الفلسفة أسلوب حياة وفن للعيش

لا بديل عن التفكير النقدي والتسليم بحق العقل في التساؤل وإثارة الممكن في عالم يزداد غموضا وتعقيدا

 ليس من قبيل الترف أن نتفلسف، وليست الفلسفة ميزة خاصة بالنخبة المثقفة

 أسئلة في صميم علاقة الوجود بالموجود، وفي صميم انتشال الإنسان من عالم الرتابة

إن الأصل في الفلسفة كما يقول أرسطو هي الدهشة التي جعلت الإنسان يتفلسف ويطرح السؤال بحثا في ألغاز الطبيعة والوجود، هدف الإنسان الحقيقة ومعرفة ما وراء الأشياء والموجودات، في تفسير الطبيعة بعللها وأسبابها بعيدا عن الأسطورة وبطولات الآلهة، وكل ما هو نتاج للخيال وما لا يستسيغه العقل ولا يقبله في تأويل الأشياء
من عالم الميتوس والسرد للقصص ومغامرات الآلهة في الثقافة اليونانية إلى هيمنة اللوغوس والبحث عن الحقيقة. كانت البداية عظيمة كما يشير لذلك هايدغر في انبثاق فكر من الإنسان والطبيعة، فكر ينتشل التفكير من براثن التفكير الأسطوري، ويقدم عصارة التفكير الإنساني في خدمة اللوغوس، حاجة الناس للتفلسف تعني قدرة الفلسفة في إزالة الغموض عن العالم وطرح الأسئلة الفلسفية عن مجمل القضايا الشائكة، تلك التي تندرج ضمن ما هو ميتافيزيقي، وتلك التي تعتبر عن صميم الحياة الخاصة بالمعاناة والألم والسعادة ورغبات الإنسان، لا شيء يبقى يقينيا، ولا بديل عن التفكير النقدي والتسليم بحق العقل في التساؤل وإثارة الممكن في عالم يزداد غموضا وتعقيدا كما في تحليل رأي إدغار موران للفكر المركب وأسئلته القلقة عن عالم اليوم في ظل أوهام الإنسان وأحلامه، ثقافة الاختزال والتبسيط نالت اليوم من التفكير جهدا ولم يعد يقوى على مجاراة الحياة وإيقاع الزمن، الفكر المركب تراجع أمام فكر تبسيطي أو لنقل فكر تقني يهيمن عليه دعاة التقنية وأصحاب التخصص، فكر ينتهي لاغتراب الإنسان، وتكريس أنماط من السلوك يهتم بالاستهلاك والتنميط، وبالتالي تخاطب الفلسفة الإنسان في ذاته لأجل الغوص والفحص على الطريقة السقراطية أو على الطريقة الديكارتية أو استلهام آليات الفكر الفلسفي المعاصر في الحفر والتفكيك والخلخلة، يعني لا يقين نهائي ولا بداهة فوق النقد والتحري.
الفلسفة فن للعيش وفن للجدال والنقاش، تجربة حية في صميم الوجود الإنساني، وعلاقة الإنسان بالأشياء والآخر، يحيا هذا الإنسان وسط العلامات والرموز، وفي كثافة الدلالات والمعنى، ويفقد معنى الحياة عندما يصاب ويختزل كأداة في الإنتاج ووسيلة للاستهلاك في واقع المجتمع الحالي، ومهمة التفكير الفلسفي في رؤى الفلاسفة تعني خلق إنسان بمواصفات الحكيم الهادف للعيش بالطريقة التي ترسمها الفلسفة بعيدا عن القولبة، وبالقرب من الحرية، وفي وسط المواجهة وأحيانا يمكن للعدمية أن تفيدنا في مجابهة حياة التصنع والتطفل والروتين اليومي، عندما نتمكن من تجاوز الوجود المزيف رغم وجوده في وسط اجتماعي مشحون ذهنيا ووجدانيا بسمات الرتابة والاستهلاك، عالم القيم الجماعية والتقاليد المكبلة للفرد والقيم الفردانية

حاجتنا للفلسفة والتفلسف ضرورية في إزالة الغشاوة عن الفكر وتنمية الملكات، وتعديل السلوك الهمجي حتى يستوي الإنسان حضاريا  

