نظرية التأويل ومفهومها عند الفيلسوف ابن رشد

يهدف التأويل في معناه إلى فهم حقيقة النص وأن معانيه في الفلسفة تعددت وأصبحت تعني بما وراء منتج النص واختلطت مع التفسير في الفلسفة العربية خاصة في بحوث القرءان ومن بين فلاسفة الإسلام ابن رشد احتلت اشكالية التأويل عنده مكانة هامة اعتبرها من أهم المناهج الفلسفية، وأن التأويل لابد أن يعتمد على برهان عقلي ليكشف على معنى باطني اعتمادا على العقل والمنطق. من أهم النتائج التي توصلنا إليها هي : 1. الهدف من التأويل عند بن رشد هو بلوغ اليقين وعدم الشك أي المعنى الباطني مرتبط ارتباطا وطيدا بالكتاب والسنة . 2. اعتمد ابن رشد بفضل القياس البرهاني من شرح وتفسير نصوص أرسطية. 3. اكد ابن رشد انقسام الشرع إلى ضاهر وباطن وهو مراعات تفاوت مستويات الناس في قدراتهم على الفهم. 4. حدد ابن رشد قوانين للتأويل وذلك من أجل أن لا تتسرب الفوضى ومن أجل الحفاض على مقاصد الشرع.

    لقد كان الاهتمام بتحديد مفهوم التأويل في العديد من الحقول المعرفية. لذلك كان يجب علينا كباحثين في الحقل الفلسفي أن نستكشف حقيقته في هذا الحقل  من خلال فيلسوف بحث فيه في إطار الفكر الفلسفي الإسلامي، وهو ابن رشد، وهذا لا يعني أنه أول من تناول هذا المفهوم داخل العالم العربي الإسلامي حيث نجد أن  هناك العديد من المفكرين في مختلف الميادين الفكرية قد تداولوا هذا اللفظ، خاصة وأن لفظ التأويل موجود في القرآن الكريم: "ويؤكد حضور الدال تأويل في القرآن الكريم أقدم  نص عربي موثوق في صحته سبع عشر مرة٨ "[1]
   وابن رشد يعد من أشهر الفلاسفة المسلمين الذين عالجوا قضية التوفيق بين الشريعة والفلسفة، وقد بين أن الشريعة تدعو إلى النظر لذلك  فهو يقول: "وإذا كانت هذه الشريعة حقا وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا معشر المسلمين، نعلم على القطع أنه يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد فيه الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له"
   ثم يبين أن في الشرع المسكوت عنه يوازي المسكوت عنه من الأحكام إذ يقول:"  فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه في الشرع أو عرف به فإن كان مما قد سكت عنه من الأحكام، فاستنبطها بالقياس الشرعي". فالمسكوت عنه في الشرع هو عند ابن رشد المحفز للتأويل خاصة عندما يخالف ظاهر النطق ما توصل إليه البرهان وإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفا له، فإن كان موافقا، فلا قول هنالك، وإن كان مخالفا طلب هنالك تأويله".
   ونفهم من خلال هذا أن ابن رشد يعلن عن التأويل للفصل في قضية مخالفة  البرهان  بظاهر النطق في الشريعة، وهنا نتساءل هل غاية  ابن رشد كانت نصرة البرهان أم اكتشاف آلية التأويل والتي من شأنها أن لا تشوه الشريعة؟
    سنتقصى ذلك من خلال الكشف عن أسس التأويل عند ابن رشد انطلاقا من تعريفه للتأويل وهو يقول: "ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقة في الدلالة المجازة – من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز- من تسمية لشيء يشبهه أو سببه أو لاحقه أو مقارنة  أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي" 
   إذا كان التأويل عند ابن رشد هو فعل الإخراج الذي يتم على مستوى التعامل مع الألفاظ القرآنية فهو  يشترط أن لا يخرج ذلك على نطاق قوانين اللغة العربية، وليس هذا فحسب بل هو يصر على أن لا يتم  ذلك إلا بالالتزام بهذا الأساس، حيث يقول: "ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان خالفه ظاهر الشرع. أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي"
من هنا يتبين أن ابن رشد في تعريفه للتأويل قد أكد على خصوصيته انطلاقا من أن القرآن الكريم ألفاظه عربية بحيث لا يجب على المتأول أن يتعامل مع النص القرآني بقوانين تخرج عن نطاق اللغة العربية وهذا إدراكا منه بخصوصية اللغة العربية من جهة  وللإعجاز القرآني في ورود اللفظ، يقول الجابري: "هذا القيد اللغوي ضروري حتى لا يجنح التأويل إلى أمور  بعيدة كل البعد عن مجال الخطاب القرآني"      
 لذلك يرى الجابري أن "الضابط الأساسي في هذه عملية هي القواعد  التي تحكم أساليب التعبير في اللغة العربية التي هي لغة القرآن، وبذلك يكون التأويل صناعة لغوية في جزء منه".

التأويل والمنهج العقلي:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

   خصص ابن رشد فصل المقال والكشف عن مناهج الأدلة لفحص قضية التأويل وأصح تأويل في نظره هو ما ينتج عن القياس المنطقي، كما يبين أن التأمل في الوجود أساسه عقلي حيث يقول: "فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي".            وليس هذا فحسب بل نجد ابن رشد يصر على أن  العقل هو مطلب شرعي فيقول: "أن هذا النحو من النظر الذي دعا إليه الشرع وحث عليه هو أتم أنواع النظر بأتم القياس وهو المسمى برهانا".
   لذلك يجعل ابن رشد المنهج العقلي الذي يعتمد البرهان في الأساس هو المنهج الوحيد الذي بإمكانه أن يستخدم في التأويل "فالعلم البرهاني في الأساس هو الذي يجعل الشريعة منسجمة مع العقل ومتسقة فيما بينها فما خالفه من النصوص يسلط عليه التأويل".

   لكن إذا كان التأويل لا يستخدمه إلا أهل العلم الذي يشترط فيهم امتلاك البرهان فبالضرورة سيكون أحد التأويلات إن لم نقل أهمها، فالتأويل هو جوهره ربط النتائج بالمقدمات، داخل القول الديني نفسه، هو البحث عن المعنى، المقصود وراء التعابير المجازية والأمثلة الحسية وذلك بشكل يجعل مدلول القول الديني على وفاق ما يقرره البرهان العقلي " 
 وحسب ابن رشد البرهان هو كاشف للحقيقة "إن كان البرهان فلا يكون إلا مع العلم بالتأويل، لأن الله تعالى قد أخبر أن لها تأويلا هو الحقيقة والبرهان لا يكون إلا على الحقيقة." ولقد استفاد ابن رشد من المنطق الأرسطي في تأسيسه لنظرية التأويل وذلك باستخدام البرهان العقلي واعتباره أهم شرط للحصول على تأويل صحيح، وقد وظف في ذلك نظرية التوسط  ونظرية الطرف المحايد الكونيتان باعتبارهما مشتقتين من البرهان العقلي ولذلك، فهما عامتان شاملتان يمكن توظيفهما في حل مشاكل فلسفية وكلامية وسياسية وتأويلية قد تكون مصدر فرقة الناس "               
 نجد أن ابن رشد في إطار استثماره المنطق الأرسطي في التعامل مع النص القرآني، يوظف التوسط والحياد مكونا اثنان من مكونات المربع السيمائي أو المسدس السيميائي وسيلة تأويلية وتوليدية في الوقت نفسه"  لذلك نجد العقل الذي هو "أداة التفكير والتأمل والتدبر وبعبارة  أخرى هو أداة التأويل".

المجاز والحقيقة:

◇◇◇◇◇◇♧◇◇◇◇◇◇♧◇◇◇◇

 إن ابن رشد من خلال تعريفه للتأويل يشير إلى المجاز والحقيقة ذلك "أنه مهما كانت أجناس النصوص وأنواعها وأصنافها فقد ترجع إلى القسمة المعروفة من كون الكلام ينقسم إلى حقيقة ومجاز فإذا كان الكلام حقيقة صرفة خالصة فإنه لا يجوز تأويله، وأما إذا كان الكلام فإنه يجب تأويله حتى تتلاءم دلالة تعابيره مع المعقولية ." 
نجد أن ابن رشد يؤكد على ثنائية الحقيقة والمجاز في النصوص وهناك من يقر أن ابن رشد لم يخرج في تعريفه للمجاز عن تعريف المتكلمين حيث يقول أبو زيد نصر حامد :"إن تعريف المجاز الذي يقدمه ابن رشد هو نفسه التعريف المتداول في دائرة المتكلمين المعتزلة أو الأشاعرة"
في حين أن ابن رشد في الأساس نظر إلى التأويل لدحض أفكار وتأويلات المتكلمين، خاصة التي لها علاقة بصفات الخالق،" وينتهي تأويل الصفات  المعتمد على البرهان والمؤسس على ما بعد الطبيعة إلى أن الله سبحانه عقل خالص لا  يعقل إلا ذاته، وذاته عقل بالضرورة " وقد بين ابن رشد من خلال العديد من نصوصه عدم مصداقية تأويلات المتكلمين، فهو يقول مثلا: "فالمتكلمين ليسوا في قولهم أيضا في العالم معتمدين على ظاهر الشرع، بل متأولون. فإنه ليس في الشرع أن الله كان موجودا من العدم المحض، ولا يوجد هذا فيه نصا أبدا، فكيف يتصور في تأويل المتكلمين في هذا الآيات أن الإجماع انعقد عليه."
   وقد أقر ابن رشد أن هذا النوع من التأويل قد أضر بالشرع، وهو بطريقة أو بأخرى معني بإيقافها وإعطاء البديل في هذا الإطار. حيث عمل على تقديم نظرية متكاملة في التأويل وهذا على الأقل حسب ابن رشد، وهو يستند في ذلك إلى آيات قرآنية من بينها قوله تعالى: ﴿ فَأمَّا اْلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾

لذلك كان موقف ابن رشد من المتكلمين في مسألة التأويل موقف الناقد ” وأسند ما عرض الشريعة في هذا الصنف أنهم تأولوا كثيرا مما ظنوه ليس على ظاهره، قالوا إن هذا التأويل هو المقصود، وإنما أتى الله به”
هناك من ينتقد ابن رشد في هذا الإطار، فإنه إذا كان ابن رشد يؤسس لتأويل على البرهان وذلك إذا كان البرهان هو المعرفة اليقينية فمن الضروري أن يكون البرهان هو أساس التأويل ومعياره ” فإن هجوم ابن رشد على المتكلمين وعلى تأويلاتهم التي سببت الاضطراب والفساد وشوهت العقيدة، ليس مبررا ولا مفهوما إذا كان المجاز هو قانون التأويل لأن هذا بالضبط هو قانون التأويل، لأن هذا بالضبط هو القانون الذي حكم تأويلات علماء الكلام “
لكن هناك من يرى أن ابن رشد في نظريته للتأويل مازج بين البرهان والبيان فإننا نجد البيان عند ابن رشد ممتزجا بالبرهان، والبرهان مندمجا في البيان وهذا ما سوغ لنا أن ندعوه التأويل ” البرها – يان ” نحتا من كلمتي البرهان والبيان “
وإذا كان ابن رشد قد اهتم بالمجاز فلأنه لا يمكن لأي لغة أن تخلوا من المجاز خاصة اللغة العربية كما أن القرآن الكريم نص عربي “وللتأويل في خطاب ابن رشد جانبان: الأول ضرورة اعتماده على البرهان الذي يحدد مرجعية المعنى والدلالة، الثاني أن يوافق قوانين اللغة العربية ولا يتعارض معها” وبهذا المفهوم يكون التأويل عند ابن رشد قد استفاد من كل الأسس المعرفية التي من شأنها أن تقدم تأويل صحيح “فالتأويل هنا فك شفرة لنص من أجل فهم العالم الذي تمثل اللغة ظاهر النص القرآني تعبير المجازي “
ويتجلى الإبداع الرشدي في تأسيسه لنظرية التأويل في قدرته على استعانته على أسس برهانية وبيانية دون أن يخل بقواعد اللغة العربية ولا بالمبادئ العقلية.

التعددية وثنائية الظاهر والباطن:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

   لقد قسم ابن رشد الناس  إلى ثلاثة أصناف حسب درجة الإدراك. هناك من يصفهم بأهل الخطاب، والصنف الثاني أهل الجدل أما الصنف الثالث، فهم أهل البرهان وحسب ابن رشد أن هذا التقييم  يظهر فيه اللطف الإلهي على البشرية.  كما أن هذا الاختلاف يعود في الأساس إلى الفطرة والاكتساب أو إليهما معا إذ يقول: "فقد تلطف الله فيها  لعباده الذين لا سبيل لهم إلى البرهان، إما من قبل فطرتهم، وإما من قبل عاداتهم، وإما من قبل عدمهم أسباب التعلم "
   وابن رشد  يقر بوجود التعددية، "فالتعددية، تلك القائمة في طباع البشر لاختلاف عاداتهم، ومرجعيا أمر حرصت الشرائع على التعامل معه وصفة حقيقة سابقة عليها، ولم تسعى الشرائع لإلغاء التعددية وللقضاء عليها بدليل أنها انطوت في بنية خطابها، الخطاب الإلهي على تعددية مماثلة تجعل الخطاب مفتوحا لأفاق التأويل والفهم".                              
   ولقد تضمن النص القرآني كل مستويات الخطاب  مراعيا في ذلك أصناف البشر الثلاثة، وحسب ابن رشد "بأن ضرب لهم أمثالها وأباحها ودعاهم إلى التصديق بتلك الأمثال، إذ كانت تلك الأمثال يمكن أن يقع التصديق بها بالأدلة المشتركة للجميع، أعنى الجدلية والخطابية "
   إن فكرة التعددية كانت سبب في انقسام الشرع إلى ظاهر وباطن فيقول "فإن الظاهر هو تلك الأمثال المضروبة لتلك المعاني التي لا تتجلى إلاَّ لأهل البرهان "               
   ولذلك فإن أهل البرهان هم المختصون بالباطن دون غيرهم، وعلى هذا النحو من التمييز بين الظاهر والباطن فإن الظاهر لا يحتاج إلى تأويل. بل ذهب ابن رشد في هذا الشأن إلى انه من اعتمد التأويل في الظاهر كفر، فيقول: " وكان على ظاهره لا يتطرق إليه تأويل، وهذا النحو من الظاهر إن كان في الأصول والمتأول له كافر".                              فابن رشد يحرص على أن هناك ظاهر من الشرع محظور التأويل :"فقد ظهر من قولنا أهمها ظاهر من الشرع لا يجوز تأويله، فان كان تأويله في المبادئ، فهو كفر وان كان فيما بعد المبادئ، فهو بدعة وهنا أيضا يجب على أهل البرهان تأويله، وحملهم إياه على ظاهره كفر وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم بدعة".
   كما بين ابن رشد أن هناك صنف ثالث بين الظاهر والباطن حيث يقول: "ههنا صنف ثالث في الشرع متردد بين هذين الصنفين فيه شك فيلحقه قوم ممن يتعاطى النظر بالبرهان الذي لا يجوز تأويله ويلحقه آخرون بالباطن الذي يجوز حمله على الظاهر،  وذلك لعواصة هذا الصنف واشتباهه والمخطئ في هذا معذور، أعني من العلماء.
   ويمكن أن نقول أن هذا الصنف لا هو باطن يحمل معناه على الظاهر، ولا هو ظاهر يجوز تأويله إذن هذا الصنف يبقي بين ثنائية الباطن والظاهر، "فهذه التعددية المنعكسة في تعدد مستويات الخطاب الإلهي من شأنها أن تفضي إلى تعددية التأويلات ".
   وإذا كان التعدد صفة  بشرية، فهذا لا يتعارض مع الوصول إلى فكرة التوحيد، والتي يتأسس عليها النص القرآني، "وهكذا تقضي التعددية إلى التأويل من حيث جذورها واحدة في الحكمة الإلهية". وهذا يعود في الأساس إلى خصوصية النص القرآني "فالنص القرآني الذي يقبل التأويل، وينبه أهله إلى  وجوب استعماله في الأقاويل التي ينبغي أن يستعمل فيها، ينطوي بحسب مفهوم ابن رشد له، على جميع طرق  الحقيقة، إذ الحقيقة تختلف طرق تصورها والتصديق بها كما أوضح ذلك هو نفسه."
   ولما كانت فكرة التوحيد غاية المؤمن مهما كان الصنف الذي ينتمي إليه من حيث درجة التصديق، "فيبدو أن ابن رشد كان حريصا أشد الحرص على الضوابط المعرفية التي لا تلغي التعددية
   وحسب أبو زيد نصر حامد " أن ابن رشد إذا كان محور فلسفته هو إبراز عدم الاختلاف بين الحكمة والشريعة، وهو يؤكد عدم الاختلاف كان يؤصل للتعددية والاختلاف بين البشر".
   وقد كان ابن رشد مؤيدا للتعددية والاختلاف باعتماده على العقل وهي الآلية نفسها التي اعتمدها في التأويل، " فهو يؤكد أن رفع الاختلاف لا يتم إلا بآليات العقل الإنساني لاكتساب المعرفة البرهانية اليقينية من جانب، ولتأويل ما يتعارض مع هذه المعرفة تأويلا صحيحا من جانب آخر".
   وهكذا عمل ابن رشد على تأسيس نظرية التأويل بشكل لا يتنافى  مع الأسس العامة للمعرفة." و بهذا المعنى وحده يمكن اعتبار ابن رشد ممن أعادوا البناء والتأسيس للعلوم الدينية الفقهية والكلامية، أي انطلاقا من رؤيته للنص القرآني كفضاء دلالي متعدد الاحتمالات والدلالات، وباستعمال المنهج "التأويلي" لا "الظاهري"،في فهمه والتعامل معه" إن التعددية التي شملت البشر قد تعدت إلى التأويل، فإذا كان تعدد التأويلات في فهم  النصوص الدينية أمر مشروعا، فإن الاختلاف في شؤون الحياة والمجتمع تكتسب تعدد التأويلات المشروعة أعمق أصناف إلى مشروعيته العقلية الخالصة "                       
   وعليه فإنه سيكون لكل صنف من الأصناف البشرية نوع من التأويل وهذا ما يصرح به ابن رشد، " فإذا  الناس في الشريعة على ثلاث أصناف: صنف ليس هو من أهل التأويل أصلا وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب، وذلك أنه ليس يوجد أحد سليم العقل يعرف هذا النوع من التصديق"
   ونفهم من هذا أن هناك من هو محروم من امتلاك التأويل، وهذا دائما حسب ابن رشد لأن هذا الصنف قدراته العقلية في التعامل مع النصوص محدودة . وهو الصنف الذي يقف عند حدود الظاهر في التصديق، " والصنف هو من أهل التأويل الجدلي وهؤلاء هم  الجدليون بالطبع فقط أو بالطبع والعادة"
   هذا الصنف حسب ابن رشد لا يرقى لأن يكون تأويل صحيح في حين أن النوع الأخير من التأويل عند ابن رشد هو المطلوب، " والصنف هو من أهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون بالطبع والصناعة. أعني صناعة الحكمة." 

التأويل المحظور:

ذ♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

   لقد حرص ابن رشد على عدم التصريح بالتأويل لعامة  الناس. حيث كان صارما في ذلك وهو يقصد التأويل اليقيني الذي يجب أن يبقى في دائرة خاصة، وهذا التأويل ليس ينبغي أن يصرح به لأهل الجدل فضلا عن الجمهور. متى صرح بشيء من هذه  التأويلات لمن هو غير أهلها وبخاصة تأويلات البرهانية  ليعدها عن المعارف المشتركة. افضي ذلك بالمصرح له والمصرح إلى الكفر"
   وقد اعتبر هذا التأويل محظور لما ينتج عن الإفصاح عنه، وهو انتشار الكفر بعدما كانت التأويل تحقيق التوحيد، وقد بلغ الإفصاح عن مفهوم الظاهر ولقد لحظنا فاعلية الظاهر، وليس لأي بشر الصلاحية لإلغاء ذلك. لأن النص القرآني خطاب إلهي وهو محفوظ بقوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلَنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾
   لذلك يقول ابن رشد: "والسبب في ذلك أن مقصوده إبطال الظاهر واثبات المؤول. فإذا بطل الظاهر عند من هو من أهل الظاهر، ولم يثبت المؤول عنده أداه ذلك إلى الكفر إذا كان في أصول الشريعة."
   ومن هذا المقام يستعين ابن رشد بما فعله الغزالي حيث يستدل بذلك حيث يقول: "بالتأويلات ليس ينبغي أن يصرح بها للجمهور، ولا أن تثبت في الكتب الخطابية أو الجدلية، أعني الكتب إلى الأقاويل الموضوعة فيها من هذين الصنفين كما صنع ذلك أبو حامد
   ولهذا لا بد أن يبقى مفهوم الظاهر ثابتا عند جميع البشر بمختلف أصنافهم "ولهذا يجب أن يصرح ويقال عن الظاهر بنفيه للجميع وكون معرفة  تأويله غير ممكن فهو ثابت لا يعلمه إلا الله [].....في قوله تعالى ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَهُ﴾
   وابن رشد لا يمنع التصريح بالتأويلات الفاسدة فحسب بل حتى الصحيحة منها وذلك لعدم  توفر هؤلاء على آلية  الفهم "هذا أن أصرح لهم بتأويلات صحيحة في ذلك الأشياء بكونهم لا يفهمون ذلك التأويل، فضلا إن أصرح لهم بتأويلات فاسدة لأنه يؤول بهم الأمر إلى أن يروي أن هنا صحة يجب أن تحفظ ولأمر هنا يجب أن يزال، فضلا من أن يروي أنهما أشياء تحفظ الصحة وتزيل المرض."
     وهكذا فإن ابن رشد يمنع التصريح بالتأويل للجمهور، وهو في الوقت نفسه يريد لهم المحافظة على الشريعة بل المحافظة على سلامة عقيدتهم الدينية ككل "لهذا ينتقد ابن رشد المتكلمين من المعتزلة والأشعرية الذين صرحوا بتأويلهم للجمهور، وفرقوا بين الناس وقد سبق الحنابلة ابن رشد في هذه المسألة  وذموا الكلام". وهناك ردود متشابهة  في تاريخ الفكر الإسلامي " فقد كان لابن عباس موقف من الخوارج ومن تأويلهم، وهو موقف انعكس في الروايات  المأثورة عنه في كتب التفسير والتي يرد فيها على تأويلاتهم، بل يؤول بعض  آيات القرآن التي تهاجم المؤولة على أساس أن المقصود بها الخوارج."
   في حين نجد أن علي حرب يرى أن ابن رشد يلغي ميزة العقل عند عامة الجمهور، فيقول: "وهكذا نقرأ دعوة ابن رشد إلى عدم التصريح بالتأويلات أمام العامة، فنتأولها على أنها تعني أن الجمهور لا يعقل."
   نلاحظ أن هذا القول مبالغ فيه لأن ابن رشد قد وضع هذه المسألة خاصة وأنه استند في هذا النص القرآني نفسه " فالنص القرآني الذي يقبل التأويل، وينبه أهله إلى وجوب استعماله في الأقاويل التي ينبغي أن يستعمل فيها، ينطوي بحسب مفهوم ابن رشد له، على جميع طرق الحقيقة، إذ الحقيقة تختلف طرق تصورها والتصديق بها كما أوضح ذلك هو نفسجوهذا قد صرح به أيضا علي حرب نفسه لذلك لا يمكن الحكم على الموقف الرشدي. خاصة و "أن التأويل الذي اعد لإرشاد العوام... هو تأويل يؤكد على شرعية الدعوة ويحميها." 

قانون التأويل:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

إن اهتمام ابن رشد الشديد بالتأويل جعله يضع له قانون، فهو يبين تصنيف المعاني في الشرع، فيقول: “إن المعاني الموجودة في الشرع توجد خمسة أصناف، وذلك أنها تنقسم أولا إلى صنفين وينقسم الآخر منهما إلى أربعة أصناف.”
وإذا اهتم ابن رشد بتصنيف المعاني في الشرع فلقد عنى ابن رشد بتحديد وظيفة اللفظ في النص وحدد الألفاظ ومصدرها في أربعة يقول: “وأصناف الألفاظ التي تتلقى منها الأحكام من السمع أربعة ثلاثة متفق عليها ورابع مختلف فيه.”
وذلك أن التأويل الرشدي غايته الكشف عن الحقيقة، وهذا من خلال اهتمام بالمعاني والعمل على تصنيفها، وفي الوقت نفسه الاهتمام بالألفاظ و تصنيفها هي الأخرى، “وللتأويل في خطاب ابن رشد جانبان الأول ضرورة اعتماده على البرهان الذي يحدد مرجعية المعنى والدلالة، والثاني وفق قوانين اللغة العربية ولا يتعارض معها.”
من هنا فإن ابن رشد قد استفاد من كل أنماط المعرفة التي درسها في حياته من معارف فلسفية ودينية، “وهو يؤسس مشروعية التأويل على أساس فقهي مكين كما يؤسس مشروعية النظر الفلسفي على الأوامر القرآنية بالنظر إلى التدبر والاعتبار في خلق السموات والأرض
وهكذا فإذا كانت غاية ابن رشد الوصول إلى حقيقة واحدة من خلال التوفيق بين الحكمة والشريعة، وينتج عن ذلك القرار بنظرية في التأويل، فإن هذا التأويل هو في حد ذاته يتأسس على أسس شرعية فلسفية. أما تأسيس التأويل على أساس شرعي، فيعتمد بدوره كذلك على مقارنته بقياس الفقهاء في الأمور التي سكت عنها الشرع.
حيث نجد ابن رشد يقول ويتساءل في نفس الوقت “وإذا كان الفقيه يفعل هذا في كثير من الأحكام الشرعية، فكم بالأحرى أن يفعل ذلك صاحب عمل البرهان ؟”
ومن هنا نتساءل نحن بدورنا عن حدود ممارسة ابن رشد للتأويل في نصوصه الخاصة، بمعنى هل استطاع أن يحافظ على ماهية صاحب علم البرهان؟

قائمة المصادر والمراجع:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

1- ابن رشد ، أبو الوليد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ج1، دار الشريفة، دون ط، سنة 1989.
2- ابن رشد، أبو الوليد، فصل المقال في تقرير ما بين الحكمة والشريعة من اتصال، سيراس للنشر. دون ط، سنة 1994.
3- ابن رشد، أبو الوليد، فصل المقال في تقرير مابين الحكمة والشريعة من اتصال، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع. الجزائر دون ط. سنة 1982 .
4- ابن رشد، أبو الوليد، مناهج الأدلة في عقائد الملة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط 1،سنة 1998.
5- أبو زيد نصر حامد،النص الحقيقة السلطة، ط2 المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء، المغرب، ط2، سنة 1997.
6- أبو زيد، نصر حامد، التأويل والخطاب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب.ط 1، سنة 2000.
7- الجابري، محمد عابد. نحن والتراث، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء، المغرب، ط 6، سنة 1993.
8- حرب، علي، نقد النص، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط2، سنة 1995.
9- سالم عبد الجليل بن عبد الكريم، التأويل عند الغزالي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، مصر،ط1، سنة 2004
10- مفتاح، محمد. التلقي والتأويل، المركز الثقافي، العربي الدار البيضاء، المغرب، ط2، سنة 2001.

[1] نصر حامد، أبو زيد.النص الحقيقة السلطة، ط2 المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء، المغرب، ط2، سنة 1997، ص

الكاتب: admin

ذ. بضاض محمد Pr. BADADE Med باحث في:علم النفس،علوم التربية،والعلوم الشرعية. خريج جامعة سيدي محمد بن عبد الله-كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز-فاس خريج جامعة مولاي اسماعيل-كلية الآداب والعلوم الإنسانية-مكناس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *