2- نشأة الفلسفة

1-  مادة الفلسفة

2- المستوى جذع مشترك, جميع الشعب والمسالك

  • 3- دروس الأسدس الأول

4- مجزوءة ما الفلسفة

5- الموضوع نشأة الفلسفة

6- الأستاذ محمد بضاض

تمهيد إشكالي

جرت العادة أننا عندما نريد أن نعرف شيئا ما، نسأل عن تاريخه (تاريخ تسميته، تاريخ حياته، تاريخ علاقاته، تاريخ صراعاته …)، لعل هذا يدلنا على المعرفة الحقة بذلك الشيء الذي نريد أن نعرفه، سنسلك الطريق نفسه مع سؤال:

  • ما الفلسفة؟
  • ماذا تعني هذه الكلمة؟
  • أين بدأت؟
  • وكيف تطورت؟
  • وهل نستطيع أن نعرف الفلسفة إذا ما اكتفينا بتتبع مسارها التاريخي منذ لحظة ولادتها إلى يومنا هذا؟
  • هل يكفي أن نعرف تاريخ الفلسفة لنقول إننا عرفنا ما هي الفلسفة؟
  • هل يكفي أن نحفظ مقولات فلسفية عن ظهر قلب ونستظهرها في كل مرة، لنقول إننا نعرف الفلسفة؟

ربما قد نجد بعض الإجابات عن أسئلتنا إذا ما نحن تتبعنا تاريخ الفلسفة.

تقديم

الفلسفة لفظ استعارته العربية من اللغة اليونانية، وأصله في اليونانية كلمة تتألف من مقطعين:

  • فيلوس: وهو بمعنى صديق أو محب.
  • سوفيا: أي حكمة.

فيكون معناها (محب الحكمة)، وبذلك تدل كلمة الفلسفة من الناحية الاشتقاقية على محبة الحكمة أو إيثارها، وقد نقلها العرب إلى لغتهم بهذا المعنى في عصر الترجمة، وكان فيثاغورس (572  497 ق.م) أول حكيم وصف نفسه من القدماء بأنه فيلسوف، وعرف الفلاسفة بأنهم الباحثون عن الحقيقة بتأمل الأشياء، فجعل حب الحكمة هو البحث عن الحقيقة، وجعل الحكمة هي المعرفة القائمة على التأمل، وعلى هذا أضحى تعريف الفلسفة بأنها “العلم الذي يبحث فيه عن حقائق الأشياء على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية”، وتجدر الإشارة إلى أن كلمة الفلسفة استعملت في معاني متعددة عبر التاريخ، واتسع معناها في بعض المراحل ليستوعب العلوم العقلية بأسرها، فيما تقلص هذا المعنى في مراحل أخرى فاستعمل عند البعض كما في التراث الإسلامي فيما يخص الفلسفة الأولى، التي تبحث عن المسائل الكلية للوجود التي لا ترتبط بموضوع خاص.

نشأة الفلسفة

الفلسفة أو فيلوسوفيا..أين ظهرت؟ ومتى ظهرت؟ لماذا ظهرت في هذا البلد وليس في ذاك؟ لماذا في هذا الزمان دون غيره من الأزمنة؟ ما هي الشروط التي ساهمت في بروز هذا النمط من التفكير وفي انتشاره؟ وكيف تم الانتقال من التفكير الأسطوري إلى التفكير الفلسفي؟ ثم ما هو الجديد الذي حملته الفلسفة بصفة عامة معها بالقياس إلى أنواع التفكير التي كانت سائدة آنذاك؟ كيف نفسر فعل نشأة الفلسفة وانتشارها؟ هل بالحروب أم بالهجرات؟ أم بالثقافة السائدة آنذاك؟ أم بشكل النظام السياسي والاقتصادي؟ أم ببنية المدينة اليونانية وخصوصيات تركيبتها؟ أم ماذا؟

يتكون إطار نشأة الفلسفة من ثلاثة مجالات هي اللغة والمكان والزمان، وترتبط هذه المجالات باليونان القديمة، ففي بلاد اليونان، وفي بداية القرن السادس قبل الميلاد، وفي مدينتي “أثينا” و”ملطية” اليونانيتين ظهر بعض المفكرين الذين لم يهتموا بالأحداث والمظاهر ولكن بالمبادئ الكامنة وراء مختلف الأشياء، وكان يطلق على هؤلاء اسم حكماء طبيعيين، هؤلاء الحكماء الطبيعيون الذين اندهشوا من التغير الذي يطرأ على الأشياء، الأمر الذي دفعهم إلى البحث عن طبيعة تلك المبادئ بإرجاع المتعدد إلى الواحد والمتغير إلى الثابت، وهذا ما حاول “نيتشه” أن يبرزه في النص ص 15، إلا أن صفة الحكمة لا تنحصر في الحضارات اليونانية وحدها، بل سبقتها إلى ذلك حضارات وشعوب أخرى في الشرق القديم (الصين، الهند…)، غير أن تلك الحكمة ارتبطت عندهم بالأساطير والمقدسات الدينية فقط، وليس بالطبيعة كما حصل عند حكماء اليونان الأوائل، كان أول هؤلاء “طاليس” الذي أرجع أصل الأشياء كلها إلى عنصر واحد هو الماء، أما بالنسبة ل “انكسماندر” فقد اعتبر “اللانهائي” هو العنصر الأولي في الطبيعة، أما “أنكسماس” فقد قال بالهواء كعنصر أولي في الطبيعة، في حين قال “هيراقليطس” بالنار كعنصر أولي في الطبيعة …

وهكذا فمنذ بداية ظهور الحكمة سيتبين أنها جاءت معارضة للأساطير المفسرة لأصل العالم، لذا قدمت نفسها على شكل علم ومعرفة حقيقية بالطبيعة، هذه المعرفة هي التي سمحت للإنسان أن يحتل مكانه الحقيقي بين الآلهة والحيوانات في قلب العناصر الطبيعية، وفي القرن الرابع قبل الميلاد سيتم الانتقال من الحكمة إلى الفلسفة مع “سقراط” الذي يرجع إليه الفضل في إرساء أسس التفكير الفلسفي القائم على الحوار التوليدي، ورغم أن سقراط لم يخلف أثرا مكتوبا، إلا أن أفلاطون أحد تلامذته هو الذي خلده من خلال محاوراته الشهيرة.

وهكذا جاءت الفلسفة في بدايتها الأولى في القرن السادس قبل الميلاد لمعارضة ومواجهة الأسطورة ليحل اللوغوس (كلمة يونانية تعني الخطاب، المبدأ، العقل والعلم) محل الميتوس (كلمة يونانية تعني الأسطورة)، وهكذا سيحل اللوغوس الذي يستعمل البرهان من خلال توظيف الحجة محل الميتوس الذي يستعمل فيه السرد الخيالي، فاللوغوس ظهر بشكل بارز مع ظهور الخطاب المكتوب الذي يعتمد العقلانية والصرامة المنطقية والحجة والبرهان، وهذا ما يذهب إلى تأكيده “جون بيير فرنان”، بالإضافة إلى هذه العوامل هناك عامل آخر أساسي في ظهور نظام سياسي هو نظام الدولة المدينة حيث كانت تعتبر الساحة العمومية (أكورا) قلبها النابض، وفي هذه الساحة كان اللقاء يتم بين المواطنين لتبادل الرأي والمشورة ومناقشة كل قضاياهم الفكرية والسياسية والاجتماعية وكذا الاستمتاع بالمسرح والفنون عامة، مما أشاع الثقافة والمعرفة بين مواطني المدينة، ومن تم أصبحت السلطة والمعرفة شأنا عاما بعد أن كانت حكرا على عائلات وأسر معينة، وهكذا أظهرت الديموقراطية كنظام يحافظ على السير العام للمجتمع، وقد ساهم إلى جانب المدينة/الدولة، انفتاح المدن اليونانية وخاصة منها أثينا (نظرا لموقعها الجغرافي)على الدول المجاورة بفضل مينائها التجاري الذي يبوئها مكانة إستراتيجية بعد انتهاء الحروب وسيادة السلم عقب ذلك، في تطور وانتشار الفلسفة.

اللقاء التاريخي الذي جمع بين الضدين بين فيلسوف قرطبة ابن رشد ت. 595ه،وشيخ بلنسيةابن العربي ت. 638ه

ما بين نعم ولا: ابن رشد وابن عربي

  • الفرق والجمع بين العقل والقلب

لقد كان اللقاء التاريخي بين اثنين من أساطين الفكر الإسلامي: ابن رشد وابن العربي، حدثاً فريداً نظراً للاختلاف الكبير في رؤيتيهما للوجود، ولاختلافهم الجذري في طريقة دراسته، فالأوّل فيلسوف يعتمد على النظر والمنطق والثاني صوفي يثق بالذوق والمشاهدة. ولقد شاء ابن العربي أن ينقل لنا الحديث الرمزيَّ المقتضب الذي دار بينهما لما فيه من إشارات بديعة يمكن أن تكون أساساً للجمع بين العقل والشهود، أو بين العلم العقلي النظري والعلم الفيضي الإلهي، من أجل الوصول إلى نظريةٍ متكاملةٍ تستطيع فهمَ الوجود، بطرفيه الطبيعيِّ والروحانيِّ، وتفسيرَ الظواهر الكونيَّة الأساسيَّة كالحركة، وفهم ماهيَّة الزمان والمكان.

اللقاء بين ابن عربي وابن رشد:

دخل ابن العربي طريق التصوّف مبكراً، ولم تلبث شهرته أن بلغت الآفاق وهو صبيٌّ لم يكمل العقد الثاني من عمره، وبدأت أقواله ومعارفه تنتشر ويتردد صداها بين الفلاسفة، مما دعا قاضي القضاة في قرطبة، الفيلسوف ابن رشد، أن يرتّب مع صديقه عليّ ابن العربي، والد الشيخ محي الدين، لمقابلة ذلك الصوفي الشاب لكي يسمع ما يمكن أن يقوله حول فلسفته الأرسطوطاليسية. يروي ابن العربي هذه القصة في الفتوحات المكية فيقول:

ولقد دخلت يوماً بقرطبة على قاضيها أبي الوليد بن رشد وكان يرغب في لقائي لم سمع وبلغه ما فتح الله به عليّ في خلوتي، فكان يُظهر التعجّب مما سمع فبعثني والدي إليه في حاجةٍ قصداً منه حتى يجتمع بي فإنه كان من أصدقائه وأنا صبيّ ما بقل وجهي ولا طرّ شاربي. فعندما دخلت عليه قام من مكانه إليّ محبةً وإعظاماً؛ فعانقني وقال لي: نعم! قلت له: نعم. فزاد فرحه بي لفهمي عنه، ثم إني استشعرت بما أفرحه من ذلك فقلت له: لا! فانقبض وتغيّر لونه وشكّ فيما عنده، وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي، هل هو ما أعطاه لنا النظر؟ قلت له: نعم … لا، وبين “نعم” و”لا” تطير الأرواح من موادّها والأعناق من أجسادها. فاصفرّ لونه وأخذه الأفكل وقعد يحوقل، وعرف ما أشرت به إليه.[1]

أثار الدكتور محمد المصباحي من خلال تحليله لهذا اللقاء، قضية الفرق والجمع بين طريقة الفلاسفة وطريقة الصوفية في رؤيتهم للوجود وفهمهم له، وأفاض في تفصيل بعض جوانب هتين الرؤيتين المختلفتين أو المتناقضتين، بيد أنه تركنا في النهاية دون إجابة واضحة عن إمكانية الجمع بينهما وتوحيدهما في رؤية متكاملة ترتقي بنا إلى فهم أعمق للوجود وعلاقته بالخالق سبحانه وتعالى.

إنَّ هذه الإشارات والكلمات القليلة بين هذين القطبين من أعمدة الفكر الإسلامي؛ هي محاولة للتعبير بلغةٍ رمزية عمّا قد يستحيل توضيحه باللغة المباشرة. فابن العربي يلمّح هنا إلى شيء يفوق إدراك الإنسان العادي، شيء يبدو مخالفاً لتجربتنا اليوميّة ومن الصعب جدّاً تصديقه. رغم ذلك، من الناحية الأخرى، فهو شيء يمكن تلخيصه في النهاية فقط في كلمتين: “نعم” و”لا”، بل بكلمة واحدة فقط هي “نعم”، لأنّ “لا” هي في النهاية عكس نعم. في الحقيقة إنّ جواب ابن العربي الرقمي هذا: نعم/لا (أو 1/0، صح/خطأ، والذي يعني في النهاية: وجود/عدم) هو أفضل وأقصر تعبير يلخّص عمليّة الخلق الغيبيّة الغامضة.

إنّ صعوبة إظهار هذه الحقيقة العالَمية في كلمات بسيطة تتأتّى من كوننا نعيش في عالَم متنوّع من الكثرة والتعدّد اللانهائي، بينما في نفس الوقت فإنّ الحقيقة وراء هذا العالَم كلّه واحدة وبسيطة ليس فيها تركيب، فالحقيقة النهائية وراء هذا العالَم هي الحقّ سبحانه وتعالى، وهو إله واحد وأحد، بينما العالَم كما يبدو لنا متكثّر ومتعدّد، والمشكلة الكبيرة هي كيفيّة الربط بين الواحد الغيبيّ وهذه الكثرة المشهودة، ربّما من خلال بعض المستويات الأخرى من الوحدة والعدد.

بين ابن رشد ومحيي الدين
لنسمع القصة مرة ثانية من الشيخ الاكبر ونرى تعليقات اخرى على هذه الواقعة التاريخية

«… دخلتُ يومًا بقرطبة، على قاضيها أبي الوليد بن رشد، وكان يرغب في لقائي لما سمع وبلغه ما فتح الله عَلَيَّ في خلوتي، وكان يُظهر التعجب مما سمع؛ فبعثني والدي إليه، في حاجة قصدًا منه؛ حتى يجتمع بي، فإنه كان من أصدقائه، وأنا صبي ما بَقَلَ وجهي، ولا طرَّ شاربي، فلما دخلتُ عليه قام من مكانه إِلَيَّ؛ محبَّةً وإعظامًا، فعانقني وقال لي: نعم؟ فقلت له: نعم؟ فزاد فرحه بي، لفهمي عنه، ثم استشعرتُ بما أفرحه من ذلك، فقلتُ له: لا؟ فانقبض وتغيَّر لونه، وشكَّ فيما عنده، وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي، هل هو ما أعطاه النظر؟ قلت له: نعم ولا، وبين نعم ولا تطير الأرواح؛ فاصفرَّ لونه، وقعد يحوقل، وعرف ما أشرتُ به إليه».

وابن رشد كان يهدف في فلسفته إلى التوفيق بين الدين والفلسفة، وله في ذلك محاولات وجولات، وقد نشد في مقابلته لمحيي الدين أن يطمئن، وأن يأخذ اعترافًا من رجل من رجال الدين والكشف، بأن القمَّة التي تصل إليها الفلسفة، هي بعينها غاية الدين وهدفه، وأن العقل يلتقي بالروح في خاتمة المطاف.

وأن ما ذهبتْ إليه الفلسفة من شرح للسنن الكونية، وتمثيل لقدرة الله — سبحانه — وآياته في خلقه، لا تتعارض مع الدين، بل تؤيده وتدعمه.

وقد قال محيي الدين في البداية: نعم، ففرح ابن رشد، ثم استدرك محيي الدين، فقال: لا، فحزن ابن رشد، وأراد توضيحًا، فقال: … هل وجدتم الأمر في الكشف والفيض هو ما أعطاه النظر؟ فقال محيي الدين: نعم ولا.

نعم؛ لأن العقل قد يهدي إلى الله، ويدرك ويلمس أسرار الكون، ولكن العقل المجرد مع وصوله إلى تلك القمة، ينحدر وينزلق ويضل في المتشابهات، فضلًا عن ابتعاده عن التعبد والتطهر، وتحلله من الكمالات الخلقية والشرعية.

والعقل المجرد، ليس له قيد يعصمه، ولا حدٌّ يتفق عليه بين العقول، التي تتطاير حول المعارف مع الريح في شتى الاتجاهات والغايات؛ ولذلك قال له محيي الدين: وبين نعم ولا، تطير الأرواح.

ولم يكن هذا الاجتماع فاصلًا بين الرجلين العظيمين، ولا بين المدرستين المتناظرتين؛ فسعى ابن رشد إلى لقاءٍ آخر مع الصبي، الذي كبر بالخلوة، وتعلم في الجلوة، وتفوق وما بقل وجهه ولا طرَّ شاربه.

يقول محيي الدين: وطلب ابن رشد من أبي بعد هذا الاجتماع أن يلتقي بنا ليعرض ما عنده علينا، لنرى هل هو يوافق أم يخالف، فإنه كان من أرباب الفكر والنظر العقلي، فشكر الله الذي كان في زمانٍ رأى فيه مَنْ دخل خلوته جاهلًا، وخرج مثل هذا الخروج، من غير درس ولا بحث، ولا مطالعة ولا قراءة. وقال: «هذه حالة أثبتناها وما رأينا لها أربابًا؛ فالحمد لله الذي أنا في زمان فيه واحد من أربابها، الفاتحين مغاليق أبوابها، والحمد لله الذي خصني برؤيته.»

ولم يُسفِر اجتماعهما الثاني عن نتيجة ترضي ابن رشد، ولكن الرجلين أحب كل منهما الآخر وأجلَّه وأكبره.

ولم ينكر ابن رشد على محيي الدين علومه الكشفية، ولا طريقته في المعرفة والتلقي. بل حمد الله الذي مَنَّ عليه؛ فأوجده في زمانٍ فيه مثل محيي الدين، الذي دخل الخلوة جاهلًا وخرج منها إمامًا مرشدًا.

ولقد أطمع هذا الإيمان والحب محيي الدين في هداية ابن رشد، وجذبه إلى نطاق المتصوفة الراشدين؛ فأراد أن يجتمع به مرة ثالثة، وأعدَّ عدَّة اللقاء، وَهَيَّأ الجو لما ينشد ويريد، ولكن الله أراد غير ما يريد.

يقول ابن عربي: «ولكن قبل أن ألتقي به أراه الله — تعالى — لي في منظر قد ضُرب بينه وبيني حجاب رقيق، فكنت أنظر إليه منه ولا يبصرني؛ فعلمتُ أنه غير مراد لما نحن عليه، فما اجتمعت به حتى درج في سنة خمس وتسعين وخمسمائة بمدينة مراكش، ونُقل إلى قرطبة ودُفن بها.»

كان حجاب رقيق، هو الذي يفصل ابن رشد عن محيي الدين. وهذا الحجاب الرقيق هو الفيصل بين الهدى والضلال، والرضا والغضب، والإعراض والاصطفاء، أو كما يقول محيي الدين: بين نعم ولا تطير الأرواح، وما أيسر ما بينهما وما أعظمه!

وتلك فترة دقيقة حاسمة في حياة محيي الدين، فهو صريح كل الصراحة في أنه دخل الخلوة صغيرًا لم يطر شاربه، دخلها بدون قراءة ولا مطالعة، إلا أيسر ما تكون القراءة والمطالعة؛ فرَشد وأُلهِم، وتعلم من لدن ربه الوهاب علمًا أخذ يزداد مع أنفاسه، ويترقَّى مع تسبيحاته، حتى بلغ من علم ربه ما قُدِّرَ له، وحتى تمَّتْ له الزعامة التي لا تُطاول ولا تُغالب في علوم الإيمان وفيوضات القلب.

ويحدثنا محيي الدين عن علمه الموهوب فيقول: «وأنا أستمد علمي من كلمات الله التي لا تنفد: قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي، وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ.»

ويقول: لو أن علمه كان نتيجة بحث أو فكر لحصر في أقرب فرصة، ولكنهما موارد الحق — تبارك وتعالى — تتوالى على قلب العبد، وأرواح البررة تتنزل عليه من عالم غيبه برحمته التي مِن عنده، وعلمه الذي مِن لدنه، والحق — تعالى — وهَّاب على الدوام، فَيَّاض على الاستمرار، والقلب البشري قابل على الدوام للتلقي والترقي

الفرق بين الفلاسفة والصوفية:

يحاول الفلاسفة والعلماء عموماً فهم العالَم من خلال الملاحظات والتجارب، بينم طرق ابن العربي والصوفيّون عموماً طريقاً آخر يعتمد على أنماط من المعرفة تقفز مباشرة إلى العالَم الغيبيّ لتُقارب الحقيقة التي تكون عادة وراء حدود العقل. والعقل الذي يعتمد عليه الفلاسفة والعلماء يصيب في أغلب الأحيان ولكّنه كثيراً م يخطئ إمّا بسبب سوء الحكم أو بسبب خطأ في المقدّمات التي اعتمد عليها، في حين إنّ ابن العربي يؤكّد أنّ العلم الذوقي الكشفي الذي يستمدّ منه الصوفيّون يكون دائماً صحيحاً بشرط سلامة المحلّ المستقبل له، وهو القلب، وإن حصل خطأ فإنّه يحصل في التأويل وليس في أصل الكشف.[2]

من ناحية أخرى، يستعمل الفلاسفة والعلماء المنطق والتجارب لاستنتاج نظريّاتهم وتفسير ملاحظاتهم، بينما يصف الصوفيّون رؤيتهم في أغلب الأحيان من غير شرح مستفيض ولا براهين تقنع العقل الناقد، لا سيما وأنّ بعض العلوم التي يدّعونها تقع خارج حدود العقل والمنطق. وفي النتيجة فإنّ الصوفيّون قد يصلون إلى معرفة الحقيقة بسرعة أكبر وبدقّة أكثر من الفلاسفة (كما يؤكّد ابن العربي من خلال روايته لاجتماعه بابن رشد)، لكنّهم، أي الصوفيّون، يجدون صعوبةً كبيرةً في توضيح وجهات نظرهم إلى الآخرين الذين لم يذوقوها وفق طريقتهم. لذلك فهُم كثيراً ما يستعملون لغة رمزية لأنّهم لو نقلوا لنا كلَّ ما يشاهدونه ببساطة لعميَ ذلك على الناس ولم يفهموه وربّما اتّهموهم بالهرطقة أو الكفر، كما حصل في كثير من الأحيان.

وعلى الطرف الآخر، فإنّ المشكلة في القوانين الحالية ونظريّات الفيزياء وعلم الكون المعروفة حتى الآن، بالرغم من أنّها أثبتت جدارتها وكفاءتها العالية على المستوى العملي والتطبيقي، إلا أنّها أخفقت في كشف الحقيقة النهائية وراء هذ العالَم. فكلّ النظريّات العلمية هي نظريّات وصفية تصف بعض الظواهر وتحاول أن تفسّرها، ولكنّها لا تستطيع أن تجزم بالحقيقة الكامنة وراءها. والسبب وراء عدم قدرة العلم على تقرير حقيقة العالَم وأصله أنّ كلّ النماذج الكونية تحتاج إلى معرفة الشرط الحدّي الأوّلي الذي منه بدأ هذا العالَم، وهذا يبدو مستحيلاً لا يمكن للعقل وحده أن يبلغه، وذلك لكونه هو نفسه جزء من هذا الوجود الذي يحاول فهمه؛ ولا يمكن للجزء أن يدرك الكل! لذلك يحاول العلماء العمل بشكل رجعي بحيث يتعرّفون على الحالات السابقة من خلال معرفتهم بالأوضاع الحالية. وفي النتيجة فإنّ كلّ نظريّات الفيزياء والنماذج الكونية المعروفة، رغم أنّها أدّت إلى مستويات أعلى من الفهم، لكنّها أتت بتناقضات جديدة لا تزال تستعصي على الحلّ. فقد نجحت هذه النظريّات بإعطاء سيناريوهات محتملة عن بنية الكون وآلية الخلق وكيف بدأ، لكنّها أخفقت في وصف الحقيقة كاملة وبدقّة كافية.

لذلك نجد أنّ ابن عربي يؤكّد أنّ حدود أهل الأرصاد تنتهي إلى الفلك الأطلس، لأنَّه الفلك الأوّل المادي، وليس هناك فلك بعده يمكن مشاهدته بالعين أو بأجهزة الرصد،[3] بينما يعتمد الصوفيّون على القلب، ولو أنّه بالنهاية يستخدم العقل وإنّما كأداة مستقبلة وليس كأداة فعّالة ومفكّرة، والعقل كما يقول الشيخ الأكبر محدود فقط من كونه مفكّر وليس محدوداً من كونه عاقل أي مستقبل.[4]

ولكنّ الصوفيّين الذين يدّعون أنّهم وصلوا إلى حالة عالية من الإدراك وتصوّر البنية الغيبيّة للعالم وأصله (أي إلى الشرط الحدّي الأوّلي) لا يعيرون أيّ اهتمام إلى توضيح رؤيتهم هذه للكون وربطها بما يشاهده الفلاسفة والعلماء أو حتى الناس العاديّون. حتى ابن العربي نفسه لم يَخُض كثيراً في هذا المضمار بل صرّح أنّ هدفه ليس شرح بنية العالَم وفهمه بحدّ ذاته، لكنّ ذلك مجرّد وسيلة لاكتساب معرفة أكثر بالخالق تعالى الذي خلق العالَم والإنسان على صورته. ولكنّ الحقّ أنّ ابن العربي في الفتوحات المكية وكتبه الأخرى أعطى بشكل عرضي الكثير من التفسيرات الكونية والتحليلات المنطقيّة لما يشاهده من الأمور الغيبيّة. ولهذا السبب بالتحديد من المهم جدّاً دراسة كتاباته حتى نستطيع رأب الهوّة بين الفلسفة والعلم من ناحية، وبين العلوم الروحانية والإلهية من ناحية أخرى.

العلاقة بين الوحدة والكثرة:

لقد ذكر ابن عربي قصّة اجتماعه بابن رشد ضمن سياق اقتباسه وشرحه لكلمات قطب الأرواح الذي يدعوه “مداوي الكلوم” وهو إدريس عليه السلام الذي رفعه الله مكاناً عليّاً (إلى فلك الشمس، وهي قطب الوجود)؛ فيقول الشيخ محي الدين إنّ هذا القطب هو من أعلم الخلق بالعالَم الطبيعي وتأثيرات العالَم الأعلى عليه، ثم يقول إنّ هذ القطب يقول: “إنّ العالَم موجود ما بين المحيط والنقطة، على مراتبهم وصغر أفلاكهم وعِظمها، وإنّ الأقرب إلى المحيط أوسع من الذي في جوفه؛ فيومُه أكبر ومكانُه أفسح ولسانُه أفصح، وهو إلى التحقق بالقوّة والصفاء أقرب، وما انحطّ إلى العناصر نزل عن هذه الدرجة حتى إلى كرة الأرض”.[5]

فالنقطة هنا تشير إلى الحقيقة وهي صورة الحق الواجب الوجود وظاهره في العالَم (وهو الجوهر الفرد)، بينما محيط الدائرة هو مجموع المخلوقات (وهي الموجودات الممكنة الوجود، أي الأعراض والصور التي نراها). وأمّا ما هو بعد هذا المحيط فهو بحر العدم أو الباطل (المستحيل الوجود). والشكل التالي يوضّح هذا التقسيم الذي يعتمد عليه ابن العربي كثيراً، وهو مأخوذ ببعض التصرّف من الباب 360 من الفتوحات المكية.[6]

العلاقة بين الحق والخلق والباطل، أو واجب الوجود وممكن الوجود ومستحيل الوجود

ولقد بيَّنا في مقال سابق، نُشر في العدد الأوّل من هذه المجلة، كيف يشرح ابن العربي هذه العلاقة الفريدة بين وحدة الحقّ وكثرة الخلق من خلال فهمه العميق للزمان وتأكيده على مبدء تجديد الخلق الذي ينصُّ على أنّ الأعراض تنعدم في الزّمان الثاني من زمان وجودها؛ فلا يزال الحقّ مراقباً لعالَم الأجسام والجواهر العلوية والسفلية، كلّما انعدم منها عَرَضٌ به وجوده خلق في ذلك الزّمان عرضاً مثله أو ضده يحفظه به من العدم في كل زمان، فهو خلاّقٌ على الدوام، والعالَم مفتقرٌ إليه على الدوام افتقاراً ذاتياً من عالَم الأعراض والجواهر.[7]

تجديد الخلق بين نعم ولا:
يستنتج الشيخ الأكبر فكرة الخلق الجديد من الآية الكريمة: ﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [ق: 15]، كما يستنتج مفهومه البديع للزمان من الآية: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29]. فنحن في لَبْسٍ، أي محجوبون في غطاء، عن رؤية هذا الخلق الجديد في كلِّ يوم شأن، أي في كلِّ آن، ولذلك يقول الله تعالى في سورة الكهف: ﴿مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ﴾ [الكهف: 51].

فلو أشهَدَنا الله الخلق كما يجري من قِبل الجوهر الفرد، لرأينا كيف أنّ هذ الجوهر الفرد يقوم بخلق صورة للعالَم في ستّة أيَّام، أي في ستّ جهات ثمّ يستوي الرحمن على العرش في اليوم السابع، فتكون هذه الصورة للعالَم مثل لحظة واحدة بالنسبة لنا، ثمّ يقوم الجوهر الفرد مباشرة بخلق صورة أخرى مماثلة من جديد، وهكذ بشكلٍ دائمٍ ومستمرٍّ؛ ونحن في لَبْسٍ من هذا، فنرى الوجود مستمرّاً، ولا ينبغي له ذلك لأنّه لو كان كذلك لبطل افتقاره إلى الله تعالى لكي يحفظ عليه وجوده.

إذاً فإنّ وجود الأشياء في العالَم هو وجود آني وليس مستمرّاً، كما نرى ونتخيّل، لأن الله يخلق كلّ شيء من جديد بشكل دائمٍ في كلّ لحظة (يوم شأن). هذا يعني كذلك أنّه ليس فقط الزّمان هو الذي يوجد فقط ذرّة واحدة في كلِّ وقت، بل المكان أيضاً. وهذه نتيجة على غاية كبيرة جدّاً من الأهمية بحيث من شأنها أن تقلب مفهومنا عن العالَم وتغيّر الكثير في النظريّات الفيزيائيّة الحديثة. ولقد رأينا في مقال سابق كيف يعطي ابن العربي بهذه الطريقة رؤية مختلفة للحركة من شأنها أن تحلّ معضلات زينون التاريخية.

بالطبع إنّ إعادة الخلق هذه تحدث على جميع مستويات الوجود وبسرعة كبيرة ل يمكننا إدراكها، ولكنّ ابن العربي لا يجد صعوبة في إيجاد الأسباب المنطقية والدينيّة التي تدعم هذه النظرية، فيقول في كتاب “التنـزلات الليلية في الأحكام الإلهية” إنّ الأعراض تنعدم في الزّمن الثاني من زمان وجودها وذلك حتى يكون الحقّ خلاّقاً على الدوام وحتى يبقى الجوهر دائماً مفتقراً إلى الخالق في وجوده. فإذا بقي العرَض زمانين أو أكثر أصبح مستقلاً في وجوده وهذا لا يكون.

وكذلك الجوهر لا يمكن أن يستمرّ وجودُه، لأنّه بحاجة دائمة للحقّ أن يحفظ عليه هذا الوجود، وهذا يتمّ فقط من خلال خلقِ الأعراض فيه، فهو إذاً يلبس في كلّ لحظة عرَضاً جديداً، مثل العرَض الأوّل أو ضدّه، ولكن ليس نفسه.

كذلك يمكن أن نصل إلى نفس هذه النتيجة من حقيقة اسم الله “الواسع” والذي يعني في النهاية أنّه لا تكرار في الوجود، فلو حصل التكرار لم يصحّ إطلاق معنى السعة من اسمه تعالى الواسع.

فالعالَم في كلّ زمانٍ فردٍ يتكوّن ويفسد، ولا بقاء لعين جوهر العالَم لولا قبول التكوين فيه. وكما قال ابن العربي في بداية الفتوحات المكية مستخدماً عبارات مسجوعة على لسان الإمام المغربي الذي اجتمع مع ثلاثة آخرين من الأقطاب فخطب كلّ واحد منهم خطبةً لخّص فيها علمه الذي اختُصّ به، فخطب هذا الإمام وقال من ضمن ما قال: مَن كان الوجود يلزَمُه (مثل الجوهر الفرد والعنصر الأعظم)، فإنَّه يستحيلُ عدَمُه (لأنّ وجوده واجبٌ بالله تعالى)، والكائن ولَم يكن (وهو العَرَض)، يستحيل قِدَمُه، ولو لَم يستحلْ عليه العَدَم، لصَحبه المقابِل (أي الضدّ) في القِدم، فإن كان المقابِل لَم يكن، فالعجزُ في المقابَل مستكِن، وإن كانَ (أي المقابِل) كانْ (أي كائناً في القِدم)، يستحيل على هذا الآخَر كانْ (أي الكون أو الحدوث لأنّه يكون عندئذٍ قديماً)، ومحالٌ أن يزول بذاته لصحَّةِ الشَّرطِ (أي لقِدمِه المفترض) وإحكامِ الرَّبط (أي صلته بخالقه الَّذي أوجب له الوجود).[8]

فهذه التصريحات المقتضبة تعتمد على قضيتين أساسيّتين الأولى أنّ الأعراض لا تبقى زمانين كما أسلفنا، والثانية أنّ فناءها أمرٌ تلقائي وليس بفعل خارجي، وهذه نتيجة منطقيّة لأنها لا يمكن أن تفنى بفعل فاعلٍ، لأنّ الفاعل يفعل شيئاً والفناء لا شيء، فليس هناك فعل نتيجته لا شيء.

في الحقيقة إنّ فكرة إعادة الخلق أو الخلق الجديد موجودة عند علماء الكلام الأشعريّة الذين يزعمون، مثل ابن العربي، أنّ العالَم جواهر وأعراض ولكنّهم يعرّفونها بشكل مختلف لأنّ الأعراض عندهم هي الصفات المتغيّرة مثل اللون، في حين أنّ الجوهر هو الذي لا تتغيّر صفته، ولكنّ ابن العربي يعدّ كلّ الصور في العالَم أعراضاً زائلةً لا تدوم سوى لحظة وجودها وأمّا الجوهر فهو شيء لا يمكن أن نعرف كنه ذاته لأنّه لا يظهر بذاته وإنّما فقط يظهر بهذه الصور التي هي أعراض له، ولقد تكلّمنا عن بعض خصائص الجوهر الفرد والعنصر الأعظم في العدد الثالث من هذه المجلّة.

إذاً، فكلّ الأعراض والجواهر في العالَم يتم خلقها بشكل مستمر ويتجدّد عليه الوجود بشكل دائم من قبل الجوهر الفرد. ولكن لكي نفهم العالَم يجب أن نعرف كيف يقوم هذا الجوهر الفرد بإظهار هذه الصور المختلفة في أنحاء المكان وعبر الزّمان، وهذ يدعونا من جديد للبحث في المعنى الحقيقي لمفهوم الزّمان (والمكان) وآليّة الخلق وترتيبه، وهو الأمر الذي يحتاج بحثاً آخر.

الجمع بين العقل والقلب:

لقد أراد ابن رشد أن يعرف فيما إذا كان ابن العربي يوافق على النظريات الفلسفية ورؤية الفلاسفة للوجود، كما لخَّصها ودافع عنها في كتاب تهافت التهافت مثلاً، والتي تشكِّل في النهاية خلاصة عصارة الفكر الإنساني من الفلاسفة الإغريق كأرسطو ومن سبقه، وأفلاطون ومن تبعه، والفلاسفة المسلمين كالكندي وابن سينا وغيرهم، بما في جميع ذلك من اختلاف واتفاق؛ فكان جواب ابن العربي “نعم”، ولم يفعل كما فعل الغزالي مثلاً في “تهافت الفلاسفة” حين ناقض جميع هذه النظريات. ولكنَّ ابن العربي استدرك وقال “لا” ليؤكِّد أنَّ هذه الرؤية الفلسفية صحيحة فقط فيما يخصُّ الوجود من كونه موجوداً، أي في حال وجوده، ولكن بما أنّه في الحقيقة يتأرجح بين العدم والوجود، أي بين الغيب والشهادة، أو بين الروح والجسم، فإنَّ الجواب هو: نعم … لا، وبين “نعم” و”لا” تطير الأرواح من موادّها، ويفنى العالم، ثم يعيد الله سبحانه وتعالى خلقه من جديد، في ستة أيام ثم يستوي على العرش، ولا يمسُّه من لغوب، بل هو عليه أهون، ولكننا نحن في لبس من هذا الخلق الجديد، فنظنُّ أنَّ وجود العالم لا يزال مستمراً، لأنَّ الله ما أشهدنا هذا العالم أثناء خلقه ولا أشهدنا خلق أنفسنا، بل أشهدن إيّاه مخلوقاً في ستة أيام، أي في ست جهات.

فالعقل ينظر إلى الظاهر بما فيه من الأجسام والصور فيراها حقائق قائمة بذاته فيدرسها ويحاول فهم قوانينها، والقلب (حين يصفو وتنفتح عيونه على عالم الغيب) يشاهد الروح وقيامها في هذه الصور التي يراها مجرَّد أعراض وخيال لا يلبث أن يزول في الزمن الثاني بعد وجوده، ليظهر من جديد في صور أخرى مشابهة توهمنا باستمرار الوجود.

فالعالَم من حيث ظاهره أجسام متعدِّدة ذات أبعاد وصفات كثيرة كاللون والحجم والرائحة والكتلة، وهي تتفاعل مع بعضها البعض وتؤثِّر وتتأثّر، ونحن نُدرك ذلك من خلال السمع والبصر واللمس وغير ذلك من الحواس، ثم نحلِّل هذه الإدراكات في العقل ونبني عليها النظريات العلمية والفلسفية. وهذا هو الفضاء الذي يسبح فيه الفلاسفة والعلماء في محاولاتهم الحثيثة لفهم هذا الوجود واكتشاف قوانينه ونظرياته.

أمّا من حيث الباطن، وهو الحقيقة الكامنة وراء هذا الوجود، فإنَّ هذه الظواهر التي نراها في الوجود ليس لها حقيقة ذاتية، وإنّما هي أعراض تحدث في الجوهر كم قلنا، والجوهر الفرد هو الوحيد الذي له حقيقة في هذا الوجود. من أجل ذلك يؤكِّد ابن العربي أنّ معظم الخواص المعروفة للمادّة مثل الوزن والكثافة والشفافيّة والنعومة لا تتعلّق حقيقة بالأجسام نفسها بل بالعقل الذي يدركها. ولا شكّ في أنّه من الصعب جدّاً قبول مثل هذه الفرضيّة، خصوصاً وأنّها تناقض تجربتنا اليومية بشكلٍ واضح، ول يمكن أن نفهم ذلك إلا على أساس مبدء تجديد الخلق.

وكذلك فإنّ بُنية الكون عموماً، بما فيه من كواكب ونجوم ومجرّات، تختلف في الحقيقة عمّا يذكره أصحاب علم الهيئة (أي علماء الفلك)، وإن كان ما قالوه يعطيه الدليل العقلي، ولكن يؤكِّد ابن العربي أنَّ العلم الكشفي يعطي غير ذلك.[9] وبالتالي فإنَّ النظريّات الفلكيّة والفيزيائية السائدة كنموذج الانفجار العظيم والنظرية النسبية وميكانيك الكم، قد لا تكون صحيحة على الإطلاق، في رأي علماء التصوُّف، رغم أنّها يمكن أن تكون حلاًّ منطقياً للملاحظات والتجارب والقياسات التي يقوم بها العلماء.

وفي ذلك يقول ابن العربي شعراً في الديوان الكبير:

هذا الوجودُ الذي بالعُرْف نعرفه
العقلُ يجهلُه والفِكرُ يُنكرُه
هو الإلهُ ولا تدري مظاهرُه
على العقولِ التي العاداتُ تحجبها
إلاّ على واحدٍ من كلّ طائفةٍ

ليس الوجودُ الذي بالكشفِ نعلمُه
والذكر يظهرُه والسرُّ يكتمُه
بأنّه عينُها والحقُّ يُبهمُه
لذاك تُنكرُ ما الأسرارُ تفهمُه
فإنّ ربَّك بالتعريفِ يكرمُه

ولكنَّ هذا الكلام مهما يكن غريباً يذكّرنا بنموذج أرسطو/بتولومي الذي يعدّ الأرض مركز العالَم وكيف أنّ هذا النموذج الخاطئ بقي قروناً عديدةً مقبولاً بين العلماء والفلاسفة لأنّه قدّم حلاًّ رياضياً صحيحاً يصف الحركة الرجعيّة لبعض الكواكب، ولكنّ هذا الحلّ الرياضي الصحيح لم يكن يوافق الواقع، مما خدع العلماء لفترة طويلة من الزّمن وأدّى بهم لقبوله وعدم التفكير في البدائل حتى أتى كوبرنيكوس وقال إنّ الشمس هي مركز العالَم.

فليس كل حلّ رياضيّ صحيح يصف الواقع بالفعل، وإذا كان نموذج الجوهر الفرد يخدع البصر ويجعلنا نرى الصور المتكرّرة كأنّها أجسامٌ تتحرّك مثلما يحدث على شاشة التلفزيون فكيف يمكن أن نثق بالحلول الرياضيّة ونركن إليها دون مناقشة البدائل المحتملة مهما تكن بعيدة.

[1] الفتوحات المكية: ج1ص153س33.

[2] الفتوحات المكية: ج1ص307س12، ج3ص7س21. وانظر أيضاً في كتاب “ما لا يُعوّل عليه” من ضمن مجموعة رسائل ابن العربي (دار صادر): الرسالة رقم 16، ص2؛ حيث يقول إنّ الكشف الصوري دائماً يكون صحيحا لكنّ الخطأ قد يقع في تأويل المُكاشف مما أريدت له تلك الصورة التي ظهر له

ما الفرق بين السؤال والإشكال والإشكالية الفلسفية؟

يتم تحديد الإختلاف الكائن بين السؤال والإشكال والإشكالية في الفلسفة من خلال المحاور التالية:

أولا: السؤال الفلسفي

ثانيا: الإشكال الفلسفي

ثالثا: الإشكالية الفلسفية

أولا: السؤال الفلسفي

السؤال: قضية استفهامية لا تقتضي الإجابة عنها استدعاء أطروحة معينة بالذات.

مثال: ما الإنسان؟ ما هي الثقافة؟ ما هي الحقيقة؟

 ولتوضح كيف أن هذه الأسئلة لا تقتضي استدعاء أطروحة بعينها للإجابة عنها، سنستدعي الإشكال الذي هو على عكس ذلك، تقتضي الإجابة عنه استدعاء أطروحة معية بالذات.

ثانيا: الإشكال الفلسفي

الإشكال: قضية استفهامية تتضمن أطروحتين أو أكثر توجد بينهما  أو بينها مفارقة أو اختلاف أو تعارض… وتقتضي الإجابة عنها استدعاء أطروحة أو أطروحات معينة بالذات.

إذن فالإشكال يدعو إلى البحث عن نتيجة معينة انطلاقا من معطيات معروفة سلفا.

مثال: 

·       المعطى الأول: الأطروحة الأولى:  الحقيقة مطلقة

·       المعطى الثاني: الأطروحة الثانية: الحقيقة نسبية.

⇐انطلاقا من المعطيين الأول والثاني يتحدد الإشكال كالتالي: هل الحقيقة مطلقة أم نسبية؟ أما ما الحقيقة؟ فهو مجرد سؤال.

مثال ثاني:

هل يوجد توجد حقائق مطلقة؟ هو إشكال؟. أما: ما الحقيقة؟ فيبقى مجرد سؤال.

ثالثا: الإشكالية الفلسفية

الإشكالية: هي الإشكالات التي يمكن طرحها بصدد مجال من مجالات التفكير. وبكيفية أدق فهي الطريقة النوعية التي تطرح بها تلك الإشكالات وشبكة الأسئلة التي توجه التساؤل.

وهذه الطريقة في طرح الأسئلة يحددها نسق من الشروط الخاصة باديولوجية فترة معينة وبجملة التمثلات الموجودة في سياق ثقافي وتاريخي معين.

فاختلاف الشروط العامة لإنتاج المعرفة لدى اليونان عن الشروط العامة لإنتاج المعرفة في القرن 18 مع إيمانويل كانط مثلا، هو الذي يفسر اختلاف التساؤلات التي طرحت بصدد نظرية المعرفة لدى فلاسفة اليونان والفيلسوف إيمانويل كانط. كما أن المعرفة في المرحلة اليونانية لم تهتم بالعلوم عكس المعرفة في المرحلة المعاصرة التي كانت بمثابة دراسة نقدية للمعرفة العلمية

المرجع:

Henri Pena-Ruiz.Philosophie, La Dissertation. Méthode, Exemples, Exercices

ترجمة، عبد الفتاح الكمري،أستاذ مبرز، بتصرف

مواضيع ذات صلة

الكتابة والقراءة الفلسفيتين: قواعد وضوابط منهجية تقديم ذ. محمد شيكر

فن طرح السؤال بما هو المقام اللائق بالفيلسوف – د. زهير الخويلدي

خصائص السؤال الفلسفي – ألان جيرانفيل

الإسلام فوبيا…أو الرهاب من الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين على نعمه كلها، الظاهرة والباطنة، ما علمنا منها وما لم نعلم، وأفضل الصلاة، وأزكى التسليم، على سيدنا وحبيبنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد، أيها السادة؛

أتوجه باسمي، وباسمكم جميعا، إلى الله عز وجل بالشكر أن وفقنا لهذا اللقاء،الذي أرجو أن يكون له ما بعده من الثمرات التي ترضي الله عز وجل، والتي تحل الكثير من مشكلاتِ هذه الأمة والتي تقربنا جميعا زلفا إلى الله سبحانه وتعالى.والشكر بعد ذلك للسادة الذين سهروا على تنظيم هذا اللقاء، والشكر مقدما لرعات هذا المؤتمر الذي يأتي كما أرجو من الله بلسما لكثير من أدوائنا في الميقات المناسب، لم يشكر الله عز وجل لم يشكر الناس؛ كما قال معلم البشرية سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم. السادة الحضور، في حَاضِرِ الإعِلَامِ الغَرْبِيِّ عُموماً، وفي عَدَدٍ مِنْ مُؤْتَـمَرَاتِ الشَّرْقِ والإسلام الـمُحْدَثَة، فَشَا الَجدَالُ حَوْلَ ظَاهِرَةِ “الخَوْفُ أو الرُّهَابُ الإسلامي” أو مَا يُسَمَّى “”الإسلام فوبيا”” وَتَقَاطَرَتْ فِي شَأْنِهِ الآراءُ وَالتَّحَالِيلُ وَالـمُقْتَرَحَاتُ مِن كُلِّ حَدَبٍ مِنْ حِدَابِ العَالَمِ الإسلامي والغَرْبِيِّ عَلى السَّوَاءِ. وَلَعَلَّهُ لَن يَخْفَى عَلَى الرَّاصِدِ والـمُتَبَصِّرِ أَنَّ هَذِهِ الظَّاهِرَةُ قَدْ غَدَتْ فِي حَيِّزِ العَيَانِ الـمَشْهُودِ، وَأَنَّهُ اخْتِيرَ لَهَا تَعْبِيرٌ يَنُمُّ عِنْ كَثِيرٍ مِنْ حَقِيقَتِهَا، وَهُوَ الْفُوبْيَا. وبِالنَّظَرِ إلى الْحَالَةِ الّتِي تَمُرُ بِهَا أُمَّتُنَا الإسلاميةِ والْأَحْدَاثِ التي شَهِدَهَ العالمُ الإسلاميُ مُؤَخَّراً، فَإِنَّهُ فِي وَاقِعِ الْأَمْرِ يُنِيطُ بِالْمُسْلِمِينَ وِبِمُفَكِّرِيهِم وَعُقَلَائِهِمْ مَسْؤُولِيَّاتٍ جِسَاماً، وَيَفْرِضُ عِليْهِم حَالَةً مِن النَّفِيرِ الثَّقَافِيِّ وَالْعِلْمِيِ وَالْإِعْلَامِيِّ، وَتَحْرُّرِهِمْ مِنْ دَوْرِ الضَّحِيَّةِ، وَمن التَّعَلُّقِ الزَّائِدِ بِفِكْرَةِ “الْمُؤَامَرَةِ” التي تُلْقِي بِأَسْبَابِ تَخَلُّفِهِم وَإِخْفَاقِهِمْ الحَضَارِيِّ عَلى الآخَرِين، لِتَنْهَضَ بِهِم فِي اقْتِدَارٍ وَعَزِيمَةٍ إلى ابْتِدَارِ جَادَّةِ الإِصْلَاحِ الذَّاتِيِّ أَوَّلاً، مِن خِلَالِ الْوَفَاءِ الْحَقِيقَي لِذِمَامِ الإسلامِ وَقِيَمِ القُرآنِ وَكَرَامَةِ الإنْسَانِ، مِن قَبْلِ الاهْتِمَامِ بِكَسْبِ اسْتِحْسَانِ الآخَرينَ أَوْ مُحَاكَاتِهْم فِي طَرَائِقِ التَّفْكِيرِ والْمَعَاشِ. ولا مَحِيدَ فِي هَذَا السِّيَاقِ عن تَبَنِّي بَعْضِ الخُطُواتِ العِلْمِيةِ فِي تَحْجِيمِ ظَاهِرَةِ “الإسلام فوبيا” والْحَدِّ مِن شُيُوعِهَا، وَمِنْ ذَلكَ:

1- تَسْخِيرُ عَدَدٍ مِنْ وَسَائِلِ الإعْلَامِ بِشَتَّى صُوَرِهِ وَتَوْظِيفِ كُلِّ الوَسَائِلِ التي مِنْ شَأْنِهَا التَّأثِيرُ فِي عَقْلِيَةِ الْمُتَلَقْي الْغَرْبِيِّ، وَتَصْوِيبِ رُؤْيَتِهِ الْمُنْحَرِفَةِ حَوْلَ جَوْهَرِ الإسْلَام وَرُقِيِّ مَبَادِئِهِ وَحَضَارَةِ وِجْهَتِهِ.

2- إِنْشَاءُ مَرْصَدٍ لِجَمْعِ وَمُتَابَعَةِ وَتَحْلِيلِ الْمَعْلُومَاتِ وَالْأَفْكَارِ التي تَتَنَاوَلُ الإسلامَ وَحَضَارَتَهُ بِالتَّشْوِيهِ والتَّحْرِيفِ بِالتَّنْسِيقِ مَع الْمُؤَسَّسَاتِ الإسلاميةِ وَأَرْبَابِ الْفِكْرِ وَالْقَلَمِ.

3- تَعْزِيزُ الانْفِتَاحِ عَلى الْمُؤَسَّسَاتِ الْغَرْبِيَةِ الْوَاعِيَةِ والنَّزِيهَةِ، إِفَادَةً واسْتِفَادَةً.

4- تَوْظِيفُ السِّيَاحَةِ الثَّقَافِيَّةِ في تَصْحِيحِ الْأَفْكَارِ الغَالِطَةِ وَالْمُوْرُوثَاتِ الْوَاهِمَةِ حَوْلَ الإسلامِ وَشَرِيعَتِهِ لَدَى أَبْنَاءِ الْمُجْتَمَعَاتِ الْغَرْبِيَّةِ.

5- الْحَدُّ مِن لَهْجَةِ الانْفِعَالِ والتَّشَنُّجِ في الخِطَابِ الإسلاميِّ، لِما تُفَوِّتُهُ مِن فُرَصٍ كُبْرَى لِخِدْمَةِ الإسلامِ، وَالْكَشْفِ عَنْ مَذْخُورِ فَضَائِلِهِ وخَصَائِصِهِ.

6- التَّوْكِيدُ على أنَّ الْحِفَاظَ عَلَى الْهَوِيَّةِ الإسلاميةِ لَا يَتِمُّ مِن خِلَالِ العُزْلَةِ بَلْ قَد تَتَوَلَّدُ عن ذلك عُقَدٌ نَفْسِيَةٌ تُذْكِي التَّعَصُّبِ وَتُكَرِّسُ الانْغِلَاقَ، وَتَقْتُلُ كُلَّ فُرْصَةٍ لَأَرْيَحِيَةِ العَمَلِ الدَّعَوُيِّ الرَّشِيدِ بالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ،

فَإنَّ الحِفَاظَ عَلَى الْهَوُيَّةِ الإسلاميةِ يَتَدَعَّمُ بِإِيجَادِ صِيغَةٍ عَادِلَةٍ للشَّرَاكَةِ الاجْتِمَاعِيَةِ مَع الْمُجْتَمَعَاتِ الغَرْبِيَّةِ، تَتَّسِقُ وَرُوحَ الإسلامِ وَمَقَاصِدَهُ الْحَضَارِيَّةَ وتَوْجُّهَاتِهِ الْعَالَمِيَّة، وذَاكَ أَنَّ هَذِهِ الشَّرَاكَةَ الاجتماعيَّةَ، بِقَدْرِ مَا تُتِيحُ فُرْصَةَ مَعْرِفَةِ الآخَرِ فِي وَعيٍ وَجِدِيَّةِ، فَإِنَّهَا تُتِيحُ كَذَلِكَ فُرْصَةً حقيقيةً لِمُرَاجَعَةِ الذَّاتِ واكْتِشَافِ مَدَى وَفَائِهَا لِمَسْؤُولِيَاتِهَا الإنسانيةِ، والحقيقةُ هِيَ أنَّ مُرَاجَعَةَ الذَّاتِ تَحْتَاجُ إلى الوَسَطِ الْمُتَنَوِّعِ أَكْثَرَ مِن احِتِيَاجِهَا إلى الوَسَطِ الْمُتَجَانِسِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].و أَخِيراً وَلَيْسَ آخِراً فَإِنِّ أَدْعُوكُمْ لِلتَّعَاوُنِ وَالْعَمَلِ الْمُشْتَرَكِ لِتَحْجِيمِ ظاهرة “الإسلام فوبيا” والحَدِّ مِن شُيُوعِهَا؛

ذكرى المولد النبوي 1442ه-2020م {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}

احتفاءٌ واحتفالٌ يقول الله في محكم التنزيل:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58)}سورة يونس

اقتضاء الأمر يفيد الوجوب واللزوم..ولا أجلّ ولا أعظم من الفرح بمولد الهادي البشير ,الرحمة للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم..فرحٌ يعكس البهجة على العالم الإسلامي تباهيا بنبيها.سرورٌ يبرهن الوفاء والصدق للعالم أجمعين بالصادق الأمين الذي نقل العالم من الظلمات إلى النور..احتفاءٌ بالمبشِّر المبشَّر رحمة في الدنيا وشفيعا في الآخرة.وهذا الفرح والسرور والاحتفاءمن خلال التخلّق بأخلاقه والتحلّي بصفاته والاهتداء بهديه والتمسك بسنته والمحبة بطاعته والانطباع بإنسانيته صلى الله عليه وسلم .لذلك فإن الاستاذ الباحث في علم النفس والدراسات الإسلامية يبارك للعالم أجمع والإسلام خصوصا بمولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم داعيا أن يمنّ الله عليهم بحسن الاقتداء وكشف البلاء وصرف الوباء وجميل الوحدة واللقاء..كل عام وأنتم بالرحمة منيرون فرحون خيّرون..

من جميل ما قرأت عن محمد صلوات ربي وسلامه عليه

فتذكر أن محمداً صعد إلى السماء السابعة ووصل إلى سدرة المنتهى واقترب حيث لم يقترب مخلوقٌ من قبل، ولما عاد إلى الأرض كان في خدمة أهله.كان يحلب شاته، ويخصف نعله، ويأتي العبد يطلب أن يتوسط له عند سيده فيفعل، وتأتي الجارية الصغيرة تجره من يده ليشفع لها عند أهلها فيمضي معها.صعد إلى السماء السابعة وبقي يأكل في صحن واحد مع المساكين، ويركب بغله، ويأمر جيشه ألا يقطعوا شجراً، ولا يقتلوا طفلاً ولا إمرأة ، وأن يتركوا الرهبان في أديرتهم هم وما يعبدون…كان كبيراً قبل أن يصعد ، وظل كبيراً بعد أن نزل.

 كلمة وزير الشؤون الإسلامية الماليزي, في الاجتماع الرابع عشر لعام ٢٠٢٠ لمجلس حكماء المسلمين.

فضيلة الإمام الأكبر صاحب المعالي، فخامة العلماء أعضاء المجلس الموقرين، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

إنه لشرف لي الانضمام إلى مجلسكم الموقر، والالتحاق بركب حكمتكم، وإنه ليسعدني العمل معكم في سبيل خدمة الأمة، ونشر قيم السلام، وترسيخ مبادئ التعايش السلمي بين أبناء الأخوة الإنسانية.معالي فخامة العلماء من بقاع الارض قاطبة..

أصحاب الوجاهة والسماحة،فإنني وقفت على جانب من المؤتمرات والفعاليات المقامة من أجل السلام. وكلنا يعلم أن لكل مؤتمر سلبياته وإيجابياته، وفطنت إلى أهم سلبية فيها وجدتها عدم التكلم بواقعية والركون للمثالية..

فارتأيت التكلم بواقعية وكلنا يعلم ارتهان العالم وحاجته للسلام.وكيف أن أعداء الدين من أصحاب إسلام فوبيا وغيرهم يرمون إلى إبعاد الناس عن ساح السلام والتواؤم معه علما أن الفطرة تنشده ولكن تكاثر الأعداء عندما استكان أبناء الحضارة التليدة في التواني عن دينهم..

ونحن نعلم بمقتضى قول الله “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” وفحوى قوله: “أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير”ولا ننسى من خلال ذلك الدعوة الإخبارية التأكيدية استحضار قول الله: “والله يدعوكم إلى دار السلام” وقوله جل في علاه: “ادخلوا في السلام كافة” إخبار وإقرار فحواهما وماهيتهما سلامٌ وأمانا وطمأنينة واستقرار عن طريق قوله:” وجادلهم بالتي هي أحسن” لأن الذي بينهما العداوة كأنهما أولياء شرط الصبر والحكمة لأنه من أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا..وأود أن أكد إلى أننا في ماليزيا نبارك جهود المجلس المباركة في نشر السلام، وترسيخ مفهوم التعايش، وإننا معكم قلبا وقالبا في كل ما تنتهجونه وتقرونه، ونحن نشد على أيديكم ونتمنى منكم استمرار عقد الندوات والاجتماعات بين أبناء المجلس وذلك للنظر في النوازل المستجدة، وتحقيقا لمفهوم التعايش السلمي ونشر السلام.وتعريج حديثي عما نشر في فرنسا يدل على أصحابها لا على نقص في إسلامنا أو ثلمٍ في معتقدنا فكل من يقابل الدين من أهل الملل والمذاهب يعلم ذلك ويوقن.فياأيها الأحبة هيا إلى سلام منشود وعودٍ مطلوب وميثاق موعود بيننا لنعمم السلام ونحبب بالإسلام.إسلام الرحمة المهداة.. إسلام محمد صلى الله عليه وسلم كما أنزل على محمد وآله وأصحابه فبنوا لنا إرثا خالدا ماجدا.وأخيرا، فنحن في أشد الحاجة الآن إلى أن نتَّحِد ونتعاون لتحقيقِ السلام الإلهي، الذي يضمَنُ لهذه الأمة حقَّها، ويحفظ لها كرامتها وحريتها.وذلك أن الأمة المُجزَّأة المُفكَّكة التي تسعى إلى تحقيق المكسب الذاتي، وتُضحِّي بالصالح العامِّ وحقوق رعاياها – لن تصنع سلامًا وأمنًا، بل تصنع حروبًا وفسادًا وهلاكًا، وفي النهاية فناءً محققًا؛ فالأمة الواحدة هي أمةُ السلام والهيمنة والخير والقداسة والحضارة، ولهذا قرن الله سبحانه وتعالى بين هذه الأمة وبين عبادته؛ كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 92].

وقفت أمام قبر الرسول الكريم مُنكس الرأس حياءً و قد هَرَبَت مِني الكلمات .. كُلّي حياء منك يا رسول الله ..

وقفت أمام قبر الرسول الكريم مُنكس الرأس حياءً و قد هَرَبَت مِني الكلمات ..
كُلّي حياء منك يا رسول الله ..

أحسنت التبليغ عن ربك وما أحسنّـــا .. وأحسنت النصح لأمتِكَ وما نصحنـــا .. وحملت كتابك بقوة وما حملنـــا .. وانتصرت للحق وما انتصرنـــا ..
واكتفى بعضنا بلحيته ، وقال هي سنَّتَك .. وقصّر البعض جلبابه ، وقال هو أمرك .. واستسهلوا السهل ، وخانوا الأهل ، واكتفوا من الدين بقشرته ، ومن الجهاد بسيرته .. وقعدوا وقعدنا معهم ..
ورَكِب أكتافنا الدون والسُوقة ورِعاع الناس وشذاذ الآفاق ، وسفحوا دماءنا واستباحوا أرضنا وشتتوا شملنا .

يا شفيع العالمين وجاه الضعفاء والمنكسرين ، إشفع لنا عند ربك لعله يتوب علينا ويرضَى .. فقد وعَدَنا ووعده الحق أننا سندخل المسجد كما دخلناه أول مرة ، وسندمر كل ما رفعت إسرائيل من بناء ، وكل ما شيَّدَت من هياكِل .. فلا توبة لنا إلا بتوبته ، ولا رضا إلا برضاه ..
ولا مدخل إلى شفاعته إلا من بابِك ، ولا قُربَى إلا من رِحابك .

ادع لنا ألا يطول علينا الليل وألا يدركنا الويل .

والسلام عليك يا محمد وصلــوات اللــّــه عليك يوم وُلِدتَ ويومَ مُت ويومَ تُبعَثُ حيّا .

والسلام على الكِرام البررة .. سادة البشر وأئمة الدنيا .. أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ .. والنجوم الزواهر من صحابتك الذين عاشوا تحت ظلال السيوف ..

وادع لنا نحن جندك في مصر الذين قلت عنّا :
أننا خير أجناد الأرض ، وأننا في رباط إلى أن تقوم الساعة ..
أن نكون عند حسن ظنِك .. وأن نكون مصداقاً لنبوءتك وآية لرسالتك .

والسلام عليك إلى يوم يقوم الأشهاد .

د. مصطفى محمود ..
مقال .. أمام قبر الرسول
من كتاب : الغد المشتعل

مفهوم الحب والخلاص عند الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه(1844-1900)

قليل هم الذين قد يقرنون فريدريك نيتشه بالحب. ولكن هذا الفيلسوف الأكثر جيشاناً بالعاطفة بين الفلاسفة كان يكتب (بالدم) عن الأشياء التي أحبها فقط.
على نحو مميز، كان يشعر بدافع لمعارضة ما أحب، بل- أكثر من ذلك- كان عليه أن يقتله. الخلاص لم يكن بالنسبة إلى نيتشه هو التحرر من الخطيئة بل تأكيد كلي للحياة بكل ما فيها من ألم ومعاناة وعبث. وفي ما يخص الذنب، فإن القليل قد كلفوا أنفسهم عناء التصدي له أكثر من موضوع الحب.
المفارقة تتخلل وجود نيتشه، لفهم حالة التناقض عند نيتشه الفيلسوف وكذلك عند نيتشه الإنسان، يجب على المرء أن يعي مفهوم توافق الأضداد، هذا المفهوم نشأ لدى هيراقليطس الذي كان يحظى بإعجاب كبير من لدن نيتشه.
هيراقليطس كان يعتقد أن جميع الأشياء كانت تتصف بثنائيات من الخصائص المتناقضة، فعلى سبيل المثال قد يكون الشيء الواحد نفسه حاراً وبارداً على حد سواء. وحيث تكافح هذه الخصائص المتناقضة بعضها بعضاً فإنها تتحرك نحو الوحدة والانسجام، وتقترب المفاهيم بعضها من بعض و (الطريق هو واحد وهو نفسه من بدايته إلى نهايته). معركة المتناقضات، التي تغذيها تقلبات مزاجه طوال حياته، أصبحت تياراً تحتياً مضطرباً في فلسفة نيتشه. التوتر الدائم والطاقة الناجمة عن الصراع كانا مصدر إلهام وخلق له. فلقد أدى الصراع إلى (ولادات أكثر قوة دائماً). وكانت إعادة ترتيبه المتنوعة للمتناقضات في بعض الأحيان قد تغدو سريعة جداً إلى حد أن الوجودي كارل جاسبيرر علق قائلاً: (إنك لم تقرأ نيتشه بعناية إذا لم تكن قد عثرت على تناقضين في الأقل في صفحة واحدة)/ (نيتشه: مدخل إلى فهم نشاطه الفلسفي).

لقد أصبح المفهوم (الأبولوني) والمفهوم (الديونيسي) أكثر مفاهيم نيتشه الثنائية شهرة. ولكن أفكاراً أخرى مستوحاة من هيراقليطس أكثر استفزازاً: (الألم واللذة ليسا نقيضين)، (الصحة والمرض ليسا مختلفين جوهرياً)، (المستهزئون هم معجبون خفيون)، (الحقيقة كذبة على وفق عرف ثابت)، الخ.

جدير بالاعتبار أن خطاب نيتشه ليس ممارسة في الجدل الهيجلي (الذي يقتضي تركيباً من أفكار متناقضة) بل رقص متشابك من الأفكار، ومن هنا فانه من غير المجدي البحث عن تركيب أو حل نهائي في كتاباته.

اختار نيتشه مثل ديونيسوس إله قوى اللاشعور المظلمة، إله التهتك والجنون، إله الأفياء والظلال. الوعي الديونيسي ثنائي الجنس من حيث الجوهر، وكان بالنسبة إلى نيتشه على نحو الدقة الجانب القمري لهذا الوعي، الأعماق السحيقة للأنثوي، الذي كان جذاباً ومخيفاً على حد سواء.
الجانب الأنثوي لنيتشه كان خفياً بشكل عميق خلف قناع مزدوج الطبقات قوامه اوبرمينش وزرادشت. بوصفه (فيلسوف أقنعة)، يؤكد نيتشه أن (على المرء أن يتكلم من أجل أن يظل صامتاً) وذلك القول كان شكلاً من أشكال الإخفاء. ومع أنه غالباً ما كان يصرخ بالقراء من خلال أقنعته العديدة مثل (الثائر، المسيح الدجال، كاره النساء، المجنون) فإنه أيضاً كان يتكلم برقة. وحين يفعل ذلك فإن الصورة الظلية (لصبي ذي عينين ساخنتين متعبتين) تتسلل من وراء الحجاب: ألم وحزن يكمنان تحت السطح الصلب.

الحب يشتهي والخوف يتحاشى
أخاف قربك، أحب بعدك
هكذا تكلم زرادشت/ (الأغنية الراقصة الأخرى).

توق نيتشه إلى الحب لم يضاهيه إلا خوفه منه. كان يبدو أنه يجسد حكاية شوبنهاور الشهيرة عن النيصين (النيص أو الشيهم حيوان شائك من القوارض) اللذين كانت بهما حاجة إلى أن يجتمعا معاً من أجل الدفء باذلين الجهد لإيجاد المسافة المثالية التي جعلتهما يشعران بما يكفي من الدفء من دون أن يؤذي أحدهما الآخر.

في كتابه (1882The Gay Science)يقول نيتشه إن الحب ذو علاقة وثيقة بالجشع، فكلاهما يعبر عن الغريزة ذاتها، غريزة التملك. وتحت تأثير جرحه العميق الناجم عن المثلث الغرامي المعقد مع لو سالوم (Lou Salom e)، كان يحذر من النساء اللاتي لسن بشيء سوى (وحوش مفترسة صغيرة) تتملكهن شهوة الحمل. واشتهرت على نحو سيئ الصيت نصيحته في (زرادشت): (هل أنت ذاهب إلى النساء؟ لا تنس السوط). ولكن لو هي التي كانت تلوّح بسوطها فوق رأسي نيتشه و ري في الصورة الشهيرة التي غالباً ما كانت تعرضها بوصفها غنيمة لها. مساعي نيتشه للحصول على زوجة صغيرة وجذابة لم تتحقق أبداً، وما كانت زيجتاه إلا مقترحات رفضت. ربما كان يعلم جيداً كيف يقترح بشكل سليم واضعاً نصب عينيه تحذير شوبنهاور: (الزواج يعني أن تمسك وأنت معصوب العينين بكيس آملاً أن تجد فيه سمكة بين حشد من الأفاعي).

يدعي نيتشه أن الحب شديد الصلة بالجشع والاستحواذ وحب التملك. الحب عبارة عن قوة غريزية يحركها احتياجنا البيولوجي والثقافي، وعلى هذا النحو، لا يمكن اعتباره حسنة أخلاقية (قصيدة 363 في «العلم المرح»). علاوة على ذلك، محاولة جعل هذه الغرائز والاحتياجات اجتماعية غالبا يؤدي لخلل ولمعاناة نفسية، خاصة عند النساء

ولكن نيتشه أيضاً كتب هذا عن الحب:
إنه الليل: الآن جميع الينابيع المتقافزة تتكلم بصوت أعلى. وأنا نفسي أيضاً ينبوع يتقافز.
شيء لم يكبت، ولا يمكن أن يكبت، داخلي يريد أن يفضي عما فيه. داخلي توق إلى الحب هو نفسه يتكلم لغة الحب. هكذا تكلم زرادشت/ (أغنية الليل).

نيتشه عاشقاً حتى الانتحار

لم يغادر إرفين د. يالوم (1931) فضاء الفلسفة في كتاباته، مازجاً التحليل النفسي بالأسئلة الوجودية. بعد كتابيه «مشكلة سبينوزا»، و»علاج شوبنهاور»، نصب فخاخه حول فريدريك نيتشه وأدخله قفص التخييل الروائي هذه المرّة. في روايته «عندما بكى نيتشه» (1992) التي انتقلت أخيراً إلى العربية عن «دار الجمل» (ترجمة خالد الجبيلي)، سنلتقي فيلسوفاً آخر غير الذي عرفناه.

صاحب فلسفة «إرادة القوة» يبدو هنا رجلاً هشّاً ومكتئباً وسوداوياً يقف على حافة الانتحار. كان نيتشه قد خرج للتو من قصة حب محبطة مع لو سالومي، الروسية المثيرة التي وقع في شباكها أكثر من عاشق، مثل فاغنر، وريلكه، وبول ري. الأخير كان الضلع الثالث في الورشة الفلسفية التي اقترحتها لو سالومي، قبل أن يتفكّك المثلث تحت ضربات العاطفة المتأججة التي أبداها نيتشه نحوها، لكنها ستذهب مع بول ري، ما اعتبره نيتشه خيانة منهما له. هكذا زعزعت هذه الأنثى الصغيرة كيان الفيلسوف لينتهي مريضاً في عيادة الدكتور جوزيف بريوير، بمبادرة من لو سالومي نفسها، لكن من دون علمه، حرصاً على مستقبل الفلسفة الألمانية، وفقاً للرسالة التي أودعتها عيادة الطبيب. نحن في فيينا، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر (1882)، وكان نيتشه حينذاك في بدايات تلمّس مشروعه الفلسفي. يوافق بريوير على معالجة «العقل المريض» في تجربة لم يخضها قبلاً. وعلى ضوء بعض كتابات نيتشه المبكّرة، يحاول أن يطوّر عمله في التحليل النفسي بمساعدة تلميذه الطبيب الشاب سيغموند فرويد.

اختبارات عميقة لمعن
ى
الحرية والاختيار والعبودية

كان نيتشه حذراً في كشف أمراضه النفسية، لكن بريوير يجد في هذه العيّنة من المرضى فرصة لاكتشاف أمراضه الشخصية، و»كنس المدخنة» مما علق بها من «قمامة عقلية». وإذا كانت لو سالومي هي من أوصل نيتشه إلى حافة الانتحار، فإن بيرثا، المريضة السابقة لدى الطبيب، هي نسخته الشخصية من الدمار العاطفي. مريضان يتبادلان الأدوار في العلاج، على خلفية هائلة من المصطلحات في تشريح الجسد والروح، ذلك أن «أطروحة اليأس» لا تخص نيتشه وحده، إنما يعاني منها الطبيب أيضاً، فما أن تختفي بيرثا من حياته حفاظاً على علاقته الزوجية مع ماتيلد، حتى يفقد أي معنى لحياته، رغم رصانته المعلنة، ونقاشاته العلمية مع تلميذه فرويد، الصديق الحميم للعائلة. مع نيتشه، في الغرفة «13» من المصحة، تنزاح طبقات من أسرار الرجلين في جلسات عصف فكري، و»خدمات تخفيف الألم»، وسبر «مسارب العقل الخلفية». إنهما من الجيل الذي قرأ بشغف رواية «آلام فارتر» لغوته، الرواية التي ينتهي بطلها إلى الانتحار، لكنهما في المنعطف الأخير من أحوال الاحتضار يفتشان عن طوق نجاة ينقذهما من اليأس: «اليأس هو الثمن الذي يسدّده المرء لقاء الوعي الذاتي. تمعّن في الحياة، وستجد اليأس على الدوام» يقول نيتشه مخاطباً جوزيف بريوير. عند هذه العتبة، نتعرّف إلى شذرات من أطروحة نيتشه غير المكتملة عن الأساطير الغيبية، وموت الإله، ومحاولة إنقاذ البشر من العدمية والوهم وخرافة الدين. بناء على فكرة طرحها نيتشه بأن الأحلام ليست سوى فضلات عشوائية يطرحها العقل في الليل، يسعى الطبيب إلى تعويض خسائره بالأحلام، فيخضع لجلسة تنويم مغناطيسي لدى تلميذه فرويد، في محاولة لإزاحة صورة بيرثا عن مخيّلته، وهوسه الجنوني بها، إلى أن يعلن شفاءه منها، إثر رحلات وهمية إلى أرضٍ أخرى، واختيار قدره، بعيداً عن زوجته ماتيلد، وكل ما يربطه بالماضي، وذلك بمقارعة العدو الحقيقي «الزمن والشيخوخة والموت». وحين يخبر نيتشه بأنه شفي تماماً من شهوانيته، نكتشف أن صديقه يعيش الهوس نفسه بلو سالومي، معتبراً أنها خانته ودمّرت حياته تماماً، وانتهى إلى الخذلان والعزلة والكآبة، قبل أن يشتبك مع زرادشت، في تجربة فلسفية مختلفة. نخرج من هذه الرواية بقناعة مؤكدة بأننا كلّنا مرضى، ولكن بدرجات، وأن قصص الحبّ المحبطة، أساس كلّ العلل، كما لا يمنع أن نتبادل الأدوار فوق أسرّة المرضى وزيارات الأطباء كفواتير مؤجلة بين الطرفين، بالإضافة إلى أهمية أن نخترع حيوات مختلفة لأشخاص لطالما كانوا خارج مرمى الخطر، بوضعية يكون فيها «مستلقياً على الكنبة» وفقاً لعنوان أحد كتب إرفين د. بالوم نفسه.
يضع إرفين د. إيلوم، وهو أستاذ الطب النفسي في «جامعة ستانفورد» الأميركية، قارئ روايته في المصحة نفسها التي قاد إليها مرضاه، في اختبارات عميقة لمعنى الحرية والاختيار والعبودية. سنفاجأ في نهاية الرواية بمصائر أخرى لشخوص روايته. في الواقع، لم يلتق نيتشه وجوزيف بريوير قط، ولم يكن التحليل النفسي شائعاً حينذاك، بل كان جنيناً، تطوّر على نحو مذهل على يد فرويد. أما لو سالومي، فلم تعد مجرد فتاة عابثة، بل أصبحت شاعرة ومحلّلة نفسية معروفة. على هذا المنوال، بإمكاننا دمج الغموض الفلسفي بالوثيقة التاريخية تحت بند التأويل الروائي، وقد ننجح في ذلك، حين نجد شخصية بمقام فريدريك نيتشه.

يعتقد نيتشه أن كلمة الحب تدل بالواقع على شيئين مختلفين بالنسبة للرجل وبالنسبة للمرأة.
برأيه أن من شروط الحب عند الجنسين ألا يفترض الواحد الشعور عينه عند الآخر, ألا يفترض نفس فكرة الحب الخاصة به, لأن طريقة التلقي والتفاعل عند المرأة تختلف عنها عند الرجل.‏
إن ما تعنيه المرأة بالحب أمر واضح بما فيه الكفاية. إنه ليس مجرد التفاني, إنه هبة كلية للجسد والروح من دون أي شرط, من دون أخذ أي شيء آخر بعين الاعتبار, فهي إذ تحب تسقط من اعتبارها كل الشروط, وهي تخاف وتحمر خجلاً من فكرة التخلي, إن غياب الشروط بالنسبة للمرأة هو ما يجعل من حبها الإيمان الوحيد الذي تملكه.‏
أما الرجل فإذا أحب المرأة, فإن هذا هو الحب الذي يريده منها, وبكلمات نيتشه نفسه:‏
تريد المرأة أن تؤخذ, تريد أن تذوب في فكرة الملكية لأنها تفترض أن الرجل يأخذ, إنه لا يعطي نفسه, ولكنه يريد على العكس من ذلك أن يغني أناه بالحب ويتكاثر بالقوة, إنه يفهم الحب على أساس أن المرأة تمنح نفسها وهو, بصفته رجلاً, يزداد بها.‏
هذا الكلام لفيلسوف القوة نيتشه لا يعجب الناشطات في الحركة النسوية بالتأكيد, لأنه يضع مفاهيمهن موضع الشك والمساءلة, لكنه يصر عليه معتبراً أن الإخلاص جزء من الحب الأنثوي, ينتج عن تعريف الحب نفسه, ويمكن أن يولد بسهولة عند الرجل على إثر الحب كنوع من الاعتراف بالجميل أو من فطرة ذوقه أو كنوع من التلاؤم الانتقائي الذي قد لا ينتمي إلى ماهية الحب.‏
ويمكن للشاكيات من طغيان النظرة الذكورية عند الرجل أن يجدن في الكلام التالي لنيتشه ما يروق لهن:ونادراً ما يعترف الرجل وبشكل متأخر بهذه الملكية, ذلك بأن تعطشه الدقيق والأشد شكاً في التملك هو الذي يجعل حبه مستمراً, ويمكن له أن يستمر حتى بعد تخلي المرأة المكتمل, فالرجل لا يقبل بسهولة أنه لم يبق للمرأة شيء تتخلى عنه
في مؤلفه ‘’ العلم المرح’’ الذي يعرفه نيتشه بأنه فن وضع قبعة البهلوان أو رقصة العارف الخاصة، والفن الذي يمنح الانسان أعينا وآذانا للنظر والسماع بشيء من الحبور الى ما يكونه هو في حد ذاته.. يعيد نيتشه صياغة رأيه في المرأة فنقرأ في الفقرة المعنونة بـ ‘’إخلاص’’: ‘’هناك نساء نبيلات ذوات هزالة فكرية معينة، اللواتي لا يعرفن كيف يعبرن عن اخلاصهن الاكثر عمقا إلا بعرض عفتهن وحشمتهن: اسمى ما يملكن. وغالبا ما يكون مقبولا مثل ما تفترضه المانحات- أمر محزن جدا’’ وفي ‘’ان يتظاهر المرء بطبيعته الخاصة’’ يقول: انها تحبه من الآن فصاعدا، ومنذ ذلك الحين وهي تنظر أمامها بثقة بقرة غبية: واحسرتاه’’ .. وفي ‘’قوة الضعفاء’’ يرى ان ‘’كل النساء يظهرن أنفسهن في غاية الرقة في تعظيم نقائصهن، ويتفنن في اختراعها ليظهرن هشات مثل التزيينات التي مجرد ذرة عفر تفسدها، فوجودهن يقتضي ان يشعر الرجل بثقله الخاص، وارهاق احساسه بذلك..هكذا يدافعن ضد حق القوي ‘’الرجل’’ على الضعيف’’ المرأة’’.
ودون استطراد مطول وقطف متوغل في اعماله التي تعددت وتشابهت، علينا ان نتساءل: ماهي الاسباب التي دعت هذا المفكر الجبار- كما يصفه دارسوه- الى اتخاذ هذا الموقف العدائي تجاه المرأة؟ .

مفهوم النفس الإنسانية في الفلسفة الديكارتية، عند الفيلسوف الفرنسي،رينيه ديكارت(1596-1650)

كلنا يعرف أنّ التأملات يحمل عنوانا يتضمّن ضرورة التّميز بين النفس والجسد فهدف ديكارت منذ البداية هو التّمييز بينهما. لكن ديكارت الذي حاول في التأملات قدر الاستطاعة أن يميّز بين النفس والجسد أدرك أنّه ينبغي عليه أن يبيّن علاقتهما، أي تداخلهما في الإنسان. فهو في التأمّلات على الأقل يحاول التمييز و لكن في الانفعالات يضع هذه المسألة بصفة جديدة لإيجاد حلّ لعلاقة النفس بالجسد.
في التأمّلات يقرّ ديكارت أن الشيء الذي يبقى قارّا ولا يمكن للشك أن يضعه محل ريب هو الفكر كفكر أي بقطع النظر عن كونه صحيحا أو خاطئا، وهذا الفكر هو فكر محض أي مستقل ومتميّز عن الخيال وعن الإحساسات وعن كل ما قد يوجد في النفس من أشياء أخرى، فديكارت يميز الفكر في النفس عما هو مخالف لهذا الفكر. وعندما يتساءل عن أهميّة هذا الفكر يجد ديكارت أنّه جوهر مفكّر، وكلمة جوهر هنا تؤخذ بالمعنى الأرسطي، إذ نتبيّن أنّ الفكر عند ديكارت مستقلّ بذاته أي لا يحتاج إلى شيء آخر، أي لا يحتاج إلى جسد ليوجد هو كفكر بل على العكس إنّه الأوضح والأكثر تميز ووحدة وثبات من الجسد. ولهذا نكتشفه قبل الجسد ونميزه عنه.
هذا هو الجوهر الذي يعترف به ديكارت بالإضافة إلى الجوهر المادّي أي أنّ ديكارت الذي نقد السبب الغائي والصور الجوهرية لكونها أشياء غامضة و خاطئة و جب التخلي عنها موجّها نقده في ذات الحين إلى المدرسة التي يعيب عليها إثبات الصور الجوهرية، يقر بوجود جوهر الفكر. ذاك أن المثال الشهير الذي يورده ديكارت في التأمّل الثاني [مثال قطعة الشمع] هو مثال لا غير، أي عندما نقرأ التأملات يجب أن نعتبر أن هذا المثال خارج عن التأمل الثاني خاصّة و أن الفيلسوف يلح على نظام الأفكار، في حين أن قطعة الشمع تفترض وجود الجوهر المادي ونحن لا نعرف أو لا نستطيع أن نعرف منطقيّا الجوهر المادّي إلاّ في التأمّلين الخامس والسادس لذلك فهو مثال يقتلع اقتلاعا من العالم المادّي خارج التّسلسل المنطقي، وهذا بسبب خشية ديكارت من الاعتراض عليه، و هذا يعني أن غاية إيراد مثال قطعة الشمع، هي غاية جدالية لا برهانية منطقية. و هذا الاعتراض قد يتأتى عن الحسّيين الذين كما يتصوّرهم ديكارت يتشبثون بالقول أن الأفكار ناتجة عن الإحساس خاصّة حسب ما نعرفه منذ أرسطو وخاصة حسب ما بدأ يظهر في الفلسفة الانقليزية في ذلك الحين وهي فلسفة حسّية تجريبية.
الاعتراض يقول: إنّ الأفكار لا بدّ أن تكون ناتجة عن الإحساس فكيف تستطيع يا ديكارت أن تبرهن بأنّ الفكر مستقل عن الجسد و متعالي عليه.
عندما يحلّل ديكارت مثال قطعة الشّمع يستنتج في نهاية الأمر أنّ ما تبقّى من هذا الجسم عندما نحذف عن الصفات الحسّية المتعدّدة، هو الامتداد، و الامتداد مفهوم رياضي أي عقلي نجده في الفكر ولا حاجة لنا إلى استنتاجه خاصّة من الإحساس والتجربة بل هو مفهوم فكري محض يمكن للفكر أن يقرّه بمجرّد إثباته. و بهذا يتحصّل ديكارت على نتيجتين ضد الحسّيين:
لا يستطيع المذهب الحسّي أن يبيّن ظهور الأفكار الحسّية حسب ما يعتقده.
و كذلك فإنّه لا يستطيع أن يبرهن أنّ الأفكار المجرّدة مثل الأفكار الرياضية مستنتجة من الحسّ.
و عندما نقارن هاتين النتيجتين نحصل على ثالثة: إن الحسّيين ينهزمون في عقر دارهم لأنّ الحقل الحسّي نفسه يبرهن أن ما نجده في نهاية الأمر هو مجموعة أفكار. فالحسّ ينهزم على مستوى تفسير الأفكار الناتجة عن الأفكار وينهزم حتّى على مستوى الأفكار التي نعتقد أنّها ناتجة عن الإحساس. و يغلق ديكارت القوسين أي يبيّن أنّ مثال قطعة الشّمع لا يمكن أن يعطي أيّ قيمة للاعتراض الموجّه من طرف الحسيين. لكن التأمّل الخامس بعد البرهنة على وجود الفكر في التأمّل الأوّل، و ماهية الفكر في التأمل الثاني، و وجود الله في التأمّل الثالث و الرابع، [هذا التأمل الخامس] ينبغي أن يبرهن على وجود العالم المادّي لأنّ هذا العالم موجود والبرهنة عليه تكون برهنة من نوع خاصّ أي تحتاج إلى قنوات الإحساس التي تبين لديكارت أنه يشعر بوجود العالم المادّي، برهنة أكثر قيمة عقليا ونفسيا أي تلك التي نجدها في التأمّل السّادس عندما يفكر ديكارت في الفيزياء والرّياضيات. إذ نجد أن الفيزياء رياضية قبل كل شيء ولكنّها مرتبطة بالجوهر المادّي. و يبيّن صاحب كتاب التأملات الميتافيزيقية أنّ هذا الجوهر المادّي – هو أساسا – امتداد يتميّز عن جواهر مادّية مختلفة التعقّد و التي تعطينا مجموعة الأجسام المادّية المعروفة، إذن هناك جوهر فكري واحد ومجموعة لا متناهية من الجواهر المادّية التي تخضع كلّها إلى نفس المفهوم الرياضي وهو مفهوم الامتداد.
و لا يضع ديكارت مسألة علاقة النفس بالجسد في التأملات، بل إنّها [التأمّلات] تنتهي بعد أن اكتشف ديكارت أولا أنّه موجود كفكر، ثانيا أنّ ماهيته فكرية، ثالثا أنه جوهر مستقل، رابعا جوهر مستقل لكن متناهي، خامسا أنه متناهي لأنّه وجد من طرف فكر لا متناهي وسادسا أن هذا الجوهر المتناهي المستقل البسيط موجود في علاقة ما مع الجسد و ذلك عن طريق الشعور بالجسم، لكن ديكارت لا يضع بصفة مباشرة هذا المشكل على مستوى التأمّلات لذلك يمكن أن نعتبر أنّ التأمّلات هي كتاب التمييز بين الجسد و النفس في حين الانفعالات هو كتاب العلاقة والوحدة بينهما. و لكن لماذا لم تعتبر “التأمّلات” هذه العلاقة واكتفت بمسألة التمييز؟
إنّ هدف ديكارت في التأملات حسبما يعلن عنه في “التأمل الأول” هو هدف علمي إبستيمي، أي وضع أسس واضحة للعلم ترتكز على الفكر الذي يعني عند ديكارت دائما فكر واضح ومتميز أي الصحيح ويفرض نفسه على العقل. فديكارت إذن لا يريد تفسير الإنسان، فهو لا يهتمّ بالأخلاق ولا بالطبّ وإنّما بالمبادئ الأولى الواضحة لكلّ فكر علمي ممكن. وهذه المبادئ هي، أوّلا، التّمييز بين الأفكار حتّى نتحصّل في نهاية الأمر على أبسطها ولا نقر بصحتها إلاّ إذا أقررنا أنّها بسيطة وواضحة، ثانيا” ربط هذه الأفكار البسيطة مع بعضها ومحاولة التثبّت في كلّ مرة عن طريق الإرادة من صحة هذه الأفكار البسيطة وتسلسلها، “ثالثا” إرجاع كل الأشياء إلى مبدأ واحد (إرجاع كل الجواهر المادّية إلى مفهوم الامتداد) و بطبيعة الحال لا يمكن للتأمّلات إلا أن تؤدّي إلى التّمييز الكلي بين الفكر والجسم و في الفكر نفسه بين الأفكار البسيطة والأفكار المركبة لا إلى وجود علاقة بين الجسم و النفس. لكن ديكارت يعتقد أن أجزاء الفلسفة متكاملة وأنّها تشكل وحدة، و ينبغي أن تؤدّي إلى سلوك فردي واجتماعي معين و لذا ينبغي عليه أن يضع مسألة علاقة النفس بالجسد على مستوى آخر لا يكون متناقضا مع نتائج التأملات و لكنه يكون مكملا له. و هذا ما نجده أساسا لا في كتاب التأمّلات بل في كتاب الانفعالات.
عملية توحيد الجسد و النفس في كتاب “الانفعالات” متأتية من ضرورة فهم فردية الإنسان أي كيف يستطيع ديكارت انطلاقا من تمييز الجواهر وتعدّدها أن يفسّر فردية الإنسان، أي أن يبيّن تعامل الامتداد مع الفكر في الإنسان فقط. فديكارت إذن لا يبحث في وحدة علاقة الجسم بالنفس لفهم كائنات أخرى مثلما نجد ذلك عند أرسطو أو فيما بعد عند “سبينوزا” و “لايبسيز” و إنّما عند الإنسان فقط، فالإنسان من حيث هو جسد يخضع للتّحديد العام الذي يعطيه ديكارت للجسم كامتداد، ومن حيث هو روح يخضع لتحديد النّفس كفكر محض و خالص. كيف يتفاعل إذن، هذان النّوعان من الجواهر في الإنسان بالذات ؟

عند أرسطو و لتفسير كل الكائنات الحيّة هناك مبدأ عام يمكنه من بيان وحدة النفس بالجسم وهي علاقة المادّة بالصورة. فجوهر الكائن الحي بصفة خاصّة متكوّن من صورة و من مادّة و الصورة هي التي تعطي وحدة المادّة، حياة الكائن هي ما تتأتّى دائما عن طريق إضافة الصورة للمادّة. (نحن نعرف أنه بالنسبة لأرسطو كلمة جوهر تعني عدّة أشياء إمّا المادّة أو الصّورة أو المكوّن من مادّة وصورة ويبدو أنّ تحديدات أرسطو غير شافية دائما لأننا لا نستطيع من كتاب إلى آخر في بعض الأحيان أن نعرف بالضبط ما يعني أرسطو بكلمة جوهر فنكتفي فقط – إذن – بفهم سريع وعام للقول: إن المادّة عادة ما تقال كجوهر لكن كجوهر يرغب في صورة). فالصّورة إذن بهذا المعنى على الأقل جوهر بأتم معنى الكلمة. لكن هنالك صعوبة أخرى لأن أرسطو يعتبر أن الجوهر الحقيقي هو المكوّن من مادة وصورة و ذلك خاصّة عندما يريد أن يفسّر الجواهر الجسمية الملموسة وبصفة أخصّ منها جواهر الكائنات الحيّة فنحن نستطيع أن نقول مثلا أن الله جوهر بمعنى صورة فقط مستقلّة تماما عن المادّة بل و نقول أكثر من ذلك أن الله هو الجوهر الأول لأنه جوهر تخلص تماما من المادة فهو قد يعتبر من هذه الزاوية المحرك الذي لا يتحرك أو الفكر الذي يفكر في نفسه فقط لا يفكر في شيء خارج ذاته. و بهذا المعنى يعتبر الجوهر الأسمى هو الصورة رغم أنّ أرسطو يقول أن الجوهر الحقيقي هو المكوّن من الصورة والمادة. لكن ليس هنالك تناقض كليا لأنه عندما نقول أن الجوهر الكامل هو كامل خاصة بصورته بأتم معنى الكمال. إذن الجوهر الأسمى اكتمالا هو جوهر الإلاه وكل الجواهر المكوّنة من مادة وصورة موحدة على كل حال بالصورة. و هذا المبدأ العام مكن أرسطو ضمن نطاق نسقه من اعتبار أن الكائنات الحية موحدة بصورتها التي هي أسمى من صورة الكائنات غير الحية. و علاقة المادّة بالصورة يمكن أن تفهم من زاوية ثنائية مفهومي القوة والفعل. فالمادة موجودة بالقوة والصورة موجودة بالفعل و معنى الفعل هو إيجاد حقيقة موجودة. و لهذا فتكوين جوهر معين يفهم “بالفعل” (ضد القوة) وهنا يمكن أن نعادل بين الصورة والفعل.
و هذا التفسير الأرسطي لوحدة كائن ما لا يمكن لديكارت أن يأخذه بعين الاعتبار و ذلك لعدّة عوامل:
لأن ديكارت بحسب ما نستنتجه من فلسفته وحسبما يلح عليه في فهمه للطبيعة، يريد أن يلغي السبب الصوري وأن يقر فقط السبب المادي و السبب الفاعل.
لأنّ مفهوم النفس نفسه تغيّر منذ أرسطو وصولا إلى ديكارت حيث اكتسى هذا المفهوم صبغة دينية لا تعني فقط الوحدة والبساطة والسّمو وإنما البقاء والخلود و كذلك مفهوم المسؤولية أخلاقيا. و من هذه الزاوية لم تعد “الصورة تستطيع أن تفسر مفهوم المسؤولية. و عندما نعتبر مفهوم النفس حسب اللغة الفلسفية الديكارتية يضمحل التفسير الأرسطي العام و يعطي ضرورة تفسير وحدة النفس بالجسد في الإنسان فقط.
لأن ديكارت يريد أن يفسر لا علاقة النفس بالجسد فقط بل علاقة الجسد بالنفس. فعندما نعتبر الإنسان وحدة بين النفس والجسد يمكن أن ننظر إليه من زاويتين اثنتين: إما من زاوية تأثير النفس على الجسد و هذا يبيّن عند ديكارت فعل الإرادة التي يقول عنها في التأمل الرابع أنها الشيء الوحيد اللامتناهي في الإنسان وتجعلني أشبه الله. وإمّا من زاوية تأثير الجسد على النفس فيعطينا الانفعالات. و بالرغم من هذه الصبغة التي أوردنا بها هاتين الزاويتين فليس ثمة تناظر Symétrie بينهما رغم أن كل منهما يؤثر على الآخر لأن النفس تصل بصبغة أو بأخرى إلى التحكم في الجسد أي سيطرة العقل على الانفعالات إذ يعتقد ديكارت أنه من الواجب أن نسيطر على الانفعالات.

لهذه العوامل الثلاثة لا يمكن لديكارت أن يستعمل في “أي شكل” التفسير الأرسطي للصورة وعلاقة الصّورة بالمادة، ذلك أن ما يرمي إليه ديكارت أساسا في بحثه عن وحدة النفس بالجسد أو علاقتهما ببعض ليس الفهم العلمي للأنسان بل بيان قدرة النفس على السيطرة على الجسد. فكيف تتحدّد النفس في التأملات ؟

تظهر النفس في التأمّل الثاني على مستويات مختلفة : على مستوى الوجود، على نطاق الماهية، من حيث هي جوهر و على نطاق الذهن. و هذه المستويات الأربعة تدخل ضمن إطار ذاتي فقط، أي تظهر كاستثناء لفرضية الشّيطان الماكر. ذلك أن الشك الديكارتي (وهو شك منهجي لأنه افتراض منطقي فقط لا ينتج عن معاناة تجربة حقيقية، وهو شكّ كلّي لأنه يطبّق حتى على الرياضيات التي تبدو لديكارت و لأوّل وهلة النّمط الأسمى للوضوح والتمييز أي الحقيقة، وهو شك جذري لأنّه لا يطبّق على بعض الحالات الحسّية أو المعادلات الرياضية وإنّما على مبادئها برمتها). هذا الشك الذي يصعد عن طريق فرضية الإله الماكر و يبقى ساري المفعول إلى حدود البرهنة على وجود الله يترك مكانا شاغرا لاستثناء وحيد و هو “الكوجيتو”. يعني هذا أنّ الكوجيتو لا يمكن – في التأمل الأول و في التأمل الثاني– أن يكون حقيقة مطلقة بل يبدو حقيقة مؤقتة يمكن أن لا نجد لها صفات حقيقيّة إنّ لم نبرهن على وجود الله. لكن هذا الاستثناء يدخل في علاقة معقدّة مع الضمان الموضوعي للحقيقة وهو الله. إذ هو من ناحية استثناء ذاتي وحقيقة آنية فقط، و لكنّه من ناحية أخرى يصل إلى البرهنة على وجود الله، أي يصل إلى وضع هذه الحقيقة. و هذا يمثل نوعا من المفارقة “Paradoxe” لأنّ الحقيقة المطلقة تبدو ناتجة عن حقيقة ذاتية ومؤسّسة لها. لكن ديكارت يفرد تحليلا ضافيا لهذا الكوجيتو، إذن أنا موجود ككوجيتو بقي على أن أبحث عن ماهية هذا الوجود أي ماهية الفكر. و هذه العلاقة بين الوجود والماهية تبدو و كأنها لا تحترم منهجية ديكارت، ذلك أن هذا الأخير يلح منهجيّا على الانطلاق من الماهية لفهم الوجود لا العكس. فنحن نرى مثلا عندما يبرهن ديكارت على وجود الله يكتشف أولا ماهية الله و هي فكر لا متناه ثم يقرّ ثانيا أنّ الله موجود كما نرى ديكارت في التأمّل الخامس يكتشف ماهية الأجسام أي المادّة عن طريق الامتداد ثم يقرّ بوجود العالم المادّي فيما بعد.
نستنتج أنّ العلاقة الموجودة بين التأمل الأول و التأمل الثاني، أي بين اكتشاف وجود الكوجيتو واكتشاف ماهية الكوجيتو، تبدو كأنّها لا تحترم هذا المنهج الذي يتبعه ديكارت في بحثه. و لكن بالنسبة لهذه الحالة الأولى فليس هنالك في الحقيقة عدم احترام للمنهج الديكارتي، لأنّ المعني بالوجود هنا هو وجود الفكر لا وجود شيء خارج عن الفكر قبل الله أو العالم المادّي. و وجود الفكر كفكر يختلف تماما عن علاقة وجود الأشياء الأخرى بماهيتها، فلا غرابة إذن في أن ينطلق ديكارت من الوجود إلى الماهية بما أنّ الوجود هنا هو الفكر فقط. و ماهية الفكر هنا تتحدّد على مستويين: كجوهر و كذلك داخل هذا الجوهر عبر تمييز ضربي Modale، ذلك أنّ الفكر كجوهر يختلف عن المادّة كجوهر جوهريا أي حقيقيّا أي عبر تمييز حقيقي. بينما الفكر كجوهر يختلف عما يغاير الفكر في الرّوح ضربيّا فقط. بمعنى أنّ الفكر يختلف عن المخيلة والإرادة والإحساس اختلافا ضربيّا لأنّ هذه العناصر داخلة في الرّوح ولكنّها لا تدخل في تحديد الفكر. معنى هذا أن الكوجيتو يمكن أن يحدّد روحانيّا ذلك أنّه يختلف عن الإرادة والمخيلة. لكن ديكارت يشعر بأن هاتين الحقيقتين صعبتا الفهم ذلك أنّ الفلسفة اليونانية و خاصّة الأرسطية والفلسفة المعاصرة التجريبية والضّمير المشترك، كلّ هذه المواقف، تعتبر عادة أنّ المعرفة تبدأ مع الحس بينما ديكارت يريد أن يبيّن العكس تماما و لهذا يشعر بضرورة الوقوف عند هذا الاعتراض وأن يجيب عليه وذلك بتحليل قطعة الشّمع.
و تتمثل إشكالية هذا النّص في محاولة الإجابة على اعتراض ملح موجه من قبل الظن المشترك و التجربيين. يحلّل ديكارت إذن، قطعة الشّمع فيحذف عنها الشكل واللّون والطعم و الرائحة و الحجم فلا يبقى في النّهاية إلا الامتداد الذي هو مفهوم ذهني. إذن معرفة الجسم تكون عن طريق الذّهن. لكن لا ينبغي أن نفهم هذا النّص على أنّه يرمي إلى بيان أنّ العالم المادّي موجود ويرجع فهمه إلى الذهن لأنّ البرهنة على العالم المادّي لا توجد إلا في التأمّلين الخامس والسّادس. و النتيجة التي يصل إليها ديكارت تتجاوز ما أراد أن يصل إليه في البداية. فلقد أراد ديكارت أن يبيّن فقط أنّ المعرفة الذهنية لا تنتج عن الحسّ. لو وصل ديكارت إلى هذا الحدّ فقط لكان جوابه كافيا ومقنعا لكنه بيّن أكثر من ذلك لأنّه استنتج أن المعرفة الحسّية نفسها لا تأتي إلاّ عن طريق الذّهن أي أنّ هنالك قلب لاعتراض التجريبيين. هاتان النتيجتان تنتجان أربع نتائج أخرى إذ نرى أنّ المعرفة الحسّية ستطرد من ثلاث مجالات وتبقى مشروعة جزئيّا في مجال واحد :
1) الحواس لا تعطينا معرفة بالأشياء الذهنية.
2) وهي كذلك لا تعطينا معرفة الأشياء الحسّية أي تطرد في مجال الأشياء الحسّية.
3) إنّ الحواس تطرد من معرفة وجود الفكر وماهية الفكر. أي أن المعرفة الحسّية تطرد على مستوى وجود الفكر وعلى مستوى ماهيته كفكر.
4) الحواس تبقى مشروعة جزئيا في معرفة وجود الأشياء الحسّية فقط، لأن المعرفة الحسّية معرفة غامضة عن طريق الشعور.
أمّا كيف يتمثل الفكر بما هو أيسر معرفة، فذلك ما نلاحظه على مستوى التفكير فقط أي أنّه على عكس من يعتقد من أن الانطلاق من الحواس يمكننا من معرفة الفكر نفسه فإن هذا الانطلاق هو الذي يمثل عائقا في نظام الفكر، إذ أننا في حياتنا العادية نتشبث بالحسّ بل و نعتقد أنّه مصدر الأفكار مع أنّنا لا نستطيع بسهولة التخلّي عن هذا العقل. أي أن ديكارت يقلب الاعتراض التجريبي الحسّي الأرسطي فيقول هذا الذي يسّمى مصدرا من طرف هؤلاء ما هو إلاّ عائق ينبغي التخلّي عنه. و لذلك فكلمة “أيسر” تعني سهولة وصول الفكر إلى ذاته عندما يحترم نظام الفكر فقط. أمّا إذا لم نحترم هذا النظام فإنّ معرفة الفكر لذاته تكون أصعب.
ذلك “أن الفكر أسبق معرفة من الجسم” هو ما يتضح معناه على نطاق نظام الفكر دائما لأنّ الأسبقية العادية هي أسبقية الحسّ ولذا وجب علينا إن نحن أردنا معرفة الفكر معرفة حقيقية أن نتخلّى بكل ما لنا من إرادة عن كلّ ما يشوب الفكر الخالص ويتداخل ضمنه، لننتبه كذلك إلى سلسلة الأفكار و نحذف كلّ ما استطعنا من حسّ يشوّه هذه المعرفة.
بقي أن نبيّن ماهية هذا الفكر؟ لقد قلنا أنّه جوهر، إنّ هذه الكلمة تأخذ بمعناها القديم أي بمعناها الأرسطي “substra” أي كشيء مستقلّ بنفسه. لكن لا بالمعنى الذي أصبح دارجا عند شرّاح أرسطو، أي المعنى الذي يكون فيه الجوهر متكوّنا من الصّورة والمادة، ولا بمعنى سبينوزا “المسبب لذاته”. فعند أرسطو يكون الجوهر ذلك الشيء الذي تحمل عليه المحمولات أو توضع عليه أشياء أخرى. إن الجوهر مستقل بذاته، قائم بذاته. وعندما نقول أنّ الفكر كجوهر مستقل بذاته فذلك يعني بالنسبة لديكارت أنه مستقل متميز عن المادة لا بمعنى أرسطي. إن الجوهر المادي مركب أما الجوهر الفكري بسيط لا يقسّم، والذي لا يقسّم على مستوى المكان يكون بالنسبة لديكارت أزلي على مستوى الزّمان أي أنّ البسيط أزلي: النفس خالدة بينما الجسم فان (المادّة فاسدة).
و من هذا المنطلق فإن العلاقة التي نجدها بين الجسد و النفس عند ديكارت وإن كانت علاقة جوهرين مستقلّين متميّزين فإنّها ترمي في الحقيقة إلى نظرة أو موقف أخلاقي معيّن أي أنّ الدراسة الأنتربولوجية، و نعني بذلك دراسة تركيبة طبيعة الإنسان في حدّ ذاته، ليست دراسة علمية محايدة و إنّما تتضمّن منذ أساسها ما يرمي إليه ديكارت في نهاية المطاف، و هو بيان أن الجسد ينبغي أن يخضع للعقل باعتبار أنّ الجسد هو مصدر الانفعالات وباعتبار هذه الأخيرة عند ديكارت غير طبيعية وإن كانت تفهم بطريقة طبيعية أي طريقة علمية. و لكنّها تبيّن في الحقيقة ضعف الإنسان الذي يخضع لهذه الانفعالات. إذن النظرة الأخلاقية هي التي أدّت بديكارت إلى هذا “الموقف الانثربولوجي” ولا إلى العكس، حسب ما يريد ديكارت أن يعرض لنا ذلك، كما هو معروف مثلا في التأمّلات. فنحن عندما نتصفّح التأمّلات ونتتبّع خطى ديكارت في بيان أسبقية معرفة النفس عن الجسد و بساطة هذه النّفس و توحيدها للجسد لا نتنبّه في هذه القراءة إلى الخلفيات التي سوف تظهر فيما بعد في كتاب “الانفعالات” حيث نجد ديكارت يجعل الجسد يخضع للنّفس بينما هذا المبدأ غائب في التأملات التي تكتفي، فقط، بتبيان أن النفس أسبق و أيسر معرفة من الجسد. إذا ينبغي أن نقرأ هذين الأثرين في الحقيقة بصفة عكسية، أي أن نبدأ بكتاب “الانفعالات” لبيان الغاية الحقيقية التي يرمي إليها ديكارت ثم نتتبع الوسائل و جملة الأفكار التي يوردها في التأمّلات، لنفهم أن هذا التّمييز الذي يقره للنفس عن الجسد يمهّد شيئا فشيئا للغاية التي كنا وضعناها منذ البداية في قراءتنا لا لكتاب “التأمّلات” وإنما لكتاب “الانفعالات”.
إنّ النظرة الديكارتية للإنسان و التي ترى في مستويين اثنين: المستوى الأخلاقي والمستوى الأنتربولوجي تتميّز جذريّا عن النظرة التي سادت في الفلسفة. و هذه النظرة ترتكز أساسا على تثبيت تلك الثنائية في الإنسان، و عن هذه الثنائية يصدر الموقف الأخلاقي المثالي المعروف، فالإنسان انفعالات من جهة و عقل من جهة أخرى، و لكن لا العقل و لا الانفعالات يشكّلان بحقّ الطّبيعة البشرية، فما علّة هذا الموقف ؟
إذا كانت الانفعالات لا تشكل الطبيعة البشرية لأنها دليل الضعف في هذه الطبيعة و تبيّن كيف يؤدّي هذا الضعف إلى الرذيلة، فإن العقل كذلك لا يشكل جزءا طبيعيّا في الإنسان لأنّه وارد من أفق آخر، أفق متعالي رغم كون ديكارت ينزل العقل في النفس. الإنسان هو إذن، عقل متعال من جهة و انفعالات لصيقة بطبيعة الحيوان أي أنها تؤدي إلى الرّذيلة من جهة أخرى، و هذا يؤدّي إلى اعتبار الإنسان مجرد حيز نزاع بين هذين العاملين. و النظرة الأخلاقية تتمثل في محاولة تغليب العقل على الانفعالات باعتبار أنّ العقل و لو أنّه لا يكوّن الطبيعة البشرية فإنّه، على كل حال، أسمى من الانفعالات. أمّا إذا اعتبرنا أنّ العقل لا يكون بالضرورة ضد الانفعالات و لا الانفعالات تضاد العقل، أي أن العقل يصير مجرد انفعال طبيعي مثل غيره من الانفعالات، فإن النظرة الأخلاقية – (الأنتربولوجية) التي سادت الفلسفة ستتغيّر تماما، وهو ما لم يحصل مع ديكارت و حدث فعلا مع سبينوزا. لكن لكي يحصل ذلك ينبغي اعتبار أنّ الإنسان لا يتكوّن من جسد على حده و نفس على حدة، ثم لا من حيث اعتبار ربط النفس و الجسد مع بعضها، بل اعتبار أنّ النفس ليست إلاّ مجموعة الأفكار التي ليست خالدة، و إنّما مجموعة الأفكار التي تعبّر عن الإنسان تعبيرا خاصا و الجسد مجموعة حركات و انفعالات تعبّر تعبيرا معينا عن الجسد، و تعبير الجسد هو نفس تعبير الأفكار عند الإنسان أي لا فرق حقّا بين الفكرة والحركة، بين الجسد و الفكر.

نفي الفعل المتبسبب.
علاقة توازي : كل ما يقع في الجسم يقع في الرّوح بدون أي تأثير متبادل.
التّطابق : أن هذه العلاقة هي علاقة شبه بنفسه.
و يظهر هذا التطابق كذلك في علاقة الانفعالات بالعقل، و هذا لا يعني أن كلمة انفعالات تدل على أنها انفعالات الجسم و بالتّالي فإن علاقة الانفعالات بالعقل هي علاقة تعبّر عن الرّوح والجسم، بل هي علاقة أفعال غامضة (المخيلة) بأفعال واضحة، هذا على مستوى الفكر، أما على مستوى الجسم فهي علاقة حركات فاعلة بأخرى منفعلة. و بصفة أدق علاقة الانفعالات بالعقل لا يفهمها سبينوزا بطريقة متميزة حقا، ذلك أن العقل هو درجة من درجات الانفعالات، لأنّ التمييز بين الانفعالات الفاعلة و بين الانفعالات المنفعلة ( ليس له نفس المعنى عند سبينوزا و ديكارت، فعند ديكارت ” تختلف جوهريا عن ذلك لأن هي تابعة للروح و تابعة للجسم.

لعل أكبر حدث في تاريخ البحث الفلسفي المتعلق بسبر أغوار النفس الإنسانية منذ عهد سقراط الذي دعا الإنسان إلى معرفة نفسه هو اكتشاف مبدأ الكوجيطو على يد الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت. يمثل هذا الحدث ثورة حقيقية في حقل الممارسة النظرية التي تجعل من التفكير موضوعا لها. ولفهم هذه الثورة لابد من إلقاء ولو نظرة خاطفة على تاريخ هذه الممارسة قبل مجيء ديكارت ليتسنى لنا إدراك وفهم مدى عمق التغير الذي أحدثه “أب العقلانية الحديثة” في النظرة إلى الذات المفكرة وطريقة التفكير فيها. ولتحقيق هذا الغرض نرى أنه من الضروري التذكير بالخطوط العريضة لنظريات المعرفة لدى أكثر الفلاسفة السابقين شهرة من أجل مقارنتها مع نظرية ديكارت. وسوف يتم التركيز على نظرية المعرفة لدى كل من أفلاطون وأرسطو الذين كان لهما تأثير كبير في تاريخ الفكر على امتداد قرون عديدة. ترتكز نظرية المعرفة الأفلاطونية على مصادرة أساسية مفادها أن المعرفة تتحقق من خلال الانتقال والارتقاء التدريجي من المعطى المحسوس إلى النموذج المعقول، حيث تميل الذات العارفة تدريجيا إلى التجرد من كل ما له علاقة بالعالم المحسوس من أجل الاتصال بالعالم المعقول والارتقاء في مراتب المعرفة إلى أن يصل العقل إلى غايته القصوى وهي المشاركة في انسجام العالم المعقول وتناسقه الرياضي. وإذا كان أفلاطون قد جعل من العدد والماهيات الرياضية المبدأ الذي يقوم عليه انسجام العالم المعقول، فلأن العلاقات الرياضية في نظره تظل على الدوام ثابتة لا تتغير، وهو ما يفسر خلود العالم. إن فعل المعرفة هنا لا يختلف عن فعل الوجود، إنه فعل المشاركة في الوجود؛ فقد أوضح أفلاطون في كتابه “الجمهورية” كيف ينبغي أن يكون النظام الاجتماعي لكي يتسنى للإنسان العيش في انسجام مع العالم المعقول كما يتصوره الحكماء. ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا أصبح الأفلاطونيون يولون أهمية قصوى لدور الصورة في عملية المعرفة، وأصبحت معرفة الموجودات عندهم تعني مشاركتها في صورها أو نماذجها المثلى. ولما كانت الصورة هي التي تنقل الشيء من الوجود بالإمكان إلى الوجود بالفعل، ولما كانت تمثل حقيقة الشيء أو جوهره، أمكن القول بأن فعل المعرفة كفعل الوجود، وهو ما عبر عنه المفكر الأمريكي Pedro Amaral بقوله: To know something is just like being something ويعني ذلك، حسب قوله، أن المعرفة هي المشاركة في الوجود.، وتعني المشاركة أسلوبا في الحياة ينسجم مع مبادئ الوجود الحقيقي. يتمثل فعل المعرفة، إذن، في قدرة العقل على أن يصبح كموضوعه، أو أن يكون مطابقا لموضوعه ومتماثلا معه، هذا مع العلم أن موضوع الفلسفة اليونانية هو الوجود بما هو موجود حسب تعبير أرسطو. ينسجم هذا التصور للمعرفة إلى حد ما مع نظرية المعرفة الأرسطية. تتبلور المعرفة في نظر أرسطو من خلال تشكل صورة الشيء في العقل. فإذا كان العقل يدرك صور الأشياء، فإن تلك الصور تساهم بشكل أساسي في تشكل العقل. وهكذا يصبح العقل كموضوعه. ولذلك كان معيار الحقيقة في الفلسفة الأفلاطونية والفلسفة الأرسطية على حد سواء هو معيار التطابق أو التماثل بين الفكرة والموضوع. وما قام به ديكارت هو أنه غير هذا التصور للمعرفة وكيفية تحققها رأسا على عقب: أفرغ العقل والعالم من الصور، وألقى بمبدأ التماثل جانبا وعوضه بعملية التمثل الذهني représentation؛ لم تعد المعرفة تتحقق من خلال تماثل العقل مع موضوعه، بل من خلال التمثل الذهني للموضوع بطريقة لا مكان فيها للتماثل الطبيعي. وإذا كانت غاية المعرفة في النظرية الأفلاطونية-الأرسطية هي تحقيق التماثل بين العقل والموضوع، فإن ديكارت انتقل بالمعرفة إلى مستوى أرقى من مستوى الإحاطة بالموضوع: لم يقف عند حدود تمثل الموضوع، بل جعل من التمثلات الذهنية نفسها موضوعا للتأمل العقلي، وبذلك دفع بعملية المعرفية إلى مستوى الميتا méta وهو التفكير في التفكير، وقادته تجربته الوجودية إلى اكتشاف بعد جوهري جديد من أبعاد الوجود الإنساني، ألا وهو الوعي conscience. ولأول مرة في تاريخ الفلسفة، ربما بعد ابن سينا (أنظر مقالتنا: “تطور مفهوم النفس من المعلم الأول إلى الشيخ الرئيس”)، أصبحت لهذا المفهوم دلالة تتجاوز معنى الإدراك الباطني الفوري المباشر، إلا أن ديكارت لم يحدد دلالته بشكل صريح، وظل يركز على بيان أهمية الوعي ودوره في حياة الإنسان. الوعي باعتباره حجر الزاوية في بنية الشخص لدى ديكارت يمثل الوعي في نظر ديكارت الصفة المميزة للإنسان، والعنصر الحاسم في تصوره لمفهوم الشخص، وتكمن وظيفته في كونه يمكننا من الإدراك الفوري للذات المفكرة. يرى ديكارت بأن أكثر الأشياء وضوحا في هذا العالم هي الأفكار، وتنطوي تأملاته على مصادرة صريحة إلى هذا الحد أو ذاك مفادها أن هناك نوعا خاصا من النشاط المعرفي الذي يجعلنا على اتصال بتفكيرنا ويمكننا من التعرف عليه والإحاطة به والتحكم فيه، وبذلك تنكشف لنا طبيعة الفكر وطبيعة الذات المفكرة. وهذا مثال يوضح هذه الفكرة: يستطيع زيد أن يستوعب ويفهم عملية حسابية كعملية الجمع مثلا: 2+2=4 وهذه العملية الحسابية هي سلسلة من عمليات التفكير، وعندما نتأمل هذه السلسلة تنجلي طبيعة التفكير وطبيعة الذات المفكرة والموضوع المفكَّّر فيه، وهذه الأقانيم الثلاث هي مظاهر تجربتنا الذهنية. ولا يحتاج المرء إلى بذل أي مجهود لمعرفة أصل هذه التجربة المتمثل في الأنا المفكرة، أو الأنا الديكارتي، فهي تكشف عن نفسها بنفسها، ولا تستمد وجودها إلا من ذاتها باعتبارها ذاتا مفكرة، وهذه الذات مكتفية بذاتها، لا تحتاج في وجودها إلى شيء آخر. ولذلك لزم أن تكون السمة المميزة للشخصية هي الحرية. فالشخص الذي حصل له الوعي بذاته باعتباره ذاتا مفكرة، هو بالضرورة كائن حر. وهكذا أصبح مفهوم الوعي عند ديكارت مرادفا لمفهوم الحرية..ذلك لأن الوعي يوجد في استقلال عن الجسد ولا يتأثر بالعامل البيولوجي ولا بعوامل المحيط الخارجي. ولكي تتضح الفكرة أكثر لابد من استعراض تصور ديكارت للإنسان، وهو ما يستلزم تسليط بعض الأضواء على المبادئ أو المصادرات الأساسية التي تقوم عليها فلسفته(*). ذكرديكارت في رسالتين وجههما للملكة إليزابيت بتاريخ 21 مايو و28 يونيو من عام 1643- واللتان يمكن اعتبارهما بمثابة ملخص مركزلنتائج “التأملات”- أن فلسفته الميتافيزيقية تقوم على ثلاثة مفاهيم أولية، تمثل في نظره المرتكزات الأساسية لكل معرفة إنسانية، وهي المفاهيم التيلدينا عن الروح، والجسد، والعلاقة بين الروح والجسد: يتعلق المفهوم الأول بتصورناللروح، ويشمل العقل والإدراك الحسي والإرادة ومختلف النوازع الانفعالية؛ ويتعلق المفهوم الثاني بتصورنا للجسم، وهو مفهوم الامتداد الذي تُرَد إليه أشكال الأجسام وهيئاتها وحركاتها؛ ويتعلق المفهوم الثالث بالعلاقة بين الروح والبدن، وهو مفهوم الوحدة التي تتجلى من خلال قدرة الروح على تحريك البدن، وقدرة البدن على التأثير في الروح وإثارة انفعالاتها. يقوم تصور ديكارت للوجود بصفة عامة على ثنائية الروح والجسد: هناك، من جهة، عالم داخلي ذو طبيعة روحية ومن خصائصه التفكير وعدم الامتداد في المكان، ويشمل الأفكار والمعتقدات والانطباعات الحسية وكل التجارب الذاتية؛ وهناك، من جهة أخرى، عالم خارجي ذو طبيعة مادية، وما يميزه هو الامتداد وانتفاء القدرة على التفكير، ويشمل الأجسام الطبيعية والقوى الفيزيائية. وينطبق مبدأ ثنائية الوجود على الإنسان نفسه، وتتجلى من خلال ازدواجية الروح والبدن

لماذا الجحيم هو “الآخر”؟

نحن لا نتعامل مع الآخر كما أنّ الآخر لا يعاملنا على أساس أننا عقول أو ذوات مفكّرة، بل أننا نعامل الآخر ويعاملنا_ من خلال حالاتنا النفسية وتقلّباتنا المزاجية، وننظر إلى الآخر أبىيضاً بوصفه حالة مزاجية أو ظرف نفسي.

إننا لا نعقل الآخر، كما لا يعقلنا الآخر، لذلك علاقاتنا، نحن البشر، ببعضنا البعض أكثرها صدامية وعدائية، إن لم تكن سلوكياً بشكل واضح، فنفسياً على الأقل.

إننا لا نعقل الآخر لأنّ علاقتنا به علاقة فوقية-استعلائية، نحن نرى أنفسنا أفضل منه وأكثر رفعةً، لذلك ننظر إليه، وهو ينظر إلينا بالتالي، نظرة استعاائية تحجّم الطرف الطرف الآخر وتختزله ضمن مزاجٍ معيّن أو أحكام مسبقة سطحية، ومن هنا تنفتح حافة الجحيم الذي هو “الآخر” بوصفه حالة نفسية أو مزاجية معينة سنضطرّ، في أحسن الأحوال، التعامل معها مؤقتاً، ثم التخلّص منها بأسرع وقتٍ ممكن.

معم فعلاً، ربّما سنكون بألف خير لولا الآخرين، وهم كانوا سيكونون أفضل حالاً لولانا. لذلك قد يكون سارتر مخطئاً حول العديد من الأفكار، لكنه اصاب مبد الحقيقة عندما رأى أنّ الآخرين هم سبب سقوطنا وانحدارنا.

((الجحيم هو الآخر))هكذا قال سارتر