مشكلة المكان في فلسفة فيلسوف قرطبة إبن رشد(595ه)

يهدف هذا المقال إلى تقديم نظرة عامة حول مشكلة المكان في فلسفة أبي الوليد بن رشد من خلال بعض تواليفه الطبيعية والمنطقية، لا سيما منها “جوامع السماع الطبيعي” و”تلخيص السماء والعالم” وتلخيص كتاب المقولات، لندرك مدى تطور فكر الرجل بصدد مشكلة المكان وما يحوم في فلكها من معضلات فلسفية تستأثر باهتمام العديد من المفكرين والفلاسفة على امتداد تاريخ الفكر البشري بوجه عام. وقبل أن نمحص طبيعة المكان لدى ابن رشد يحسن بنا أولا أن نبحث عن أصول وجذور مشكلة المكان كما أثارها أرسطو في كتاب “الطبيعة”. الأمر الذي يستوجب التساؤل عن الأسباب التي دفعت بالمعلم الأول إلى إثارة مسألة المكان في المقالة الرابعة من كتاب “الطبيعة” دون غيره من النصوص الطبيعية الأخرى.

أصول مشكلة المكان:

●●●●●●●●●●●●●●●●●●

إن المتأمل في كتاب الطبيعة لأرسطو سيقف لا محالة على أصلين أساسيين لمشكلة المكان كغيرها من المشكلات الفلسفية والعلمية الأخرى الواردة في هذا الكتاب. هذان الأصلان هما:

أ – أصل علمي: يتمثل في دفاع أرسطو عن إمكانية قيام العلم الطبيعي -ضدا على منكريه- اعتمادا على مبادئ علمية، ذلك أن كتاب الطبيعة لأرسطو يتناول من جهة أولى المبادئ المؤسسة للعلم الطبيعي من قبيل: المادة والصورة والعدم، لا للبرهنة على وجودها، لأن ذلك يتكفل ببيانه صاحب علم ما بعد الطبيعة، بل فقط لحصر عددها، والحديث عن علاقة بعضها ببعض، وبيان ما السبب الذي بالذات والذي بالعرض(1). كما أنه يتناول بالدراسة والتحليل من جهة ثانية، اللواحق العامة للأجسام الطبيعية كالمكان والزمان والحركة واللانهاية… ولما كانت الطبيعة في نظر أرسطو مبدأ حركة وسكون في الشيء”(2) فإنه يستوجب على صاحب العلم الطبيعي أن ينظر في أمر الحركة ليعلم الطبيعة ما دامت الحركة تدخل في حد الطبيعة، ولكي يعلم الحركة يجب على صاحب هذه الصناعة أن يتحدث عن المكان والزمان، إذ لا وجود لحركة بدونهما.

ب – أصل سجالي: ينحصر أساسا في الرد على بعض التيارات الفكرية والفلسفية سواء منها التي تنفي وجود مبادئ يقوم عليها العلم بدليل أن كل شيء قابل للبرهنة بما في ذلك مبادئ العلوم (السوفسطائيون)، أو تلك التي ترى أن المبادئ واحدة (الطبيعيون الأوائل)، أو متعددة (الذريون)(3). كما يتمثل هذا الأصل السجالي أيضا في الرد على نفاة المكان وعلى القائلين بالخلاء سواء الذين يتبثونه بعدا مفارقا أو غير مفارق. وسنفرد لهذه المسألة حديثا مفصلا في ثنايا هذا العرض لا سيما في سياق الحديث عن ماهية المكان.

طبيعة المكان عند ابن رشد.

●●●●●●●●●●●●●●●●●●●

أول ما يثير انتباه الدارس لكتاب جوامع السماع الطبيعي خاصة المقالة الرابعة منه هو أن ابن رشد لا يكلف نفسه عناء البحث عن الحجج ليثبت من خلالها وجود المكان خلافا لأرسطو وابن سينا اللذين يسهبان في الرد على نفاة المكان، إذ يصادر على وجوده، وذلك بمجرد تأمل محمولاته الذاتية التي لا تليق إلا بالموجود(4) إلا أنه لا بد من التساؤل هنا عن الأسباب التي دفعت بابن رشد وقبله ابن باجة إلى عدم الخوض في مجادلة نفاة المكان، فهل المسألة تعود إلى عدم أهميتها في الغرب الإسلامي، خاصة إذا علمنا أن ابن سينا سيحدو حدو أرسطو في هذا السياق أم أن الأمر يرجع إلى مجرد عملية تلخيص النص الأرسطي وعدم متابعته متابعة حثيثة؟

مهما يكن من أمر هذه التساؤلات، فإن الغرض من هذا القول أن نمحص طبيعة المكان عند ابن رشد. وقبل ذلك نتساءل ما مختلف المواقف التي يعارضها أبو الوليد بصدد مشكلة المكان؟ كيف يتصور فيلسوف قرطبة ومراكش ماهية المكان؟ وأخيرا، ما الطريقة التي يسلكها في استنباط الحد التام لمفهوم المكان؟

يقترح ابن رشد أربعة احتمالات لا تخرج عنها ماهية المكان وهي: إما أن يكون المكان هو الهيولى، أو الصورة، أو الخلاء، أو النهاية المحيطة بالجسم الطبيعي.

المكان/الهيولى أو الصورة.

●●●●●●●●●●●●●●●●●●

يرفض ابن رشد أن يكون المكان هو الهيولى أو الصورة لسبب بسيط هو أن حركة النقلة (المكانية) تصبح كونا وفسادا(5). وهذا ما يعبر عنه ابن باجة في قوله “فمنهم من رأى الهيولى هي المكان، وهذا بين الفساد، فإن المكان ليس بمنتقل بانتقال المتمكن فيه والهيولى هي التي تنتقل لا الصور”(6). أما ابن سينا فيرفض هو الآخر أن يكون المكان هو الهيولى أو الصورة اعتمادا على بعض التقابلات بين الطرفين، وذلك أن من يرى الهيولى أو الصورة مكانا فهو قول فاسد، لأن المكان يفارق عند الحركة، أما الهيولى أو الصورة لا يفارقان، كما أن المكان تكون الحركة فيه وإليه، أما الهيولى والصورة لا تكون الحركة فيهما، بل معهما، ولا تكون إليهما الحركة البتة(7). نفس الأمر نجده لدى أرسطو، إذ ينفي أن يكون المكان هو الهيولى أو الصورة معتمدا في ذلك على بعض القرائن يمكن أن نشير إليها فيما يلي:

  • الهيولى والصورة لا يفارقان المركب، بينما المكان يفارق المركب، فالمكان إذن غيرهما.
  • المكان من حيث هو مفارق ليس بصورة للمركب، ومن حيث إنه يحيط ليس بهيولى، لأن الهيولى لا تحيط، بل يحاط بها.
  • المكان إما فوق وإما أسفل، وليس بشيء من الهيولى أو الصورة فوق أو أسفل.
  • لو كان المكان صورة لكان يفسد، إذا انتقل الماء إلى الهواء واستحال إليه، لأن صورة الماء قد فسدت.
  • لو كان المكان هيولى أو صورة مع أن المركب قد ينتقل من مكان إلى مكان لكان المكان قد تحرك إلى مكان، فيكون مكان في مكان وذلك مستحيل.
  • المكان ينتقل إليه أما الهيولى والصورة فتنتقلان(8).

المكان/الخلاء:

●●●●●●●●●●●●●●●●●●

ينفي ابن رشد أن يكون المكان هو الخلاء سواء كان بعدا مفارقا أو غير مفارق، ويفرد بحثا عميقا في مساجلة القائلين بالخلاء لا سيما منهم أصحاب المذهب الذري الذي يتبثونه كعلة للحركة، إذ يعتقدون أنه لا وجود لحركة ما لم يكن هناك خلاء. لكن أبا الوليد يرى أن مثل هذا القول يؤدي إلى محالات كثيرة منها:

1 – استحالة وجود بعد مفارق.

يقدم فيلسوف قرطبة مثال “النقطة” ليثبت من خلاله استحالة وجود بعد مفارق للجسم، إذ يرى أنه إذا أمكن أن يوجد بعد مفارق للجسم، فيمكن ذلك أيضا في النقطة، لأن نسبة النقطة إلى الخط هي نسبة الخط إلى السطح، والسطح إلى الجسم، لذلك يلزم ضرورة متى فارق الجسم الأبعاد أن يفارق السطح الجسم، وأن يفارق الخط السطح، وبالتالي أن تفارق النقطة الخط، وهذا محال، لأن النقطة لا وجود لها إلا بنسبتها إلى الخط. ذلك أن صاحب العلم الطبيعي ينظر إلى النقطة من حيث هي نهايات أجسام طبيعية لا من حيث هي ذوات قائمة بذاتها كما ينظر إليها التعاليمي، لذلك التبس الأمر عند قوم (الفيتاغوريون) فظنوا أن ما هو مفارق بالقول مفارق بالوجود أيضا، فقالوا بمفارقة الأعداد والأعظام.

2 – استحالة تداخل الأجسام.

إن الأجسام الطبيعية تحل في المكان بأبعادها لا بأعراضها، ومن ثم يمتنع أن يحل جسمان في مكان واحد من جهة امتناع تداخل الأجسام بعضها ببعض.

3 – استحالة حلول مكان في مكان:

يحل الجسم الطبيعي في المكان بأبعاده، ولو كانت الأبعاد هي المكان لاحتاجت إلى مكان، وبالتالي يحل المكان في مكان وتمر المسألة إلى ما لا نهاية، ومن ثم يلزم شك زينون الإيلي في عدم إمكانية وجود المكان(9).

أما ابن باجة فيشك في وجود الخلاء، بل يذهب أبعد من ذلك، إذ يرى بأن الخلاء هو سبب لبطلان الحركة(10).

المكان هو النهاية المحيطة.

●●●●●●●●●●●●●●●●●●●

بعد أن يرفض ابن رشد القول بأن المكان هو الهيولى أو الصورة أو الخلاء، يبقى إذن الاحتمال الرابع والأخير الذي مفاده أن المكان هو النهايات المحيطة بالجسم الطبيعي، إذ يقول في هذا السياق: “المكان هو النهاية المحيطة لكونها استكمالا للأجسام المتحركة وغاية تحريكها”(11). إذا تأملنا هذا التعريف نجد أن المكان يدل على نهاية الحركة وغاية الجسم المتحرك وكماله، ذلك أن الأجسام الطبيعية تنتقل إلى مكانها الطبيعي حيث تسكن. وقد اعتمد ابن رشد في حد مفهوم المكان حدا تاما على البرهان المطلق أو ما يسميه أرسطو في الحقيقة برهانا متغيرا بالوضع، إذ يرى أن المكان هو الذي تنتقل إليه الأجسام الطبيعية وتسكن فيه، وما كان بهذه الصفة فهو نهاية جسم محيط. فإذا قمنا بتغيير وضع هذا البرهان، أي ننطلق من النتيجة إلى المقدمات، فإننا نحصل على الحد التام للمكان فنقول بأنه النهاية المحيطة لكونها استكمالا للأجسام المتحركة وغاية تحريكها. ونفس التعريف نجده لدى ابن سينا إذ يقول: “المكان ليس بجسم ولا مطابقا للجسم، بل محيطا به، بمعنى أنه منطبق على نهايته انطباقا أوليا”(12).

إذا كانت حركة الأجسام الطبيعية لا سيما التي تتحرك حركة نقلة تقتضي وجود المكان، فهناك إشكال يثار بصدد مكان الجسم المساوي الذي يتحرك حركة دورية، مفاده: ما هو مكان الجسم السماوي؟ كيف يمكن أن يتحرك، خاصة إذا علمنا أن من ضرورة وجود الحركة المكان؟

يورد ابن رشد حلا لهذا الإشكال مؤداه أن حركة الجسم السماوي حركة دورية، ومن ثم فهو يحتاج إلى مركز ثابت عليه يتحرك، وأن علاقته بالمكان بالعرض لا بالذات، وهذا ما يذهب إليه أرسطو نفسه خلافا للفارابي وابن باجة اللذين يعتقدان أن الكرة في مكان بالذات، ومثل هذا القول يلزم أن المحيط في المحاط به في مكان بالذات وذلك مستحيل. أما ابن سينا فيرى أن الحركة الدورية ليست في مكان أصلا لا بالذات ولا بالعرض، وإنما هي في الوضع. إلا أن أبا الوليد يرى أن الشيخ الرئيس إن أراد القول بأن الحركة تنتقل من وضع إلى وضع من غير أن تبدل المكان بجملتها فهو قول صحيح. أما إذا أراد القول بأن حركة الكرة في الوضع نفسه وهذا هو الراجح من كلامه، فليس بصحيح، لأن الوضع ليس فيه حركة أصلا بدليل أن الوضع لا يتقوم بذاته بل بالمكان(13). كما يرى فيلسوف قرطبة ومراكش أن الجرم السماوي الذي يتحرك حركة مستديرة لا يمكنه أن يتحرك لا حركة إلى الوسط (إلى أسفل) ولا حركة من الوسط (إلى أعلى) لا بالذات ولا بالعرض لسبب بسيط هو أنه ليس بثقيل ولا بخفيف(14).

مما تقدم ذكره نستنتج أن الحديث عن المكان لا يتأتى إلا في علاقته ببعض المفاهيم المتاخمة له من قبيل: الحركة، الاتصال، الزمان…باعتبارها من المفاهيم المؤسسة للعلم الطبيعي، إذ لا وجود لمفهوم بسيط ومنعزل، فلكل مفهوم علاقة تجاور بمفاهيم أخرى بها يتحدد، كما يذهب إلى ذلك كل من ج. دولوز وف. جاتاري في كتابهما “ما الفلسفة”؟(*)

المكان والحركة:

●●●●●●●●●●●●●●●●●

من أهم الحجج التي يعتمدها مثبتو المكان وجود حركة النقلة، إذ لولاها لما وجد مكان، ذلك أن الحركة هي التي قادت إلى البحث في أمر المكان، فالنظر في المكان يستوجب النظر في الحركة ما دامت تدخل في حد المكان كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فالمكان إذن لا يتوقم بذاته، بل بالحركة، كما أن الحركة ليست جوهرا قائما بذاته، إذ لا يمكن تصورها من غير مكان، لأن كل حركة هي حركة لجسم ما، والجسم لا يكون إلا في مكان. فإذا كان الأمر كذلك فإننا نتساءل: هل المكان من طبيعة الكم المنفصل أم المتصل؟

المكان والاتصال:

●●●●●●●●●●●●●●●●●

يقدم ابن رشد تعريفا للكم المتصل في كتابه “تلخيص كتاب المقولات” مفاده أنه هو الذي يمكن أن يوجد له حد مشترك يربط بين أجزائه. فالحد المشترك إذن للخط هو النقطة، وللبسيط (السطح) هو الخط، وللجسم هو البسيط، وللزمان هو الآن، ما دام الآن هو نهاية الماضي وبداية المستقبل(15). إلا أن الإشكال يطرح بصدد مفهوم المكان، الأمر الذي يدعونا إلى التساؤل: هل للمكان أجزاء؟ وما الحد المشترك الذي يربط بين أجزائه؟ كيف إذن يحل ابن رشد هذه المعضلة؟

يبرهن فيلسوف قرطبة على أن للمكان أجزاء، وبالتالي فهو من طبيعة الكم المتصل، إذ يرى أن المكان يشغله الجسم، وأن للجسم أجزاء هو البسيط، فإذن للمكان أجزاء، ومن ثم، فإن له حدا مشتركا يربط بين أجزائه، ومن كان بهذه الصفة فهو من الكم المتصل، أما البرهان الثاني فيمكن أن نصوغه في الشكل التالي: الكم المتصل له أجزاء، المكان له أجزاء، إذن المكان كم متصل.

نلخص مما تقدم قوله إلى أن المكان من الكم المتصل الذي له أجزاء لها وضع، أي موجودة معا بخلاف الزمان الذي ليس من الكم المتصل ذي الوضع، لأن أجزاء الزمان التي هي الماضي والآن والمستقبل لا توجد معا. وهذا ما نلمسه في تعريف ابن باجة للمكان إذ يقول في هذا السياق: “المكان كله متصل متشابه الأجزاء وقوامه بالحركة”(16). إلا أن السؤال المطروح هو: ما الدافع بابن رشد وغيره من فلاسفة الإسلام إلى إثبات أن المكان من طبيعة الكم المتصل؟

إن دفاع ابن رشد على أن المكان من الكم المتصل يعارض من خلاله أطروحة الانفصال التي تعتقد أن المكان عبارة عن نقط متناثرة خاصة أصحاب المذهب الأشعري اعتمادا على نظرية “الجزء الذي لا يتجزأ” أو ما يسمى “بالجواهر الفردة” لنفي كل علة طبيعية وترك المجال للعلة الميتافيزيقية هي سبب الحركة.

المكان ولزمان:

●●●●●●●●●●●●●●●●●

يعد الزمان أيضا من المفاهيم المتاخمة لمفهوم المكان، إذ لا يمكن الحديث عن المكان إلا في علاقته بالزمان، ما دام الزمان يشبه الحركة لا سيما منها حركة النقلة التي هي أشرف الحركات على الإطلاق، وذلك أن أجزاء الحركة بعضها قد تفسد وبعضها قد تكون كالحال في الزمان، وبالتالي، فإننا متى لم نشعر بالحركة لم نشعر بالزمان، خصوصا إذا علمنا أن الزمان يدخل في حد الحركة ومقايس لها بالذات لا بالعرض.

في خاتمة هذا المقال يمكن القول بأن نظرة أبي الوليد بن رشد للمكان نظرة طبيعية محضة تعكس تطور علوم الحكمة الطبيعية في الغرب الإسلامي. هذا التطور الذي دشنه فيلسوف سرقسطة أبو بكر الصائغ (ابن باجة) من خلال شروحه الطبيعية التي تعد مرحلة النضج الفكري تجاوز فيها ابن باجة حدود النظر المنطقي والتعاليمي وتفرغ للمتن الأرسطي المشائي(17). كما يمكن أن نعتبر تجربة ابن رشد لحظة تجمع كل التجارب السابقة عليه فارابية كانت أو سنيوية أو باجوية.

•●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

الهوامش

1 – أرسطو طاليس، الطبيعة، ترجمة إسحاق بن حنين، تحقيق عبد الرحمن بدوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1984، الجزء الأول: “فمن البين أن في العلم بأمر الطبيعة أيضا قد ينبغي أن نلتمس أولا فيه تلخيص أمور مبادئها” ص 1.

2 – أرسطو، ن.م. “الطبيعة مبدأ وسبب لأن يتحرك ويسكن الشيء الذي هي فيه أولا بالذات لا بطريق العرض” ص 79. ويقول أيضا “الطبيعة مبدأ للحركة والوقوف والتغير”، ص 165.

3 – أرسطو، ن.م. “وقد يجب ضرورة أن يكون المبدأ إما واحد، وإما أكثر من واحد. وإن كان واحدا فإما أن يكون غير متحرك على مثال ما قاله برمنيدس ومالسس، وإما أن يكون متحركا على ما قاله الطبيعيون… وإن كانت المبادئ أكثر من واحد: فإما أن تكون متناهية، وإما أن تكون غير متناهية” ص 5.

4 – ابن رشد، جوامع السماع الطبيعي، تحقيق جوزيف بويج، مدريد، 1983 “أما أن المكان شيء موجود فذلك بين بنفسه، فإنه يظهر أن ههنا محمولات ذاتية لا تليق إلا بالموجود، كقولنا أن المكان منه فوق ومنه أسفل، وأنه الذي إليه تنتقل الأجسام بالطبع وتسكن فيه، وأنه يحيط بالمتمكن، وأنه يفارق المتمكن، وأنه لا أعظم ولا أصغر من المتمكن”، ص 47.

5 – ابن رشد، ن.م. “أما القسم الأول (يقصد المكان هو الهيولى)، وهو أن يكون الشيء كالصورة في الهيولى، فيكون المكان على هذا هيولى، فامتناع ذلك بين بنفسه، وإلا كانت النقلة كونا وفسادا، وكذلك الحال في القسم الثاني”. (يقصد المكان هو الصورة) ص 50.

6 – ابن باجة، “شرح السماع الطبيعي لأرسطوطاليس”، تحقيق ماجد فخري، دار النهار للنشر، بيروت، 1973، ص 46.

7 – ابن سينا، الشفاء، السماع الطبيعي، تحقيق سعيد زايد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983، ص 118.

10 – ابن باجة، ن.م “والذي يثبت الخلاء فيجعله سببا للحركة، وهو مع التأمل لو كان، سبب لبطلانها، وذلك أن الذي منه فوق يحرك شيئا، والذي منه أسفل يحرك ذلك بعينه، فيلزم أن يقف الشيء بين الحركتين” ص 48.

14 – ابن رشد، تلخيص السماء والعالم، تحقيق جمال الدين العلوي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، ط 1، 1984. “وكان الجسم المستدير قد تبين من أمره أنه لا يمكن أن يتحرك إلى الوسط ولا من الوسط حركة طبيعية ولا عرضية”، ص 84.

(*) انظر كتاب “ما الفلسفة؟” لجيل دولوز وفيليكس جاتاري، منشورات مينري، باريس، 1991، ص 8.

15 – ابن رشد، تلخيص كتاب المقولات، تحقيق موريس بويج، دار المشرق، بيروت، ط 2، 1983. “وأما الخط والبسيط والجسم والزمان والمكان فمن المتصل، لأن كل واحد منها يمكن أن يوجد له حد مشترك يصل بعض أجزائه ببعض. وهذا الحد أما في الخط فهو النقطة وأما في البسيط فالخط وأما في الجسم فالبسيط وأما في الزمن فالآن، وذلك أن بالنقطة تتصل أجزاء الخط وبالخط تتصل أجزاء السطح وبالسطح تتصل أجزاء الجسم وبالآن تتصل جزءا الزمان الذي هو الماضي والمستقبل”، ص 39-40.

17 – محمد ألوزاد، الديناميكا في شروح السماع الطبيعي لابن باجة السرقسطي، استدراك على مقال سالمون بنيس S. Pines، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية ااا، المحمدية، ص 23.

إشكالية قدم العالم وحدوثه بين ابن رشد وكانط

تتناول هذه الدراسة بالمقارنة موقف كل من ابن رشد (1126-1198) وكانط (1724-1804) من إشكالية قدم العالم وحدوثه. لقد كانت هذه الإشكالية محورية في الفكر الإسلامي، ومحل نزاع بين المتكلمين والفلاسفة. أثبت الفارابي وابن سينا قدم العالم بالضد على المتكلمين، معتزلة وأشاعرة وغيرهم، وكفرهما الغزالي في كتابه الشهير “تهافت الفلاسفة”؛ وعاد ابن رشد للدفاع عن الفلسفة وتبنى نظرية قدم العالم وقدم لها براهين جديدة خالف بها الفارابي وابن سينا، وأعاد صياغة النظرة الأرسطية للعالم بوجهة نظر إسلامية، وذهب إلى أن إثبات وجود الله لا يتأتي من دليل الحدوث الكلامي الجدلي بل من دليل القدم البرهاني الفلسفي.
وعلى الجانب الآخر نجد أن إشكالية القدم والحدوث كانت لا تزال تشغل الفكر الأوروبي الحديث، وخاصة كانط في كتابه “نقد العقل الخالص”. أراد كانط من كتابه تقديم نقد للميتافيزيقا التقليدية، عن طريق توضيح أنها علم غير مشروع، بسبب أنها تمثل توسيعاً لتصورات ملكة الفهم البشري إلى ما يتجاوز كل خبرة تجريبية. وإشكالية القدم والحدوث بالنسبة لكانط هي نقيضة Antinomy يقع فيها العقل الخالص؛ إذ أن أدلة القدم وأدلة الحدوث متساوية في القيمة. ولا يستطيع العقل الخالص الفصل في هذه الإشكالية ويظل متناقضاً مع نفسه إزاءها. وانتهى كانط إلى عدم قدرة العقل البشري على ترجيح أحد المتناقضين.
يشترك ابن رشد وكانط إذن في البحث في إشكالية واحدة. دافع ابن رشد عن القدم ، أما كانط فرفض الفصل في الإشكالية وقام بالتوقف عن الحكم ورفع النقيضين معاً. والهدف من هذه الدراسة توضيح أن خيار القدم لدى ابن رشد أكثر اتساقاً ومعقولية من رفض كانط للإشكالية برمتها، وذلك بإثبات أن كانط لم يكن محقاً في تخليه عن الفصل في الإشكالية، وأنه وضعها في صورة مبسطة للغاية سهلت عليه التخلي عنها، في حين أن تناول ابن رشد للإشكالية كان أكثر شمولاً وتنوعاً واتساقاً، وحله كان أكثر معقولية.
أولاً – الخلفية الأرسطية للمشروع النقدي الرشدي والكانطي:
نحاول في هذه الدراسة عقد مقارنة بين المشروعين النقديين لابن رشد ولكانط، مركزين على إشكالية مركزية وهامة عالجها كل منهما بطريقته الخاصة وحسب مذهبه الفلسفي، وهي إشكالية قدم العالم وحدوثه. اشتهر كانط بنقده للميتافيزيقا في عمله الأساسي “نقد العقل الخالص”. وضع كانط هذا النقد تحت عنوان “الجدل الترانسندنتالي” Transcendental Dialectic،( ) وقصد به التناقضات التي يقع فيها العقل الخالص في مجال الميتافيزيقا من جراء توسيع تصورات ملكة الفهم خارج مجال الخبرة التجريبية، سعياً إلى اللامشروط. ينقد كانط كل الميتافيزيقات التقليدية على اعتبار أنها دوجماطيقية، أي تقوم بتوكيدات أنطولوجية بطريقة غير مبررة إبستيمولوجياً. والميتافيزيقا الوحيدة التي يقبلها كانط هي ميتافيزيقا الأخلاق،( ) لأنه لا خوف منها إذ أن توكيداتها الميتافيزيقية تكون في صالح العقل العملي الأخلاقي.
وكذلك كان ابن رشد صاحب مشروع نقدي تمثل في مؤلفاته الثلاثة الهامة: “فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال”، و”الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة”، و”تهافت التهافت”. فقد نقد علم الكلام باعتباره طريقة في التفكير والمحاجة، وبالأخص علم الكلام الأشعري وعلى رأسه الغزالي أهم ممثل له( )؛ لكنه أيضاً لا يرفض كل الميتافيزيقا، إنه يرفض الميتافيزيقا الكلامية فقط، وبالأخص الأشعرية منها، تلك الميتافيزيقا التي تثبت وجود الله وخلود النفس وحدوث العالم من منطلق مقدمات كلامية وباستخدام حجج وأدلة جدلية وخطابية وسوفسطائية، ويدافع عن تصور آخر للكون يعد تطويراً للتصور الأرسطي( ). ويشترك ابن رشد وكانط في البحث في المسائل الثلاث الرئيسية للميتافيزيقا: الله والعالم والنفس. فما هي النتائج التي يمكن أن نتوصل إليها عندما نضع المشروعين النقديين الرشدي والكانطي أمام بعضهما البعض على ما فيهما من اشتراك في المسائل؟ هذا ما سوف نحاول اكتشافه فيما يلي.

أول ما نلاحظه من اتفاق بينهما هو أنهما يعتمدان على خلفية أرسطية وهي المتمثلة في منظومة أرسطو المنطقية، حيث يستفيدان منها في النقد الميتافيزيقي. وثاني أوجه الاتفاق يتمثل في طريقة النقد نفسها والتي تمثلت في نقد ابن رشد لقياس الغائب على الشاهد، وفي نقد شبيه به للغاية لدى كانط وإن لم يستخدم تعبير “نقد قياس الغائب على الشاهد”، بل استخدم تعبيرات أخرى ومارس النقد بطريقة مطابقة لهذا النوع من النقد الرشدي، وهو المعروف بنقد الانتقال من المشروط إلى اللامشروط، أو من سلسلة شروط معطاة إلى لامشروط غير معطى. لنبدأ أولاً بتناول الخلفية الأرسطية، ثم سيأتي الحديث عن نقد قياس الغائب على الشاهد تباعاً.
نقصد بالخلفية الأرسطية منطق أرسطو لا فلسفة أرسطو الطبيعية والميتافيزيقية، فالإثنان استفادا من المنطق الأرسطي كأداة للنقد. أسس كانط نظريته في المعرفة ونقده للميتافيزيقا بالتوازي مع، وعلى أساس نموذج، المنطق الأرسطي، الذي أطلق عليه “المنطق العام”. فمثلما ينقسم المنطق الأرسطي إلى تصورات وأحكام واستدلالات، انقسم المنطق الترانسندنتالي الكانطي Transcendental Logic إلى نفس هذه الأقسام( ). التصورات هي المقولات القبلية، والأحكام هي مبادئ التركيب القبلية بين الحدوس والتصورات، بما أن الحكم يتكون من موضوع ومحمول، فالموضوع في المنطق الكانطي هو الحدس الحسي والمحمول هو التصور القبلي؛ أما مبحث الاستدلالات عند كانط فيظهر في نقده للاستدلالات الميتافيزيقية- الترانسندنتالية للعقل الخالص، وهي الاستدلالات المغالطة Paralogisms لعلم النفس العقلي، والاستدلالات المتناقضة Antinomies للكوزمولوجيا العقلية، والاستدلالات الزائفة لللاهوت العقلي. وكما يحتوي المنطق الأرسطي على الجدل، يحتوي المنطق الكانطي على “الجدل الترانسندنتالي” وهو الذي ينقد فيه علوم الميتافيزيقا الثلاثة.
واعتمد ابن رشد كذلك على المنطق الأرسطي في نقده لعلم الكلام، إذ تبنى المنظومة المنطقية الأرسطية وتمييزها في الأقوال الإقناعية بين البرهان والجدل والخطابة والسفسطة( ). البرهان عند ابن رشد هو خطاب الفلسفة ويعتمد على مبادئ العقول وأوليات الوجود ويوصل إلى اليقين. أما الجدل فهو استدلال يبدو أنه برهاني إلا أنه يعتمد على المشهور لا على اليقيني، والخطابة تقنع باستثارة العاطفة الأخلاقية عند المتلقي، أما السفسطة فهي لا تهدف الإقناع ولا الوصول إلى الحقيقة بل إلى بلبلة الخصم وبث الفوضى والشك في حججه. والخطاب الكلامي في نقد ابن رشد له ليس خطاباً برهانياً لأنه يعتمد على المشهور وعلى مغالطة الاشتراك في الاسم مما يجعله جدلياً، وفي بعض الأحيان يصير خطابياً بل وسوفسطائياً، كما أثبت ابن رشد في نقده للغزالي في “تهافت التهافت” رداً على “تهافت الفلاسفة”.
وظَّف كل من ابن رشد وكانط المنطق الأرسطي في النقد الميتافيزيقي؛ وظَّفه ابن رشد في حل النزاع بين المتكلمين والفلاسفة، أو بين الخطاب الكلامي الجدلي والخطاب الفلسفي البرهاني؛ واستخدمه كانط في حل نزاع العقل الخالص مع نفسه والذي يظهر في صورة أغاليط ونقائض وأوهام يقع فيها في سعيه الميتافيزيقي. والاثنان يواجهان التناقض بين قدم العالم وحدوثه، فهو تناقض زائف عندهما ويمكن حله. لكن في حين يحل كانط التناقض بالتخلي عن الفصل فيها منكراً قدرة العقل على اختيار أو ترجيح أحد طرفي التناقض، يحل ابن رشد التناقض بأن يتوسط بين النقيضين ويقدم حله الشهير وهو نظريته في أن العالم قديم ومحدث في الوقت نفسه.

فما يشترك فيه ابن رشد وكانط حتى الآن هو:
1.البحث في إشكالية واحدة هي القدم والحدوث.
2.نقد الميتافيزيقا، الكلامية في حالة ابن رشد، والدوجماطيقية في حالة كانط، بتوظيف المنطق الأرسطي.
3.توضيح أن التناقض بين القدم والحدوث هو تناقض زائف وأنه يجب التخلي عن البديلين معاً. والفرق هو في الحل الذي قدمه ابن رشد بعد التخلي عن البديلين، في حين أن كانط لم يحسم الأمر.
وعلى الرغم من أن الاثنين يوظفان المنظومة الأرسطية في نقدهما للنزاعات الميتافيزيقية، فإن هناك اختلافاً جوهريا بينهما في هذا الشأن. ففي حين استخدم ابن رشد المنظومة المنطقية الأرسطية كما هي دون تعديل كبير عليها( )، أجرى كانط تعديلات جوهرية على مبحث الجدل الأرسطي بناء على نظريته في المعرفة، وحوله من مجرد معيار لاكتشاف الخطأ في الاستدلال الصوري إلى معيار للحكم على مضمون التفكير الميتافيزيقي نفسه( ). لكن الشئ المشترك بين منطق النقد الكانطي ومنطق النقد الرشدي أن الاثنين يعتمدان على المحسوسات وأوائل العقول كمعيار يقيسان به تعارض المذاهب الميتافيزيقية. فلدى كل واحد منهما لجوء إلى الحس والعقل معاً، أو الحدس الحسي والتصور العقلي بالتعبير الكانطي. الحس والتصور العقلي عند ابن رشد أرسطيان تماماً، لكنهما عند كانط يستندان على نظريته هو في المعرفة والتي يكون التصور العقلي فيها قبلياً.
لم ينشئ ابن رشد نظرية في المعرفة مستقلة عن أرسطو، بل أخذ نظرية المعرفة الأرسطية كما هي لكنه طور استخدامها ووظفها في نقد علم الكلام، والأشعري منه على وجه الخصوص. أما نظرية المعرفة عند كانط فلا نستطيع أن نقول عنها إنها أرسطية تماماً، إلا أن بها ملامح أرسطية لا يمكن إنكارها( ). فالمعرفة عند كانط هي اتحاد من مادة وصورة، المادة توفرها الحدوس الحسية والصورة هي التصورات العقلية القبلية، والتلاحم بينهما هو مثل التلاحم الأرسطي من المادة والصورة، أي أنه لا يمكن فصله، فقد أصر كانط دائماً على أن الحدوس الحسية بدون تصورات عمياء، والتصورات بدون حدوس حسية فارغة. كما يعالج كانط المعرفة من منطلق الملكات والقدرات العقلية، والملكة والقدرة من المصطلحات الأرسطية الشهيرة في وصف أفعال النفس في الإدراك والتصور( ). بل إن تقسيم كانط للملكات المعرفية إلى ملكة الحس Sinnlichkeit/Sensibility وملكة الفهم Verstand/Understanding وملكة العقل Vernunft/Reason يناظر التقسيم الأرسطي لقوى النفس المعرفية إلى العقل الهيولاني الذي يقابل ملكة الحس، والعقل المستفاد الذي يقابل ملكة الفهم، والعقل الفعال الذي يقابل العقل الخالص. هذا مع العلم بأن قوى النفس الأرسطية يختلط فيها الطبيعي بالسيكولوجي والميتافيزيقي، في حين أن القوى المعرفية عند كانط إبستيمولوجية وحسب. لكن التشابه بينهما لا يزال قائما على الرغم من ذلك.
نرى مما سبق كيف أن المشروع النقدي الرشدي يعتمد على المنظومة المنطقية الأرسطية، وأن المشروع النقدي الكانطي يعتمد على منظومة منطقية شبه أرسطية، تستوحي منطق أرسطو وتبني عليه لكنها لا تتجاوزه أبداً.

ثانياً – كانط والنقيضة الكوزمولوجية الأولى حول الحدوث والقدم:

¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤

نقد كانط علوم الميتافيزيقا الثلاثة التي تبحث في النفس والعالم والإله. فعلم النفس العقلي يبحث في النفس من حيث جوهريتها وبساطتها وروحيتها وخلودها، وعلم الكوزمولوجيا العقلية يبحث في العالم من حيث أصله وكمه وتركيبه وعلته، وعلم اللاهوت العقلي يثبت وجود كائن ضروري بإطلاق، ببراهين أنطولوجية وكوزمولوجية. وما يهمنا تناوله هو نقده لعلم الكوزمولوجيا العقلية، لأنه هو ما تظهر فيه معالجة كانط لإشكالية قدم العالم وحدوثه، والتي هي محل المقارنة مع ابن رشد.
تسعى الكوزمولوجيا العقلية، في وصف كانط لها، إلى تكوين معرفة شاملة ونهائية بالعالم من حيث طبيعته وتكوينه وأصله؛ إذ تريد الوصول إلى التمام المطلق في معرفتنا بالعالم في كليته. وبذلك فهي تبحث في كَمِّه من حيث ما إذا كانت له حدود نهائية أم لا؛ ومن حيث الكيف فهي تبحث في تكوينه وما إذا كان مركباً من أجزاء بسيطة أم أن كل ما فيه معقد ولا يمكن أن ينحل إلى البسيط؛ ومن حيث السببية فهي تبحث فيما إذا كان كل ما فيه يسير حسب الضرورة والحتمية أم أن فيه علة تفعل بحرية؛ ومن حيث علته فهي تبحث فيما إذا كان مسيراً ذاته بذاته أم أنه معلول لكائن ضروري بإطلاق Absolutely Necessary Being ( ).
الكوزمولوجيا العقلية إذن تسعى نحو اللامشروط Unconditioned عن طريق التمام المطلق للشروط Absolute Completeness of Conditions. وحجتها في ذلك تراجعية، لأنها تنتقل من بعض الشروط المعطاة إلى الحكم على العالم في كليته وهو غير معطى للخبرة التجريبية باعتباره كذلك ، وتسعى نحو لامشروط غير معطى، لأن اللامشروط لا يخضع بطبيعته للحدس الحسي ولا للخبرة التجريبية( )؛ ناهيك عن أن كلية الشروط ذاتها غير معطاة، فالخبرة البشرية لا تحيط بالأسباب كلها. ولا يمكن أن نفهم كون كلية الشروط غير معطاة للخبرة وكون اللامشروط نفسه غير معطى إلا بالمقارنة بين كانط وابن رشد، ذلك لأن كانط بذلك يمارس نوعاً من نقد قياس الغائب على الشاهد الذي سبق لابن رشد استخدامه في نقد علم الكلام وخاصة نقد دليل الحدوث الكلامي في إثبات وجود الله، ذلك لأن كلية الشروط واللامشروط هما في حكم الغائب عند كانط، ولا يمكن الحكم على الغائب (اللامشروط) بالقياس على الشاهد (الشروط المعطاة للخبرة التجريبية).
ويتمثل نقد كانط لعلم الكوزمولوجيا العقلية في توضيح أن هذا العلم يقع في نقائض، والنقيضة تتمثل في قضيتين متعارضتين تنفي كل واحدة منهما ما تثبته الأخرى، وهما يستندان على استدلالين مختلفين لكل منهما وجاهته المنطقية وقوته الإقناعية. والنقيضة عند كانط هي ما لا نتمكن معها من ترجيح أحد الاستدلالين( ). والحل الذي يقدمه كانط هو في التخلي عنهما معاً، أي في توضيح تجاوزهما لقدرات العقل البشري، ذلك لأنهما نتاج سعي العقل الخالص في استعماله التأملي الميتافيزيقي نحو تجاوز نطاق الخبرة التجريبية والتفكير فيما لا يمكن أن يكون موضوعاً للتجربة. والنقائض أربع، تتكون كل واحدة منها من قضية ونقيض:

1.القضية: للعالم بداية في الزمان، كما أنه محدود في المكان (محدث).

نقيض القضية: ليس للعالم بداية وليس له حد في المكان، وهو لامتناه بالنظر إلى الزمان والمكان (قديم)( ).
2.القضية: كل جوهر مركب في العالم مكون من أجزاء بسيطة، ولا يوجد شئ إلا البسيط أو المركب من البسيط.
نقيض القضية: لا شئ مركب في العالم مكون من أجزاء بسيطة، ولا يوجد أي شئ بسيط في العالم( ).
3.القضية: ليست السببية وفق قوانين الطبيعة هي السببية الوحيدة التي ترجع إليها ظاهرات العالم. ولتفسير هذه الظاهرات يجب افتراض سببية أخرى من الحرية.
نقيض القضية: ليست هناك حرية؛ وكل شئ في العالم يحدث وفق قوانين الطبيعة وحسب( ).
4.القضية: ينتمي إلى العالم كائن ضروري بإطلاق، سواء كان جزءاً منه أو علة له.
نقيض القضية: لا يوجد كائن ضروري بإطلاق في العالم، ولا خارجه باعتباره علة له( ).
ومن الواضح أن النقيضة الأولى تمثل التعارض بين حدوث العالم وقدمه. وهذه هي الإشكالية التقليدية والمحورية التي كانت محل نزاع بين المتكلمين والفلاسفة في الإسلام؛ كفَّر الغزالي من أجلها الفلاسفة في “تهافت الفلاسفة” وعاد ابن رشد للدفاع، لا عن الفارابي وابن سينا، بل عن الفلسفة ذاتها، في “تهافت التهافت”. والنقيضة الثانية ظهرت في مشكلة نظرية الجوهر الفرد ودفاع الأشاعرة عنها ونقد الفارابي وابن سينا وابن رشد لها؛ والنقيضة الثالثة هي المشكلة التقليدية حول الحرية والحتمية، وتوازي الإشكاليات الإسلامية حول السببية وخرق العادة والإرادة الإلهية والإنسانية وموقعهما من قوانين الطبيعة؛ والنقيضة الرابعة هي مسألة وجود أو عدم وجود إله.
يمكن أن تكون النقائض الكوزمولوجية الأربع إذن محل دراسة مقارنة شاملة بين كانط من جهة وفلاسفة الإسلام من جهة أخرى. لكن علينا أن نركز في هذه الدراسة على الإشكالية الأساسية والمحورية وهي إشكالية القدم والحدوث، لأنها هي ما تلتف حولها بقية الإشكاليات. ما الذي يمكن أن نتوصل إليه عندما نقرأ نقد كانط للنقيضة الكوزمولوجية في الحدوث والقدم على خلفية مناقشة ابن رشد لنفس هذه الإشكالية في كتبه الثلاثة الرئيسية؟ إن كانط يوضح أن العقل البشري لا يستطيع الفصل في هذه الإشكالية واختيار أحد النقيضين لأنها تتجاوز قدراته المعرفية، أما ابن رشد فيدافع عن القدم ضد هجوم الغزالي عليه، ويثبت للعالم وضعاً وسيطاً بين القدم المطلق والحدوث المطلق، وينقد البرهنة الكلامية على وجود الله من دليل حدوث العالم ويذهب إلى أن البرهان الأفضل هو برهان القدم. هذه هي الملامح العامة للحل النهائي الكانطي والرشدي.
ولكن قبل المقارنة المفصلة بينهما يجب علينا التعرف على كيفية عرض كانط لإشكالية الحدوث والقدم، والتي لا يسميها بهذا الاسم بالطبع، بل يطلق عليها “التناهي واللاتناهي”.
تقول القضية إن العالم متناه في الزمان والمكان، أي محدث، ويقول نقيض القضية إن العالم لامتناه في الزمان والمكان، أي قديم. ويوضح كانط ما تتصف به القضية ونقيض القضية من معقولية، مما يثبت تساوي الأدلة التي في صالح الحدوث والأدلة التي في صالح القدم في الوقت نفسه. وهو يبدأ بالأدلة التي في صالح تناهي العالم. فإذا افترضنا أن العالم بدون بداية في الزمان فإن هذا يعني أن كل حادثة فيه قد سبقتها حوادث أخرى لانهاية لها، ولا يمكن أن تأتي حادثة من سلسلة لامتناهية من الحوادث. فكي نثبت ظهور حادثة يجب علينا افتراض بداية أولى للزمان. أما فيما يخص المكان فإذا افترضناه كلاً لامتناهياً فلا معنى لوجود الأمكنة الجزئية، لأن المكان الجزئي ما هو إلا تركيب لبعض خصائص المكان الواحد الكلي، أي اللامتناهي. واللامتناهي لا يمكن أن يُخصَّص أو يُجزأ، وبالتالي فلا يمكن انقسام المكان اللامتناهي، لأن المنقسم هو المتناهي وحده. وبما أن هناك أمكنة جزئية، وبما أنه من الممكن أن ينقسم المكان، فيجب علينا القول بتناهي المكان( ).
أما نقيض القضية فهو يثبت لاتناهي العالم من حيث الزمان والمكان ببراهين لا تقل قوة ولا إقناعاً عن براهين التناهي. فإذا افترضنا أن للعالم بداية، وبما أن كل بداية تفترض زماناً خالياً سبقها، فمعنى هذا أننا نفترض زماناً سابقاً على وجود العالم كان خالياً منه. لكن لا يمكن ظهور شئ من زمان خالٍ، لأن الزمان الخالي لا يمتلك شرطاً يميز وجود أو عدم وجود العالم، أي ليس به مرجح للوجود على العدم بالتعبير الإسلامي. وإذا افترضنا فيما يخص المكان أن العالم متناه ومحدود من حيث الكم الممتد، فمعنى هذا أن العالم يقع في مكان خالٍ، وهذا مستحيل إذ ينطوي على القول بأن للعالم صلة بمكان خالٍ، أي باللاشئ. فلا يبقى إلا القول بأن العالم لامتناه من حيث الامتداد( ).
وينقد كانط نقيضة القدم والحدوث عن طريق نظريته في المعرفة بذهابه إلى أن المكان والزمان ليسا موضوعين للمعرفة حتى يمكن أن نفكر في تناهيهما أو لاتناهيهما، ذلك لأنهما مجرد شكلان لحدسنا، أي تمثلان قبليان في العقل البشري يجعلان المعرفة ممكنة. وأخذ الشرط الذاتي للمعرفة على أنه موضوع للمعرفة غير مشروع لدى كانط. هذا بالإضافة إلى أن كل ما نعرفه من العالم هو الظاهر، والمكان والزمان هما الشرطان الذاتيان اللذان تُعطى لنا عن طريقهما الموضوعات في عالم الظاهر، وبالتالي فالعلاقات المكانية والزمانية بين الأشياء هي عالم الظاهر الذي يبدو لنا حسب الشروط الذاتية لمعرفتنا، أما الأشياء في ذاتها فلا يمكننا معرفتها وليس لدينا من سبيل للوصول إليها انطلاقاً من شروطنا المعرفية الذاتية( )؛ فالبحث في طبيعة المكان والزمان هو بحث غير مشروع لما هو مجرد شرط ذاتي للمعرفة وتوسيعه بالنظر إليه على أنه يوجد قائماً بذاته، أي أخذهما على أنهما شيئان في ذاتيهما والنظر إليهما على أنهما الطريقة التي تترتب بها الأشياء في ذاتها لا مجرد الطريقة التي تعطى لنا بها موضوعات الخبرة بعالم الظاهر.
وهكذا سد كانط الطريق على أية إمكانية لحل إشكالية القدم والحدوث بذهابه إلى أنها تتجاوز قدرة العقل البشري، وهي بحد ذاتها نتيجة للتوسيع غير المشروع لما هو مجرد شرط ذاتي للمعرفة البشرية إلى اعتباره قائماً بذاته. يتمثل جوهر النقد الكانطي للميتافيزيقا إذن في تقييد المعرفة بالمجال الإبستيمولوجي وحده وبيان عدم مشروعية الانتقال مما هو إبستيمولوجي إلى ما هو أنطولوجي، أو أخذ الشروط الذاتية للمعرفة البشرية على أنها شروط موضوعية للوجود الأنطولوجي للأشياء في ذاتها. والحقيقة أن هذا النقد هو صورة جديدة من صور نقد قياس الغائب على الشاهد والذي سبق لابن رشد استخدامه. فالغائب هو الأنطولوجي، أو عالم الأشياء في ذاتها، والذي لا يمكننا أن نقيسه على الشاهد، أو الإبستيمولوجي الخاص بعالم الظاهر، أي عالم الخبرة التجريبية. وسوف نتناول بالتفصيل علاقة النقد الكانطي بنقد ابن رشد لقياس الغائب على الشاهد. أما عن قول كانط بعدم مشروعية الفصل والاختيار بين القدم والحدوث على أساس أنها إشكالية تتعدى قدرات المعرفة البشرية فلنا عليه رد ومن داخل نظرية كانط في المعرفة، وسوف يأتي تباعاً؛ لأن كانط الذي رفض لاتناهي العالم أنطولوجياً في “الجدل الترانسندنتالي” كان قد سبق وأن أثبته إبستيمولوجياً في “الإستطيقا الترانسندنتالية” و”التحليلات الترانسندنتالية”.
ولا ينسى كانط أن يناقش حلاً شبيهاً بحله لإشكالية القدم والحدوث، وهو الحل الذي يرفض الإشكالية ويقول بأن العالم لا هو بالمتناهي ولا هو باللامتناهي في الوقت النفسه. فكانط ينبه القارئ على أنه لا يقول بهذا الرأي، لأن هذا الرأي يصدر حكماً بالفعل على العالم ويؤكد بصدده على طبيعة معينة يثبتها له، في حين أن العالم عند كانط غير معطى باعتباره كلاً في حدس حسي أو في خبرة تجريبية، بل معطى باعتباره كُلاً في التسلسل الترانسندنتالي للأسباب والموجه بفكرة الكل الترانسندنتالية( )، وهذا التسلسل ومعه الفكرة الترانسندنتالية الموجهة له غير مشروع في نظر كانط حسب نظريته في المعرفة.
كان هذا هو كل حديث كانط عن إشكالية قدم العالم وحدوثه. ونفاجأ بأن إشكالية وجود أو عدم وجود كائن ضروري للعالم، وهي مشكلة الألوهية وعلاقتها بالعالم، تشغل النقيضة الرابعة. لقد فصل كانط بين إشكالية العالم وإشكالية الألوهية ووضع كل إشكالية في نقيضة مستقلة عن الأخرى، تتوسطهما نقيضتا العالم بين البساطة والتركيب، وبين الحرية والحتمية. والحقيقة أن هذا الفصل يعد عيباً خطيراً في نظرية كانط في النقائض، وفي كل نقده للميتافيزيقا التقليدية؛ ذلك لأنه لا يمكن مناقشة إشكالية قدم العالم وحدوثه بمعزل عن قدم الإله وإشكالية علاقة الألوهية بالعالم. وعندما نأتي على نظرية ابن رشد في العالم وموقفه من إشكالية القدم والحدوث سنلاحظ مدى التلاحم بين الألوهية والعالم، مما يدل على استحالة الفصل بينهما وخطأ هذا الفصل ابتداء، لكن هذا هو ما فعله كانط. هذا بالإضافة إلى أن النقيضة الرابعة لا تجد أي مشكلة في القول بكائن ضروري داخل العالم أو خارجه؛ إنها تقول : “ينتمي إلى العالم كائن ضروري بإطلاق، سواء كان جزءاً منه أو علة له”، أي علة خارجة عنه. لم يلاحظ كانط أن هذه القضية في حد ذاتها تعبر عن نقيضة، تتمثل في التناقض في القول بكائن ضروري داخل العالم وفي القول بكائن ضروري خارج العالم؛ فهذا التناقض كان بالفعل محل نزاع ميتافيزيقي واسع في تاريخ الفلسفة، وهو المميز للنزاع بين المذاهب التي تقول بالإله المفارق للعالم ومذاهب وحدة الوجود. وسوف نلاحظ في مقارنتنا مع ابن رشد كيف أن الأخير كان على وعي بهذه الإشكالية وقدم لها حلاً مبتكراً، ذلك لأنها تدخل فيما يعرف في الفلسفة الإسلامية بإشكالية صدور الكثرة عن الواحد وإشكالية علم الله للجزئيات.
هذا علاوة على أن عرض كانط للنقائض الكوزمولوجية بالطريقة السابق توضيحها يوحي أن القضية في كل نقيضة تنتمي إلى مذهب واحد، ونقيض القضية في كل نقيضة يمثل المذهب الآخر المضاد، بمعنى أن القضايا الأربع تشكل مذهباً ونقائضها الأربع تشكل مذهباً آخر مضاداً؛ بحيث يكون المذهب القائل بحدوث العالم هو نفسه الذي يقول بتكونه من أجزاء بسيطة وبوجود سببية حرة فيه وبكائن ضروري بإطلاق (وبذلك يكون قريباً للغاية من مذهب الأشاعرة الذين يقولون بالجزء الذي لا يتجزأ، وقد كان في عصر كانط مذهباً شبيهاً به وهو مذهب المونادات عند لايبنتز)، ويكون المذهب المقابل هو الذي يقول بقدم العالم ولاتناهيه من حيث الزمان والمكان وبعدم تكونه من أجزاء بسيطة وبعدم وجود سببية حرة فيه وبعدم وجود كائن ضروري بإطلاق. والواضح أن هذين المذهبين لا يستوعبان كل المذاهب الميتافيزيقة التي عرفها الفكر الإنساني، كما لا يستوعبان كل الخلافات المذهبية التي نشبت بين المذاهب الميتافيزيقية المختلفة. إن التعارض الذي يقيمه كانط في النقائض الكوزمولوجية هو تعارض واحد فقط بين مذهبين وحسب، وهما مذهب الخلق من العدم والمذهب الدهري. المذهب الأول يمثله أفلاطون وأوغسطين وعلماء الكلام المسلمون وكل فلاسفة العصور الوسطى المسيحية، والمذهب الدهري يمثله في عصر كانط بعض الماديين الفرنسيين من أصحاب الموسوعة وبعض أتباع السبينوزية ( ). والحقيقة أن كانط اعتقد خطأً أنه ليس هناك خيار ثالث بين النقائض الكوزمولوجية الأربع، ذلك لأن مذهب ابن رشد نفسه هو الذي قدم خياراً ثالثاً وسيطاً بين القدم المطلق والحدوث المطلق، وبذلك لا يشمله نقد كانط للكوزمولوجيا العقلية ولا يقع في الإحراجات المنطقية التي يقيمها بين القدم والحدوث.

ثالثاً – توسط ابن رشد بين القدم المطلق والحدوث المطلق:

  1. سياقات معالجة ابن رشد للمسألة:

أ. السياق المنطقي:

كان ابن رشد يعلم أن السؤال عن العالم أهو قديم أم محدث هو سؤال جدلي، وذلك كما يتضح في شرحه لكتاب “الجدل” لأرسطو. فالسؤال عن قدم العالم أو حدوثه هو مطلوب جدلي حسب تعبيره. ويقول عنه: “وأما المطلوب الجدلي فهو ما لم يكن معلوماً صدقه بنفسه بحسب المشهور، بل يلحقه شك ما في المشهور..والسبب في الشك الواقع فيها [=في مقدمات القياس الجدلي] إما تضاد الشهادة، وإما عدم الشهادة فيها، وإما تضاد الأقيسة.. وربما كان سبب ذلك عسر وجود القياس عليها.. مثل قولنا: هل العالم محدث أم لا؟… وأما ما تتضاد فيه الأقيسة، فمثل قولنا: هل العالم قديم أو محدث؟”( ). الواضح من النص أن ابن رشد يفصل بين السؤال عن حدوث العالم والسؤال عن الاختيار بين قدمه وحدوثه. والسبب في فصله هذا يرجع إلى أنه قدم نقداً لبراهين المتكلمين على حدوث العالم، وهي مستقلة تماماً عن أدلته هو في القول بقدم وحدوث العالم في الوقت نفسه ( ).
والملاحظ أن ابن رشد يعالج الأسئلة عن قدم العالم وحدوثه على أنها مطالب جدلية، لأن الأقيسة تتضاد فيها. لقد كان كانط على حق إذن عندما عالج إشكالية القدم والحدوث تحت باب “الجدل الترانسندنتالي”( )، وعندما وضع الإشكالية في صورة نقيضة Antinomy، إذ اتضح تضاد الأقيسة الذي يقصده ابن رشد من برهان الحدوث وبرهان القدم اللذان وضعهما كانط في مقابل بعضهما البعض في تقسيمه الشهير للصفحة الواحدة إلى عمودين. لكن يجب علينا الانتباه إلى أن النص السابق هو من شرح ابن رشد لكتاب أرسطو في الجدل، فهو يكتفي فيه بتوضيح أن السؤال عن القدم والحدوث مطلب جدلي لكنه لم يقدم حله لهذا السؤال في شرحه للجدل نفسه، بل في كتبه الأساسية الثلاثة: “فصل المقال” و”الكشف عن مناهج الأدلة” و”تهافت التهافت”. والسبب في ذلك واضح، وهو أن أرسطو لم يكن حاسماً في حله لمسألة القدم والحدوث، مثلما كان في مسألة العقل الفعال واتصاله بالبدن؛ وربما يكون أرسطو قد سكت عن هذه المسألة لكونها مطلباً جدلياً كما يقول، لكن ابن رشد هو الذي تجاوز الصعوبة الجدلية للمسألة بمحاولة حلها. والحقيقة أن المسألة الجدلية لا تحل إلا برفع النقيضين معاً، وهذا ما فعله ابن رشد عندما قام برفع القدم المطلق والحدوث المطلق وقال بأن العالم قديم ومحدث في الوقت نفسه. وهذا أيضاً ما فعله كانط؛ لقد رفع النقيضين معاً، لكن لا بالتوسط بينهما بل برفض الفصل في المسألة أصلاً واعتبارها مما يفوق قدرات العقل البشري، مكرراً بذلك نفس الحل الذي قال به من قبل فلاسفة العصور الوسطى وعلى رأسهم ألبرت الكبير والقديس توماس الأكويني( ). ولذلك فالحل الذي قدمه ابن رشد للمسألة هو حله هو، ولا يعد أبداً نقلاً عن أرسطو، فنظرية التوسط بين القدم والحدوث لم يقل بها أرسطو ولم تظهر في أي من مؤلفاته، بل هي نظرية رشدية أصيلة.
ب. سياق نقد علم الكلام:

رفض ابن رشد نظرية حدوث العالم الكلامية. ومن أسباب رفضه لها أنها:

  1. ليست قائمة على أدلة برهانية يقينية.
  2. لا تستطيع البرهنة الصادقة على وجود الله، لأن البرهنة على أن العالم حادث تنطوي على إشكالية صدور الحادث عن القديم، وإشكالية التناقض بين الإرادة القديمة والفعل الحادث.
  3. تعصف بالثبات والضرورة التي لقوانين الطبيعة وتكرس لمبدأ الاتفاق وتنظر إلى السببية على أنها مجرد عادة، وبالتالي لا تستطيع أن تنظر إلى حكمة الله في خلق العالم وفق ما فيه من ضرورة.
    والحقيقة أن نظرية ابن رشد في أن الطريقة البرهانية اليقينية في إثبات وجود الله هي دليل القدم لا دليل الحدوث يعني أنه يدافع عن النظرة العلمية للكون والتي تنظر إليه على أن قوانينه ضرورية وتحكمه السببية الشاملة. وليس هناك أي تعارض لدى ابن رشد في القول بحتمية وأبدية وأزلية قانون الطبيعة والقول بإله صانع للعالم، لأن قانون الطبيعة عنده هو إرادة الله وحكمته في خلقه، وهو “سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا”. “وينبغي أن تعلم أن من جحد كون الأسباب مؤثرة بإذن الله من مسبباتها، أنه قد أبطل الحكمة وأبطل العلم” على الله وعلى الإنسان معاً “والقول بنفي الأسباب في الشاهد ليس له من سبيل إلى إثبات سبب فاعل في الغائب”( )
    ذهب ابن رشد إلى أن دليل المتكلمين على وجود الله من حدوث العالم ليس يقينياً ولا برهانياً. فهذا الدليل ينبني على ثلاث مقدمات تقول: “الجواهر لا تنفك عن الأعراض أي لا تخلو منها، والثانية أن الأعراض حادثة، والثالثة أن ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث” ( ). وبالتالي فالعالم حادث لأنه لا ينفك عن الحوادث، وبما أن العالم حادث فهو يفتقر إلى محدث له وهو الله.
    وينقد ابن رشد هذا الدليل بذهابه إلى أن القول بأن الجواهر لا تنفك عن الأعراض لا يعني بالضرورة أنها هي ذاتها أعراض، وذلك نظراً لإمكان حدوث أعراض لانهاية لها على الجواهر؛ ويقول في ذلك: “وأما المفهوم الأول.. فليس يلزم عنه حدوث المحل، أعني: الذي لا يخلو من جنس الحوادث. لأنه يمكن أن يتصور المحل الواحد، أعني الجسم، تتعاقب عليه أعراض غير متناهية.. كأنك قلت: حركات لانهاية لها”( ) كما أن الجواهر تنحل، لدى الأشاعرة خاصة، إلى الجزء الذي لا يتجزأ، وانحلالها هذا لا يعني أنها أعراض، لأن التحليل وصل إلى الجزء، أي إلى شئ متقدم في وجوده على الجسم المركب، وهذا لا يعني الحدوث.
    أما المقدمة الثانية القائلة بأن الأعراض حادثة فهي تنطوي على قياس الغائب على الشاهد، أي الانتقال مما هو حاضر أمام الحس من الحادثات إلى الحكم على ما لا يحضر، أي الغائب. ومعنى هذا النقد أن المتكلمين على خطأ في انتقالهم من حدوث الأعراض إلى حدوث العالم كله، لأن الأعراض هي الشاهد الذي لا يصح أن نقيس عليه العالم كله وهو الغائب، ذلك لأن النقلة من حكم الأعراض الجزئية إلى الحكم على العالم في كليته غير صحيح، لأن الأعراض الجزئية ليست من طبيعة العالم الكلي: “فتؤول أدلتهم على حدوث جميع الأعراض إلى قياس الشاهد على الغائب، وهو دليل خطابي إلا من حيث النقلة معروفة بنفسها، وذلك عند التيقن باستواء طبيعة الشاهد والغائب”( ).
    أما المقدمة الثالثة القائلة إن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث فهي جدلية لأنها ترتكب مغالطة الاشتراك في الاسم، فالحادث الذي لا تخلو الجواهر منه ليس هو حدوث العالم، فالحدوث مستخدم بمعنيين مختلفين في كل شق من المقدمة. كما أن عبارة “ما لا يخلو من الحوادث” يمكن أن تعني ما لا يخلو من جنس الحوادث كله وما لا يخلو من واحد منها. لكن ما لا يخلو من جنس الحوادث يمكن ألا يكون حادثاً بل قديماً تمر عليه الحوادث إلى ما لا نهاية( ). وهكذا يثبت ابن رشد أن دليل الحدوث جدلي وخطابي ولا يرقى للبرهان.
  4. التمييز بين القدم المطلق والحدوث المطلق:

القديم بإطلاق عند ابن رشد هو ما ليس له علة ولا يوجد من شئ، أما المحدث بإطلاق فهو ما له علة ووجد من شئ. القديم المطلق هو الله سبحانه، والحادث المطلق هو الأشياء الجزئية أو الأجسام. أما العالم فهو يتوسط القدم المطلق والحدوث المطلق؛ إنه أزلي الحدوث. سبق أن لاحظنا في عرضنا للنقيضة الكوزمولوجية الأولى عند كانط أنه يقيم تعارضاً بين القدم المطلق والحدوث المطلق ويقول بأن العالم إما متناهياً في الزمان والمكان وإما لامتناهياً في الزمان والمكان ولا شئ غير ذلك، أي أنه لم يتعرض أبداً للخيار الوسيط. أما ابن رشد فنجد لديه عرضاً أكثر شمولاً للإشكالية وحلاً وسيطاً مبتكراً لها. ولأن ابن رشد قد ركز عرضه للإشكالية وحله لها في صفحة ونصف من كتابه “فصل المقال” فسوف نوردها بنصها كاملة لنعرف كيف عالج ابن رشد مسألة القدم والحدوث وكيف حلها في بضعة أسطر. وما يبرر لنا إيراد النص التالي كاملاً ما يظهر فيه من توسط ابن رشد بين القدم والحدوث للعالم، وهو ما ليس له نظير عند كانط. إن هذه الأسطر القليلة التي حل بها المسألة تقف دليلاً على عبقرية هذا الرجل، وفي الوقت نفسه على أن كانط لم يقرأ “فصل المقال” ولا أي من مؤلفات ابن رشد، وقد خسر الكثير من جراء ذلك.
يقول ابن رشد( ): “وأما مسألة قدم العالم [أو] حدوثه [فإن الاختلاف] [فيها] عندي بين المتكلمين من الأشعرية وبين الحكماء المتقدمين يكاد أن يكون راجعاً للاختلاف في التسمية، وبخاصة عند بعض القدماء. وذلك أنهم اتفقوا على أن هاهنا ثلاثة أصناف من الموجودات: طرفان وواسطة بين الطرفين. فاتفقوا في [تسمية] الطرفين واختلفوا في الواسطة. فأما الطرف الواحد فهو: موجود وجد من شئ غيره وعن شئ: أعني عن سبب فاعل ومن مادة، والزمان متقدم عليه: أعني على وجوده. وهذه هي حال الأجسام التي يدرك تكونها بالحس، مثل تكون الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات وغير ذلك. فهذا الصنف من الموجودات اتفق الجميع من القدماء والأشعريين على تسميتها محدثة. وأما الطرف المقابل لهذا فهو موجود لم يكن من شئ ولا عن شئ، ولا تقدمه زمان. وهذا أيضاً اتفق الجميع من الفرقتين على تسميته قديماً. وهذا الموجود مدرك بالبرهان، وهو الله تبارك وتعالى الذي هو فاعل الكل، وموجده، والحافظ له، سبحانه وتعالى قدره.وأما الصنف من الموجود الذي بين هذين الطرفين فهو موجود لم يكن من شئ ولا تقدمه زمان، ولكنه موجود عن شئ: أعني عن فاعل. وهذا هو العالم بأسره. والكل منهم متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم. فإن المتكلمين يسلمون أن الزمان غير متقدم عليه، أو يلزمهم ذلك. إذ الزمان عندهم شئ مقارن للحركات والأجسام، وهم أيضاً متفقون مع القدماء على أن الزمان المستقبل غير متناه، وكذلك الوجود المستقبل، وإنما يختلفون في الزمان الماضي والوجود الماضي. فالمتكلمون يرون أنه متناه، وهذا هو مذهب أفلاطون وشيعته. وأرسطو وفرقته يرون أنه غير متناه كالحال في المستقبل. فهذا الموجود الآخر الأمر فيه بَيـِّن أنه قد أخذ شبهاً من الوجود الكائن الحقيقي ومن الوجود القديم. فمن غلَّب عليه ما فيه من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدث سماه قديماً. ومن غلَّب عليه ما فيه من شبه المحدث سماه محدثاً. وهو في الحقيقة ليس محدثاً حقيقياً ولا قديماً حقيقياً. فإن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة. والقديم الحقيقي ليس له علة”( ).
أي أن العالم ليس قديماً على الحقيقة وليس محدثاً على الحقيقة، بل هو قديم ومحدث في الوقت نفسه، قديم بمعنى صدوره الدائم والأبدي عن الله تعالى، ومحدث بمعنى افتقاره إلى علة موجدة له تقع خارجه. يتضح من النص السابق كيف استطاع ابن رشد التمييز بدقة بين القدم المطلق والحدوث المطلق والتوسط بينهما بالنسبة للعالم. والحقيقة أن هذا التمييز ليس موجوداً في فلسفة أرسطو، بل هو فكرة رشدية أصيلة. صحيح أنها تعد تطويراً لبعض الأفكار الأرسطية، إلا أن ابن رشد هو أول من قال بها، وهي من الأفكار التي نجح ابن رشد في التوفيق بها بين الفلسفة والدين. وهذا التوسط بين القدم والحدوث لا نجده في عرض كانط للنقائض الكوزمولوجية.
كما نلاحظ أن ابن رشد يعالج القدم والحدوث بطريقة أكثر شمولاً، ذلك لأنه يُدخل في المناقشة قدم الله، ويقيم علاقة ثلاثية بين القديم المطلق وهو الله والحادث المطلق وهو الأجسام الجزئية والوسيط بينهما وهو العالم؛ في حين أن كانط قد فصل بين إشكالية العالم وإشكالية وجود الله؛ فإشكالية القدم والحدوث تشغل النقيضة الأولى، وإشكالية وجود أو عدم وجود الكائن مطلق الضرورة تشغل النقيضة الرابعة، أي أنه تناول قضية القدم والحدوث بمعزل عن قضية الكائن مطلق الضرورة. أما الأجسام الجزئية فهي تناظر عند كانط النقيضة الثانية الخاصة ببساطة أو تركيب الجواهر المفردة في العالم، وقد عزل مناقشته لها عن إشكاليتي العالم والإله أيضاً.
وما قاله ابن رشد في التمييز بين القدم المطلق والحدوث المطلق باختصار في “فصل المقال”، يعود ليُفصِّله بمزيد من الشرح في “تهافت التهافت”، ويضيف عليه التمييز بين قدم الله وقدم العالم. يقول ابن رشد: “وأما إن كان العالم قديماً بذاته وموجوداً لا من حيث هو متحرك، لأن كل حركة مؤلفة من أجزاء حادثة، فليس له فاعل أصلاً، وأما إن كان قديماً بمعنى أنه في حدوث دائم وأنه ليس لحدوثه أول ولا منتهى، فإن الذي أفاد الحدوث الدائم أحق باسم الإحداث من الذي أفاد الحدوث المنقطع. وإنما سمت الحكماء العالم قديماً تحفظاً من المحدث الذي هو من شئ وبعد العدم”( ). يتضح من هذا النص أن ابن رشد يميز بين القديم بإطلاق والمحدث بإطلاق. القديم بإطلاق هو ما ليس له علة، وإذا كان العالم قديماً بهذا المعنى فليس له علة؛ وهذا هو قدم العالم الذي ينفي وجود الإله، وهو ما يظهر في النقيضة الكوزمولوجية الرابعة لكانط، ويقابل المذهب الدهري. فالواضح أن كانط لم يفهم القدم والحدوث بالمعنى الذي يشير إليه ابن رشد في النص السابق. فكانط يربط بين قدم العالم من جانب وكونه بدون إله صانع من جانب آخر، ولم يستوعب أبداً كيف يمكن للعالم أن يكون قديماً وله صانع في الوقت نفسه. لا يقول ابن رشد بقدم العالم بمعنى كونه بدون علة موجدة، بل يقول بقدم العالم بمعنى الحدوث الدائم، ويقول بأن ما هو دائم الحدوث أولى بأن يسمى حادثاً مما حدوثه منقطع، أي ما وجد بعد العدم. ليس العالم قديماً بذاته عند ابن رشد، بل هو قديم بغيره، أي بالإله، وهو ليس محدثاً بإطلاق، بل محدث بذاته.

  1. التمييز بين نوعين من الأزلية:

تبنى ابن رشد تمييز أرسطو بين نوعين من الأزلية أو القدم: النوع الأول هو الأزلية الثابتة اللازمانية، أي التي لا يمر عليها الزمان ولا يلحقها التبدل أو التحول، وهي عند أرسطو أزلية المحرك الأول الذي لا يتحرك؛ والنوع الثاني هو الأزلية الزمانية المتحركة أو الاستمرارية الأبدية في الحركة، وهي الحركة الدائرية اللامتناهية للسماء والأفلاك. وهذا التمييز هو الذي يستطيع إفهامنا لكيفية قول ابن رشد بقدم الله وقدم العالم في الوقت نفسه؛ فليس هناك أي تناقض عنده في القول بقديمين، لأن كل قدم منهما بمعنى مختلف عن قدم الآخر. الله والعالم عند ابن رشد أزليان أبديان لكن لا بمعنى واحد. أزلية الله عند ابن رشد هي الأزلية الثابتة اللازمانية غير المتحركة، فالله لا يخضع للزمان ولا للتبدل والتحول الذي للحركة؛ أما أزلية العالم فهي الأزلية المتحركة حركة لانهاية لها. وعندما ذهب ابن رشد إلى أن العالم يأخذ شبهاً من الوجود القديم وشبهاً من الوجود الحادث فقد كان يعني أنه يأخذ معنى الدوام الأزلي الأبدي الذي يميز القديم، وفي الوقت نفسه معنى الحركة الذي ينطوي على الحدوث. فالعالم عند ابن رشد أزلي الحركة، أي أزلي الحدوث؛ إنه في حالة حدوث دائم وأبدي وأزلي. وهكذا نرى أن ابن رشد نجح في تجاوز إشكالية القدم والحدوث بأن تجاوزهما معاً عن طريق التوسط بينهما والجمع في شأن العالم بين معنى للقدم ومعنى آخر للحدوث. لقد تجاوز إحراج الاختيار بين القدم المطلق والحدوث المطلق الذي ظهر في النقيضة الكوزمولوجية الأولى عند كانط. تنص هذه النقيضة على أن العالم إما قديم أو محدث، ولا ثالث لهما، وقد كان من السهل على كانط رفض الفصل في الإشكالية بحجة أنها تتجاوز قدرات العقل البشري. أما ابن رشد فقد نجح في التوصل إلى الخيار الثالث الوسيط بين القدم المحض والحدوث المحض، ذلك الخيار الذي لم يطرحه كانط أصلاً وغاب عن أفق تفكيره.

  1. التمييز بين الحدوث الذاتي والحدوث من العدم:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ميز ابن رشد أيضاً بين معنيين للحدوث: الحدوث الذاتي وهو افتقار الشئ إلى علة موجدة له، والحدوث من العدم وهو وجود شئ بعد أن لم يكن( ). وعندما يسمي ابن رشد العالم حادثاً فهو يعني به الحدوث الذاتي، أي أن العالم يفتقر إلى علة موجدة له تسبقه منطقياً لا زمانياً، لكنه ليس حادثاً من العدم. الحادث من العدم هو الذي يسبقه العدم، وذلك مثل الأجسام المادية في العالم، أما العالم كله فهو حادث بذاته قديم بغيره، أي أنه يصدر بالضرورة عن فعل الله، أو هو بالأحرى فعل الله نفسه( )، ولا يمكن أن يتوقف الله عن الفعل أو يبدأ في الفعل بعد أن كان متوقفاً عنه.
وعندما ناقش كانط مسألة العالم في النقيضة الأولى ومسألة الكائن الضروري بإطلاق في النقيضة الرابعة (وهو واجب الوجود بتعبير ابن سينا) لم يتناول هذه التقسيمات الفرعية بين القدم والحدوث. فكما أوضح لنا ابن رشد، فللقدم معنيان وللحدوث معنيان، ومن الممكن التوسط بينهما. أما كانط فالعالم عنده إما قديم أو محدث، هكذا ببساطة؛ وهو إما أن يكون قديماً بدون إله أو محدثاً بإله، هكذا ببساطة أيضاً. لكن معالجة ابن رشد لإشكاليات القدم والحدوث لم تكن بالبساطة التي ظهرت في معالجة كانط، بل كانت أكثر تنوعاً وتعقيداً وثراءً. إن كانط يكشف عن تعارض واحد فقط وهو بين المذهب الدهري ومذهب الخلق من العدم. وهو يعتقد أن هذا التعارض هو المشكلة الأساسية للعقل الخالص، لكنها ليست كذلك. المشكلة الأساسية كانت هي المشكلة محل النزاع الفارابي وابن سينا من جهة والمتكلمين من جهة أخرى، وبين الغزالي والفلاسفة، وبين ابن رشد والغزالي. إن السبب في بساطة عرض كانط للنقائض الكوزمولوجية والتي تصل إلى حد السذاجة يرجع إلى أنه لم يطلع على النزاعات والصراعات الكلامية والفلسفية في الفكر الإسلامي؛ ولو كان قد اطلع عليها لزاد كتابه ثراء، ولرأى كيف أن بين القدم والحدوث خيار ثالث وسيط وضعه ابن رشد.

  1. العالم قديم بالجنس حادث بالأجزاء:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

ينظر ابن رشد إلى العالم على أنه قديم أو أزلي بالجنس حادث بالأجزاء. فالعالم عنده أزلي بالجنس أي في كليته وشموله وإذا ما اتخذ على أنه الكل الشامل، لأنه بذلك فعل للإله، وفعل القديم قديم مثله. لكنه في الوقت نفسه حادث بالأجزاء، أي الأشياء المادية من أجسام وعناصر، لأنها هي التي تمر بالتغير والتحول والتبدل، أو الكون والفساد. يقول ابن رشد في ذلك: “الجهة التي منها أدخل القدماء موجوداً قديماً ليس بمتغير أصلاً ليست هي من جهة وجود الحادثات عنه بما هي حادثة، بل بما هي قديمة بالجنس؛ والأحق عندهم أن يكون هذا المرور إلى غير نهاية لازماً عن وجود فاعل قديم، لأن الحادث إنما يلزم أن يكون بالذات عن سبب حادث”( )، ويقول أيضاً: “..وجه صدور الحادث عن القديم الأول لا بما هو حادث بل بما هو أزلي بالجنس حادث بالأجزاء، وذلك أن كل فاعل قديم عندهم إن صدر عنه حادث بالذات فليس هو القديم الأول عندهم..”( ). إن وجود أجسام جزئية حادثة عند ابن رشد لا يعني أن العالم كله حادث، لأن هذا يعد قياساً للغائب، وهو العالم كله، على الشاهد، وهو الأجسام الجزئية. فالعالم كله هو في حكم الغائب عند ابن رشد لأنه ليس خاضعاً للحس باعتباره كلاً، ولأننا نطلب حكماً يخص أوله وآخره وهما أيضاً في حكم الغائب. وابن رشد بذلك يخالف المتكلمين من معتزلة وأشاعرة والذين ذهبوا إلى أن العالم كله حادث بما أنه يحوي أجساماً حادثة، لأن هذا الدليل، بالإضافة إلى أنه قياس للغائب على الشاهد، فهو أيضاً قياس الكل على أجزائه أو الامتداد بحكم الجزء إلى الحكم على الكل، وهو قياس غير صحيح وفقاً لقواعد البرهان. ونلاحظ من ذلك أن ابن رشد لم يكن بحاجة إلى الخروج عن المنطق الأرسطي واختراع منطق آخر لنقد الميتافيزيقا الدوجماطيقية لعلم الكلام مثلما اضطر كانط لاختراع منطق جديد بالتوازي مع المنطق الأرسطي وأسماه “المنطق الترانسندنتالي”. تثبت لنا أعمال ابن رشد أن المنطق الأرسطي كان لا يزال صالحاً عنده كأداة لنقد الميتافيزيقا، أي أورجانوناً Organon ، دون الحاجة إلى اختراع منطق جديد.
ونلاحظ كذلك أن قول ابن رشد “والأحق عندهم أن يكون هذا المرور إلى غير نهاية لازماً عن وجود فاعل قديم” يدل على أن توالي وتسلسل حدوث الحادثات إلى ما لا نهاية هو ما يليق بحق القديم، لأن القديم هو ما لا يتوقف عن الفعل وهو أيضاً ما لا يتوقف فعله. فحدوث العالم عند ابن رشد هو حدوث لانهائي، أزلي وأبدي.
ويتضح لنا من النص السابق من “فصل المقال” أن العالم قديم ومحدث في الوقت نفسه عند ابن رشد، قديم بالجنس من حيث كونه كلاً، حادث بالأجزاء؛ وتعد هذه النظرية هي الأفضلية التي يتفوق فيها ابن رشد على كانط في التعامل مع إشكالية القدم والحدوث، بها تكون فلسفة ابن رشد متجاوزة للنقائض الكوزمولوجية الكانطية ومتجنبة الوقوع في الإحراجات المنطقية التي أوضحها كانط. ذلك لأن كانط اعتقد أن العالم إما أن يكون قديماً كلاً وأجزاءً أو حادثاً كلاً وأجزاءً، والحقيقة أن النقائض الكوزمولوجية الكانطية هي بين هذين النوعين المحدودين من القدم والحدوث. لكننا رأينا كيف توسط ابن رشد بين هاتين النقيضتين اللتين قطع كانط بعدم إمكان العقل البشري الفصل فيهما. ويبدو أن عقل كانط وحده هو الذي لم يتمكن من الفصل فيهما، لا العقل البشري كما ادعى هو.قدم لنا كانط الخياران المتناقضان في كل نقيضة على أنهما كل ما هو متاح للعقل البشري، لكن اتضح لنا من النص الرشدي كيف يمكن التوسط وكيف أن الخيار الثالث الوسيط بين القدم والحدوث يمكن تبريره عقلياً وبالبرهان، أي دون الخروج عن قواعد المنطق.
رابعاً – وحدة الوجود هي ما يقتضيه مذهب ابن رشد، وهي المختفية من النقد الكانطي للميتافيزيقا:
الحقيقة أن كانط قد نقد نوعاً واحداً فقط من الميتافيزيقا على الرغم من أن كتابه “نقد العقل الخالص” يوحي بأنه ينقد كل الميتافيزيقا بمختلف أنواعها. وبأنه ينقد كل تفكير ميتافيزيقي. إنه بالأحرى ينقد صنفاً واحداً من التفكير الميتافيزيقي والذي ينتج الميتافيزيقا القائلة بنظرية معينة في النفس والعالم والإله، وهي ميتافيزيقا أفلاطون وفلاسفة العصور الوسطى المسيحيين وديكارت ومدرسته. بالإضافة إلى اقترابها الشديد من فلسفة المتكلمين من معتزلة وأشاعرة. هذه النظرية تنظر إلى النفس على أنها جوهر مستقل عن البدن وتقول بروحيتها وخلودها بعد فناء البدن، وتقول بأن العالم إما قديم أو محدث ولا ثالث لهما، وتقدم أخيراً أدلة وبراهين على وجود الإله، لكنها أدلة وبراهين تثبت وجود الإله المفارق المنفصل عن العالم. ومعنى هذا أن النقد الكانطي للميتافيزيقا لا يستوعب المذهب الأرسطي – الرشدي القائل بوحدة الكيان الإنساني من حيث كونه يتكون من مادة وصورة، أي بدن ونفس لا ينفصلان ولا يحيا هذا الكيان الإنساني بدون اتحادهما، ولا يستوعب كذلك المذهب الرشدي الأصيل القائل بالتوسط بين القدم والحدوث للعالم وبأن العالم قديم ومحدث في الوقت نفسه، ولا يستوعب أيضاً النتيجة المنطقية لفلسفة ابن رشد والتي يقتضيها مذهبه وهي وحدة الوجود، أي النظر إلى الإله على أنه ليس مفارقاً أو منفصلاً عن العالم بل القول بالهوية التامة بينه وبين فعله، وبين هذا الفعل ونتاج هذا الفعل وهو ما يعني بوضوح وحدة الوجود. سوف نوضح فيما يلي كيف أن مذهب وحدة الوجود عند ابن رشد هو الذي ينجح في تجاوز النقد الكانطي للميتافيزيقا، وأن هذا النقد لا يستوعبه ولا يمكن أن يشمله، ليس فقط لأن مصطلح “وحدة الوجود” Pantheism مختفٍ تماماً من “نقد العقل الخالص”، بل كذلك لأن النقد الكانطي هو لنوع واحد فقط من الميتافيزيقا ولا يشمل ميتافيزيقا وحدة الوجود.
يتفق كل من أرسطو والفارابي وابن سينا وابن رشد في القول بأن العالم قديم. واعترض الغزالي على الفارابي وابن سينا لأن القول بقدم العالم هو قول بقديمين، وهذا في نظره قريب من الشرك( )، لأن القديم يجب أن يكون واحداً فقط وهو الله وحده. لكن الشرك الحقيقي هو في القول بشركاء للإله الواحد في الفعل والخلق والإيجاد، أي القول بإلهين أو أكثر. أما القول بقدم العالم عند ابن رشد فليس بشرك، لأن قدم العالم عنده لا يعني أن العالم شريك للإله، ولا يعني كذلك نقصاً في وحدانية الإله؛ فالإله يبقى واحداًَ مع قدم العالم، ويبقى العالم من صنعه وإبداعه مع كونه قديماً، وذلك بناءً على أن العالم هو فعل الإله الدائم والمستمر من الأزل إلى الأبد، ولا يمكن تأخر المفعول وهو العالم عن فعل الفاعل وهو الإله، وكذلك لا يمكن تأخر الإله عن فعله أو تراخيه في فعل هذا الفعل. ولذلك نقد ابن رشد نظرية تراخي الإرادة عند الغزالي والأشاعرة.
لكن لا يمكن التوفيق بين إله قديم وعالم قديم وتجنب الوقوع في الإشكاليات الناتجة عن القول بقديمين إلا بناءً على مذهب وحدة الوجود؛ أي بالذهاب إلى أن القديم واحد، إله وفعل هذا الإله. فالإله وفعله متلازمان، هو قديم وفعله قديم في الوقت نفسه. فالتوحيد الحقيقي هو التوحيد بين الإله وفعله، أما القول بوجود عالم منفصل ومختلف عن الإله حتى ولو كان محدثاً فهو نقص في وحدانية الله، لأن اللإله الواحد الحق هو الذي لا يقف أي شئ في مقابله ويواجهه في تناقض، كأن يكون الإله روحي والعالم مادي، وكأن يكون الإله مفارقاً للعالم وكأنه في مكان فوق العالم أو خارجه. والحقيقة أن مذهب وحدة الوجود هو النتيجة المنطقية التي تقتضيها فلسفة ابن رشد. وسوف نحاول فيما يلي توضيح ذلك من نصوص ابن رشد.
تتمثل الاعتبارات التي تجعلنا نقطع بأن مذهب ابن رشد يؤدي منطقياً إلى القول بوحدة الوجود فيما يلي:

  1. أنه يتبنى النظرية الأرسطية القائلة إن الإله عقل وعاقل ومعقول وإنه لا يعقل إلا ذاته.
  2. أنه يقول بالتلازم التام بين الإله وفعله، وفعل الإله هو العالم.
  3. أنه يقول بأن الإله لا يفعل بآلة، وبأن المخلوقات تصدر عنه بدون وسائط.
  4. أنه يقول بإمكان وجود موجود ليس داخل العالم وليس خارجه، مع رفع التناقض الظاهري في ذلك؛ وهو الإله عنده.
    ولتوضيح كيف أن هذه الأفكار الأربع تشير بقوة إلى وحدة الوجود نشرحها بالتفصيل فيما يلي.
  5. الإله عقل وعاقل ومعقول:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
تبنى ابن رشد النظرية الأرسطية القائلة إن الإله عقل وعاقل ومعقول، وأنه تبعاً لذلك لا يعقل إلا ذاته. لكن أدت هذه الفكرة إلى إشكالية وهي أن الإله على أساسها لن يعقل الجزئيات. ولتجنب هذه الصعوبة ذهب ابن سينا إلى أن الإله يعقل الجزئيات على نحو كلي. وأخذ الغزالي على الفلاسفة الذين يقولون بذلك أن قولهم هذا يؤدي إلى القول بأن صانع العالم لا يعلم صنعه. وقد حل ابن رشد هذه الإشكالية بذهابه إلى أن الصفات ليست زائدة على الذات، بمعنى أنها هي هي عين الذات؛ ولأن العلم من صفات الذات، فالعلم ليس صفة منفصلة عن الذات الإلهية. ومعنى هذا أن الإله باعتباره عاقلاً لا يتعقل بقوة أو ملكة متمايزة عن ذاته، بل يتعقل بذاته نفسها. وبذلك وحد ابن رشد بين العقل وهو الإله والتعقل وهو العلم الإلهي. وكذلك وحد بينهما وبين المعقول. ذلك لأن العالم عنده هو المعقول، وعندما نقول إن الإله عقل وعاقل ومعقول، وعندما نقوم بالتوحيد وإقامة الهوية بين الثلاثة، فكأننا وحدنا بين الإله وفعله ونتاج هذا الفعل الذي هو العالم ومعرفته بهذا العالم؛ وهذه هي وحدة الوجود بعينها. وقد تجاوز ابن رشد إشكالية القول بأن الله لا يعلم الجزئيات بذهابه إلى أن هذه الجزئيات هي صنعه، ومجموعها هو العالم كله، ولأنه يعقل ذاته وفعله، ولأن فعله غير منفصل عنه، فمعنى هذا أن الإله عندما يتعقل ذاته فهو يتعقل العالم في الوقت نفسه، لأن العالم نتاج فعله.
إن حل إشكالية القول بأن الإله لا يعلم إلا ذاته هو مذهب وحدة الوجود؛ فالإله بالفعل لا يعلم إلا ذاته، لأنه ليس هناك في الوجود إلا الإله وذاته وأفعاله. وقد سبق لابن رشد أن وحد بين الذات والصفات، والأفعال أيضاً. إن ذات الإله في هوية تامة مع صفاته وأفعاله عند ابن رشد. صحيح أن الإله لا يعلم إلا ذاته حسب ما يقول أرسطو والفلاسفة المشائين، إلا أن هذه الفكرة لا تؤدي إلى القول بأنه لا يعلم غيره، فليس هناك غير. فحسب مذاهب وحدة الوجود ليس هناك إله مفارق ومنفصل عن العالم ومختلف عنه جوهرياً، لأن الإله ليس له ضد وليس أمامه مقابل؛ وهذا ما تشترك فيه بالرغم من الاختلافات الجزئية بينها.

  1. التلازم التام بين الإله وفعله:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧
أما عن التلازم التام بين الإله وفعله فيقول ابن رشد: “فيلزم أن تكون أفعال الفاعل الذي لا مبدأ لوجوده ليس لها مبدأ كالحال في وجوده”( ). أي أن أفعال الفاعل، التي هي العالم، لامتناهية وقديمة، لأنها أفعاله هو. وهذا هو التوحيد بين الإله وفعله، أي الإله والعالم، أي وحدة الوجود. لقد تبنى ابن رشد مذهب وحدة الوجود على نحو أكثر وضوحاً وصراحة من أرسطو ومدرسته، لأن الإله عند أرسطو هو مجرد محرك أول لا يتحرك، أي أنه ليس له أي دور فاعل في حركة العالم، ذلك لأن العالم عند أرسطو متحرك بذاته حركة شوق إلى المحرك الأول الثابت، وهي حركة غائية فقط، والإله عنده علة غائية للعالم وليس علة فاعلة، لكنه علة فاعلة عند ابن رشد، وهذا هو ما يفصله ويميزه عن أرسطو. والعالم عند ابن رشد ليس صادراً عن الإله على التوالي وفي تسلسل هابط مثلما هو الحال في الأفلاطونية المحدثة وأتباعها الإسلاميين مثل الفارابي وابن سينا، بل العالم صادر عنه مباشرة وهو يفعل مباشرة في العالم دون وسائط. يقول في ذلك: “وإذا كان ذلك كذلك، لزم ضرورة أن لا يكون واحد من أفعاله الأولى شرطاً في وجود الثاني، لأن كل واحد منهما هو غير فاعل بالذات، وكون بعضها قبل بعض هو بالعرض”( ). إن فعل الإله عند ابن رشد واحد، ولا يصدر عنه مفعول يفعل بذاته؛ ونتاج هذا الفعل الواحد هو عالم واحد. ونتاجه هذا ملازم له دائماً، وهذه هي وحدة الوجود.

  1. الإله يفعل بلا آلة:
    أما أن الإله لا يفعل بآلة، أي لا يفعل في العالم بوسيط أو أداة عند ابن رشد، فمعناه أن فعله في العالم مباشر. ذهب ابن رشد إلى أننا لا يمكننا أن نقيس فعل الإله على أفعال البشر، لأن هذا القياس هو قياس للغائب على الشاهد، ولأنه ينطوي على تشبيه الإله بالإنسان. فالإنسان يولد بإنسان يسبقه، وهو يفعل باستخدام وسيط بينه وبين موضوع فعله، لأن هناك انفصالاً بينه وبين موضوعه. لكن الإله ليس في حاجة إلى وسيط كما أنه ليس هناك انفصال بينه وبين موضوع فعله. ومعنى هذا أن الإله هو العلة الفاعلة المباشرة في العالم، ولا يمكن أن يكون علة فاعلة مباشرة إذا كان هناك انفصال بينه وبين العالم، فالإله محايث للعالم، وإرادته هي قوانين الطبيعة ذاتها( ).

القول بموجود ليس داخل العالم وليس خارجه:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

أما عن دفاعه عن القول بموجود ليس داخل العالم وليس خارجه فيقول في ذلك: “..كما أدى البرهان إلى أشياء هي متوسطة بين أشياء يظن بها، في بادئ الرأي، أنها متقابلة، وليست متقابلة، مثل قولنا موجود لا داخل العالم ولا خارجه”( ). ويقصد ابن رشد نظرية أرسطو في موقع المحرك الأول، إذ يذهب إلى أنه إذا كان داخل العالم فكيف يكون محركاً له والحركة تفترض أن تكون هناك مسافة بين المحرك والمتحرك، وإذا كان خارج العالم فكيف يحركه أيضاً وليس بينهما احتكاك. والحل الذي قدمه أرسطو هو القول بأنه داخل وخارج العالم في الوقت نفسه. إنه داخل العالم لكن لا على سبيل احتواء العالم له ولا على سبيل أنه جزء منه، وهو خارج العالم لكن لا على سبيل أنه منفصل عنه. والعالم يتحرك إليه شوقاً، أي حركة غائية وحسب. والواضح أن هذه النظرية تؤدي إلى وحدة الوجود أيضاً.
وأعتقد أن ابن رشد قد تبنى تلك النظرية لكن بكثير من التعديلات ولم يقبلها كما هي موجودة في مذهب أرسطو. فعندما كان ابن رشد يناقش مسألتي الجسمية والجهة في “الكشف عن مناهج الأدلة”، نفى الجسمية تماماً وقام بتأويل الآيات التي تفيد بظاهرها معنى الجسمية، وقد كان واضحاً جداً في ذلك؛ أما عندما أتى على مسألة الجهة فلم يكن بمثل ذلك الوضوح. ذلك لأنه بدأ بالقول بأن “ظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة.. لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء، وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السماء نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي (ص)”( ). وبعد ذلك مباشرة قام بتوضيح موقف المعتزلة في نفي الجهة وذهب إلى أن ما دعاهم إلى ذلك أنهم اعتقدوا أن كل ما في الجهة فهو في المكان وهو جسم: “والشبهة الي قادت نفاة الجهة إلى نفيها، هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية”( ). وينشغل ابن رشد بعد ذلك بإثبات أن القول بالجهة لا يعني إثبات المكان ولا الجسمية. صحيح أنه أثبت للإله الجهة حسب ظاهر الشرع، إلا أنه لم يوضح كيف يكون الإله في جهة دون أن يكون في مكان ودون أن يكون جسماً. وإذا نظرنا في “تهافت التهافت” وجدناه يرفض النظرية القائلة بأن الإله هو نفس العالم، بمعنى أنه ليس هو النفس لجسد هو العالم( )، لأن هذا في نظره يعد تشبيها للإله بالإنسان وينطوي على القول بأن الإله إنسان أزلي( ).
لقد ترك ابن رشد مسألة الجهة دون حسم. لكنني أعتقد أن الحل هو ربطها بما يقتضيه مذهبه من وحدة الوجود. ذلك لأن الإله عند ابن رشد ليس بجسم ولا في مكان لكنه في جهة. وكونه ليس في مكان يعني أنه ليس في مكان واحد جزئي بحيث يكون هذا المكان أكبر منه ويشمله، لكنه في الوقت نفسه في جهة، فكيف نحل هذه الإشكالية؟ أعتقد أن الحل يكمن في القول بأن الإله ليس في مكان واحد بل هو في كل مكان، مما يعني وحدة الوجود. وهذا أيضاً ما تدل عليه الآية القائلة “أينما تولوا فثم وجه الله”، والوجه والجهة متلازمان، وكل مكان به وجه الله، أي جهة لله. وكذلك يقول الكتاب العزيز: “الله نور السموات والأرض”؛ أي أنه نور في السموات والأرض، وليس نوراً خارجهما ينيرهما عن بعد، إنه النور الداخل والمحايث للعالم.
الإله إذن ليس داخل العالم بمعنى أنه ليس جزءاً منه، لكنه داخل العالم باعتبار أنه العلة الفاعلة لكل ما يحدث في العالم حسب نظرية ابن رشد في الخلق المستمر، وإرادته تشمل كل العالم والتي هي قوانين الطبيعة؛ وهو ليس خارج العالم بمعنى أنه ليس منفصلاً عنه ولا يشكل العالم جوهراً مادياً مستقلاً ومنفصلاً عن الإله ذي الجوهر الروحي، فليس هناك جوهران بل جوهر واحد كما يقول سبينوزا، ولكنه خارج العالم بمعنى أنه مفارق للمادة ولا يخضع للتغير والتبدل والتحول الذي يحدث للعالم. أعتقد أن هذا هو المعنى الذي كان يقصده ابن رشد عندما تبنى نظرية أرسطو في الموجود الذي لا هو داخل العالم ولا هو خارجه؛ وهو ما تؤيده نصوص رشدية كثيرة للغاية، خاصة في “تهافت التهافت”( ).
ومن الواضح أن نقد كانط للميتافيزيقا، وبالأخص للكوزمولوجيا العقلية، لا يستوعب هذه الأفكار، وهذا ما يتضح إذا قارناها بالنقائض الأربع التي سبق وأن عرضناها. هذا علاوة على أن كانط قد فصل بين نقده للمذهب الميتافيزيقي في العالم ونقده للبراهين الميتافيزيقية على وجود الإله. فنقده لمذهبي القدم والحدوث يوجد في فصل يسمى “نقائض العقل الخالص” The Antinomy of Pure Reason و ينقد فيه الكوزمولوجيا العقلية، أما نقده لبراهين وجود الإله فهو في الفصل التالي له بعنوان “مثال العقل الخالص” The Ideal of Pure Reason. لكننا رأينا كيف أن ابن رشد لا يفصل بين العالم والإله، سواء في عرض موقفه الخاص في “فصل المقال” و”الكشف عن مناهج الأدلة”، أو في تفنيده للغزالي ودفاعه عن الفلسفة في “تهافت التهافت”. إن كانط فصل بين المذهب الميتافيزيقي في العالم والبراهين الميتافيزيقية على وجود الإله لأنه يفصل من الأصل بينهما، أما ابن رشد فلم يفصل، أولاً لأن الفحص في الإله وفي العالم لا يمكن أن يتم بمعزل الواحد منهما عن الآخر، وثانياً لأن المذهب الرشدي هو مذهب وحدة الوجود، فكان من الطبيعي أن يتناول ابن رشد الإله والعالم معاً وفي تلازم عبر كل مؤلفاته

ا

أكبر موسوعة في تراجم أعلام النساء المسلمات بعنوان الوفاء بأسماء النساء…

طبعت أكبر موسوعة في تراجم أعلام النساء المسلمات، لأخينا العلامة المحدث المسند الدكتور محمد أكرم الندوي الأكسفوردي، حفظه الله تعالى…

الوفاء بأسماء النساء

الحمد لله على أن تمت طباعة كتاب (الوفاء بأسماء النساء) في 43 مجلداً، متضمناً تراجم عشرة آلاف امرأة تقريباً.
وهو كتاب باللغة العربية عكف مؤلفه الدكتور محمد أكرم الندوي على تأليفه وجمعه أكثر من خمس عشرة سنة، ترجم فيه للنساء المسلمات اللاتي اشتغلن بالحديث النبوي الشريف سماعاً له وقراءةً، وإسماعاً له وروايةً، أو استجازة وإجازة، منذ العهد النبوي إلى يومنا هذا، وفي عامة مناطق المسلمين العرب والعجم.
والتقطت هذه التراجم من كتب أسماء الرجال، والمشيخات، وأثبات العلماء وفهارسهم، ومعاجم الشيوخ، والسماعات، المطبوعات منها والمخطوطات، والمحفوظات في بطون الكتب وصدور الرجال، مستفادة من مكتبات دمشق، وتركيا، ومصر، وبريطانيا، وألمانيا، والهند، والمغرب، وغيرها من مكتبات العالم.
ومقدمة الكتاب – وهي مجلدة مستقلة – دراسة تحليلية لمعلومات الكتاب، تلقي الضوء على أهم معالم تاريخ المرأة العلمي الزاهر، والنتائج المهمة التي توصلت إليها، وقد طبعت المقدمة ملخصة باللغة الإنكليزية منذ ثلاثة عشر عاماً، ونالت قبولاً واسعاً، والحمد لله تعالى.
الكتاب مرتب على الطبقات بمعناها الواسع:
أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم (أزواجه أمهات المؤمنين وبناته رضي الله عنهن).
ثم سائر الصحابيات، ثم التابعيات، ثم سائر نساء القرن الثاني.
ثم قسمت التراجم إلى القرون: نساء القرن الثالث، والقرن الرابع إلى نساء قرننا ؛ أي : القرن الخامس عشر.
تحتوي التراجم بصفة عامة على اسم صاحبة الترجمة ونسبها ومولدها وشيوخها ورحلاتها وحياتها العائلية وتلاميذها وتفاصيل مروياتها ووفاتها مع الإحالة على مصادرها مفصلة.
ويحتوي الكتاب على معلومات متنوعة، وأخبار نافعة ممتعة في تراجم نساء كثيرات، ويمكن أن تُحوَّل إلى دراسات تخصصية مفردة.
فمثلاً كريمة المروزية من القرن الخامس الهجري، وشهدة الإبرية وفاطمة بنت سعد الخير من القرن السادس الهجري، وزينب بنت مكي من القرن السابع الهجري، وست الوزراء وفاطمة البطائحية وزينب بنت الكمال من القرن الثامن الهجري، وعائشة بنت ابن عبد الهادي ومريم الأذرعية وأم هانئ الهورينية من القرن التاسع الهجري. وكذلك قبلهن من الصحابيات والتابعيات وبعدهن من نساء القرون المتأخرة.. يستحققن أن يُفردن بدراسات شاملة، وتُخصص جوانب حياتهن المختلفة بالبحث والتحقيق، وتَنال معالمُ سيرهن الاهتمام والدراسة.
إن العالمات – كما يقرر هذا الكتاب – حققن الأهلية التي حققها الرجال من العلماء، تظاهر الرجال والنساء وتعاضدوا على تعليم أمور هذا الدين ونشر أوامر الله تعالى وسنن نبيه صلى الله عليه وسلم في نطاق السنن الإسلامية المعروفة من الحياء والحشمة والوقار.
وكان للنساء نصيب عظيم في جميع مجالات علوم الدين وفروعها، وكنَّ – على ما يثبت هذا الكتاب بشواهد متظاهرة – يُرجَع إليهن في الفقه والفتوى والتفسير، وإنما عُني هنا بإبراز دورهن في مجال الحديث النبوي الشريف.
ومما تميزت به هذه النساء أنهن تنزهن عن التهم التي شابت الرواة من الرجال.
قال الإمام الذهبي: (وَمَا عَلمتُ في النِّسَاء مَن اتُّهِمَت وَلاَ مَن تَرَكُوهَا).
وقال الإمام الشوكاني: (لَم يُنقَل عَن أَحَد من العُلَماء بأنَّه ردَّ خَبَر امرَأَة لِكَونِهَا امرَأَة، فَكَم مِن سُنَّة قَد تَلَقَّتهَا الأُمَّة بالقَبُول مِن امرَأَة وَاحِدَة من الصَّحَابَة، وَهَذَا لا يُنكِره مَن لَه أَدنَى نَصِيب من عِلم السُّنَّة).
وشاركت هؤلاء النسوة الرجال في فقه الحديث وفَهمه، وشرح معانيه وتطبيقه على أنفسهنَّ وأسرهنَّ، والمجتمع كلِّه.
وتحدث الكتاب عن صور من تعبُدهنَّ وذكرهنَّ الله كثيراً، ومحبتهنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقواهنَّ، وصبرهنَّ، وشجاعتهنَّ، وزهدهنَّ، وجودهنَّ، وحيائهنَّ، وحشمتهنَّ، وتواضعهنَّ، وحُسن خُلُقهنَّ، واتباعهنَّ السنن، واجتنابهنَّ البدع، وصلتهنَّ الرحم.
كما تحدث عن نماذج من حياتهنَّ الزوجية السعيدة، وتربيتهنَّ أولادهنَّ، ووعظهنَّ، وإسهامهنَّ في الإصلاح الاجتماعي.
والمتصفِّح لهذا الكتاب الحافل، والمطالع لمقدِّمته الواسعة، يجدُ شهادة عمليَّة في إكرام الإسلام للمرأة، وتحريرها التحرير الحق.
والله ولي التوفيق

“السنة الأمازيغية ” .. أسطورة صهيونية

كلمات
.. إلى العالمين

   من "أنرار" إلى "هرتسوغ" !

“السنة الأمازيغية ” .. أسطورة صهيونية


  ظهرت في السنوات الأخيرة جملة من المظاهر الغريبة التي أثارت و ما تزال تثير أسئلة حول مراميها المريبة، خاصة و أنها تتوجه لأخطر عنصر في هوية المغاربة؛ بعدها الثقافي و الروحي، الذي شكل، على مدى قرون، ذلك الإسمنت المسلح لوحدتهم وتماسكهم الوطني و المجتمعي على حد سواء . 
 ومن هذه المظاهر المستجدة على بلادنا و مجتمعنا، بعض الرموز الملفوفة و المعبأة في قوالب لأساطير غريبة مغلفة 

في سرديات تتبجح بالعلم، مع ان بعضها يصل إلى مستوى الفضائح من المنظور العلمي و يتدثر بعضها بأردية من خطابات حقوقية مزيفة تنطلي على بعض البسطاء في تفكيرهم .. و حتى بعض المفترض أنهم من نخبة الحقوقيين، مع أن بعض هذه الأساطير، فضلا عن لا عقلانيتها، تنبعث منها رائحة عطنة للعنصرية البغيضة !!
من هذه المظاهر و الأساطير ما انكبت عليه الدعاية الصهيونية في السنين الأخيرة في ورش صهينة المكون الأمازيغي عبر صهينة موروثه الثقافي بأسطرته و بربطه ب”الأساطير الجديدة” التي تحضر بها التأسيس ل ” إسرائيل الجديدة ” بالمغرب ( انظر مقالنا السابق حول ” اكتشاف ” أورشليم صغيرة جنوب المغرب ! ) .. من أهم هذه الأساطير ما يسمى؛ “السنة الأمازيغية “ !! التي أصبحت تقام لها الحفلات و الطقوس و تجند لها أرمادا من البروبغندا غير مسبوقة !
فما هي حقيقة هذه الفرية الكبيرة المستحدثة ؟ و لماذا قلنا عنها أنها ” أسطورة صهيونية ” ؟!


هذا ما سنحاول أن نجيب عنه من خلال عرض حقيقة هذه ” السنة الفلاحية ” كظاهرة ثقافية – اجتماعية بالوسط القروي الفلاحي، الأمازيغي و العربي على حد سواء، و كذا من خلال عرض الأساس الأسطوري الذي تحاول أدوات الدعاية الصهيونية من إمازيغن المرتبطين بهذه الأجندة الصهيونية و القيمين عليها بناؤه عليه .
1 – سبع خضار أو إيض سݣاس

أحبوب أم الرمان
أنغاد أم الحنا ! .
هذا واحد من الأبيات الشعرية الأمازيغية المغناة من قبل الفلاحين خلال عملية دراس المحصول الزراعي حيث يرددون خلف كوكبة من البغال و الحمير الموثقة بالحبال و المربوطة بعمود خشبي ( بوݣجدي) يتوسط أكوام الزرع المحصود المجفف لأيام تحت أشعة يوليوز المحرقة، و الجاهز لفرز حبه من قشه تحت حوافر البهائم و أقدام الفلاحين .. و كل ذلك تحت أهازيج الفلاحين و زغاريد نسائهم و ضحكات أطفالهم الذين يسعدون بهذا الموسم السنوي وطقوسه .
تبدأ الدورات الأولى وسط الزرع خلف البهائم بباسم الله و النبي عبر لازمة :
آ باسم الله الرحمن ( يصيح نصف الفلاحين الحاضرين )، فيرد عليه النصف الثاني :
نبدا س ربي د النبي
[ نبدأ متوكلين على الله و على نبي الله ] .
و بعد عدة دورات يتم، بالأمازيغية – العربية دائما، الانتقال إلى لازمة الصلاة على خير من خلق الله في الأنبياء والمرسلين : آ الصلاة على، يصيح أيت تفلليست ( نصف الفلاحين الأقرب إلى تفلليست = البغلة التي في أقصى الكوكبة ) ..
محمد المصطفى يرد أيت بوݣجدي( النصف الأقرب ل أغيول نبوݣجدي = الحمار المربوط للعمود الخشبي ) ..
أخير ن ما يخلق الله ، يقول أيت تفلليست ، فيرد أيت بوݣجدي؛ ݣ الانبيا و المرسلين
… و هكذا تتوالى الأهازيج الأمازيغية أو الامازيغية العربية لغاية الدورات الأخيرة قبل إنهاء العملية التي قد تدوم لساعات حسب حجم المحصول . و هنا يردد الفلاحون لازمة أمازيغية هي :
أحبوب أم الرمان
أنغاد أم الحنا ! .
و معناها بالعربية : إننا نتمنى أن تكون حبوب محصولنا هذه السنة بحجم حبات الرمان .. و ليكن دراس سيقان الزرع موفق حتى نقترب، في سحقه، من سحق الحناء ( مستوى سحق النساء للحناء ) .. لأن القش، او التبن، بقدر ما يكون مسحوقا بقدر ما يساعد البهائم في الهضم و يكون علفا شهيا لها …
هذه اللازمة في عز الصيف، آخر السنة الفلاحية، خلال جمع المحصول الزراعي، تذكر بممارسة طقوسية عند الفلاحين الأمازيغ، و العرب على السواء، في بداية الحرث أواسط فصل الشتاء . ففي هذه الأثناء، يتم اللجوء إلى ما يتم خزنه من بعض الرمانات في الخريف لهذا الموسم حيث يتم تقشيرها و نثر حباتها خلف ” تݣوݣا ” = زوج من الأحصنة او البغال التي تجر المحراث الخشبي فتترك خلفها خطوطا مخروطية تدفن ما تم نثره من بذور القمح و في بداياتها كذلك حبوب الرمان .. أملا في ان تكون الحبوب المبذورة مكتنزة بحجم حبات الرمان ..
هذه هي بعض الطقوس المرتبطة بالسنة الفلاحية التي يحتفي بها فلاحو العالم القروي عموما و فلاحو الواحات وما جاورها في المغرب و الجزائر على وجه الخصوص، عربا و أمازيغ، سواء بسواء .. لا بل إنها تقليد و عرف من التقاليد و الأعراف التي يتميز بها موروث حوض البحر المتوسط ككل، مع اختلافات بسيطة هنا و هناك .. و لعل الأبحاث الأنتروبولوجية والإثنوغرافية أعطت في هذا المجال الشيء الكثير، و نحيل هنا إلى أبحاث الإثنوغرافية الفرنسية التي غادرتنا قبل فترة ، بعد عمر طويل في الأبحاث بمنطقتنا، تلميذة مارسيل موس؛ جيرمان تيون، خصوصاً في كتابها؛
“Il était une fois l’ethnographie” ..
فمثل هذه التمثلات و الاستبشار و حتى المعتقدات و الطقوس التي يختلط فيه الموروث الثقافي البدائي مع الدين الإسلامي، كان من سمات المجتمعات الزراعية و فهم و عقلية و نمط تفكير الفلاحين الأمازيغ و العرب على مستوى كل أقطار المغرب العربي الأمازيغي . لذلك فإن إسم السنة الفلاحية الجديدة لدى سكان هذا المجال الحضري المغاربي يحمل إسمين يستعملان بنفس المعنى؛ “سبع خضار” أو ” إيض سݣاس” الأول – كما هو مفهوم من الكلمتين اللتين يتكون منهما – مستمد من الاحتفال ليلة رأس السنة الجديدة التي توافق ليلة الثالث عشرة من شهر يناير الغريغواري ( فاتح يناير الفلاحي )؛ هذا الاحتفال الذي يتم باكلة الكسكس الجناعية، مهيأة في قصعة بست خضر مختلفة، و سابعها نواة تمرة من يعثر عليه خلال الأكل يكون الشخص المبارك في العائلة على مدى السنة الجديدة! . أما الإسم الثاني فترجمته الحرفية هي : ليلة السنة، (الجديدة يعني ) !

  هذا هو أصل السنة الفلاحية الجديدة، و تهم المجتمعات الزراعية في *الجماعات القاعدية* ( بالتعبير الأنتربولوجي )؛ الأمازيغية و العربية على السواء .

فمجال القصة كلها إذن بين إݣر = الحقل و أنرار = البيدر .. و لا تتعداها !
لكن ..
لكن الأسطرة دخلت على الخط في السنوات الأخيرة، بإشراف من خبراء الكيان الصهيوني وأدواته بالمغرب، و ذلك في سياق أجندة خطيرة جداً على المغرب و المغاربة و المغاربيين بشكل عام .

2 – ” السنة الأمازيغية ” الأجندة الصهيونية و الفضيحة العلمية !
سنعرض هنا، و في المرفقات، ما يثبت صهيونية و فضائحية و أراجيف” الأسس العلمية ” !! التي أقيمت عليها أسطورة ” السنة الأمازيغية” !

أ – الأجندة الصهيونية
تبدأ الادبيات الصهيونية في أساطيرها المؤسسة التي تحاول بها اصطناع الهوية الجديدة للأمازيغ من الأصول حتى تحضر بذلك التربة الخصبة لاستنبات الفسائل اللازمة لمقومات و مرتكزات هذه الهوية الجديدة التي يجب ان تنتهي للتماهي مع الأطروحة الصهيونية .. و من منظري الصهاينة في هذا المجال نستعرض رأي ثلاثة منهم على سبيل المثال وتمثلهم لصهينة الأمازيغ ..
في مقال ل دافيد بن سوسان تحت عنوان : ” سر ضياع قبائل بني إسرائيل العشر : قبائل شمال إفريقيا البربرية “ ينتهي، بعد عرض مستفيض لبحث آرثر كوستلر عن مملكة الخزر كقبيلة اليهود الثالثة عشر، إلى تقديم بحث على منواله و يعتبر البربر ( الأمازيغ) بشمال المغرب القبيلة اليهودية الرابعة عشر .. و يختم بحثه بسؤال “إشكالي” من صميم الخبث الصهيوني :
” فهل يتعلق الأمر بقبائل بربرية تهودت أم بقبائل يهودية تبربرت ؟ ” .
و النتيجة في بحث بن سوسان إذن هي أن البربر في كلتا الحالتين “يهود” !
.. وبرابرة شمال إفريقيا يهود إذن، و لأنهم هم السكان الأصليون بهذا المجال الحضري ( شمال إفريقيا) فإن غيرهم من السكان، (أي العرب ) دخلاء و مجرد غزاة يجب يوما أن يغادروا .. و لذلك قال برنار هنري ليفي في محاضرة له في مرسيليا عن الجزائر :
الجزائر ليست لا عربية و لا مسلمة، و إنما يهودية و فرنسية !
” l’Algérie n’est ni arabe ni musulmane mais plutôt juive et Française” !
أما بروز ماديوايزمان*، الأنتربولوجي و كبير الباحثين في معهد موشي دايان، المتخصص في الأمازيغية، فأكد في محاضرته للخبراء، قبل سنوات، في أحد معاهد تل ابيب، على أهمية و حيوية أن تصبح *” الحركة الأمازيغية مشروع حليف استراتيجي ل ” إسرائيل ” !!* و هو المشروع الذي انكب عليه فنشر عدة أبحاث و مقالات قبيل و خلال حراك 20 فبراير و حراك الريف و غيرهما من الحراكات التي انصهر فيها رفقة مخبريه و مرشديه الذين جابوا به كل تضاريس المغرب .
بروز مادي وايزمان الذي نتابع خطواته و مشاريعه التلغيمية في المرصد المغربي لمناهضة التطبيع، هو الذي كان موضوع نقاش في إحدى الندوات فقال عنه الدكتور حسن أوريد، بعد أن تحدث عنه و عن عمله التخريبي ممثل المرصد في الندوة، …” … و له شبكة ! “!
ب -“شيشناق” و الفضيحة العلمية !
ليعطي ” منظرو” الهوية المزوغية المتصهينة الجديدة هالة لأساطيرهم، كان لابد أن يبحثوا لهم عن أمجاد و ملاحم في التاريخ. . لذلك عمدوا خلال بناء أسطورة “السنة الأمازيغية” إلى ربطها بعظيم من العظماء، فكان أن نزل اختيارهم على شيشناق الفرعون الذي ادعوا انه أمازيغ من الجزائر !
و للرفع من قدرهم، من خلاله، اقاموا ونسجوا له قصصا وحروبا و بطولات في مواجهة الفرعون رمسيس الثاني، ” الذي هزمه الفرعون الأمازيغي شيشناق العظيم في حرب ضروس! و اعتلى إثر انتصاره المظفر عليه عرش مصر …الخ” ..
منظرو المزوغية المتصهينة عند مواجهتهم باستحالة ذلك لاختلاف أزمنة كلا الأسرتين الفرعونيتين، حاول بعضهم أن يستدرك بالادعاء أن الأمر يتعلق برمسيس الثالث و ليس الثاني !!
مسخرة حقيقية !!
مسخرة لأنه، لا رمسيس الثاني و لا رمسيس الثالث عاشا في زمن شيشناق العظيم !!
فرمسيس الثاني مات سنة 1213 ق.م .. أما رمسيس الثالث فمات سنة 1155 ق.م، في حين تولى شيشانق الأول الحكم سنة 950 ق.م .. !!
فكيف يكون شيشناق المظفر قد حارب وهزم فراعنة ماتوا قبل ولادته بما يزيد عن قرنين ؟ !!!
***
هذا هو أساس “السنة الأمازيغية ” التي تحاول المزوغية أن تركبها على السنة الفلاحية بأسطرتها .. أما لماذا كل هذا؟! فجوابه عند بن سوسان و أطروحة “القبيلة الرابعة عشر ” لبني إسرائيل .. و عند برنار هنري ليفي و عند بروز مادي وايزمان .. و عند لحسن أو سي موح و اكتشافه ل ” أورشليم صغيرة” ولقبور أنبياء اليهود بجنوب المغرب … و عند كل الجند المجندين وراء وايزمان و ضابط جيش الحرب الصهيوني سكيرا في ” محبي إسرائيل في المغرب الكبير ” المعبئين لإدخال هذه ” السوسة” في أوساط الطبقات الشعبية ..

   و لمن لم يفهم ولم يستوعب جيدا بعد، فليتأمل خبر الإعلان عن الاحتفال بمركز *حاييم  هيرتسوغ* لدراسات الشرق الأوسط والدبلوماسية في الكيان الصهيوني بمناسبة السنة الأمازيغية الجديدة 2971 !

و لمن لم يستوعب، حتى بعد كل هذا، فما عليه إلا أن يعود للندوة الصحفية لكل من المرصد المغربي لمناهضة التطبيع و مجموعة العمل الوطنية من أجل فلسطين ( متوفرة على اليوتوب) و سيفهم معنى تأطير ضباط و حاخامات في جيش الحرب الصهيوني تداريب على فنون القتل بضمير مرتاح، تحت راية الأكاديمية البربرية لمصممها اليهودي الصهيوني جاك بيني و بالتلمود !
عندهما .. (راية جاك بيني و التلمود) بيد الحاخام يهودا أفيكسير .. سيفهم من لم يفهم كل شيء .. حتى لو كان من الحجارة أو خشبا مسندة !

بقلم د. أحمد ويحمان

منهج إبن رشد(595ه) في الاستدلال بين الدين والفلسفة

يُعدْ أبن رشد من الفلاسفة التوفيقين الذين اجهدوا أنفسهم للتوفيق بين الدين والفلسفة أو بين (النقل) و (العقل) فهو يرى أن ثمة توافقاً قائماً بين (الحكمة) وبراهينها العقلية وبين(الشريعة) المستندة على الوحي والنص، وفي هذا المنهج تتأخى (الحكمة) و (الشريعة) ويتزامل (العقل) مع (النقل) .

وأبن رشد يؤكد هذا المنهج بقوله: »اذا كانت الشريعة حقاً، وداعية الى النظر المؤدي الى معرفة الحق ، فأنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لايؤدي النظر البرهاني الى مخالفة ماورد في الشرع فأن الحق لايضاد بالحق بل يوافقه ويشهد له« .

وقد استخدم ابن رشد التأويل لرفع التعارض والتناقض بين النصوص الشرعية وبين الحقائق اليقينية التي تجئ ثمرة البرهان عند أهل النظر والمشتغلين بصناعة الحكمة. وهو يقطع بصلاحية التأويل في كل المواطن والمواقف التي يبدو فيها التعارض بين ظواهر النصوص ومعطيات البرهان، والتأويل عنده: »هو أخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية الى الدلالة المجازية من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهة أو بسببه او لاحقه أو مقارنة أو غير ذلك من الاشياء التي عددت في التعريف اصناف الكلام المجازي«  .

ورغم أيمانه بأستخدام التأويل لرفع التناقض بين النصوص الشرعية والبراهين الفسفية، الا أنه لايتوسع في التأويل كثيراً الى الحد الذي يؤدي الى الغاء معنى النص القرآني، ذلك أنه كان راسخاً في العلوم الشرعية والعلوم العقلية معاً لذا لم يقع في مثل ماوقع غيره كالفارابي وابن سينا من مخالفات صريحة لقواعد التفسير وأصوله حين أسرفوا في تاويل النص الالهي، وبذلك تقول: »والفلسفة تفحص عن كل ماجاء به الشرع فأن أدركته استوى الادراكان، وكان ذلك اتم في المعرفة، وان لم تدركه اعلمت بقصور العقل الانساني عنه وان يدركه الشرع فقط .

ويبدو لي أن أبن رشد في قوله بالتأويل حاول رفع التداخل بين المصطلحات اللفظية واتجاهتها وبين مضامينها وابعادها، واعطاء كل لفظ مضمونه الخاص به على مستوى البحث المطلوب والغاية المنشودة منه، أي أنه ادخل المجازات اللغوية للحد من الاشكالية الفكرية والمنهجية للتوفيق بين (النقل) و (العقل)، وزواج بين المباحث الفلسفية والمباحث اللغوية في البرهنة الطبيعية، والالهية، والكلامية، والتفسيرية، ولايسقط الاتصال بينها نظراً للتداخل بين هذه العلوم ، لذا استخدم التأويل باعتباره السبيل الوحيد لازالة التعارض الذي يبدو احياناً بين ظواهر النصوص ومعطيات البرهان العقلي، وهو يؤكد ذلك بقوله: »ونحن نقطع قطعاً ان كل ما أدى اليه البرهان، وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي، وهذه قضية لايشك فيها مسلم ولايرتاب فيها مؤمن« .

وابن رشد لايخرج من ضوابط النص الشرعي لذا فالتأويل عنده ماشهدت له (الفاظ) الشرع وظواهر نصوصه وبذلك يصرح في كتابة فصل المقال: »أنه ما من منطوق به الشرع مخالف بظاهره لما أدى اليه البرهان، الا اذا اعتبر وتصفحت سائر اجزاءه، وجد في الفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التاويل، او يقارب ان يشهد، ولهذا المعنى اجمع المسلمون على انه ليس يجب ان تحمل الفاظ الشرع كلها على ظاهرها ولا ان تخرج كلها عن ظاهرها بالتاويل« .

وهو بالتزامه بالضوابط الشرعية في تفسير النصوص انما ينطلق من اصول عقيدته الاسلامية وباستخدامه المقدمات العقلية الموصله الى النتائج البرهانية انما يؤكد ايضاً بان الشرع بذاته قد اوجب النظر الفلسفي واعمال العقل، فالاعتبار الشرعي يقضي باستخراج المجهول من المعلوم، لذا فهو يرى ان التاويل والاستنباط في حالة الدلالة افضل الوسائل لمعرفة الله سبحانه وتعالى فيقول »واذا تقرر ان الشرع اوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس اكثر من: استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه، وهذا هو القياس، او بالقياس، فواجب ان نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي.

وبين ان هذا النحو من النظر، الذي دعا اليه الشرع، وحث عليه، هو أتم انواع النظر باتّم أنواع القياس، وهو المسمى برهاناً« .

ورغم اعتماد ابن رشد منهج التاويل في تفسير الالفاظ التي لايمكن حملها على ظاهرها الا انه كان يتبع قواعد التفسير المعروفة ولايتعسف بأستخدام التأويل بأدخال تأويلات بعيدة عن الجو البياني للأيات القرآنية وأنه يفسر تلك الايات كما هو المتبادر في فهمها في أول نظرة. وهو يرى أن تلك الطريقة هي الطريقة المثلى في فهم معاني الايات القرآنية، لذلك فهو يطلق على هذه الطريقة أسم (الطريقة النظرية)، وهي التي أمر الله تعالى بها الناس في كتابه الكريم لأنهم يدركونها بنظرهم وهي طريقة الجمهور والخواص معاً، فالجمهور يفهمون ظاهرها والخاصة من العلماء والحكماء يتعمقون في معانيها، فالاختلاف بينهما في التفصيل ليس الاّ .

وابن رشد في كلامه عن فهم الناس لمعاني الالفاظ الشرعية والبرهانية يذكر ثلاثة أصناف منهم :

الاول: الخطابيون، وهم الجمهور الغالب ممن ليسوا من أهل التأويل، وهؤلاء تستجيب للوعظ والارشاد والادلة الخطابية وأنها غير مهيأة للاستدلال المنطقي المنظم، وتلك العقول موجودة في جميع الناس وهم السواد الاعظم الذين لايستجيبون الا للخيال والعاطفة.

الثاني: الجدليون، وهم اصحاب التأويل الجدلي سواء كان ذلك بالطبع فقط أو بالطبع والعادة، وهؤلاء اصحاب العقول المنطقية التي تكتفي بالبراهين الجدلية.

الثالث: البرهانيون، وهم أهل التأويل اليقيني بالطبع والصناعة، أي صناعة الحكمة، وهؤلاء اصحاب العقول القادرة على الاستدلال بالادلة البيانية المحكمة للوصول الى نتائج يقينية ضرورية، وهذه العقول لاتتوفر الا لقلة من الناس اصحاب الموهبة وهم الخواص.

أن فهم القرآن الكريم ووجوه اعجازه في رأي أبن رشد ميسر للاصناف الثلاثة فكل منها يتبين الحق فيه بمايتفق مع قدرته العقلية فليس هناك مشكلة في فهم الايات المحكمة فالجميع يفهمونها ويدركون معناها بشكل واضح، أما الايات المتشابهة فلا يفهمهاالا الفلاسفة وحدهم لما فيها من أمثال ومجازات فهم اصحاب العقول الذين يستطيعون أدراك التسلسل الدقيق للاستدلال، وهم الذين يفهمون المعنى الاعمق، أما الجمهور فانهم يفهمون ظواهر النصوص ومعناها الحرفي فقط، وهؤلاء لايسمح لهم بالنظر الى المعنى البعيد الخفي لتلك الايات لانهم لا يستطيعون سبر اغواره فيتزعزع ايمانهم .

ويتضح ان منهج ابن رشد يقوم على التوفيق بين (الشرع) و (العقل) لاثبات وحدانية الله تعالى والوهيته الحقة، وانه استخدم المجاز اللغوي والتأويل المنضبط لتفسير النصوص المقدسة، لذا فانه لم يجار الفلاسفة وطريقتهم بأثبات الوحدانية عن طريق نفي الكثرة المتعددة، وأنه تعالى لايتركب من أجزاء، اذ انه تعالى لو كان كذلك لاحتاج الى كل جزء من أجزاءه للضرورة أذ لايوجد الكل الا بوجود اجزاءه. والاحتياج علامة الحدوث، والله تعالى منزه عن ذلك. والفلاسفة بذلك نفوا أن يكون مع الله الهاً آخر .

كذلك فأن أبا الوليد لم يتابع المتكلمين في برهانهم لأثبات الوحدانية في الذات الالهية عن طريق : نفي ( الكم المتصل)* و( الكم المنفصل)**، وأثباتهم الوحدانية في الصفات بنفي (الكم المتصل) و (الكم المنفصل) أيضاً وأثبات الوحدانية في الافعال بنفي (الكم المنفصل) فقط .

وأبن رشد أنما أستخدم مسلكه التوفيقي وأستدل بذات الآيات القرآنية الكريمة التي أستدل بها الطرفان (الجمهور والمتكلمون) لكنه أخضع تلك الآيات للتأويل العقلي المنضبط بضوابط الشرع واللغة، منتقدا طريقة المتكلمين خاصة في الاستدلال لما أدت اليه من تفريع لامبرر له.

وهذا ماسنبحثه فيما بعد، بعد استعراض أدلة الجمهور والمتكلمين لأثبات وحدانية الله تعالى والوهيته وهي ذات الادلة التي أستدل بها وبرهن عليها وفق منهجه التوفيقي.

🔵اضطــــراب الهويــــــــة الجنسيــــــــة

إهتم علماء النفس بالجنس ووصفوا مراحل النمو بدقة واهتموا اهتمامًا شديدًا بالهوية الجنسية .
الهوية الجنسية بصورة مبسطة هى أن يعرف الطفل أو الشخص أنه ذكر أو أنثى وينتمي لجنسه في الشكل والمضمون قلبًا وقالبًا، فنحن نؤكد على أهمية مرحلة الطفولة في حياة الفرد وذلك للتعرف على الهوية الجنسية وتأثير تلك المرحلة فيما بعد في دوافع وسلوكيات الفرد “Instinct model”
مع أهمية تناول مراحل النمو والتطور عند الطفل ونؤكد على أهمية معرفة الطفل لجنسه..
أنا ولد ذكر XY أرتدي ملابس الذكور، ألعب مع الأولاد الذكور، أميل لأمي أكثر من أبي ومثلي وقدوتي أبي.
أنا بنت أنثى XX أرتدي فساتين الإناث، ألعب مع الإناث، أميل إلى أبي ومثلي الأعلى أمي.
النقاط التشخيصية للاضطراب كما ورد في جمعية الطب النفسي DSM IV:
اضطرابات الهوية الجنسية
أ.تماهي شديد ومستديم بالجنس الآخر (وليس مجرد رغبة بأية مزايا ثقافية مفهومة لأن يكون المرء من الجنس الآخر).. يظهر الاضطراب عند الأطفال بأربعة أو أكثر من المظاهر التالية:
رغبة يُكرر التصريح عنها أو إصرار على أن يكون أو تكون من الجنس الآخر.
عند الصبيان: تفضيل إرتداء ملابس الجنس الآخر أو تقليد الزى الأنثوي.
عند البنات: الإصرار على إرتداء الملابس الذكورية النمط فقط.
تفضيلات شديدة ومستديمة للعب أدوار الجنس الآخر في الألعاب الخيالية أو التخيلات المستمرة لأن يكون من الجنس الآخر.
رغبة شديدة بالمشاركة في الألعاب النمطية وتسالي الجنس الآخر.
تفضيل رفاق اللعب من الجنس الآخر.
يتظاهر الاضطراب عند المراهقين والبالغين بأعراض مثل الرغبة الصريحة في أن يكونوا من الجنس الآخر أو محاولات متكررة للتنقل بوصفهم من الجنس الآخر أو الرغبة في أن يعيشوا أو يعاملوا على أنهم من الجنس الآخر أو القناعة بأن لديهم مشاعر نموذجية و ردود أفعال الجنس الآخر.
ب. انزعاج مستديم من جنسه أو الإحساس بعدم ملاءمته في الدور الجنسي لجنسه الفعلي..
يظهر الاضطراب عند الأطفال بأى من المظاهر التالية:
عند الصبي: الإصرار على أن القضيب أو الخصيتين مقززة أو أنها ستختفي، أو الإصرار على أنه من الأفضل عدم إمتلاك قضيب أو النفور من الألعاب الخشنة ورفض الألعاب والأنشطة الذكرية النمطية.
عند البنات: رفض التبول في وضعية الجلوس أو الإصرار بأنه سينمو لديها قضيب أو الإصرار أنها لا تريد أن ينمو ثدياها أو أن تحيض أو نفور صريح من اللباس النسوي المعهود، ودائمًا ما تجلس جلسة الأولاد الذكور منفرجة الساقين.
يظهر الاضطراب عند المراهق والبالغ بأعراض كالانشغال بالتخلص من الخصائص الجنسية الأولية والثانوية مثل:
التماس الهرمونات أو الجراحة أو إجراءات أخرى لتبديل الخصائص الجنسية ماديًا من أجل محاكاة الجنس الآخر، أو الاعتقاد بأنه قد ولد ضمن الجنس الخطأ.
ج. لا يتوافق الاضطراب مع حالة خنثوية جسدية.
د. يسبب الاضطراب اختلال في الأداء الاجتماعي أو المهني أو الأكاديمي.
اضطراب الهوية الجنسية وفقًا للمرحلة العمرية
1.اضطراب الهوية الجنسية عند الأطفال.
2.اضطراب الهوية الجنسية عند المراهقين أو البالغين.
وأيضًا يحدد إذا كان للأشخاص الناضجين جنسيًا:
�منجذب جنسيًا إلى الذكور.
�منجذب جنسيًا إلى الإناث.
�منجذب جنسيًا إلى الاثنين.
�غير منجذب جنسيًا لأى منهما.
إحصائيات وأرقام:
وجد أن حدوث هذا الاضطراب في الأطفال يحدث في المراحل المبكرة للطفولة عند سن دخول المدرسة، فنجد الآباء يشكون من أن حدوث تبادل سلوكيات الهوية الجنسية في الأطفال تكون واضحة غالبًا قبل سن 3 سنوات، وهذا السن الطبيعي الذي يبدأ فيه الطفل في التعرف على نوعه إذا كان ذكر أم أنثى.
ولوحظ أن الأطفال الذكور عند سن 12 سنة حوالي 10% منهم يعانون من الرغبة في الجنس الآخر وبالنسبة للإناث حوالي 5%، ونجد هذا الاطضراب بالنسبة للأطفال حوالي 4 – 5 ولد لكل بنت، وبالنسبة لحدوث هذا الاضطراب في البالغين:
من أدق الإحصائيات على مستوى العالم، مع مراعاة أن المجتمع الغربي يختلف عن المجتمع الشرقي في عاداته وتقاليده..
معدل الانتشار في 1 : 30000 الذكور لـ 1 : 100000 الإناث.
معظم المراكز الطبية تفيد بأن 3 – 5 رجل يعاني من الاضطراب لكل سيدة، ولوحظ أيضًا أن معظم البالغين الذين عانوا هذا الاضطراب عانوه من الطفولة.
الأسبـــــــــــاب :
1.العوامل البيولوجية:
إن هرمون الأندروجين يلعب دورًا أساسيًا في تشكيل الجنس وتحديد نوعه، فهو مهم لنمو الخصيتين، وأيضًا كروموسوم Y مهم جدًا.
إن بعض الهرمونات Sex steroid هى المسئولة عن التعبير عن السلوك الجنسي في الذكر والأنثى، فنجد هرمون التستوستيرون هو المسئول عن زيادة إحساس النشوة والرغبة الجنسية في المرأة، أما الاستروجين فهو يقلل هذا الإحساس عند الرجل.. ولكن الملامح الخاصة بالهوية الجنسية عند الرجل أو السيدة ترتبط بشدة بأحداث الحياة المحيطة والبيئة المحيطة بالطفل بعد الولادة.
2.العوامل النفس اجتماعية
من المهم أن نعي جيدًا أن الهوية الجنسية تنمو عادة عند الطفل منذ الصغر ومن خلال طريقة الرعاية والتربية على أنه ولد أم بنت، فالهوية الجنسية تعتمد على التفاعل بين إحساس الطفل بنفسه والرعاية المقدمة من قبل الوالدين.
منذ قديم الأزل نجد الطفل الولد يلعب الألعاب الخشنة أما البنات فتلعب بالعروسة، ولكن لوحظ في الأعوام السابقة تداخل الاهتمامات النوعية، فبعض الذكور يتعاملون بما يشبه طريقة الإناث في التعامل (الرقة والنعومة)، وبعض الإناث يتعاملن (بخشونة وعنف) وذلك في مواقف لا تستدعي ذلك..
والمحلل النفسي يعتقد أن هناك علاقة بين مشاكل الهوية الجنسية والصراعات

الداخلية نتيجة تجارب تُظهر أن هناك ما يتعارض مع حب الطفل للجنس الآخر فمثلاً:
الولد (ذكر) يميل إلى أمه (أنثى) والبنت (أنثى) تميل إلى الوالد (ذكر)
علاقة الأب والأم تفاهم وارتباط وحب، ويمثل الأب بالنسبة للبنت الحماية والقوة.. بينما تمثل الأم للولد الحب والعطف والحنان.
هذا يحدث في مرحلة معينة (3 – 6 سنوات) وخلال هذه المرحلة نجد أن الطفل يتحسس العضو الذكري ويعاقبه الآباء على ذلك بالرغم من أن هذا طبيعي، من الطبيعي أن يتحسس الطفل جسده ويعرف إذا كان ذكرًا أم أنثى.
وخلال هذه المرحلة مهم جدًا مدى قوة العلاقة بين الأم والطفل وذلك خلال المراحل الأولى من الطفولة في تدعيم وبناء الهوية الجنسية، فالأم تسهل طبيعيًا مدى انتباه الطفل لهويته الجنسية.. فمثلاً يمكن من خلال علاقة الأم بأطفالها أن ينتبه الطفل أنه أكثر أهمية إذا كان ذكر أو العكس إذا كان أنثى، ويمكن أن تتزايد مشاكل الهوية الجنسية عند الطفل في حالة غياب الأم أو وفاتها فيحاكي الطفل شخصية أمه وذلك يقوم باستبدال دورها، وأيضًا لا نستطيع إغفال دور الأب وأهميته في حياة الطفل.
التشخيص والملامح الإكلينيكية
إن تشخيص اضطراب الهوية الجنسية ينقسم إلى مجموعتين:
1.cross gender identification

  1. Discomfort with assigned gerder role
    تفضيل إرتداء ملابس الجنس الآخر.
    الرغبة الشديدة في المشاركة في الألعاب النمطية للجنس الآخر.
    تفضيل رفاق اللعب من الجنس الآخر.
    الرغبة المتكررة في الانتماء للجنس الآخر.
    تفضيل لعب أدوار الجنس الآخر حيث يلعب الأولاد أدوار البنات (عروسة مثلاً) وتلعب البنات أدوار رجال (عريس مثلاً).

اضطراب الهوية الجنسية في الأطفال
هناك تجاوزات في اضطراب الهوية الجنسية في الأطفال، فالبرغم من أن بعض الأطفال الذكور الذين نشأوا في بيئة متوازنة يتعاملون بطريقة أنثوية أكثر من أنوثة البنات، والأطفال الإناث اللاتي نشأن في بيئة متوازنة يتعاملن بخشونة وسلوك ذكوري أكثر من الذكور.
بالنسبة للإناث ترفض البنت التبول في وضعية الجلوس، وتصر على أنه سوف يكون لديها قضيب، ترفض الإحاضة أو أن ينمو ثديها.
بالنسبة للذكور ينشغلون بالأنشطة النمطية للبنات، يفضلون إرتداء ملابس الإناث ويشاركون في ألعاب الإناث.
مفارقات التشخيص في الأطفال:
1.البنت المسترجلة Tom boys with gender identity disorder
في البنات لا يوجد مشكلة بالنسبة لإرتداء ملابس البنات بصورة وظيفية على العكس في بنات اضطراب الهوية الجنسية اللاتي يرفضن إرتداء ملابس الإناث، وفي التشخيص لابد أن نستبعد أن البنت فقط مسترجلة شكلاً.
2.مخنث الهيرمافرودايت Anatomical intersex

اضطراب الهوية الجنسية في البالغين والمراهقين
تتشابه الأعراض والعلامات للاضطراب في البالغين والمراهقين في صورة رغبة الفرد أن يعيش أو يعامل كالجنس الآخر، وبعضهم يعتقد أنهم ولدوا في الجنس الخطأ.. فمثلاً نجد بعض منهم يقولون (أنا ست “سيدة” بس في قالب رجل) أو (أنا رجل بس في قالب ست “سيدة”).
نجد أن البعض منهم يلجأ إلى العمليات الجراحية لتغيير المظهر الخارجي.
تلجأ بعض الفتيات إلى إخفاء الثدى بقطع من الملابس الضيقة جدًا أو أحيانًا استعمال ما يسمى بالـ “كورسيه”.
وأنا بنفسي رأيت فتاة أحضرها أهلها للعيادة وقد وضعت شاربًا مستعارًا وأقامت علاقات عاطفية مع كل بنات الحى الذي تسكن فيه بصفتها ولد.
حلاقة الشعر مثل الأولاد تمامًا.
ينشغل الفرد بتغيير الملامح الأولية والثانوية للجنس وإكتساب الملامح الجنسية للجنس الآخر المرغوب فيه.
اضطراب الهوية الجنسية أكثر حدوثًا في الرجل عن المرأة فمثلاً نجد 1 : 30000 للرجال ، 1 : 100000 للنساء.
حالــــــــــة
سيدة عمرها 27 سنة اشتكت من الآتي:
بأنها تشعر منذ الطفولة أنها مختلفة عن باقي البنات.
أنها كانت لا تعرف مصدر هذا الإحساس بالاختلاف.
كانت تستمتع باللعب مع الأولاد مثل الرياضة والكرة.
تفضل إرتداء الملابس التي تشبه ملابس الأولاد الذكور أو الملابس التي لا يغلب عليها الطابع الأنثوي.
العديد من الناس قالوا عنها (بنت مسترجلة).
دائمًا لديها رغبة في إخفاء ثدياها وإرتداء الملابس الفضفاضة.
بدأت تنجذب في آخر عشر سنوات جنسيًا للسيدات ولكن أيضًا لم تشعر براحة فهى تشعر بأنها رجل.
غيرت اسمها إلى اسم رجل وأخذت هرمون اندروجين وبدأت تعيش الحياة كرجل.
مسار ومآل الإضطراب
1.في الأطفال:
هذا الاضطراب يحدث في الأطفال الذكور ما قبل سن 4 سنوات، والإناث الأكثر حداثة في السن.
ويحدث في الشواذ جنسيًا Homosexuality 1/3 : 2/3
2.في البالغين:
الاضطراب يبدأ من سن الطفولة حيث يشعر الشخص بعدم الراحة، والضيق من الهوية الجنسية الحالية.
2/3 من الحالات الرجال الذين يعانون اضطراب الهوية الجنسية ينجذبون جنسيًا إلى الأشخاص من نفس الجنس، أما اضطراب الهوية الجنسية في الرجال الذين ينجذبون جنسيًا إلى النساء يكون أقل حدوثًا.
يكون غالبًا المسار في هذه الحالات مستمر.

العـــــــــــــــلاج
-علاج التوتر والقلق عند هؤلاء الأفراد حيث أن هناك صراع داخلي للاحساس بالرغبة في نفس الجنس.
-التثقيف الصحي للأسرة وتقديم الدعم والمساندة لهذه الأسر.
-التربية الجنسية الصحيحة حيث تزدهر هذه المماسات في ظل غياب الدين والتوعية الدينية الصحيحة الناضجة وغياب دور الوالدين في التربية والتوعية بأمور الحياة ومنها الأمور الجنسية خصوصًا صغار السن وعدم فهمنا الكامل لما يجري حولنا وأيضًا وفرة الصور والأفلام بشتى أنواعها.
-الوعى التربوي الديني لقبول فطرة الله التي فطر الناس عليها وتهيئة العقل والمشاعر والعواطف لقبول الصورة التي أرادها الله لكل منا، ورفض ثقافة قبول الأمر الواقع في المشاعر والأحاسيس وهو ما يوجد الآن في الثقافات الممسوخة.
-عدم كبت المشاعر الجنسية الطبيعية وعدم تجريمها واستقذارها في نفوس الأطفال الصغار، بمعنى عدم تصوير العلاقة العاطفية والجنسية بين الأم والأب على أنها جريمة أو قذارة أو إنكارها بالكذب.
-قبول وجود البنت في الأسرة كإنسان له الحقوق والواجبات وعدم إجبارها على أن تكون مسترجلة في الملبس والكلام بدعوى حمايتها من الأولاد، أو لتصور خاطئ بأن حماية الطفل والطفلة من الإنحراف يكون بتجريم هذه المشاعر الطبيعية النامية في بداية المراهقة..فيشعر المراهق أو المراهقة بالإثم الشديد عند شعورهم الطبيعي بالميل نحو الجنس الآخر فلا تجد هذه المشاعر متنفسًا إلا بتديل إتجاهها.. فينمو ويكبر الطفل ولا يعرف ما هو طبيعي والحلال والمقبول ولا ما هو غير طبيعي وحرام وغير مقبول.. و تبدو المسألة أكثر براءة في بداية الأمر ثم تتطور بعد ذلك.
-حماية الطفل من آثار الفضائيات والإنترنت والأفلام وأهمية الوقاية والوعى حتى لا يعتاد على اعتبار أن هذه الممارسات هى ممارسات طبيعية أو أنه حر في إختيار أو تبديل مشاعره أو ممارساته.
-البالغين والأشخاص الأكبر سنًا الذين يعانون من هذا الاضطراب يطلبون العلاج الجراحي أو الهرمونات وهو ما نرفضه نحن كمسلمين لأنه يعتبر تغيير لخلق الله وفطرته التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، نحن نتدخل فقط لعلاج القلق والاكتئاب الحادث من هذا الصراع بين كون هذا الإنسان رجل ذكر وشعوره كامرأة أنثى.. أو كونها امرأة أنثى وشعورها كرجل ذكر.
وهناك من يلجأ إلى الآتي:

  1. إذا كان الشخص ولد ذكر تشريحيًا وثانويًا ويعاني هذا الاضطراب فيتم تهيأته لأن يكون أنثى من خلال إزالة كل الأعضاء الجنسية جراحيًا والتي تدل على الهوية الجنسية لذكر مثل: إزالة العضو الذكري، تجميل مهبل وتجميل ثدى مع مراعاة احتمالية وجود مضاعفات مثل: ضيق فتحة المهبل، وجود إتصال بين المهبل والمستقيم.
    والبعض يلجأ أيضًا لتقليل الطبقة المحيطة بالغدة الدرقية للتقليل من حجم بروزها.
    إذا كان الشخص أنثى وتعاني هذا الاضطراب فيتم تهيأتها لتصبح ذكرًا وذلك من خلال عمل إزالة الثدى جراحيًا، وتجميل ما يشبه العضو الذكري وليس بالتأكيد الإحساس بالنشوة.

وكل هؤلاء لا ولن يحصلوا على الهدف الذي ينشدونه بل سيتحولون إلى مسوخ، جسد رجل مشوه تشريحيًا ولن يتواجد مطلقًا أى احساس بالنشوة أو اللذة أو الإرتواء أو حتى الإندماج في مجتمع الإناث.. فهو مرفوض قبلاً كرجل بين النساء، ومرفوض بعدًا، فمن ذلك الذي سوف يتزوج أو يقيم علاقة مع رجل سابق ومسخ أنثى لاحق بدون شعور أو احساس أو إندماج جنسي حقيقي، أو علاقة عاطفية صادقة.
أو تتحول أنثى إلى جسد مشوه تشريحيًا، ولن يتواجد مطلقًا أى إحساس بالنشوة أو اللذة أو الإرتواء أو حتى الإندماج في مجتمع الرجال.. فهى مرفوضة قبلاً كأنثى بين الرجال، ومرفوضة بعدًا.. فمن ستتزوج أنثى سابقة ومسخ رجل لاحق بدون شعور أو إحساس أو إندماج جنسي حقيقي أو علاقة عاطفية صادقة.

المخلوق الجديد الممسوخ سوف يكون مثل رجل جعل فمه في قفاه وشرجه في ظهره.. فمن جعل فمه في قفاه لن يتناول الطعام وإن تناوله لن يشعر له بطعم وهذا الطعام لن يمر إلى داخل جسمه ولن يوجد هضم لهذا الطعام أو استفادة.. النتيجة أنه سوف يموت جوعًا..
ومن جعل شرجه في ظهره فلن يتم الإخراج عن طريقه فسوف يتجمع البراز في أحشائه حتى ينفجر وتنفجر معه بطنه ويموت.

  1. وأيضًا الأشخاص الذين يولدون ذكورًا ويعانون من هذا الاضطراب هناك من يعطيهم جرعات يومية من الاستروجين Patches وهذا الهرمون ينتج عنه كبر حجم الثدى وتستمر لمدة عامين متتاليين فيحدث ضمور للخصيتين ويقل الإحساس بالنشوة ويقلل من كثافة الشعر..
    وهناك أعراض جانبية مثل ارتفاع نسبة البرولاكتين، وإنزيمات الكبد، السكر الصائم ولذلك يراعى عمل اختبارات الدم وفحوصات وتحاليل بصفة دورية.
    بخصوص المرأة البيولوجية تعالج شهريًا أو كل 3 أسابيع باستخدام حقن التستوستيرين فيحدث تغيرات في الصوت، توزيع الشعر بالجسم، توقف الدورة الشهرية.
    وهذا أيضًا ما نرفضه نحن كمسلمين لأنه يعتبر تغيير لخلق الله وفطرته التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله.
  2. ولكن نحن نتدخل كأطباء نفسيين ومسلمين بل وغير مسلمين في عمل برنامج علاجي معرفي سلوكي للتغيير التدريجي لرفض الهوية الجنسية وطلب الهوية الجنسية الأخرى إلى القبول التدريجي للهوية الجنسية المتطابقة مع الخلقة الجسدية التشريحية.
    أهداف البرنامج العلاجي
    الرجوع إلى الفطرة الأولى النقية الطاهرة.
    الراحة المؤقتة من وخز الضمير إن وجد.
    فتح صفحة بيضاء.
    التعاطف مع من يطلب العلاج ويسير في طريق التوبة.

تأملات إلى جانب البرنامج العلاجي
1.لو أردنا أن نجعل شخص ما يحب شيئًا لم يكن يحبه، سوف يحبها إذا كان طعمها حلو ومقبول ومطلوب بالنسبة له..تصور إنسان تم ربطه بالحبال وتثبيت رأسه تمامًا وفتح فمه بآلات معدنية ماذا يفعل لو أردنا أن نضع في فمه كرة حمراء وكرة صفراء وقمع بني اللون.. بالتأكيد سوف يقاوم بشدة خوفًا من أن تكون تلك الكرات وهذا القمع البني سم أو شئ له مرارة أو شئ صلب سوف يجرحه أو يضره، فوضعنا الكرات والقمع في فمه وأرغمناه على بلعه وذلك بسد فتحتى الأنف، يوم بعد يوم كررنا ما فعلنا وجدنا أنه لا يبدي أى مقاومة أثناء إطعامه الكرات والقمع.. أحد الأيام منعناهم عنه للعجب والدهشة طلب الكرات والقمع بشدة.. فككنا الحبال والآلات المعدنية أصبح يطلب ذلك يوميًا.. وقبل أن يذهب سأل ما اسم هذه الكرات والقمع البني.. قلنا له الكرة الحمراء هى آيس كريم فراولة، والكرة الصفراء آيس كريم مانجو، والقمع البني هو قمع من البسكويت اللذيذ.. رأينا الآن كيف كان يكره ويقاوم والآن يحب ويطلب.. فلابد أن نتعلم أنه مهما كانت درجة رغبته في أن يكون من الجنس الآخر أو أن يعامل على أنه من الجنس الآخر، ومهما كانت درجة تفضيله لإرتداء ملابس الجنس الآخر، أو لعب أدوار وتسالي الجنس الآخر، أو تفضيل رفاق الجنس الآخر، أو الإنزعاج من جنسه واحساسه بعدم ملاءمته في الدور الجنسي لجنسه الفعلي فسوف يتغير ويطلب ويحب جنسه الحالي والألعاب التي تناسب جنسه الحالي وملابس وأدوار وتسالي ورفاق الجنس الحالي، وسوف يلعب أدوار الجنس الحالي ولن ينزعج من جنسه وسوف يتلاءم مع دوره الجنسي لجنسه الفعلي.. وهذه مهمة الطبيب النفسي.
لو افترضنا أن صاحبنا السابق ذهب وترك سجنه ماذا سوف يفعل وهو ذاهب إلى بيته.. أنا أتصور أنه سوف يتخيل المانجو والفراولة وهى في صورة مربي محفوظة مثلاً وهو يلتهم فيها ويعب منها عبًا أو يتخيل أشكال أخرى من الآيس كريم.. شيكولاته، حليب، فستق، ليمون.. (هذا فيما يتعلق بالأفكار والتصورات والمشاعر والخيالات والميل والإثارة).
2.لو أردنا أن نجعل شخص ما يكره شئ يحبه فإننا نجعل طعمه سئ ومر أو نجعله يعرف أن الطعم الحلو يخفي تحته السم أو الفشل الكلوي أو دمار الكبد فلن يأكل..
في المثال السابق صاحبنا أصبح يفطر على آيس كريم مانجو وفراولة والغداء مربى مانجو وفراولة والعشاء مانجو وفراولة طازجة ومقطعة.. وضعنا له مع آيس كريم الفطور زيت سيارات مستعمل وعندما تذوقه تقيأ ما في بطنه إلى العصارة، ووضعنا له مع مربى الغداء ملح وزيت خروع فأصابه القئ والإسهال، ووضعنا له في العشاء السم وأخبرناه بذلك فوضع جزء من العشاء لكلب صغير فمات الكلب.. وكررنا ذلك يوم بعد يوم بعد يوم. ماذا تظن أنه فعل؟ لقد كره المانجو والفراولة والمربى والآيس كريم وامتنع عنهم تمامًا.. وكلما ذكّره أحد تخيل وتصور القئ والإسهال وصورته ميتًا لو أنه تناول العشاء المسموم.
هنا سوف تجد صاحبنا (أو صاحبتنا) سوف يكره (أو تكره) رغبته في أن يكون من الجنس الآخر أو أن يعامل على أنه من الجنس الآخر، ويكره إرتداء ملابس الجنس الآخر، أو لعب أدوار وتسالي الجنس الآخر، أو تفضيل رفاق الجنس الآخر، ولن ينزعج من جنسه الحالي أو احساسه بعدم ملاءمته في الدور الجنسي لجنسه الفعلي. وهذه مهمة الطبيب النفسي.

الاختيار الصعب
5.ابني العزيز.. أخي الحبيب.. لو فهمنا ما سبق دعنا نضع خطوة جريئة مهما كان فيها من صعوبة..
سوف نمتنع عن أن نكون من الجنس الآخر أو أن نتعامل على أننا من الجنس الآخر، مهما كانت درجة تفضيلنا لإرتداء ملابس الجنس الآخر، أو لعب أدوار وتسالي الجنس الآخر، أو تفضيل رفاق الجنس الآخر، أو الإنزعاج من جنسنا واحساسنا بعدم ملاءمتنا في الدور الجنسي لجنسنا الفعلي فسوف نتغير ونطلب ونحب جنسنا الحالي والألعاب التي تناسب جنسنا الحالي وملابس وأدوار وتسالي ورفاق الجنس الحالي، وسوف نلعب أدوار الجنس الحالي ولن ننزعج من جنسنا وسوف نتلاءم مع دورنا الجنسي لجنسنا الفعلي.. حتى لو لم يكن الرضا والتوافق والاستمتاع كاملاً… وهذه مهمة الطبيب النفسي.

مــــــاذا ســــــوف يحـــــــدث؟
سوف نجوع ونجوع ونعطش ونئن وتنتابنا اللهفة وتحرقنا الشهوة وتشدنا الرغبة في نكون من الجنس الآخر أو أن نعامل على أننا من الجنس الآخر، ومهما كانت درجة تفضيلنا لإرتداء ملابس الجنس الآخر، أو لعب أدوار وتسالي الجنس الآخر، أو تفضيل رفاق الجنس الآخر، أو الإنزعاج من جنسنا واحساسنا بعدم ملاءمتنا في الدور الجنسي لجنسنا الفعلي فسوف نتغير ونطلب ونحب جنسنا الحالي والألعاب التي تناسب جنسنا الحالي وملابس وأدوار وتسالي ورفاق الجنس الحالي، وسوف نلعب أدوار الجنس الحالي ولن ننزعج من جنسنا وسوف نتلاءم مع دورنا الجنسي لجنسنا الفعلي.. وسوف نفكر في الشاذ والحرام وغير المقبول ولكن سوف نضع المخرج الوحيد المسموح به وهو القبول لفطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله.
بعد ذلك لابد وأن يقوم من شبع بالخبز أو تم إشباعه بقبول جنسه وأدوار وتسالي ورفاق جنسه أن يتصور ويتخيل ويميل وتتجه مشاعره نحو السعادة بالشبع بالخبز وأشكاله المختلفة.. خبز أبيض أو أسمر، فينو أو صمولي، لبناني، كرواسون، عيش السرايا، بتاو، أو فايش وكلها أشكال مختلفة للخبز ولكنه خبز طيب طازج حلال وليس لحمًا ميتًا عفنًا.

اضطراب الهوية الجنسية غير المحدد المكان
Gender Identity disorder not other wise specified
وهنا النقاط التشخيصية لا تستوفي ولا تقابل النقاط التشخيصية لاضطراب الهوية الجنسية المحدد وتشتمل على:
التباين الجنسي Inter Sex
وهو مجموعة من الأمراض التي تشتمل على الملامح التشريحية أو الفسيولوجية للجنس الآخر.
تضخم الغدة الكظرية الخلقي Congenital adrenal hyperplasia virlizing type
وهو نقص وراثي للإنزيم المسئول عن إفراز الكورتيزون وبالتالي يتزايد إفراز الأندروجين، تذكير الجنين الأنثى.
النقاط التشخيصية لاضطراب الهوية الجنسية غير محددة المكان كما ذكر في DSM IV
وتشتمل على الآتي:
تباين الجنس Inter sex
(نقص تأثير الاندروجين الجزئي أو تضخم غدة الأدرينال منذ الولادة) ويصاحبه عدم الرضا عن الهوية الجنسية الحالية.
التوتر المؤقت المصاحب لسلوك الملبس.
الانشغال المستمر والدائم بإزالة العضو الذكري بدون الرغبة لاكتساب الملامح الأخرى للجنس الآخر.

مرض نقص تأثير الاندروجين وذلك لعدم وجود حساسية لمستقبلات هذا الهرمون
في الأشخاص ذوو XY karyotype في الخلايا والأنسجة غير القادرة على استخدام هرمون التيستوستيرون أو هرمونات الاندروجين
الطفل منذ الولادة يبدو وكأنه أنثى ويعامل على هذا الأساس ولكن فيما بعد يتم اكتشاف أنه لديه خصيتين، وهنا الطفل لديه وفرة من هرمون التيستوسيترون الذي يتحول إلى هرمون الاستروجين.
تيستوستيرون ————->>> ستروجين
وهنا تبدأ الملامح الأنثوية الثانوية تظهر وينتج صراع داخلي باحساس الأنوثة.
مرض ترنر Turner syndrome
وهو يتميز بفقد كرموسوم وهنا يكون X فقط فتكون الملامح الأنثوية صغيرة والملامح الثانوية تحتاج لمصدر خارجي (الاستروجين) وهنا الهوية الجنسية أنثى.
مرض كلينفيلتر Klinfileter syndrome
ويتميز بوجود X كروموسوم زائد XXY syndrome ويظهر الطفل كولد طبيعي ولكن لديه ثدى يشبه الأنثى والخصيتين أقل حجمًا وعادةً بدون القدرة على تكوين الحيوانات المنوية.
نقص إنزيم 5Q Reductase
هؤلاء يعانون من نقص إنزيم 5Q Reductase والذي تحتاجه لتحويل التيستوستيرون إلى الشكل الفعال الذي يشكل الأعضاء التناسلية.
التيستوستيرون يتحول إلى ــــــ في وجود 5Q Reductase —–>>داى هيدرو تيستوستيرون
عند الميلاد نجد الطفل يظهر أنثى ولكن لديه خصيتين متخفيتين في البطن لذلك من ضمن خطوات العلاج يتم إزالة الخصيتين من البطن وتعيش في المجتمع كأنثى عادية.
ما يشبه التخنث
الأطفال المولودون بأعضاء تناسلية متخفية أما التخنث الحقيقي فهو أن الشخص لديه نوعين من الأعضاء التناسلية المبيض والخصيتين.
العـــــــــــــــلاج
أ.حالات تباين الجنس التي تظهر منذ الميلاد من المهم جدًا فحص الطفل جيدًا.
يجب التأكيد على أن الطفل لديه أعضاء تناسلية واضحة تفيد أنه ذكر واضح أو أنثى.
عند اكتشاف تباين الجنس نحتاج إلى أخصائي أطفال، أخصائي طب نفسي، أخصائي جراحة مسالك وذلك لتحديد الجنس.
لتحديد الجنس نلجأ إلى الآتي:
1.الفحص الإكلينيكي الكامل.
2.فحص جراحة المسالك.
3.أخذ عينة من الفم.
4.تحليل الكروموسومات.
ب.التثقيف الصحي للأهل.
ج.الجراحة في حالات الأعضاء التناسلية المتباينة ولكن من المهم تحديد واختيار الجنس المناسب من خلال:

  • دراسة الخريطة الكروموسوماتية.
  • الفحص الإكلينيكي.
    من المهم جدًا في حالة اللجوء للحل الجراحي أن تكون الجراحة عامة قبل سن 3 سنوات.
    إرتداء ملابس الجنس الآخر Cross dressing
    إن إرتداء ملابس الجنس الآخر وفقًا DSM IV يصنف وفقًا لمجموعة اضطراب الهوية الجنسية وذلك عندما يكون مؤقت ويصاحبه توتر، أما إذا كان لا يصاحبه توتر فنجد أن هؤلاء الأشخاص يشعرون بالإثارة والسعادة عند إرتداء ملابس الجنس الآخر وفي بعض الحالات تتطور الحالة وفقًا لطريقة إرتداء الملابس ويصل لدرجة المحاكاة Masculine identification)، identification Feminine) وإتباع عادات الجنس الآخر.
    إن إرتداء ملابس الجنس الآخر يختلف عن Trans sexualsim في أنهم غير مشغولين بالأعضاء التناسلية الأولية والثانوية ولاكتساب الملامح الجنسية للجنس الآخر، وأن بعضهم لا يثار جنسيًا من خلال إرتداء ملابس الجنس الآخر، بعض الأفراد شواذ رجال ونساء.
    وهذا الاضطراب أكثر حدوثًا في النساء ويسمى Impersonators Female
    العــــــــــــــــلاج
    ازدواج العلاج السلوكي المعرفي والعلاج الدوائي:
    1.يتم التعرف على عناصر التوتر التي أدت لهذا السلوك ومن خلال عمل جلسات نفسية يتم تعليم الشخص التحكم في هذا التوتر والتعرف على الصراعات التي تدور في نفس هذا الشخص.
    2.استخدام الأدوية (مضادات الاكتئاب والتوتر والقلق).
    3.العلاج السلوكي مثل العلاج بالنتفير أو العلاج الإيحائي أو العلاج بالتنويم الإيحائي في حالات معينة.
    الانشغال بالخصاء Peroccupation of castration
    الانشغال بإزالة العضو الجنسي بدون الرغبة في اكتساب الملامح الجنسية للجنس الآخر.
    عادةً يفتقدون للرغبة الجنسية والإثارة Asexual
    يمكن أن يعيشوا خيال جنسي مختلف تمامًا.

الفيلسوف إبن رشد(595ه) رحمه الله عند الغرب

عُرٍف ابن رشد في الغرب بتعليقاته وشروحه لفلسفة وكتابات أرسطو والتي لم تكن متاحة لأوروبا اللاتينية في العصور الوسطى المبكرة، فقبل عام 1100 م كان عدد قليل من كتب أرسطو في المنطق تم ترجمته إلى اللغة اللاتينية على يد الفيلسوف المسيحي بوتيوس مع أن أعمال أرسطو الكاملة كانت معروفةً في بيزنطة. ثم بعدما انتشرت الترجمات اللاتينية للأعمال الأرسطية الأخرى من اليونانية والعربية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين أضحى أرسطو أكثر تأثيراً على الفلسفة الأوروبية في العصور الوسطى. وقد ساهمت شروح ابن رشد في ازدياد تأثير أرسطو في الغرب القروسطي. في أوروبا القروسطية أثرت مدرسة ابن رشد المعروفة بالرشدية في الفلسفة تأثيراً قوياً على الفلاسفة المسيحيين أمثال توما الأكويني، واليهود أمثال موسى بن ميمون وجرسونيدوس. وعلى الرغم من ردود الفعل السلبية من رجال الدين اليهود والمسيحيين إلا أن كتابات ابن رشد كانت تدرس في جامعة باريس وجامعات العصور الوسطى الأخرى، وظلت المدرسة الرشدية الفكر المهيمن في أوروبا الغربية حتى القرن السادس عشر الميلادي وقد قدم في كتاب “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” مسوّغاً للتحرر من العلم والفلسفة من اللاهوت الأشعري، وبالتالي عدّ بعضهم الرشدية تمهيداً للعلمانية الحديثة.

وقد كتب جورج سارتون أبو تاريخ العلوم ما يلي:

«”ترجع عظمة ابن رشد إلى الضجة الهائلة التي أحدثها في عقول الرجال لعدة قرون. وقد يصل تاريخ الرشدية إلى نهاية القرن السادس عشر الميلادي، وهي فترة من أربعة قرونٍ تستحق أن يطلق عليها العصور الوسطى حيث إنها كانت تعد بمثابة مرحلةٍ انتقاليةٍ حقيقيةٍ بين الأساليب القديمة والحديثة.”» ” “

وقد عكف ابن رشد على شرح أعمال أرسطو ثلاثة عقود تقريباً، وكتب تعليقاتٍ على جلَّ فلسفاته ماعدا كتاب السياسة الذي لم يك متاحاً له، وكانت أعمال ابن رشد الفلسفية أقل تأثيراً على العالم الإسلامي في العصور الوسطى منها على العالم المسيحي اللاتيني وقتها، كما يدل على ذلك حقيقة أن الأصل العربي لكثيرٍ من أعماله لم يعش، بينما ظلت الترجمات اللاتينية والعبرية موجودة. ومع ذلك فإن أعماله وعلى وجه التحديد موضوعات الفقه الإسلامي والتي لم تترجم إلى اللاتينية أثرت بالطبع في العالم الإسلامي بدلاً من الغرب. وقد تزامنت وفاته مع وجود تغيير في ثقافة الأندلس. والترجمات العبرية لأعماله كان لها تأثيرٌ لاينسى على الفلسفة اليهودية، خاصةً الفيلسوف اليهودي جرسونيدس الذي كتب شروحاً فرعيةً على العديد من أعمال ابن رشد. وفي العالم المسيحي استوعب فلسفته سيجر البرابانتي وتوما الأكويني وغيرهم (وخصوصاً في جامعة باريس) من المجالس المسيحية التي قدرت المنطق الأرسطي. وبلغ ابن رشدٍ عند بعض الفلاسفة مثل توما الأكويني من الأهمية مكانةً لدرجة أنهم لم يكونوا يشيرون له باسمه بل بـ”المعلق” أو “الشارح”، فيما يطلقون على أرسطو “الفيلسوف”. وتأثراً بفلسفات ابن رشد أسس الفيلسوف الإيطالي بيترو بمبوناتسي مدرسةً عرفت باسم “المدرسة الأرسطية الرشدية”.

أما عن علاقته بأفلاطون فقد لعبت رسالة ابن رشد وشرحه لكتاب أفلاطون “الجمهورية” دوراً رئيساً في نقل وتبني التراث الأفلاطوني في الغرب، وكان المصدر الرئيس للفلسفة السياسية في العصور الوسطى.

من ناحيةٍ أخرى كان العديد من اللاهوتيين المسيحيين يخشون فلسفته حتى اتهموه بالدعوة إلى “الحقيقة المزدوجة” ورفضه المذاهب التقليدية التي تؤمن بالخلود الفردي، وبدأت تنشأ أقاويل وأساطير تصل به للكفر والإلحاد نهاية المطاف، واستندت هذه الاتهامات إلى حدٍّ كبيرٍ على التأويل الخاطئ لأعماله.

على العموم لم يكن ابن رشدٍ فيلسوفاً أصيلاً بقدر ماكان شارحاً ومعلقاً على أعمال أرسطو، إذ ليست له أفكارٌ فلسفيةٌ خاصّةٌ مقارنةً بأعلام الفلسفة الإسلامية الكبار كابن سينا والرازي والفارابي. إن تراثه الرئيس يتمحور حول ترجمة أرسطو إلى العربية وشرحه والتعليق عليه ترجمةً دقيقةً -مقارنةً بما كان سبق من ترجماتٍ- ساعدته عليها خلفيته المعرفية والفلسفية واللغوية، وهذه الأعمال هي التي نُقلت إلى العبرية واللاتينية وأرهصت لفلاسفةٍ كابن ميمون وسيجر دو برابانت والإكويني، ولمدارسَ كالفلسفة المدرسية (السكولاتية)، ومن هنا اهتمام الغربيين المحدثين به وإعلاء شأنه -وبخاصةٍ المستشرقين- بوصفه ممثلاً أميناً للحضارة الإسلامية في لبوسها الاستشراقي، بمعنى تصويرها كأنْ لم تك -في أفضل أحوالها- أكثر من ناقلٍ للتراث اليوناني إلى الغرب وليس ثمة من إبداعٍ أصيلٍ يُنسب لها، والدليل الباهر ابن رشد. وجاءت محنته لترفع من قيمته أكثر بنظر هؤلاء ليعتبروه تجسيداً لفكرٍ متحررٍ في وجه المتشددين، مع أنه كان فقيهاً أصولياً مالكياً لاتزال كتاباته الفقهية مراجعَ لها قيمتها الرفيعة على مر القرون حتى يومنا، ومع أن محنته لم تك أكثر من مكيدةٍ على يد الحساد والوشاة الذين لايخلو منهم زمان أو بلاط.

يقول محمد لطفي جمعة (1886-1953): “لأنَّ… ابن رشدٍ لم يكن في الحقيقة فيلسوفاً إنما كان مترجماً وناقلاً، نقل فلسفة أرسطو إلى اللغة العربية واعتبرها خاتمة الحكمة، ورأى أنه من المحتم عليه وهو حكيمٌ إسلامي أن يوفق بين هذه الآراء اليونانية وبين الشريعة الإسلامية”، إلى أن يقول: “لايمكننا أن نعد ابن رشدٍ فيلسوفاً ولكنه كان مصلحاً”

في الموروثات اليهودية

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

كان موسى بن ميمون (توفي عام 1204) من أوائل الفقهاء اليهود الذين استقبلوا أعمال ابن رشد بحماس زائد، فقد قال أنه «على إطلاع دائم بكتابات ابن رشد عن أعمال أرسطو، وأنه (ابن رشد) على صواب مطلق».[39] وكذلك اعتمد كتاب اليهود في القرن الثالث عشر على كتابات ابن رشد في أعمالهم بغزارة، ومن بينهم صاموئيل بن تيبون في كتابه «رأي الفلاسفة»، ويهوذا بن سليمان كوهين في «البحث عن الحكمة»، وشيم توف بن فالقويرا. [39] وفي عام 1232، شرع يوسف بن أبا ماري في ترجمة تعليقات ابن رشد عن أورغانون (وهي مجموعة كتابات أرسطو في المنطق)، وكانت تلك أول ترجمة يهودية لأحد أعماله الكاملة. وفي عام 1260، انتهى موسى بن تيبون من نشر تراجم جميع تعليقات ابن رشد تقريبًا، وكذلك بعض أعماله في مجال الطب.[39] ووصلت شهرة المذهب الرشدي في الأوساط اليهودية إلى أوجها في القرن الرابع عشر.[40] ومن بين الكتاب اليهود الذين شرعوا في ترجمة كتابات ابن رشد أو تأثروا بها: كلونيموس بن كلونيموس وتوضروس توضروسي من آرل، فرنسا، وجرسونيدس من لانغيدوك.

ذم الكنيسة له

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

لكن ابن رشد لم يسلم من ألسنة رجال الكنيسة؛ فقد ذَمُّوه بكل شفة ولسان، وطعنوا عليه أقبح طعن؛ فقد قال عنه بترارك: «إنه ذلك الكلب الكلِب الذي هاجه غيظ ممقوت؛ فأخذ ينبح على سيده ومولاه المسيح والديانة الكاثوليكية». وأما دانتي فقد جعله في هدوء ووقار يتبوَّأ مقعده في الجحيم جزاء له على كفره واعتزاله.[

وجاء تعليم ابن رشد مؤكدًا ومعززًا لمذهب أرسطو فاستُقْبِلَ بحماس، وابتدأت آراؤه تنتشر في الأوساط العلمية، واعتُبِرَ — كما كان شأنه عند علماء اليهود — «المفسر» بمعنى الكلمة مما أثار مخاوف السلطات الكنسية في باريس، فشرعت باتخاذ إجراءات شديدة لتحريم تعليمه في الجامعة بدون تنقيح، وفي سنة ١٢١٠ أصدر أسقف باريس أمرًا بمنع تعليم النصوص الأرسطية الخاصة بالميتافيزيقا والعلوم الطبيعية وتفاسيرها، وإلا يُحْكَم على مَنْ يخالف الحرمان، وفي سنة ١٢١٥ أُعيد هذا الحظر وأُضيف إليه اسمان: دافيد دي دينان وأموري دي بين مع مشاركة شخص ثالث اسمه موريسيوس الإسباني وقد ظنَّ البعض أن موريسيوس هذا هو ابن رشد، ولكن قد رجَّحت الدراسات الحديثة أن هذا من غير المحتمل.
وعلى كلٍّ، ابتدأت أفكار ابن رشد تنتشر في بعض الأوساط وتجد لها أنصارًا، وقد استفحل الأمر لدرجة أن أسقف باريس إتيين طامبييه أصدر في العاشر من ديسمبر ١٢٧٠ قائمة مكونة من ثلاثة عشر قضايا اعتُبِرَت «رشدية» تستوجب الحظر، وفي فترة لاحقة في سنة ١٢٢٧ ارتفع عدد القضايا المحظورة إلى ٢٢١، وقام ألبرت الكبير وتوما الأكويني بكتابة — كل منهما — رسالة لدحض الرشدية؛ الأول: في رسالة اسمها «في وحدة العقل ضد الرشديين» ، والثاني: في رسالة اسمها «المسائل الخمسة عشر»
وقد كانت أهم مآخذ اللاهوتيين على الرشديين اللاتين قولهم بوحدة العقل المنفعل لجميع البشر بالنوع وبالعدد وما يلزم عنها من استحالة الخلود الشخصي، فإذا انحلَّ الجسد لدى الوفاة عاد العقل إلى حالته الأولى من الوحدة، أما الفرد من حيث هو عقل وجسد فلا بقاء له بعد الموت.

ولم يقتصر الأمر على باريس فحسب بل وصل إلى إيطاليا، فذهب عدد من «المفكرين المتحررين» إلى أن الله هو مجرد المحرك الأول للعالم، وأن ما يحدث في العالم المادي والروحي والشخصي والاجتماعي ليس هو إلا من أثر الفلك، ومجموع هذه الآراء المنحرفة الخاصة بعدم خلود النفس والحتمية الفلكية واللا أخلاقية، وعدم العناية الإلهية بالفرد … إلخ وُصِمَ «بالرشدية» وقد تسرَّبت هذه الآراء إلى بعض فئات من الشعب بحيث أصبحوا لا يبالون بالقيم الدينية والأخلاقية (انظر رينان ص).
وإزاء هذا النوع من «الرشدية اللاتينية» المتطرفة كان هناك نوع من الرشدية المعتدلة التي اعتمدها ألبرت الكبير وتوماس الأكويني، فهما يرفضان في مذهب ابن رشد كل ما يخالف العقيدة الدينية، ولكن يستعينان به في بعض مسائل فلسفية مثل خلق العالم وفي منهجه في التفسير لنصوص أرسطو؛ لأنهما يعتقدان أن فلسفة أرسطو — التي كان ابن رشد من خير مفسريها — قابلة للانسجام مع العقيدة الدينية على شرط أن تُطهَّر مما يشوبها من أخطاء.

وهناك كان مذهب رشدي آخر ألا وهو الذي ذهب إليه سيجير دي برابان البلجيكي الذي كان أستاذًا في كلية العلوم والفنون، جاء إلى باريس سنة ١٢٦٠، وعُلِّمَ في جامعتها الفلسفية، وهو لم يحاول أن يتمثَّل المذهب الرشدي، بل توخَّى في تعليمه أن يقدِّم الفلسفة الأرسطية الرشدية بحذافيرها كما وجدها في أيامه بالرغم مما فيها من مخالفة للتعليم الديني، مع العلم بأنه كان يقر صراحة بأن التعليم الديني هو الذي يملك الحقيقة، نعم، لم يقل «بالحقيقة المزدوجة ولكنه صرَّح أنه من الممكن أن يؤدي البرهان العقلي إلى نتيجة تخالف العقيدة الدينية، وهذا ما يميز هذا النوع من الرشدية اللاتينية.
لقد أدانته السلطة الكنيسة سنة ١٢٧٧، فاختفى من المسرح الجامعي، كما توقَّف أيضًا من التعليم رشدي آخر بؤئيس دي داسي
وقام دفاعًا عن الرشدية الراهب الكرملي جيوفاني باكونتورب من المتخصصين في الرشدية، وقد لُقِّبَ برئيس الرشديين والفرنسكاني جيوفاني دي ريباترانسوني وهنري دي هاركلي الذي كان أستاذًا في جامعة أكسفورد.
وفي النصف الأولى من القرن الرابع عشر يمكننا أن نذكر في باريس كمدافع عن الرشدية: جان دي جاندان الذي حاول أن يجدد ويؤكد التضاد بين العقل والإيمان على غرار ما ذهب إليه سيجير ، وهناك أيضًا بعض علماء من إنجلترا الذين كان لهم نزعة رشدية مثل توماس دي ويلتون وبارلي وقد اتصلت بهما مجموعة العلماء الرشديين التي أُنْشِئَت في جامعة بولونيا في أوائل القرن الرابع عشر مثل: أنجلو دي أريزو وأربانو دي بولونيا وتاديئو دا بارما
ومن مناهضي الرشدية اللاتينية يجب أن نذكر إيجيديوس رومانس أي جيل دي روم الذي سنتكلم عنه بعد قليل، وريمون لول المتوفَّى سنة ١٣١٥ الذي حمل عليه حربًا شعواء وألَّف ضده عدة كتب.
وكان من أشهر المراكز المهتمة بالرشدية اللاتينية مركز في جامعة بادوا أنشأه بييترو دابان وقد استمر نشاط المركز لغاية القرن السابع عشر، وحاول ببيترو بومبونازي أن يجدد النزعة الرشدية بربطها بأفكار إسكندر الأفروديسي فسمَّى مذهبه بالمذهب الإسكندراني وضد هذا التيار ذات النزعة المادية قام تيار آخر بحث في الباباليون العاشر وبقيادة أغسطينو نيفو ، وهذا التيار الجديد كان مبنيًّا على آراء الشارح الروحي لأرسطو سنبلقيوس ويقر بأن ابن رشد في مذهبه الخاص بوحدة العقل لم ينفِ روحية النفس الإنسانية وعدم فنائها.
وفي عصر النهصة ظهر — كما قلنا سابقًا — عدد من تفاسير لابن رشد وأرسطو، غير أن الروح الجديدة «الإنساوية» كانت تفضل أن تتجه نحو أرسطو اليوناني لا بقصد أخذه كمرشد فكري بل بغية التبحر العلمي، أما الرشدية الأصلية فقد احتفظت بين فلاسفة اليهود مثل ليفي بن جيرسون وإليا دي مديغو في بدوا