوضع نفسه وهذا هو الراجح من كلامه، فليس بصحيح، لأن الوضع ليس فيه حركة أصلا بدليل أن الوضع لا يتقوم بذاته بل بالمكان(13). كما يرى فيلسوف قرطبة ومراكش أن الجرم السماوي الذي يتحرك حركة مستديرة لا يمكنه أن يتحرك لا حركة إلى الوسط (إلى أسفل) ولا حركة من الوسط (إلى أعلى) لا بالذات ولا بالعرض لسبب بسيط هو أنه ليس بثقيل ولا بخفيف(14).

مما تقدم ذكره نستنتج أن الحديث عن المكان لا يتأتى إلا في علاقته ببعض المفاهيم المتاخمة له من قبيل: الحركة، الاتصال، الزمان…باعتبارها من المفاهيم المؤسسة للعلم الطبيعي، إذ لا وجود لمفهوم بسيط ومنعزل، فلكل مفهوم علاقة تجاور بمفاهيم أخرى بها يتحدد، كما يذهب إلى ذلك كل من ج. دولوز وف. جاتاري في كتابهما “ما الفلسفة”؟(*)

المكان والحركة:

●●●●●●●●●●●●●●●●●

من أهم الحجج التي يعتمدها مثبتو المكان وجود حركة النقلة، إذ لولاها لما وجد مكان، ذلك أن الحركة هي التي قادت إلى البحث في أمر المكان، فالنظر في المكان يستوجب النظر في الحركة ما دامت تدخل في حد المكان كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فالمكان إذن لا يتوقم بذاته، بل بالحركة، كما أن الحركة ليست جوهرا قائما بذاته، إذ لا يمكن تصورها من غير مكان، لأن كل حركة هي حركة لجسم ما، والجسم لا يكون إلا في مكان. فإذا كان الأمر كذلك فإننا نتساءل: هل المكان من طبيعة الكم المنفصل أم المتصل؟

المكان والاتصال:

●●●●●●●●●●●●●●●●●

يقدم ابن رشد تعريفا للكم المتصل في كتابه “تلخيص كتاب المقولات” مفاده أنه هو الذي يمكن أن يوجد له حد مشترك يربط بين أجزائه. فالحد المشترك إذن للخط هو النقطة، وللبسيط (السطح) هو الخط، وللجسم هو البسيط، وللزمان هو الآن، ما دام الآن هو نهاية الماضي وبداية المستقبل(15). إلا أن الإشكال يطرح بصدد مفهوم المكان، الأمر الذي يدعونا إلى التساؤل: هل للمكان أجزاء؟ وما الحد المشترك الذي يربط بين أجزائه؟ كيف إذن يحل ابن رشد هذه المعضلة؟

يبرهن فيلسوف قرطبة على أن للمكان أجزاء، وبالتالي فهو من طبيعة الكم المتصل، إذ يرى أن المكان يشغله الجسم، وأن للجسم أجزاء هو البسيط، فإذن للمكان أجزاء، ومن ثم، فإن له حدا مشتركا يربط بين أجزائه، ومن كان بهذه الصفة فهو من الكم المتصل، أما البرهان الثاني فيمكن أن نصوغه في الشكل التالي: الكم المتصل له أجزاء، المكان له أجزاء، إذن المكان كم متصل.

نلخص مما تقدم قوله إلى أن المكان من الكم المتصل الذي له أجزاء لها وضع، أي موجودة معا بخلاف الزمان الذي ليس من الكم المتصل ذي الوضع، لأن أجزاء الزمان التي هي الماضي والآن والمستقبل لا توجد معا. وهذا ما نلمسه في تعريف ابن باجة للمكان إذ يقول في هذا السياق: “المكان كله متصل متشابه الأجزاء وقوامه بالحركة”(16). إلا أن السؤال المطروح هو: ما الدافع بابن رشد وغيره من فلاسفة الإسلام إلى إثبات أن المكان من طبيعة الكم المتصل؟

إن دفاع ابن رشد على أن المكان من الكم المتصل يعارض من خلاله أطروحة الانفصال التي تعتقد أن المكان عبارة عن نقط متناثرة خاصة أصحاب المذهب الأشعري اعتمادا على نظرية “الجزء الذي لا يتجزأ” أو ما يسمى “بالجواهر الفردة” لنفي كل علة طبيعية وترك المجال للعلة الميتافيزيقية هي سبب الحركة.

المكان ولزمان:

●●●●●●●●●●●●●●●●●

يعد الزمان أيضا من المفاهيم المتاخمة لمفهوم المكان، إذ لا يمكن الحديث عن المكان إلا في علاقته بالزمان، ما دام الزمان يشبه الحركة لا سيما منها حركة النقلة التي هي أشرف الحركات على الإطلاق، وذلك أن أجزاء الحركة بعضها قد تفسد وبعضها قد تكون كالحال في الزمان، وبالتالي، فإننا متى لم نشعر بالحركة لم نشعر بالزمان، خصوصا إذا علمنا أن الزمان يدخل في حد الحركة ومقايس لها بالذات لا بالعرض.

في خاتمة هذا المقال يمكن القول بأن نظرة أبي الوليد بن رشد للمكان نظرة طبيعية محضة تعكس تطور علوم الحكمة الطبيعية في الغرب الإسلامي. هذا التطور الذي دشنه فيلسوف سرقسطة أبو بكر الصائغ (ابن باجة) من خلال شروحه الطبيعية التي تعد مرحلة النضج الفكري تجاوز فيها ابن باجة حدود النظر المنطقي والتعاليمي وتفرغ للمتن الأرسطي المشائي(17). كما يمكن أن نعتبر تجربة ابن رشد لحظة تجمع كل التجارب السابقة عليه فارابية كانت أو سنيوية أو باجوية.

•●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

الهوامش

1 – أرسطو طاليس، الطبيعة، ترجمة إسحاق بن حنين، تحقيق عبد الرحمن بدوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1984، الجزء الأول: “فمن البين أن في العلم بأمر الطبيعة أيضا قد ينبغي أن نلتمس أولا فيه تلخيص أمور مبادئها” ص 1.

2 – أرسطو، ن.م. “الطبيعة مبدأ وسبب لأن يتحرك ويسكن الشيء الذي هي فيه أولا بالذات لا بطريق العرض” ص 79. ويقول أيضا “الطبيعة مبدأ للحركة والوقوف والتغير”، ص 165.

3 – أرسطو، ن.م. “وقد يجب ضرورة أن يكون المبدأ إما واحد، وإما أكثر من واحد. وإن كان واحدا فإما أن يكون غير متحرك على مثال ما قاله برمنيدس ومالسس، وإما أن يكون متحركا على ما قاله الطبيعيون… وإن كانت المبادئ أكثر من واحد: فإما أن تكون متناهية، وإما أن تكون غير متناهية” ص 5.

4 – ابن رشد، جوامع السماع الطبيعي، تحقيق جوزيف بويج، مدريد، 1983 “أما أن المكان شيء موجود فذلك بين بنفسه، فإنه يظهر أن ههنا محمولات ذاتية لا تليق إلا بالموجود، كقولنا أن المكان منه فوق ومنه أسفل، وأنه الذي إليه تنتقل الأجسام بالطبع وتسكن فيه، وأنه يحيط بالمتمكن، وأنه يفارق المتمكن، وأنه لا أعظم ولا أصغر من المتمكن”، ص 47.

5 – ابن رشد، ن.م. “أما القسم الأول (يقصد المكان هو الهيولى)، وهو أن يكون الشيء كالصورة في الهيولى، فيكون المكان على هذا هيولى، فامتناع ذلك بين بنفسه، وإلا كانت النقلة كونا وفسادا، وكذلك الحال في القسم الثاني”. (يقصد المكان هو الصورة) ص 50.

6 – ابن باجة، “شرح السماع الطبيعي لأرسطوطاليس”، تحقيق ماجد فخري، دار النهار للنشر، بيروت، 1973، ص 46.

7 – ابن سينا، الشفاء، السماع الطبيعي، تحقيق سعيد زايد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983، ص 118.

10 – ابن باجة، ن.م “والذي يثبت الخلاء فيجعله سببا للحركة، وهو مع التأمل لو كان، سبب لبطلانها، وذلك أن الذي منه فوق يحرك شيئا، والذي منه أسفل يحرك ذلك بعينه، فيلزم أن يقف الشيء بين الحركتين” ص 48.

14 – ابن رشد، تلخيص السماء والعالم، تحقيق جمال الدين العلوي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، ط 1، 1984. “وكان الجسم المستدير قد تبين من أمره أنه لا يمكن أن يتحرك إلى الوسط ولا من الوسط حركة طبيعية ولا عرضية”، ص 84.

(*) انظر كتاب “ما الفلسفة؟” لجيل دولوز وفيليكس جاتاري، منشورات مينري، باريس، 1991، ص 8.

15 – ابن رشد، تلخيص كتاب المقولات، تحقيق موريس بويج، دار المشرق، بيروت، ط 2، 1983. “وأما الخط والبسيط والجسم والزمان والمكان فمن المتصل، لأن كل واحد منها يمكن أن يوجد له حد مشترك يصل بعض أجزائه ببعض. وهذا الحد أما في الخط فهو النقطة وأما في البسيط فالخط وأما في الجسم فالبسيط وأما في الزمن فالآن، وذلك أن بالنقطة تتصل أجزاء الخط وبالخط تتصل أجزاء السطح وبالسطح تتصل أجزاء الجسم وبالآن تتصل جزءا الزمان الذي هو الماضي والمستقبل”، ص 39-40.

17 – محمد ألوزاد، الديناميكا في شروح السماع الطبيعي لابن باجة السرقسطي، استدراك على مقال سالمون بنيس S. Pines، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية ااا، المحمدية، ص 23.

إشكالية قدم العالم وحدوثه بين ابن رشد وكانط

تتناول هذه الدراسة بالمقارنة موقف كل من ابن رشد (1126-1198) وكانط (1724-1804) من إشكالية قدم العالم وحدوثه. لقد كانت هذه الإشكالية محورية في الفكر الإسلامي، ومحل نزاع بين المتكلمين والفلاسفة. أثبت الفارابي وابن سينا قدم العالم بالضد على المتكلمين، معتزلة وأشاعرة وغيرهم، وكفرهما الغزالي في كتابه الشهير “تهافت الفلاسفة”؛ وعاد ابن رشد للدفاع عن الفلسفة وتبنى نظرية قدم العالم وقدم لها براهين جديدة خالف بها الفارابي وابن سينا، وأعاد صياغة النظرة الأرسطية للعالم بوجهة نظر إسلامية، وذهب إلى أن إثبات وجود الله لا يتأتي من دليل الحدوث الكلامي الجدلي بل من دليل القدم البرهاني الفلسفي.
وعلى الجانب الآخر نجد أن إشكالية القدم والحدوث كانت لا تزال تشغل الفكر الأوروبي الحديث، وخاصة كانط في كتابه “نقد العقل الخالص”. أراد كانط من كتابه تقديم نقد للميتافيزيقا التقليدية، عن طريق توضيح أنها علم غير مشروع، بسبب أنها تمثل توسيعاً لتصورات ملكة الفهم البشري إلى ما يتجاوز كل خبرة تجريبية. وإشكالية القدم والحدوث بالنسبة لكانط هي نقيضة Antinomy يقع فيها العقل الخالص؛ إذ أن أدلة القدم وأدلة الحدوث متساوية في القيمة. ولا يستطيع العقل الخالص الفصل في هذه الإشكالية ويظل متناقضاً مع نفسه إزاءها. وانتهى كانط إلى عدم قدرة العقل البشري على ترجيح أحد المتناقضين.
يشترك ابن رشد وكانط إذن في البحث في إشكالية واحدة. دافع ابن رشد عن القدم ، أما كانط فرفض الفصل في الإشكالية وقام بالتوقف عن الحكم ورفع النقيضين معاً. والهدف من هذه الدراسة توضيح أن خيار القدم لدى ابن رشد أكثر اتساقاً ومعقولية من رفض كانط للإشكالية برمتها، وذلك بإثبات أن كانط لم يكن محقاً في تخليه عن الفصل في الإشكالية، وأنه وضعها في صورة مبسطة للغاية سهلت عليه التخلي عنها، في حين أن تناول ابن رشد للإشكالية كان أكثر شمولاً وتنوعاً واتساقاً، وحله كان أكثر معقولية.
أولاً – الخلفية الأرسطية للمشروع النقدي الرشدي والكانطي:
نحاول في هذه الدراسة عقد مقارنة بين المشروعين النقديين لابن رشد ولكانط، مركزين على إشكالية مركزية وهامة عالجها كل منهما بطريقته الخاصة وحسب مذهبه الفلسفي، وهي إشكالية قدم العالم وحدوثه. اشتهر كانط بنقده للميتافيزيقا في عمله الأساسي “نقد العقل الخالص”. وضع كانط هذا النقد تحت عنوان “الجدل الترانسندنتالي” Transcendental Dialectic،( ) وقصد به التناقضات التي يقع فيها العقل الخالص في مجال الميتافيزيقا من جراء توسيع تصورات ملكة الفهم خارج مجال الخبرة التجريبية، سعياً إلى اللامشروط. ينقد كانط كل الميتافيزيقات التقليدية على اعتبار أنها دوجماطيقية، أي تقوم بتوكيدات أنطولوجية بطريقة غير مبررة إبستيمولوجياً. والميتافيزيقا الوحيدة التي يقبلها كانط هي ميتافيزيقا الأخلاق،( ) لأنه لا خوف منها إذ أن توكيداتها الميتافيزيقية تكون في صالح العقل العملي الأخلاقي.
وكذلك كان ابن رشد صاحب مشروع نقدي تمثل في مؤلفاته الثلاثة الهامة: “فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال”، و”الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة”، و”تهافت التهافت”. فقد نقد علم الكلام باعتباره طريقة في التفكير والمحاجة، وبالأخص علم الكلام الأشعري وعلى رأسه الغزالي أهم ممثل له( )؛ لكنه أيضاً لا يرفض كل الميتافيزيقا، إنه يرفض الميتافيزيقا الكلامية فقط، وبالأخص الأشعرية منها، تلك الميتافيزيقا التي تثبت وجود الله وخلود النفس وحدوث العالم من منطلق مقدمات كلامية وباستخدام حجج وأدلة جدلية وخطابية وسوفسطائية، ويدافع عن تصور آخر للكون يعد تطويراً للتصور الأرسطي( ). ويشترك ابن رشد وكانط في البحث في المسائل الثلاث الرئيسية للميتافيزيقا: الله والعالم والنفس. فما هي النتائج التي يمكن أن نتوصل إليها عندما نضع المشروعين النقديين الرشدي والكانطي أمام بعضهما البعض على ما فيهما من اشتراك في المسائل؟ هذا ما سوف نحاول اكتشافه فيما يلي.

أول ما نلاحظه من اتفاق بينهما هو أنهما يعتمدان على خلفية أرسطية وهي المتمثلة في منظومة أرسطو المنطقية، حيث يستفيدان منها في النقد الميتافيزيقي. وثاني أوجه الاتفاق يتمثل في طريقة النقد نفسها والتي تمثلت في نقد ابن رشد لقياس الغائب على الشاهد، وفي نقد شبيه به للغاية لدى كانط وإن لم يستخدم تعبير “نقد قياس الغائب على الشاهد”، بل استخدم تعبيرات أخرى ومارس النقد بطريقة مطابقة لهذا النوع من النقد الرشدي، وهو المعروف بنقد الانتقال من المشروط إلى اللامشروط، أو من سلسلة شروط معطاة إلى لامشروط غير معطى. لنبدأ أولاً بتناول الخلفية الأرسطية، ثم سيأتي الحديث عن نقد قياس الغائب على الشاهد تباعاً.
نقصد بالخلفية الأرسطية منطق أرسطو لا فلسفة أرسطو الطبيعية والميتافيزيقية، فالإثنان استفادا من المنطق الأرسطي كأداة للنقد. أسس كانط نظريته في المعرفة ونقده للميتافيزيقا بالتوازي مع، وعلى أساس نموذج، المنطق الأرسطي، الذي أطلق عليه “المنطق العام”. فمثلما ينقسم المنطق الأرسطي إلى تصورات وأحكام واستدلالات، انقسم المنطق الترانسندنتالي الكانطي Transcendental Logic إلى نفس هذه الأقسام( ). التصورات هي المقولات القبلية، والأحكام هي مبادئ التركيب القبلية بين الحدوس والتصورات، بما أن الحكم يتكون من موضوع ومحمول، فالموضوع في المنطق الكانطي هو الحدس الحسي والمحمول هو التصور القبلي؛ أما مبحث الاستدلالات عند كانط فيظهر في نقده للاستدلالات الميتافيزيقية- الترانسندنتالية للعقل الخالص، وهي الاستدلالات المغالطة Paralogisms لعلم النفس العقلي، والاستدلالات المتناقضة Antinomies للكوزمولوجيا العقلية، والاستدلالات الزائفة لللاهوت العقلي. وكما يحتوي المنطق الأرسطي على الجدل، يحتوي المنطق الكانطي على “الجدل الترانسندنتالي” وهو الذي ينقد فيه علوم الميتافيزيقا الثلاثة.
واعتمد ابن رشد كذلك على المنطق الأرسطي في نقده لعلم الكلام، إذ تبنى المنظومة المنطقية الأرسطية وتمييزها في الأقوال الإقناعية بين البرهان والجدل والخطابة والسفسطة( ). البرهان عند ابن رشد هو خطاب الفلسفة ويعتمد على مبادئ العقول وأوليات الوجود ويوصل إلى اليقين. أما الجدل فهو استدلال يبدو أنه برهاني إلا أنه يعتمد على المشهور لا على اليقيني، والخطابة تقنع باستثارة العاطفة الأخلاقية عند المتلقي، أما السفسطة فهي لا تهدف الإقناع ولا الوصول إلى الحقيقة بل إلى بلبلة الخصم وبث الفوضى والشك في حججه. والخطاب الكلامي في نقد ابن رشد له ليس خطاباً برهانياً لأنه يعتمد على المشهور وعلى مغالطة الاشتراك في الاسم مما يجعله جدلياً، وفي بعض الأحيان يصير خطابياً بل وسوفسطائياً، كما أثبت ابن رشد في نقده للغزالي في “تهافت التهافت” رداً على “تهافت الفلاسفة”.
وظَّف كل من ابن رشد وكانط المنطق الأرسطي في النقد الميتافيزيقي؛ وظَّفه ابن رشد في حل النزاع بين المتكلمين والفلاسفة، أو بين الخطاب الكلامي الجدلي والخطاب الفلسفي البرهاني؛ واستخدمه كانط في حل نزاع العقل الخالص مع نفسه والذي يظهر في صورة أغاليط ونقائض وأوهام يقع فيها في سعيه الميتافيزيقي. والاثنان يواجهان التناقض بين قدم العالم وحدوثه، فهو تناقض زائف عندهما ويمكن حله. لكن في حين يحل كانط التناقض بالتخلي عن الفصل فيها منكراً قدرة العقل على اختيار أو ترجيح أحد طرفي التناقض، يحل ابن رشد التناقض بأن يتوسط بين النقيضين ويقدم حله الشهير وهو نظريته في أن العالم قديم ومحدث في الوقت نفسه.

فما يشترك فيه ابن رشد وكانط حتى الآن هو:
1.البحث في إشكالية واحدة هي القدم والحدوث.
2.نقد الميتافيزيقا، الكلامية في حالة ابن رشد، والدوجماطيقية في حالة كانط، بتوظيف المنطق الأرسطي.
3.توضيح أن التناقض بين القدم والحدوث هو تناقض زائف وأنه يجب التخلي عن البديلين معاً. والفرق هو في الحل الذي قدمه ابن رشد بعد التخلي عن البديلين، في حين أن كانط لم يحسم الأمر.
وعلى الرغم من أن الاثنين يوظفان المنظومة الأرسطية في نقدهما للنزاعات الميتافيزيقية، فإن هناك اختلافاً جوهريا بينهما في هذا الشأن. ففي حين استخدم ابن رشد المنظومة المنطقية الأرسطية كما هي دون تعديل كبير عليها( )، أجرى كانط تعديلات جوهرية على مبحث الجدل الأرسطي بناء على نظريته في المعرفة، وحوله من مجرد معيار لاكتشاف الخطأ في الاستدلال الصوري إلى معيار للحكم على مضمون التفكير الميتافيزيقي نفسه( ). لكن الشئ المشترك بين منطق النقد الكانطي ومنطق النقد الرشدي أن الاثنين يعتمدان على المحسوسات وأوائل العقول كمعيار يقيسان به تعارض المذاهب الميتافيزيقية. فلدى كل واحد منهما لجوء إلى الحس والعقل معاً، أو الحدس الحسي والتصور العقلي بالتعبير الكانطي. الحس والتصور العقلي عند ابن رشد أرسطيان تماماً، لكنهما عند كانط يستندان على نظريته هو في المعرفة والتي يكون التصور العقلي فيها قبلياً.
لم ينشئ ابن رشد نظرية في المعرفة مستقلة عن أرسطو، بل أخذ نظرية المعرفة الأرسطية كما هي لكنه طور استخدامها ووظفها في نقد علم الكلام، والأشعري منه على وجه الخصوص. أما نظرية المعرفة عند كانط فلا نستطيع أن نقول عنها إنها أرسطية تماماً، إلا أن بها ملامح أرسطية لا يمكن إنكارها( ). فالمعرفة عند كانط هي اتحاد من مادة وصورة، المادة توفرها الحدوس الحسية والصورة هي التصورات العقلية القبلية، والتلاحم بينهما هو مثل التلاحم الأرسطي من المادة والصورة، أي أنه لا يمكن فصله، فقد أصر كانط دائماً على أن الحدوس الحسية بدون تصورات عمياء، والتصورات بدون حدوس حسية فارغة. كما يعالج كانط المعرفة من منطلق الملكات والقدرات العقلية، والملكة والقدرة من المصطلحات الأرسطية الشهيرة في وصف أفعال النفس في الإدراك والتصور( ). بل إن تقسيم كانط للملكات المعرفية إلى ملكة الحس Sinnlichkeit/Sensibility وملكة الفهم Verstand/Understanding وملكة العقل Vernunft/Reason يناظر التقسيم الأرسطي لقوى النفس المعرفية إلى العقل الهيولاني الذي يقابل ملكة الحس، والعقل المستفاد الذي يقابل ملكة الفهم، والعقل الفعال الذي يقابل العقل الخالص. هذا مع العلم بأن قوى النفس الأرسطية يختلط فيها الطبيعي بالسيكولوجي والميتافيزيقي، في حين أن القوى المعرفية عند كانط إبستيمولوجية وحسب. لكن التشابه بينهما لا يزال قائما على الرغم من ذلك.
نرى مما سبق كيف أن المشروع النقدي الرشدي يعتمد على المنظومة المنطقية الأرسطية، وأن المشروع النقدي الكانطي يعتمد على منظومة منطقية شبه أرسطية، تستوحي منطق أرسطو وتبني عليه لكنها لا تتجاوزه أبداً.

ثانياً – كانط والنقيضة الكوزمولوجية الأولى حول الحدوث والقدم:

¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤

نقد كانط علوم الميتافيزيقا الثلاثة التي تبحث في النفس والعالم والإله. فعلم النفس العقلي يبحث في النفس من حيث جوهريتها وبساطتها وروحيتها وخلودها، وعلم الكوزمولوجيا العقلية يبحث في العالم من حيث أصله وكمه وتركيبه وعلته، وعلم اللاهوت العقلي يثبت وجود كائن ضروري بإطلاق، ببراهين أنطولوجية وكوزمولوجية. وما يهمنا تناوله هو نقده لعلم الكوزمولوجيا العقلية، لأنه هو ما تظهر فيه معالجة كانط لإشكالية قدم العالم وحدوثه، والتي هي محل المقارنة مع ابن رشد.
تسعى الكوزمولوجيا العقلية، في وصف كانط لها، إلى تكوين معرفة شاملة ونهائية بالعالم من حيث طبيعته وتكوينه وأصله؛ إذ تريد الوصول إلى التمام المطلق في معرفتنا بالعالم في كليته. وبذلك فهي تبحث في كَمِّه من حيث ما إذا كانت له حدود نهائية أم لا؛ ومن حيث الكيف فهي تبحث في تكوينه وما إذا كان مركباً من أجزاء بسيطة أم أن كل ما فيه معقد ولا يمكن أن ينحل إلى البسيط؛ ومن حيث السببية فهي تبحث فيما إذا كان كل ما فيه يسير حسب الضرورة والحتمية أم أن فيه علة تفعل بحرية؛ ومن حيث علته فهي تبحث فيما إذا كان مسيراً ذاته بذاته أم أنه معلول لكائن ضروري بإطلاق Absolutely Necessary Being ( ).
الكوزمولوجيا العقلية إذن تسعى نحو اللامشروط Unconditioned عن طريق التمام المطلق للشروط Absolute Completeness of Conditions. وحجتها في ذلك تراجعية، لأنها تنتقل من بعض الشروط المعطاة إلى الحكم على العالم في كليته وهو غير معطى للخبرة التجريبية باعتباره كذلك ، وتسعى نحو لامشروط غير معطى، لأن اللامشروط لا يخضع بطبيعته للحدس الحسي ولا للخبرة التجريبية( )؛ ناهيك عن أن كلية الشروط ذاتها غير معطاة، فالخبرة البشرية لا تحيط بالأسباب كلها. ولا يمكن أن نفهم كون كلية الشروط غير معطاة للخبرة وكون اللامشروط نفسه غير معطى إلا بالمقارنة بين كانط وابن رشد، ذلك لأن كانط بذلك يمارس نوعاً من نقد قياس الغائب على الشاهد الذي سبق لابن رشد استخدامه في نقد علم الكلام وخاصة نقد دليل الحدوث الكلامي في إثبات وجود الله، ذلك لأن كلية الشروط واللامشروط هما في حكم الغائب عند كانط، ولا يمكن الحكم على الغائب (اللامشروط) بالقياس على الشاهد (الشروط المعطاة للخبرة التجريبية).
ويتمثل نقد كانط لعلم الكوزمولوجيا العقلية في توضيح أن هذا العلم يقع في نقائض، والنقيضة تتمثل في قضيتين متعارضتين تنفي كل واحدة منهما ما تثبته الأخرى، وهما يستندان على استدلالين مختلفين لكل منهما وجاهته المنطقية وقوته الإقناعية. والنقيضة عند كانط هي ما لا نتمكن معها من ترجيح أحد الاستدلالين( ). والحل الذي يقدمه كانط هو في التخلي عنهما معاً، أي في توضيح تجاوزهما لقدرات العقل البشري، ذلك لأنهما نتاج سعي العقل الخالص في استعماله التأملي الميتافيزيقي نحو تجاوز نطاق الخبرة التجريبية والتفكير فيما لا يمكن أن يكون موضوعاً للتجربة. والنقائض أربع، تتكون كل واحدة منها من قضية ونقيض:

1.القضية: للعالم بداية في الزمان، كما أنه محدود في المكان (محدث).

نقيض القضية: ليس للعالم بداية وليس له حد في المكان، وهو لامتناه بالنظر إلى الزمان والمكان (قديم)( ).
2.القضية: كل جوهر مركب في العالم مكون من أجزاء بسيطة، ولا يوجد شئ إلا البسيط أو المركب من البسيط.
نقيض القضية: لا شئ مركب في العالم مكون من أجزاء بسيطة، ولا يوجد أي شئ بسيط في العالم( ).
3.القضية: ليست السببية وفق قوانين الطبيعة هي السببية الوحيدة التي ترجع إليها ظاهرات العالم. ولتفسير هذه الظاهرات يجب افتراض سببية أخرى من الحرية.
نقيض القضية: ليست هناك حرية؛ وكل شئ في العالم يحدث وفق قوانين الطبيعة وحسب( ).
4.القضية: ينتمي إلى العالم كائن ضروري بإطلاق، سواء كان جزءاً منه أو علة له.
نقيض القضية: لا يوجد كائن ضروري بإطلاق في العالم، ولا خارجه باعتباره علة له( ).
ومن الواضح أن النقيضة الأولى تمثل التعارض بين حدوث العالم وقدمه. وهذه هي الإشكالية التقليدية والمحورية التي كانت محل نزاع بين المتكلمين والفلاسفة في الإسلام؛ كفَّر الغزالي من أجلها الفلاسفة في “تهافت الفلاسفة” وعاد ابن رشد للدفاع، لا عن الفارابي وابن سينا، بل عن الفلسفة ذاتها، في “تهافت التهافت”. والنقيضة الثانية ظهرت في مشكلة نظرية الجوهر الفرد ودفاع الأشاعرة عنها ونقد الفارابي وابن سينا وابن رشد لها؛ والنقيضة الثالثة هي المشكلة التقليدية حول الحرية والحتمية، وتوازي الإشكاليات الإسلامية حول السببية وخرق العادة والإرادة الإلهية والإنسانية وموقعهما من قوانين الطبيعة؛ والنقيضة الرابعة هي مسألة وجود أو عدم وجود إله.
يمكن أن تكون النقائض الكوزمولوجية الأربع إذن محل دراسة مقارنة شاملة بين كانط من جهة وفلاسفة الإسلام من جهة أخرى. لكن علينا أن نركز في هذه الدراسة على الإشكالية الأساسية والمحورية وهي إشكالية القدم والحدوث، لأنها هي ما تلتف حولها بقية الإشكاليات. ما الذي يمكن أن نتوصل إليه عندما نقرأ نقد كانط للنقيضة الكوزمولوجية في الحدوث والقدم على خلفية مناقشة ابن رشد لنفس هذه الإشكالية في كتبه الثلاثة الرئيسية؟ إن كانط يوضح أن العقل البشري لا يستطيع الفصل في هذه الإشكالية واختيار أحد النقيضين لأنها تتجاوز قدراته المعرفية، أما ابن رشد فيدافع عن القدم ضد هجوم الغزالي عليه، ويثبت للعالم وضعاً وسيطاً بين القدم المطلق والحدوث المطلق، وينقد البرهنة الكلامية على وجود الله من دليل حدوث العالم ويذهب إلى أن البرهان الأفضل هو برهان القدم. هذه هي الملامح العامة للحل النهائي الكانطي والرشدي.
ولكن قبل المقارنة المفصلة بينهما يجب علينا التعرف على كيفية عرض كانط لإشكالية الحدوث والقدم، والتي لا يسميها بهذا الاسم بالطبع، بل يطلق عليها “التناهي واللاتناهي”.
تقول القضية إن العالم متناه في الزمان والمكان، أي محدث، ويقول نقيض القضية إن العالم لامتناه في الزمان والمكان، أي قديم. ويوضح كانط ما تتصف به القضية ونقيض القضية من معقولية، مما يثبت تساوي الأدلة التي في صالح الحدوث والأدلة التي في صالح القدم في الوقت نفسه. وهو يبدأ بالأدلة التي في صالح تناهي العالم. فإذا افترضنا أن العالم بدون بداية في الزمان فإن هذا يعني أن كل حادثة فيه قد سبقتها حوادث أخرى لانهاية لها، ولا يمكن أن تأتي حادثة من سلسلة لامتناهية من الحوادث. فكي نثبت ظهور حادثة يجب علينا افتراض بداية أولى للزمان. أما فيما يخص المكان فإذا افترضناه كلاً لامتناهياً فلا معنى لوجود الأمكنة الجزئية، لأن المكان الجزئي ما هو إلا تركيب لبعض خصائص المكان الواحد الكلي، أي اللامتناهي. واللامتناهي لا يمكن أن يُخصَّص أو يُجزأ، وبالتالي فلا يمكن انقسام المكان اللامتناهي، لأن المنقسم هو المتناهي وحده. وبما أن هناك أمكنة جزئية، وبما أنه من الممكن أن ينقسم المكان، فيجب علينا القول بتناهي المكان( ).
أما نقيض القضية فهو يثبت لاتناهي العالم من حيث الزمان والمكان ببراهين لا تقل قوة ولا إقناعاً عن براهين التناهي. فإذا افترضنا أن للعالم بداية، وبما أن كل بداية تفترض زماناً خالياً سبقها، فمعنى هذا أننا نفترض زماناً سابقاً على وجود العالم كان خالياً منه. لكن لا يمكن ظهور شئ من زمان خالٍ، لأن الزمان الخالي لا يمتلك شرطاً يميز وجود أو عدم وجود العالم، أي ليس به مرجح للوجود على العدم بالتعبير الإسلامي. وإذا افترضنا فيما يخص المكان أن العالم متناه ومحدود من حيث الكم الممتد، فمعنى هذا أن العالم يقع في مكان خالٍ، وهذا مستحيل إذ ينطوي على القول بأن للعالم صلة بمكان خالٍ، أي باللاشئ. فلا يبقى إلا القول بأن العالم لامتناه من حيث الامتداد( ).
وينقد كانط نقيضة القدم والحدوث عن طريق نظريته في المعرفة بذهابه إلى أن المكان والزمان ليسا موضوعين للمعرفة حتى يمكن أن نفكر في تناهيهما أو لاتناهيهما، ذلك لأنهما مجرد شكلان لحدسنا، أي تمثلان قبليان في العقل البشري يجعلان المعرفة ممكنة. وأخذ الشرط الذاتي للمعرفة على أنه موضوع للمعرفة غير مشروع لدى كانط. هذا بالإضافة إلى أن كل ما نعرفه من العالم هو الظاهر، والمكان والزمان هما الشرطان الذاتيان اللذان تُعطى لنا عن طريقهما الموضوعات في عالم الظاهر، وبالتالي فالعلاقات المكانية والزمانية بين الأشياء هي عالم الظاهر الذي يبدو لنا حسب الشروط الذاتية لمعرفتنا، أما الأشياء في ذاتها فلا يمكننا معرفتها وليس لدينا من سبيل للوصول إليها انطلاقاً من شروطنا المعرفية الذاتية( )؛ فالبحث في طبيعة المكان والزمان هو بحث غير مشروع لما هو مجرد شرط ذاتي للمعرفة وتوسيعه بالنظر إليه على أنه يوجد قائماً بذاته، أي أخذهما على أنهما شيئان في ذاتيهما والنظر إليهما على أنهما الطريقة التي تترتب بها الأشياء في ذاتها لا مجرد الطريقة التي تعطى لنا بها موضوعات الخبرة بعالم الظاهر.
وهكذا سد كانط الطريق على أية إمكانية لحل إشكالية القدم والحدوث بذهابه إلى أنها تتجاوز قدرة العقل البشري، وهي بحد ذاتها نتيجة للتوسيع غير المشروع لما هو مجرد شرط ذاتي للمعرفة البشرية إلى اعتباره قائماً بذاته. يتمثل جوهر النقد الكانطي للميتافيزيقا إذن في تقييد المعرفة بالمجال الإبستيمولوجي وحده وبيان عدم مشروعية الانتقال مما هو إبستيمولوجي إلى ما هو أنطولوجي، أو أخذ الشروط الذاتية للمعرفة البشرية على أنها شروط موضوعية للوجود الأنطولوجي للأشياء في ذاتها. والحقيقة أن هذا النقد هو صورة جديدة من صور نقد قياس الغائب على الشاهد والذي سبق لابن رشد استخدامه. فالغائب هو الأنطولوجي، أو عالم الأشياء في ذاتها، والذي لا يمكننا أن نقيسه على الشاهد، أو الإبستيمولوجي الخاص بعالم الظاهر، أي عالم الخبرة التجريبية. وسوف نتناول بالتفصيل علاقة النقد الكانطي بنقد ابن رشد لقياس الغائب على الشاهد. أما عن قول كانط بعدم مشروعية الفصل والاختيار بين القدم والحدوث على أساس أنها إشكالية تتعدى قدرات المعرفة البشرية فلنا عليه رد ومن داخل نظرية كانط في المعرفة، وسوف يأتي تباعاً؛ لأن كانط الذي رفض لاتناهي العالم أنطولوجياً في “الجدل الترانسندنتالي” كان قد سبق وأن أثبته إبستيمولوجياً في “الإستطيقا الترانسندنتالية” و”التحليلات الترانسندنتالية”.
ولا ينسى كانط أن يناقش حلاً شبيهاً بحله لإشكالية القدم والحدوث، وهو الحل الذي يرفض الإشكالية ويقول بأن العالم لا هو بالمتناهي ولا هو باللامتناهي في الوقت النفسه. فكانط ينبه القارئ على أنه لا يقول بهذا الرأي، لأن هذا الرأي يصدر حكماً بالفعل على العالم ويؤكد بصدده على طبيعة معينة يثبتها له، في حين أن العالم عند كانط غير معطى باعتباره كلاً في حدس حسي أو في خبرة تجريبية، بل معطى باعتباره كُلاً في التسلسل الترانسندنتالي للأسباب والموجه بفكرة الكل الترانسندنتالية( )، وهذا التسلسل ومعه الفكرة الترانسندنتالية الموجهة له غير مشروع في نظر كانط حسب نظريته في المعرفة.
كان هذا هو كل حديث كانط عن إشكالية قدم العالم وحدوثه. ونفاجأ بأن إشكالية وجود أو عدم وجود كائن ضروري للعالم، وهي مشكلة الألوهية وعلاقتها بالعالم، تشغل النقيضة الرابعة. لقد فصل كانط بين إشكالية العالم وإشكالية الألوهية ووضع كل إشكالية في نقيضة مستقلة عن الأخرى، تتوسطهما نقيضتا العالم بين البساطة والتركيب، وبين الحرية والحتمية. والحقيقة أن هذا الفصل يعد عيباً خطيراً في نظرية كانط في النقائض، وفي كل نقده للميتافيزيقا التقليدية؛ ذلك لأنه لا يمكن مناقشة إشكالية قدم العالم وحدوثه بمعزل عن قدم الإله وإشكالية علاقة الألوهية بالعالم. وعندما نأتي على نظرية ابن رشد في العالم وموقفه من إشكالية القدم والحدوث سنلاحظ مدى التلاحم بين الألوهية والعالم، مما يدل على استحالة الفصل بينهما وخطأ هذا الفصل ابتداء، لكن هذا هو ما فعله كانط. هذا بالإضافة إلى أن النقيضة الرابعة لا تجد أي مشكلة في القول بكائن ضروري داخل العالم أو خارجه؛ إنها تقول : “ينتمي إلى العالم كائن ضروري بإطلاق، سواء كان جزءاً منه أو علة له”، أي علة خارجة عنه. لم يلاحظ كانط أن هذه القضية في حد ذاتها تعبر عن نقيضة، تتمثل في التناقض في القول بكائن ضروري داخل العالم وفي القول بكائن ضروري خارج العالم؛ فهذا التناقض كان بالفعل محل نزاع ميتافيزيقي واسع في تاريخ الفلسفة، وهو المميز للنزاع بين المذاهب التي تقول بالإله المفارق للعالم ومذاهب وحدة الوجود. وسوف نلاحظ في مقارنتنا مع ابن رشد كيف أن الأخير كان على وعي بهذه الإشكالية وقدم لها حلاً مبتكراً، ذلك لأنها تدخل فيما يعرف في الفلسفة الإسلامية بإشكالية صدور الكثرة عن الواحد وإشكالية علم الله للجزئيات.
هذا علاوة على أن عرض كانط للنقائض الكوزمولوجية بالطريقة السابق توضيحها يوحي أن القضية في كل نقيضة تنتمي إلى مذهب واحد، ونقيض القضية في كل نقيضة يمثل المذهب الآخر المضاد، بمعنى أن القضايا الأربع تشكل مذهباً ونقائضها الأربع تشكل مذهباً آخر مضاداً؛ بحيث يكون المذهب القائل بحدوث العالم هو نفسه الذي يقول بتكونه من أجزاء بسيطة وبوجود سببية حرة فيه وبكائن ضروري بإطلاق (وبذلك يكون قريباً للغاية من مذهب الأشاعرة الذين يقولون بالجزء الذي لا يتجزأ، وقد كان في عصر كانط مذهباً شبيهاً به وهو مذهب المونادات عند لايبنتز)، ويكون المذهب المقابل هو الذي يقول بقدم العالم ولاتناهيه من حيث الزمان والمكان وبعدم تكونه من أجزاء بسيطة وبعدم وجود سببية حرة فيه وبعدم وجود كائن ضروري بإطلاق. والواضح أن هذين المذهبين لا يستوعبان كل المذاهب الميتافيزيقة التي عرفها الفكر الإنساني، كما لا يستوعبان كل الخلافات المذهبية التي نشبت بين المذاهب الميتافيزيقية المختلفة. إن التعارض الذي يقيمه كانط في النقائض الكوزمولوجية هو تعارض واحد فقط بين مذهبين وحسب، وهما مذهب الخلق من العدم والمذهب الدهري. المذهب الأول يمثله أفلاطون وأوغسطين وعلماء الكلام المسلمون وكل فلاسفة العصور الوسطى المسيحية، والمذهب الدهري يمثله في عصر كانط بعض الماديين الفرنسيين من أصحاب الموسوعة وبعض أتباع السبينوزية ( ). والحقيقة أن كانط اعتقد خطأً أنه ليس هناك خيار ثالث بين النقائض الكوزمولوجية الأربع، ذلك لأن مذهب ابن رشد نفسه هو الذي قدم خياراً ثالثاً وسيطاً بين القدم المطلق والحدوث المطلق، وبذلك لا يشمله نقد كانط للكوزمولوجيا العقلية ولا يقع في الإحراجات المنطقية التي يقيمها بين القدم والحدوث.

ثالثاً – توسط ابن رشد بين القدم المطلق والحدوث المطلق:

  1. سياقات معالجة ابن رشد للمسألة:

أ. السياق المنطقي:

كان ابن رشد يعلم أن السؤال عن العالم أهو قديم أم محدث هو سؤال جدلي، وذلك كما يتضح في شرحه لكتاب “الجدل” لأرسطو. فالسؤال عن قدم العالم أو حدوثه هو مطلوب جدلي حسب تعبيره. ويقول عنه: “وأما المطلوب الجدلي فهو ما لم يكن معلوماً صدقه بنفسه بحسب المشهور، بل يلحقه شك ما في المشهور..والسبب في الشك الواقع فيها [=في مقدمات القياس الجدلي] إما تضاد الشهادة، وإما عدم الشهادة فيها، وإما تضاد الأقيسة.. وربما كان سبب ذلك عسر وجود القياس عليها.. مثل قولنا: هل العالم محدث أم لا؟… وأما ما تتضاد فيه الأقيسة، فمثل قولنا: هل العالم قديم أو محدث؟”( ). الواضح من النص أن ابن رشد يفصل بين السؤال عن حدوث العالم والسؤال عن الاختيار بين قدمه وحدوثه. والسبب في فصله هذا يرجع إلى أنه قدم نقداً لبراهين المتكلمين على حدوث العالم، وهي مستقلة تماماً عن أدلته هو في القول بقدم وحدوث العالم في الوقت نفسه ( ).
والملاحظ أن ابن رشد يعالج الأسئلة عن قدم العالم وحدوثه على أنها مطالب جدلية، لأن الأقيسة تتضاد فيها. لقد كان كانط على حق إذن عندما عالج إشكالية القدم والحدوث تحت باب “الجدل الترانسندنتالي”( )، وعندما وضع الإشكالية في صورة نقيضة Antinomy، إذ اتضح تضاد الأقيسة الذي يقصده ابن رشد من برهان الحدوث وبرهان القدم اللذان وضعهما كانط في مقابل بعضهما البعض في تقسيمه الشهير للصفحة الواحدة إلى عمودين. لكن يجب علينا الانتباه إلى أن النص السابق هو من شرح ابن رشد لكتاب أرسطو في الجدل، فهو يكتفي فيه بتوضيح أن السؤال عن القدم والحدوث مطلب جدلي لكنه لم يقدم حله لهذا السؤال في شرحه للجدل نفسه، بل في كتبه الأساسية الثلاثة: “فصل المقال” و”الكشف عن مناهج الأدلة” و”تهافت التهافت”. والسبب في ذلك واضح، وهو أن أرسطو لم يكن حاسماً في حله لمسألة القدم والحدوث، مثلما كان في مسألة العقل الفعال واتصاله بالبدن؛ وربما يكون أرسطو قد سكت عن هذه المسألة لكونها مطلباً جدلياً كما يقول، لكن ابن رشد هو الذي تجاوز الصعوبة الجدلية للمسألة بمحاولة حلها. والحقيقة أن المسألة الجدلية لا تحل إلا برفع النقيضين معاً، وهذا ما فعله ابن رشد عندما قام برفع القدم المطلق والحدوث المطلق وقال بأن العالم قديم ومحدث في الوقت نفسه. وهذا أيضاً ما فعله كانط؛ لقد رفع النقيضين معاً، لكن لا بالتوسط بينهما بل برفض الفصل في المسألة أصلاً واعتبارها مما يفوق قدرات العقل البشري، مكرراً بذلك نفس الحل الذي قال به من قبل فلاسفة العصور الوسطى وعلى رأسهم ألبرت الكبير والقديس توماس الأكويني( ). ولذلك فالحل الذي قدمه ابن رشد للمسألة هو حله هو، ولا يعد أبداً نقلاً عن أرسطو، فنظرية التوسط بين القدم والحدوث لم يقل بها أرسطو ولم تظهر في أي من مؤلفاته، بل هي نظرية رشدية أصيلة.
ب. سياق نقد علم الكلام:

رفض ابن رشد نظرية حدوث العالم الكلامية. ومن أسباب رفضه لها أنها:

  1. ليست قائمة على أدلة برهانية يقينية.
  2. لا تستطيع البرهنة الصادقة على وجود الله، لأن البرهنة على أن العالم حادث تنطوي على إشكالية صدور الحادث عن القديم، وإشكالية التناقض بين الإرادة القديمة والفعل الحادث.
  3. تعصف بالثبات والضرورة التي لقوانين الطبيعة وتكرس لمبدأ الاتفاق وتنظر إلى السببية على أنها مجرد عادة، وبالتالي لا تستطيع أن تنظر إلى حكمة الله في خلق العالم وفق ما فيه من ضرورة.
    والحقيقة أن نظرية ابن رشد في أن الطريقة البرهانية اليقينية في إثبات وجود الله هي دليل القدم لا دليل الحدوث يعني أنه يدافع عن النظرة العلمية للكون والتي تنظر إليه على أن قوانينه ضرورية وتحكمه السببية الشاملة. وليس هناك أي تعارض لدى ابن رشد في القول بحتمية وأبدية وأزلية قانون الطبيعة والقول بإله صانع للعالم، لأن قانون الطبيعة عنده هو إرادة الله وحكمته في خلقه، وهو “سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا”. “وينبغي أن تعلم أن من جحد كون الأسباب مؤثرة بإذن الله من مسبباتها، أنه قد أبطل الحكمة وأبطل العلم” على الله وعلى الإنسان معاً “والقول بنفي الأسباب في الشاهد ليس له من سبيل إلى إثبات سبب فاعل في الغائب”( )
    ذهب ابن رشد إلى أن دليل المتكلمين على وجود الله من حدوث العالم ليس يقينياً ولا برهانياً. فهذا الدليل ينبني على ثلاث مقدمات تقول: “الجواهر لا تنفك عن الأعراض أي لا تخلو منها، والثانية أن الأعراض حادثة، والثالثة أن ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث” ( ). وبالتالي فالعالم حادث لأنه لا ينفك عن الحوادث، وبما أن العالم حادث فهو يفتقر إلى محدث له وهو الله.
    وينقد ابن رشد هذا الدليل بذهابه إلى أن القول بأن الجواهر لا تنفك عن الأعراض لا يعني بالضرورة أنها هي ذاتها أعراض، وذلك نظراً لإمكان حدوث أعراض لانهاية لها على الجواهر؛ ويقول في ذلك: “وأما المفهوم الأول.. فليس يلزم عنه حدوث المحل، أعني: الذي لا يخلو من جنس الحوادث. لأنه يمكن أن يتصور المحل الواحد، أعني الجسم، تتعاقب عليه أعراض غير متناهية.. كأنك قلت: حركات لانهاية لها”( ) كما أن الجواهر تنحل، لدى الأشاعرة خاصة، إلى الجزء الذي لا يتجزأ، وانحلالها هذا لا يعني أنها أعراض، لأن التحليل وصل إلى الجزء، أي إلى شئ متقدم في وجوده على الجسم المركب، وهذا لا يعني الحدوث.
    أما المقدمة الثانية القائلة بأن الأعراض حادثة فهي تنطوي على قياس الغائب على الشاهد، أي الانتقال مما هو حاضر أمام الحس من الحادثات إلى الحكم على ما لا يحضر، أي الغائب. ومعنى هذا النقد أن المتكلمين على خطأ في انتقالهم من حدوث الأعراض إلى حدوث العالم كله، لأن الأعراض هي الشاهد الذي لا يصح أن نقيس عليه العالم كله وهو الغائب، ذلك لأن النقلة من حكم الأعراض الجزئية إلى الحكم على العالم في كليته غير صحيح، لأن الأعراض الجزئية ليست من طبيعة العالم الكلي: “فتؤول أدلتهم على حدوث جميع الأعراض إلى قياس الشاهد على الغائب، وهو دليل خطابي إلا من حيث النقلة معروفة بنفسها، وذلك عند التيقن باستواء طبيعة الشاهد والغائب”( ).
    أما المقدمة الثالثة القائلة إن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث فهي جدلية لأنها ترتكب مغالطة الاشتراك في الاسم، فالحادث الذي لا تخلو الجواهر منه ليس هو حدوث العالم، فالحدوث مستخدم بمعنيين مختلفين في كل شق من المقدمة. كما أن عبارة “ما لا يخلو من الحوادث” يمكن أن تعني ما لا يخلو من جنس الحوادث كله وما لا يخلو من واحد منها. لكن ما لا يخلو من جنس الحوادث يمكن ألا يكون حادثاً بل قديماً تمر عليه الحوادث إلى ما لا نهاية( ). وهكذا يثبت ابن رشد أن دليل الحدوث جدلي وخطابي ولا يرقى للبرهان.
  4. التمييز بين القدم المطلق والحدوث المطلق:

القديم بإطلاق عند ابن رشد هو ما ليس له علة ولا يوجد من شئ، أما المحدث بإطلاق فهو ما له علة ووجد من شئ. القديم المطلق هو الله سبحانه، والحادث المطلق هو الأشياء الجزئية أو الأجسام. أما العالم فهو يتوسط القدم المطلق والحدوث المطلق؛ إنه أزلي الحدوث. سبق أن لاحظنا في عرضنا للنقيضة الكوزمولوجية الأولى عند كانط أنه يقيم تعارضاً بين القدم المطلق والحدوث المطلق ويقول بأن العالم إما متناهياً في الزمان والمكان وإما لامتناهياً في الزمان والمكان ولا شئ غير ذلك، أي أنه لم يتعرض أبداً للخيار الوسيط. أما ابن رشد فنجد لديه عرضاً أكثر شمولاً للإشكالية وحلاً وسيطاً مبتكراً لها. ولأن ابن رشد قد ركز عرضه للإشكالية وحله لها في صفحة ونصف من كتابه “فصل المقال” فسوف نوردها بنصها كاملة لنعرف كيف عالج ابن رشد مسألة القدم والحدوث وكيف حلها في بضعة أسطر. وما يبرر لنا إيراد النص التالي كاملاً ما يظهر فيه من توسط ابن رشد بين القدم والحدوث للعالم، وهو ما ليس له نظير عند كانط. إن هذه الأسطر القليلة التي حل بها المسألة تقف دليلاً على عبقرية هذا الرجل، وفي الوقت نفسه على أن كانط لم يقرأ “فصل المقال” ولا أي من مؤلفات ابن رشد، وقد خسر الكثير من جراء ذلك.
يقول ابن رشد( ): “وأما مسألة قدم العالم [أو] حدوثه [فإن الاختلاف] [فيها] عندي بين المتكلمين من الأشعرية وبين الحكماء المتقدمين يكاد أن يكون راجعاً للاختلاف في التسمية، وبخاصة عند بعض القدماء. وذلك أنهم اتفقوا على أن هاهنا ثلاثة أصناف من الموجودات: طرفان وواسطة بين الطرفين. فاتفقوا في [تسمية] الطرفين واختلفوا في الواسطة. فأما الطرف الواحد فهو: موجود وجد من شئ غيره وعن شئ: أعني عن سبب فاعل ومن مادة، والزمان متقدم عليه: أعني على وجوده. وهذه هي حال الأجسام التي يدرك تكونها بالحس، مثل تكون الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات وغير ذلك. فهذا الصنف من الموجودات اتفق الجميع من القدماء والأشعريين على تسميتها محدثة. وأما الطرف المقابل لهذا فهو موجود لم يكن من شئ ولا عن شئ، ولا تقدمه زمان. وهذا أيضاً اتفق الجميع من الفرقتين على تسميته قديماً. وهذا الموجود مدرك بالبرهان، وهو الله تبارك وتعالى الذي هو فاعل الكل، وموجده، والحافظ له، سبحانه وتعالى قدره.وأما الصنف من الموجود الذي بين هذين الطرفين فهو موجود لم يكن من شئ ولا تقدمه زمان، ولكنه موجود عن شئ: أعني عن فاعل. وهذا هو العالم بأسره. والكل منهم متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم. فإن المتكلمين يسلمون أن الزمان غير متقدم عليه، أو يلزمهم ذلك. إذ الزمان عندهم شئ مقارن للحركات والأجسام، وهم أيضاً متفقون مع القدماء على أن الزمان المستقبل غير متناه، وكذلك الوجود المستقبل، وإنما يختلفون في الزمان الماضي والوجود الماضي. فالمتكلمون يرون أنه متناه، وهذا هو مذهب أفلاطون وشيعته. وأرسطو وفرقته يرون أنه غير متناه كالحال في المستقبل. فهذا الموجود الآخر الأمر فيه بَيـِّن أنه قد أخذ شبهاً من الوجود الكائن الحقيقي ومن الوجود القديم. فمن غلَّب عليه ما فيه من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدث سماه قديماً. ومن غلَّب عليه ما فيه من شبه المحدث سماه محدثاً. وهو في الحقيقة ليس محدثاً حقيقياً ولا قديماً حقيقياً. فإن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة. والقديم الحقيقي ليس له علة”( ).
أي أن العالم ليس قديماً على الحقيقة وليس محدثاً على الحقيقة، بل هو قديم ومحدث في الوقت نفسه، قديم بمعنى صدوره الدائم والأبدي عن الله تعالى، ومحدث بمعنى افتقاره إلى علة موجدة له تقع خارجه. يتضح من النص السابق كيف استطاع ابن رشد التمييز بدقة بين القدم المطلق والحدوث المطلق والتوسط بينهما بالنسبة للعالم. والحقيقة أن هذا التمييز ليس موجوداً في فلسفة أرسطو، بل هو فكرة رشدية أصيلة. صحيح أنها تعد تطويراً لبعض الأفكار الأرسطية، إلا أن ابن رشد هو أول من قال بها، وهي من الأفكار التي نجح ابن رشد في التوفيق بها بين الفلسفة والدين. وهذا التوسط بين القدم والحدوث لا نجده في عرض كانط للنقائض الكوزمولوجية.
كما نلاحظ أن ابن رشد يعالج القدم والحدوث بطريقة أكثر شمولاً، ذلك لأنه يُدخل في المناقشة قدم الله، ويقيم علاقة ثلاثية بين القديم المطلق وهو الله والحادث المطلق وهو الأجسام الجزئية والوسيط بينهما وهو العالم؛ في حين أن كانط قد فصل بين إشكالية العالم وإشكالية وجود الله؛ فإشكالية القدم والحدوث تشغل النقيضة الأولى، وإشكالية وجود أو عدم وجود الكائن مطلق الضرورة تشغل النقيضة الرابعة، أي أنه تناول قضية القدم والحدوث بمعزل عن قضية الكائن مطلق الضرورة. أما الأجسام الجزئية فهي تناظر عند كانط النقيضة الثانية الخاصة ببساطة أو تركيب الجواهر المفردة في العالم، وقد عزل مناقشته لها عن إشكاليتي العالم والإله أيضاً.
وما قاله ابن رشد في التمييز بين القدم المطلق والحدوث المطلق باختصار في “فصل المقال”، يعود ليُفصِّله بمزيد من الشرح في “تهافت التهافت”، ويضيف عليه التمييز بين قدم الله وقدم العالم. يقول ابن رشد: “وأما إن كان العالم قديماً بذاته وموجوداً لا من حيث هو متحرك، لأن كل حركة مؤلفة من أجزاء حادثة، فليس له فاعل أصلاً، وأما إن كان قديماً بمعنى أنه في حدوث دائم وأنه ليس لحدوثه أول ولا منتهى، فإن الذي أفاد الحدوث الدائم أحق باسم الإحداث من الذي أفاد الحدوث المنقطع. وإنما سمت الحكماء العالم قديماً تحفظاً من المحدث الذي هو من شئ وبعد العدم”( ). يتضح من هذا النص أن ابن رشد يميز بين القديم بإطلاق والمحدث بإطلاق. القديم بإطلاق هو ما ليس له علة، وإذا كان العالم قديماً بهذا المعنى فليس له علة؛ وهذا هو قدم العالم الذي ينفي وجود الإله، وهو ما يظهر في النقيضة الكوزمولوجية الرابعة لكانط، ويقابل المذهب الدهري. فالواضح أن كانط لم يفهم القدم والحدوث بالمعنى الذي يشير إليه ابن رشد في النص السابق. فكانط يربط بين قدم العالم من جانب وكونه بدون إله صانع من جانب آخر، ولم يستوعب أبداً كيف يمكن للعالم أن يكون قديماً وله صانع في الوقت نفسه. لا يقول ابن رشد بقدم العالم بمعنى كونه بدون علة موجدة، بل يقول بقدم العالم بمعنى الحدوث الدائم، ويقول بأن ما هو دائم الحدوث أولى بأن يسمى حادثاً مما حدوثه منقطع، أي ما وجد بعد العدم. ليس العالم قديماً بذاته عند ابن رشد، بل هو قديم بغيره، أي بالإله، وهو ليس محدثاً بإطلاق، بل محدث بذاته.

  1. التمييز بين نوعين من الأزلية:

تبنى ابن رشد تمييز أرسطو بين نوعين من الأزلية أو القدم: النوع الأول هو الأزلية الثابتة اللازمانية، أي التي لا يمر عليها الزمان ولا يلحقها التبدل أو التحول، وهي عند أرسطو أزلية المحرك الأول الذي لا يتحرك؛ والنوع الثاني هو الأزلية الزمانية المتحركة أو الاستمرارية الأبدية في الحركة، وهي الحركة الدائرية اللامتناهية للسماء والأفلاك. وهذا التمييز هو الذي يستطيع إفهامنا لكيفية قول ابن رشد بقدم الله وقدم العالم في الوقت نفسه؛ فليس هناك أي تناقض عنده في القول بقديمين، لأن كل قدم منهما بمعنى مختلف عن قدم الآخر. الله والعالم عند ابن رشد أزليان أبديان لكن لا بمعنى واحد. أزلية الله عند ابن رشد هي الأزلية الثابتة اللازمانية غير المتحركة، فالله لا يخضع للزمان ولا للتبدل والتحول الذي للحركة؛ أما أزلية العالم فهي الأزلية المتحركة حركة لانهاية لها. وعندما ذهب ابن رشد إلى أن العالم يأخذ شبهاً من الوجود القديم وشبهاً من الوجود الحادث فقد كان يعني أنه يأخذ معنى الدوام الأزلي الأبدي الذي يميز القديم، وفي الوقت نفسه معنى الحركة الذي ينطوي على الحدوث. فالعالم عند ابن رشد أزلي الحركة، أي أزلي الحدوث؛ إنه في حالة حدوث دائم وأبدي وأزلي. وهكذا نرى أن ابن رشد نجح في تجاوز إشكالية القدم والحدوث بأن تجاوزهما معاً عن طريق التوسط بينهما والجمع في شأن العالم بين معنى للقدم ومعنى آخر للحدوث. لقد تجاوز إحراج الاختيار بين القدم المطلق والحدوث المطلق الذي ظهر في النقيضة الكوزمولوجية الأولى عند كانط. تنص هذه النقيضة على أن العالم إما قديم أو محدث، ولا ثالث لهما، وقد كان من السهل على كانط رفض الفصل في الإشكالية بحجة أنها تتجاوز قدرات العقل البشري. أما ابن رشد فقد نجح في التوصل إلى الخيار الثالث الوسيط بين القدم المحض والحدوث المحض، ذلك الخيار الذي لم يطرحه كانط أصلاً وغاب عن أفق تفكيره.

  1. التمييز بين الحدوث الذاتي والحدوث من العدم:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ميز ابن رشد أيضاً بين معنيين للحدوث: الحدوث الذاتي وهو افتقار الشئ إلى علة موجدة له، والحدوث من العدم وهو وجود شئ بعد أن لم يكن( ). وعندما يسمي ابن رشد العالم حادثاً فهو يعني به الحدوث الذاتي، أي أن العالم يفتقر إلى علة موجدة له تسبقه منطقياً لا زمانياً، لكنه ليس حادثاً من العدم. الحادث من العدم هو الذي يسبقه العدم، وذلك مثل الأجسام المادية في العالم، أما العالم كله فهو حادث بذاته قديم بغيره، أي أنه يصدر بالضرورة عن فعل الله، أو هو بالأحرى فعل الله نفسه( )، ولا يمكن أن يتوقف الله عن الفعل أو يبدأ في الفعل بعد أن كان متوقفاً عنه.
وعندما ناقش كانط مسألة العالم في النقيضة الأولى ومسألة الكائن الضروري بإطلاق في النقيضة الرابعة (وهو واجب الوجود بتعبير ابن سينا) لم يتناول هذه التقسيمات الفرعية بين القدم والحدوث. فكما أوضح لنا ابن رشد، فللقدم معنيان وللحدوث معنيان، ومن الممكن التوسط بينهما. أما كانط فالعالم عنده إما قديم أو محدث، هكذا ببساطة؛ وهو إما أن يكون قديماً بدون إله أو محدثاً بإله، هكذا ببساطة أيضاً. لكن معالجة ابن رشد لإشكاليات القدم والحدوث لم تكن بالبساطة التي ظهرت في معالجة كانط، بل كانت أكثر تنوعاً وتعقيداً وثراءً. إن كانط يكشف عن تعارض واحد فقط وهو بين المذهب الدهري ومذهب الخلق من العدم. وهو يعتقد أن هذا التعارض هو المشكلة الأساسية للعقل الخالص، لكنها ليست كذلك. المشكلة الأساسية كانت هي المشكلة محل النزاع الفارابي وابن سينا من جهة والمتكلمين من جهة أخرى، وبين الغزالي والفلاسفة، وبين ابن رشد والغزالي. إن السبب في بساطة عرض كانط للنقائض الكوزمولوجية والتي تصل إلى حد السذاجة يرجع إلى أنه لم يطلع على النزاعات والصراعات الكلامية والفلسفية في الفكر الإسلامي؛ ولو كان قد اطلع عليها لزاد كتابه ثراء، ولرأى كيف أن بين القدم والحدوث خيار ثالث وسيط وضعه ابن رشد.

  1. العالم قديم بالجنس حادث بالأجزاء:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ينظر ابن رشد إلى العالم على أنه قديم أو أزلي بالجنس حادث بالأجزاء. فالعالم عنده أزلي بالجنس أي في كليته وشموله وإذا ما اتخذ على أنه الكل الشامل، لأنه بذلك فعل للإله، وفعل القديم قديم مثله. لكنه في الوقت نفسه حادث بالأجزاء، أي الأشياء المادية من أجسام وعناصر، لأنها هي التي تمر بالتغير والتحول والتبدل، أو الكون والفساد. يقول ابن رشد في ذلك: “الجهة التي منها أدخل القدماء موجوداً قديماً ليس بمتغير أصلاً ليست هي من جهة وجود الحادثات عنه بما هي حادثة، بل بما هي قديمة بالجنس؛ والأحق عندهم أن يكون هذا المرور إلى غير نهاية لازماً عن وجود فاعل قديم، لأن الحادث إنما يلزم أن يكون بالذات عن سبب حادث”( )، ويقول أيضاً: “..وجه صدور الحادث عن القديم الأول لا بما هو حادث بل بما هو أزلي بالجنس حادث بالأجزاء، وذلك أن كل فاعل قديم عندهم إن صدر عنه حادث بالذات فليس هو القديم الأول عندهم..”( ). إن وجود أجسام جزئية حادثة عند ابن رشد لا يعني أن العالم كله حادث، لأن هذا يعد قياساً للغائب، وهو العالم كله، على الشاهد، وهو الأجسام الجزئية. فالعالم كله هو في حكم الغائب عند ابن رشد لأنه ليس خاضعاً للحس باعتباره كلاً، ولأننا نطلب حكماً يخص أوله وآخره وهما أيضاً في حكم الغائب. وابن رشد بذلك يخالف المتكلمين من معتزلة وأشاعرة والذين ذهبوا إلى أن العالم كله حادث بما أنه يحوي أجساماً حادثة، لأن هذا الدليل، بالإضافة إلى أنه قياس للغائب على الشاهد، فهو أيضاً قياس الكل على أجزائه أو الامتداد بحكم الجزء إلى الحكم على الكل، وهو قياس غير صحيح وفقاً لقواعد البرهان. ونلاحظ من ذلك أن ابن رشد لم يكن بحاجة إلى الخروج عن المنطق الأرسطي واختراع منطق آخر لنقد الميتافيزيقا الدوجماطيقية لعلم الكلام مثلما اضطر كانط لاختراع منطق جديد بالتوازي مع المنطق الأرسطي وأسماه “المنطق الترانسندنتالي”. تثبت لنا أعمال ابن رشد أن المنطق الأرسطي كان لا يزال صالحاً عنده كأداة لنقد الميتافيزيقا، أي أورجانوناً Organon ، دون الحاجة إلى اختراع منطق جديد.
ونلاحظ كذلك أن قول ابن رشد “والأحق عندهم أن يكون هذا المرور إلى غير نهاية لازماً عن وجود فاعل قديم” يدل على أن توالي وتسلسل حدوث الحادثات إلى ما لا نهاية هو ما يليق بحق القديم، لأن القديم هو ما لا يتوقف عن الفعل وهو أيضاً ما لا يتوقف فعله. فحدوث العالم عند ابن رشد هو حدوث لانهائي، أزلي وأبدي.
ويتضح لنا من النص السابق من “فصل المقال” أن العالم قديم ومحدث في الوقت نفسه عند ابن رشد، قديم بالجنس من حيث كونه كلاً، حادث بالأجزاء؛ وتعد هذه النظرية هي الأفضلية التي يتفوق فيها ابن رشد على كانط في التعامل مع إشكالية القدم والحدوث، بها تكون فلسفة ابن رشد متجاوزة للنقائض الكوزمولوجية الكانطية ومتجنبة الوقوع في الإحراجات المنطقية التي أوضحها كانط. ذلك لأن كانط اعتقد أن العالم إما أن يكون قديماً كلاً وأجزاءً أو حادثاً كلاً وأجزاءً، والحقيقة أن النقائض الكوزمولوجية الكانطية هي بين هذين النوعين المحدودين من القدم والحدوث. لكننا رأينا كيف توسط ابن رشد بين هاتين النقيضتين اللتين قطع كانط بعدم إمكان العقل البشري الفصل فيهما. ويبدو أن عقل كانط وحده هو الذي لم يتمكن من الفصل فيهما، لا العقل البشري كما ادعى هو.قدم لنا كانط الخياران المتناقضان في كل نقيضة على أنهما كل ما هو متاح للعقل البشري، لكن اتضح لنا من النص الرشدي كيف يمكن التوسط وكيف أن الخيار الثالث الوسيط بين القدم والحدوث يمكن تبريره عقلياً وبالبرهان، أي دون الخروج عن قواعد المنطق.
رابعاً – وحدة الوجود هي ما يقتضيه مذهب ابن رشد، وهي المختفية من النقد الكانطي للميتافيزيقا:
الحقيقة أن كانط قد نقد نوعاً واحداً فقط من الميتافيزيقا على الرغم من أن كتابه “نقد العقل الخالص” يوحي بأنه ينقد كل الميتافيزيقا بمختلف أنواعها. وبأنه ينقد كل تفكير ميتافيزيقي. إنه بالأحرى ينقد صنفاً واحداً من التفكير الميتافيزيقي والذي ينتج الميتافيزيقا القائلة بنظرية معينة في النفس والعالم والإله، وهي ميتافيزيقا أفلاطون وفلاسفة العصور الوسطى المسيحيين وديكارت ومدرسته. بالإضافة إلى اقترابها الشديد من فلسفة المتكلمين من معتزلة وأشاعرة. هذه النظرية تنظر إلى النفس على أنها جوهر مستقل عن البدن وتقول بروحيتها وخلودها بعد فناء البدن، وتقول بأن العالم إما قديم أو محدث ولا ثالث لهما، وتقدم أخيراً أدلة وبراهين على وجود الإله، لكنها أدلة وبراهين تثبت وجود الإله المفارق المنفصل عن العالم. ومعنى هذا أن النقد الكانطي للميتافيزيقا لا يستوعب المذهب الأرسطي – الرشدي القائل بوحدة الكيان الإنساني من حيث كونه يتكون من مادة وصورة، أي بدن ونفس لا ينفصلان ولا يحيا هذا الكيان الإنساني بدون اتحادهما، ولا يستوعب كذلك المذهب الرشدي الأصيل القائل بالتوسط بين القدم والحدوث للعالم وبأن العالم قديم ومحدث في الوقت نفسه، ولا يستوعب أيضاً النتيجة المنطقية لفلسفة ابن رشد والتي يقتضيها مذهبه وهي وحدة الوجود، أي النظر إلى الإله على أنه ليس مفارقاً أو منفصلاً عن العالم بل القول بالهوية التامة بينه وبين فعله، وبين هذا الفعل ونتاج هذا الفعل وهو ما يعني بوضوح وحدة الوجود. سوف نوضح فيما يلي كيف أن مذهب وحدة الوجود عند ابن رشد هو الذي ينجح في تجاوز النقد الكانطي للميتافيزيقا، وأن هذا النقد لا يستوعبه ولا يمكن أن يشمله، ليس فقط لأن مصطلح “وحدة الوجود” Pantheism مختفٍ تماماً من “نقد العقل الخالص”، بل كذلك لأن النقد الكانطي هو لنوع واحد فقط من الميتافيزيقا ولا يشمل ميتافيزيقا وحدة الوجود.
يتفق كل من أرسطو والفارابي وابن سينا وابن رشد في القول بأن العالم قديم. واعترض الغزالي على الفارابي وابن سينا لأن القول بقدم العالم هو قول بقديمين، وهذا في نظره قريب من الشرك( )، لأن القديم يجب أن يكون واحداً فقط وهو الله وحده. لكن الشرك الحقيقي هو في القول بشركاء للإله الواحد في الفعل والخلق والإيجاد، أي القول بإلهين أو أكثر. أما القول بقدم العالم عند ابن رشد فليس بشرك، لأن قدم العالم عنده لا يعني أن العالم شريك للإله، ولا يعني كذلك نقصاً في وحدانية الإله؛ فالإله يبقى واحداًَ مع قدم العالم، ويبقى العالم من صنعه وإبداعه مع كونه قديماً، وذلك بناءً على أن العالم هو فعل الإله الدائم والمستمر من الأزل إلى الأبد، ولا يمكن تأخر المفعول وهو العالم عن فعل الفاعل وهو الإله، وكذلك لا يمكن تأخر الإله عن فعله أو تراخيه في فعل هذا الفعل. ولذلك نقد ابن رشد نظرية تراخي الإرادة عند الغزالي والأشاعرة.
لكن لا يمكن التوفيق بين إله قديم وعالم قديم وتجنب الوقوع في الإشكاليات الناتجة عن القول بقديمين إلا بناءً على مذهب وحدة الوجود؛ أي بالذهاب إلى أن القديم واحد، إله وفعل هذا الإله. فالإله وفعله متلازمان، هو قديم وفعله قديم في الوقت نفسه. فالتوحيد الحقيقي هو التوحيد بين الإله وفعله، أما القول بوجود عالم منفصل ومختلف عن الإله حتى ولو كان محدثاً فهو نقص في وحدانية الله، لأن اللإله الواحد الحق هو الذي لا يقف أي شئ في مقابله ويواجهه في تناقض، كأن يكون الإله روحي والعالم مادي، وكأن يكون الإله مفارقاً للعالم وكأنه في مكان فوق العالم أو خارجه. والحقيقة أن مذهب وحدة الوجود هو النتيجة المنطقية التي تقتضيها فلسفة ابن رشد. وسوف نحاول فيما يلي توضيح ذلك من نصوص ابن رشد.
تتمثل الاعتبارات التي تجعلنا نقطع بأن مذهب ابن رشد يؤدي منطقياً إلى القول بوحدة الوجود فيما يلي:

  1. أنه يتبنى النظرية الأرسطية القائلة إن الإله عقل وعاقل ومعقول وإنه لا يعقل إلا ذاته.
  2. أنه يقول بالتلازم التام بين الإله وفعله، وفعل الإله هو العالم.
  3. أنه يقول بأن الإله لا يفعل بآلة، وبأن المخلوقات تصدر عنه بدون وسائط.
  4. أنه يقول بإمكان وجود موجود ليس داخل العالم وليس خارجه، مع رفع التناقض الظاهري في ذلك؛ وهو الإله عنده.
    ولتوضيح كيف أن هذه الأفكار الأربع تشير بقوة إلى وحدة الوجود نشرحها بالتفصيل فيما يلي.
  5. الإله عقل وعاقل ومعقول:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
تبنى ابن رشد النظرية الأرسطية القائلة إن الإله عقل وعاقل ومعقول، وأنه تبعاً لذلك لا يعقل إلا ذاته. لكن أدت هذه الفكرة إلى إشكالية وهي أن الإله على أساسها لن يعقل الجزئيات. ولتجنب هذه الصعوبة ذهب ابن سينا إلى أن الإله يعقل الجزئيات على نحو كلي. وأخذ الغزالي على الفلاسفة الذين يقولون بذلك أن قولهم هذا يؤدي إلى القول بأن صانع العالم لا يعلم صنعه. وقد حل ابن رشد هذه الإشكالية بذهابه إلى أن الصفات ليست زائدة على الذات، بمعنى أنها هي هي عين الذات؛ ولأن العلم من صفات الذات، فالعلم ليس صفة منفصلة عن الذات الإلهية. ومعنى هذا أن الإله باعتباره عاقلاً لا يتعقل بقوة أو ملكة متمايزة عن ذاته، بل يتعقل بذاته نفسها. وبذلك وحد ابن رشد بين العقل وهو الإله والتعقل وهو العلم الإلهي. وكذلك وحد بينهما وبين المعقول. ذلك لأن العالم عنده هو المعقول، وعندما نقول إن الإله عقل وعاقل ومعقول، وعندما نقوم بالتوحيد وإقامة الهوية بين الثلاثة، فكأننا وحدنا بين الإله وفعله ونتاج هذا الفعل الذي هو العالم ومعرفته بهذا العالم؛ وهذه هي وحدة الوجود بعينها. وقد تجاوز ابن رشد إشكالية القول بأن الله لا يعلم الجزئيات بذهابه إلى أن هذه الجزئيات هي صنعه، ومجموعها هو العالم كله، ولأنه يعقل ذاته وفعله، ولأن فعله غير منفصل عنه، فمعنى هذا أن الإله عندما يتعقل ذاته فهو يتعقل العالم في الوقت نفسه، لأن العالم نتاج فعله.
إن حل إشكالية القول بأن الإله لا يعلم إلا ذاته هو مذهب وحدة الوجود؛ فالإله بالفعل لا يعلم إلا ذاته، لأنه ليس هناك في الوجود إلا الإله وذاته وأفعاله. وقد سبق لابن رشد أن وحد بين الذات والصفات، والأفعال أيضاً. إن ذات الإله في هوية تامة مع صفاته وأفعاله عند ابن رشد. صحيح أن الإله لا يعلم إلا ذاته حسب ما يقول أرسطو والفلاسفة المشائين، إلا أن هذه الفكرة لا تؤدي إلى القول بأنه لا يعلم غيره، فليس هناك غير. فحسب مذاهب وحدة الوجود ليس هناك إله مفارق ومنفصل عن العالم ومختلف عنه جوهرياً، لأن الإله ليس له ضد وليس أمامه مقابل؛ وهذا ما تشترك فيه بالرغم من الاختلافات الجزئية بينها.

  1. التلازم التام بين الإله وفعله:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
أما عن التلازم التام بين الإله وفعله فيقول ابن رشد: “فيلزم أن تكون أفعال الفاعل الذي لا مبدأ لوجوده ليس لها مبدأ كالحال في وجوده”( ). أي أن أفعال الفاعل، التي هي العالم، لامتناهية وقديمة، لأنها أفعاله هو. وهذا هو التوحيد بين الإله وفعله، أي الإله والعالم، أي وحدة الوجود. لقد تبنى ابن رشد مذهب وحدة الوجود على نحو أكثر وضوحاً وصراحة من أرسطو ومدرسته، لأن الإله عند أرسطو هو مجرد محرك أول لا يتحرك، أي أنه ليس له أي دور فاعل في حركة العالم، ذلك لأن العالم عند أرسطو متحرك بذاته حركة شوق إلى المحرك الأول الثابت، وهي حركة غائية فقط، والإله عنده علة غائية للعالم وليس علة فاعلة، لكنه علة فاعلة عند ابن رشد، وهذا هو ما يفصله ويميزه عن أرسطو. والعالم عند ابن رشد ليس صادراً عن الإله على التوالي وفي تسلسل هابط مثلما هو الحال في الأفلاطونية المحدثة وأتباعها الإسلاميين مثل الفارابي وابن سينا، بل العالم صادر عنه مباشرة وهو يفعل مباشرة في العالم دون وسائط. يقول في ذلك: “وإذا كان ذلك كذلك، لزم ضرورة أن لا يكون واحد من أفعاله الأولى شرطاً في وجود الثاني، لأن كل واحد منهما هو غير فاعل بالذات، وكون بعضها قبل بعض هو بالعرض”( ). إن فعل الإله عند ابن رشد واحد، ولا يصدر عنه مفعول يفعل بذاته؛ ونتاج هذا الفعل الواحد هو عالم واحد. ونتاجه هذا ملازم له دائماً، وهذه هي وحدة الوجود.

  1. الإله يفعل بلا آلة:
    أما أن الإله لا يفعل بآلة، أي لا يفعل في العالم بوسيط أو أداة عند ابن رشد، فمعناه أن فعله في العالم مباشر. ذهب ابن رشد إلى أننا لا يمكننا أن نقيس فعل الإله على أفعال البشر، لأن هذا القياس هو قياس للغائب على الشاهد، ولأنه ينطوي على تشبيه الإله بالإنسان. فالإنسان يولد بإنسان يسبقه، وهو يفعل باستخدام وسيط بينه وبين موضوع فعله، لأن هناك انفصالاً بينه وبين موضوعه. لكن الإله ليس في حاجة إلى وسيط كما أنه ليس هناك انفصال بينه وبين موضوع فعله. ومعنى هذا أن الإله هو العلة الفاعلة المباشرة في العالم، ولا يمكن أن يكون علة فاعلة مباشرة إذا كان هناك انفصال بينه وبين العالم، فالإله محايث للعالم، وإرادته هي قوانين الطبيعة ذاتها( ).

القول بموجود ليس داخل العالم وليس خارجه:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

أما عن دفاعه عن القول بموجود ليس داخل العالم وليس خارجه فيقول في ذلك: “..كما أدى البرهان إلى أشياء هي متوسطة بين أشياء يظن بها، في بادئ الرأي، أنها متقابلة، وليست متقابلة، مثل قولنا موجود لا داخل العالم ولا خارجه”( ). ويقصد ابن رشد نظرية أرسطو في موقع المحرك الأول، إذ يذهب إلى أنه إذا كان داخل العالم فكيف يكون محركاً له والحركة تفترض أن تكون هناك مسافة بين المحرك والمتحرك، وإذا كان خارج العالم فكيف يحركه أيضاً وليس بينهما احتكاك. والحل الذي قدمه أرسطو هو القول بأنه داخل وخارج العالم في الوقت نفسه. إنه داخل العالم لكن لا على سبيل احتواء العالم له ولا على سبيل أنه جزء منه، وهو خارج العالم لكن لا على سبيل أنه منفصل عنه. والعالم يتحرك إليه شوقاً، أي حركة غائية وحسب. والواضح أن هذه النظرية تؤدي إلى وحدة الوجود أيضاً.
وأعتقد أن ابن رشد قد تبنى تلك النظرية لكن بكثير من التعديلات ولم يقبلها كما هي موجودة في مذهب أرسطو. فعندما كان ابن رشد يناقش مسألتي الجسمية والجهة في “الكشف عن مناهج الأدلة”، نفى الجسمية تماماً وقام بتأويل الآيات التي تفيد بظاهرها معنى الجسمية، وقد كان واضحاً جداً في ذلك؛ أما عندما أتى على مسألة الجهة فلم يكن بمثل ذلك الوضوح. ذلك لأنه بدأ بالقول بأن “ظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة.. لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء، وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السماء نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي (ص)”( ). وبعد ذلك مباشرة قام بتوضيح موقف المعتزلة في نفي الجهة وذهب إلى أن ما دعاهم إلى ذلك أنهم اعتقدوا أن كل ما في الجهة فهو في المكان وهو جسم: “والشبهة الي قادت نفاة الجهة إلى نفيها، هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية”( ). وينشغل ابن رشد بعد ذلك بإثبات أن القول بالجهة لا يعني إثبات المكان ولا الجسمية. صحيح أنه أثبت للإله الجهة حسب ظاهر الشرع، إلا أنه لم يوضح كيف يكون الإله في جهة دون أن يكون في مكان ودون أن يكون جسماً. وإذا نظرنا في “تهافت التهافت” وجدناه يرفض النظرية القائلة بأن الإله هو نفس العالم، بمعنى أنه ليس هو النفس لجسد هو العالم( )، لأن هذا في نظره يعد تشبيها للإله بالإنسان وينطوي على القول بأن الإله إنسان أزلي( ).
لقد ترك ابن رشد مسألة الجهة دون حسم. لكنني أعتقد أن الحل هو ربطها بما يقتضيه مذهبه من وحدة الوجود. ذلك لأن الإله عند ابن رشد ليس بجسم ولا في مكان لكنه في جهة. وكونه ليس في مكان يعني أنه ليس في مكان واحد جزئي بحيث يكون هذا المكان أكبر منه ويشمله، لكنه في الوقت نفسه في جهة، فكيف نحل هذه الإشكالية؟ أعتقد أن الحل يكمن في القول بأن الإله ليس في مكان واحد بل هو في كل مكان، مما يعني وحدة الوجود. وهذا أيضاً ما تدل عليه الآية القائلة “أينما تولوا فثم وجه الله”، والوجه والجهة متلازمان، وكل مكان به وجه الله، أي جهة لله. وكذلك يقول الكتاب العزيز: “الله نور السموات والأرض”؛ أي أنه نور في السموات والأرض، وليس نوراً خارجهما ينيرهما عن بعد، إنه النور الداخل والمحايث للعالم.
الإله إذن ليس داخل العالم بمعنى أنه ليس جزءاً منه، لكنه داخل العالم باعتبار أنه العلة الفاعلة لكل ما يحدث في العالم حسب نظرية ابن رشد في الخلق المستمر، وإرادته تشمل كل العالم والتي هي قوانين الطبيعة؛ وهو ليس خارج العالم بمعنى أنه ليس منفصلاً عنه ولا يشكل العالم جوهراً مادياً مستقلاً ومنفصلاً عن الإله ذي الجوهر الروحي، فليس هناك جوهران بل جوهر واحد كما يقول سبينوزا، ولكنه خارج العالم بمعنى أنه مفارق للمادة ولا يخضع للتغير والتبدل والتحول الذي يحدث للعالم. أعتقد أن هذا هو المعنى الذي كان يقصده ابن رشد عندما تبنى نظرية أرسطو في الموجود الذي لا هو داخل العالم ولا هو خارجه؛ وهو ما تؤيده نصوص رشدية كثيرة للغاية، خاصة في “تهافت التهافت”( ).
ومن الواضح أن نقد كانط للميتافيزيقا، وبالأخص للكوزمولوجيا العقلية، لا يستوعب هذه الأفكار، وهذا ما يتضح إذا قارناها بالنقائض الأربع التي سبق وأن عرضناها. هذا علاوة على أن كانط قد فصل بين نقده للمذهب الميتافيزيقي في العالم ونقده للبراهين الميتافيزيقية على وجود الإله. فنقده لمذهبي القدم والحدوث يوجد في فصل يسمى “نقائض العقل الخالص” The Antinomy of Pure Reason و ينقد فيه الكوزمولوجيا العقلية، أما نقده لبراهين وجود الإله فهو في الفصل التالي له بعنوان “مثال العقل الخالص” The Ideal of Pure Reason. لكننا رأينا كيف أن ابن رشد لا يفصل بين العالم والإله، سواء في عرض موقفه الخاص في “فصل المقال” و”الكشف عن مناهج الأدلة”، أو في تفنيده للغزالي ودفاعه عن الفلسفة في “تهافت التهافت”. إن كانط فصل بين المذهب الميتافيزيقي في العالم والبراهين الميتافيزيقية على وجود الإله لأنه يفصل من الأصل بينهما، أما ابن رشد فلم يفصل، أولاً لأن الفحص في الإله وفي العالم لا يمكن أن يتم بمعزل الواحد منهما عن الآخر، وثانياً لأن المذهب الرشدي هو مذهب وحدة الوجود، فكان من الطبيعي أن يتناول ابن رشد الإله والعالم معاً وفي تلازم عبر كل مؤلفاته

ا

أكبر موسوعة في تراجم أعلام النساء المسلمات بعنوان الوفاء بأسماء النساء…

طبعت أكبر موسوعة في تراجم أعلام النساء المسلمات، لأخينا العلامة المحدث المسند الدكتور محمد أكرم الندوي الأكسفوردي، حفظه الله تعالى…

الوفاء بأسماء النساء

الحمد لله على أن تمت طباعة كتاب (الوفاء بأسماء النساء) في 43 مجلداً، متضمناً تراجم عشرة آلاف امرأة تقريباً.
وهو كتاب باللغة العربية عكف مؤلفه الدكتور محمد أكرم الندوي على تأليفه وجمعه أكثر من خمس عشرة سنة، ترجم فيه للنساء المسلمات اللاتي اشتغلن بالحديث النبوي الشريف سماعاً له وقراءةً، وإسماعاً له وروايةً، أو استجازة وإجازة، منذ العهد النبوي إلى يومنا هذا، وفي عامة مناطق المسلمين العرب والعجم.
والتقطت هذه التراجم من كتب أسماء الرجال، والمشيخات، وأثبات العلماء وفهارسهم، ومعاجم الشيوخ، والسماعات، المطبوعات منها والمخطوطات، والمحفوظات في بطون الكتب وصدور الرجال، مستفادة من مكتبات دمشق، وتركيا، ومصر، وبريطانيا، وألمانيا، والهند، والمغرب، وغيرها من مكتبات العالم.
ومقدمة الكتاب – وهي مجلدة مستقلة – دراسة تحليلية لمعلومات الكتاب، تلقي الضوء على أهم معالم تاريخ المرأة العلمي الزاهر، والنتائج المهمة التي توصلت إليها، وقد طبعت المقدمة ملخصة باللغة الإنكليزية منذ ثلاثة عشر عاماً، ونالت قبولاً واسعاً، والحمد لله تعالى.
الكتاب مرتب على الطبقات بمعناها الواسع:
أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم (أزواجه أمهات المؤمنين وبناته رضي الله عنهن).
ثم سائر الصحابيات، ثم التابعيات، ثم سائر نساء القرن الثاني.
ثم قسمت التراجم إلى القرون: نساء القرن الثالث، والقرن الرابع إلى نساء قرننا ؛ أي : القرن الخامس عشر.
تحتوي التراجم بصفة عامة على اسم صاحبة الترجمة ونسبها ومولدها وشيوخها ورحلاتها وحياتها العائلية وتلاميذها وتفاصيل مروياتها ووفاتها مع الإحالة على مصادرها مفصلة.
ويحتوي الكتاب على معلومات متنوعة، وأخبار نافعة ممتعة في تراجم نساء كثيرات، ويمكن أن تُحوَّل إلى دراسات تخصصية مفردة.
فمثلاً كريمة المروزية من القرن الخامس الهجري، وشهدة الإبرية وفاطمة بنت سعد الخير من القرن السادس الهجري، وزينب بنت مكي من القرن السابع الهجري، وست الوزراء وفاطمة البطائحية وزينب بنت الكمال من القرن الثامن الهجري، وعائشة بنت ابن عبد الهادي ومريم الأذرعية وأم هانئ الهورينية من القرن التاسع الهجري. وكذلك قبلهن من الصحابيات والتابعيات وبعدهن من نساء القرون المتأخرة.. يستحققن أن يُفردن بدراسات شاملة، وتُخصص جوانب حياتهن المختلفة بالبحث والتحقيق، وتَنال معالمُ سيرهن الاهتمام والدراسة.
إن العالمات – كما يقرر هذا الكتاب – حققن الأهلية التي حققها الرجال من العلماء، تظاهر الرجال والنساء وتعاضدوا على تعليم أمور هذا الدين ونشر أوامر الله تعالى وسنن نبيه صلى الله عليه وسلم في نطاق السنن الإسلامية المعروفة من الحياء والحشمة والوقار.
وكان للنساء نصيب عظيم في جميع مجالات علوم الدين وفروعها، وكنَّ – على ما يثبت هذا الكتاب بشواهد متظاهرة – يُرجَع إليهن في الفقه والفتوى والتفسير، وإنما عُني هنا بإبراز دورهن في مجال الحديث النبوي الشريف.
ومما تميزت به هذه النساء أنهن تنزهن عن التهم التي شابت الرواة من الرجال.
قال الإمام الذهبي: (وَمَا عَلمتُ في النِّسَاء مَن اتُّهِمَت وَلاَ مَن تَرَكُوهَا).
وقال الإمام الشوكاني: (لَم يُنقَل عَن أَحَد من العُلَماء بأنَّه ردَّ خَبَر امرَأَة لِكَونِهَا امرَأَة، فَكَم مِن سُنَّة قَد تَلَقَّتهَا الأُمَّة بالقَبُول مِن امرَأَة وَاحِدَة من الصَّحَابَة، وَهَذَا لا يُنكِره مَن لَه أَدنَى نَصِيب من عِلم السُّنَّة).
وشاركت هؤلاء النسوة الرجال في فقه الحديث وفَهمه، وشرح معانيه وتطبيقه على أنفسهنَّ وأسرهنَّ، والمجتمع كلِّه.
وتحدث الكتاب عن صور من تعبُدهنَّ وذكرهنَّ الله كثيراً، ومحبتهنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقواهنَّ، وصبرهنَّ، وشجاعتهنَّ، وزهدهنَّ، وجودهنَّ، وحيائهنَّ، وحشمتهنَّ، وتواضعهنَّ، وحُسن خُلُقهنَّ، واتباعهنَّ السنن، واجتنابهنَّ البدع، وصلتهنَّ الرحم.
كما تحدث عن نماذج من حياتهنَّ الزوجية السعيدة، وتربيتهنَّ أولادهنَّ، ووعظهنَّ، وإسهامهنَّ في الإصلاح الاجتماعي.
والمتصفِّح لهذا الكتاب الحافل، والمطالع لمقدِّمته الواسعة، يجدُ شهادة عمليَّة في إكرام الإسلام للمرأة، وتحريرها التحرير الحق.
والله ولي التوفيق

“السنة الأمازيغية ” .. أسطورة صهيونية

كلمات
.. إلى العالمين

   من "أنرار" إلى "هرتسوغ" !

“السنة الأمازيغية ” .. أسطورة صهيونية


  ظهرت في السنوات الأخيرة جملة من المظاهر الغريبة التي أثارت و ما تزال تثير أسئلة حول مراميها المريبة، خاصة و أنها تتوجه لأخطر عنصر في هوية المغاربة؛ بعدها الثقافي و الروحي، الذي شكل، على مدى قرون، ذلك الإسمنت المسلح لوحدتهم وتماسكهم الوطني و المجتمعي على حد سواء . 
 ومن هذه المظاهر المستجدة على بلادنا و مجتمعنا، بعض الرموز الملفوفة و المعبأة في قوالب لأساطير غريبة مغلفة 

في سرديات تتبجح بالعلم، مع ان بعضها يصل إلى مستوى الفضائح من المنظور العلمي و يتدثر بعضها بأردية من خطابات حقوقية مزيفة تنطلي على بعض البسطاء في تفكيرهم .. و حتى بعض المفترض أنهم من نخبة الحقوقيين، مع أن بعض هذه الأساطير، فضلا عن لا عقلانيتها، تنبعث منها رائحة عطنة للعنصرية البغيضة !!
من هذه المظاهر و الأساطير ما انكبت عليه الدعاية الصهيونية في السنين الأخيرة في ورش صهينة المكون الأمازيغي عبر صهينة موروثه الثقافي بأسطرته و بربطه ب”الأساطير الجديدة” التي تحضر بها التأسيس ل ” إسرائيل الجديدة ” بالمغرب ( انظر مقالنا السابق حول ” اكتشاف ” أورشليم صغيرة جنوب المغرب ! ) .. من أهم هذه الأساطير ما يسمى؛ “السنة الأمازيغية “ !! التي أصبحت تقام لها الحفلات و الطقوس و تجند لها أرمادا من البروبغندا غير مسبوقة !
فما هي حقيقة هذه الفرية الكبيرة المستحدثة ؟ و لماذا قلنا عنها أنها ” أسطورة صهيونية ” ؟!


هذا ما سنحاول أن نجيب عنه من خلال عرض حقيقة هذه ” السنة الفلاحية ” كظاهرة ثقافية – اجتماعية بالوسط القروي الفلاحي، الأمازيغي و العربي على حد سواء، و كذا من خلال عرض الأساس الأسطوري الذي تحاول أدوات الدعاية الصهيونية من إمازيغن المرتبطين بهذه الأجندة الصهيونية و القيمين عليها بناؤه عليه .
1 – سبع خضار أو إيض سݣاس

أحبوب أم الرمان
أنغاد أم الحنا ! .
هذا واحد من الأبيات الشعرية الأمازيغية المغناة من قبل الفلاحين خلال عملية دراس المحصول الزراعي حيث يرددون خلف كوكبة من البغال و الحمير الموثقة بالحبال و المربوطة بعمود خشبي ( بوݣجدي) يتوسط أكوام الزرع المحصود المجفف لأيام تحت أشعة يوليوز المحرقة، و الجاهز لفرز حبه من قشه تحت حوافر البهائم و أقدام الفلاحين .. و كل ذلك تحت أهازيج الفلاحين و زغاريد نسائهم و ضحكات أطفالهم الذين يسعدون بهذا الموسم السنوي وطقوسه .
تبدأ الدورات الأولى وسط الزرع خلف البهائم بباسم الله و النبي عبر لازمة :
آ باسم الله الرحمن ( يصيح نصف الفلاحين الحاضرين )، فيرد عليه النصف الثاني :
نبدا س ربي د النبي
[ نبدأ متوكلين على الله و على نبي الله ] .
و بعد عدة دورات يتم، بالأمازيغية – العربية دائما، الانتقال إلى لازمة الصلاة على خير من خلق الله في الأنبياء والمرسلين : آ الصلاة على، يصيح أيت تفلليست ( نصف الفلاحين الأقرب إلى تفلليست = البغلة التي في أقصى الكوكبة ) ..
محمد المصطفى يرد أيت بوݣجدي( النصف الأقرب ل أغيول نبوݣجدي = الحمار المربوط للعمود الخشبي ) ..
أخير ن ما يخلق الله ، يقول أيت تفلليست ، فيرد أيت بوݣجدي؛ ݣ الانبيا و المرسلين
… و هكذا تتوالى الأهازيج الأمازيغية أو الامازيغية العربية لغاية الدورات الأخيرة قبل إنهاء العملية التي قد تدوم لساعات حسب حجم المحصول . و هنا يردد الفلاحون لازمة أمازيغية هي :
أحبوب أم الرمان
أنغاد أم الحنا ! .
و معناها بالعربية : إننا نتمنى أن تكون حبوب محصولنا هذه السنة بحجم حبات الرمان .. و ليكن دراس سيقان الزرع موفق حتى نقترب، في سحقه، من سحق الحناء ( مستوى سحق النساء للحناء ) .. لأن القش، او التبن، بقدر ما يكون مسحوقا بقدر ما يساعد البهائم في الهضم و يكون علفا شهيا لها …
هذه اللازمة في عز الصيف، آخر السنة الفلاحية، خلال جمع المحصول الزراعي، تذكر بممارسة طقوسية عند الفلاحين الأمازيغ، و العرب على السواء، في بداية الحرث أواسط فصل الشتاء . ففي هذه الأثناء، يتم اللجوء إلى ما يتم خزنه من بعض الرمانات في الخريف لهذا الموسم حيث يتم تقشيرها و نثر حباتها خلف ” تݣوݣا ” = زوج من الأحصنة او البغال التي تجر المحراث الخشبي فتترك خلفها خطوطا مخروطية تدفن ما تم نثره من بذور القمح و في بداياتها كذلك حبوب الرمان .. أملا في ان تكون الحبوب المبذورة مكتنزة بحجم حبات الرمان ..
هذه هي بعض الطقوس المرتبطة بالسنة الفلاحية التي يحتفي بها فلاحو العالم القروي عموما و فلاحو الواحات وما جاورها في المغرب و الجزائر على وجه الخصوص، عربا و أمازيغ، سواء بسواء .. لا بل إنها تقليد و عرف من التقاليد و الأعراف التي يتميز بها موروث حوض البحر المتوسط ككل، مع اختلافات بسيطة هنا و هناك .. و لعل الأبحاث الأنتروبولوجية والإثنوغرافية أعطت في هذا المجال الشيء الكثير، و نحيل هنا إلى أبحاث الإثنوغرافية الفرنسية التي غادرتنا قبل فترة ، بعد عمر طويل في الأبحاث بمنطقتنا، تلميذة مارسيل موس؛ جيرمان تيون، خصوصاً في كتابها؛
“Il était une fois l’ethnographie” ..
فمثل هذه التمثلات و الاستبشار و حتى المعتقدات و الطقوس التي يختلط فيه الموروث الثقافي البدائي مع الدين الإسلامي، كان من سمات المجتمعات الزراعية و فهم و عقلية و نمط تفكير الفلاحين الأمازيغ و العرب على مستوى كل أقطار المغرب العربي الأمازيغي . لذلك فإن إسم السنة الفلاحية الجديدة لدى سكان هذا المجال الحضري المغاربي يحمل إسمين يستعملان بنفس المعنى؛ “سبع خضار” أو ” إيض سݣاس” الأول – كما هو مفهوم من الكلمتين اللتين يتكون منهما – مستمد من الاحتفال ليلة رأس السنة الجديدة التي توافق ليلة الثالث عشرة من شهر يناير الغريغواري ( فاتح يناير الفلاحي )؛ هذا الاحتفال الذي يتم باكلة الكسكس الجناعية، مهيأة في قصعة بست خضر مختلفة، و سابعها نواة تمرة من يعثر عليه خلال الأكل يكون الشخص المبارك في العائلة على مدى السنة الجديدة! . أما الإسم الثاني فترجمته الحرفية هي : ليلة السنة، (الجديدة يعني ) !

  هذا هو أصل السنة الفلاحية الجديدة، و تهم المجتمعات الزراعية في *الجماعات القاعدية* ( بالتعبير الأنتربولوجي )؛ الأمازيغية و العربية على السواء .

فمجال القصة كلها إذن بين إݣر = الحقل و أنرار = البيدر .. و لا تتعداها !
لكن ..
لكن الأسطرة دخلت على الخط في السنوات الأخيرة، بإشراف من خبراء الكيان الصهيوني وأدواته بالمغرب، و ذلك في سياق أجندة خطيرة جداً على المغرب و المغاربة و المغاربيين بشكل عام .

2 – ” السنة الأمازيغية ” الأجندة الصهيونية و الفضيحة العلمية !
سنعرض هنا، و في المرفقات، ما يثبت صهيونية و فضائحية و أراجيف” الأسس العلمية ” !! التي أقيمت عليها أسطورة ” السنة الأمازيغية” !

أ – الأجندة الصهيونية
تبدأ الادبيات الصهيونية في أساطيرها المؤسسة التي تحاول بها اصطناع الهوية الجديدة للأمازيغ من الأصول حتى تحضر بذلك التربة الخصبة لاستنبات الفسائل اللازمة لمقومات و مرتكزات هذه الهوية الجديدة التي يجب ان تنتهي للتماهي مع الأطروحة الصهيونية .. و من منظري الصهاينة في هذا المجال نستعرض رأي ثلاثة منهم على سبيل المثال وتمثلهم لصهينة الأمازيغ ..
في مقال ل دافيد بن سوسان تحت عنوان : ” سر ضياع قبائل بني إسرائيل العشر : قبائل شمال إفريقيا البربرية “ ينتهي، بعد عرض مستفيض لبحث آرثر كوستلر عن مملكة الخزر كقبيلة اليهود الثالثة عشر، إلى تقديم بحث على منواله و يعتبر البربر ( الأمازيغ) بشمال المغرب القبيلة اليهودية الرابعة عشر .. و يختم بحثه بسؤال “إشكالي” من صميم الخبث الصهيوني :
” فهل يتعلق الأمر بقبائل بربرية تهودت أم بقبائل يهودية تبربرت ؟ ” .
و النتيجة في بحث بن سوسان إذن هي أن البربر في كلتا الحالتين “يهود” !
.. وبرابرة شمال إفريقيا يهود إذن، و لأنهم هم السكان الأصليون بهذا المجال الحضري ( شمال إفريقيا) فإن غيرهم من السكان، (أي العرب ) دخلاء و مجرد غزاة يجب يوما أن يغادروا .. و لذلك قال برنار هنري ليفي في محاضرة له في مرسيليا عن الجزائر :
الجزائر ليست لا عربية و لا مسلمة، و إنما يهودية و فرنسية !
” l’Algérie n’est ni arabe ni musulmane mais plutôt juive et Française” !
أما بروز ماديوايزمان*، الأنتربولوجي و كبير الباحثين في معهد موشي دايان، المتخصص في الأمازيغية، فأكد في محاضرته للخبراء، قبل سنوات، في أحد معاهد تل ابيب، على أهمية و حيوية أن تصبح *” الحركة الأمازيغية مشروع حليف استراتيجي ل ” إسرائيل ” !!* و هو المشروع الذي انكب عليه فنشر عدة أبحاث و مقالات قبيل و خلال حراك 20 فبراير و حراك الريف و غيرهما من الحراكات التي انصهر فيها رفقة مخبريه و مرشديه الذين جابوا به كل تضاريس المغرب .
بروز مادي وايزمان الذي نتابع خطواته و مشاريعه التلغيمية في المرصد المغربي لمناهضة التطبيع، هو الذي كان موضوع نقاش في إحدى الندوات فقال عنه الدكتور حسن أوريد، بعد أن تحدث عنه و عن عمله التخريبي ممثل المرصد في الندوة، …” … و له شبكة ! “!
ب -“شيشناق” و الفضيحة العلمية !
ليعطي ” منظرو” الهوية المزوغية المتصهينة الجديدة هالة لأساطيرهم، كان لابد أن يبحثوا لهم عن أمجاد و ملاحم في التاريخ. . لذلك عمدوا خلال بناء أسطورة “السنة الأمازيغية” إلى ربطها بعظيم من العظماء، فكان أن نزل اختيارهم على شيشناق الفرعون الذي ادعوا انه أمازيغ من الجزائر !
و للرفع من قدرهم، من خلاله، اقاموا ونسجوا له قصصا وحروبا و بطولات في مواجهة الفرعون رمسيس الثاني، ” الذي هزمه الفرعون الأمازيغي شيشناق العظيم في حرب ضروس! و اعتلى إثر انتصاره المظفر عليه عرش مصر …الخ” ..
منظرو المزوغية المتصهينة عند مواجهتهم باستحالة ذلك لاختلاف أزمنة كلا الأسرتين الفرعونيتين، حاول بعضهم أن يستدرك بالادعاء أن الأمر يتعلق برمسيس الثالث و ليس الثاني !!
مسخرة حقيقية !!
مسخرة لأنه، لا رمسيس الثاني و لا رمسيس الثالث عاشا في زمن شيشناق العظيم !!
فرمسيس الثاني مات سنة 1213 ق.م .. أما رمسيس الثالث فمات سنة 1155 ق.م، في حين تولى شيشانق الأول الحكم سنة 950 ق.م .. !!
فكيف يكون شيشناق المظفر قد حارب وهزم فراعنة ماتوا قبل ولادته بما يزيد عن قرنين ؟ !!!
***
هذا هو أساس “السنة الأمازيغية ” التي تحاول المزوغية أن تركبها على السنة الفلاحية بأسطرتها .. أما لماذا كل هذا؟! فجوابه عند بن سوسان و أطروحة “القبيلة الرابعة عشر ” لبني إسرائيل .. و عند برنار هنري ليفي و عند بروز مادي وايزمان .. و عند لحسن أو سي موح و اكتشافه ل ” أورشليم صغيرة” ولقبور أنبياء اليهود بجنوب المغرب … و عند كل الجند المجندين وراء وايزمان و ضابط جيش الحرب الصهيوني سكيرا في ” محبي إسرائيل في المغرب الكبير ” المعبئين لإدخال هذه ” السوسة” في أوساط الطبقات الشعبية ..

   و لمن لم يفهم ولم يستوعب جيدا بعد، فليتأمل خبر الإعلان عن الاحتفال بمركز *حاييم  هيرتسوغ* لدراسات الشرق الأوسط والدبلوماسية في الكيان الصهيوني بمناسبة السنة الأمازيغية الجديدة 2971 !

و لمن لم يستوعب، حتى بعد كل هذا، فما عليه إلا أن يعود للندوة الصحفية لكل من المرصد المغربي لمناهضة التطبيع و مجموعة العمل الوطنية من أجل فلسطين ( متوفرة على اليوتوب) و سيفهم معنى تأطير ضباط و حاخامات في جيش الحرب الصهيوني تداريب على فنون القتل بضمير مرتاح، تحت راية الأكاديمية البربرية لمصممها اليهودي الصهيوني جاك بيني و بالتلمود !
عندهما .. (راية جاك بيني و التلمود) بيد الحاخام يهودا أفيكسير .. سيفهم من لم يفهم كل شيء .. حتى لو كان من الحجارة أو خشبا مسندة !

بقلم د. أحمد ويحمان