ليس من قبيل الترف أن نتفلسف، وليست الفلسفة ميزة خاصة بالنخبة المثقفة، وعوالم الفلاسفة لا تعني الإبحار في عالم المثل والسعي نحو ميلاد الإنسان السوبرمان أو التموقع الدائم في جبهة المعارضة لكل ما يتعلق بالحياة والتجديد، والانفلات من التأطير، بل التفلسف أن يكون الإنسان في قلب الحياة ومعترك الوجود كفاعل ومؤثر بالتفكير والتوجيه والنقد. فالفلسفة كما يحددها ميشيل فوكو تشخيص عملي وميداني للواقع على غرار التشخيص الطبي الخاص بالطبيب النفسي مع المريض بالكشف والإنصات واستعمال تقنية التداعي الحر، إنها محاولة للدخول إلى الأشياء المعتمة، إنها الإضاءة التي تنير طريق الفلاسفة للعبور نحو المجهول أو على الأقل  محاولة في فهم ما نعتبره مستحيلا وغير قابل للفهم بواسطة العلم.                                                                        
نثير الأسئلة ونضع لأنفسنا مفاهيم خاصة بنا، ونجرد العالم من طابع الغرابة، ونتساءل عن الجدوى والغاية من وجود الأشياء، وكيف تتجلى لنا ولماذا تختفي؟  
كلها أسئلة في صميم علاقة الوجود بالموجود، وفي صميم انتشال الإنسان من عالم الرتابة، ومن هذا الزمن الضنين الذي تهيمن عليه التقنية وعقلية الاستهلاكية وصناعة الأجساد وتنميط العقول وتسطيحها، في عالم السلطة كشف فوكو عن آليات إنتاجها وطريقة توزيعها وتعميمها في المجتمعات الغربية، وفي عالم الكهف استعان أفلاطون بالأسطورة الرمزية التي تشير إلى دوافع الإنسان للتفلسف عندما يتمكن الفيلسوف من فك الأصفاد والارتقاء في عالم المعقولات، وليس هذا العالم إلا نتاج للتأمل وصفاء الإدراك للحقيقية التي تبدو جلية وواضحة، ولا يمكن تلمسها بالحواس التي تبقى قاصرة ومحدودة، من هنا يبدأ التفلسف عندما يلم الفيلسوف بالعلم النظري والعملي، وعندما يتجاوز الحس المشترك أو بادئ الرأي “الدوكسا“. 
لقد جاءنا أفلاطون بحكاية عن امرأة ضحكت على الحكيم طاليس الذي كان يمشي ويتأمل في السماء فسقط في حفرة، ضحكت لأن الفيلسوف عوض أن يتأمل في الأرض بقي مشدودا للسماء، ومن سخريتها عن طاليس يريد أفلاطون عرض المثال حتى يبين الفرق بين الإنسان الفيلسوف المشدود للقضايا الكبرى والإنسان العامي، الأسير للواقع والمحسوسات. فمن عالم الفلسفة، هناك بالفعل فعل فلسفي تبلور في سياق تاريخ الفلسفة، هذا الفعل ينم عن حضور الفلسفة والتفلسف معا، نتعلم الفلسفة حسب هيجل ويرشدنا الأمر إلى تعلم التفلسف، لان الإنسان لا يمكن أن يسبح في النهر بدون ماء، فلم يكن الفيلسوف بعيدا عن إنتاج من سبقوه، أرسطو كان بارعا في تلخيص حكمة الحكماء السبعة، ومجاراة المعلم والزيادة في علمه، وهذا أمر بالغ في بناء شكل آخر من الفلسفة والتفلسف، ولم يكن الفكر الفلسفي الحديث والعلمي منفصلا عن سياق المنظومة الأرسطية في مجال الفلك والفيزياء والفلسفة
التفلسف هنا يبدأ من علاقة العلم بالفلسفة. من مسح الطاولة والشك في كل المعارف التي تبدو يقينية ونهائية، شكل مغاير للفلسفة والتفلسف من عالم ديكارت في عودته لذاته، واعتبار منطلق بناء الفكر مركزه الذات العاقلة والمفكرة، في قدرة الذات على استخلاص المعرفة من ذاتها والتحول نحو الطبيعة…

الكاتب: admin

ذ. بضاض محمد Pr. BADADE Med باحث في:علم النفس،علوم التربية،والعلوم الشرعية. خريج جامعة سيدي محمد بن عبد الله-كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز-فاس خريج جامعة مولاي اسماعيل-كلية الآداب والعلوم الإنسانية-مكناس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *