الاخلاق والدين عند براتند راسل

أسهم راسل إسهامًا كبيرًا في المناقشات التي دارت حول الأخلاق والسياسة والدين والتعليم وقضايا الحرب والسلام. ولم يَرَ هذه الإسهامات باعتبارها إسهامات فلسفية بالمعنى الضيق للكلمة. فكما يوضح الفصل السابق، كان يرى الفلسفة باعتبارها فرعًا فنيًّا من فروع المعرفة يتناول الأسئلة المجردة التي تُعنَى بالمنطق والمعرفة والميتافيزيقا. وهذه المناقشات الأخرى في المقابل — في رأيه — عبارة عن قضايا تتعلق بالعاطفة والرأي، وترتبط بالنواحي العملية للحياة. وقد أقر راسل بإمكانية وجود تحليلٍ للخطاب الأخلاقي والسياسي في إطارٍ صوري؛ أي كدراسة منهجية تتناول منطق الخطابات الأخلاقية والسياسية بدلًا من جوهرها؛ ولكن ما كان يهمه هو القضايا العملية والمشكلات الواقعية، خاصةً بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى.
ومع ذلك تصدى راسل في بعض كتاباته لعرض أساس الأخلاق. لم يكن يحاول صياغة نظرية جديدة، بل اكتفى بوجهات النظر الثانوية التي (بعد أن أصبح اهتمامه بالقضايا العملية اهتمامًا جديًّا) كانت تتَّسم بطابع «نظرية العواقبية»؛ أي إنها كانت ترى أنه يجب الحكم على القيمة الأخلاقية لأفعال الناس والحكومات بالنتائج. وفي الوقت نفسه — وليس على نحوٍ متسق مطلقًا — كان يكتب وكأنه كان يؤمن بالقيمة الأخلاقية الجوهرية لأشياء معينة، مثل الخصال الشخصية كالشجاعة والشهامة والأمانة. وقدم كذلك — في بعض كتاباته الأولى — وجهة نظر غير متسقة كذلك مع هذه الآراء، مفادها أن الأحكام الأخلاقية عبارة عن أقوال مُضمرة معبرة عن الموقف الذاتي. والمشكلة الأساسية التي واجهت راسل هي كيفية التوفيق بين جانبين متعارضين: من ناحيةٍ، الإخلاص لمعتقدات أخلاقية يؤمن بها بثبات وحماس، ومن ناحيةٍ أخرى، ما يبدو من انعدام وجود مبررات للحكم الأخلاقي. وازدادت الصعوبة التي تواجهه في تحقيق هذا التوفيق بفعل موقفه المتشكك حول ما إذا كانت المعرفة الأخلاقية موجودة أساسًا.
لعل أفضل طريقة لوصف إسهام راسل في المجال الأخلاقي هو القول بأنه كان معلمًا أخلاقيًّا معنيًّا برفع مستوى الأخلاق عند الناس أكثر مما كان فيلسوفًا أخلاقيًّا. وكان شأنه شأن أرسطو من قبله يرى الأخلاق والسياسة مستمرين؛ فلا فارق في النوع بين الحكم الأخلاقي أن الحرب شر والمطلب السياسي لتحقيق السلام؛ من ثَمَّ نجد أن فكر راسل عن الأخلاق والسياسة والمجتمع يتَّسم بالسلاسة والاتساق؛ مما يفسر سبب تناولها معًا في أشمل كتبه عن هذه المسائل، وهو كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة».
وفي السياسة كان راسل طيلة حياته راديكاليًّا وليبراليًّا من دون مغالاة. وبعد الحرب العالمية الأولى أصبح عضوًا في حزب العمال وترشَّح في سباقَين انتخابيَّين كمرشح للحزب. وقد مزَّق بطاقة العضوية في ستينيات القرن العشرين في استياء من دعم هارولد ويلسون للحرب التي شنتها أمريكا في فيتنام. ولكنه لم يكن اشتراكيًّا بالمعنى العتيق للكلمة؛ إذ لم تقنعه الماركسية حين درسها في ألمانيا في تسعينيات القرن التاسع عشر أثناء الإعداد لكتابه الأول: «الديمقراطية الاجتماعية الألمانية» (كانت «الديمقراطية الاجتماعية» تعني الماركسية آنذاك). وكان معارضًا بالفطرة للاتجاه للمركزية الذي تنادي به الاشتراكية حسب مفهومها آنذاك — وكانت تلك هي السمة الوحيدة تقريبًا للاشتراكية التي طُبقت بالكامل في الدول السوفييتية — ولذلك جذبته أكثرَ الاشتراكيةُ النقابية، وهي شكل لا مركزي من الملكية والسيطرة التعاونية يحكم الناس أنفسهم بموجبه في ظروف — على المستوى المثالي — تدمج حياتهم الاجتماعية والترفيهية والعملية.

كان راسل في أفضل حالاته حين انتقد الأحوال الأخلاقية والسياسية المعاصرة. وكانت البدائل الإيجابية التي طرحها تبدو عادةً غير مقنعة؛ إذ كانت عادةً إما مثالية إلى حدٍّ خيالي أو على أقل تقدير — إذا أخذنا بعين الاعتبار الظروف التي قدَّمها فيها — غير عملية إلى حدٍّ ما. ولكن كناقد شديد القسوة لاذع الكلمات، كان في مكانة سقراط وفولتير نفسها.
لا أحد يحتاج إلى عذر أو رخصة للإسهام في المناقشات التي تتناول القضايا المهمة في المجتمع، وهي قضايا السياسة والأخلاق والتعليم. إنه واجب كل مواطن أن يشارك عن معرفة وفهم. إذنْ فأنشطة راسل في هذه المجالات لا تتطلب أي تبرير. ولكن يوجد سبب وجيه يفسر لماذا تتَّسم إسهاماته بقوة إقناع معينة. ولم يكن سبب ذلك أنه كان وريثًا لتراث جليل تميَّزَ به حزب الأحرار البريطاني في المشاركة في الشئون العامة، مع أن هذا بلا شك حفز اهتمامه بالشئون العامة وإحساسه بواجب المشاركة؛ بل كان السبب هو أن اهتمامه وإحساسه بالواجب كان يدعمهما أربع مميزات قيمة: ذكاء نادر، وفصاحة واضحة الأسلوب، ومعرفة واسعة بالتاريخ، وجرأة كبيرة في وجه المعارضة؛ مما جعله مناقشًا مَهيبًا. ولم يَبْدُ أسلوبه مفرطًا في التذمر وغير ملائم إلا عند نهاية حياته، حين كان الآخرون من حوله يتحدثون ويكتبون باسمه.
لم تَجِدْ بعضُ أفكاره — مثل الإيمان بالحكومة العالمية — حتى الآن أي دعم يُذكر. وساعدت بعض الأفكار الأخرى في تغيير وجه المشهد الاجتماعي في العالم الغربي، كما في مواقفه تجاه الزواج والأخلاق الجنسية، على سبيل المثال. وفي مجالات أخرى أيضًا — تتعلق بالدين بالأخص — ساعد راسل على تحرير عقول كثيرة، ولكنه لم يكن ليندهش — عند الأخذ في عين الاعتبار فهمه للطبيعة البشرية — إذا اكتشف أن التفكير الخرافي يزدهر حاليًّا أكثر مما كان في عصره، وأن المعتقدات الدوجمائية — «الإيمان هو ما أموت من أجله، أما معتقداتي الدوجمائية فهي ما أقتل من أجلها.» — قد عادت بقوة.

الأخلاق النظرية

يتضح من الفكر المبكر لراسل عن الأخلاق أنه كان يؤمن بوجهة النظر الرومانتيكية الهيجلية القائلة بأن الكون خيِّر في حد ذاته وأنه هدف مناسب «للمحبة الفكرية». وكان ماك تاجارت هو من أوحى له بقبول وجهة النظر هذه، ولكنها لم تسيطر عليه لمدة طويلة. وتوضح أول مناقشة جادة للقضايا الأخلاقية يتصدى لها راسل — وعرضها في بحثه المعنون «عناصر الأخلاق» ونشره في عام ١٩١٠ — أنه يتبع التعاليم الواردة في كتاب «المبادئ الأخلاقية» من تأليف جي إي مور، ويؤكد فيه مور أن الصلاح خاصية غير قابلة للتعريف وغير قابلة للتحليل ولكنها خاصية موضوعية لوصف الأشياء والأفعال والبشر، وأننا ندرك الصلاح عن طريق فعل قائم على حدْس أخلاقي مباشر. كان مور يؤمن بشكلٍ من أشكال مذهب النفعية، ويمكن إيجازه بأنه وجهة النظر القائلة بأن الصواب الذي نفعله في أي حالة معينة هو أي فعل من شأنه أن يؤديَ إلى زيادة نسبة الخير على الشر في تلك الحالة. وأثرت آراء مور في أعضاء جماعة بلومزبري، وخصوصًا في تعزيز الفكرة الجذابة القائلة بأن الصداقة والاستمتاع بالجمال هما أسمى القيم الأخلاقية. (ادَّعى الخبثاء ممن انتقدوا الفكرة أن أعضاء جماعة بلومزبري أعجبتهم وجهة النظر هذه لأنها أتاحت لهم فرصة التوفير — إذا جاز التعبير — بأن يكون لديهم أصدقاء يتميزون بالجمال.)
تُطرح الصعوبات نفسها على الفور فيما يتصل بوجهة النظر النفعية. ومن بين هذه الصعوبات أنه يتعذر علينا معرفة العواقب المترتبة على التصرف بطريقة معينة بدلًا من طريقة أخرى؛ ومن ثَمَّ قد نتسبَّب دون قصد في عواقب سيئة كنتيجة للتفكير المضطرب أو الأفكار الحدْسية الكاذبة. ويقر راسل بهذا في رؤيته لوجهة نظر مور، ولكنه يؤكد أننا نكون قد تصرفنا تصرفًا صحيحًا حين نشعر بالرضا؛ لأننا أمعنَّا التفكير في الأمور بعناية، وبذلنا كل ما في وسعنا باستخدام المعلومات المتاحة. ومع ذلك، الادِّعاء بأن الصلاح أمر موضوعي هو أمر مختلف، ولم يستطع راسل أن يشعر بالرضا عن وجهة النظر هذه لمدةٍ طويلة، فمع أنها — إن شئنا الدقة — ربما يتعذَّر دحضها، فلا يمكن إثبات صحتها كذلك، وخصوصًا في مواجهة شخص يختلف بلا مواربة مع الفكرة الحدْسية التي أعلنها غيره، والقائلة بأن الصلاح موجود في فعل بعينه أو موقف بعينه.
دفعت هذه الصعوبة راسل إلى اتخاذ وجهة النظر — التي عبَّر عنها في كتاب «موجز للفلسفة» (١٩٢٧) — القائلة بأن الأحكام الأخلاقية ليست موضوعية — بمعنى أنها ليست صحيحة ولا كاذبة — بل إنها جُمل دالة على أمر أو جُمل دالة على التمني أو جُمل دالة على الموقف. والجملة الدالة على الأمر هي أمر، مثل «لا تكذب.» والجملة الدالة على التمني عبارة عن خيار أو أُمنية — كما يختار المرء شيئًا بدلًا من شيء آخر — في الحالة الأخلاقية ترمز إليها جملة «ليت لا أحد يكذب.» أما جملة «أرفض الكذب» فهي قول معبر عن موقف قائلها من الكذب. ومن الواضح أن الجُمل الدالة على الأمر والجُمل الدالة على التمني تفتقر إلى قيمة الصواب. ومع أن الأمر يكون بخلاف ذلك فيما يتعلق بالأقوال المعبرة عن الموقف، فهذا فقط لأنها عبارة عن أوصاف للحقيقة النفسية ذات الصلة الخاصة بقائليها؛ فلا يُقال شيء صادق أو كاذب عن القيمة الأخلاقية للكذب، فما يقال يتعلَّق فقط برأي القائل في الكذب.
ربما يُطلق على هذا الرأي — في مقابل «الموضوعية» التي كان يؤمن بها مور — «الذاتانية». وهذا المذهب يتسم بمشكلات جسيمة هو الآخر، وأهمها أنه منفر بدرجةٍ كبيرة. فلنتأمل مثلًا جريمة المحرقة النازية. فمن غير المقبول القول بأن مبرر المرء للحكم أن المحرقة النازية شر هو أنه يستنكرها فقط. شعر راسل بهذه الصعوبة بشدة؛ ولذلك حاول في مناقشته الأخيرة والمستفيضة لهذه القضايا (في كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة») أن يصل إلى موقف يمثل حلًّا وسطًا بين الموضوعية والذاتانية يحتفظ بالمميزات ولكن يتجنب الصعوبات الموجودة في وجهتَي النظر كلتيهما.
ويؤكد راسل في كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة» أن الأحكام الأخلاقية هي في الواقع تتعلق بخير المجتمع وأفراده. وهذه الأحكام تشمل أو تعبر عن الشعور السائد إلى حدٍّ ما في مجتمعٍ معين حيال ما يصب عمومًا في مصلحة الجميع. وهذا موضوع من الممكن أن تدور حوله مناقشة عاقلة بِناءً على فهْم علمي أو على الأقل منطقي للعالم. وكثيرًا ما كاد راسل يفقد هذا الإيمان بإمكانية الحلول المنطقية للمعضلات الأخلاقية حين كان يتأمل حماقة الإنسان، ولكنه مع ذلك ظل يتمسك به.
يقول راسل إن البيانات الأساسية للأخلاق هي المشاعر والانفعالات. ووفقًا لذلك فإن الأحكام الأخلاقية هي عبارة عن مشاعر متخفية تعبر عن آمالنا أو مخاوفنا أو رغباتنا أو الأشياء التي نكرهها؛ فنحن نحكم على الأشياء بأنها صالحة حين تلبِّي رغباتنا؛ ومن ثَمَّ فإن الخير العام — أي خير المجتمع ككلٍّ — يكمن في تلبية الرغبة تلبيةً كاملة، بصرف النظر عمن يتمتع بها. وعلى المنوال نفسه يكمن خير أي قسم من المجتمع في تلبية رغبات أفراده تلبيةً كاملة، ويكمن خير الفرد في تلبية رغباته الشخصية. وعلى هذا الأساس يمكن تعريف التصرف الصائب بالقول إنه أي شيء — في أي مناسبة معينة — من المرجح أن يؤديَ إلى الخير العام (أو إذا كان يتعلق بفرد واحد فحسب، خير الفرد)؛ وهذا بدوره يمنحنا تفسيرًا للواجب الأخلاقي، فكرة أنه يوجد أشياء «يجب» أن يفعلها المرء؛ وهو أنه يجب على المرء أن يفعل التصرف الصائب حسب هذا الفهم (المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ص٢٥، ٥١، ٦٠، ٧٢).
يقر راسل بالطبع بوجود مشكلات في هذا الوصف، ويناقش عددًا منها. فعلى سبيل المثال: يتسبب تعريف «الخير» بأنه «تلبية للرغبة» في توجيه انتقادٍ منطقي بأن بعض الرغبات شر، وأن تلبيتها شر أسوأ. ويتأمل راسل مثال القسوة. هل من الممكن أن يكون من الخير أن يتمنى شخصٌ ما أن يتسبب في معاناة شخص آخر؟ وأليس من الأسوأ أن ينجح في تنفيذ أمنيته؟ يقول راسل إن تعريفه لا يقتضي ضمنًا أن مثل هذه المواقف من قبيل الخير؛ أولًا: لأن ذلك يتضمن إحباط رغبات الضحية؛ لأن الضحية بالطبع ترغب في تجنُّب المعاناة على أيدي المتسبِّب فيها، وثانيًا: لأن المجتمع ككلٍّ لا يريد عمومًا أن يقع أفراده ضحايا للقسوة، وسيؤدي ذلك إلى إحباط رغباته أيضًا في هذا الصدد؛ ومن ثَمَّ سيؤدي ذلك إلى زيادة هائلة في الرغبات غير المحققة عند ارتكاب فعل يتَّسم بالقسوة؛ مما يجعل ذلك الفعل سيئًا.
ومن الصعوبات الأخرى التي يتَّسم بها الوصف الذي يقدمه راسل أن الرغبات قد تتعارض. ويجيب راسل عن ذلك بقوله إن هذا يتطلَّب منَّا أن نختار الرغبات التي يقل احتمال تنافسها بعضها مع بعض. ويستعير راسل مصطلحًا فنيًّا من لايبنتس، فيطلق على الاتساق بين الرغبات أنه «التوافق» بينها. إذنْ يمكن تعريف الرغبات الصالحة والسيئة على أنها الرغبات المتوافقة — بالترتيب — مع أكبر عدد وأقل عدد ممكن من الرغبات الأخرى.
يخصص راسل فصلًا يناقش فيه السؤال المتعلق بما إذا كانت الأحكام مثل «القسوة خاطئة» ليست إلا تعبيرات متخفية تعبر عن موقف ذاتي. وكما سبق وذكرنا، هذا السؤال مهم، وقد أزعج راسل بشدة. وتوصل راسل إلى ما قد يُطلق عليه إجابته المبنية على علم الاجتماع — أن القيمة الأخلاقية هي نتاج نوعٍ من الإجماع الاجتماعي — بعد دراسةٍ في الاحتمالات البديلة التي تقدمها المناقشة الأخلاقية.
من الممكن عرض المشكلة بأن نذكر أن الاختلاف الأساسي بين الخطاب الواقعي العادي والخطاب الأخلاقي يكمن في وجود مصطلحات مثل «يجب» و«الخير» ومرادفاتها في الخطاب الأخلاقي. هل هذه المصطلحات جزء من «المفردات الأساسية» للأخلاق، بمعنى أنها غير قابلة للتعريف وأساسية لأي فهم للمفاهيم الأخلاقية؟ أم هل يمكن تعريفها في إطار شيء آخر، كالمشاعر والانفعالات مثلًا؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب عن السؤال الأخير، فهل العواطف التي نحن بصددها هي عواطف الفرد الذي يصدر حكمًا أخلاقيًّا؟ أم لها مرجعية أشمل، تعود إلى الرغبات والمشاعر البشرية؟ (المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ص١١٠-١١).
يذكر راسل أثناء مناقشة هذه الأسئلة أنه عند دراسة الخلافات الأخلاقية المتعلقة بما يجب فعله في حالة معينة، نجد أن الكثير من تلك الخلافات ينشأ من النزاع حول النتيجة التي ستنشأ من هذا الخيار أو ذاك. ويُثبت هذا أن التقييمات الأخلاقية تعتمد على تقديرات النتائج، وأنه لذلك يمكننا تعريف «يجب» بالقول إنه يجب تنفيذ فعلٍ ما — من بين كل الأفعال الممكنة في تلك الحالة — إذا كان هو الفعل الذي من المرجح أن يؤديَ إلى أكبر قدرٍ من «القيمة الجوهرية» (وهو تعبير يستخدمه راسل كبديل أدقَّ عن كلمة «الخير»).
هل «القيمة الجوهرية» قابلة للتعريف؟ يعتقد راسل أنها كذلك؛ إذ يقول: «حين ندرس الأشياء التي نميل لأن نرى فيها قيمة جوهرية نجد أنها هي كل الأشياء التي نرغب فيها أو نستمتع بها؛ فمن الصعب أن نصدق أن أي شيء من الممكن أن يحمل قيمة جوهرية في كونٍ مجردٍ من الوعي الأوَّلي. ويوحي ذلك بأن «القيمة الجوهرية» قد تكون قابلة للتعريف في إطار الرغبة أو المتعة أو كلتيهما» (المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ص١١٣). وما دام يتعذَّر أن تكون كل الرغبات ذات قيمة جوهرية لأن الرغبات تتعارض، ينقح راسل المفهوم بحيث تُفهم القيمة الجوهرية باعتبارها سمة ﻟ «حالات مزاجية» يرغب فيها من يتعرضون لها.
وبهذا التعديل يقدِّم راسل الموجزَ الآتي لوجهة نظره. إن استحساننا أو استقباحنا لأفعالٍ معينة عادةً ما يتوقف على العواقب التي نعتقد أنه من المُرجح أن تنتج عنها. ونسمي عواقب الأفعال التي نوافق عليها «صالحة»، ونسمي العواقب التي نرفضها «سيئة». ونسمي الأفعال نفسها «صائبة» و«خاطئة» بالترتيب. وما «يجب» أن نفعله هو كل فعل صحيح في هذه الحالة، بمعنى كل ما مِن شأنه أن يؤديَ إلى زيادة نسبة الخير.
ومن بين هذه النقاط تحمل النقطة الأولى القدر الأكبر من الأهمية. إذا كان التقييم الأخلاقي مسألة تعتمد على ما يوافق عليه الناس وما يرفضونه، أَفَلَسْنَا عالقين في المعضلة الذاتانية، دون أسس منطقية لتوريط أنفسنا في خطأ العنصرية والتعصب والقسوة وغيرها؟ وإجابة راسل هي أنه في واقع الأمر يوافق الناس موافقةً واسعة الانتشار على كل ما هو مرغوب. ويتفق مع هنري سيدجويك في أن الأفعال التي عادةً ما يوافق عليها الناس هي الأفعال التي تؤدي إلى أكبر قدْر من السعادة أو المُتع. وإذا كان هذا يشمل تلبية الاهتمامات الفكرية والجمالية («إذا اقتنعنا فعلًا بأن الخنازير أسعد من البشر، فلا ينبغي لذلك السبب أن نرحب بالخدمات التي قدمتها الساحرة سيرسي التي جاء ذكرها في الأساطير الإغريقية.» فبعض المُتع مفضلة «فطريًّا» عن غيرها)، يصبح لدينا وسيلة للإفلات من الذاتانية؛ إذ إن وجهة النظر هذه تمنحنا إفادات عما يجب فعله، وهي ليست جُملًا دالة على التمني أو أوامر متخفية؛ ومن ثَمَّ تحمل قيمة صواب؛ ولكنها تستند إلى وقائع تتعلق بمشاعرنا وبتلبية رغباتنا؛ فالوقائع المتعلقة بمشاعرنا هي أساس تعريف «الصواب» و«الخطأ»، والوقائع المتعلقة بتلبية رغباتنا هي أساس تعريف «القيمة الجوهرية». وهكذا يحقق راسل نجاحًا في صياغة موقف وسيط يقع بين الموضوعية والذاتانية، ويحمل نجاحه — في الوقت نفسه — شهادة معتمدة عملية على نحوٍ دقيق إلى حدٍّ ما؛ إذ يوفر سبيلًا ليس فقط لتقييم الأفعال من النوع الذي يكون عادةً محلَّ خلاف في المناقشات الأخلاقية، بل كذلك العادات الاجتماعية والقوانين والسياسات الحكومية.
بالرغم من تفاؤل راسل حيال وجهة النظر هذه، فهي تتضمن عددًا من الصعوبات؛ إذ تقول في الواقع إن أساس التقييم هو إجماع الرغبات. ولكن هذا معناه أنه إذا كانت الأكثرية في مجتمعٍ معينٍ مستاءةً من المثلية الجنسية — مثلًا — فإن المثلية الجنسية إذنْ تُعد سيئة، فيما إذا كانت الأكثرية في مجتمع أكثر تسامحًا يسري فيه إجماع مختلف، فلن تكون المثلية الجنسية سيئة. هل النسبية الأخلاقية من هذه الدرجة جديرة بالتصديق؟ وتتصل هذه الصعوبة بصعوبةٍ أخرى، وهي أنه ما دامت قيمة العواقب تقاس بقدر الرغبات التي تلبيها، فإن درجة الشر التي تتسم بها المحرقة النازية تصبح نتيجة متوقفة على درجة تفوُّق نسبة إحباط رغبات ضحايا النازيين ورغبات السواد الأعظم من سكان العالم — ممن قد لا يريدون أن يشيع القتل الجماعي (ربما تحسبًا لاحتمال أن يقعوا هم ضحايا له) — على نسبة تلبية رغبات النازيين. وكان راسل نفسه يشعر بوجود شيء أكثر إقناعًا يكمن خلف الهلع الأخلاقي الذي نشعر به حيال المحرقة النازية، ولكن مبادئه لا تشرحه.
إن أي قدر من الإلمام بالمناقشات المتعلقة بالأخلاق يوضح أن جهود راسل في هذا المجال سطحية؛ فحتى في كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة» تتسم المناقشة بطابع نُصحي أكثر منه فلسفيًّا. ويقوم كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة» على عموميات سيكولوجية شاملة، ولا يحتوي إلا على إشارة واحدة عن الدقة، وهدف الكتاب هو إقناعنا بقَبول منهجٍ عملي للتقييم الأخلاقي بدلًا من تقديم الأخلاق مدعمة بأساسٍ نظري. ويعود جزء من سبب ذلك — كما ذُكر فيما سبق — إلى أن راسل لم يكن يعتقد أنه يمكن تطبيق الدقة على مناقشة الأخلاق؛ فكان من المقرر في البداية أن تكون الفصول التي تتناول الأخلاق في كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة» عبارة عن تكملةٍ لكتاب «المعرفة البشرية»، ولكنه لم يدرجها في الكتاب، لعدم رضاه عنها، ولم ينشرها — مدعمة بفصولٍ عن المسائل السياسية — إلا بعد أن قرر أخيرًا أنه لم يستطع عرض الحجج التي تحتويها عرضًا منهجيًّا أكثر. ولكنه لم يشكُ من ذلك؛ فهدفه الأساسي من الأخلاق — كما هي الحال بخصوص كل المسائل الاجتماعية التي تصدَّى لها — كان على كلٍّ هو الجدل. كان يتمنَّى أن يكون مؤثرًا في طريقة حياة الناس، وكان راضيًا لتوريط نفسه في مجال الدفاع عن قضايا معينة والإقناع لبلوغ تلك الغاية.

المُثُل الأخلاقية العملية

نال راسل جائزة نوبل في فرع الآداب، وكان الكتاب الذي ورد في حيثيات نيل الجائزة هو كتاب «الزواج والأخلاق». ألَّف راسل الكثير عن المسائل المتعلقة بالمُثل الأخلاقية العملية، ونجد بعض أفضل ما ألَّفه في هذا المجال في عشرات المقالات القصيرة التي كان يكتبها للصُّحف، وأهمها المقالات التي نشرتها دار نشر هيرست بريس في أمريكا إبان أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين. وفي هذه المقالات (دائمًا ما كانت لا تزيد عن ٧٥٠ كلمة، حسبما يتطلب حجم العمود المخصص لها في صفحة الجريدة) يمنحنا راسل انطباعًا بأنه سريع الملاحظة ومتسامح وعطوف ومتعقل، ولم يكن يسبق عصره فقط، بل وعصرنا نحن أيضًا في الكثير من المسائل.

فلنأخذ مثلًا مقاله «عن اللباقة». يقول في هذا المقال إننا نخصص للباقة والصدق مكانَين منفصلَين تمامًا، ولكن يأتي هذا على حساب أمرٍ آخر:

كنت أمرُّ أحيانًا بجوار أطفال يلعبون في الحديقة العامة، فأسمعهم يقولون بصوتٍ عالٍ واضح: «ماما، من ذلك العجوز المضحك؟» فأسمع من يرد بصوتٍ هامس مرتاع: «اسكت! اسكت!» فيدرك الأطفال إدراكًا مبهمًا أنهم ارتكبوا شيئًا خاطئًا، ولكنهم يعجزون تمامًا عن تصوُّر كنه ذلك الخطأ. يتلقَّى كل الأطفال من آنٍ إلى آخر هدايا لا تعجبهم ويلقنهم آباؤهم أنه يجب أن يبدوَ عليهم وكأنهم فرحوا بالهدايا. وحين يأمرونهم كذلك بأنه يجب عليهم ألا يكذبوا، يؤدي ذلك إلى تشوُّش أخلاقي.

(«عن اللباقة»، في كتاب «البشر وغيرهم» (ألين وأنوين، ١٩٧٥) ص١٥٨)

تتحدث هذه الفقرة عن التربية القائمة على اللباقة. ويقول راسل إن اللباقة من الفضائل يقينًا، ولكن لا يفصلها عن النفاق إلا خيطٌ رفيع للغاية. ويتوقف الفارق بينهما على الدافع. فإذا كان العطف يدفعنا لإرضاء شخصٍ ما في ظروف قد تؤدي الفظاظة فيها إلى إزعاجه، تصبح اللباقة ملائمة؛ ولكنها تصبح أقل لطفًا حين يكون الدافع هو الخوف من الإساءة، أو الرغبة في الحصول على ميزة بالتملُّق. ولا تعجب اللباقة من يتسمون بالجدية الشديدة؛ فحين زار بيتهوفن جوته في مدينة فايمار صُعق حين رآه يتصرف بأدب مع مجموعة من المتملِّقين الحمقى. إن من يواظبون على الصدق ولا يكذبون قط بدافع التهذيب عادةً ما يحظَوْن بالتقدير، ولكن يقول راسل إن هذا سببه أن الصادقين الحقيقيين مجردون من الحسد والحقد والتفاهة. «معظمنا يدخل في تكوينه شيء من هذه الرذائل؛ ولذلك علينا أن نستخدم اللباقة لتجنُّب الإساءة للغير. وليس من الممكن أن نصبح جميعًا من القديسين، وإذا كان بلوغ مرتبة القديسين أمرًا مستحيلًا، فلنا أن نحاول على الأقل أن نتجنب أن نكون سيئي الطبع.»

ربما تبدو هذه مادة سطحية واهية، ولكنها تتسم بالأثر العميق، وتطرح نقاطًا جديرة بالدراسة والتأمل؛ فكتابات راسل الصحفية عن المسائل الاجتماعية ذات طابع ممتع ومسلٍّ ومثَقِّف، وهو ما تميز به.
ويتناول كتاب «الزواج والأخلاق» مسائل أكبر وأكثر إلحاحًا؛ فهو يركز على الجنس والحياة الأسرية. ومن وجهة نظر راسل، للمُثل الأخلاقية الجنسية مصدران أساسيان: رغبة الرجال في التيقن من أنهم حقًّا آباء الأطفال الذين تلدُهم زوجاتهم، والاعتقاد الديني بأن الجنس آثم. كان راسل مستعدًّا دائمًا لتلقِّي الإرشاد من العلم في عصره، وفي هذه الحالة لجأ إلى علم البيولوجيا (الأحياء) للبحث عن تفسيرٍ لأصول تلك العادة. وقد دفعه علم الأحياء إلى الاعتقاد بأن المُثل الأخلاقية الجنسية في العصور القديمة كان الغرض البيولوجي منها هو توفير حماية الأبوين لكل طفل، وهو دافع يحرص راسل على الموافقة على أنه دافع وجيه. ويقول إن الكثير من الضغوط تهدد الحياة الأسرية في العصر الحديث ويجب التصدي لها؛ فالأطفال بحاجة إلى عاطفة كلا الأبوين؛ أما البديل المتمثل في ترك تنشئة الأطفال جزئيًّا أو حتى كليًّا للدولة — كما تمنَّى أفلاطون — فليس مستحسنًا؛ فإذا تولَّت الدولة تنشئة الأطفال، فسينتج عن ذلك قدْر مفرط من التماثل، وربما قدْر مفرط من القسوة؛ ومن الممكن استغلال الأطفال الذين يُربَّوْن بهذه الطريقة ليصيروا أتباعًا مخلصين لمروجي الدعاية السياسية ومثيري الفتنة والاضطرابات.
ولكن فيما يتصل بالمُثل الأخلاقية الجنسية — من وجهة نظر راسل — فالاتجاه الحديث نحو زيادة حرية التعبير والسلوك أمر طيب؛ فالآراء الأكثر تحررًا تنشأ من تراخي قبضة المُثل الأخلاقية التقليدية، ولا سيما المُثل الأخلاقية الدينية؛ ويصبح السلوك الأكثر تحررًا ممكنًا بفعل التطورات التي حدثت بخصوص منع الحمل؛ مما وضع النساء على قدم المساواة مع الرجال من حيث التحكم في حياتهن الجنسية.
في رأي راسل، تسببت العقيدة القائلة بأن الجنس آثم في ضررٍ فادح، ويبدأ الضرر في الطفولة ويستمر حتى النضج في صورة النواهي وما تسببه من ضغوط. يؤدي كبت الدوافع الجنسية إلى تسبب المُثل الأخلاقية التقليدية في إفساد أنواع الشعور الودي الأخرى أيضًا؛ مما يجعل الناس أقل تسامحًا وعطفًا، وأكثر ميلًا إلى القسوة والأنانية. لا بد بالطبع من أن يحكم الجنسَ مبدأٌ أخلاقيٌّ، كما هي الحال مع التجارة أو الرياضة، ولكن لا ينبغي أن يقوم «على محظورات عتيقة يعرضها غير المتعلمين في مجتمع يختلف تمامًا عن مجتمعنا»، ويقصد راسل بهذا تعاليم آباء الكنيسة القدماء. «ففي الجنس، كما هي الحال في الاقتصاد والسياسة، ما زال مبدؤنا الأخلاقي تهيمن عليه المخاوف التي جعلتها الاكتشافات الحديثة غير منطقية» (الزواج والأخلاق، ص١٩٦-١٩٧).
لا بد من مُثل أخلاقية جديدة قوامها رفض المذهب البيوريتاني المتزمِّت، على أن تُبنى على الاعتقاد بضرورة تدريب الغريزة وليس التصدي لها. ولا ينطوي الموقف الأكثر تحررًا تجاه الحياة الجنسية على أنه من المسموح لنا أن نطيع دوافعنا ونتصرف كما نشاء؛ وذلك لأنه لا بد من وجود اتساق في الحياة، ومن بين أهم جهودنا المفيدةِ الجهودُ الموجهة نحو الأهداف الطويلة المدى؛ مما يقتضي تأجيل المتع القصيرة المدى. أيضًا، لا بد من مراعاة الآخرين و«قواعد الاستقامة». ولكن ضبط النفس — كما يؤكد راسل — ليس غاية في حد ذاته، وينبغي أن تضمن الأعراف الأخلاقية أن تكون ضرورة اللجوء إليه في حدها الأدنى لا الأقصى. ومن الممكن اللجوء إلى ضبط النفس إلى الحد الأدنى في حالة حسن توجيه الغرائز بدءًا من الطفولة وإلى المراحل التي تليها. ولأن الغرائز الجنسية قوية للغاية، فإن دعاة علم الأخلاق التقليديين يرَوْن أنه لا بد من كبحها بشدةٍ في الطفولة، خوفًا من أن تصير فوضوية وبذيئة. ولكن لا يمكن أن تُبنى حياة رغدة على المخاوف والمحظورات.
ومن ثَمَّ، فإن المبادئ العامة التي يعتقد راسل بأن المُثل الأخلاقية الجنسية يجب أن تقوم عليها بسيطة وقليلة. أولًا: ينبغي أن تقوم العلاقات الجنسية «بقدر الإمكان على تلك المحبة العميقة الجادة بين الرجل والمرأة التي تشمل الشخصية الكاملة لكلٍّ منهما، وتؤدي إلى اندماجٍ يثري كلًّا منهما». وثانيًا: إذا نتج أطفال عن تلك العلاقات، ينبغي رعايتهم بدنيًّا ونفسيًّا على نحوٍ مناسب. ويعلق راسل متهكمًا بأن أيًّا من هذين المبدأين ليس شديد الفظاعة؛ إذ يدرك الخزي الذي لحق به لما عُرف عنه من زنًا وطلاقٍ ومساكنة دون زواج وبسبب لا مبالاته بإخفاء كل ذلك عن العيون، وكانت كلها سلوكيات فاضحة إلى حدٍّ فادح آنذاك. ولكن المبدأين معًا يعنيان ضمنًا أن مجموعة القوانين الأخلاقية التقليدية قد طرأت عليها تعديلات مهمة معينة.
أحد هذه التعديلات هو أنها تسمح بدرجةٍ مما يُطلق عليه عادةً «الخيانة». فإذا لم ينشأ الناس وهم يرَوْن أن الجنس تقيده المحرمات، وإذا لم تكن الغيرة تحمل موافقة المعلمين المعنيين بعلم الأخلاق، لَاستطاع الناس أن يتعاملوا بعضهم مع بعضٍ بمزيد من الإخلاص والتسامح؛ فالغيرة تدفع الحبيبين إلى حبس كلٍّ منهما للآخر في سجن مشترك، وكأنها منحت كلًّا منهما حقًّا في السيطرة على كيان الآخر واحتياجاته. كتب راسل يقول: «لا ينبغي تناول الخيانة على أنها أمر فظيع.» إذ إن وجود «ثقة في القوة المطلقة لعاطفة عميقة ودائمة» هو رابطة أفضل بكثير من الغيرة (الزواج والأخلاق، ص٢٠٠-٢٠١). ويؤكد راسل في مواضع أخرى أنه لا يوجد مبرر للاعتراض على الزواج المفتوح — كما يُطلَق أحيانًا على ذلك النظام — بشرط ألا تُنجب المرأة أطفالًا من عشيق وتتوقع أن يربيهم زوجها. وقد انتهى زواجه هو ودورا جزئيًّا بسبب هذه المشكلة.
ويختتم راسل كتاب «الزواج والأخلاق» بالقول إن المبدأ الذي يقدمه — رغم هذه التعليقات التي تتناول الخيانة — ليس مبدأً يقوم على الفسق؛ فهو يشمل حقًّا قدر ضبط النفس عينه تقريبًا الذي تطالب به المُثل الأخلاقية التقليدية، والفارق الملحوظ هو أن ممارسة ضبط النفس تكون بالامتناع عن التدخل في حرية الآخرين بدلًا من كبت حريتنا نحن. وكتب راسل يقول: «من المأمول — في رأيي — أنه عن طريق التعليم المناسب من البداية يصبح هذا الاحترام للهوية الشخصية وحرية الآخرين سهلًا بعض الشيء؛ ولكن من وجهة نظر مَن نشأ منَّا وهو يرى أنه يحق لنا أن نعترض على تصرفات الآخرين باسم الفضيلة، فلا شك أنه من الصعب الامتناع عن ممارسة هذا النوع المحبب من الاضطهاد.» إن جوهر الزواج الناجح هو الاحترام المتبادل والأُلفة العميقة؛ فعند وجود هذه العناصر، يصبح الحب الحقيقي بين الرجل والمرأة هو «أكثر تجربة مثمرة من بين كل التجارب الإنسانية»؛ وهذا هو الهدف الذي ينبغي أن يشجعه كل من يتأملون في الزواج والأخلاق (الزواج والأخلاق، ص٢٠٢-٢٠٣).
وقد شعر الكثيرون آنذاك بأن آراء راسل شائنة إلى حدٍّ مروِّع. وتسبب كتاب «الزواج والأخلاق» في فقدانه وظيفته في نيويورك في عام ١٩٤٠ (مع أنه أدَّى إلى فوزه بجائزة نوبل بعد ذلك بعشر سنوات — كما ذُكر آنفًا — وهو ما يوضح كيف من الممكن أن تكون الحياة متقلبة وغير متوقعة)، وأوحى الكتاب — وكذلك سمعته بحب صحبة النساء — إلى الكثيرين للربط بينه وبين شخصية الرجل الشهواني. ولكن ربما يمكن أن نذكر نقطتين عن هذه الآراء؛ أولاهما هي ما تتسم به من عقلانية هادئة ومتسامحة، والأخرى هي أن آراءه لم تنشأ من فراغ؛ فهي في الواقع تعبر عن موقف يشاركه فيه طليعة المثقفين اليساريين إبان عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته؛ إذ كانوا يرَوْن أن حرية العلاقات الجنسية ورفض الغيرة الجنسية بمنزلة مبادئ غير مكتوبة. كان راسل يمتلك الشجاعة والفصاحة المنطقية الجازمة، وهو ما يلزم للدفاع عن هذه الأفكار أملًا في تغيير وجه مجالٍ من مجالات الحياة في أمسِّ الحاجة إلى ذلك. ومع التغير الجذري الذي طرأ على الاتجاهات والعادات بعد ذلك بجيل — الذي أسهم فيه جزئيًّا نشاط راسل — فإن حججه ما زالت تستحقُّ القراءة كعلاج فعَّال ضد الرجعية.
كثيرًا ما تتكرر في آراء راسل عن العلاقات الإنسانية ثلاثة موضوعات؛ أولها: هو ضرر الدين، والثاني: هو ضرورة التعليم الجيد، والثالث: هو الحرية الفردية. وكلٌّ منها عبارة عن فكرة رئيسة ثابتة في فكر راسل الاجتماعي، وقد أولى راسل كلًّا منها اهتمامًا كبيرًا. وسأعرض لهذه الموضوعات بالترتيب.

الدين

يفاجأ الناس حين يعلمون أن راسل لم يكن ملحدًا؛ إذ كان بالأحرى لاأدريًّا. وقد دفعه الثبات على المبدأ إلى قبول «الاحتمال» القائل بأنه ربما يكون للكون إله، ولكنه كان يعتقد أن وجود شيء من هذا القبيل مستبعد للغاية، وأنه لو كان يوجد شيء من هذا القبيل — خاصَّةً إذا كان أقرب إلى فكرة الله في المعتقد التقليدي للمسيحية — لكان النفور الأخلاقي للكون أكبر مما هو عليه؛ لأنه في تلك الحالة سنُضطَرُّ إلى قبول فكرة أن كيانًا قادرًا على كل شيء يسمح — أو يشاء — بوجود الشر الطبيعي والأخلاقي في العالم («الشر الطبيعي» يعني المرض والكوارث مثل الزلازل والبراكين، وما شابه). ومن وجهة نظر راسل، ينبغي أن تكفيَ زيارة واحدة إلى عنابر أي مستشفًى للأطفال لتجعلنا نشعر إما بأنه من غير المحتمل وجود إله، أو أنه إذا كان يوجد إله فعلًا، فإنه قاسٍ.
سُئل راسل ذات مرة في واقعةٍ شهيرة عما عساه أن يفعل إذا اكتشف عند موته أن الله موجود على كلٍّ؛ فرد أنه سيلوم الله لأنه لم يقدم أدلة كافية على وجوده. وسُئل كذلك عن رأيه في «رهان باسكال»، وهو الرأي القائل بأننا ينبغي أن نؤمن بالله حتى لو كانت أدلة وجوده واهية للغاية، لأن فائدة الإيمان بالله — في حالة وجود الله — تفوق بكثيرٍ الخسارة في حالة عدم وجوده. ورد راسل بأنه إذا كان الله موجودًا لَاستحسن موقف غير المؤمنين لأنهم استخدموا عقولهم ووجدوا أن الأدلة التي تدعم الإيمان غير كافية.
وكان من الأساليب التي درج راسل على استخدامها رفضُ قبول أي قضية إلا في حالة وجود سبب وجيه يقنعه بذلك. ومن أهم أركان الحجة المستخدمة في اللاهوت الطبيعي لدعم قضية وجود الله («اللاهوت الطبيعي» معناه مناقشة مفهوم الإله بمعزلٍ عن أي وحيٍ معين ورد في كتب مقدسة أو تجربة صوفية) مجموعةٌ معروفة من «البراهين على وجود الله». وقد ناقش راسل هذه البراهين في كتابه «لماذا لستُ مسيحيًّا؟» (نُشر في عام ١٩٥٧، وكان عبارة عن مجموعة محاضرات ألقاها للمرة الأولى في عام ١٩٢٧).
أحد هذه البراهين هو حجة السبب الأول، وتقول بأن لكل شيء سببًا؛ إذنْ لا بد من وجود سبب أول. ولكن هذه الحجة — كما يقول راسل — متناقضة مع نفسها؛ لأنه إذا كان لكل شيء سبب فكيف يمكن أن يكون السبب الأول بلا مسبب؟ حسب بعض وجهات النظر، فإن الله هو السبب المسبب بذاته (حسب أرسطو، المحرِّك بذاته)، ولكن هذا المفهوم غير مترابط، وإذا دلَّ على شيء ممكن، إذنْ فإما يكون مبدأ السببية الكلية الذي تستند إليه الحجة بأكملها مبدأً باطلًا إذا اتضح أنه لا بد أن تكون الأسباب غير نتائجها (كما يوحي المبدأ فعلًا فيما يبدو)، أو إذا كان من المحتمل أن تكون الأسباب هي مسبباتها نفسها، فلماذا يكون من المحتمل وجود سبب واحد فقط؟
وتوجد حجة ثانية تستنتج من مظاهر التدبير في الكون نتيجة مفادها أنه لا بد من وجود مدبِّر. ولكن من ناحيةٍ، مظاهر الخلق في الأشياء تعللها على نحوٍ أفضل نظريةُ التطور، وهي نظرية لا تتضمَّن كيانات إضافية في الكون، وتتفق مع البيانات التجريبية؛ ومن ناحيةٍ أخرى، لا يوجد على أي حال أي أدلة على وجود تدبير «كلي» في العالم؛ حيث توحي الوقائع — باتساقٍ مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية، الذي يخبرنا بأن العالم يتحلل في حقيقة الأمر — بعكس ذلك تمامًا.
لدينا أيضًا حجة ثالثة تقول إنه لا بد من وجود إلهٍ كي يوجد مبرِّر للمُثل الأخلاقية. ومع ذلك، فهذه الحجة لا تفيد؛ لأنه كما يؤكد راسل في مكان آخر بإيجاز، قائلًا: «لطالما لقَّنَنَا علماء اللاهوت أن الأحكام التي يقدِّرها الله خير، وأنه لا سبيل لإنكار صحة هذه الحقيقة؛ إذ يترتب على ذلك أن الخير مستقل منطقيًّا عن أحكام الله» (المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ص٤٨). وربما نضيف أنه إذا اعتبرنا أن مشيئة الإله مبرر للمُثل الأخلاقية، إذنْ يصبح السبب الذي يدفعنا إلى التحلي بالأخلاق هو الحذر من عواقب أفعالنا؛ إذ يكمن في الرغبة في الإفلات من العقاب. ولكن هذا المبرر ليس أبدًا أساسًا مقنعًا لتقوم عليه الحياة الأخلاقية، والتهديدات ليست على أي حال مقدمات مقنعة «من الناحية المنطقية» لأي حجة.
وتقول حجة ذات صلة — استخدمها كانط — إنه لا بد من وجود إله لإثابة الفضيلة وعقاب الشر؛ لأنه يتضح لنا من التجربة أن الفضيلة في هذه الحياة لا تُقابَل دائمًا أو حتى كثيرًا بالثواب. ولكن هذا — كما يقول راسل — أشبه بالقول إنه ما دام كل البرتقال الموجود أعلى صندوق الفاكهة فاسدًا، فلا بد أن البرتقال الموجود تحته في الصندوق طيب؛ وهو استنتاج منافٍ للعقل.
يهاجم الكثيرون من مناهضي الدين الأثر المضر للدين في العالم باعتباره يتسبب في الاضطهاد والشقاق، ومع ذلك يرَوْن أن المسيح شخصية جذابة، ولكن موقف راسل كان مختلفًا؛ إذ كان يعتبره أقل لطفًا ورأفةً من بوذا وأدنى منزلةً بكثير من سقراط فكرًا وخُلقًا. ويرى راسل أن بعض تصرفاته غير لطيفة؛ فمثلًا حين أذبل شجرة التين — ولم يكن ليفيد أن تصير الشجرة غير مثمرة، ما دامت في غير أوان التين — وهدد بإصابة من رفضوا أن يؤمنوا به بالكرب الأبدي. ولفت راسل إلى أنه على مدى قرونٍ طويلة ظل الناس يُلقَّنون أن يؤمنوا حرفيًّا بصحة هذه التحذيرات الوحشية، ما دام ذلك كان يخدم مصالح الكنيسة. ولكن حين أشار المنتقدون في عصرٍ أكثر إنسانيةً إلى مدى قبحها، بدأت الكنيسة في تغيير موقفها بالقول إنه ينبغي فهم التحذيرات فهمًا مجازيًّا.
ولكن راسل كان يوجه معظم انتقاداته ضد المسيحية نفسها كظاهرة «منظمة». وكان يكره الإيمان بالمعتقدات الخرافية — «تعتقد الكنيسة الكاثوليكية أن القس يمكنه تحويل كسرة خبز إلى جسد المسيح ودمه بالتحدث إليها باللاتينية» — وسخفه المطبق؛ فمثلًا «هم يأمروننا بألا نعمل في أيام السبت، ويفهم البروتستانت هذا على أن معناه أنه ليس لنا أن نلهوَ في أيام الآحاد.» يرى راسل أن المسيحية تتميز على الأديان الأخرى بميلها إلى الاضطهاد؛ فالمسيحيون ضايقوا وقتلوا المنشقِّين واليهود والملحدين وبعضهم بعضًا؛ وأغرقوا آلاف البريئات وأحرقوهن وقتلوهن بطرقٍ أخرى بتهمة «السحر»؛ وأزهقوا حياة مئات الملايين من البشر بِناءً على عقائدهم المنافية للعقل المتعلقة بالخطيئة والسلوك الجنسي.
استخدم راسل في حربه على الدين أسلحة تتألف غالبًا من التهكم والازدراء. كان ملمًّا بالكتاب المقدس على نحوٍ يفوق الكثيرين من خصومه، وكان باستطاعته أن يفحمهم باقتباسٍ مناسب؛ ومثال ذلك حين يقول — وهو يناقش المزايا المقارنة بين الدين والعلم — إن «الكتاب المقدس يخبرنا أن الأرنب الوحشي يمضغ الطعام المجتر»؛ مما يسبب صعوبات للأصوليين عند مواجهتهم بعلم الحيوان. وفعلًا لم يكن التباين بين العلم والدين ليكون على نحوٍ أشد وضوحًا. يتناول الدين حقائق مطلقة ولا تقبل الجدل تظل سارية إلى الأبد؛ أما العلم فهو أشد حذرًا وترددًا. يفرض الدين قيودًا على الفكر، ويحرم الاستقصاء حين يتعارض مع ما تسنه الكنيسة؛ أما العلم فيتسم بسعة الأفق (الدين والعلم، ص١٤–١٦). وهذه اختلافات لافتة؛ ففي مواجهة المنطق العلمي أفضل ما يستطيع الدين أن يفعله — حين لا يحاول أن يظل أصوليًّا على نحوٍ متعنت — هو إعادة تفسير النصوص المقدسة بأسلوب مجازي، والتخفي خلف الادِّعاء بأن الحقائق الدينية تتخطى الفهم البشري.

ولكن مع أن راسل كان معاديًا للدين، فقد كان رجلًا متدينًا، وهذا تناقض ظاهري فحسب؛ فمن الجائز أن يكون للمرء موقف متدين للحياة دون الإيمان بوجود كائنات وأحداث خارقة للطبيعة. وفي هذا الموقف يؤدي تذوق الفن والحب والمعرفة إلى تعضيد الروح الإنسانية، وينطوي على شعور بالإجلال حيال العالم وأحبائنا، وينطوي كذلك على شعور مصاحب من الرحابة التي يكون المرء جزءًا منها. وفي مقال شهير وإن كان يتسم بأسلوب متكلف — بعنوان «عبادة الإنسان الحر» — كتبه راسل تحت تأثير فشل زواجه الأول وما صاحَب ذلك من تغيرات في نظرته للأمور، يعرض هذه الرؤية بعينها. ولكن كلماته تحمل بعض التحفظات المبهمة إذ يقول:

حين يتضح في البداية تعارض الوقائع والمُثل العليا، يصبح من الحتمي التحلي بروحٍ يفيض بالتمرد الناري وبكراهية جارفة للآلهة للدفاع عن الحرية. فأن نتحدى عالمًا معاديًا بإخلاص كإخلاص بروميثيوس وأن نراقب شروره دومًا، ونظل نكرهه دومًا، وأن نرفض الألم الذي قد ينزله أذى السلطة المتعمد؛ هو فيما يبدو واجب كل من يرفضون الاستسلام للمحتوم. ولكن السخط ما زال قيدًا، إذ يجبر أفكارنا على الانشغال بعالم خبيث؛ وفي خضم ضراوة الرغبة التي ينبع منها التمرد يوجد نوع من توكيد الذات الذي يجب على الحكماء التغلب عليه؛ فالسخط هو خضوع أفكارنا ولكن ليس رغباتنا؛ والحرية المنزهة عن الانفعال بالفرح أو الترح التي تكمن فيها الحكمة نجدها في خضوع رغباتنا، وليس أفكارنا. وتنشأ من خضوع رغباتنا فضيلة التسليم بالقضاء؛ وينشأ من حرية أفكارنا عالم الفن والفلسفة بأكمله، والقدرة على رؤية الجمال الذي من خلاله نتمكن من استعادة العالم النافر.

(مقال «عبادة الإنسان الحر»، ١٩٠٣، أعيد طبعه في كتاب «التصوف والمنطق»)

وكما يتضح، كان راسل يرى دائمًا أن التوق إلى السموِّ — لحلم الفيلسوف سبينوزا بفهم واضح ونزيه وشامل تمامًا لكل الأشياء التي من شأنها أن تحرر المرء — تلطفه الوقائع القاسية للمعاناة في العالم. وفي ديباجة سيرته الذاتية يكتب قائلًا: كان الحب والمعرفة — بقدر توافرهما — يرفعانِنِي إلى سماء الفردوس. ولكن الشفقة دائمًا ما كانت تعيدني إلى الأرض. ومن ثَمَّ، كان راسل يَتُوقُ بأسلوبه اللاأدري إلى الفردوس، وسعى إلى اكتشاف السُّبل التي من شأنها أن تقود البشر إلى هناك.

التعليم

كان راسل يأمل أن يكون أهم تلك السبل هو التعليم، الذي كان يرى أنه يتناول السؤال المتعلق بالكيفية التي ينبغي بها إعداد البشر للحياة. ولم يتناول راسل التفاصيل الإدارية المتعلقة بإعداد المدارس والجامعات وتدريب المعلمين — مثلما كان من الممكن أن يفعل سيدني وبياتريس ويب — ولكنه تحدَّث بدلًا من ذلك عما قد نسمِّيه الأهداف الروحية (بمعنًى علماني) للتعليم. وكتب راسل أن ما يهدف إليه التعليم هو بناء الخُلق؛ وأن أفضل خُلق هو الحيوية والشجاعة ورهافة الحس والذكاء، على أن تكون كلها «بأعلى مرتبة». وهكذا يعبر عن الموضوع في كتاب «عن التعليم»، الذي نُشر في عام ١٩٢٦، وذلك قبل أن يؤسس هو ودورا مدرسة بيكون هيل بعام واحد. ويتناول هذا الكتاب أساسًا سنوات الطفولة المبكرة، ويُقِرُّ راسل في سيرته الذاتية أنه كان «مفرطًا في التفاؤل حيال علم النفس»، وأنه كان أيضًا في بعض النواحي «مفرطًا في القسوة» في المناهج التي اقترحها. ومن أمثلة ذلك وجهة النظر — التي اتخذها من مبادئ مونتيسوري — القائلة بأنه إذا كان أحد الأطفال سيئ السلوك فينبغي فصله عن غيره من الأطفال حتى يتعلم أن يصبح صالحًا. وبات راسل يرى لاحقًا أن هذا نمط قاسٍ من قواعد ضبط السلوك.
ومع ذلك يحتوي الكتاب على بعض النصائح الوجيهة. ويبدأ راسل بالأطفال الصغار في سنٍّ مبكرة جدًّا، فيؤكد بأنه ينبغي وضع روتين منتظم للأطفال الرضع وإمدادهم بأكبر عدد ممكن من فرص التعلم، وأنه ينبغي إخفاء أي قلق يبديه الأبوان حتى لا «ينتقل القلق إلى الطفل بالإيحاء». وتعكس هذه العقيدة إيمان راسل بأنه ما دام القلق ليس فطريًّا بين الثدييات العليا الأخرى، فلا بد أن ظهوره على الأطفال يأتي نتيجةً لتأثرهم بالبالغين. وذكَّر قُرَّاءه في الوقت نفسه بأنه لا داعي لتعذيب أنفسهم في سبيل أداء واجبهم كآباء، بل أن يحرصوا على الموازنة بين مصالحهم ومصالح أطفالهم.
كان راسل يرى أن المعرفة في حد ذاتها تعمل كأداةٍ للتحرير.

هل العدالة الإجتماعية تتأسس على مبدأ التفاوت؟

مقالة بطريقة إستقصاء بالوضع حول العدالة الإجتماعية تتأسس على مبدأ التفاوت.
شعبة أداب وفلسفة {بكالوريا 2014-2017}
بالتوفيق والنجاح
نص السؤال يقال ׃ إن العدالة الاجتماعية لا تتحقق إلا من خلال احترام التفاوت الموجود بين الأفراد
دافع عن هذه الأطروحة
طرح المشكلة ׃
العدالة الاجتماعية أخذت مكانة بين المفكرين والفلاسفة منذ سقراط حتى العصر الحديث أي أن المجتمعات البشرية حاولت تحقيق العدالة وتجسيدها في أرض الواقع ولكن بقيت هذه الفكرة من المفاهيم التي لم تؤدي إلى وجود اجتماع بين المفكرين ورجال القانون فقد كانت الفكرة الشائعة لديهم هي أن المساواة هي أساس تحقيق العدالة الاجتماعية لكن هناك فكرة تناقضها وهي أن العدالة تقوم على مبدأ التفاوت أي يجب احترام الفوارق الموجودة بين الناس من اجل تحقيق العد ل فكيف يتسنى لنا الدفاع عن هذه الأطروحة ؟
وما هي الحجج والأدلة التي تؤكد صحة ذلك ·؟
محاولة حل المشكلة
عرض منطق الأطروحة ׃ يرى أنصار نظرية التفاوت الذين يقرون بأن الناس ولدوا غير متساوين ويحكمهم التباين والاختلاف ولقد ظهر هذا الرأي منذ القدم في المجتمعات البدائية وعلى رأسهم المجتمع الإغريقي مجتمع أثينا بالخصوص أو ما يسمى بالمجتمع الهرمي وتجلى ذلك التفاوت خاصة في رأي الفيلسوف اليوناني أفلاطون،

بأن العدالة الاجتماعية تتحقق إلا عن طريق احترام التفاوت الموجود بين الأفراد لأنه قانون الطبيعة البشرية فإذا كانت الطبيعة لم تعدل بين الناس وفرقت بينهم وجعلتهم غير مساويين فانه يجب أن نؤسس العدالة على هذا المبدأ و قد استندوا إلى مسلمات ثم أكدواها بحجج منها ׃
هناك تفاوت بين الناس في قدراتهم ومختلف مجالات الحياة لهذا فالتفاوت نوعان ׃
التفاوت الطبيعي وهو راجع لفروق فردية بين الناس في قدراتهم العقلية كالذكي والضعيف عقليا الغبي القوي الذاكرة الضعيف الذاكرة ومواهبهم الجسمية القوي الضعيف والتفاوت الاجتماعي وهو راجع لفروق بين الناس في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الرئيس والمرؤوس العالم والجاهل رب العمل والعامل حيث يقول أرسطو التفاوت هو قانون الطبيعة ونجد الفيلسوف اليوناني أفلاطون الذي قسم الناس في كتابه الجمهورية إلى ثلاثة طبقات؛

وهي طبقة الحكام وطبقة الجند وطبقة العبيد لان هناك اختلاف وفوارق بين الأفراد في القدرات والمواهب وعلى العدالة أن تحترم هذا التفاوت في توزيع الحقوق على الطبقات أما في الفلسفة الحديثة خاصة الألمانية نجد نيتشه الذي يرى بأن العدالة الحقيقية هي التي تستند إلى التفاوت الطبيعي الموجود بين الناس فالأسياد لهم حق الملكية والحكم وللعبيد واجب الطاعة والاحترام وخدمة الأسياد وفقط ·
عرض منطق الخصوم ونقدهم ׃ يرى البعض من الفلاسفة والمفكرين أن العدالة لا يمكنها التحقق ولا باستطاعتها أن تطبق إلا على أساس المساواة المطلقة بين الأشخاص ذلك لان الناس خلقوا متساوين وغير مختلفين في شيء ولقد برزت هذه الفكرة منذ الأزل وذلك في المجتمع الروماني المعروف عليه بأنه ظالم مستبد إذ أن حكام هذا الشعب نادوا بفكرة العدل والمساواة وأشادوا بها في خطاباتهم وأقوالهم ومن بينهم الحكيم شيشرون:

الذي يقول في هذا وليس شيء أشبه بشيء من الإنسان بالإنسان لنا جميعا عقل ولنا جميعا حواس وان اختلفنا في العلم فنحن متساوون في القدرة على التعلم ضف إلى ذلك إن مساواة الإنسان بأخيه الإنسان إعلان أتت به جميع الديانات السماوية وجعلته شعار الإنسانية المثلى فالعدل إذن عند أنصار المساواة لا يتحقق إلا في ظل الكرامة الإنسانية المتمتعة بكامل حقوقها باعتبارها شعور يملا النفوس ·
نقدهم ׃ بالفعل إن نظرية المساواة ساهمت بدور فعال في إزاحة مظاهر الجور والظلم وطغيان الإنسان على أخيه الإنسان لكنها لم تسلم من انتقادات فلاسفة آخرين بموجب إن اعتماد المساواة أمر لا يخلو من الظلم في حالة ما إذا سوينا بين المتساوين وغير المتساوين في الطبع والذكاء والإرادة وبعض الفعاليات العقلية والنفسية والكثير من الصفات المكتسبة عن طريق الوراثة.

ولقد قال احد النقاد إن مبادئ نظرية المساواة يعشقها الجميع ولكن حقا إن اتفق الجميع على تطبيقها فهم لا يقدرون على ذلك فالمساواة في حد ذاتها تنشر الشحناء والبغضاء وهذا دليل على أن الناس مختلفين ولا يحكمهم مبدأ المساواة لوحده بل هناك مبدأ آخر وهو مبدأ التفاوت·
الدفاع عن منطق الأطروحة بحجج شخصية ׃ يمكن تدعيم الأطروحة القائلة إن العدالة الاجتماعية لا تتحقق إلا من خلال احترام التفاوت الموجود بين الأفراد بحجج وأدلة أهمها ׃
يعتبر التفاوت من الأسس المتينة التي تقوم عليها العدالة الاجتماعية لان الله سبحانه وتعالى اوجد فروقا بين الناس ليكون هناك تكامل بينهم في الخدمات فالطبيب يكمل الفلاح وهذا الأخير يكمل الأستاذ…
كذلك مبدأ التفاوت مهم في تحقيق العدالة داخل المجتمعات لأنه يؤدي إلى التناقض بين الأفراد وبالتالي تحقيق التقدم وهذا ما أكده أنصار الفلسفة الرأسمالية وخاصة الفيلسوف الانجليزي أدم سميث الذي وضع النظرية الاقتصادية القائمة على أساس الحرية وبالتالي فهو يقر بالتفاوت وذلك لوجود طبقتين في المجتمع وهما الطبقة البرجوازية والطبقة الكادحة.

أما الطبيب الفرنسي الكسيس كارليل فيقول بدل أن نعمل على إزالة هذا التفاوت محكوم علينا أن نشجعه ففي هذا التشجيع التطور والازدهار ونجد كذلك في هذا السياق هيغلالذي يؤمن بفكرة الاختلاف والتفاوت لأنه يعتقد بان التفوق يجب أن يكون للجنس الأبيض حتى يسود الأمن والاستقرار في العالم وهذا التفوق هو للأمم القوية على حساب الأمم الضعيفة وبهذا فان التفاوت أمر طبيعي لا بد منه·
حل المشكلة ׃ نستنتج في الأخير أن الأطروحة القائلة التفاوت هو أساس تحقيق العدالة الاجتماعية صحيحة وصادقة ويمكن الأخذ بها وتبنيها لان الاختلاف في قدرات وكفاءات الأفراد يساعد العدالة على توزيع الحقوق والواجبات حسب هذه الفوارق·لة العدالة بطريقة إستقصاء بالوضع حول مبدأ التفاوت أساس تحقيق العدالة .
شعبة أداب وفلسفة
بكالوريا 2014-2017
بالتوفيق والنجاح

ما هو موقف الغزالي من الميتافيزيقا ؟

ما هو موقف الغزالي من الميتافيزيقا ؟
كيف أستدل الغزالي علي كذب الفلاسفة في قضية الإلهيات ؟
هل كان كلام الفلاسفة سفسطة دون دليل حقيقي ؟
ماذا عن موقف ابن رشد من ذلك ؟
هل نجح ابن رشد في نقد الغزالي ؟

العقل قاصر علي إدراك ألذات ألإلهيه والكلام عنها وعن الأشياء الغيبية التي هي بعيدة عن أدراك العقل ألإنساني, وهو غير قادر علي الوصول إليها .

اهتمت الفلسفة اليونانية منذ بداية الفلسفة المالطية بوجود أصل واحد للأشياء في الكون سواء كان مادي أو روحي فتكلمت المذاهب الفلسفية في اليونان عن ذلك حتى تحدث الفلاسفة من بداية أرسطو عن الموجود ألأول أو العلة ألأولي .(ولما كانت الفلسفة ألأولي أي الميتافيزيقا هي العلم بالعلل الأولي للأشياء,فإنها تصبح العلم بالله وبذاتية من حيث أن الله هو العلة الأخيرة لكل ما هو موجود وهو الذي يؤسس كل وجود وكل معقولية ) (1) , وعندما تناول الفلاسفة المسلمين لمشكله الإلهيات من أمثال الفارابي وابن سينا وتحليلهم لبعض القضايا من جانب فلسفي وليس من جانب ديني يصعب علي العوام فهمه وتقبله دون المساس بالعقيدة الإسلامية . ومن الفلاسفة من قال بقدم العالم ومنهم من أذعن بحدوثه .وكذلك عني العرب في العصور الوسطي بمعرفة فلسفة اليونان ونقلوا الكثير من لغتهم العربية عن الترجمات السريانية آذ كان أكثر نقله الفلسفة في العالم العربي من السريان وعلي رأس هؤلاء المترجمين حنين بن إسحاق ومدر ستة غير أن أمانة هولاء النقلة ودقتهم لم تكن تصل في الغالب إلي المستوي اللائق فوقع علي فلاسفة العرب العبْ ألأكبر في تصحيح ما وصل إليهم ناقصا مشوها ,وأن استطاعوا علي الرغم من ذلك أن يخرجوا من هذا الركام المشوة بتفسيرات وشروح كان لها أبعد الأثر فيما بعد خاصة عند الأوربيين في العصور الوسطي .
-هاجم الغزالي موقف الفلاسفة المسلمين من الميتافيزيقا ,وهي أرائهم عن ألإلهيات وخاصة في مسائل قدم العالم ,العلم ألإلهي وقضية البعث بالأرواح دون ألأجسام وكفر الغزالي الفلاسفة في تلك القضايا التي هي بعيدة عن تعاليم الإسلام ,ولم ينزل بها الله من سلطان . وقام بتفنيد أرائه وتقديم الأدلة علي كذب ادعاءهم في كتاب (تهافت الفلاسفة) وهدف كتاب التهافت هو إظهار العقل بمظهر العاجز عن اقتناص الحقائق الإلهية ولهذا ,يحاول الغزالي فيه أن ينتزع ثقة الناس من العقل كمصدر تتعرف منه علي المسائل ألإلهيه .ولكن إذ يحاول تقيد سلطة العقل ,يتخذ من العقل نفسه مطية للوصول إلي هذه الغاية .فأذن عمله هذا هو محاولة
عقلية لإثبات قصور العقل في ميدان الإلهيات ,وشهادة عقلية بأن للعقل حدا يجب الوقوف عنده .
( فمن نظر إلي الغاية من كتاب التهافت تلك التي يصورها الغزالي نفسه بأنها انتزاع الثقة من الفلسفة .ورآه ,لهذا , بعيدا من نطاق الفلسفة ,فهو مضطر إلي اعتباره وسيلة .تلك التي تقوم علي استعراض مناهج الفلاسفة وأدلتهم .واستخدام العقل وحده للكشف عن قصورها وعجزها ,وضعفها وركنها – عملا داخلا في صميم الفلسفة إنه عمل يمكن
تصويره بأنه بحث في طاقه العقل .وهل يمكن أن يكون عمل كهذا بعيدا عن مجال الفلسفة ؟ ولقد قال أرسطو قديما ( أن من تنكر الميتافيزيقا يتفلسف ميتافيزيقا ) .)(2)

       مسالة قدم العالم

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

أن كان ابن سينا عول علي العقل واستلهم,فكذلك صنع الغزالي وإذا كان ابن سينا يسلك مسلكا عقليا صرفا يبين به مثلا وجوب أن يكون العالم قديم فيقول : وجود المعلول متعلق بالعلة من حيث هي علي الحال التي بها تكون من طبيعة أو إرادة أو غير ذلك من أمور تحتاج إلي أن تكون من خارج ,ولها مدخل في تتميم كون العلة علة بالفعل
وعدم المعلول متعلق بعدم كون العلة علي الحال التي هي بها علة بالفعل سواء كانت ذاتها موجودة أصلا فإذا لم يكن شيْ معوقا من خارج ,وكان الفاعل بذات موجودا ولكنه كانت طبيعة ,أو إرادة جازمة . أو غير ذلك . وجب وجود المعلول ,وإن لم توجد ,وجب عدمه .)وفي هذا يوضح ابن سينا ضرورة الوجود بالفعل أي القوة في تمام ألأشياء فأن كان العالم نشأ من مادة هي أزلية تنمو وتكبر من ذاتها دون وجود أسباب في خارج الطبيعة تقتضي حدوث الأشياء فيها ,أن لم توجد هذه العلة الخارجية فهي ليست موجودة .

               صدور العالم عن الله عند ابن سينا

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

وبذلك يحاول ابن سينا من خلال تسلسل الموجودات إلي الوصول للعقل الأول وهو الله لذلك جعل العالم في تكوينه عقولا تحاول كل منها السعي وراء العقل الأول , وهنا يقول ابن سينا بصدور ثلاثة موجودات عن هذا العقل ألأول حيث تبدأ أيضا فيما بعد الكثرة .والعقل الثاني له نفس وجرم وعقل وهكذا حتى نصل إلي العقل العاشر الذي ليس له القدرة علي الإبداع الموجودة في العقول السابقة عليه .وهذا العقل العاشر
هو العقل الفعال . وهو يتوسط العامين : المعقول والمحسوس . وهو يلعب دورا رئيسا , بالنسبة لعالمنا هذا من جهة أنه مصدر لوجودنا المادي ووجودنا الذهني . بعبارة أخري أن العناصر الأربع الرئيسية المكونة لهذا العالم المحسوس . حاصل عن العقل الفعال ,كما أن المعرفة البشرية تستمد صحتها وصدقها من العقل الفعال .وهذا يؤكد علي تأثر
الفلاسفة المسلمين بالفلسفة اليونانية وفي ذلك يسلك ابن سينا مسلك أفلوطين في كلامه عن الميتافيزيقا كما توضح ذلك د.أميرة حلمي مطر .الميتافيزيقا عند أفلوطين
(أن الواحد أو الأول عن أفلوطين يقترب كل الاقتراب من الإله الواحد اللامتناهي في عدم تحيزة المكاني أو تحدده الكيفي وهؤلاء يصفه بالفكر أو ألإرادة أو النشاط لأن كل صفه من هذه الصفات تفترض التميز بين ألذات وبين الموضوع ولا يجوز التميز في الواحد لأنه يمتاز بأنه وحدة تامة مطلقة ولذلك فكثيرا ما يلجأ أفلوطين إلي أسلوب السلب حين بصفة بصفات الألوهية والكمال فيقول :لا يجب أن نصف بأنه يريد وهو كله أرادة أو أنه نفس وهو كله وعي ,
أما عن علاقته بالوجود فان أفلوطين يفسرها بنظريته الهامة في الفيض وقد كان لهذه النظرية أكبر تأثير في الفلسفة ألإسلامية فيما بعد .يقول: لأنه كامل فهو ينتج بالضرورة كائنات كاملة خالدة تشبهه وإن لم تساوه في الكمال ,وهو يفيض بالوجود بغير أن يتأثر بإرادة أو بحركة , لأنه إذا كان التوالد يتم بحركة فسوف يكون الناتج في المرتبة الثالثة
بعد الواحد . يلجأ أفلوطين هنا إلي تشبيهات مختلفة فيقول : إن الفيض أشبه بالأشعة الصادرة عن الشمس أو الحرارة الصادرة عن النار أو البرودة الصادرة عن الثلج وأول ما يفيض عن الواحد هو الوجود ولأن الوجود الصادر يجتهد دائما بالقدر ألامكن أن يظل قريبا من مصدره الذي تلقي منه حقيقة فأنه بمجرد صدور عنه يلتفت إليه فيصير عقلا .فوقفته عند الواحد تجعله عقلا ,وهكذا ينشأ ألاقنوم الثاني عن ألأول فيكون العقل أو العالم المعقول

ألمسألة الرابعة من كتاب تهافت التهافت لابن رشد
   في بيان عجزهم عن الاستدلال علي وجود صانع         العالم0(4)

قال أبو حامد الغزالي مجيبا عن الفلاسفة :

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

(فأن قيل :نحن إذا قلنا للعالم صانع لم نعن به فاعلا مختار يفعل بعد أن لم يفعل كما نشاهد في أصناف الفاعلين من الخياط والنساج والبناء بل نعني به عله العالم ونسميه المبدأ الأول علي معني أنه لا عله لوجوده يقوم عليه البرهان القاطع علي قرب فأنا نقول العالم وموجودا ته أما أن يكون له عله أولا عله له فأن كان له عله فأن كل فتلك العلة لها عله إلي ما لا نهاية وهو محال وأما أن ينتهي إلي طرف فالأخير عله أولي لا عله لوجودها فنسميه المبدأ ألأول وإن العام وإن كان العام موجودا بنفسه لا عله له فقد ظهر المبدأ ألأول فإنا لم نعن به إلا موجودا لا عله له وهو ثابت بالضرورة .
قلت : هذا كلام مقنع غير صحيح ,فأن أسم العلة يقال باشتراك علي العلل ألأربعة ؛ أعني الفاعل ,والصورة
,والهيولي ,والغاية , ولذلك لو كان هذا جواب الفلاسفة لكان جوابا مختلا فإنهم كانوا يسألون عن أي عله أرادوا بقولهم : إن العالم له عله أولي , فلو قالوا أردنا بذلك السبب الفاعل الذي فعله لم يزل ولا يزال , ومفعولة هو فعله ,لكان الجواب صحيحا علي مذهبهم علي ما قلناه , غير معترض عليه , ولو قالوا أردنا به السبب المادي لكان قوله معترضا , وكذلك لو قالوا أردنا به السبب المادي لكان قوله معترضا , وكذلك لو قالوا أردنا به السبب الصوري لكان أيضا معترضا إن فرضوا صورة العالم قائمة به , وإن قالوا أردنا صورة مفارقة للمادة جري قولهم علي مذهبهم ،وإن فرضوا صورة هيولانية لم يكن المبدأ عندهم شيئا غير جسم من ألأجسام ,وهذا لا يقولون به , وكذلك إن قالوا هو سبب علي طريق الغاية كان جاريا أيضا علي أصولهم , وإذا كان هذا الكلام فيه من الاحتمال ما يري فكيف يصح أن يجعل جوابا للفلاسفة ).
فإن الغزالي يعول أيضا علي العقل وحده في إثبات حدوث العالم فيقول مخاطبا ابن سينا والفارابي [بم تتنكرون علي من (يقول : أن العالم حدث بإرادة قديمة اقتضت وجوده في الوقت الذي وجد فيه وأن يستمر العدم إلي الغاية التي استمر إليها … يبتديْ الوجود من حيث ابتدأ ,وأن الوجود قبلة لم يكن مرادا , فلم يحدث لذلك . وأنه في وقته الذي حدث فيه مراد بالإرادة القديمة ,فحدث لذلك . فما أصبح من هذا الاعتقاد وما المحيل له؟ فأن قيل هذا محال بين الإحالة ,لأن الحادث موجب ومسبب يستحيل حادث بغير سبب وموجب ,يستحيل وجود موجب قد تم بشرائط أيجاب وأركان ,حتى لم يبق شيْ منتظر ألبته ,ثم يتأخر الموجب بتمام شروطه ,ضروري , وتأخره محال حسب استحالة وجود الحادث الموجب بلا موجب ..
والجواب أن يقال : استحالة إرادة قديمة متعلقة بأحداث شيْ .أي شيْ كان . تعرفونه بضرورة العقل أو نظره ؟ وعلي لغتكم بين هذين الحدين ,بحد أوسط , أو من غير حدا أوسط؟ فأن أدعيتم حدا أوسط .وهو الطريق النظري – فلابد من إظهاره ,وإن ادعيتم معرفة ضرورة ,فكيف لم يشارككم في معرفته مخالفوكم , والفرقة المعتقدة لحدوث بإرادة قديمة لا يحصرها بلد ولا يحصيها عدد ,ولا شك في أنهم لا يكابرون العقول عنادا مع المعرفة – فلا بد من إقامة برهان – علي شرط المنطق –يدل علي استحالة ذلك .
فأن قيل نحن بضرورة العقل نعلم أنه لا يتصور موجب ,ومجوز ذلك مكابر لضرورة العقل .قلنا وما الفصل بينكم وبين خصومكم ,إذ قالوا لكم : إنا بالضرورة نعلم أحاله قول
من يقول :إن ذاتا واحدة عالمة بجميع الكليات من غير أن يوجب ذلك كثرة ,ومن غير أن يكون العلم زيادة علي ألذات ومن غير أن يتعدد العلم مع تعدد المعلوم وهذا مذهبكم في حق الله ,وهو بالنسبة إلينا وألي علومنا في غاية الإحالة , ولكن تقولون : لا يقاس العلم القديم بالحادث . وطائفة منكم استشعروا إحالة هذا فقالوا : إن الله لا يعلم إلا نفسه , فهو العاقل , وهو المعقول ,وهو العقل الكل واحد .
فلو قال قائل : اتحاد العاقل والعقل والمعقول ,معلوم الاستحالة بالضرورة إذ تقدير صانع للعالم لا يعلم صنعته .محال بالضرورة ،والقدم إذا لم يعلم إلا نفسه – تعالي عن قولكم . وعن قول جميع الزائفين علوا كبيرا – لم يكن يعلم صنعة البتة .فنقول :بم تتنكرون علي خصومكم إذا قالوا : قدم العالم محال , لأنه يؤدي إلي إثبات دورات للفلك لانهاية لأعدادها ولأحصر لأجادها ,مع أن لها سدسا ,وربعا ,ونصفا ,فأن فلك الشمس يدور في سنه , وفلك زحل في ثلاثين سنه , فتكون أدوار زحل ثلث عشر سنه .ثم كما أنه لا نهاية لأعداد دورات الشمس مع أنها ثلث عشرها . بل لا نهاية لأدوار ذلك الكواكب الذي يدور في سنه وثلاثين ألف سنة مرة واحدة كما لانهاية للحركة المشرقية التي للشمس في اليوم والليلة مرة.فإن قال قائل :هذا مما يعلم استحالة ضرورة .فماذا تنفصلون عن
شفع ووتر جميعا ؟ أو لا شفع ولا وتر ؟ فأن قلتم :شفع ووتر جميعا ,أولا شفع ولا وتر , فيعلم بطلانه ضرورة ,وإن قلتم :شفع ,فالشفع يصير وترا بواحد فكيف أعوزه ذلك الواحد …الخ )

         العلم الإلهي (6) 

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

عن العلم ألإلهي فيقول الغزالي أنه سبحانه عالم جميع المعلومات محيط بما يجري في تخوم (حدود) الأرضيين إلي أعلي السماوات ,لا يعزب عن عمله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ,بل يعلم دبيب النملة السوداء علي الصخرة الصماء في الليلة الظلماء . إن الله تعالي عالم بجميع المعلومات من الموجودات والمعدومات فأن الموجودات منقسمة إلي قديم وحادث والقديم هو الله ,وكل ما عداه حادث . وهو عالم ذاته بذات .ومن هو كذلك فهو أعلم بغيره لان غيرة من صنعة فكيف لا يعلم ما خلق ,وكيف تعذب عن الصانع صناعته وعن الخالق خلقه ….. أن من رأي خطوطا منظومة تصدر علي الاتساق من كاتب ,ثم استراب في كونه عالما بصنعة الكتابة كان سفيها في استرا بته.
ولكن السؤال الآن : هل لمعلومات الله نهاية ؟ يجيب الغزالي بقوله : لا ,فأن الموجودات في الحال وان كانت متناهية فالممكنات في الاستقبال غير متناهية ,ويعلم أن الممكنات التي ليست بموجودة أنه سيوجدها أم لا يوجدها.فيعلم إذا ما لا نهاية له . بل لو أردنا أن نكثر علي شيْ واحد وجوها من النسب والتقديرات لخرج عن النهاية والله تعالي عالم بجميعها .والغزالي قد ركز علي صفة العلم الإلهي لأنها من جمله المسائل التي كفر فيها الفلاسفة قالوا بنظرية الفيض والصدور لم يحدث بإرادة الله وقدرته ,بل حدث حدوثا تلقائيا .فقد خاطب الغزالي الفلاسفة بقوله (..فأما أنتم فإذا نفيتم الإرادة والأحداث وزعمتم أن ما يصدر منه يصدر بلزوم علي سبيل الضرورة
والطبع ,فأي بعد في أن تكون ذاته ذاتا من شأنها أن يوجد منها المعلول الأول فقط ثم يلزم من المعلول الأول المعلول الثاني إلي تمام ترتيب الموجودات ولكنه مع ذلك لا يشعر بذاتية كالنار يلزم منها السخونة , والشمس يلزم منها النور ولا يعرف واحد كما لا يعرف غيره ,بل يعرف ذاته ويعرف ما يصدر منه. ولا يعرف غيره ,بل يعرف ذاته ويعرف ما يصدر منه .ولا يعرف غيرة ,بل يعرف ذاته ويعرف ما يصدر منه .وقد بينا من مذهبهم أنه 0(لا يعرف غيرة ..) .ونحن نعلم أن الفلاسفة يذهبون إلي أن الله يعلم الموجودات بعلم كلي لا بعلم جزئي لان من شأن العلم الجزئي ,في زعمهم أن يجعل علم الله مستفادا من المعلوم ومن ثم لا يكون علمه أزليا .ثم أن حدوث العلم لله يعني الانفعال والانتفاش ولا يصح ذلك بالنسبة إلي الله . لهذا فان العلم ألإلهي علم كلي فهو يعقل ذاته ومن خلال تعقله لذات يعقل أجناس الموجودات والتي تتضمن في زعمهم النوع والفرد … هنا يرفض الغزالي هذه النظرية .فهو يري أنه لا يصح أن يعلم المرء أو الله الشي قبل حدوثه وبعد حدوثه بعلم واحد ومن جهة واحدة ,لان إلا مكان غير موجود ,الذي يختلف بدوره عن الفساد فيما بعد . ولهذا عالج الغزالي مشكله العلم ألإلهي علي الوجه التالي : لو أن الله خلق لنا مادام علمنا سابقا عليه ,وليس ثمة تغيرا طرأ علي العالم هنا , لان ما حدث جاء مطابقا للعلم .ولهذا فان الله تعالي له علم واحد بوجود كسوف الشمس مثلا في وقت معين ,وذلك العلم قبل وجوده علم ب~أنه سيكون ,وهو بعينه عند الوجود علم بالكون ,وهو بعينه بعد الانجلاء علم بالانقضاء
,وأن هذه الاختلافات ترجع إلي إضافات لا توجب تبدلا في
ذات العلم ,فلا توجب تغيرا في ذات العالم ,وأن ذلك ينزل منزله الإضافة المحضة . فان الشخص الواحد يكون علي يمينك ثم يرجع إلي قدامك ثم إلي شمالك ,فتتعاقب عليك الإضافات ,والمتغير ذلك الشخص المنتقل دونك , وهكذا ينبغي أن تفهم الحال في علم الله تعالي . فانا نسلم أنه يعلم الأشياء بعلم واحد في الأزل والأبد , والحال لا يتغير ,وغرضهم نفي التغير, وهو متفق عليه .

 في إبطال إنكارهم لبعث الأجسام مع التلذذ التام  : 

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

مسألة في إبطال إنكارهم لبعث الأجساد ,ورد الأرواح إلي الأبدان ,ووجود النار الجسمانية ,ووجود الجنة والحور العين ,وسائر ما وعد به الناس , وقولهم : إن كل ذلك أمثلة ضربت لعوام الخلق , لتفهيم ثواب وعقاب روحانيين ,هما أعلي رتبة من الجسمانين .ثم يسوق الدليل التالي علي لسان الفلاسفة ,تبريرا لإنكارهم البعث الجسماني : وأما تقدير بقاء النفس وردها إلي تدبير البدن بعد مفارقته ؛لكنة محال ؛ آذ بدن الميت يستحيل ترابا , أو تأكله الديدان والطيور ,ويستحيل ماء , وبخارا ,وهواء ,ويمتزج بهواء العالم ,وبخاره ,ومائه , امتزاجا يبعد انتزاعه واستخلاصه .
ولكن إن فرض أمكان ذلك , اتكالا علي قدرة الله تعالي فلا يخلو : إما أن يجمع ألأجزاء التي مات عليها فقط ,فينبغي أن يعاد القطع ,ومجدوع الأنف والأذن , وناقص الأعضاء ومجدوع ألأنف و ألأذن وناقص ألأعضاء , كما كان ؛ وهذا
مستقبح , لاسيما في أهل الجنة , وهم خلقوا ناقصين في ابتداء الفطرة ,فإعادتهم إلي ما كانوا عليه من الهزال عند الموت , في غاية لنكال .هذا إن اقتصر علي جمع الأجزاء الموجودة عند الموت . وإن جمع جميع أجزائه التي كانت موجودة في جميع عمره , فهو محال من وجهين : بعض البلاد , ويكثر وقوعه في أوقات القحط – فيتعذر حشراهما جميعا ؛لأن مادة
واحدة , كانت بدنا للمأكول ,وصارت بالغذاء بدنا للأكل ,ولا يمكن رد نفسين إلي بدن واحد .
والثاني يجب أن يعاد جزء واحد .كبدا ,وقلبا , ويدا .ورجلا ؛فإنه ثبت بالصناعة الطبية أن ألأجزاء العضوية يتغذى بعضها بفضل غذاء البعض , فيتغذى الكبد بأجزاء معينة قد كانت مادة لجملة من الأعضاء ,فإلي أي عضو تعاد ؟
بل لا يحتاج في تقرير الاستحالة الأولي إلي أكل الناس للناس ؛فأنك إذا تأملت ظاهر التربة المعمرة , علمت بعد طول الزمان , أن ترابها جثت الموتى . قد تتربت وزرع فيها وغرس , وصارت ترابا ,ثم نباتا ,ثم لحما ثم حيوانا .
بل يلزم منه محال ثالث , وهو أن النفس المفارقة للأبدان غير متناهية والأبدان أجسام متناهية , فلا تفي المواد – التي كانت مواد الناس – بأنفس الناس كلهم , بل تضيق بهم .

               رد ابن رشد علي الغزالي

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

خصص ابن رشد كتابه (تهافت التهافت ) للرد علي ما ذكره الغزالي في كتاب تهافت الفلاسفة والذي أفدنا منه في موقف الغزالي من تكفير الفلاسفة في بعض أقوالهم . ولما كان ذلك
حاول ابن رشد تفنيد كتابه لبيان أدعاء الغزالي الكاذب علي الفلاسفة .وما يهمنا في البحث هو بيان رد ابن رشد علي
الغزالي في ألإلهيات وهي ما كفر فيها الغزالي الفلاسفة .

              المسالة الرابعة (من الطبيعيات ) المسألة العشرون في إبطال إنكارهم لبعث الأجسام مع التلذذ التام

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

قال ابن رشد : ولما فرغ من هذه المسألة اخذ يزعم أن الفلاسفة ينكرون حشر الأجسام . وهذا شي ما وجد لواحد مما تقدم فيه قول . والقول بحشر الأجساد هم أنبياء بني إسرائيل الذين أتوا بعد موسي عليه السلام وذلك بين من الزبور وكثير من الصحف المنسوبة لبني إسرائيل ,وثبت ذلك أيضا في الإنجيل وتواتر القول به عيسي عليه السلام وهو قول الصابئة .وهذه الشريعة قال محمد أبو حزم : إنها أقدم الشرائع .بل القوم يظهر من أمرهم أنهم أشد الناس تعظيما لها وإيمانا بها . والسبب في ذلك أنهم يرون أنها تنحو نحو تدبير الناس الذي به وجود الإنسان بما هو إنسان , وبلوغ سعادته .الخاصة به وذلك أنها ضرورية في وجود الفضائل الخلقية للإنسان ,والفضائل النظرية والصنائع العملية ولا حياة له في هذه الدار ولا في الدار الآخرة إلا بالفضائل النظرية ,وإنه ولا واحد من هذين يتم ولا يبلغ إليه إلا الفضائل الخلقية ,وأن الفضائل الخلقية لا تتمكن إلا بمعرفه الله تعالي وتعظيمه بالعبادات المشروعة لهم في مله مله , مثل القرابين والصلوات والأدعية وما يشبه ذلك من الأقاويل التي تقال في الثناء علي الله تعالي وعلي الملائكة والنبيين . ويرون بالجملة أن الشرائع هي
الصنائع الضرورية المدنية التي تأخذك مبادئها من العقل والشرع , ولا سيما ما كان منها عاما لجميع الشرائع وإن اختلفت في ذلك بالأقل والأكثر.

قائمة المصادر :

♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡
(1) الإمام أبو حامد الغزالي , تهافت الفلاسفة ,تحقيق سليمان دنيا , الطبعة السابعة ,دار المعارف
(2) ابن رشد , تهافت التهافت , محمد العريبي ,دار الفكر اللبناني ,بيروت
(3) ديكارت, مقال عن المنهج ,ترجمة محمود محمد الخضيري ,المصرية العامة للكتاب , 1985م
قائمة المراجع :
1) فيصل بدير عون , فلاسفة الإسلام في المشرق والمغرب , الطبعة الرابعة ,مكتبة الحرية الحديثة
2) أميرة حلمي مطر ,الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها , دار قباء , 1998م
3) محمد علي أبو ريان , تاريخ الفكر الفلسفي أرسطو والمدارس المتأخرة , الطبعة ألأولي , دار الوفاء , 2007م

فلسفة العقل والدين عند كل من الفلاسفة اسبينوزا وكانط وهيغل

بسبب ما يشهده العالم حاليًا من عنف وفوضى وتقلبات حدّية، تعود أطروحات فلسفية وضعها سبينوزا، وكانط، وهيغل، إلى الواجهة، حيث إن دراستها بتمعن وفهمها قد يساعد في التفكر في المستقبل.
تعتبر الفرنسيّة كاترين غوليو أن سبينوزا، وكانط، وهيغل هم الأكثر حضورا في عالم اليوم الذي يشهد تقلبات عنيفة، وبروز العديد من المذاهب والإيديولوجيات التي تحرض على العنف والكراهية، وعودة الشعوذة والسحر للمجتمعات في الدول المتقدمة. وفي ذلك كتبت تقول: “نساء يحاكمن بالإعدام اعتمادا على القرآن لأنهن اغتصبن. أميركيون يؤكدون أن العالم خلق بحسب روزنامة سفَرَ التكوين. شخصيّات أوروبية كبيرة ونافذة تسافر إلى إفريقيا السوداء لدراسة السحر والانتفاع من “فضائله”. هل نحن على وشك الانحدار إلى عالم الجنون مستعملين الأسلحة التي هي أسلحتنا، والتي هي حرية الفكر والوجود، والعقل، والأخلاق، والقانون، والحق، والكثير من المفاهيم التي كان قد طالب بها منذ قرون عدة كلّ من سبينوزا، وكانط وهيغل ضد السلطة الدينية، وضدّ استبداد الحكام، والأمراء، وكان سلاحهم الوحيد في تلك المقاومة الشرسة للتصدي لكلّ هذا هو قوة الفكر المناهضة لكلّ شكل من أشكال الشعوذة، ولكلّ ما يتنافى مع العقل البشريّ، ومع المبادئ التي تدعو إلى التسامح، والتضامن بين الشعوب؟ لذا فإن أطروحاتهم الفلسفيّة لا تزال تسكننا إلى حدّ هذه الساعة حتى وإن لم نكن واعين بذلك. وربما لأن الفلاسفة الذين ذكرت عسيرون إلى حد ما عن الفهم فإننا أهملناهم لنهتم برطانة المختصين. مع ذلك لا بد من العودة إليهم والى نصوصهم واطروحاتهم لكي نتعلم كيف نفكر حول قضايا عصرنا الراهن”.

مؤسسو الفلسفة الحديثة

ويرى الفرنسي الآخر جان ميشال باستييه أن سبينوزا وكانط وهيغل هم المؤسسون للفلسفة الحديثة بجميع فروعها. وهم كانوا أول من خلّص الفلسفة من هيمنة السلطة الدينيّة، ونادوا بأن يكون الإنسان حرّا لكي يكون موجودا بالفعل، داعين إياه إلى التفكير بدوره حول العالم بالاستناد إلى العقل”. وفي مقالة، ذكر بيار- فرانسوا مورو أن الفيلسوف الهولندي باروش سبينوزا (1632-1677) هو اليوم الفيلسوف الأكثر قربا منّا. لذا لا تزال مؤلفاته تحظى باهتمام القراء والنقاد على حد السواء. وقد منح سبينوزا أولويّة للعقل، مستندا في ذلك إلى التطورات العلمية التي شهدتها أوروبا في القرن السابع عشر. لهذا السبب، شنّت ضدّه السلطة الدينيّة اليهودية التي تنتمي إليها عائلته هجمات عنيفة متهمة إياه ب”الإلحاد والكفر”. وجرّاء مثل هذه التهم، ذاق الأمرين. مع ذلك رفض التراجع عن أفكاره.

ويقول بيار -فرانسوا مورو بإن سبينوزا هو الوحيد الذي استطاع أن يطبق منهج ديكارت تطبيقا جذريّا في المجالات التي أستبعدها ديكارت من منهجه، خاصة في مجال الدين، ويعني بذلك الكتب المقدسة، والكنيسة، والعقائد، والتاريخ المقدس …ألخ…لذلك كانت هناك محاولات لاغتياله في حين أن ديكارت كان صديقا لرجال الدين الذين كانوا موجودين في منهجه باعترافه هو نفسه، كدعامة للدين، ونصرة لعقائده. ثمّ إن سبينوزا طبّق منهج الأفكار الواضحة والمتميّزة في مجال الدين والعقائد. فليس العقل فقط هو أعدل الاشياء قسمة بين الناس، بل هو أيضا أفضل شيء في وجودنا، ويكون كماله خيرنا الأقصى. وسبينوزا هو أيضا الوحيد بين الديكارتيين الذي طبق منهج ديكارت في السياسة، فدَرسَ أنظمة الحكم، وقارن بينها، وانتقد الانظمة التسلطيّة القائمة على حكم الفرد، لينتهي الى القول بإن النظام الديمقراطي هو النظام الاكثر اتفاقا مع العقل ومع الطبيعة.

“الناس يستخدمون الدين ذريعة”

ويرى سبينوزا أن الكثير من الناس يستخدمون الدين ذريعة ليفعلوا ما يشاؤون. وفضلا عن ذلك، فإن الانقسام إلى شيع، والى ملل، لا ينشأ عن رغبة صادقة في معرفة الحقيقة (لأن هذه الرغبة تؤدي إلى الطيبة والتسامح)، بل عن شهوة عارمة للحكم. ومن ذلك يتبيّن بوضوح أن دعاة الفتنة هم أولئك الذين يدينون كتابات الآخرين، ويثيرون غضب الشعوب ضدّ مؤلفيها. وهم مثيرو الشغب الحقيقيين الذين يريدون في دولة حرة القضاء على حرية الرأي التي لا يمكن القضاء عليها. ومن كل هذا، يستخلص سبينوزا ما يلي:

-1: مستحيل سلب الافراد حريتهم في التعبير عن ما يعتقدون.

-2: لا يهدد الاعتراف بهذه الحرية حقّ السلطة العليا وهيبتها، ويستطيع الفرد الاحتفاظ بحريته دون تهديد لهذا الحق بشرط ألاّ يسمح لنفسه بتغيير قوانين الدولة المعترف بها أو بأن يفعل شيئا ضد القائمين بها.

-3: يستطيع الفرد أن يتمتع بهذه الحرية من دون ان يكون ذلك خطرا على سلامة أمن الدولة وعلى التقوى.

وأما فلسفة كانط (1727-1804) كما يرى إلى ذلك لوك فيري، والتي تزامن ظهروها مع الاكتشافات العلميّة الكبيرة خلال القرن الثامن عشر، فهي تقوم على اعطاء القيمة العليا للإنسان الذي يتحتم عليه، بحسب الإمكانيات المتاحة له، منح معنى للعالم من وجهة نظر المعرفة، والأخلاق، والمصالح السياسية.

وفي مؤلفه الذائع الصيت “نقد الفكر الخالص”، الصادر عام 1781، يطرح كانط أفكاره على النحو التالي: إذا ما كان العالم قد أصبح فوضويا، ونسيجا من القوى المتصارعة والمتقاتلة، فإنه يتحتم على رجل العلم بواسطة قوة عقله، أن يعيد النظام للعالم، وأن يمنح الواقع معنى من جديد. وهذه هي بحسب رأيه مهمة العلوم الحديثة التي لا تقوم على التأمل في تراث الإغريق القدماء، وإنما على العمل، وعلى البلورة الحيوية، وتأسيس قوانين تسمح بإعادة الانسجام والهدوء لعالم يتخبط في الفوضى.

وفي كتابه المذكور، عبّر كانط عن موقفه من الدين، وكتب في ذلك يقول: “إن قرننا (يعني بذلك القرن الثامن عشر) هو قرن النقد من دون منازع .النقد الذي يجب أن يرضخ له كلّ شيء بما في ذلك الدين بحكم قداسته والتشريعات بحكم مهابتها”. وكان كانط من أكثر المتحمسين للدفاع عن التنوير، وهو يعتبر “الأنوار” “لحظة خروج الإنسان من حالة الخنوع التي يتحمل مسؤوليتها هو أيضًا. كما أنها – أي ألأنوار- بداية تبشر بعصر جديد، يتميّز بالانفتاح، والحرية بالاستناد إلى العقل في الأمور المتصلة بالدين.

ويعتقد فرانسوا كارفيغان أن هيغل (1770-1831) وسّع مجال الفلسفة، وفتح أبوابا جديدة لم يتمّ طرقها من قبل. وقد أتاحت له معارفه الموسوعية بأن يلقب بـ”أرسطو” عصره. فقد اهتم بالكيمياء، وبعلم التنجيم، وبعلم النفس، وبالاقتصاد، وبالسياسة، وبالفنون بجميع أنواعها. كما اهتم بالتاريخ اهتماما كبيرًا.لذا يمكن أن نقول بإن جميع الفلاسفة الذين اشتهروا في القرنين التاسع والعشرين مثل ماركس، ونيتشه، وكيركوغارد، وكوجيف، وهايدغر، وغيرهم استندوا إلى فلسفته، ومن وحيها بلوروا مفاهيم وأطروحات جديدة.

وعن هيغل كتب فرانسوا كيرفيغان يقول:”في الفلسفة الهيغلية، لا تحتل فلسفة مفهوم الأنا العزيزة” مكانا كبيرا إذ أن هيغل يمقت التحدث عن نفسه مخيرا موقع الكاتب الذي يكتب ما تمليه عليه روح العالم.

مع ذلك هو يحكم علينا بأن نقوم بتفسيره. وهو يقول بإنه من الغباء أن نحلم بأن أيّ فلسفة مهما كان نوعها، يمكن أن تتعدى حدود العالم الذي تبرز فيه. إن فلسفة هيغل لا تتحدث اذن عن عالمنا، لكنها تمنحنا أدوات قوية لكي نتوصل الى التفكير في ماهيته. وكان هيغل أول من طرح أيضا مسألة “نهاية التاريخ” التي أختارها فوكاياما لكي تكون حجر الزاوية في أطروحاته بعد انهيار الشيوعية

بين الدين والفلسفةعند الفيلسوف هيغل :

ينطلق تفكير هيغل من تقليب طبيعة العلاقة بين الدين والفلسفة، بغية تجاوز المنظور الأنواري للدين، واللغط الكبير الذي حيق حول جدوى حضوره في تجربة الحياة البشرية، وكذلك سعيه نحو تنبيه كل من استمرأ النظر إليه بازدراء، كأدنى أشكال التفكير الإنساني الذي ينم عن عجز طافح في إعمال العقل، والتأمل المجرد في الذات والحياة والوجود، لا سيما أن معظم الفلاسفة الأنواريين، عدوه مجرد تفكير جنيني وطفولي، يفتقر إلى النضج العقلاني النظري والمنطقي. ذلك الموقف المعهود في النزعة الإنسية والمادية للحداثة الغربية، يشي بنزعة متمركزة حول الذات الأوروبية التي ترفع من مقام الحصيلة التاريخية والفكرية للحداثة، مزينة إياها برداء السمو والرفعة والمثلنة، وملبسة غيرها من التجارب الحضارية والثقافية لباس التخلف والدونية والجمود. ما أحال الحضور الديني لدى الإنسان، إلى مسألة عابرة ومؤقتة. ولعل هذا الأمر من القضايا التي تنبه إليها هيغل مبكرا، وجعله ينزع نحو التأصيل لرؤية فلسفية جذرية جديدة، تتجاوز منطق التضاد والصراع والتناقض بغية احتواء الفهم السليم للدين ضمن منطق جدلي وشمولي، ونسق فلسفي عام.
فلا مجال متاحًا في نسق هيغل الفلسفي لفهم بسيط للدين، ولا لصراع بين الفلسفة والأديان أو عداء بينهما: فالخطاب الفلسفي لا يتدخل في المسائل الدينية لإفسادها، أو هدم اعتقاداتها الإطلاقية وتدنيسها. مثلما لا يجوز التوجس المستديم من الخطاب الديني لحظة انكبابه على القضايا الفلسفية بتعطيلها أو تحريم تداولها.
ولتصحيح تلك العلاقة التاريخية العرضية بين الدين والفلسفة، التي أريد لها أن تُشحذ بنوازع الصراع، يقترح هيغل التركيز على حقيقة الموضوع المشترك بين الدين والفلسفة، المتمثل، أساسا، في الحقيقة الخالدة، أو ما يُصطلح لديه بالروح المطلق. فالفلسفة لا تعدو كونها حكمة عن العالم، أو معارف تكتفي بحدود المادة والحياة المباشرة للإنسان والموجودات عموما، بقدر ما هي خطاب معرفي منشغل أيما انشغال، بسؤال المطلق وكل ما ينهض ببيان طبيعته، على الرغم من الاختلاف الذي قد نلحظه في كيفيات تناول المطلق، وخصوصية معانيه لكل منهما.
أما الدين، فلهيغل تصور مائز عنه في تاريخ الفلسفة عموما، بكونه الروح الذي أدرك وعيه بجوهره، وارتقى من ربقة المتناهي إلى شواسع اللامتناهي. ما ينم عن انشغال عميق لدى الإنسان بالسعي الدؤوب وراء المطلق، حتى وإن نتج عنه تعدد في الديانات وتباعد في نظرتها للروح المطلقة. فكيف يمكن تفسير هذا التعدد في الأديان؟
جوابا على هذا الإشكال الديني – التاريخي، ارتأى هيغل البحث في قضية السمو وعلاقتها بالدين وأشكاله وأنواعه. فإذا كان هذا الأخير يمثل وعي الروح بماهيتها، فإن ما يشكل أساسه هو هذا الارتقاء والسمو التلقائي للإنسان نحو الله، ما يعمق الاختلاف الوجودي بينه وبين الحيوان، ويجدر تميزه عنه عبر الفكر. يقول هيغل: «نحن المختلفون عن الطبيعة المادية الخارجية، نستشعر هذا السمو الديني في عالمنا الداخلي، وخارج محدوديتنا ندرك أننا نحتل وضعا خاصا يفصلنا عن الأشياء، ويدعونا إلى تشكيل مضمون للإله. إلا أن طبيعة هذا السمو وحقيقته، مستقلة تماما عن كل ما يستقيه الإنسان من ممارساته الدينية الأمبريقية المباشرة. فالإدراك المباشر، أو الوعي الداخلي بالله في تاريخ الفكر الإنساني، هو ما يشكل، حسب هيغل، الأساس الكوني للأديان. كما لو أن الأمر يتعلق بحركة الفكر، أي بعقلنة ضمنية تسمو بالفرد نحو المطلق بالحس أو بالشعور أو بالخيال.
وبحكم طبيعة الدين هذه، وجب نقل علاقة الدين بالفلسفة من مجال الصراع حول الأحقية في الوجود، إلى ميدان الاتفاق والتعاضد، والمراهنة على وحدة الموضوع والمقاصد والغايات المشتركة بينهما. فالحق كحق واحد في ذاته ولأجل ذاته، ما يدعو إلى الإقرار بأننا أمام الموضوع نفسه والمضمون نفسه، وإن حصل الاختلاف في الآليات المنهجية وطرق التعبير والتفسير وكيفيات حضورهما معا في حياة الإنسان.
فالاختلاف المنهجي الملحوظ بين المقاربة الفلسفية والنظرة الدينية للموضوع، لا يكون حاجزا أمام الدين لاعتماد المفاهيم الفلسفية لصياغة تصوراته ورؤاه وعقائده. وبالمقابل، فإن المضمون الديني يصيب الفلسفة بالحركة والاهتزاز، «يتعذر على الفلسفة أن تشكل تصورا محددا عن فكرة الإله، وأن تحبل بشهادة حقة عن المطلق، أو أن تتمكن من تحليل مكونات الإيمان، من دون أن تتلقى أثرا ودعما وتكوينا من الدين، ففي حقول الدين يمكن للإنسان أن يقطف ثمار الفلسفة».

الفلسفة والدين

♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤

يؤكد هيغل في فلسفته الدينية على ضرورة تقديم المفهوم الميتافيزيقي، القادر على عرض الأشكال الدينية، كما تجسدت في تطور الروح في التاريخ الفعلي للوعي الديني‭.‬ فالله عنده هو بداية كل شيء، وهو غاية كل شيء، وفي الدين يتنزل الإنسان في هذه العلاقة مع المركز الذي تتلاقى فيه كل علاقاته الأخرى، ما يؤدي إلى سمو الوعي الذي تتجلى غايته في ذاته‭.‬
إن وظيفة الفلسفة عنده تتجاوز الوعظ، لأن المطلوب منها أن تثبت قدرتها على تأكيد ضرورة الدين في ذاته ولذاته، وأن تبين أن الروح ينبغي أن يتقدم، منتقلا من أشكال التصور والإرادة والإحساس إلى مستوى المطلق‭.‬ وهكذا يكون الدين في علاقته المباشرة بوعي الإنسان، ما زال يحمل بذرة الانفصال، ذلك أن الدين والوعي الدنيوي الحر يتم فهم أحدهما منفصلا عن الآخر‭.‬
ويحدد موضوع الفلسفة والدين بالحقيقة السرمدية في موضوعيتها ذاتها، لأن الفلسفة ليست حكمة العالم، بل هي معرفة ما ليس بدنيوي، كما أنها ليست معرفة الكتلة الوجود الخارجي والحياة، وإنما هي معرفة ما هو سرمدي ومعرفة طبيعة الربوبية، وما يصدر عنها لأن هذه الطبيعة يجب أن تتجلى وتتخلق‭.‬ وهكذا فإن الفلسفة لا تشرح ذاتها إلا عندما تشرح الدين‭.‬ إنها الانشغال بالحقيقة الأزلية‭.‬ وعلى هذا الأساس تكون الفلسفة والدين عند هيغل متطابقين‭.‬
الفكرة المثال
تتمثل علاقة الفلسفة بالمطلق على اعتباره فكرة مثالية ومنطقية، وتكون وظيفتها إظهار فاعليته وحضوره في منتجاته‭.‬ إن الطبيعة والروح المتناهي وعالم الوعي والعقل والإرادة ما هي إلا تجسدات الفكرة المثال للربوبية ورغم ذلك تبقى تشكلات محددة وصورا جزئية من الفكرة المثال، حيث لم تنفذ فيها الفكرة المثال إلى ذاتها تنفيذا تاما، لكي تصبح الروح المطلق‭.‬
وعندما يطرح هيغل سؤاله حول فهم الدين بالعقل يجيب بأن البحث في هذه المسألة أمر حتمي، لأن الفلسفة والاهتمام الشعبي بالتفكير قد شغلا العصر بصورة مميزة، إضافة إلى كونهما يتعلقان بالمبادئ التي تستند إليهما آراء العصر حول معرفة مضمون الدين‭.‬ وفي هذا السياق يرى هيغل أن ما لدى المجتمعات الحالية ليس الدين عامة، بل هو الدين الوضعي الذي يجب التسليم بأنه الدين الموحى من الله، أي الذي يستند إلى سلطة أسمى من السلطة الإنسانية، ما يجعل منه فوق قدرات العقل الإنساني‭.‬ لذلك فهو يجد أن أولى العقبات التي تواجه هذه العلاقة، تتمثل في تقوية استعدادات العقل وقدرته على معالجة هذه الحقيقة، التي ينتجها دين ينبغي أن يكون خارج نطاق العقل البشري‭

سيرا على منوال نسقه الفلسفي المتناسق البنيان، شيد هيغل تصوره للدين، وهو تصور قائم على الطابع العام لصيرورة الروح عبر التاريخ. ففينومينولوجيا الروح، تحكي قصة تاريخ كوني لوعي يتقدم نحو الحرية والمطلق، أي مسيرة الروح الفردية والجماعية عبر أربع مراحل: تنبلج من الوعي البسيط الحسي المادي بالأشياء، لترتقي نحو الوعي الخالص بالذات. ثم تأتي مرحلة التعقل والقدرة على الاستدلال نظريا وعمليا. وفي المرحلة الرابعة، يبلغ العقل مرتبة الروح المطلقة المميزة لكل من الدين والفلسفة، وهي مرحلة تاريخية تدمج كل المعارف السابقة عليها.
وقد أفضى تفكير هيغل في المسألة، إلى رصد تجليات الروح المطلق في كل من الفن والدين والفلسفة.

  • التجليات الفنية للروح: فالتعبير الفني التمثلي للدين، هو بمثابة تعبير متناه عن اللامتناهي، يعتمد التمثيل الحسي للآلهة، كمرحلة من أهم مراحل الوعي الديني، ولحظة من لحظات مسيرة تطور الروح.
  • التجليات الدينية للروح: تكمن في طريقة مجازية تمثيلية ورمزية، تطرُق حقيقة الروح باعتماد لغة استعارية ملؤها التشبيه والكناية، تحيل الدين إلى مرحلة متطورة في إدراك المطلق.
  • التجليات الفلسفية للروح: تتمثل مهمتها في دراسة الفكرة المطلقة، عبر آليات تجريدية منطقية ومفاهيمية تؤسس للفكر الخالص.
    بناء على هذه الرؤية الفلسفية والتاريخية، سيحتل الدين مرحلة وسطى بين الحس والفكر الخالص. وبقدر ما سيحتفظ ببعد حسي يحيله على الفن، بقدر ما سيتعلق ببعد روحي مطلق، يصله بصلب الانشغالات الفلسفية. ففي الدين، يتمكن الفرد من العبور عبر وجوده الطبيعي، نحو وعي خالص يمكن الذات من تحقيق وعيها بماهيتها وبالماهية الإلهية. وفي هذا العبور تتبلور فعليا، تربية البشرية عبر آليات وأشكال متعددة، ملؤها الشعور والحدس والتمثل، ثم المعرفة الخالصة المجردة التي تختص بها الفلسفة. لذا، فإن لكل شعب ولكل ديانة، حسب هيغل، كيفية خاصة في تمثل ماهية العالم، ما يبرر ضرورة الدين من حيث هو دين، ويستبعد بعض التأويلات والمغالطات التي تزعم أن الكهنة قد اخترعوا الأديان للنصب على الشعوب.
    إن الفهم الهيغلي لحقيقة الدين ولعلاقته بالفلسفة، يجد مصداقيته في قاعدة الاتفاق حول الموضوع نفسه. أما اختلافهما، فيتصل بمسألة المنهج المتبع في إدراك تلك الروح المطلقة: فإذا كان المنهج الديني يمر عبر الخشوع والعبادة ومختلف أنماط التمثل والأساطير والقصص، حيث يكون إدراكه للموضوع خارجيا، ليتصل به، لاحقا، عبر الخشوع والعبادة، فإن المنهج الفلسفي يقوم على الوعي الجوهري الروحي الداخلي، ما يمكنه من إدراك الموضوع في لحظة واحدة، ويعزز العلاقة التضمنية بين الذات والموضوع.
    ولعل أشكال التعارض والصراع بين الفلسفة والدين في تاريخ الإنسان، يرجع، حسب هيغل، إلى خصوصية المنهج المعتمد في إدراك الموضوع، على الرغم من وحدته على مستوى الماهية. فلا شك أن المعرفة الإيمانية القلبية تقوم على الحدس، وتتنكر للتجربة والإحساس والعقل، في مقابل المعرفة الفلسفية التي تنهل من المبادئ العقلية التحليلية. إلا أن حقيقة الصراع بين الدين والفلسفة، يجد تفسيره، أحيانا، في تبعية الفكر للدين، كما يتبين في تبعية الفلسفة اليونانية للديانة الجمالية، وفي تبعية الفلسفة الغربية للديانة المسيحية.
    نستنتج من رؤية هيغل الفلسفية للدين، تجذر العلاقة الجدلية بين الفلسفة والدين، ووحدتهما المتمثلة في حركة التاريخ الإنساني كتجل للروح، ما خلا بعض الأعطاب التي قد تصيب بالشلل، جدل العلاقة بينهما، مثل تقاعس الدين وانحساره، أو نمو سلطان الفكر وانتصاره على حساب الجوانب الروحية الدينية، ما أفضى إلى دعم قوى الاستبداد والإرهاب، واغتراب الذات الإنسانية عن نفسها، وسيادة الخواء الروحي، وغير ذلك من تجليات تغليب كفة الفكر على كفة الدين وإهداره.

ملخص كتاب الفيلسوف شوبنهاور : فن أن تكون دائماً على صواب

آرثر شوبنهاور نبذة عن الكتاب :

فن أن تكون دائماً على صواب أو الجدل المرائي عبارة عن كتاب للفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور يشرح فيه نماذج الحجج والمغالطات التي يتم استخدامها عندما تتنازع الأطراف المتحاجة وضعاً معيناً؛ فقد يسعى كل طرف أو أحدهما إلى النيل من خصمه باعتماد مختلف الوسائل المتعلقة بالأقوال والأحداث. وتتفرع سبل التغليط إلى تلك التي تبنى على اللغة باستخدام حيل لغوية من قبيل إخفاء القصد واستغلاق العبارة واستعمال مقدمات كاذبة وطي بعضها، وغير ذلك من السبل الكفيلة، بجعل من يخاطب يمرر خطابه ويجعل من حجته مقبولة ظاهرياً. وقد ترجمه إلى اللغة العربية الأستاذ رضوان العصبة، وراجعه الدكتور حسان الباهي. “وسيكون من الأفضل إعطاء كل حيلة اسماً مختصراً وملائماً, بفضله يكون بالمستطاع فوراً رفض استعمال هذه الحيلة أو تلك عند الاقتضاء” كتاب فلسفي عميق بحاجة الى حب الفلسفة وفهم المنطق والتعمق في اساليب الجدل … كتاب يتعمق في اساليب الجدل ويشرح المغالطات التي يقع فيها اي انسان دخل في حوار حول اي مسألة سواء مادية او وجودية … ممتع حين يكون هناك كتاب يساعدك على ان تكون دائما على صواب ويساعدك على المناقشة على اسس بناءة بعيدا عن السفسطائية وفرض الرأي … فالاقناع خير حليف للانسان … إقتباسات من الكتاب : “الخدعة الأخيرة هي أن تصبح شخصية ، مهينة وقح بمجرد إدراك أن خصمك له اليد العليا. عندما تصبح شخصًا شخصيًا ، تترك الموضوع تمامًا ، وتدير هجومك على الشخص من خلال ملاحظات ذات طابع مهين وحاقد. هذه خدعة شائعة للغاية ، لأن كل شخص قادر على تنفيذها حيز التنفيذ. ” الجدلية هي فن المبارزة الفكرية. وفقط عندما نعتبر ذلك يمكننا أن نصنعه إلى فرع من المعرفة. ” “القاعدة الآمنة الوحيدة ، بالتالي ، هي تلك التي ذكرها أرسطو في الفصل الأخير من توبيكا: ألا يتعارض مع الشخص الأول الذي تقابله ، ولكن فقط مع من تعرفك ممن تعرف أنهم يمتلكون قدرًا كافٍ من الذكاء والذات. عدم احترام العبث ؛ للطعن في العقل وليس للسلطة ، والاستماع إلى العقل والاستسلام له ؛ وأخيراً ، لكي نعتز بالحقيقة ، وأن نكون مستعدين لقبول السبب حتى من الخصم ، ولكي نكون قادرين على تحمل ما يثبت أنه كان مخطئًا ، ينبغي أن تقع الحقيقة معه. من هذا يستنتج أن شخصًا واحدًا من كل مائة بالكاد يستحق خلافك معه. يمكنك أن تدع الباقي يقول ما يحلو لهم ، لأن كل واحد في حرية أن يكون أحمقًا – desipere est jus gentium. ” “القاعدة الوحيدة الوحيدة هي القاعدة التي أعطاها أرسطو بالفعل: لا تتعارض مع أي شخص وكل شخص ، ولكن فقط مع الأشخاص الذين تعرفهم والذين يتمتعون بالذكاء الكافي لتجنب قول أشياء غبية مثل تعريضهم للإهانة ، والذين يقدرون الحقيقة ، والذين يستمعون بكل سرور إلى أسباب وجيهة ، حتى عندما يدعيهم الخصم ، والذين يتمتعون بالتوازن الكافي لتحمل الهزيمة عندما تكون الحقيقة في الجانب الآخر. “
آرثر شوبنهاور – ور شوبنهاور (بالألمانية: Arthur Schopenhauer)(22 فبراير 1788 – 21 سبتمبر 1860 م) فيلسوف ألماني، معروف بفلسفته التشاؤمية، فما يراه بالحياة ما هو إلا شر مطلق ، فقد بجل العدم وقد عرف بكتاب العالم إرادة وفكرة، أو العالم إرادة وتمثل في بعض الترجمات الأخرى، والذي سطر فيه فلسفته المثالية التي يربط فيها العلاقة بين الإرادة والعقل فيرى أن العقل أداة بيد الإرادة وتابع لها.❰ له مجموعة من المؤلفات أبرزها ❞ فن أن تكون دائماً على صواب ❝ ❞ فن أن تكون دائما على صواب ❝ الناشرين : ❞ منشورات ضفاف ❝ ❱
من كتب التنميه البشريه – مكتبة كتب التنمية البشرية.

كتاب فلسفي عميق بحاجة الى حب الفلسفة وفهم المنطق والتعمق في اساليب الجدل … كتاب يتعمق في اساليب الجدل ويشرح المغالطات التي يقع فيها اي انسان دخل في حوار حول اي مسألة سواء مادية او وجودية … ممتع حين يكون هناك كتاب يساعدك على ان تكون دائما على صواب ويساعدك على المناقشة على اسس بناءة بعيدا عن السفسطائية وفرض الرأي … فالاقناع خير حليف للانسان …

ليوم اود عرض مقتطفات من كتاب فن ان تكون دائماً على صواب ، الكتاب يحتوي على تعريف لأساليب الجدل وطُرقه ، ولكن اهم ما في الكتاب هي الحيل ، حيل ستساعدك للفوز في اي نقاش ، يحتوي الكتاب على 38 حيلة سأعرض بعضها

1- استخدام مقدمات كاذبة

مثال : لنفرض ان شخص أراد ان يُقنعك ان معدلات البطالة في السعودية هي الاعلى في العالم ، وانت تريد ان تقنعه ان كلامه خاطئ فتقول : “حسب دراسة من جامعة هارفارد عام 2016 تقول بأن معدلات البطالة في أمريكا – مثلاً – هي الاعلى في العالم حيث تبلغ 38.7% ” ، – تلاحظ ان الدراسة باكملها مجرد تأليف –
المضاد : تخبره بأن الدراسة مجرد هراء من عقله

2- لست افهم شيئاً مما تقوله

اذا لم نعرف ما نعارض به حجج الخصم نستخدم الاستهزاء الرفيع ، الاعتراف بالعجز مثل ” ما تقوله هنا يتجاوز ملكات فهمي الضعيفة ، ربما هو صحيح تماماً ولكني عاجز عن الفهم ، انني اتنازل عن كل حكم – مع ابتسامة ساخرة – ” بهذه الطريقة تلمح امام المستمعين بان حججه مجرد حماقات لا تقبل التفسير .

3- الحجة المعاكسة

تقنيه لامعه ، نعتمد الحجة التي استخدمها الخصم لتحقق اغراضه ونستخدمها ضده بشكل أفضل مثل ” انه طفل ، لابد من التسامح معه “
الحجه المعاكسه ” لانه حقاً طفل ، تجب معاقبته لئلا يعتاد على عادته السيئة “

4- الحجة على الشخص > تقنية الخاسرين ؛)

اذا تبين لنا ان الخصم متفوق نترك موضوع الحجة ونبدا بمهاجمته والطعن به واستخدام الفاظ جارحة ومؤذية مثل ” يجب معاقبة كل من يخالف قوانين الجامعة “
الحجة عليه ” يجب ان تعاقب انت ايضاً ، انسيت عندما كنا في المرحلة الثانوية وكنت تغش في كل اختبار ، او عندما كنت لا تصلي معنا في الحي ، انت مخادع و فاسق ولعوب وآخر من يتحدث عن الانضباط الخ…” ومع انها حجة الخاسرين الى ان ارسطو نفسه كان يستخدمها احياناً. المضاد : تجنب كل ما يقوله وركز على حجتك وكررها ولا تلتفت الى ما يقوله.
-اغلب الحيل موجودة في الكتاب هي لغرض الفوز في النقاش وليس الوصول للحقيقة

معلومات عن كتاب فن أن تكون دائماً على صواب:

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

عرض مقتطفات من كتاب فن ان تكون دائماً على صواب ، الكتاب يحتوي على تعريف لأساليب الجدل وطُرقه ، ولكن اهم ما في الكتاب هي الحيل ، حيل ستساعدك للفوز في اي نقاش ، يحتوي الكتاب على 38 حيلة سأعرض بعضها

1- استخدام مقدمات كاذبة

مثال : لنفرض ان شخص أراد ان يُقنعك ان معدلات البطالة في السعودية هي الاعلى في العالم ، وانت تريد ان تقنعه ان كلامه خاطئ فتقول : “حسب دراسة من جامعة هارفارد عام 2016 تقول بأن معدلات البطالة في أمريكا – مثلاً – هي الاعلى في العالم حيث تبلغ 38.7% ” ، – تلاحظ ان الدراسة باكملها مجرد تأليف –
المضاد : تخبره بأن الدراسة مجرد هراء من عقله

2- لست افهم شيئاً مما تقوله

اذا لم نعرف ما نعارض به حجج الخصم نستخدم الاستهزاء الرفيع ، الاعتراف بالعجز مثل ” ما تقوله هنا يتجاوز ملكات فهمي الضعيفة ، ربما هو صحيح تماماً ولكني عاجز عن الفهم ، انني اتنازل عن كل حكم – مع ابتسامة ساخرة – ” بهذه الطريقة تلمح امام المستمعين بان حججه مجرد حماقات لا تقبل التفسير

.
3- الحجة المعاكسة

تقنيه لامعه ، نعتمد الحجة التي استخدمها الخصم لتحقق اغراضه ونستخدمها ضده بشكل أفضل مثل ” انه طفل ، لابد من التسامح معه “
الحجه المعاكسه ” لانه حقاً طفل ، تجب معاقبته لئلا يعتاد على عادته السيئة “

4- الحجة على الشخص > تقنية الخاسرين ؛)

اذا تبين لنا ان الخصم متفوق نترك موضوع الحجة ونبدا بمهاجمته والطعن به واستخدام الفاظ جارحة ومؤذية مثل ” يجب معاقبة كل من يخالف قوانين الجامعة “
الحجة عليه ” يجب ان تعاقب انت ايضاً ، انسيت عندما كنا في المرحلة الثانوية وكنت تغش في كل اختبار ، او عندما كنت لا تصلي معنا في الحي ، انت مخادع و فاسق ولعوب وآخر من يتحدث عن الانضباط الخ…” ومع انها حجة الخاسرين الى ان ارسطو نفسه كان يستخدمها احياناً. المضاد : تجنب كل ما يقوله وركز على حجتك وكررها ولا تلتفت الى ما يقوله.
-اغلب الحيل موجودة في الكتاب هي لغرض الفوز في النقاش وليس الوصول للحقيقة

إقتباسات من الكتاب :

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

“الخدعة الأخيرة هي أن تصبح شخصية ، مهينة وقح بمجرد إدراك أن خصمك له اليد العليا. عندما تصبح شخصًا شخصيًا ، تترك الموضوع تمامًا ، وتدير هجومك على الشخص من خلال ملاحظات ذات طابع مهين وحاقد. هذه خدعة شائعة للغاية ، لأن كل شخص قادر على تنفيذها حيز التنفيذ. “

الجدلية هي فن المبارزة الفكرية. وفقط عندما نعتبر ذلك يمكننا أن نصنعه إلى فرع من المعرفة. “

“القاعدة الآمنة الوحيدة ،

بالتالي ، هي تلك التي ذكرها أرسطو في الفصل الأخير من توبيكا: ألا يتعارض مع الشخص الأول الذي تقابله ، ولكن فقط مع من تعرفك ممن تعرف أنهم يمتلكون قدرًا كافٍ من الذكاء والذات. عدم احترام العبث ؛ للطعن في العقل وليس للسلطة ، والاستماع إلى العقل والاستسلام له ؛ وأخيراً ، لكي نعتز بالحقيقة ، وأن نكون مستعدين لقبول السبب حتى من الخصم ، ولكي نكون قادرين على تحمل ما يثبت أنه كان مخطئًا ، ينبغي أن تقع الحقيقة معه. من هذا يستنتج أن شخصًا واحدًا من كل مائة بالكاد يستحق خلافك معه. يمكنك أن تدع الباقي يقول ما يحلو لهم ، لأن كل واحد في حرية أن يكون أحمقًا – desipere est jus gentium. “

“القاعدة الوحيدة الوحيدة هي القاعدة التي أعطاها أرسطو بالفعل:

لا تتعارض مع أي شخص وكل شخص ، ولكن فقط مع الأشخاص الذين تعرفهم والذين يتمتعون بالذكاء الكافي لتجنب قول أشياء غبية مثل تعريضهم للإهانة ، والذين يقدرون الحقيقة ، والذين يستمعون بكل سرور إلى أسباب وجيهة ، حتى عندما يدعيهم الخصم ، والذين يتمتعون بالتوازن الكافي لتحمل الهزيمة عندما تكون الحقيقة في الجانب الآخر. “

للكاتب/المؤلف : آرثر شوبنهاور .
دار النشر : منشورات ضفاف .
سنة النشر : 2014م / 1435هـ .

اهتمامات هذا الكتاب هو موضوع (الحجاج والمغالطات)، فكتاب

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

“فن أن تكون دائماًعلى صواب” يقوم آرثور شبنهاور بإستخدام بعض

نماذج من الحيل التي يتم اللجوء

اليها عند وجود نزاعات وجدلا. فقد يسعى كل طرف أو أحدهما الى النيل من الخصم

بإستخدام مختلف الوسائل المتعلقة بالأقوال والأحوال. وتتفرع بعض السبل الخاصة

بالتغليط كاستخدام حيل لغوية من قبيل إخفاء القصد واستغلاق العبارة واستعمال

مقدمات كاذبة وطي بعضها، وغير ذلك من السبل ، مما يجعل من يخاطب

يمرر خطابه ويجعل من حجته مقبولة ظاهرياً.

ولكن تذكر ان شوبنهاور كان ملحد فكان يستخدم تلك الاساليب الملتوية ولكن نحن

نسرد ونلخص الكتاب تحسباً فقد يقع اى منا اما من يستخدم هذه الطرق والاساليب

فنكون على دراية بذلك .

كتاب “فن أن تكون دائماً على صواب” إلى اللسان العربي، يجد تبريره الأول في

ضرورة العودة الى الاهتمام بدرس الحجاج بما هو فعالية تداولية جدلية

أمرها أن تجمع بين الفهم والإفهام، والإقناع في نصرة الحقيقة وإحقاقها.

وثاني تبرير كون شوبنهاور اشتهر كفيلسوف، كما يشهد على ذلك كتابه “

العالم كإرادة وتمثل”، أما شوبنهاور المنطقي المنظر للخطاب، ينهض دليلاً على

ذلك كتابة العمدة “فن أن تكون على صواب أو الجدل المرائي”.

وقد حان الوقت لإعادة الاعتبار لهذا الكتاب وذلك من خلال ترجمته. وهي المهمة

التي نهض بها الباحث رضوان العصبة مترجم هذا الكتاب. فيبين لنا أهمية المغالطات

ولزوم العناية بها ليس من باب إحياء القديم فقط، بل باعتبارها ضرورة مردها

التحولات التي يشهدها العالم المعاصر على مستوى سبل التواصل وآليات الاتصال،

والتي استرجعت فيها طرق التضليل والتغليط مركز الصدارة في التعامل بين الناس.

وبالتالي، فإن اهتمام العديد من الدراسات المعاصرة بمجال المغالطات يبرر أهمية

العودة الى أعلامها ممثلاً ها هنا بشوبنهاور.

“فن أن تكون دائماً على صواب” إلى اللسان العربي، يجد تبريره الأول في ضرورة

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

العودة الى الاهتمام بدرس الحجاج بما هو فعالية تداولية جدلية أمرها أن تجمع بين

لفهم والإفهام، والإقناع في نصرة الحقيقة وإحقاقها. وثاني تبرير كون شوبنهاور

شتهر كفيلسوف، كما يشهد على ذلك كتابه “العالم كإرادة وتمثل”، أما شوبنهاور

المنطقي المنظر للخطاب، ينهض دليلاً على ذلك كتابة العمدة “فن أن تكون على

فيبين لنا أهمية المغالطات ولزوم العناية بها ليس من باب إحياء القديم فقط، بل

باعتبارها ضرورة مردها التحولات التي يشهدها العالم المعاصر على مستوى سبل

التواصل وآليات الاتصال، والتي استرجعت فيها طرق التضليل والتغليط

مركز الصدارة في التعامل بين الناس. وبالتالي، فإن اهتمام العديد من الدراسات

المعاصرة بمجال المغالطات يبرر أهمية العودة الى أعلامها ممثلاً ها هنا بشوبنهاور.

الحيل المذكورة بالكتاب

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

الحيلة 1:

جعل إثبات الخصم فضفاضا و نجعل تأويله عاما و يحتمل أكثر

من معنى في حين نضيق من إثباتنا و نحصره في أضيق معنا ممكن.

الحيلة 2:

نستعمل الجناس من أجل تعويم الإثبات من معناه المراد إلى معنى غير مهم

أو لا علاقة له بموضوع النقاش لدحضه في النهاية.

الحيلة 3:

تعميم حجج نقيضة بمعنى أن نتعامل مع الحجة المقدمة لنا بشكل نسبي على

أنها مطلقة أو نفهمها داخل سياق مختلف.

الحيلة 4:

إخفاء القصد و البدء بمقدمات نحرص أن يقتنع بها الخصم أو مقدمات هذه

المقدمات متى شعرنا أنه سيناقضها أي باختصار لا تستعرض عضلاتك ..

الحيلة5:

استخدام حجج كاذبة كمقدمات ان لاحظنا أن الخصم لم يصدق مقدماتنا

الصادقة مثلا استخدام حجج مذهب معين لا نعترف به و الخصم يتبناه.

الحيلة6:

المصادرة على ما ليس مبرهنا عليه مثال و أتمنى أن أحسن قوله حين

يسألك أحد هل توقفت عن شرب الخمر فهو يصادر فكرة أنك تشرب الخمر أولا.

الحيلة 7:

الحصول على التأييد بواسطة الاستجواب فتنازلات الخصم بالرد نستخدمها

لإثبات صدقنا الأمر يشبه الاستجواب السقراطي.

الحيلة8:

إغضاب الخصم ليسقط في الغلط و يفقد قدرته على الحكم و هذا نحن بارعون

فيه لحد الإبهار.

الحيلة9:

أن نسأل الخصم أسئلة بترتيب مخالف للوصول الى النتيجة المرغوب فيها فلا

يستطيع أن يتنبأ بقصدنا أولا تقترب هذه الحيلة من الحيلة الرابعة

الحيلة 10:

الاستفادة من نقيض الدعوى حين يحاول الخصم تجنب السؤال الذي يكون

جوابه بالإيجاب لدعم دعوانا نورطه بالسؤال عن الدعوى المضادة

الأفق الإنساني في الفلسفة السياسية عند أبي نصر الفارابي بقلم: عبد الله إدالكوس

لقد كان للإنسان حضور بارز في الفلسفة العربية والإسلامية، تجسد هذا الحضور منذ النصوص الفلسفية الأولى، إذ نلمس في “رسالة في دفع الأحزان” العمل الأساسي للكندي (185- 256هـ) أول فلاسفة الإسلام، بعدًا إنسانيًا بارزًا، فقد كان يهدف من خلال هذه الرسالة إلى بيان السبل العملية التي تساعد الإنسان على تجاوز كربه وأحزانه، وهي تهدف في جانب آخر إلى تحقيق انسجام الإنسان مع الوجود و”رفع معنوياته” وتقريبه من السعادة، ولا تراعي الرسالة إلا حياة الإنسان الدنيوية، فلا تلجأ إلى دفع الأحزان بالتلويح بالجزاء الحسن في الآخرة، كما نلمح فيها مزيجًا من القلق على الإنسان والثقة به في آن معًا، والتعويل عليه هو نفسه في تجاوز أحزانه، وهذه بعض سمات النزعة الإنسانية.[1]

ويظهر هذا البعد بشكل أعمق عند أبي نصر الفارابي (260-339هـ)، إذ يرتفع من مستوى الحكمة العملية إلى الحكمة النظرية؛ أي إلى مستوى الرؤية الفلسفية للكون، والتي ستشكل الأساس النظري لما أبدعه أبو نصر في مجالات المعرفة المختلفة، فـ “لا يكفي القول بأن أعمال أبي نصر الفارابي تحتوي فكرًا ينطلق من النزعة الإنسانية، بل يمكن القول بأنه هو المؤسس الحقيقي للنزعة الإنسانية من الوجهة الفلسفية في الفكر العربي، وذلك لأنه أراد أن يحيط، قدر الإمكان، بتجلياتها المختلفة، وأن يضع لها الرؤية النظرية والأساس المنهجي اللازمين لها، ولقد ظهرت لديه في محاور مختلفة كاللغة والميتافيزيقا والسياسة والفن.”[2]

ويظهر هذا المنزع الإنساني في شخصية الفارابي كما في فكره وفلسفته، فقد عرف الفارابي بين أقرانه من علماء وفلاسفة عصره بأنه كان قويّ التفكير، يتقن عديدًا من اللغات، وكان متوقد الذهن، حاد الذكاء، رياضيًا شاعرًا بعيد الغور، كريم النفس، يحب الخلوة والانفراد، يؤلف ويصنف ويعزف أطيب الألحان، وأرق الأنغام، عشق الموسيقى فبرع فيها، واخترع القانون وعزف عليه، فاستولى على سامعيه وسلب ألبابهم، وحيّر عقولهم. وكانت للفارابي معرفة في صناعة الطب وعلم بالأمور الكلية منها، ولكنه لم يباشر الطب عملاً. [3] كما أن ابن خلدون اعتبره من كبار الفلاسفة في الملة الإسلامية وأشهرهم، وهو في نظر مصطفى غالب أول الفلاسفة العظام الذين فلسفوا الدين الإسلامي، كما أنه أول من حمل المنطق اليوناني تامًا ومنظمًا إلى العرب، وسعة أفق الفارابي العقلانية تظهر بوضوح في مصنفاته الكثيرة التي عالج فيها مختلف العلوم التي كانت في عصره، من الطبيعيات إلى الإلهيات، وعلوم الدين كالفقه والكلام، إلى الرياضيات ومشتقاتها إلى الفلك والمنطق والاجتماع والموسيقى.[4]

تدور جل أعمال أبي نصر حول قضية أساسية هي من صميم النزعة الإنسانية، التي لا تتحقق إلا بها، وتتجلى هذه القضية في الإجابة عن السؤال: كيف السبيل إلى بلوغ السعادة التي هي الكمال الإنساني الذي يطلب لذاته؟ ونحن لا نبالغ إن قلنا إن هذه المسألة هي قطب الرحى في كل ما أبدعه فيلسوفنا، مع اختلاف مجالات البحث عنده وأبواب العلم الذي صنّف فيه، بل الأمر ظاهر حتى في تصنيف العلوم عنده،[5] فلو نظرنا إلى مذهب الفارابي في تصنيف العلوم لوجدنا أنه كان مبنيًا على أسس عقلية محددة مبينًا صلة العلوم بعضها ببعض، وموضحًا الخصائص الذاتية المشتركة لكل علم، وهذا المذهب في التصنيف يقوم على أساس أن السعادة هي غاية يتشوّفها كل إنسان، وهي إحدى الخيرات المؤثرة، لكنها أعظم من كل الخيرات، وأكمل كل غاية يسعى إليها الإنسان. وهي تؤثر لأجل ذاتها ولا تؤثر لأجل غيرها.[6]

يقوم التصور الذي يقدمه المعلم الثاني، أقصد الفارابي، لمفهوم الإنسان على بيان منزلته ومرتبته بين الموجودات، فالإنسان عنده يشغل مكانة فريدة، ويختص بأمور عديدة، منها أنه على أساس الغائية في وجود الموجودات وهي بلوغ كمالاتها، وعلى أساس التمييز بين ما هو بالطبع وما هو بالإرادة، وبالتالي التمييز بين ما للموجودات من كمالات طبيعية وبين مالها من كمالات إرادية، والإنسان يدرك كماله النهائي بالإرادة، فهو مختص بالاختيار الذي من شأنه أن يفعل به الأفعال التي ينال بها سعادته.[7]

يرتكز هذا التصور على بعدين رئيسين: الأول هو البعد الإلهي والثاني هو البعد الكوني، ونكاد نسمع إيقاع هذين البعدين واضحًا وعميقًا في كل جزء من أجزاء التصور الإنساني الشامل لأبي نصر، فالبعد الإلهي يتضح في نظرية النفس، والمعرفة، والنبوة، وفي تسامي الإنسان الفاضل إلى مرتبة العقل المستفاد واتصاله بالعقل الفعال، أي في ذلك الشوق الدائم إلى المطلق، أما البعد الكوني فيتضح في التأثير الهائل لنظرية الفيض في تصور الإنسان والمجتمع، وفي الشخص المؤهل لرئاسة المدينة الفاضلة.[8]

لذلك ينطلق الفارابي في تصوره المعرفي الإنساني من مبدأ أساسي هو الوصل بين الملة والحكمة؛ فقد تميز بذلك الجمع بين الإخلاص للفلسفة والإيمان بالدين، ومحاولة التوفيق بين لغتين؛ لغة العقل ولغة القلب، فهما عنده لغتان مفهومتان ضروريتان للإنسانية التي تريد أن تتخطى نفسها ساعية وراء الكمال، وكأن الفارابي قد جاء إلى العالم ليؤدي رسالة جليلة خلاصتها أن الفلسفة والدين هما المعين الصافي للحياة الروحية، التي بها يكون المجتمع الإنساني فاضلاً وبدونها يكون ضالاً.[9] فالاتفاق بين الفلسفة والدين حاصل عند الفارابي وراجع عنده إلى وحدة المصدر والموضوع، إذ مرد الشريعة إلى الوحي، والوحي من الله، ومرد الفلسفة إلى الطبيعة، والطبيعة من الله، فالنبي والفيلسوف يستمدان العلم من الله.[10]

يقول أبو نصر موضحًا هذه الفكرة: “فيكون الله عز وجل يوحي إليه بتوسط العقل الفعال إلى عقله المنفعل بتوسط العقل المستفاد، ثم إلى قوته المتخيلة، فيكون بما يفيض منه عقله المنفعل حكيمًا فيلسوفًا ومتعقلاً على التمام، وبما يفيض منه إلى قوته المتخيلة نبيًا منذرًا بما سيكون ومخبرًا بما هو الآن من الجزئيات.”[11]

أما بخصوص الموضوع، فإن الفلسفة والدين يشتركان وإن اختلفا على مستوى المنهج، وقد بين ذلك في قوله “فالملة محاكية للفلسفة عندهم، وهما تشتملان على موضوعات بأعيانها، وكلاهما تعطي المبادئ القصوى للموجودات، فإنهما تعطيان علم المبدأ الأول والسبب الأول للموجودات، وتعطيان الغاية القصوى التي لأجلها كون الإنسان.”[12]

هذا الوصل بين الفلسفة والدين عند الفارابي يتفرع إلى الوصل بين السياسة والأخلاق، ومعلوم أن الفارابي من أكثر فلاسفة الإسلام اشتغالاً بالسياسة من حيث التأصيل النظري الفلسفي، وله في ذلك تآليف كثيرة، الجامع بينها هو هذه المقاربة الأخلاقية، فالسياسة عنده “تشتمل على معرفة الأمور التي بها تحصل الأشياء الجميلة لأهل المدن والقدرة على تحصيلها لهم وحفظها عليهم.”[13] والعلم المدني هو الذي يهتم بـ “إحصاء الأفعال والسير والأخلاق والشيم والملكات الإرادية الكلية التي شأنها أن تكون في المدن والأمم، ويميز الفاضل منها من غير الفاضل.”[14]

شيد أبو نصر فلسفته السياسية على حاصل نظره في فلسفته الأخلاقية، وعلى نتائج فحصه للجهات التي حضر بها موضوع الإنسان في العلم النظري الذي اعتمده أساسًا لفلسفته الأخلاقية، إلا أن “بيت القصيد” في هذه الفلسفة السياسية هو ذاك الذي ضخم فيه الفارابي من مسؤولية الإنسان سواء كان من العامة أو من الخاصة أو خاصة الخاصة، بالرفع من منزلته إلى أسمى الدرجات، وبتحميله مسؤولية حاله ومآله، باعتماد معيار طبيعة معرفته وسيرته؛ أي أن الإنسان قد يكون هو أسمى المخلوقات الممكنة الوجود بطبيعة معرفته وآرائه وبنوعية سيرته، وبهذه قد يكون مبدأ السياسة الفاضلة أو السياسة الجاهلية والضالة.[15]

فالإنسان إذن، في فلسفة الفارابي السياسية هو المبدأ والغاية؛ هو المبدأ لأنه المسؤول عن إنتاجها باعتبارها نظريات، وهو الغاية لأن غاية السياسة هي من أجل بلوغ الإنسان الغاية من وجوده التي هي السعادة القصوى، لذلك كان مفهوم السعادة مركزيًا في فلسفته السياسية، وشكل الخيط الناظم في عناصر النسق في هذه الفلسفة، ونقطة تقاطع مكونات البنية المفاهيمية السياسية والأخلاقية.[16]

لقد سعى الفارابي إلى بيان الأسس والقواعد الكلية التي يتأسس عليها مجتمع السعادة، وبين ذلك في مؤلفات عديدة منها “تحصيل السعادة” و”آراء أهل المدينة الفاضلة” و”التنبيه إلى سبيل السعادة” و”السياسة المدنية”…الخ.

ويعرف أبو نصر المدينة الفاضلة بأنها: “هي المدينة التي يقصد بالاجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة في الحقيقة.”[17] والحاجة إلى المدينة عنده أمر فطري، وضرورة لابد منها لأن الإنسان “من الأنواع التي لا يمكن أن يتم لها الضروري من أمورها ولا تنال الأفضل من أحوالها إلا باجتماع جماعات كثيرة في مسكن واحد”[18] فالفارابي يفسر نشأة المجتمعات الإنسانية بحاجة الإنسان إلى التعاون، وبالفطرة الموجودة فيه، وهو أنه كائن مدني أو اجتماعي بالطبع، وهذا هو عين رأي أرسطو وأفلاطون إلى حد كبير، فهذا الأخير يرى أن الدولة تنشأ عن عجز الفرد عن الاكتفاء بذاته وحاجته إلى أشياء لا حصر لها.[19]

ليست المدينة الفاضلة عند الفارابي يوتوبيا أو تصورًا خياليًا لمجتمع يعمل بصورة مختلفة عن المجتمع الواقعي، كما هو الحال في جمهورية أفلاطون، غير أننا لا ننفي في الوقت نفسه استمداده من التصور الأفلاطوني، ولكنها، أي المدينة الفاضلة، تقوم على وضع معايير للسياسة المثالية للمجتمعات، وهذا المنحى يتضمن إمكانية ترقية المجتمعات البشرية الموجودة إلى أن تصبح مجتمعات فاضلة، وهو يتصور أولاً إمكانية ترقية المجتمعات الموجودة إلى أن تصبح مجتمعات فاضلة، كما يتصور إمكانية أن تكون ثمة مدينة كل أعضائها يتحلون بالفضيلة، بالتالي لا تحتاج هذه المدينة إلى قوانين ضابطة لأن الكل يعمل وفقًا للفضيلة من تلقاء نفسه، ولكن لما كان هذا التصور أمرًا عسير المنال كانت هناك ضرورة للبحث عن وسائل أخرى لتحقيق المدينة الفاضلة.

ويتم ذلك عنده عبر وجود حاكم نبي يتصل بالعقل الفعال عن طريق الحدس، أو حاكم فيلسوف يتصل به عن طريق البرهان العقلي، أو مجموعة تتحلى بالفضيلة تحكم المدينة معًا، وهذا كفيل بوضع القوانين والنواميس الملائمة.[20]

هوامش:

[1]- مغيث أنور، “النزعة الإنسانية عند الفلاسفة المسلمين” ضمن: النزعة الإنسانية في الفكر العربي: دراسات في النزعة الإنسانية في الفكر العربي الوسيط، تحرير: عاطف أحمد، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 19991، ص 159

[2]- نفسه، ص 160

[3]- انظر: غالب مصطفى، في سبيل موسوعة فلسفية: الفارابي، منشورات دار مكتبة الهلال، 1998، ص 17

[4]- نفسه، ص 18

[5]- تصنيف العلوم معناه: “ترتيبها في مجموعات متميزة بحسب أوجه الاتفاق والاختلاف بينها” أو هو “تقسيمها وترتيبها في نظام خاص على أساس معين بحيث تبدو صلة بعضها ببعض والتصنيف الحقيقي هو ما قام على أساس من المميزات الذاتية والثابتة.

  • انظر: نازلي إسماعيل حسين، مناهج البحث العلمي، القاهرة، 1982، ص 48

وانظر أيضًا: المعجم الفلسفي، إصدار مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1979، ص 40

[6]- الفارابي أبو نصر، التنبيه إلى سبل السعادة، الهند، طبعة حيدر آباد، 1346هـ، ص 2/3

  • انظر أيضًا: عاتي إبراهيم، الإنسان في الفلسفة الإسلامية: نموذج الفارابي، الهيئة المصرية للكتاب، 1993، ص 73

[7]- منسية مقداد عرفة، الفارابي: فلسفة الدين وعلوم الإسلام، دار المدار الإسلامي، ط1، 2013، ص 24

[8]- عاتي إبراهيم، الإنسان في الفلسفة الإسلامية: نموذج الفارابي، ص 56

[9]- أمين عثمان، شخصيات ومذاهب فلسفية، دار إحياء الكتب العربية، 1945، ص 21

[10]- عاتي إبراهيم، الإنسان في الفلسفة الإسلامية: نموذج الفارابي، ص 60

[11]- الفارابي أبو نصر، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص103

[12]- الفارابي أبو نصر، تحصيل السعادة، ص 40

[13]- الفارابي أبو نصر، التنبيه إلى سبيل السعادة، ص ص 20-21

[14]- الفارابي أبو نصر، كتاب الملة، ص 59

[15]- قشيقش محمد، نظرية الإنسان في فلسفة الفارابي، بيروت، دار التنوير، ط1، 2011، ص 273

[16]- نفسه، ص 276

[17]- عاطف أحمد، النزعة الإنسانية في العصر الوسيط، ص 161

[18]- الفارابي أبو نصر، السياسة المدنية، ص 69

[19]- عاتى إبراهيم، الإنسان في الفلسفة الإسلامية، ص 249

[20]- مغيث أنور، النزعة الإنسانية عند الفلاسفة المسلمين، ص 161

العقل والمنطق عند أبو نصر الفارابي-رحمه الله-

هو أبو نصر، محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ
ولد سنة (257/870ـ339/950). موسيقار متميز، اخترع آلة القانون ويعد أعظم من كتب في نظرية الموسيقى في العالم الإسلامي؛ وفيلسوف متميز عُدَّ المعلّم الثاني بعد أرسطو.

قال ظهير الدين البيهقي في كتابه “تاريخ حكماء الإسلام”: الحكماء أربعة: اثنان قبل الإسلام، هما أرسطو وأبقراط؛ واثنان في الإسلام هما أبو نصر، وأبو علي، يعني ابن سينا. وعندما ينسب أي من رجالات العصور الوسطى إلى الفلسفة، كأن يُعدّ فيلسوفاً، فذلك يعني أنه، أيضاً، عالم متضلّع بالعلوم الكونية، ومتضلع فوق ذلك بكتب أفلاطون وأرسطو وأتباعهما.

لقد كانت الفلسفة يومئذ، كالرياضيات في أيامنا هذه، أم العلوم وصفوتها، منها تستمد العلوم الكونية قوتها ومنطقها، وعليها تستند.

ولد الفارابي حوالي سنة 257 هـ في وسيج، وهي بلدة من فاراب، من بلاد ما وراء النهر؛ وتوفي في دمشق في رجب سنة 339. وكانت فاراب حديثة عهد بالإسلام، فقد احتلت وأسلمت على يد السامانيين سنة 225.

وكان السامانيون يدّعون أنهم من سلالة الساسانيين ملوك فارس القدماء. وكان أبو الفارابي ضابطاً في الجيش الساماني يدّعي أنه من أصل فارسي، إلاّ أن أسرته كانت تركية اللغة والزي والعادات.

بدأ الفارابي تعلّمه في نجارى، فدرس علوم الدين والموسيقى. ثم رحل إلى مرو حيث تعرّف على قِسِّ سرياني هو يوحنا ابن حيلان؛ فدرس عليه المنطق، وكان عنده تلميذاً مبرزاً. ثم ارتحلا معاً إلى بغداد، فانصرف ابن حيلان إلى واجباته الكنسية، ولازمه الفارابي فدرس عليه الفلسفة. ولم يشارك ابن حيلان في الحياة الثقافية في بغداد، وهو العالم بالمنطق والفلسفة، وبغداد عندئذ أم الدنيا وحاضرة الثقافة والحضارة والعلم. لذا يظن أنه لم يكن يتقن العربية، وأنه كان يعلّم تلميذه الفارابي باليونانية أو السريانية أو بلغة أخرى. أما الفارابي فتعلّم العربية في بغداد على ابن السراج. كان الفارابي يعلّمه المنطق والموسيقى ويتعلم عليه اللغة والأدب. ولقد أتقن العربية حتى صار أسلوبه نموذجاً يحتذى في الكتابة الفلسفية، ويوصف بالسهل الممتنع. وله نثر فني بديع، وشعر رقيق محبّب

فلسفته

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

يعد الفارابي أحد أركان الفلسفة الإسلامية، ومن أعلام الفكر الإنساني ورجالات الإصلاح الاجتماعي. شرح كتب أرسطو وإقليدس وبطليموس والإسكندر الأفروديسي، وردّ على جالينوس فيما تأوّله من كلام أرسطو، وعلى الرازي في “العلم الإلهي”، وعلى ابن الراوندي في “أدب الجدل”. وقد حاول أن يوفق بين رايي أرسطو وأفلاطون، وأبقراط وأفلاطون، وأرسطو وجالينوس.

وكتابه “إحصاء العلوم” أول موسوعة علمية، وكتابه “آراء أهل المدينة الفاضلة” من أوائل كتب الإصلاح الإداري والاجتماعي.

عمد الفارابي إلى شرح أهداف الفلسفة، وإلى الدفاع عن سلوك الفلاسفة؛ وقد تجنّب الصِدام مع الأفكار الدينية، أو لعلّه، وهو المؤمن العميق الإيمان، لم يقم في ذهنه تعارض بين الفلسفة والدين. وقد تجنّب، أيضاً، الجدل السياسي والعقائدي، وكان هذا محتدماً في عصره؛ وهو لم ينتسب إلى أي من الملل والنحل التي كثرت في أيامه، سوى الإسلام بنقائه وبساطته.

وكان له معارف بين ضباط الجيش وحرس الخلافة، من بني جلدته، وعن طريقهم اتصل ببعض الكتّاب والوزراء ممن كانوا يتنافسون في تشجيع العلم والعلماء؛ فأكسبه ذلك حماية وأمناً.

العقل والمنطق عند الفارابي

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

يفصل بين الكندي والفارابي نحو ثمانين سنة عرفت حدثين مهمين: الأول ما يعرف بـ”الانقلاب السني” على المعتزلة زمن المتوكل (232 ـ 247)، وقد كان من آثاره تعرض الكندي لمضايقات، ومغادرة أبي الحسن الأشعري صفوف المعتزلة ليؤسس فرقة عرفت باسمه ”الأشعرية”.

أما الحدث الثاني فهو نجاح الدعاة الإسماعيليين في تأسيس دولة لهم في ”إفريقية” (تونس) تحت رئاسة عبيد الله المهدي … هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم يظهر في هذه الأعوام الثمانين أي فيلسوف بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، ولكن، في المقابل، نشطت الترجمة والاشتغال بعلوم الأوائل في الاتجاهين: – الاتجاه الهرمسي الباطني لدى الدعاة الإسماعيليين الذين ارتفعوا بأيديولوجيا حركتهم من مستوى ”رسائل إخوان الصفا” الموجهة إلى الجمهور إلى مستوى التنظير ”الفلسفي”، مع أبي يعقوب السجستاني أولا، ثم أحمد حميد الدين الكرماني.

– والاتجاه الأرسطي العقلاني الذي بلغ أوجه في هذه المرحلة مع الفارابي وذلك لضلوعه في المنطق الأرسطي الذي اكتمل نقله إلى العربية بترجمة القسم الأساسي منه المسمى ”كتاب البرهان” أو ”التحليلات الثانية” على يد معاصر الفارابي أبي بشر متى بن يونس المتوفى سنة 328 هـ. ولد أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان الفارابي، نسبة إلى ناحية فاراب في تخوم تركستان، حوالي 260هـ. استوطن بغداد وتعلم فيها العربية والمنطق، وسافر إلى حران حيث درس الفلسفة، لينتقل بعد ذلك إلى الشام حيث أقام في كنف سيف الدولة الحمداني (333 ـ 356هـ). زار مصر، ثم عاد واستقر في دمشق نهائيا إلى أن توفي سنة 339 هـ. عرف الفارابي بالزهد والتقشف والانقطاع إلى التفكير والتأمل والتأليف:”لا يحتفل بأمر مكسب ولا مسكن”، مرابطا عند ”مجتمع ماء أو مشتبك رياض”، وكأنه يحمل وحده مشاكل مجتمعه وهموم معاصريه، بل كأنه حمل نفسه مسؤولية المشكل الحضاري المتفاقم الذي أخذت الحضارة العربية الإسلامية تعاني منه وتئن تحت وطأته قبله بنحو قرن من الزمان.

لم يكن يعيش في ظل دولة مركزية قوية كدولة المأمون والمعتصم، ”دولة العقل” في الإسلام فيعمل على نصرتها والرد على خصومها كما فعل الكندي، بل عاش في ظروف سياسية واجتماعية وفكرية تختلف تماما. لقد تحولت الدول المركزية العظمى، دولة الخلافة العباسية إلى مجرد اسم، إلى دول وإمارات مستقلة متنافسة:

السامانيون في خراسان والبويهيون في فارس والعراق والحمدانيون في حلب والأخشيديون في مصر، والأدارسة في المغرب والأمويون في الأندلس والعبيديون في ”إفريقية” من حدود المغرب إلى حدود مصر.

لقد تفككت الإمبراطورية العربية الإسلامية إلى دول متنافسة متناحرة: كثيرة القبائل والطوائف، متعددة الفرق المذاهب، الشيء الذي نال، في آن واحد، من وحدة السلطة واستمرارية الدولة، وبالتالي من وحدة الفكر ودوام المجتمع. جاء الفارابي إذن في هذه الظروف ليجعل قضيته الأساسية إعادة الوحدة إلى الفكر وإلى المجتمع معا :

– إعادة الوحدة إلى الفكر بالدعوة إلى تجاوز كل من الخطاب ”الكلامي” السجالي، والخطاب الباطني الهرمسي، والأخذ بخطاب ”العقل الكوني”، العقل الذي يشترك فيه البشر جميعا.

– وإعادة الوحدة إلى المجتمع ببناء العلاقات داخله على نظام جديد يحاكي النظام الذي يسود الكون ويحكم أجزاءه ومراتبه. ومن هنا انصرف الفارابي باهتمامه إلى المنطق من جهة، وإلى الفلسفة السياسية من جهة أخرى.

والحق أن الثقافة العربية الإسلامية مدينة للفارابي في مجال المنطق أكثر مما هي مدينة لغيره ممن جاءوا قبله وبعده. ” فَبَذَّ جميع أهل الإسلام فيها –كما يقول صاعد الأندلسي- وأتى عليهم في التحقق بها فشرح غامضها وكشف سرها وقرب تناولها وجميع ما يحتاج إليه منها، في كتب صحيحة العبارة لطيفة الإشارة منبهة على ما أغفله الكندي وغيره من صناعة التحليل وأنحاء التعليم …، فكان بذلك ”فيلسوف المسلمين على الحقيقة” واستحق لقب ”المعلم الثاني” بعد أرسطو (المعلم الأول).

بالفعل لقد اهتم الفارابي بالمنطق اهتماما بالغا، واستوعبه تمام الاستيعاب، واعيا بعمق مركزَ الثقل فيه. لقد رأى فيه الوسيلة التي يمكن بواسطتها جعل حد للفوضى الفكرية السائدة في عصره. ومن هنا حرص على توضيح وظيفة المنطق الاجتماعية، أعني وظيفته على صعيد التعامل الفكري في المجتمع. وهكذا فإذا كانت ”صناعة المنطق تعطي بالجملة القوانين التي شأنها أن تُقوِّم العقل وتسدّد الإنسان نحو طريق الصواب”، فإن مجال فعالية هذه القوانين يتعدى حدود ”ما نلتمس تصحيحه عند أنفسنا” إلى ”ما نلتمس تصحيحه عند غيرنا” أو ”ما يلتمس غيرنا تصحيحه عندنا”.

ذلك أنه ”إن كانت عندنا تلك القوانين والتمسنا استنباط مطلوبٍ وتصحيحَه عند أنفسنا لم نُطلق أذهانَنا في طلب ما نصححه مهمَلةً، تسبح في أشياء غير محدودة وتروم المصير إليه من حيث اتفق…، بل ينبغي أن نكون قد علمنا أي طريق ينبغي أن نسلك إليه (مطلوبنا)، وعلى أي الأشياء نسلك، ومن أين نبتدئ في السلوك، وكيف نقف من حيث تتيقن أذهانُنا، وكيف نسعى بأذهاننا على شيء منها إلى أن نُفضي لا محالة إلى ملتمسنا”. ويضيف الفارابي قائلا : ”وتلك تكون حالنا فيما نلتمس تصحيحه عند غيرنا، فإنا إنما نصحح الرأي عند غيرنا بمثل الأشياء والطرق التي نصححه عند أنفسنا، فإن نازعنا في الحجج والأقاويل التي خاطبناه بها في تصحيح ذلك الرأي عنده، وطالَبَنا بوجه تصحيحها له …، قدرنا أن نبين له جميع ذلك. وكذلك إذا أراد غيرنا أن يصحح عندنا رأيا ما، كان عندنا ما نمتحن به أقاويله وحججه التي رام أن يصحح بها ذلك الرأي…،

فنقبل ما نقبله من ذلك عن علم وبصيرة، وإن كان غالط أو غلط تبين من أي وجه غالط أو غلط، فنزيِّفُ ما نزيفه من ذلك عن علم وبصيرة” .

ويؤكد الفارابي اهتمامه بهذا الدور الذي يقوم به المنطق، أو عليه أن يقوم به، لإزالة الاختلاف وتحقيق وحدة الفكر في المجتمع وذلك من خلال إبرازه للفوضى التي تصيب الحياة الفكرية في المجتمع بسبب الجهل بالمنطق، فيقول: ”فإذا جهلنا المنطق كانت حالنا في جميع هذه الأشياء بالعكس وعلى الضد. وأعظم من جميع ذلك وأقبحه وأشنعه، وأحراه أن يُحذر ويُتقى، هو ما يلحقنا إذا أردنا أن ننظر في الآراء المتضادة أو نحكم بين المتنازعين فيها، وفي الأقاويل والحجج التي يأتي بها كل واحد ليصحح رأيه ويزيف رأي خصمه: فإنا إن جهلنا المنطق لم نقف من حيث نتيقن على صواب من أصاب منهم كيف أصاب، ومن أي جهة أصاب، وكيف صارت حجته توجب صحة رأيه؛ ولا على غلط من غلط منهم أو غالط، كيف ومن أي جهة غالط أو غلط، وكيف صارت حجته لا توجب صحة رأيه، فيعرض لنا عند ذلك إما أن نتحير في الآراء كلها حتى لا ندري أيها صحيح وأيها فاسد، وإما أن نظن أن جميعها على تضادها حق، أو نظن أنه ليس ولا في شيء منها حق، وإما أن نشرع في تصحيح بعضها وتزييف بعض، ونروم تصحيح ما نصحح وتزييف ما نزيف من حيث لا ندري من أي وَجْهٍ هو كذلك”… الفارابي يدعو إلى التفكير بمنهجية وإلى بناء الحوار على الحجج العقلية التي لا يمكن أن تكون موضوعا لتأويل مغرض أو تحريف متعمد.

إنه يريد أن يتجاوز في آن واحد الخطاب الكلامي الجدلي، والخطاب الباطني العرفاني. وهما اللذان كانا ـ في نظره ـ وراء تمزق الفكر والمجتمع. يريد أن يتجاوزهما معا إلى خطاب ”العقل الكوني”، خطاب: ”الأقاويل التي شأنها أن تفيد العلم في المطلوب الذي نلتمس معرفته، سواء استعملها الإنسان فيما بينه وبين نفسه في استنباط ذلك المطلوب، أو خاطب بها غيره في تصحيح ذلك المطلوب: فإنها في أحوالها كلها شأنها أن تفيد العلم اليقين: وهو العلم الذي لا يمكن أصلا أن يكون (يوجد) خلافُه، ولا يمكن أن يرجع الإنسان عنه، ولا أن يعتقد فيه أنه يمكن أن يرجع عنه، ولا تقع عليه شبهة تغلطه ولا مغالطة تزيله، ولا ارتياب ولا تهمة له بوجه ولا سبب”.

ملخص كتاب نيتشة – إنسان مفرط في إنسانيته-

كتاب الفيلسوف الالماني فرديريك نيتشة
يقع في مجلدين ترجمة محمد الناجي
الجزء الاول يقع في ٢٥٦ صفحة
الجزء الثاني يقع في٢٣٣ صفحة

هناك طبعة اخري
طبعة مترجمه محمد المصباحي
الجزء الاول يقع في ٤٢٠ صفحة

الجزء الثاني يقع في صفحة

الفه نيتشة سنة ١٨٧٨ م بمانسبة الذكرى المئوية لوفاة فولتير سنة ١٧٧٨
قال عن الكتاب نيتشة :
لم يكن هذا الكتاب هذا الحوار الداخلي الذي رأى النور أثناء اقامتي الشتوية في ((١٨٧٦ – ١٨٧٧٧ )) في سورينت Sorrente لينشر الان لولا ان اقتراب ٣٠ مايو ١٧٧٨ أثار لدي رغبة قوية في أن اقدم تحية شخصية في الوقت المناسب لواحد من اكبر محرري العقل هو فولتير ▪︎

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

الفهرس العام للجزء الول

توطئة
الفصل الاول : عن الاشياء الاولى والاخيرة
الفصل الثاني في تاريخ الاحاسيس الاخلاقية
الفصل الثالث الحياة الدينية
الفصل الرابع من روح الفنان والكاتب الفصل الخامس سمات الحضارة الراقية والحضارة الدنيا
الفصل السادس الانسان داخل المجتمع
الفصل السابع عن المرأة والولد
الفصل الثامن نظرة على الدولة
الفصل التاسع الانسان وحيدا مع نفسه
فيما الاصدقاء : نشيد الملحق
الهوامش

♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤

الفهرس العام للكتاب الثاني من كتاب نيتشة
مقدمة
الكتاب الول أراء وحكم مختلطة
الكتاب الثاني المسافر وظله
ثبت الاعلام والشذرات التي وردت فيها
الهوامش

♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤♤

عيب كل الفلاسفة المشترك هو كونهم ينطلقون من الإنسان الحالى ويتخيلون أنهم قد بلغوا الهدف من خلال تحليلهم له. بشكل غامض يتخيلون الإنسان – دون أن يقصدوا – وكأنه حقيقة خالدة، يتخيلونه واقعا ثابتا وسط دوامة الكل، ومقياسا ثابتا للأشياء.”


” الحلم وقد أسىء فهمه: إن أصل كل ميتا فيزيقا هو كون الإنسان، فى الأزمنة الأولى لحضارة لما تزل بدائية، قد اعتقد أنه اكتشف فى الحلم عالما حقيقيا ثانيا. لولا الحلم لما وجد الناس أدنى سبب لتقسيم العالم إلى قسمين. إن انفصال الروح والجسد يرتبط هو كذلك بأقدم تصور للحلم تماما مثل فرضية صورة جسدية للروح، كما يرتبط به إجمالا أصل كل اعتقاد فى الأرواح، وربما أصل الإيمان بالآلهة. “إن الميت يظل حيا، لأنه يظهر للأحياء فى الحلم.”: هذا هو الاستدلال الذى ساد فيما مضى طيلة ألفيات.”


“ضرورة اللا منطقى: من ضمن الأشياء التى قد تؤدى بمفكر ما إلى اليأس، معرفته أن اللا منطقى ضرورى للإنسان، وأنه ينجم عنه خير عميم. يرتبط اللا منطقى ارتباطا وثيقا بعمق الانفعالات؛ بعمق اللغة والفن والدين، وبشكل عام بكل ما يضفى قيمة على الحياة، بحيث لا نستطيع أن نفصله عن هذه الأشياء الجميلة دون أن نفسدها بشكل لا يمكن إصلاحه. وحدهم الناس المفرطو السذاجة هم من يمكن أن يعتقدوا فى إمكانية تحويل الطبع الإنسانى إلى طبع منطقى صرف؛ ولو أن الاقتراب من هذا الهدف كان على درجات فكم من أشياء سنتخلى عنها ونحن فى الطريق إليه! حتى الشخص الأكثر تعقلا يحتاج من حين لآخر للعودة إلى الطبيعة، أى إلى العمق اللا منطقى لعلاقته مع الأشياء.”


“لدى هوميروس نجد أن الطروادى والإغريقى خيران كلاهما. لا يعتبر شريرا ذلك الذى يصيبنا ببعض الأذى بل ذلك الذى هو موضع احتقار.”


“الكذب: لماذا يقول الناس الحقيقة فى أغلب أوقات الحياة اليومية؟- ليس لأن إلها ما قد حرم الكذب، بكل تأكيد. بل أولا لأن ذلك شىء مريح، لأن الكذب يتطلب ابتكارا وإخفاء وذاكرة، (وهو ما جعل سويفت يقول: نادرا ما ينتبه الذى يكذب إلى العبء الثقيل الذى يلقيه على كاهله، سيلزمه، كى يدعم كذبته، أن يبتكر عشرين كذبة أخرى)، ثم، لأنه من المفيد التكلم بصراحة حين يبدو كل شىء بسيطا: أريد هذا، فعلت ذلك، وهلم جرا، أى لأن طرق الإكراه والسلطة آمن من طرق الحيلة. لكن لو حدث أن طفلا نشأ فى جو من التعقيدات العائلية فإنه سيمارس الكذب بشكل طبيعى وسيقول بشكل تلقائى ما يتوافق ومصلحته؛ إنه يجهل تماما معنى الحقيقة، يجهل النفور من الكذب بما هو كذب، وهكذا فهو يكذب بكل براءة.”


“لا تستطيع أية قوة أن تفرض نفسها إن لم يكن ممثلوها سوى منافقين. مهما يكن عدد العناصر العلمانية التى تضمها الكنيسة الكاثوليكية فإن قوتها ترتكز على الرهبان، الكثيرين فى أيامنا هذه، الذين يجعلون الحياة شاقة بالنسبة لهم حتى يعمقوا معناها، والتى تنبئ نظرتهم وجسدهم النحيل عن قيام الليل، عن الصوم، عن الصلوات الحارة، وربما عن التسوط، إنهم هم الذين يزعزعون الناس، يخيفونهم: ماذا لو كان لازما أن نحيا بهذا الشكل؟ هذا هو السؤال المرعب الذى يتبادر إلى الذهن فى رأيهم. إنهم فى كل مرة يشيعون فيها هذا الشك يؤمنون دعامة من دعامات قوتهم.”


“الأخلاق، تجزئ تلقائى للإنسان: الكاتب الذى ينكب بحماس على موضوعه يتمنى مجئ من يقوّض كل ما فعله بمعالجته لنفس الموضوع بوضوح أكثر وبإعطاء إجابة نهائية على الأسئلة التى يتضمنها. العاشقة الشابة تتمنى أن يخونها عشيقها كى تضع على المحك إخلاصها وتفانيها فى حبها له. الجندى يتمنى أن يسقط فى ميدان القتال من أجل وطنه الظافر؛ لأن فى انتصار وطنه انتصار لطموحه الأسمى. الأم تمنح طفلها ما تحرم هى نفسها منه، النوم، الغذاء الأفضل، صحتها إن اقتضى الحال ذلك، ثروتها. لكن هل كل هذه السمات هى سمات غيرية؟ هل هذه التصرفات الأخلاقية معجزات حتى تكون، حسب قول شوبنهاور، “مستحيلة ولكن واقعية”؟ أليس جليا فى كل هذه الحالات أن الإنسان يحب جزءا من ذاته، فكرة، رغبة ، إبداعا، أكثر من جزء آخر من ذاته، إنه يجزئ كيانه ويضحى بجزء من أجل جزء آخر؟ هل يعتبر شيئا مختلفا اختلافا جوهريا إعلان شخص سيء الطبع: “أفضّل أن أدحَر على أن أتنحى لأفسح الطريق لهذا الشخص”؟ النزوع إلى شىء ما (أمنية، نزوة، رغبة) حاضر فى كل الحالات السابقة الذكر؛ والاستسلام لها، مع تحمل كل التبعات، ليس “غيرية” على أية حال. – فى الأخلاق لا يعامَل الإنسان على أنه كائن لا يتجزأ، بل على أنه يتجزأ.”


“ما يمكننا الوعد به: يمكننا أن نعد بأفعال وليس بعواطف؛ لأن هذه لا شعورية. الذى يعد شخصا آخر بأن يحبه أو بأن يكرهه أو بأن يخلص له على الدوام إنما يعده بشىء لا سلطان له عليه؛ ما يمكنه أن يعد به هى أفعال عادة ما تكون، ولا شك، تبعات الحب أو الحقد أو الإخلاص، لكنها قد تنجم عن أسباب أخرى كذلك: لأن الأسباب والطرق التى تؤدى إلى نفس الفعل متعددة. الوعد بحب شخص ما دائما يعنى: ما دام حبى لك قائما فسأعبر لك عنه بأفعال تدل على الحب؛ وإذا كففت عن حبك فستظل موضوع نفس الأفعال من طرفى، وإن كان ذلك يتم لأسباب أخرى: بحيث سيستمر الناس فى توهم كون الحب يظل ثابتا ولا يتغير. – إننا حين نُقسِم لشخص ما، دون أن نخدع أنفسنا، بأننا سنحبه إلى الأبد، فإن ما نعده به هو استمرار مظاهر الحب.”


“حيث نخطئ فاعلين ومتلقين: حين يأخذ الغنى من الفقير أحد ممتلكاته (كأن يختطف أحد الأمراء من أحد العاميين عشيقته)، فإن خطأ يولد لدى الفقير؛ يعتقد أن الآخر ليس سوى حقير ما دام قد أخذ منه القليل الذى يمتلكه. لكن الآخر بعيد عن الإحساس القوى بقيمة متاع يتم النظر إليه على حدة، لأنه قد اعتاد أن يملك منه الكثير: إنه لا يستطيع إذن أن يدرك ما بنفس الفقير، وهو لا يرتكب ظلما كبيرا مثلما يعتقد هذا الفقير، فالأمر يتطلب منه الكثير كى يدرك ذلك. كل واحد منهما يكوّن فكرة خاطئة عن الآخر. إن ظلم القوى الذى يثير سخطا عبر التاريخ، ليس خطيرا جدا مثلما يبدو لنا. فالإحساس الوراثى لدى الأعلى مقاما بأن له حقوقا أسمى يجعله لا مباليا ومرتاح الضمير؛ بل إننا جميعا، حيث يكون الفرق شاسعا بيننا وبين كائن آخر، نفقد أدنى إحساس بالظلم ونقتل ذبابة مثلا دون أى تبكيت للضمير… إن الفظ ليس فظا بالقدر الذى يتصوره ذلك الذى يسئ معاملته؛ فالفكرة التى يكونها عن الألم ليست مطابقة لمعاناة الآخر. نفس الشىء ينطبق على القاضى الجائر، وعلى الصحفى الذى يُضِل الرأى العام بلؤمه التافه. فى كل الحالات تنتمى العلة والمعلول إلى مجموعات شديدة الاختلاف من الأحاسيس والأفكار؛ ومع ذلك فإننا نفترض تلقائيا أن صاحب صنيع ما وضحيته يفكران ويحسان بنفس الطريقة، ونقيس خطأ الواحد منهما بألم الآخر طبقا لهذا الافتراض.”


“جلد الروح: مثل العظام، العضلات، الأمعاء والعروق يغطيها جلد يجعل منظر الإنسان مقبولا، فإن عواطف الروح وأهواءها هى كذلك يلفها الغرور: الغرور جِلْد الروح.”


“حدود حب الناس: الذى يدعى أن فلانا غبى ودنئ يغضب حين يُظهر ذلك الشخص أنه ليس كذلك.”


“الإنسان دائما يحسن التصرف: إننا لا نتهم الطبيعة باللا أخلاقية حين تأتى عاصفة وتبللنا: لماذا إذن نقول عن الإنسان الذى يفعل شرا ما أنه لا أخلاقى؟ لأننا نفترض هنا إرادة غير خاضعة لأوامر تعسفية، وهناك جبر. لكن هذا التمييز خطأ. إننا، فضلا عن ذلك، لا نصف فعلا يسبب الضرر عن عمد بأنه لا أخلاقى؛ نقتل ذبابة مثلا عن عمد، لكن دون أدنى تردد، لمجرد أن طنينها يزعجنا، نعاقب مجرما ونعذبه عن عمد، كى نحمى نفسنا والمجتمع. فى الحالة الأولى، الفرد هو الذى يسبب ضررا وذلك من أجل بقائه أو لكى يتجنب إزعاجا؛ أما فى الحالة الثانية فالدولة هى التى تفعل. كل الأخلاق تقبل التصرفات التى تسبب الضرر عن عمد فى حالة الدفاع عن النفس، أى حين يتعلق الأمر بالبقاء! لكن وجهتى النظر هاتين تكفيان لتفسير كل القبائح التى يرتكبها الناس فى حق الناس: المرء دائما ما يريد متعته، يريد تجنب الإنزعاج، أيا كان ذلك فإن الأمر يتعلق دائما ببقائه. لقد كان سقراط وأفلاطون على حق: مهما يفعل الإنسان فإنه خيرا يفعل دائما، أى أنه يفعل ما يبدو له خيرا (نافعا) حسب درجة ذكائه وحسب مستواه العقلى فى ذلك الحين.”


“المسيحية، هذا القدم: حين نسمع دقات الأجراس القديمة، صباح الأحد، نتساءل: أيعقل كل هذا! من أجل يهودى تم صلبه منذ ألفى عام وكان يدعى أنه ابن الله. إن الإثبات الذى يحظى به هذا الإدعاء ينقصه البرهان، – مؤكد أن الديانة المسيحية قِدَم ينحدر من ليل العصور حتى قلب عصرنا، والإيمان الذى يحظى به هذا الإثبات المزعوم – والحال أننا عادة ما نكون صارمين فى اختبار الإدعاءات – هو لا شك أقدم جزء من هذا الإرث. إله تلد منه امرأة فانية؛ حكيم ينصح بعدم العمل، بعدم العدل وبمراقبة علامات الساعة الوشيكة؛ عدالة تقبل اعتبار البرئ ضحية بالنيابة؛ واحد يأمر أتباعه بشرب دمه؛ صلوات من أجل حدوث المعجزة؛ خطايا ترتكب فى حق إله ويكفر عنها إله؛ الخوف من ما وراء الموت، اتخاذ الصليب كرمز، فى عصر لا يعرف غاية الصليب ولا خزيه، أية قشعريرة رعب يبعثها فينا كل هذا، كنفثة تنبعث من قبر ماض سحيق! من يصدق أننا لا زلنا نؤمن بمثل هذه الأشياء؟”


“مزية التدين: هناك أناس متزنون وبارعون فى التجارة يحملون دينهم مطرزا كشريطة حاشية الإنسانية المتفوقة: حسنا يفعل هؤلاء بحفاظهم على دينهم وذلك لأنه يجمّلهم. – كل الناس الذين لا يتقنون عملا من أعمال الحرب (بما فى ذلك حرب الكلمة والقلم) ينتهون بأن يصيروا عبيدا: وهؤلاء تكون الديانة المسيحية مفيدة لهم كثيرا، لأن العبودية تأخذ فيها مظهر فضيلة مسيحية، الشىء الذى يكسبها جمالا رائعا. الناس الذين تبدو لهم حياتهم اليومية فارغة ورتيبة يتحولوا إلى الدين بسهولة: إنه شىء يمكن تفهمه والصفح عنه، إلا أنهم لا يملكون الحق فى أن يتطلبوا التدين من أولئك الذين ليس فى حياتهم اليومية لا فراغ ولا رتابة.”


“سخاء محرّم: ليس هناك فى العالم ما يكفى من الحب والطيبة كى يُسمح لنا ببذل القليل منهما لكائنات خيالية.”


“يسعى الزاهد، تحت اعتبارات عدة، إلى جعل حياته سهلة، وذلك بخضوعه الكامل لإرادة أجنبية أو لقانون، لطقس تشمله دائرته كلية؛ نوعا ما على طريقة البراهمانى الذى لا يقرر شيئا هو بنفسه، وفى كل مرة يتخذ قرارا بمقتضى وصية مقدسة يعتبر هذا الخضوع وسيلة ناجعة للإمساك بزمام التحكم فى النفس؛ يُشغل المرء فلا يعرف الضجر ولا تطاله إثارة الإرادة الأنانية والانفعال، فلا يشعر، وقد قام بفعل ما، بأى إحساس بالمسئولية، ومن ثم لا يعذبه الندم. لقد تخلى بالمرة عن إرادته الشخصية، وذلك أسهل من التخلى عنها من حين لآخر فقط؛ تماما كما يكون التخلى بالكامل عن رغبة ما أسهل من التزام الحذر. لو تفكرنا فى العلاقات الحالية بين المواطن والدولة فسنجد هنا أيضا أن الطاعة المطلقة مريحة أكثر مما هى متلائمة مع الظروف. فالقديس يجعل حياته سهلة إذن بهذا التخلى الكامل عن شخصيته، ويخدع نفسه من يُعجب فى هذه الظاهرة بأثرة أخلاقية منقطعة النظير. على كل حال، إن إثبات الشخصية بلا اضطراب ولا تردد أصعب من التخلص منها بالطريقة السالفة الذكر، زد على ذلك أن هذا يتطلب الكثير من النباهة ومن التفكير.”


” وعى حِرَفى: لا تحدثونى عن المواهب الطبيعية ، عن المواهب الفطرية ، إذ يمكننا أن نذكر ، فى كل المجالات ، عظماء كانت موهبتهم ضعيفة ، لكن العظمة أتت إليهم ، جعلوا من أنفسهم عباقرة ، بفضل بعض الخاصيات التى لا يود أحد كشف نقصها حين يكون واعيا بذلك. كان لديهم كلهم ذلك الوعى الحرفى الذى يبدأ بتعلم اتقان الأجزاء قبل المجازفة بالقيام بعمل شمولى كبير ؛ كانوا يتأنون لأنهم كانوا يجدون متعة فى إتقان صنع الجزء المتمم ، أكثر مما يجدونها فى الأثر الذى يحدثه كل برّاق. من السهل مثلا أن نصف لشخص ما كيف يصير كاتب قصة ، لكن تنفيذ ذلك يتطلب مهارات نتغاضى عنها حين نقول “ليست لدىّ موهبة كافية.” لنكتب مائة مشروع قصة أو أكثر ، دون أن يتعدى أى منها صفحتين إثنتين ، لكنه يكون من الدقة بحيث لا يمكن الاستغناء عن أى كلمة من كلماته. لنسجل كل يوم بعض النوادر إلى أن نجد لها الشكل الأخاذ والفعّال ، لا نكلّن من جمع ورسم طباع ونماذج إنسانية ، لا نضيعن بالخصوص أية فرصة لنحكى ونسمع الآخرين يحكون ، والعين والآذان منتبهتان لأثر ذلك على الآخرين. لنسافر كما رسام الطبيعة، كما مصمم الأزياء. لنفكر فى نهاية المطاف فى بواعث فعال الإنسانية ، ولا نحقرن منها أية إشارة قد تفيدنا ، ولنجمع الأشياء من هذا النوع ليل نهار. سندع عقداً من الزمن ينصرم ونحن نكرر هذه العمليات ، وسيمكن لما سنبدعه آنذاك فى المحتَرَف أن يظهر فى الشارع فى واضحة النهار. لكن كيف تفعل الأغلبية ذلك؟ عوض أن يبدأوا بالجزء يباشرون الكل. قد يتفق أن يحالفهم الحظ مرة، أن يثيروا الاهتمام، وبعد ذلك سيصير عملهم من سىء إلى أسوأ لأسباب معقولة وطبيعية. – أحيانا، حين لا يكون هناك ذكاء ولا طبع لرسم خطة حياة فنية من هذا الطراز، فإن القدر واللزوم يتكلفان عوضا عنهما بقيادة البارع المستقبلى، خطوة خطوة، عبر كل المراحل التى تتطلبها مهنته.”


“الجمهور: كل ما يطلبه الجمهور من المأساة هو أن تؤثر فيه إلى حد جعله يذرف نهائيا كل ما لديه من دموع. على العكس من ذلك، فالفنان الذى يذهب لمشاهدة المأساة الجديدة يجد متعة فى الابتكارات التقنية والأساليب الماهرة، فى تناول المادة وتوزيعها، فى الطريقة الجديدة التى وظفت بها بواعث وأفكار قديمة. إنه ينظر إلى العمل الفنى من زاوية جمالية، زاوية المبدع. النظرة التى أشرنا إليها فى البداية، الباحثة عن منفعتها الشخصية فى المأساة، هى نظرة عامة الناس. أما الإنسان الذى فى موقع بين الإثنين، فلا شىء يقال عنه، إنه ليس عامة الناس وليس فنانا، ولا يعرف ما يريد: كما أن متعته غامضة وبين بين.”


“نوعان من الإنكار: إن سوء حظ الكتاب الثاقبين والواضحين هو كون القارئ يجدهم مسطحين، ومن ثمة لا يتكلف أى عناء لفهمهم؛ وحظ الكتاب الغامضين هو كون القارئ يجهد نفسه قدر الإمكان ليفهمهم ويعزو إليهم المتعة التى مصدرها مجهوده هو.”


“قانون جائر ضد الكتب: ينبغى أن نعامل الكاتب وكأنه مجرم لا يستحق إخلاء سبيله أو العفو عنه إلا فى حالات نادرة جدا: سيكون ذلك علاجا ناجعا لتكاثر الكتب.”


“ضرورة الكتاب الرديئين: من الضرورى دائما أن يكون هناك كتاب رديئون، لأنهم يرضون ذوق الأجيال الناشئة التى لم تنضج بعد، هؤلاء أيضا لهم حاجياتهم تماما مثل الآخرين الناضجين. لو أن حياة الإنسان كانت أطول لكان عدد الأفراد الناضجين يفوق، أو على الأقل يساوى، عدد الأفراد غير الناضجين، وبما هى عليه الآن فإن الناس يموتون شبابا فى أغلب الأحيان، أى أن أغلبية الناس هم دائما ناقصو الذكاء ذوو الذوق الردئ. وهم يطالبون زيادة على ذلك، بكل ما أوتو من قوة الشباب، بإرضاء حاجياتهم ويُوجدون بالقوة كتابا رديئين يخدمونهم.”


“الوفاء، دليل الرسوخ: إنه لمن الأدلة القاطعة على جودة نظرية ما أن يكون صاحبها قد ظل وفيا لها أربعين سنة دون أن تخامره أدنى ريبة بخصوصها. لكننى أزعم أنه ليس هناك فيلسوف واحد لم تفلت منه، فى الأخير، نظرة ازدراء – أو على الأقل نظرة ريبة – تجاه الفلسفة التى أتى بها أيام شبابه. – لكنه ربما لم يقل شيئا عن ذلك التغير بدافع من الكبرياء أو – وهذا شىء محتمل لدى ذوى الطباع النبيلة – بدافع رفقه بمريديه.”


“مواهب طبيعية: فى خضم إنسانيتنا المتطورة بشكل سام جدا تمنح الطبيعة كل واحد منا إمكانية الحصول على مواهب متعددة. لكل واحد موهبة فطرية، لكنه نادر من تنعم عليه الطبيعة والتربية بهذه الدرجة من الصلابة، من التحمل، ومن الطاقة التى ستمكنه من أن يصبح موهوبا فعلا، إذن أن يصير ما هو، أى أن يحيل موهبته آثارا وأعمالا.”


“عيب الرجال النشيطين الكبير: إن ما ينقص الرجال النشيطين عادة هو النشاط الراقى، أعنى النشاط الفردى، إنهم يتصرفون بوصفهم موظفين، تجارا، علماء، أى بصفتهم ممثلين لصنف وليس كأفراد لهم فردانية محددة المعالم جيدا، إنهم، بهذا الاعتبار، كسالى. – إنها لتعاسة الرجال النشيطين أن نشاطهم يكاد دائما يكون غير معقول شيئا ما. لن نستطيع – مثلا – أن نسأل الموظف البنكى الذى يدخر المال عن الهدف من نشاطه المحموم: فنشاطه ليس وراءه أى سبب. الرجال النشيطون يتدحرجون مثلم تتدحرج الصخرة، طبقا لعبثية الإوالة. – كل الناس ينقسمون إلى عبيد وأحرار، يصبح هذا فى أيامنا هذه مثلما صح فى كل العصور، لأن الذى لا يملك الثلثين من يومه فهو عبد، وليكن ما يشاء: رجل دولة، بائعا، موظفا، أو عالما.”


“يخجل العلماء من البطالة. ومع ذلك فإن الفراغ والاستهتار شىء نبيل. – إن صح أن البطالة أم الرذائل فإنها على الأقل تجد نفسها، بكونها كذلك، أقرب ما تكون إلى الفضائل. العاطل دائما ينتصر، باعتباره إنسانا، على المتشاغل. – لكن بذكر الفراغ والبطالة لا تحسبوا أنكم أنتم المقصودون، بعد كل حساب، أيها الكسالى؟…”


“لنسر إذن إلى الأمام فى طريق الحكمة، بخطوة حازمة، وبكامل الثقة فى النفس! أيا تكن، استغل منبع التجارب الذى تشكله أنت ذاتك! ألق عنك عدم الرضى الذى يأتيك من كينونتك، اغفر لنفسك أناك، لأن فيك، فى كل الحالات، سلما من مائة درجة يمكنك أن ترتقيه إلى المعرفة. القرن الذى تغتم فيه بشعورك أنك مرفوض يعلنك سعيدا بأن يكون لك هذا الحظ، إنه يؤنبك بقوله إنه منحك نصيبا من التجارب التى قد يستغنى عنها دون شك رجال عصور أخرى. لا تحتقر تدينك فيما مضى، اكتشف معنى أن تكون قد وجدت رسميا، فيما مضى منفذا إلى الفن…. إنك تملك سلطة أن تجعل كل لحظات حياتك: من محاولات، أخطاء، زلات، أوهام، أهواء، حبك وأملك، أن تجعلها تنسجم تماما مع الهدف الذى رسمته لحياتك، هذا الهدف هو أن تصير أنت نفسك.”


“كتمان عطوف: غالبا ما نحتاج، فى معاشرتنا للناس، إلى كتمان إرعائى نتظاهر من خلاله بأننا لم نكتشف دواعى تصرفاتهم.”


“صور: إننا عادة ما نصادف صورا من الناس المتفوقين، وكما اللوحات فإن هذه الصور تعجب أغلب الناس أكثر من الأصل.”


“المريض وناصحوه: إن الذى يسدى النصائح للمريض يشعر بالتفوق عليه، سواء قُبلت نصيحته أو رُفضت. لذلك يكره المرضى الأباء والحساسون ناصحيهم أكثر مما يكرهون مرضهم.”


“لماذا المعارضة: غالبا ما نعارض رأيا بينما نحن لا نشعر بالنفور إلا من الطريقة التى بها تم التعبير عنه.”


“وسيلة إقناع الشجعان: وسيلة جعل الشجعان يدعمون عملا ما هى أن نصوره لهم أخطر مما هو فعلا.”


“اللطافة: اللطافة التى يبديها لنا الذين لا نحبهم نعتبرها جريمة”


“عائلة المنتحر: يحفظ والدا المنتحر له الضغينة لكونه لم يبق على حياته مراعاة لسمعتهما.”


“توقع نكران الجميل: الذى يمنح عطاء كبيرا لن يقابل بالشكران، لأن قبول عطائه يشكل بالنسبة للمستفيد عبء ثقيلا.”


“فى حضرة الشهود: بسرور مضاعف نرتمى فى الماء لننقذ شخصا وقع فيه إن كان ذلك فى حضرة أناس لا يجرؤون على نجدته.”

**

“ندم بعد مغادرة عالم الناس: لماذا نشعر بالندم حين نغادر جماعة تافهة؟ لأننا تناولنا فيها أشياء مهمة بلا ترو، لأننا لم نتكلم بحسن نية حين تعلق الأمر بالأشخاص، أو لأننا التزمنا الصمت حين لزم الأمر التحدث، لأننا لم نقفز وننصرف حين واتت الفرصة، باختصار، لإننا تصرفنا فى عالم الناس كما لو كنا من عالم الناس.”


“وسط الطبيعة: إن ما يجعلنا نحب كثيرا أن نكون وسط الطبيعة هو كون الطبيعة ليس لها رأى فينا.”


“الحقيقة: لا أحد يموت اليوم من الحقائق القاتلة: إذ هناك كم هائل من الترياق.”


“لو دققنا النظر للاحظنا أن الأغلبية الساحقة من الناس المثقفين لا تزال تطلب من المفكر قناعات ولا شىء غير القناعات، وأن أقلية صغيرة فقط هى التى تريد يقينا.”

الحياة نفسها تكافئنا على تشبث إرادتنا الصلبة بالحياة، على مثل تلك الحرب الطويلة التى خضتها فى نفسى ضد التشاؤم الذى مرده الضجر من الحياة، تجازينا عن كل نظرة متأنية وعرفانية نلقيها على كل هداياها مهما تكن صغيرة أو رقيقة أو عابرة. فى مقابل ذلك، نحصل فى نهاية المطاف على هداياها الكبيرة، وربما على أكبر هدية يمكن أن تمنحها لنا، إنها مهمتنا التى أعيد تكليفنا بها.”


“هرجة farce أغلب العاملين: إنهم ينتهون، بواسطة الإفراط فى العمل الشاق، إلى أن يكون لهم وقت فراغ لا يعرفون ما يصنعون به سوى عد ساعاته فى انتظار مرورها.”


“إلى الممدوح: ما داموا يمدحونك فاعلم جيدا أنك تتبع طريق غيرك ولما تجد طريقك بعد.”


“هيئة المنتصر: إتقان البقاء على صهوة الفرس يفتن شجاعة الخصم وقلب المتفرج، – فما الجدوى من الهجوم؟ اجعل هيئتك هيئة المنتصر.”


“سبب المزاج العكر: الذى يفضل الجميل عن النافع فى الحياة، سيفضى به الأمر ولا شك، مثل الطفل الذى يفضل الحلويات عن الخبز، إلى إفساد معدته، والتبرم من العالم.”


“دون المستوى: نكره الشىء الجيد حين لا نكون فى مستواه.”


“الندم: الندم حماقة مثل حماقة عض الكلب للحجر.”


“أصل القوانين: تعود القوانين إلى تقليد، والتقليد إلى ميثاق قديم، لقد شعر الناس بالرضى لبعض الوقت من نتائج ذلك الميثاق وظلوا بقية الوقت خاملين فلم يجددوا شكله. وهكذا عاشوا وكأن الميثاق يتغير باستمرار، وكلما نشر النسيان ضبابه حول أصله صار الناس إلى الاعتقاد بأنه شىء مقدس وثابت يجب على كل جيل أن يستمر فى التأسيس عليه. ومنذ ذلك الحين صار التقليد إكراها حتى بعد أن لم تعد فيه تلك الفوائد التى من أجلها تم وضع الميثاق من البداية. – وقد وجد فيه الضعفاء، عل مرة العصور، حصنهم المنيع: إنهم يميلون إلى تأبيد الميثاق الذى لا يصلح إلا مرة واحدة، وقد نالوا تلك النعمة.”


“نوع من الهدوء والتأمل: احذر أن يشبه هدوؤك وتأملك هدوء الكلب أمام وضم الجزار، يمنعه الخوف من التقدم والرغبة فى التراجع، ويفتح عينين واسعتين كما لو كانتا فمين.”


“تصنع فى الوداع: يتصور الذى يريد الانفصال عن حزب أو ديانة ما أنه يتحتم عليه دحضهما. وهذه فكرة تنم عن الغطرسة. الشىء الوحيد الذى يتحتم عليه هو أن يرى بوضوح الروابط التى كانت تشده إلى ذلك الحزب أو الدين حتى ذلك الحين ثم انفصمت الآن، أن يرى النوايا التى دفعته إليهما والتى تدفعه الآن فى اتجاه آخر. إن انضمامنا لهذا الحزب وهذه الديانة لم يتم لأسباب معرفية محضة: ولا يجب، حين ننفصل عنهما، أن نتصنع هذا.”


“أمكر من الثعلب: الثعلب الحقيقى لا يقول فقط عن العنب الذى لا يستطيع بلوغه أنه حصرم، بل كذلك عن العنب الذى بلغه وأخذه أمام أنظار الآخرين.”


“إياك والمرض الطويل: احذر أن تمرض وقتا طويلا جدا، لأن الذين يعودونك سوف يتبرمون من واجب إظهار الشفقة المعتاد، لأن دوامهم على تلك الحال مدة طويلة يسبب لهم عناء كبيرا – ثم أنهم سيفكرون مباشرة فى الاشتباه فى طبعك، وستكون خلاصتهم: “إنك تستحق أن تكون مريضا، ونحن لم نعد فى حاجة إلى الاجتهاد فى إظهار الشفقة.””


“الذى تعود أن ينظر إلى نفسه فى المرآة ينسى قبحه دائما، والرسام، حين يرسمه، هو الذى يترك لديه الانطباع بقبحه، ولكنه يتعود على صورته فينسى قبحه مرة ثانية. – وذلك طبقا للقانون العام القائل بأن الإنسان لا يطيق القبح الثابت، وإن فعل فللحظة فقط، إنه ينساه أو ينكره فى كل الحالات.”


“إننا لن نحترق من أجل آرائنا: لأننا غير واثقين جدا منها.”


“المفكر المنزعج: على المفكر أن يلقى نظرة هادئة على كل ما يقطع عليه تفكيره (يعرقله، كما يقال) كما لو على موديل جديد يجتاز عتبة الباب ليضع نفسه بين يدى الفنان، هذه المقاطعات هى الغربان التى تأتى المتوحد بغذائه.”

المعاني والدلالات الفلسفية في قصة الفيلسوف ابن الطفيل رحمه الله ((حي بن يقظان ))

ا بن الطفيل : فيلسوف وعالم وطبيب عربي مسلم ورجل دولة وهو من أشهر المفكرين العرب الذين خلفوا آثاراً خالدة في عدة ميادين منها: الفلسفة والأدب والرياضيات والفلك والطب وقد عرف عند الغرب باسم (باللاتينية: Abubacer) وكان من وزراء دولة الموحدين في وقت عظمتهم.

اسمه ونسبه

أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي الأندلسي (1100م -1185م ),عربي من بني قيس عيلان بن مضر[2][3][4]، وينسب أيضاً فيقال: الأندلسي والقرطبي والإشبيلي ويكنّى بأبي جعفر.[5] هو فيلسوف وفيزيائي وقاض أندلسي [5]، ولد في وادي آش، في الشمال الشرقي من غرناطة، [5]، ثم تعلم الطب في غرناطة وخدم حاكمها. توفي في عام 581 هـ الموافق 1185م في مدينة مراكش، ودفن هناك، واشترك السلطان أبو يوسف في تشييع جنازته.[5]
كان ابن طفيل فيلسوفاً ومفكراً وقاضياً وطبيباً وفلكياً.

حياته

ولد بمدينة وادي آش قرب غرناطة، وتلقّى تعليمه من قبل ابن باجة[6]. شغل منصب معاون حاكم غرناطة، وبعد ذلك عمل كوزير وطبيب لأبي يعقوب، الخليفة الموحد[6]، الذي أوصى به ابن رشد كخلفاً له في المستقبل في عام 1169. قام ابن رشد في وقت لاحق بالإبلاغ عن هذا الحدث ووصف كيف قام ابن طفيل بإلهامه، ومن ثم كتب تعليقاته الأرسطية الشهيرة: استدعاني أبو بكر بن طفيل يوماً وأخبرني أنه سمع قائد المؤمنين يشكو من خلل وضع في التعبير –أو ما يبدر عن المترجمين- وما ينتج عنه من غموض في النوايا/الأهداف. قال أنه إذا أخذ شخص ما هذه الكتب فسيمكنه تلخيصها وتوضيح أهدافها بعد أن يفهمها جيداً أولاً، مما سيسهل عمليه فهمها من قبل الناس. قال لي ابن طفيل: “إذا كان لديك الطاقة، فافعل ذلك بنفسك. أنا واثق من قدرتك على ذلك لأنني أعرف التفكير الجيد الذي تملكه وإخلاصك وتفانيك في هذا المجال. أنت تدرك أن عمري الكبير -ومهاراتي المكتبية والتزامي بمهمة أخرى أعتقد أنها أكثر حيوية- يمنعونني من القيام بذلك بنفسي.” [7]
درس الفلسفة والطب في غرناطة. أعظم فلاسفة الأندلس ورياضيها وأطبائها. تولى منصب الوزارة ومنصب الطبيب الخاص للسلطان أبي يعقوب يوسف أمير الموحدين، وكانت له حظوة عظيمة عنده. كان معاصرا لابن رشد وصديقا له. لم يصل إلينا من كتبه سوى قصة حي بن يقظان أو (أسرار الحكمة الإشراقية) وقد ترجم إلى عدة لغات أجنبية وهي قصة تشتمل على فلسفة ابن طفيل وقد ضمنها آراءه ونظرياته، وتدور القصة حول “حي بن يقظان” الذي نشأ في جزيرة من جزر الهند تحت خط الاستواء، منعزلا عن الناس، في حضن ظبية قامت على تربيته وتأمين الغذاء له من لبنها وما زال معها، وقد تدرج في المشي وأخذ يحكي أصوات الظباء ويقلد أصوات الطيور ويهتدي إلى مثل أفعال الحيوانات بتقليد غرائزها، ويقايس بينها وبينه حتى كبر وترعرع واستطاع بالملاحظة والفكر والتأمل أن يحصل على غرائزه الإنسانية وأن يكشف مذهبا فلسفيا يوضح به سائر حقائق الطبيعة.
الأساس الفلسفي لهذه القصة هو الطريق الذي كان عليه فلاسفة المسلمين الذين نهجوا على مذهب الأفلاطونية الحديثة وقد صور ابن طفيل الإنسان، الذي هو رمز العقل، في صورة حي بن يقظان وقد رمى ابن طفيل من ورائها إلى بيان الاتفاق بين الدين والفلسفة وهو موضوع شغل أذهان فلاسفة الإسلام.
لقد كانت لابن طفيل آراء مبتكرة في علم الفلك. وقد ذكر البطروجي (ت: 581هـ) أنه أخذ عن ابن طفيل قوله في الدوائر الداخلية في حركات الأفلاك. توفي ابن طفيل في مراكش عن 87 عاما.

قصة حي ابن يقظان لابن الطفيل

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

تعدّ قصة «حي بن يقظان» قصة رمزية فلسفية تفترض نمو العقل الموحّد منذ بداية خلقه حتى وصولة إلى معرفة الله معرفة أتم، حيث تَعْرَّضَ ابن طفيل لمشكلة التوفيق بين الفلسفة والدين، وبيَّن لنا أن ما وصل إليه «حي بن يقظان» بالنظر العقلي والتأمّل، لا يخالف الدين الموحى به.
ويعدّ ابن طفيل أول فيلسوف إسلامي صبَّ خلاصة فلسفته كلها في قالب قصصي، وجعل بطل قصته شخصًا متوحّدًا يكوّن نفسه وأفكاره بالاحتكاك بالطبيعة وبالكائنات التي هي أقل منه درجات من جماد ونبات وحيوان، إلى أن يصل لنقطة الإدراك والاتصال، فهذه القصة الرمزية تعدّ بحق نوعًا من الفانتازيا العقلية التي قَلَّدَها ونسج على منوالها كثيرون من كتاب الإفرنج ومفكريهم.
فهي باختصار شديد تقدّم حالة جديدة منفردة، تتحدّث عن طوباوية فردية، ولا تتحدّث عن نظام اجتماعي، وهي تعرض حياة طفل إنساني عاش منفردًا واستطاع بعد جهد وتأمّل أن يصل إلى حياة مثالية تعتمد على الذكاء والعقل، كما تعتمد على الاكتفاء الذاتي.
ولذلك تعدّ هذه القصة الفلسفية الرمزية بمثابة ظاهرة فريدة في الفكر العربي، حيث عرض صاحبها مذهبه الفلسفي في قصة شائقة يمكن اعتبارها نسقًا فلسفيًّا متكاملًا، ومذهبًا فكريًّا تامًّا، وهو ما أراد هذا البحث أن يُثبته معتمدًا على مناهج التحليل والمقارنة والنقد، كما يعدّ بناؤها الروائي محكمًا يبدو فيه ابن طفيل متمكّنًا من فن السرد والوصف والتشويق، حتى يمكننا اعتباره سابقًا لعصره بل سابقًا للعالم كلّه إلى فن الرواية الحديثة.
ﷺ حياة ابن طفيل
هو أبوبكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي، المشهور بابن طفيل، وينسب أيضًا فيقال: الأندلسي، والقرطبي، والإشبيلي، ويكنَّى أحيانًا –وهو الأقل- أبا جعفر. ولد في وادي آش على مسافة 53 كيلو مترًا من قرطبة، ولا نعرف تاريخ ميلاده على وجه التحديد، فبينما يرى البعض أنه ولد نحو عام 500 هجرية[1]، يرجّح البعض الآخر أنه ولد في عام 506هـ[2]. ولذلك يمكننا القول: إنه ولد في السنوات العشر الأولى من القرن السادس الهجري.
ولا نعرف أيضًا شيوخه ولا أين تلقّى العلم، غير أن مراكز العلم في ذلك الوقت كانت على الأخص قرطبة وإشبيلية، وإن كان البعض قد أشار إلى أنه تتلمذ على يد ابن باجة، غير أن ابن طفيل نفسه يُنكر ذلك؛ إذ ذكر صراحة في «حي بن يقظان» وهو يُشير إلى ابن باجة: «فهذا حال ما وصل إلينا من علم هذا الرجل -ابن باجة- ونحن لم نلقَ شخصه»[3].
وهذا دليل قاطع على أنه لم يتلقَّ العلم على يدي ابن باجة، إلَّا أنه بغير شك قد تأثّر به من الناحية الفلسفية تأثُّرًا بارزًا، وفي الحقيقة لم يكن حي بن يقظان سوى الامتداد المتطوّر لمتوحّد ابن باجة. فقد ذهب ابن باجة في كتابه «تدبير المتوحّد» إلى أن الإنسان مدني بطبعه، ولا حياة له بغير المجتمع، إلَّا أن المجتمع مليء بالشرور، فلا سبيل للفيلسوف الذي يريد أن يصل إلى الحقيقة غير الابتعاد عن الناس، ولكنها ليست دعوة إلى عزلة مطلقة بل عزلة اختيارية، ومن هنا ذهب ابن باجة إلى أن الإنسان مدني بالطبع، ولكنه متوحّد بالعرض، فيقول: «على المتوحّد… أن يعتزل الناس جملة ما أمكنه فلا يلابسهم إلَّا في الأمور الضرورية»[4].
وجاء ابن طفيل ليعبّر عن هذه العزلة الاختيارية في اختيار «حي بن يقظان» أن يعتزل الناس في جزيرة منفردة، يعبد الله مع صديقه «أبسال» حتى يصلا إلى حالة السعادة المنشودة.
ولا بد أن ابن طفيل قد درس العلوم الدينية، والفقه بخاصة؛ لأن تلميذه البطروجي يذكر أن ابن طفيل كان قاضيًا، وكذلك درس العلوم العقلية والطب، وقد مارس مهنة الطب في غرناطة زمنًا، واشتغل كاتبًا لعامل غرناطة وحاكم ولاية طنجة، كما كان طبيبًا لأحد خلفاء دولة الموحّدين وهو أبو يعقوب يوسف.
وقد نال ابن طفيل عند هذا الخليفة مكانة كبيرة، فلقد كان من أكثر العلماء حظوةً لديه، حيث كان يقيم بقصر الخليفة أيامًا ليلًا ونهارًا حتى أصبح صديقه المقرّب وكاتم أسراره وطبيبه الخاص ووزيره.
ولعل ممّا ساعد ابن طفيل على أن تكون له تلك المكانة الخاصة أن كلاهما ينتسب إلى قبيلة قيس، وصلة الدم لها مكانتها عند العرب، كذلك كان هذا الخليفة يمثّل نمطًا من الحكام الذين يميلون للعلم والدين، إذ تُخبرنا كُتب التراجم بأنه كان يجمع بين أمرين: الفقه في الدين والورع من ناحية، والطموح إلى تعلّم الحكمة والفلسفة من ناحية أخرى.
أي إنه كان هناك تقارب بينهما في المزاج الفكري، فلقد كان كل منهما أديبًا محبًّا للعلم وأهله، محبًّا للفلسفة والمشتغلين بها، فقد اشتهر عن هذا الخليفة أنه كان حريصًا على أن يجمع الكتب من أقطار الأندلس والمغرب، ويبحث أيضًا عن العلماء، حتى كان لديه بالبلاط مجموعة كبيرة من العلماء، لم تجتمع لمن قبله ممّن ملك المغرب. وكان من مهام ابن طفيل أيضًا جلب العلماء إلى قصر الخليفة، فهو الذي نبَّه الخليفة إلى ابن رشد أعظم فلاسفة العرب.
وظل ابن طفيل في بلاط السلطان أبي يعقوب يوسف متمتعًا بمكانته الخاصة إلى أن كبر سنّه فتخلّى عن وظيفة الطب لخلفه ابن رشد، وتوفّي ابن طفيل في سنة (581هـ – 1185م) في مدينة مراكش، ودفن هناك، واشترك السلطان أبو يوسف في تشييع جنازته[5].
مؤلفاته
ينسب المؤرخون لابن طفيل مؤلفات في مختلّف الموضوعات والمجالات العلمية، كما يشار إلى أهميتها العلمية، ومن تلك الكتب التي تنسب إلى ابن طفيل، كتاب «أسرار الحكمة المشرقية» و رسائل «في النفس» وفي بعض النواحي الفلسفية الأخرى، وله كتابان في الطب، والرسائل الهامة المتبادلة بينه وبين ابن رشد التي تناولت كثيرًا من المشاكل الفلسفية والعلمية؛ حيث ذكر المراكشي أنه قد رأى عدة رسائل في الفلسفة، وعلى وجه الخصوص يذكر «رسالة في النفس» مكتوبة بخط ابن طفيل نفسه، وذكر ابن رشد أن ابن طفيل له في الفلك نظريات فاخرة، كما ذكر أبو إسحق البطروجي في إحدى رسائله في الفلك أنه رأى لأستاذه ابن طفيل نظريات فلكية يصح أن تحل محل نظريات بطليموس[6].
وليس هذا بالأمر المستبعد فإلمام ابن طفيل بعلوم الفلك أمر بيِّن لمن يقرأ قصة «حي بن يقظان»، كذلك إلمامه بالطب والجغرافيا وعلم النفس، إلَّا أنه لم يصلنا من علم الرجل غير قصته «حي بن يقظان» فهي الأثر الوحيد الذى كتب لصاحبه الخلود في تاريخ الثقافة العربية والعالمية.
ﷺ أولًا: ملخص القصة
تجري أحداث القصة على جزيرتين، الأولى يسكنها مجتمع إنساني تقليدي تسود فيه الشهوات والنزعات الدُّنيا، وأهله يحاكون الحقائق بأمثلة الخيال، واعتقادهم الديني سطحي ساذج، فهم يقبلون ظاهر النصوص بمدلولاتها الحسية.
وقد جاء القرآن الكريم على هذه الصورة لكي يخاطب هؤلاء العامة الذين يرفضون جميع صور التأمّل العقلي، ويعزفون عن التعمّق واستبطان النصوص وتأويلها. وإن كان يوجد بهذه الجزيرة طبقة معرفية أعلى من طبقة العامة وهم أصحاب «أبسال» الذي قال عنهم لـ«حي بن يقظان»: إن تلك الطائفة هم أقرب إلى الفهم والذكاء من جميع الناس، وإنه إن عجز عن تعليمهم فهو عن تعليم الجمهور أعجز.
وقد ظهر في هذه الجزيرة فتيان أحدهما سلامان والآخر أبسال، تميّزا عن أهل الجزيرة بالفضل وسمو النظر العقلي وبتغلّبهما على الشهوات، وكان الأول ذا نزعة علمية فنجده يساير العامة ويقبل دينهم في الظاهر ولا يلبث أن يسيطر عليهم.
أما الثاني فإنه ينزع نزعة عقلية تأمّلية فيعتزل مجتمع الجزيرة، ويولّي وجهه نحو جزيرة مجاورة يظن أنها فقر من السكان. وهذه هي الجزيرة الثانية التي تجري عليها أحداث القصة، في هذه الجزيرة يسكن «حي بن يقظان»، وهو قد نشأ في هذه الجزيرة وترعرع على الفطرة، وقد يكون قد أُلقي به في اليم طفلًا فاستقر على الجزيرة، أو قد يكون قد تولّد طبيعيًّا من العناصر الطبيعية، وقد تكفّلت به ظبية فأرضعته، وهذه إشارة إلى التكافل الموجود بين الكائنات من نبات وحيوان وإنسان.
ثم أخذ يتدرّج في مدارج المعرفة، فتعلّم بنفسه كيف يكفي حاجاته المادية، وكيف يستطيع أن يقوم بتوفير حاجاته الضرورية التي بها قوام حياته، من غذاء وملبس ومسكن. وقد كافح «حي» حتى خرج من الطور الحيواني الأول، ثم انبعث لديه شعور ديني مصدره التعجّب من اكتشافه للنار. وهو يمضي في حياته البريئة من المادة فيرعى النبات والحيوان ويُعنى بنظافة جسمه وملبسه ويحاول تصحيح حركاته، ويقتصر في أكله على ما يقيم الأود فلا يسرف في الغذاء أو في أكل اللحوم، وعن طريق التأمّل والملاحظة يعرف حقائق الحياة، ويعرف أهمية النار ويستخدم يديه في صنع ما يحتاج إليه.
ينطلق إذن من ذكائه الفطري في التأمّل والملاحظة والتفكير إلى أن استطاع أن يدرك بعقله أرفع حقائق الطبيعة ويكتشف أخص قوانينها، ثم ينتقل إلى البحث عن الأسباب البعيدة فأخذ يفكّر في أسرار السماء ويتشوّق لمعرفة مكنونات ما وراء الطبيعة. فيعتزل الحياة في مغارة يعيش فيها أربعين يومًا زاهدًا في الطعام فترتقي نفسه، ويهتدي إلى ما اهتدى إليه الفلاسفة الإشراقيون.
فيحاول «حي» أن يصل إلى الاتحاد الوثيق بالله، هذا الاتحاد هو السعادة القصوى والغبطة العظمى، ولقد سلك «حي» في سبيل الاتصال بالله طريق التأمّل والنظر العقلي، فانقطع عن عالم الجزيرة، ودخل مغارة وصام أربعين يومًا متتالية، وانقطع عن عالم المحسوسات، وما يصله به، واجتهد في فصل عقله عن العالم الخارجي المحسوس، وحتى عن جسده، وتفرّغ للتأمّل العقلي المطلق في الله، لكي يصل إلى الاتصال به.
مر «حي» خلال هذه الرحلة نحو الاتصال بالله بسبعة مراحل كل منها سبع سنين يصل في نهايتها إلى حالة الفناء فيصير عقلًا خالصًا فتصبح روحه مرتبطة بالعالم العلوي، وتكون غايته أن يلتمس الواحد في كل شيء، وأن يشهد الحضرة الإلهية، فيرى الطبيعة كلها تنزع إليه ويرى التجلّي الإلهي شاملًا، ويكون عمره قد أشرف على الخمسين.
وحينذاك يحدث اللقاء بينه وبين «أبسال» الذي هجر الجزيرة الأولى ليعتكف في الثانية زاهدًا في الدنيا وفي مجتمع الناس، وقد كان تفاهمهما صعبًا في بداية الأمر، حيث فرّ «أبسال»[7] من «حي» مذعورًا، ولحق به «حي» تحت دوافعه الفطرية للاستطلاع ومعرفة كنه هذا المخلوق الغريب الذي ظهر فجأة على جزيرته، كما كانت دوافع «حي» أقوى لمعرفة تلك اللغة التي يتكلّمها ومعرفة سرّ بكائه وتضرّعه في صلاته.
ومع إدراك «أبسال» أن «حيًّا» ليس حيوانًا متوحشًا ولا ينوي إيقاع الضرر به اطمأن إليه، وعلّمه الكلام وحقيقة الشريعة التي أوحى بها الله سبحانه وتعالى إلى البشر عن طريق الأنبياء، ولقد اكتشفا أن العقيدة الدينية السائدة في مجتمع الجزيرة الأولى قد انتهى إليها «حي» وعرفها بدقة أكثر كمالًا بهداية العقل الفعّال.
وعرف أبسال أن العقيدة الدينية ما هي إلَّا رمز للحقيقة الروحية المحجوبة عن البشر بسبب تعلّقهم بالعالم المادي المحسوس وعاداتهم الاجتماعية، وإنه لكي تنكشف جوانب الحقيقة يجب استخدام منهج التأويل الرمزي، فالعقيدة ظاهر وباطن ولكنها في حقيقة أمرها شيء واحد يفهمه العامة على مستوى حياتهم المادية وإدراكاتهم المشوبة بالخيال، ويفهمه الخاصة أو المتوحدون على مستوى الكمال العقلي بحسب إدراكاتهم.
وتمضي القصة فنجد «حي» يصحب أبسال في رحلة إلى الجزيرة المجاورة لكي يُخرج أهلها من حالة الجهل ويعلّمهم أسرار الحقيقة. ولكن «حي» لاحظ أنه كلما أمعن في شرحه الفلسفي ازداد نفور الناس منه فجعلوا ينقبضون منه وتشمئز نفوسهم ممّا يأتي به، ويتسخّطونه في قلوبهم، وإن أظهروا له الرضا في وجهه إكرامًا لغربته فيهم، ومراعاة لحق صاحبهم «أبسال».
فاضطر إلى الرحيل هو و«أبسال» عن الجزيرة عائدين إلى جزيرتهما الخالية، لكي يعتكفا لعبادة الله عبادة روحية خالصة حتى يدركهما الموت. وقد أدركا بالتجربة أن مجتمع البشر لا أمل في شفائه من الجهل والسطحية، وأن الحقيقة لا يقوى على طلبها وإدراكها سوى قلّة من المتوحدين ممّن له قوة الإرادة والقدرة على التخلّي عن مطالب البدن وحاجات الدنيا.
لقد اتّضح لهما إذن أن العامة لا قدرة لها على إدراك الحقيقة الخالصة، وإنها لم تخلق للعوام؛ إذ إنهم مكبّلون بأغلال الحواس، وعرفا أن الإنسان إذا أراد أن يصل إلى التأثير في تلك الأفهام الغليظة التي أثقلها الحس، وأن يؤثّر في تلك الإرادة المستعصية، فلا مفرّ من أن يصوغ آراءه في قوالب الأديان المنزلة.
كما انتهى إلى أن الأنبياء A كانوا على حق حينما عرضوا على العوام الحقائق الدينية في صورة أمثال حسية ولم يجهروا لهم بالمكاشفات النورانية الكاملة، تلك التي لا يدركها سوى قلّة من المتوحدين، أي الفلاسفة[8].
ويطرح ابن طفيل في هذه القصة تساؤلات حول الحق الذي لا جمجمة فيه، وعن الحقيقة الخالصة وما هي الطريق الأنسب لبلوغها؟ وهل هي طريق أهل النظر أي الفلاسفة أم طريق أهل الولاية أي المتصوفة؟ وما هي حقيقة مصير الإنسان، من هو؟ ومن أين أتى؟ وما شأنه في الحياة؟ وما الغاية من وجوده؟ وما مصيره؟ وكيفية الوصول إلى السعادة؟ وكيفية التعرّف إلى الخالق ذاته وصفاته؟
وهي قصة في مجملها حاملة لأفكار ابن طفيل الفلسفية. ويمكن تقسيم هذه القصة إلى ثماني مراحل: المرحلة الأولى تشمل ولادة حي، والمرحلة الثانية يكتشف حقيقة الروح بموت الظبية، ويعرف أن القلب هو مصدر الروح، والعضو الأساسي للحياة، وتجيء المرحلة الثالثة باكتشاف النار فيعرف الحرارة وفائدتها، وفي المرحلة الرابعة يعرف قانون السببية ويتأكّد أن كل ما في الكون يخضع لهذا القانون، ويرتفع في المرحلة الخامسة إلى اكتشاف وحدة الكون؛ إذ تشترك الكائنات في وحدة واحدة، ثم تتميّز فيما بينها بمميّزات إضافية تبعًا لمرتبتها.
وفي المرحلة السادسة يصل إلى معرفة صانع الكون، ويفكّر في المرحلة السابعة في ذات الله وصفاته ويسعى إلى التشبّه به عن طريق التسامي والاتصال. وفي المرحلة الثامنة والأخيرة يلتقي بـ«أبسال» ويعلّمه الكلام، ويتّفقان على أن الحياة الحقة في العزلة للتفكر والعبادة حتى يلحق بدرب السعداء[9].
ﷺ ثانيًا: الدلالات الفلسفية لقصة «حي بن يقظان»
قبل عرض تلك الدلالات الفلسفية التي بسطها ابن طفيل في رسالته «حي بن يقظان» نرى أنه من الضروري الإجابة عن سؤال مُلِحّ تضاربت فيه أقوال وآراء الباحثين، فأردنا أن نقف عليه وقفة جادّة لعلها تحسم ذلك الجدال حول مقصود ابن طفيل من تدوين هذه القصة بهذا الشكل.
مقصود ابن طفيل وغايته من قصته
رأي الدكتور محمد غلاب أن غاية ابن طفيل من هذه القصة لم تكن –كما فهم عبدالواحد المراكشي- محاولة عرض كيفية بدء الخلق أو بيان أصل النوع الإنساني فيما يرى الفلاسفة، وإنما غايته الأساسية هي إيضاح رأيه في كيفية المعرفة، وهو يتلخّص في أن الإنسان يستطيع أن يصل إلى إدراك الحقائق ولو كان قد نشأ في عزلة تامّة، ولم يتلقَّ أية ثقافة خارجية، ولم يحتمل أقل أثر من غيره إلَّا أثر العقل الفعّال الذي ينير عقله، وكذلك يستطيع أن يدرك هذه الحقائق ويتذوّقها إذا لقّنه غيره إياها، ولكن على شرط أن يكون هذا الإنسان من الخاصة الذين منحتهم السماء موهبة فلسفية كحي بن يقظان بطل رواية فيلسوفنا الذي أدركها وحده، وكصديقه «أبسال» الذي أدركها أولًا بوساطة الدين، ثم بوساطة «حي»؛ وذلك لأن العامة ليس لديهم الاستعداد لإدراك هذه الحقائق، ولأن المجهود الذي يبذل في تهذيبهم يذهب عبثًا كما ذهب مجهود «حي» وصاحبه في تهذيب أهل الجزيرة الأخرى[10].
في حين قرّر أحد الباحثين أن ابن طفيل أراد أن يستكمل ما بدأه سلفه الفيلسوف الأندلسي أبو بكر بن الصائغ المشهور بـ«ابن باجة» عن المتوحد وتدبيره، فيقول: «وفي تقديري أن حي بن يقظان لابن طفيل هو التجسيد المتطوّر لمتوحد ابن باجة في مرحلة جديدة هي مرحلة دولة الموحدين حيث الازدهار والاستقرار والنضج العقلي»[11]، ويشاركه هذا الرأي محمد لطفي جمعه الذي ذهب إلى القول بأن غرض ابن طفيل من كتابه حي بن يقظان هو أنه أراد أن يحلّ معضلة كبرى شغلت حكماء وقته وهي علاقة النفس البشرية بالعقل الأول[12] أو ما يعرف في تاريخ الفلسفة الإسلامية بمشكلة الاتصال.
بينما نزع البعض إلى القول بأن قصد ابن طفيل من قصته هو استعراض أحوال الإنسان لو لم ينزل عليه الوحي، وكيف أنه يستطيع وحده بدون مساعدة من أحد باستثناء العقل السليم أن يصل إلى حقائق الوحي وأصول العقيدة[13].
كما آثر أحد الباحثين القول: إن ابن طفيل «كتب هذه القصة من أجل تحقيق هذه الغاية، ألا وهي عرض أسرار الحكمة المشرقية»[14]، بينما يرى الغالبية العظمى من الباحثين[15] أنه يقصد بهذه القصة بيان التطابق بين العقل والنقل، أي بين الحكمة والشريعة، ويحاول أن يبيّن للجميع درء تعارض العقل والنقل، وأن صريح المعقول لا يعارض أبدًا صحيح المنقول، ومن ثم فلا تعارض بين الدين والفلسفة؛ حيث إنهما يعبّران عن حقيقة واحدة، الدين يصورها بصورة حسية، والعقل يكتشفها ويصوغها في قالب عقلي.
في حين تؤكّد هذه الدراسة أن مقصود ابن طفيل من هذه القصة هو تضمينها خلاصة آرائه الفلسفية، فهو لم يقدّم حلًّا لمشكلة واحدة ولا ابتغى معالجة إشكالية فلسفية بعينها «وإنما يقدّم نسقًا فلسفيًّا كاملًا يكاد يعالج فيه أهم القضايا الفلسفية في الفكر العربي الإسلامي»[16].
وأنه لما كان أسلافه من علماء الأندلس لم يعنوا بالآراء الفلسفية في الطبيعيات والإلهيات؛ حيث اشتغل فريق منهم بالعلوم المحفوظة من شرعية ولغوية، ويئس فريق آخر من النظر في الفلسفة ومعارفها يأسًا تامًّا؛ لأنها لا ترمي -في نظرهم- إلَّا إلى أحد شيئين: حقيقة متعذّرة التحصيل، وباطل غير مفيد.
أما معاصرو ابن طفيل فرأى أنهم ناشئون في الفلسفة ولم يقطعوا فيها بعدُ شوطًا يستحق الذكر، فصمّم أن يتكفّل هو بسد هذه الثغرة فألّف هذه الرسالة وبسط فيها كل آرائه الفلسفية. وهو الأمر الذي يستشعره القارئ لأول وهلة من التفاصيل العميقة حول كل قضية يتمّ عرضها، ولم يكن العرض القصصي بحاجة إليها من حيث الحبكة أو التشويق، مثل نزعته النقدية البارزة للسابقين من أمثال الفارابي وابن سينا والغزالي وابن باجة. أو في بيان كيفية علم حي بن يقظان أن كل حادث له محدث وقيام الأدلة على وجود الله، وفي نظر حي بن يقظان في الشمس والقمر والكواكب وبقية الأجرام، وفي أن كمال الذات ولذتها إنما هو بمشاهدة واجب الوجود، وفي النزعة الإنسانية البارزة التي ترى أن الإنسان نوع كسائر أنواع الحيوان ولكنه إنما خلق لغاية أخرى، كذلك تفصيلاته في القول في أن السعادة والفوز من الشقاء إنما هي في دوام المشاهدة لهذا الموجود دائم الوجود، أو ما بسطه في الجزء الأخير من رسالته حول الفناء والوصول، وغيرها من الدلالات الفلسفية التي جاءت بصورة كاملة وموجزة في الآن نفسه.
أما لماذا اختار ابن طفيل هذا الشكل القصصي لتقديم فلسفته؟ فالسبب ظاهر للعيان وهو الهروب من تلك المواجهة السافرة مع فقهاء عصره، وأن يتفادى مصير من اشتغلوا بالفلسفة بعد تلك الحملة الشعواء التي قام بها الغزالي في المشرق العربي ولم يسلم منها المشتغلون بالفلسفة في المغرب العربي، وما مصير ابن باجة الذي مات مسمومًا من ابن طفيل ببعيد، أو نكبة ابن رشد الذي جاء بعد ابن طفيل مباشرة بخافية على أحد.
ولذلك عمل ابن طفيل على أن يُضَمِّنَ روايته كل آرائه الفلسفية من خلال تقنية روائية تتّسم بالبساطة والجرأة من خلال فضاء روائي واسع يعطي الحرية في سرد التفاصيل الخاصة بمذهبه الفلسفي، وهذه الدلالات الفلسفية هي ما نعرض له فيما يلي:
1- النزعة النقدية
فطن ابن طفيل منذ البداية إلى أنه لا يمكن أن يكون هناك مفكّر أصيل بدون موقف نقدي، فالموقف النقدي هو بمثابة نقطة الانطلاق، بل ويمكن وصفه بأنه ذلك الموقف الذي يرى ضرورة مناقشة المعلومات كلها، ويرى أنه ليست ثمة معرفة مقبولة إلَّا بعد فحص وتمحيص، فالنظرة النقدية تكون دائمًا الحافز والدافع للباحث لسبر غور موضوعه، ولولا النظرة النقدية للظواهر الكونية ولفكر السابقين لما وجد لدى الباحثين والعلماء والمفكّرين موضوعات للبحث والدراسة ولأصبح الإنسان تابعًا لا مبدعًا، مقلّدًا لا مجدّدًا، وبدون هذه النظرة أيضًا تموت روح الابتكار والإبداع.
ولذلك نجد أن أول ما يمكننا ملاحظته عند قراءة قصته هي تلك النزعة النقدية التي تميّز بها ابن طفيل؛ حيث إنه قام بنقد كل من الفارابي وابن سينا والغزالي وابن باجة، وكان نقده لهم منطلقًا من التزام ابن طفيل في تفلسفه بخصائص وشروط الموقف الفلسفي.
ومن أبرز ما تميّز بها النقد عند ابن طفيل هو إظهاره للغثّ والسمين معًا في المذهب الذي يتناوله، فلا يكتفي بذكر العيوب أو المزايا وإنما عُني بذكر العيوب والمزايا معًا.
فأما الفارابي فقد رأى ابن طفيل أن أكثر ما وصل بلاد الأندلس من كتب الفارابي في المنطق، أما ما ورد منها في الفلسفة فهي كثيرة الشكوك، بها العديد من أوجه التناقض والتي من أبرزها موقفه من المعاد وخلود النفس، حيث إنه أثبت في كتاب «الملة الفاضلة» بقاء النفوس الشريرة بعد الموت في آلام لا نهاية لها بقاءً لا نهاية له، ثم صرَّح في كتاب «السياسة المدنية» بأنها منحلة وصائرة إلى العدم وأنه لا بقاء إلَّا للنفوس الفاضلة الكاملة.
ثم وصف في شرح «كتاب الأخلاق» شيئًا من أمر السعادة الإنسانية، وأنها إنما تكون في هذه الحياة وفي هذه الدار؛ ثم قال عقب ذلك كلامًا هذا معناه: «وكل ما يذكر غير هذا فهو هذيان وخرافات عجائز».
وهكذا يكون الفارابي في نظر ابن طفيل قد أيأس الناس جميعًا من رحمة الله تعالى، وصيّر الفاضل والشرير في رتبة واحدة؛ إذ جعل مصير الكل إلى العدم؛ وهذه زلّة لا تُقال، وعثرة ليس بعدها جبر. وهذا ما صرّح به من سوء معتقده في النبوة، وأنه بزعمه للقوة الخيالية، وتفضيله الفلسفة عليها إلى أشياء ليس بنا حاجة إلى إيرادها[17]. ولكنه بالرغم من ذلك ينزله منزلة عظمى ويرى أنه من أنبغ فلاسفة الإسلام في المشرق؛ ولذلك يستشهد بالعديد من كتبه.
أما الشيخ الرئيس ابن سينا فيرى ابن طفيل أن كتابه المسمى «الشفاء» قد سار فيه على درب أرسطو وعلى مذهب المشائين، ولكن من أراد الحق الذي لا جمجمة فيه فعليه بكتاب «الفلسفة المشرقية». أي إن ابن سينا قد اتّفق ظاهريًّا مع أرسطو واختلف باطنيًّا، فيقول ابن طفيل: «ومن عُني بقراءة كتاب الشفاء وبقراءة كتب أرسطوطاليس، ظهر له أكثر الأمور أنها تتّفق، وإن كان في كتاب الشفاء أشياء لم تبلغ إلينا عن أرسطو. وإذا أخذ جميع ما تعطيه كتب أرسطو وكتاب الشفاء على ظاهره دون أن يتفطن لسره وباطنه، لم يوصل به إلى الكمال حسبما نبَّه عليه الشيخ أبو علي في كتاب الشفاء»[18].
أما ما يتعلّق بأبي حامد الغزالي فقد رماه ابن طفيل بالتلوّن والذبذبة بين الخاصة والعامة يظهر لأولئك ما يخفيه أمام هؤلاء؛ فهو عند ابن طفيل بحسب مخاطبته للجمهور، يربط في موضع، ويحل في موضع، ويكفر بأشياء ثم ينتحلها، ثم إنه من جملة ما كفّر به الفلاسفة في كتاب (التهافت) إنكارهم لحشر الأجساد، وإثباتهم الثواب والعقاب للنفوس خاصة.
ثم قال في أول كتاب «الميزان»: إن هذا الاعتقاد هو اعتقاد شيوخ الصوفية على القطع، وغير ذلك من العثرات التي لا تقال من اتّصاف الموجود العظيم بصفة تنافي الوحدانية المحضة… تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
وقد حاول الغزالي أن يخرج من هذا المآزق بزعمه أن هذه الآراء قد تمّ فهمها بطريقة خاطئة حيث إنها لم تكتب للعامة وإنما هي كتابات مضنون بها على العامة، ولكن ابن طفيل يقرّر أن كتبه المضنون بها هذه لم تصل إليه… ولكنه مع ذلك يجلّ الشيخ الغزالي ويرى أنه ممّن سعد السعادة القصوى، ووصل تلك المواصل الشريفة المقدّسة، لكن كتبه المضنون بها المشتملة على علم المكاشفة لم تصل إلينا[19].
وعندما يتحدّث عن ابن باجة، فيرى أنه لم يكن في أهل الأندلس من هو أثقب منه ذهنًا، ولا أصحّ نظرًا، ولا أصدق رؤية غير أنه شغلته الدنيا، حتى اخترمته المنية قبل ظهور خزائن علمه، وبثّ خفايا حكمته، وأكثر ما يوجد له من التآليف فإنما هي غير كاملة ومجزومة من أواخرها، ويذكر من مؤلفاته «كتاب النفس» و«تدبير المتوحد» و«رسالة الاتصال»، ويرى أن المعنى المقصود برهانه في رسالة الاتصال ليس يعطيه ذلك القول عطاءً بيّنًا إلَّا بعد عسر واستكراه شديد، وإن ترتيب عباراته في بعض المواضع على غير الطريق الأكمل، ولو اتّسع له الوقت لمال إلى تبديلها[20].
ولذلك يرى ابن طفيل أن ابن باجة كان من الممكن أن يقوم بسدّ الثغرة في الاهتمام بالعلوم الفلسفية نظرًا لنبوغه العقلي لو لم تعترضه العقبات القاسية التي إحداها أنه اتّقي شر الجمهور، فلم يخض في الفلسفة صراحة، وثانيتها أنه اشتغل بالماديات فألهته عن التفرّغ للعلم، وحالت أطماعه في الثروة بينه وبين الإتقان، وثالثتها أن المنية قد عاجلته قبل ظهور خزائن علمه.
2- أنطولوجيا العالم الفيزيقي
عالج ابن طفيل العالم من الناحية الفيزيقية والناحية الميتافيزيقية؛ فإذا نظرنا إلى العالم عند ابن طفيل سنجده مقسّمًا من الناحية الفيزيقية إلى قسمين: عالم ما تحت فلك القمر وعالم ما فوق فلك القمر، متبعًا في ذلك القسمة الأرسطية للعالم.
ولقد بدأ ابن طفيل بحثه للعالم الفيزيقي على أساس المنهج العلمي مبتدئًا بالإدراك الحسي المباشر للظواهر الطبيعية ومحاولة تفسيرها، وفرض الفروض وإجراء التجارب للتحقّق من صحة تلك الفروض، ومحاولة الوصول إلى القوانين العامة المفسّرة للظاهرة.
حيث قام ابن طفيل بتقسيم عالم ما تحت فلك القمر «العالم السفلي» إلى قسمين من الموجودات؛ موجودات حية وموجودات غير حية. وأن الموجودات الحية تشمل النبات والحيوان والإنسان.
وتأمّل كل أنواع النبات فرأى أنه على الرغم من اختلاف أنواعها إلَّا أن كل نوع منها تشبه أشخاصه بعضها بعضًا في الأغصان والزهر والثمر، فرأى أن لها شيئًا واحدًا مشتركًا، الأمر نفسه لجميع أنواع الحيوان، وكذلك الإنسان.
والفرق بين الأصناف الثلاثة هو في قوى النفس التي هي في الإنسان أتمّ من النبات والحيوان، وأن الإنسان يتميّز بقوى النفس الناطقة التي تميّزه على النبات الذي له من القوى المغذية والمنمية، ويزداد الحيوان بالحس والحركة والتنقل من حيّز إلى آخر، أما النفس الناطقة فتتميّز عمّا سواها بإدراك الأمور المعقولة والجوانب الروحانية[21].
أما الموجودات غير الحية وهي التي لا نفس لها وهي مختلفة من جبال وأنهار ومعادن وغيرها فهي متكثّرة من جهة ومتّحدة من جهة أخرى، وهي من الجهة التي تتّفق فيها واحدة، ومن الجهة التي تختلف فيها كثيرة متغيّرة[22].
وهكذا ينتهي ابن طفيل إلى شيء واحد يجمع الموجودات الحية وإن تعدّدت مظاهره في الأنواع المختلفة، كذلك الأمر في الموجودات غير الحية. وأهم ما يميّز عالم ما تحت فلك القمر أنه قابل للكون والفساد ولا يخلد فيه سوى النفس الناطقة.
أما عالم ما فوق فلك القمر أو عالم الأجرام السماوية، من الشمس والقمر وسائر الكواكب وغيرها فقد رأى ابن طفيل إن أجرامه تتّصف بالجسمية، أي إنها تمتدّ في الأقطار الثلاثة الطول والعرض والعمق، ولا ينفك شيء منها عن هذه الصفة، وكل ما لا ينفك فهو جسم، فهي إذن كلها أجسام، وبما أنها أجسام فهي متناهية ومحدودة، حيث إن القول بأنها لا نهاية لها أمر باطل وشيء يعدّ محالًا[23].
وأن شكل الفلك هو شكل الكرة، وأن لها حركة منتظمة جارية على نسق واحد، وأنها لا تقبل الكون والفساد مثل أجسام العالم السفلي؛ حيث إن أجسام عالم ما فوق فلك القمر لها ذوات غير أجسامها تعرف الموجود الواجب الوجود، وأن تلك الذوات العارفة ليست بأجسام ولا منطبعة في أجسام، مثل القوة العاقلة التي للإنسان.
ويستخدم ابن طفيل قياس الأولى، فإذا كانت هذه القوة موجود مثيل لها في الإنسان الذي يجمع بين الحس والعقل، فمن الأولى أن توجد للأجرام السماوية التي هي بريئة من الحس[24].
ثم تناول ابن طفيل الكشف عن الأبعاد الميتافيزيقية للطبيعة فتناول آراء تتعلّق بعالم الكون والفساد، وأخرى تتعلّق بعالم الأجرام السماوية مفرقًا بين الكائن والفاسد من ناحية والأزلي والخالد من ناحية أخرى.
فقد حاول من خلال دراسته لعالم الطبيعة الصعود إلى أعم المبادئ الموجودة في الوجود، إذ كان يصعد دومًا من المادي إلى الروحي، كما يصعد من الكثرة والتنوّع إلى الوحدة والثبات… وهكذا يُشير ابن طفيل إلى القول بوحدة الحقيقة واختلاف المنهج، أي وحدة الحقيقة بين الحكمة والشريعة (العقل والنقل)، واختلاف طرق الوصول إليها. ولكل منهما منهج خاص به، منهج الإيمان الخالص يختلف عن منهج العقل الاستدلالي.
وصل «حي بن يقظان» إلى الحق بعقله الخالص دون رسالة من نبي أو تعلّم من فقيه، وصل بالعقل من خلال الانتقال من الإدراك الحسي إلى التصوّر العقلي، فالمشاهدة الذوقية الوجدانية. أما «أبسال» فقد وصل إلى الحق عن طريق الإيمان بالدين. وهذه التفرقة في المنهج هو ما سنجده بعد ذلك عند ابن رشد.
3- وحدة الوجود
يعبر مذهب وحدة الوجود في صورته الكلية عن أن الله وحده هو الوجود الحق، والعالم هو مجموع المظاهر التي تعلن عن ذات الله دون أن يكون لها وجود قائم بذاته[25]. وقد وجدت صور متعدّدة ومختلفة إلى حدٍّ كبير منه عند الهنود وفي الفلسفة اليونانية وعند صوفية العرب كالحلاج وابن عربي وفلاسفتهم كابن رشد، كما وجد في الفلسفة الحديثة عند ديدرو وسبينوزا[26].
وقد ظهر عند ابن طفيل حيث إنه نظر إلى الوجود بكامله على أن بينه ترابط في قوانين، وترتيب في درجات مرتبة يعلو بعضها بعضًا حتى نصل إلى العلة الأولى، والوحدة عنده دليل على وجود الخالق، ومن ثَمَّ فوحدة الوجود عند ابن طفيل تختلف عن تصوّر الصوفية، فهو تصوّر يعني الترابط العضوي بين كل عناصر الطبيعة وما فوق الطبيعة[27].
4- مشكلة حدوث العالم وقدمه
إن مشكلة حدوث العالم أو قدمه أو أنطولوجيا العالم الميتافيزيقي أخذت مكانًا كبيرًا في الفكر الفلسفي الإسلامي، فقال جميع فلاسفة العرب بالقدم عدا الكندي الذي قال بالحدوث، وقد بدأ ابن طفيل بحثه في مسألة الحدوث أو القدم، بالقول بضرورة حاجة العالم إلى موجد أو خالق، ولهذه البداية، إذ تعني أهمية إثبات أن العالم مخلوق لله تعالى، سواء كان حادثًا أو قديمًا[28].
وقد ذهب ابن طفيل إلى أن القول بالقدم يُثير إشكالات وشكوك، كما أن القول بالحدوث يؤدّي إلى ذلك أيضًا، والمقصود بقدم العالم أي إنه الموجود الذي ليس وجوده مسبوقًا بالعدم، وهو القديم بالزمان[29].
ولكي يتلاشى الفلاسفة بهذا القول بأن العالم ليس من خلق الله ذهبوا إلى القول بأن الله قد خلق هذا العالم ولكن من مادة قديمة، تصوّرها أفلاطون Platon في حالة من الفوضى وعدم التعيّن أو التحديد أو ما يُعرف بالعماء Choas، وتصوّرها أرسطو على أنها مادة دائمة الحركة، ولكنهما اتفقا على أنها موجودة مع الإله منذ القدم أو لم تزل موجودة معه.
أما الحدوث فيعني خلق الله للعالم من العدم، وقد عرض ابن طفيل في قصته لحجج أهل القدم ولحجج أهل الحدوث، كما عرض للشكوك التي تلزم عن القول بالقدم مثل استحالة وجود ما لا نهاية له، كما أن هذا الوجود لا يخلو من الحوادث ولا يتقدّمها، وما لا يتقدّم الحوادث ولا يخلو منها فهو محدث.
كما رأى أن القول بالحدوث يلزم عنه اعتراضات كثيرة، منها أن معنى الحدوث لا يفهم إلَّا على معنى أن الزمان تقدّم العالم، والزمان من جملة العالم ولا ينفك عنه؛ لذا فلا يفهم تأخّر العالم عن الزمان. كما أنه لو كان العالم حادثًا وله محدث، فَلِمَ أحدثه الآن ولم يُحدثه قبل ذلك، ألطارئٍ طرأ عليه ولا شيء هناك غيره، أم لتغيّر حدث في ذاته، فإن كان فما الذي أحدث ذلك التغيير؟[30]
وما زال ابن طفيل حائرًا بين القدم والحدوث عدة سنين إلى أن ارتضى القول بالقدم على اعتبار أن العالم كله معلول ومخلوق لله تعالى بغير زمان؛ مخالفًا بذلك جمهور المتكلّمين والكندي أيضًا، ومتّفقًا مع الفلاسفة الذين آثروا القول بالقدم من قبله مثل الفارابي وابن سينا أو من بعده كابن رشد.
ومع ذلك لا يفوتنا القول بأن ابن طفيل من القائلين بنظرية الخلق المستمر، التي تعني إثبات حفظ الله للعالم وعنايته المستمرة به، وأن القدرة الإلهية تتدخّل في كل لحظة من لحظات الزمان ليحفظ للأجسام والأفعال تماسكها ويُبقي على وحدتها[31].
وهو ما نلحظه في تأكيد ابن طفيل الدائم على افتقار الموجودات في دوامها إلى دوام الفاعل، فهي تفتقر إليه في وجودها وفي دوام ذلك الوجود. فهي متعلّقة الوجود به، ولولا دوامه لم تدم، ولولا وجوده لم توجد، ولولا قدمه لم تكن قديمة، وهو في ذاته غني عنها، وبريء منها[32].
5- أدلة ابن طفيل على وجود الله
على الرغم من ترجيح ابن طفيل للقول بقدم العالم إلَّا أن ذلك لم يمنعه من تقديم أدلة على وجود الله تعالى، بل إنه ربط بين القول بقدم العالم وبين تقديم أدلة على وجود الله تعالى برباط وثيق، ويعدّ هذا من جانبه ردَّ فعل على محاولة الغزالي الذي رأى أن الفلاسفة حين قالوا بقدم العالم، فاعتبر قولهم هذا يؤدّي إلى مذهب الدهرية، ومعنى هذا أن الفيلسوف الذي يقول بقدم العالم يكون متناقضًا مع نفسه إذا بحث عن أدلة وجود الله تعالى، فيما يرى الغزالي.
والجدير بالذكر أن ابن طفيل لم يحدّد أسماء معينة للأدلة التي قال بها، ولكننا يمكن لنا تسميتها في ضوء الفلسفة الإسلامية التي حدّدت أسماء لهذه الأدلة، فكان دليل الحركة هو دليل ابن طفيل الأول على وجود الله تعالى، ذلك الدليل الذي نجده عند أفلاطون وأرسطو أيضًا، وفحواه أن كل متحرّك له محرِّك يحرّكه وهذا المحرِّك له محرّك وهكذا إلى أن نصل إلى محرّك أول يحرِّك ولا يتحرَّك وهو الله تعالى. فإخراج العالم من مرحلة اللاوجود إلى الوجود، يعدّ دليلًا على حركة العالم، وهذه الحركة بدورها يلزمها محرِّك أي إله[33].
وهذا المحرِّك الأول يختلف عن المحرِّك الأول الأرسطي، الذي نفض يده من الكون بعد خلقه، ولا يتّصل به وبين الذي يرجع في أصله للعقيدة الإسلامية، التي تقرّ العناية الإلهية المستمرة للكون وما فيه من موجودات[34].
وهذا الدليل هو الذي نقده الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط؛ إذ إن العِلّيّة في نظر كانط لا تنطبق إلَّا على عالم الظواهر «عالم الشهادة» أي عالم الأشياء الواقعة في نطاق تجاربنا، بيد أنها لا تصدق على العلّة التي تعدّ خارجة عن العالم والتي تعدّ في الوقت نفسه سبب وجود العالم.
أما الدليل الثاني عند ابن طفيل فيمكن أن نطلق عليه دليل «حدوث الصورة عن محدث»، ويمكن الوصول إلى الفكرة العامة لهذا الدليل من ثنايا دراسته للعلاقة بين المادة والصورة، فإذا كانت جميع الموجودات تتركّب من مادة وصورة، وكانت المادة تفتقر إلى الصورة التي لا يصح وجودها إلَّا عن فاعل، فإن جميع الموجودات تفتقر إذن في وجودها إلى الفاعل المختار جلّ جلاله[35].
أما الدليل الثالث والأخير، فهو دليل يعتمد على فكرة الغائية والعناية الإلهية، وهو ما يُعرف في الفلسفة الإلهية بالدليل الغائي، الذي يعني أن هذا النظام وهذا التدبير الموجود في العالم لا بد له من فاعل منظّم ومدبّر؛ لأنه لا يمكن أن يكون على سبيل المصادفة أو الاتّفاق، أي إنه لا بد من وجود كائن يعتني بهذا العالم المحكم والمنظّم ويحفظه دومًا من الفساد، فتصفّح ابن طفيل الأشياء جميعًا «فتبيّن له في أقل الأشياء الموجودة، فضلًا عن أكثرها من آثار الحكمة، وبدائع الصنعة، ما قضى منه كل العجب، وتحقّق عنده أن ذلك لا يصدر إلَّا عن فاعل مختار في غاية الكمال وفوق الكمال»[36].
كما تناول ابن طفيل مشكلة الصفات الإلهية سواء كانت صفات ثبوت أو صفات سلب، ودرسها صفةً صفة فنفى منها الصفات الجسمية وأثبت العلم والقدرة، كما أثبت لله تعالى كل صفات الكمال والتنزيه، ونفى صفات النقص كلها عن الله تعالى، كما نفى العدم عنه، وأثبت له الأزلية والأبدية ودوام الوجود أو السرمدية، فيقول: «إن الموجود الواجب الوجود، متّصف بأوصاف الكمال كلها، ومنزَّه عن صفات النقص وبريء منها»[37].
وإن أكثر ما يمكن ملاحظته هنا هو أن ابن طفيل إذا كان أرسطيًّا قحًّا في دليل المحرِّك الأول في مسألة الصفات، فإنه انقلب اعتزاليًّا صرفًا حين رأى أن صفات الله هي عين ذاته وليست شيئًا زائدًا عليه.
6- خلود النفس وعلاقته بنظرية المعرفة
ارتبطت مشكلة خلود النفس بنظرية المعرفة عند ابن طفيل ارتباطًا بيّنًا؛ فإذا ما نظرنا إلى معالجته لمشكلة خلود النفس نجده يقارن بين تلك المعرفة التي تأتي عن طريق الحواس والمعرفة التي تأتي عن طريق العقل، فالحواس لا تدرك إلَّا ما هو جسمًا؛ ولذلك لا يمكنها أن تدرك واجب الوجود الذي هو بريء من صفات الأجسام، ولا يدرك بشيء ليس بجسم وليس له من صفة الجسمية أي صفة؛ ولذلك كانت النفس الناطقة هي التي تدرك واجب الوجود، ومن ثَمَّ كانت النفس خالدة لأنها تدرك الخالد، أما الجسم فهو فانٍ شأن جميع الأجسام، ومن ثَمَّ يُصبح مصير الجسد هو الفناء ومصير النفس هو الخلود.
فيحلّل ابن طفيل حالات النفس في حياتها الأرضية من خلال علاقتها بواجب الوجود (الله)؛ نظرًا لأن السعادة والشقاء في العالم الآخر لا بد أن ترتبط كل حالة منها بأفعال البشر في هذه الحياة الدنيا، فيميّز بين ثلاث حالات للنفس من خلال علاقتها بواجب الوجود؛ حالة أولى تمثّل النفس أو الإنسان الذي أدرك واجب الوجود ثمّ فقد إدراكه بالمعصية، ومصير الإنسان في تلك الحالة إنما يتمثّل في الآلام التي لا نهاية لها وسواء تخلّص من الآلام بعد جهاد طويل، أم بقي في الآلام بقاءً نهائيًّا.
وحالة ثانية تمثّل الإنسان الذي أدرك وجود الله وأقبل تمامًا عليه والتزم بالتفكير فيه حتى موت الجسد، ومصير النفس بعد الموت إنما يتمثّل في لذَّتها وغبطتها وسعادتها سعادة لا نهاية لها. وحالة ثالثة تمثِّل الإنسان الذي لم يدرك وجود الله، ومصير النفس في هذه الحالة كمصير الحيوانات[38].
ومن خلال هذه الحالات الثلاثة للنفس تظهر أهمية المعرفة بالنسبة للإنسان من جهة، والربط بين المعرفة والعمل من جهة أخرى، والدليل على ذلك، أن الحالة الثانية بالنسبة لمصير النفس بعد الموت (حالة المعرفة مع العمل) تعدّ أفضل من الحالة الأولى (حالة المعرفة مع المعصية) والحالة الثالثة (عدم المعرفة) وكيف ساوى صاحب هذه الحالة بالحيوان الأعجم.
7- التوفيق بين الفلسفة والدين
لقد أراد ابن طفيل أن يعرض لمشكلة التوفيق بين الفلسفة والدين، تلك المشكلة التي شغلت جلّ فلاسفة الإسلام، فعمل على أن يبيّن لنا من خلال هذه القصة أن ما وصل إليه «حي بن يقظان» بالنظر العقلي والتأمّل، لا يخالف الدين الموحى به.
ولما كان في الشريعة أقوال تدعو إلى العزلة والانفراد، وأخرى تدعو إلى المعاشرة وملازمة الجماعة، فقد تعلّق «أبسال» بطلب العزلة، وخاصة في أنه كان يتعمّق في البحث فيما وراء ظاهر الدين، وكانت عزلته تساعده على ذلك، أما «سلامان» فقد تعلّق بملازمة الجماعة، وكان هذا الاختلاف بين طبيعة كل منهما باعثًا على افتراقهما[39].
لكن يبدو أن ما أورده ابن طفيل من تقابل بين العقيدة والفلسفة قد يُوحي بأن ثمة تعارضًا بين الدين والفلسفة، وأنه لا التقاء بينهما بدلالة نفور العامة من شرح الفيلسوف للعقيدة، ولكن الواقع أنه لا يوجد أي تعارض بين الدين والفلسفة مطلقًا، وإنما التعارض الظاهر يرجع إلى اختلاف مستوى الإدراك عند كل من العامة والفلاسفة.
وعلى أية حال فإن هذا الموقف يرجع إلى ما سبق أن أشار إليه الغزالي من ضرورة حماية عقيدة العوام من مغبّة النظر العقلي ومخاطره، ولهذا فقد ميّز بين مفهوم العامة للدين ومفهوم الخاصة له، وهذا لا يقدح في الدين نفسه.
فالعامة أو الجمهور لا يعي إلَّا الظاهر والحرفي ولا يدرك من المعاني الخفية شيئًا، والأمر الأوضح من هذا وذاك أن ابن طفيل يرتّب الناس في مراتب أربع: أعلاها مرتبة الفيلسوف، ويتلوها مرتبة عالم الدين البصير بالمعاني الروحانية وهو الصوفي، ويتلوها مرتبة رجل الدين المتعلّق بالظاهر وهو الفقيه، وأدناها مرتبة الجمهور من الناس أو العامة.
غير أننا نلاحظ أن هذه القصة إنما تصل بنا إلى نتيجة مؤدّاها، أنه في الوقت الذي يمكن فيه تبرير إرسال الرسل إلى عامة الناس الذين يعجزون عن الوصول إلى أصول العقائد بدون معلم أو مرشد خارج أنفسهم، نجد أن المتوحدين ليسوا بحاجة إلى الرسل لأنهم يستطيعون الوصول إلى حقائق الوحي بعقولهم وبهداية العقل الفعّال.
كما لفت ابن طفيل الأنظار في تناوله للقضايا الدينية بين تناول أهل الظاهر، وهم الذين يأخذون النصوص الدينية على ظواهرها، وأهل التأويل وهم الذين يستخدمون العقل في فهم النص الديني، وفي حالة ظهور تعارض بينهما يؤوّلون النص ليوافق العقل، وانحاز ابن طفيل لأهل التأويل.
كما رأى أن الشريعة قد أصابت في استخدام الطريقة الملائمة لمخاطبة الناس على قدر عقولهم، دون مكاشفتهم بحقائق الحكمة وأسرارها، ورأت أن الخير في التزام الناس بحدود الشرع، وترك التعمُّق لمن هو أهلًا له. ولذلك ترك «حي» «سلامان» وقومه على مذهبهم في الاكتفاء بظاهر الشرع. فأثّر تأثيرًا كبيرًا في اللاحقين الأمر الذي سنجده بصورة بارزة جدًّا عند خلفه ابن رشد[40].
ولذلك فإننا نرى كيف أن ابن طفيل قد نجح في التعبير في هذه القصة عن التقاء الحكمة المشرقية بالفلسفة اليونانية، وأن محاولته هذه تعدّ استمرارًا للمحاولات السابقة التي قام بها فلاسفة الإسلام في المشرق العربي، حيث إن محاولة الربط بين العقيدة والفلسفة باعتبارهما وجهين مختلفين لحقيقة واحدة، واستخدامه التأويل بهذا الصدد، هذه المحاولة سيتردّد صداها عند ابن رشد وقد كان معاصرًا له، وكان ابن رشد معجبًا بابن طفيل، وبقدرته على التفلسف، وبإلمامه أيضًا بجلّ العلوم العقلية والفلسفية التي كانت سائدة في عصره.
8- مشكلة الاتصال
أما الاتصال فيكون عن طريق الاجتهاد والترقّي المعرفي والعقلي من خلال إعمال النظر والتأمّل، فالإنسان عند ابن طفيل من خلال تنمية قواه الإدراكية والامتلاء المعرفي الاتصال بالعقل الفعّال المنبثق عن الله تعالى، فطريق الاتصال عنده طريق عقلي تأمّلي بعيد تمام البعد عن طريق التصوف الذي هو تجربة وذوق، فالاتصال هو سمو إلى العالم العلوي وارتباط بين الإنسان والعقل الفعّال ارتباطًا دون امتزاج، أما عند المتصوفة فالاتصال امتزاج واتحاد وحلول، حلول اللاهوت في الناسوت، وتلاشي الأنا في الأنت، وعدم تميّز الخلق عن الخالق.
كما سعت هذه القصة إلى تفصيل درجات الخطاب؛ حيث يرى ابن طفيل أن الحكمة لا يقدر عليها إلَّا القلّة النادرة من البشر، ممّن مُنحوا عقلية فذّة تدرك المعقولات المجرّدة. أما الجمهور فلا يعي إلَّا الظاهر فقط.
ولذا يرتّب ابن طفيل المُخَاطَبين على مراتب أربعة هي: مرتبة الفيلسوف ويمثّلها «حي»، يتلوها مرتبة عالم الدين البصير، ويمثّلها «أبسال»، يليها مرتبة رجل الدين المتعلّق بالظاهر وهو «الفقيه» ويمثّلها في القصة «سلامان»، وأدناها مرتبة الجمهور ويمثّلها «أهل جزيرة سلامان»[41].
كما عكست القصة فكرة أن الشريعة عند ابن طفيل ظاهر وباطن، وأن الشريعة قد أصابت في استخدام المنهج الملائم لمخاطبة الناس على قدر عقولهم، دون مكاشفتهم بحقائق الحكمة وأسرارها، ورأت أن الخير في التزام الناس بحدود الشرع، وترك التعمُّق لمن هو أهلًا له.
ولذا ترك «حي» «سلامان» وقومه على مذهبهم في الاكتفاء بظاهر الشرع. وأبدى لهم تأييده لكيلا يفسد عليهم إيمانهم، ومضى مع «أبسال» إلى الجزيرة المنعزلة ليعيشا منعزلين يعبدان الله بالطريقة التي تناسب عقليهما[42].
ولكل جماعة من الناس إيمانهم الخاص الذي يتناسب وقدراتهم وفطرتهم التي فطرها الله عليهم، أو كما يقول «حي»: «إن الحكمة كلها والهداية والتوفيق فيما نطقت به الرسل الكرام، فلكل عمل رجال، وكل ميسَّر لما خُلق له»[43].
كما يمكننا أن نرى في بحث مشكلة الاتصال عند ابن طفيل نسقًا كاملًا لنظرية المعرفة، يتحقّق عبر مراحل زمنية وعبر درجات متتالية من المعرفة، تبدأ بالخبرة الحسية لترتفع إلى التجربة والممارسة العملية، ثم الاستدلال العقلي النظري، لتنتهي إلى أعلى درجة وهي المعرفة الوجدانية القائمة على الذوق والحدس، وصولًا إلى حال الاتصال بالعقل الفعّال، دون أن يعني هذا التخلّي عن مراتب الوصول السابقة، أو إلغاء الحس والعقل، وهذا ما يفرق ابن طفيل عن الصوفية، التي تفنى عن ذاتها عند الوصول.
كما وجّه ابن طفيل –من خلال قصته- الأنظار إلى الاهتمام بالملاحظة والاستقراء، وبيَّن دور التجربة في الوصول إلى المعرفة. كما أشاد بدور البراهين العلمية، ولا سيما ما يُبنى على الطبيعيات والرياضيات.
وأخذ بالمذهب التجريبي الذي بدأه من الملاحظة والاستقراء لكل مظاهر الطبيعة من حوله، في عوالم النبات والحيوان وفي مسائل الحياة العادية، ولم يقف عند حدود الملاحظة واختبار قيمتها، بل ألحقها بإجراء التجارب. كل ذلك في سبيل الوصول إلى الحقيقة والمعرفة الصحيحة.
ويرفض ابن طفيل أن يعتمد الإنسان على أفكار موروثة، واعتقادات لم تثبت صحّتها لأن ذلك يؤدّي بالطبع إلى الوقوع في خطأ التفكير.
وهكذا يُعطي ابن طفيل للعقل مكانة كبيرة في المعرفة، وربما تكون عنده أعلى من المعرفة الدينية، فالإنسان الكامل عنده –والممثّل بشخصية حي- وصل إلى كل الحقائق بصورتها التامّة الخالصة عن طريق العقل وحده، وكان في معارفه أكثر وصولًا ممّا وصل إليه أهل جزيرة سلامان. وهذا تكريم لدور العقل وبيان أهميته في مجال المعرفة. ويعدّ هذا في الحقيقة إعلاء لمكانة الفيلسوف في المجتمع الأندلسي.
9- فلسفة الأخلاق
رغم أن الكثيرين ممّن تصدّوا لبحث فلسفة الأخلاق عند فلاسفة الإسلام قد أغفلوا دراستها عند ابن طفيل، رغم أنه قد وضع –في ثنايا قصّته- مفهومًا جديدًا للأخلاق، فقد جعل الأخلاق من حيّز العقل والطبيعة لا من حيز الدين والاجتماع؛ إذ إن السلوكيات الفاضلة هي التي تقوم على التوافق والتكيّف مع الطبيعة، فلا تعترض سيرها، ولا تحول دون تحقيق الغاية الخاصة بالموجودات. فمن طبيعة الفاكهة مثلًا أن تخرج من زهرتها البذور التي تُعيد دورة الفاكهة مرة أخرى، فإذا قطف الإنسان هذه الثمرة قبل أن يتمّ نضجها، لم يأكلها ولا أتاح للبذرة أن تسقط مرة أخرى على الأرض ليتسنى لها الإنبات عُدّ ذلك فعلًا بعيدًا عن الأخلاق.
بل إن ابن طفيل ذهب إلى أبعد من هذا معتبرًا أن الأخلاق الكريمة تقضي على الإنسان أن يزيل العوائق التي تعترض الحيوان أو النبات في سبيل تطوره[44]. ويدعو الفرد إلى أن يسير في سلوكه على أساس دفع المجتمع في الطريق المؤدّية إلى التطوّر والتقدّم.
كما تتجلّى نزعة ابن طفيل الأخلاقية من خلال طريق الاتّصال الذي يتدرّج من الأدنى المحسوس إلى الأعلى، بحيث إن كل مرحلة من مراحله تُفضي إلى الأخرى، ولا يمكن بلوغ مرحلة أعلى إلَّا بعد اجتياز المرحلة السابقة عليها.
ويشترط ابن طفيل الترقّي الأخلاقي لتجاوز تلك المراحل، وهذا ما نجده في المرحلة الأولى التي يُشارك فيها الإنسان الحيوان غير الناطق حيث يُشير إلى ما يبغي أن يكون عليه سلوك الإنسان حيال هذا الجانب، الذي يجب أن يبعد فيه عن الانغماس في الشهوات والانقياد لمتطلّبات الجسد والإسراف في المشهّيات، بل يقتصر على الضروري الذي به قوام حياته، لأن الترقّي لا يتيسّر لمن يسرف في الملذات[45].
كما نجد النزعة الأخلاقية بارزة في التشبُّه الثاني، وهو التشبُّه بالأجرام السماوية وأفعالها، وأن يقدّم الخير إلى كل من يحتاجه، وأن يكون رحيمًا بالحيوان والنبات، وأن يُجري الطبيعة في كل شيء على مجراها، ومجرى الطبيعة يوجب الاهتمام بالجماعة لبقائها، ويوجب العناية بالناس وتحسين أحوال معيشتهم من أجل تحقيق الوحدة والانسجام في العالم الطبيعي والميتافيزيقي، لذلك كانت الأخلاق الحميدة عنده بمثابة الإطار الرائع الذي يتعامل به مع كل كائنات الطبيعة[46].
ولا ينبغي أن نفهم دعوته إلى الانعزال بأنها مجافية للأخلاقية، حيث إن الأخلاق لا تظهر إلَّا مع الجماعة كما هو معلوم، فطريق الاتّصال لا يعني السلبية والانعزال عن الناس وهجر الحياة كلية، بل إن فيه جانبًا إيجابيًّا يعني فاعلية الإنسان في الكون وعمارته وتقديم الخير والمعونة إلى الآخرين، أما درجة الانعزال والانفراد والتأمّل ومداومة الفكر فهي مرحلة تكاد تقترب من نهاية الطريق وتحقيق الاتصال بالفعل.
وهكذا نكون قد عرضنا إلى الدلالات الفلسفية التي تضمّنتها قصة «حي بن يقظان». والتي ربما يقرؤها آخر فيخرج منها أفكارًا أخرى، وربما يرى فيها الباحث في مجال الأدب أفكارًا ودلالات أخرى تختلف عن تلك التي يراها المتخصّص في الأنثروبولوجيا أو علم النفس أو التاريخ، فقد عمل أسلوبها الرمزي على ثراء محتواها الذي لا ينضب.
ﷺ ثالثًا: أثر قصة حي بن يقظان في الفكر الإنساني
في البداية يجب أن ننوّه على تهافت الرأي الذي يرى بأن مصدر القصة غربي يوناني، ونحن من جانبنا نعدّ هذا القول هو محض افتراء تعسفي مجحف من جهة بعض الباحثين الغربيين غير المنصفين، والحقيقة أن مصدر هذه القصة هو مصدر عربي صرف، فقد ظهر هذا الموضوع في اللغة العربية في عدّة قصص أولها عند ابن سينا باسم «حي بن يقظان» ثانيها عند ابن طفيل بالعنوان نفسه، ثالثها عند الصوفي السهروردي باسم «الغربة الغريبة»، وأخيرًا عند العالم العربي الكبير ابن النفيس باسم «مطلق ابن ناطق».
لكن اقترن اسمها بابن طفيل دون غيره لأنه كان أبرع من وضع مادة الموضوع في قالبها الفني الجميل الجذاب. كما أن الأثر الإسلامي المتمثّل في التعبيرات القرآنية والروح الإسلامية الصوفية التي تملأ القصة من بدايتها إلى نهايتها ينوء بتفصيلها إطار هذه الدراسة، فهي تحتاج إلى دراسة مخصّصة.
أما عن تأثير قصة حي بن يقظان عربيًّا فواضح في تلميذه ابن رشد الذي يخصّص كتابًا مستقلًا للتوفيق بين الفلسفة والدين في كتابه القيِّم «فصل المقال في تقرير ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، وعن ابن رشد تأثّر الرشديين اللاتينيين بهذه القصة من أمثال ألبرت الكبير وتوما الإكويني وسيحر دي برابانت[47]، وعند الصوفية اللاحقين من أمثال الحلاج وابن عربي أصحاب مذهب «وحدة الوجود».
وقد تُرجمت هذه القصة إلى العبرية واللاتينية، وعنهما ترجمت إلى اللغات الأوروبية الحديثة، فقد ترجمها موسى النربوني سنة 1349م إلى العبرية، وما زالت هذه الترجمة مخطوطة حتى اليوم، ثم ترجمها إلى اللاتينية إدوار بوكوك «E.Pococke» بعنوان «الفيلسوف الذي علّم نفسه بنفسه» ثم أرفق معها النص العربي ونشرت في أكسفورد 1661م، وهي الترجمة التي أثارت اهتمام الجمهور الأوروبي.
وبعد هذه الترجمة اللاتينية ترجمت إلى الهولندية على يد إسبينوزا Spinoza 1672م، ثم ترجمت أيضًا عن اللاتينية إلى الإنجليزية بواسطة أشويل Ashwell، وأخرى بواسطة جورج كيث G.Keith وثالثة على يد سيمون أوكلي S.Ockly، ورابعة بواسطة بروميل P.Brommle.
ثم تُرجمت إلى الألمانية ثلاث مرات الأولى عن اللاتينية بواسطة ج.ج. بريتفز J.G. Pritivs، ونشرها في فرانكفورت عام 1763، والثانية عن النص العربي قام بها إيكون J.G.Eichhon عام 1782 ونشرت في برلين، أما الثالثة فكانت عن طبعة برونل Bronnl ونشرت في روستوك عام 1907.
كما ترجمت إلى الأسبانية مرتين عن النص العربي، الأولى بيد بونس بويجيس P.Boigues، والثانية بواسطة إنجل جوناليث بلنسيه عام 1936 وأعاد ترجمتها مرة ثانية عام 1948م، بينما تأخرت الترجمة الفرنسية إلى عام 1900م والتي قام بها ليون جوتيه Leon Gauthier ونشرها في الجزائر، وهي في الحقيقة أفضل وأدق الترجمات الأوروبية على الإطلاق.
أما عن تأثير «قصة حي بن يقظان» في أوروبا فهناك مسألتان تثيران الحيرة: أولاهما أن الأب اليسوعي جرثيان نشر في سنة 1650م كتابًا بعنوان الكريتيكون Elcriticon النصف الأول منه يشبه تمامًا «حي بن يقظان»، فهل كان ذلك عرضًا واتفاقًا؟ هذا يُستبعد لشدة الشبه بينهما في كل شيء الأمر الذي يمنع القول باحتمال توارد الخواطر!
لكن الأمر المحيّر بالفعل هو كيف عرف الأب جرثيان بقصة حي بن يقظان؟ وخاصة أن ترجمة بوكوك لم تظهر إلَّا سنة1671م، وكذلك لم ينشر النص العربي إلَّا بعد ذلك بكثير، فكيف عرف جرثيان وهو لم يكن يعرف العربية بقصة حي بن يقظان؟
الاحتمال الوحيد لدينا أن يكون قد اطَّلع على الترجمة العبرية التي قدّمها النربوني، أو تكون قد تُرجمت ترجمة مجهولة ووقع عليها جرثيان ولم نتوصّل إليها حتى الآن، ربما فقدت وربما هي قابعة في خزائن الكتب.
ومشكلة ثانية هي أن هناك مشابهة بين قصة «حي بن يقظان» وقصة «روبنسون كروز» التي ألَّفها دانيال دي فو، وتحكي قصة روبنسون كروز، عن رجل وحيد استطاع أن يعيش مدة ثمانية وعشرين عامًا في جزيرة خالية، وتوصّل بعقله إلى الكشف عن كثير من الأمور، فأتقن مختلف الصناعات، وسيطر على الطبيعة، وأدرك قدرة الإله في آثاره.
ورغم ذلك فهي من حيث التشابه أقل كثيرًا من التشابه الموجود عند الأب جرثيان في قصته «الكريتيكون»، وقصة «روبنسون كروز» نُشرت سنة 1719م أي بعد ظهور ترجمة بوكوك، فاحتمال التأثّر بعد الاطّلاع عليها أمر وارد، ولكنه يبقى تأثّرًا بالروح العامة فقط؛ لأن اتجاه ابن طفيل مختلف تمام الاختلاف عن اتجاه دانييل دي فو.
ومن الذين أعجبوا بقصة «حي بن يقظان» الفيلسوف الفرنسي المشهور ليبنتز، حيث أطرى عليها إطراءً بالغًا، وكان قد قرأها في ترجمة بوكوك اللاتينية. كما أشاد بها الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو؛ لأنها تتّفق مع فكرته عن ضرورة عودة الإنسان إلى حالة الطبيعة. كما أن اورتيجا أي جاسيه فيلسوف أسبانيا الأشهر قال بعد أن قرأ قصة حي بن يقظان: إن الفكر الإسلامي ارتفع في نظره درجات[48].
ولذلك يمكننا القول بأن قصة حي بن يقظان قد أثّرت روح المغامرة والإبداع في الأدب الأوروبي، فأبدعوا قصصًا خيالية استمدوا فيها سمات البطل من «حي بن يقظان» مثل قصة «جولفر» و«الأدغال» لرديارد كبلنج، كذلك شخصية طرزان في الأدب الشعبي الأوروبي.
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر والدراسات في أوروبا تتوالى في غير انقطاع وبمختلف اللغات حتى الآن، حتى ليمكن أن نقرّر في اطمئنان أن قصة «حي بن يقظان» كانت أوفر الكتب العربية حظًّا من التقدير والعناية والتأثير في أوروبا في العصر الحديث. ممّا يجعلنا نتحدّث عن أثر هذه القصة على الفكر الإنساني العالمي لا العربي أو الإسلامي فقط.
ﷺ نتائج الدراسة
تأتي خاتمة هذه الدراسة لترصد أهم النتائج التي توصّل إليها، وتتلخّص أهم هذه فيما يلي:
أولًا: إن الغاية الرئيسية التي كتب ابن طفيل قصة «حي بن يقظان» من أجلها هي أن يُودعها خلاصة آرائه الفلسفية، فهو لم يقدّم حلًّا لمشكلة واحدة ولا ابتغى معالجة إشكالية فلسفية بعينها، وإنما قصد تقديم نسق فلسفي كامل يكاد يعالج فيه أهم القضايا الفلسفية في الفكر العربي الإسلامي معالجة تامّة. فالوصول إلى الحقيقة الكاملة أمر لم يتسنَ للسابقين عليه أو المعاصرين له على طريقة أهل النظر، وإنما اهتموا بالعلوم الشرعية واللغوية، فعمل هو على سدّ تلك الثغرة فاهتم بعلوم الحكمة وأودع خلاصة ما توصّل إليه في هذه القصة الرمزية.
ثانيًا: اختار ابن طفيل الشكل الروائي لبسط تلك الآراء الفلسفية كي يتفادى مواجهة الفقهاء والعوام المتشبعين بالتعصُّب الديني ضد الفلسفة على أثر هجوم الغزالي على الفلسفة في المشرق العربي وتكفيره للفلاسفة.
ثالثًا: إن «حي بن يقظان» هو التجسيد المتطوّر لمتوحد ابن باجة في مرحلة جديدة هي مرحلة دولة الموحدين حيث الازدهار والاستقرار والنضج العقلي، وتعبير فلسفي عن دولة الموحدين بشكل عام وعن رؤية خليفتها المتفلسف أبي يعقوب يوسف الذي قرّب إليه الفلاسفة ورفع من شأن العقل واتّخذ منه مرتكزًا لدولته، ليضعف من نفوذ الفقهاء ورجال الدين برغم سقوط دولة المرابطين ذات التوجّه الديني المتعصّب.
رابعًا: كما عكست هذه الدراسة نزعة ابن طفيل النقدية؛ حيث إنه قام بنقد كلٍّ من الفارابي وابن سينا والغزالي وابن باجة، وكان نقده لهم منطلقًا من التزام ابن طفيل في تفلسفه بخصائص وشروط الموقف الفلسفي.
خامسًا: اهتم ابن طفيل في دراسته للعالم الطبيعي بالملاحظة والاستقراء، وبيَّن دور التجربة في الوصول إلى المعرفة، فبدا ممارسًا للمنهج العلمي التجريبي في دراسة الوقائع المادية، مبتدئًا بالإدراك الحسي المباشر للظواهر الطبيعية ومحاولة تفسيرها، وفرض الفروض وإجراء التجارب للتحقُّق من صحّة تلك الفروض، ومحاولة الوصول إلى القوانين العامة المفسّرة للظاهرة.
سادسًا: ذهب ابن طفيل إلى القول بوحدة الوجود، والتي تعني الترابط العضوي بين كل عناصر الطبيعة وما بعد الطبيعة، والوحدة عنده دليل على وجود الله، وتختلف بالطبع عن وحدة الوجود عند الصوفية.
سابعًا: أشار ابن طفيل في قصته إلى العلاقة بين التفكير ودوافعه، وأن الحاجة هي أم الاختراع، وأحيانًا قد تكون العاطفة باعثًا قويًّا على التفكير وإجراء التجارب.
ثامنًا: إن ابن طفيل شأنه كشأن كل فلاسفة العرب عدا الكندي في القول بقدم العالم، ولكن ذلك لم يمنعه من تقديم أدلة على وجود الله تعالى.
تاسعًا: مال ابن طفيل إلى القول بالخلود الروحاني للأنفس السعيدة في النعيم، وبأن بعض الأنفس التي عرفت الخالق ثم أعرضت عنه بالمعصية، فإما أن تخلّد في النعيم أو في الجحيم، أما النفوس الجاهلة فمصيرها كمصير الحيوان الأعجم! وإن كانت هذه الرؤية تجافي إلى حدٍّ كبير الرؤية الإسلامية حسب القرآن والسنة وخاصة فيما يتعلّق بما حدَّده بمصير النفوس الجاهلة.
عاشرًا: ظهرت نوايا ابن طفيل على طول قصته من بدايتها إلى نهايتها في التوفيق بين الفلسفة والدين، فعمل على أن يبيِّن لنا من خلال هذه القصة أن ما وصل إليه «حي بن يقظان» بالنظر العقلي والتأمّل، لا يخالف الدين الموحى به.
حادي عشر: جعل ابن طفيل الأخلاق من حيّز العقل والطبيعة، لا من حيّز الدين والاجتماع. ووضع مفهومًا جديدًا للأخلاق، وهي العيش وفقًا للطبيعة وعدم اعتراض سيرها، فكان إرهاصًا حقيقيًّا لما ذهب إليه جان جاك روسو في القرن السابع عشر الميلادي.
ثاني عشر: أثّرت قصة حي بن يقظان في الفكر العربي في اللاحقين على ابن طفيل سواء من الفلاسفة مثل ابن رشد أو من المتصوّفة المسلمين أمثال ابن عربي والحلّاج، كما تُرجمت إلى العديد من اللغات المختلفة كالعبرية واللاتينية والإنجليزية والألمانية والأسبانية والفرنسية، فأثّرت أيَّما تأثير في الآداب العالمية والفلسفات الأوربية، وإن شئت قل: الفكر الإنساني العالمي بصفة عامة.

المراجع

♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡

انظر تصدير: حي بن يقظان لابن طفيل، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 1999، ص 7.

[2] على عبدالفتاح المغربي، فلاسفة المغرب، القاهرة: مكتبة الحرية الحديثة، 1990، ص 193.

ابن باجة، تدبير المتوحد، تحقيق: ماجد فخري، ضمن رسائل ابن باجة الإلهية، بيروت: دار النهار، 1968، ص 90.

عاطف العراقي، الفلسفة العربية مدخل نقدي، القاهرة: الشركة المصرية العالمية للنشر، ط2، 2003، ص 206.

تورده بعض الطبعات باسم «أسال» وبعض الطبعات باسم «أبسال» وقد رجّحنا هنا أبسال، حيث إن «سلامان وأبسال» كانا أبطال قصة ترجمها حنين بن إسحاق عن اليونانية، كما أن «سلامان وأبسال» كان عنوان قصة كتبها ابن سينا من قبل، هذا فضلًا عن أنهما أبطال قصة ابن سينا المعنونة بالاسم نفسه «حي بن يقظان»؛ ولذلك رجّحنا أن تكون «الباء» لم تظهر جيدًا في المخطوطات التي نقلت منها القصة فاختلط الأمر على المحقّق وخاصة أن الحرف الذي يليها هو «السين»، كما أن اسم «أبسال» أسهل في نطقه في العربية من «أسال».

منى أحمد أبو زيد، ابن طفيل وقصة حي بن يقظان، القاهرة: مجلة أوراق فلسفية، العدد (29)، 2010، ص 371.

محمود أمين العالم، مدخل إلى قراءة حي بن يقظان لابن طفيل،القاهرة: مجلة أدب ونقد، العدد (106) يونيه، 1994، ص 106.

محمد لطفي جمعة، تاريخ فلاسفة الإسلام في المشرق والمغرب، القاهرة: مطبعة المعارف ومكتبتها، 1927، ص 98.

محمد علي أبو ريان، تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، الطبعة الرابعة، 1980، ص 562.