مفهوم الحب والخلاص عند الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه(1844-1900)

قليل هم الذين قد يقرنون فريدريك نيتشه بالحب. ولكن هذا الفيلسوف الأكثر جيشاناً بالعاطفة بين الفلاسفة كان يكتب (بالدم) عن الأشياء التي أحبها فقط.
على نحو مميز، كان يشعر بدافع لمعارضة ما أحب، بل- أكثر من ذلك- كان عليه أن يقتله. الخلاص لم يكن بالنسبة إلى نيتشه هو التحرر من الخطيئة بل تأكيد كلي للحياة بكل ما فيها من ألم ومعاناة وعبث. وفي ما يخص الذنب، فإن القليل قد كلفوا أنفسهم عناء التصدي له أكثر من موضوع الحب.
المفارقة تتخلل وجود نيتشه، لفهم حالة التناقض عند نيتشه الفيلسوف وكذلك عند نيتشه الإنسان، يجب على المرء أن يعي مفهوم توافق الأضداد، هذا المفهوم نشأ لدى هيراقليطس الذي كان يحظى بإعجاب كبير من لدن نيتشه.
هيراقليطس كان يعتقد أن جميع الأشياء كانت تتصف بثنائيات من الخصائص المتناقضة، فعلى سبيل المثال قد يكون الشيء الواحد نفسه حاراً وبارداً على حد سواء. وحيث تكافح هذه الخصائص المتناقضة بعضها بعضاً فإنها تتحرك نحو الوحدة والانسجام، وتقترب المفاهيم بعضها من بعض و (الطريق هو واحد وهو نفسه من بدايته إلى نهايته). معركة المتناقضات، التي تغذيها تقلبات مزاجه طوال حياته، أصبحت تياراً تحتياً مضطرباً في فلسفة نيتشه. التوتر الدائم والطاقة الناجمة عن الصراع كانا مصدر إلهام وخلق له. فلقد أدى الصراع إلى (ولادات أكثر قوة دائماً). وكانت إعادة ترتيبه المتنوعة للمتناقضات في بعض الأحيان قد تغدو سريعة جداً إلى حد أن الوجودي كارل جاسبيرر علق قائلاً: (إنك لم تقرأ نيتشه بعناية إذا لم تكن قد عثرت على تناقضين في الأقل في صفحة واحدة)/ (نيتشه: مدخل إلى فهم نشاطه الفلسفي).

لقد أصبح المفهوم (الأبولوني) والمفهوم (الديونيسي) أكثر مفاهيم نيتشه الثنائية شهرة. ولكن أفكاراً أخرى مستوحاة من هيراقليطس أكثر استفزازاً: (الألم واللذة ليسا نقيضين)، (الصحة والمرض ليسا مختلفين جوهرياً)، (المستهزئون هم معجبون خفيون)، (الحقيقة كذبة على وفق عرف ثابت)، الخ.

جدير بالاعتبار أن خطاب نيتشه ليس ممارسة في الجدل الهيجلي (الذي يقتضي تركيباً من أفكار متناقضة) بل رقص متشابك من الأفكار، ومن هنا فانه من غير المجدي البحث عن تركيب أو حل نهائي في كتاباته.

اختار نيتشه مثل ديونيسوس إله قوى اللاشعور المظلمة، إله التهتك والجنون، إله الأفياء والظلال. الوعي الديونيسي ثنائي الجنس من حيث الجوهر، وكان بالنسبة إلى نيتشه على نحو الدقة الجانب القمري لهذا الوعي، الأعماق السحيقة للأنثوي، الذي كان جذاباً ومخيفاً على حد سواء.
الجانب الأنثوي لنيتشه كان خفياً بشكل عميق خلف قناع مزدوج الطبقات قوامه اوبرمينش وزرادشت. بوصفه (فيلسوف أقنعة)، يؤكد نيتشه أن (على المرء أن يتكلم من أجل أن يظل صامتاً) وذلك القول كان شكلاً من أشكال الإخفاء. ومع أنه غالباً ما كان يصرخ بالقراء من خلال أقنعته العديدة مثل (الثائر، المسيح الدجال، كاره النساء، المجنون) فإنه أيضاً كان يتكلم برقة. وحين يفعل ذلك فإن الصورة الظلية (لصبي ذي عينين ساخنتين متعبتين) تتسلل من وراء الحجاب: ألم وحزن يكمنان تحت السطح الصلب.

الحب يشتهي والخوف يتحاشى
أخاف قربك، أحب بعدك
هكذا تكلم زرادشت/ (الأغنية الراقصة الأخرى).

توق نيتشه إلى الحب لم يضاهيه إلا خوفه منه. كان يبدو أنه يجسد حكاية شوبنهاور الشهيرة عن النيصين (النيص أو الشيهم حيوان شائك من القوارض) اللذين كانت بهما حاجة إلى أن يجتمعا معاً من أجل الدفء باذلين الجهد لإيجاد المسافة المثالية التي جعلتهما يشعران بما يكفي من الدفء من دون أن يؤذي أحدهما الآخر.

في كتابه (1882The Gay Science)يقول نيتشه إن الحب ذو علاقة وثيقة بالجشع، فكلاهما يعبر عن الغريزة ذاتها، غريزة التملك. وتحت تأثير جرحه العميق الناجم عن المثلث الغرامي المعقد مع لو سالوم (Lou Salom e)، كان يحذر من النساء اللاتي لسن بشيء سوى (وحوش مفترسة صغيرة) تتملكهن شهوة الحمل. واشتهرت على نحو سيئ الصيت نصيحته في (زرادشت): (هل أنت ذاهب إلى النساء؟ لا تنس السوط). ولكن لو هي التي كانت تلوّح بسوطها فوق رأسي نيتشه و ري في الصورة الشهيرة التي غالباً ما كانت تعرضها بوصفها غنيمة لها. مساعي نيتشه للحصول على زوجة صغيرة وجذابة لم تتحقق أبداً، وما كانت زيجتاه إلا مقترحات رفضت. ربما كان يعلم جيداً كيف يقترح بشكل سليم واضعاً نصب عينيه تحذير شوبنهاور: (الزواج يعني أن تمسك وأنت معصوب العينين بكيس آملاً أن تجد فيه سمكة بين حشد من الأفاعي).

يدعي نيتشه أن الحب شديد الصلة بالجشع والاستحواذ وحب التملك. الحب عبارة عن قوة غريزية يحركها احتياجنا البيولوجي والثقافي، وعلى هذا النحو، لا يمكن اعتباره حسنة أخلاقية (قصيدة 363 في «العلم المرح»). علاوة على ذلك، محاولة جعل هذه الغرائز والاحتياجات اجتماعية غالبا يؤدي لخلل ولمعاناة نفسية، خاصة عند النساء

ولكن نيتشه أيضاً كتب هذا عن الحب:
إنه الليل: الآن جميع الينابيع المتقافزة تتكلم بصوت أعلى. وأنا نفسي أيضاً ينبوع يتقافز.
شيء لم يكبت، ولا يمكن أن يكبت، داخلي يريد أن يفضي عما فيه. داخلي توق إلى الحب هو نفسه يتكلم لغة الحب. هكذا تكلم زرادشت/ (أغنية الليل).

نيتشه عاشقاً حتى الانتحار

لم يغادر إرفين د. يالوم (1931) فضاء الفلسفة في كتاباته، مازجاً التحليل النفسي بالأسئلة الوجودية. بعد كتابيه «مشكلة سبينوزا»، و»علاج شوبنهاور»، نصب فخاخه حول فريدريك نيتشه وأدخله قفص التخييل الروائي هذه المرّة. في روايته «عندما بكى نيتشه» (1992) التي انتقلت أخيراً إلى العربية عن «دار الجمل» (ترجمة خالد الجبيلي)، سنلتقي فيلسوفاً آخر غير الذي عرفناه.

صاحب فلسفة «إرادة القوة» يبدو هنا رجلاً هشّاً ومكتئباً وسوداوياً يقف على حافة الانتحار. كان نيتشه قد خرج للتو من قصة حب محبطة مع لو سالومي، الروسية المثيرة التي وقع في شباكها أكثر من عاشق، مثل فاغنر، وريلكه، وبول ري. الأخير كان الضلع الثالث في الورشة الفلسفية التي اقترحتها لو سالومي، قبل أن يتفكّك المثلث تحت ضربات العاطفة المتأججة التي أبداها نيتشه نحوها، لكنها ستذهب مع بول ري، ما اعتبره نيتشه خيانة منهما له. هكذا زعزعت هذه الأنثى الصغيرة كيان الفيلسوف لينتهي مريضاً في عيادة الدكتور جوزيف بريوير، بمبادرة من لو سالومي نفسها، لكن من دون علمه، حرصاً على مستقبل الفلسفة الألمانية، وفقاً للرسالة التي أودعتها عيادة الطبيب. نحن في فيينا، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر (1882)، وكان نيتشه حينذاك في بدايات تلمّس مشروعه الفلسفي. يوافق بريوير على معالجة «العقل المريض» في تجربة لم يخضها قبلاً. وعلى ضوء بعض كتابات نيتشه المبكّرة، يحاول أن يطوّر عمله في التحليل النفسي بمساعدة تلميذه الطبيب الشاب سيغموند فرويد.

اختبارات عميقة لمعن
ى
الحرية والاختيار والعبودية

كان نيتشه حذراً في كشف أمراضه النفسية، لكن بريوير يجد في هذه العيّنة من المرضى فرصة لاكتشاف أمراضه الشخصية، و»كنس المدخنة» مما علق بها من «قمامة عقلية». وإذا كانت لو سالومي هي من أوصل نيتشه إلى حافة الانتحار، فإن بيرثا، المريضة السابقة لدى الطبيب، هي نسخته الشخصية من الدمار العاطفي. مريضان يتبادلان الأدوار في العلاج، على خلفية هائلة من المصطلحات في تشريح الجسد والروح، ذلك أن «أطروحة اليأس» لا تخص نيتشه وحده، إنما يعاني منها الطبيب أيضاً، فما أن تختفي بيرثا من حياته حفاظاً على علاقته الزوجية مع ماتيلد، حتى يفقد أي معنى لحياته، رغم رصانته المعلنة، ونقاشاته العلمية مع تلميذه فرويد، الصديق الحميم للعائلة. مع نيتشه، في الغرفة «13» من المصحة، تنزاح طبقات من أسرار الرجلين في جلسات عصف فكري، و»خدمات تخفيف الألم»، وسبر «مسارب العقل الخلفية». إنهما من الجيل الذي قرأ بشغف رواية «آلام فارتر» لغوته، الرواية التي ينتهي بطلها إلى الانتحار، لكنهما في المنعطف الأخير من أحوال الاحتضار يفتشان عن طوق نجاة ينقذهما من اليأس: «اليأس هو الثمن الذي يسدّده المرء لقاء الوعي الذاتي. تمعّن في الحياة، وستجد اليأس على الدوام» يقول نيتشه مخاطباً جوزيف بريوير. عند هذه العتبة، نتعرّف إلى شذرات من أطروحة نيتشه غير المكتملة عن الأساطير الغيبية، وموت الإله، ومحاولة إنقاذ البشر من العدمية والوهم وخرافة الدين. بناء على فكرة طرحها نيتشه بأن الأحلام ليست سوى فضلات عشوائية يطرحها العقل في الليل، يسعى الطبيب إلى تعويض خسائره بالأحلام، فيخضع لجلسة تنويم مغناطيسي لدى تلميذه فرويد، في محاولة لإزاحة صورة بيرثا عن مخيّلته، وهوسه الجنوني بها، إلى أن يعلن شفاءه منها، إثر رحلات وهمية إلى أرضٍ أخرى، واختيار قدره، بعيداً عن زوجته ماتيلد، وكل ما يربطه بالماضي، وذلك بمقارعة العدو الحقيقي «الزمن والشيخوخة والموت». وحين يخبر نيتشه بأنه شفي تماماً من شهوانيته، نكتشف أن صديقه يعيش الهوس نفسه بلو سالومي، معتبراً أنها خانته ودمّرت حياته تماماً، وانتهى إلى الخذلان والعزلة والكآبة، قبل أن يشتبك مع زرادشت، في تجربة فلسفية مختلفة. نخرج من هذه الرواية بقناعة مؤكدة بأننا كلّنا مرضى، ولكن بدرجات، وأن قصص الحبّ المحبطة، أساس كلّ العلل، كما لا يمنع أن نتبادل الأدوار فوق أسرّة المرضى وزيارات الأطباء كفواتير مؤجلة بين الطرفين، بالإضافة إلى أهمية أن نخترع حيوات مختلفة لأشخاص لطالما كانوا خارج مرمى الخطر، بوضعية يكون فيها «مستلقياً على الكنبة» وفقاً لعنوان أحد كتب إرفين د. بالوم نفسه.
يضع إرفين د. إيلوم، وهو أستاذ الطب النفسي في «جامعة ستانفورد» الأميركية، قارئ روايته في المصحة نفسها التي قاد إليها مرضاه، في اختبارات عميقة لمعنى الحرية والاختيار والعبودية. سنفاجأ في نهاية الرواية بمصائر أخرى لشخوص روايته. في الواقع، لم يلتق نيتشه وجوزيف بريوير قط، ولم يكن التحليل النفسي شائعاً حينذاك، بل كان جنيناً، تطوّر على نحو مذهل على يد فرويد. أما لو سالومي، فلم تعد مجرد فتاة عابثة، بل أصبحت شاعرة ومحلّلة نفسية معروفة. على هذا المنوال، بإمكاننا دمج الغموض الفلسفي بالوثيقة التاريخية تحت بند التأويل الروائي، وقد ننجح في ذلك، حين نجد شخصية بمقام فريدريك نيتشه.

يعتقد نيتشه أن كلمة الحب تدل بالواقع على شيئين مختلفين بالنسبة للرجل وبالنسبة للمرأة.
برأيه أن من شروط الحب عند الجنسين ألا يفترض الواحد الشعور عينه عند الآخر, ألا يفترض نفس فكرة الحب الخاصة به, لأن طريقة التلقي والتفاعل عند المرأة تختلف عنها عند الرجل.‏
إن ما تعنيه المرأة بالحب أمر واضح بما فيه الكفاية. إنه ليس مجرد التفاني, إنه هبة كلية للجسد والروح من دون أي شرط, من دون أخذ أي شيء آخر بعين الاعتبار, فهي إذ تحب تسقط من اعتبارها كل الشروط, وهي تخاف وتحمر خجلاً من فكرة التخلي, إن غياب الشروط بالنسبة للمرأة هو ما يجعل من حبها الإيمان الوحيد الذي تملكه.‏
أما الرجل فإذا أحب المرأة, فإن هذا هو الحب الذي يريده منها, وبكلمات نيتشه نفسه:‏
تريد المرأة أن تؤخذ, تريد أن تذوب في فكرة الملكية لأنها تفترض أن الرجل يأخذ, إنه لا يعطي نفسه, ولكنه يريد على العكس من ذلك أن يغني أناه بالحب ويتكاثر بالقوة, إنه يفهم الحب على أساس أن المرأة تمنح نفسها وهو, بصفته رجلاً, يزداد بها.‏
هذا الكلام لفيلسوف القوة نيتشه لا يعجب الناشطات في الحركة النسوية بالتأكيد, لأنه يضع مفاهيمهن موضع الشك والمساءلة, لكنه يصر عليه معتبراً أن الإخلاص جزء من الحب الأنثوي, ينتج عن تعريف الحب نفسه, ويمكن أن يولد بسهولة عند الرجل على إثر الحب كنوع من الاعتراف بالجميل أو من فطرة ذوقه أو كنوع من التلاؤم الانتقائي الذي قد لا ينتمي إلى ماهية الحب.‏
ويمكن للشاكيات من طغيان النظرة الذكورية عند الرجل أن يجدن في الكلام التالي لنيتشه ما يروق لهن:ونادراً ما يعترف الرجل وبشكل متأخر بهذه الملكية, ذلك بأن تعطشه الدقيق والأشد شكاً في التملك هو الذي يجعل حبه مستمراً, ويمكن له أن يستمر حتى بعد تخلي المرأة المكتمل, فالرجل لا يقبل بسهولة أنه لم يبق للمرأة شيء تتخلى عنه
في مؤلفه ‘’ العلم المرح’’ الذي يعرفه نيتشه بأنه فن وضع قبعة البهلوان أو رقصة العارف الخاصة، والفن الذي يمنح الانسان أعينا وآذانا للنظر والسماع بشيء من الحبور الى ما يكونه هو في حد ذاته.. يعيد نيتشه صياغة رأيه في المرأة فنقرأ في الفقرة المعنونة بـ ‘’إخلاص’’: ‘’هناك نساء نبيلات ذوات هزالة فكرية معينة، اللواتي لا يعرفن كيف يعبرن عن اخلاصهن الاكثر عمقا إلا بعرض عفتهن وحشمتهن: اسمى ما يملكن. وغالبا ما يكون مقبولا مثل ما تفترضه المانحات- أمر محزن جدا’’ وفي ‘’ان يتظاهر المرء بطبيعته الخاصة’’ يقول: انها تحبه من الآن فصاعدا، ومنذ ذلك الحين وهي تنظر أمامها بثقة بقرة غبية: واحسرتاه’’ .. وفي ‘’قوة الضعفاء’’ يرى ان ‘’كل النساء يظهرن أنفسهن في غاية الرقة في تعظيم نقائصهن، ويتفنن في اختراعها ليظهرن هشات مثل التزيينات التي مجرد ذرة عفر تفسدها، فوجودهن يقتضي ان يشعر الرجل بثقله الخاص، وارهاق احساسه بذلك..هكذا يدافعن ضد حق القوي ‘’الرجل’’ على الضعيف’’ المرأة’’.
ودون استطراد مطول وقطف متوغل في اعماله التي تعددت وتشابهت، علينا ان نتساءل: ماهي الاسباب التي دعت هذا المفكر الجبار- كما يصفه دارسوه- الى اتخاذ هذا الموقف العدائي تجاه المرأة؟ .

الكاتب: admin

ذ. بضاض محمد Pr. BADADE Med باحث في:علم النفس،علوم التربية،والعلوم الشرعية. خريج جامعة سيدي محمد بن عبد الله-كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز-فاس خريج جامعة مولاي اسماعيل-كلية الآداب والعلوم الإنسانية-مكناس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *