الاخلاق عند الفيلسوف التجريبي ديفيد هيوم (1711 – 1776)

الاخلاق عند الفيلسوف التجريبي ديفيد هيوم

هيو)، فيلسوف واقتصادي ومؤرخ اسكتلندي وشخصية مهمة في الفلسفة الغربية وتاريخ التنوير الاسكتلندي. في كتاب (تاريخ الفلسفة الحديثة) قام الفيلسوف (ويليم كيلي رايت) بتلخيص محاور الفكر عند (هيوم)، ومنها أفكاره الأخلاقية والاجتماعية. فيقول في شارحًا هذا الفرع من أفكار (هيوم):

لم يعتقد (هيوم) أن هناك أي مبادئ أبدية وثابتة بصورة مطلقة للأخلاق يمكن معرفتها عن طريق الحدس والبرهان. فالأخلاق تختلف عن الرياضيات من هذه الزاوية. ومع ذلك فإن (هيوم) يعتقد في علم تجريبي للأخلاق. وترتبط معالجة (هيوم) للأخلاق، كما قد نتوقع، ارتباطًا وثيقًا بالسيكلوجيا الموجودة عنده.

لإيضاح الارتباط السايكولوجي بالأخلاق عند (هيوم)، يقول:

يوجد من بين انطباعات الفكر عندنا انطباعات عن اللذة والألم، يصاحبان بصورة مباشرة كل إدراكاتنا الأخرى. وتأتي العواطف والانفعالات في الأهمية بعد اللذات والآلام، وتلي ظهور الأفكار. (لا تختلف الانفعلات عن العواطف عند (هيوم) إلا في كونها أكثر شدة، وهو يستخدم مصطلح “الانفعالات” ليعني ما يتحدث عنه علماء النفس اليوم باسم “العواطف”).

فهو يقسم العواطف إلى قسمين ؛ العواطف المباشرة وغير المباشرة.

وتنشأ العواطف المباشرة بصورة مباشرة من انطباعات اللذة والألم، مثل: الرغبة، النفور، الحزن، السرور، الأمل، الخوف واليأس. أما العواطف غير المباشرة فهي أكثر تعقيدًا، وتتضمن ارتباط كيفيات “صفات” أخرى متنوعة، مثل الاعتداد بالذات، والضعة، والطموح، والزهو، والحب، والكراهية، والحقد، والشفقة، ،الضغينة، والكرم. وتحليل (هيوم) للعواطف كثيرًا ما يكون دقيقًا، فقد قدّم إسهامات دائمة لما نسميه اليوم بـ(سيكولوجيا السلوك) أو (سيكولوجيا العواطف).

يستكمل بعد ذلك كلامه قائلًا:

والإرادة البشرية هي باستمرار محصّلة الانفعالات والعواطف. ولا يمكن لشيء أن يعارض أو يعوق دافع الانفعال أو العاطفة سوى دافع مضاد. “والذهن لا يكون، ولا ينبغي له أن يكون سوى عبد للعواطف، ولا يمكن أن يزعم على الإطلاق أي عمل سوى أن يخدمها ويطيعها”. وهناك معنيان فقط يمكن أن يكون بهما الفعل غير معقول: أولهما أنه قد يُؤسس على وجود افتراض لموضوعات غير موجودة فعلًا، وثانيهما أنه قد يستخدم وسيلة غير فعالة من أجل غاية مدبرة ومخططة، بسبب الحكم الخاطئ على الأسباب والنتائج.

قد يمكن تصنيف (هيوم) بأنه فيلسوف لذِّي أحيانًا، أي يميل إلى تفسير الدوافع البشرية من ناحية اللذة المضافة، وقد يشرح الخير والشر أحيانًا كمرادفتين للذة والألم، إلا أنه لم يصل إلى اللذّية التي كان عليها (هوبز) كما ذُكر في تدوينة سابقة.

إن ما يجلب اللذة على المدى البعيد، سواء للفرد أو للآخرين، له منفعة، عند (هيوم). والمنفعة تسبب لنا لذة بطريقة معينة وخاصة، باستقلال عن – وبالإضافة إلى – أي تجربة مباشرة عن نتائجها السارة. ويفسر (هيوم) أحيانًا الاستحسان المحايد لأفعال مفيدة عن طريق وجود حاسة خلقية، يطورها تداعي الأفكار، تلجأ إليها المنفعة. فالفضائل خيرة بسبب منفعتها ؛ فإذا لم تحقق الفضائل الرخاء العام، فإنها لا تكون خيرة. وبعض الفضائل، مثل محبة الآباء، والإريحية هي فضائل طبيعية، طالما أنها تتطور تلقائيًا، وتلجأ مباشرة إلى الحاسة الخلقية، بينما العدالة هي – من ناحية أخرى – نتاج اصطناعي للوسائل البشرية الواعية، على الرغم من أنها غير مرغوبة على نحو أقل نتيجة لهذا السبب.

أما عن نظريات العقد الاجتماعي (يمكنك القراءة عن العقد الاجتماعي في مقالتنا السابقة)، فـ(هيوم) غير مؤمن تمامًا بها، يقول (ويليم كيلي رايت):

والدولة السياسية – كما يراها (هيوم) – هي نتيجة لتطور تدريجي يمكن مقارنته بنمو اللغة ؛ فليست أي منهما نتاج اتفاق اجتماعي متعمد. ومع ذلك فإن القصة المختلقة عن العقد الاجتماعي أفادت في توجيه الانتباه إلى واقعة مؤداها أن الدولة، ومعها فضيلة العدالة، وتأسيس الملكية الخاصة، والاعتراف بالإلزام الأخلاقي لحفظ العهود والعقود، قد تطورت جميعها من غرائز وحاجات بشرية، وأن التأمل الفطن ساعد في نموها.
ولدى (هيوم) معنى للتطور التاريخي للمؤسسات الاجتماعية يندر أن يوجد عند مفكري التنوير الآخرين. فلقد أدت الوقائع التي تقول أن الموجودات البشرية بطبيعتها أنانية إلى حد كبير، ومع ذلك فهي قادرة على كرم محدود، وأن الطبيعة تقدم زادا طفيفًا للاحتياجات البشرية – نقول أدت تلك الوقائع بالناس بصورة تدريجية إلى أن يعترفوا بأن تأسيس الملكية الخاصة أمر مرغوب فيه، ومعه فضيلتا العدل والأمانة اللتان تدعمانه. ومن هنا كان الالتزام الطبيعي أو الذي يحث على العدالة هو مصلحة مشتركة للمحافظة على الملكية والقواعد العامة للسلوك، أما الإلزام الأخلاقي فهو مستمد من التعاطف ؛ وهما معًا تدعمهما التربية الخاصة والعامة.

ينظر هيوم إلى السلوك الإنساني على أنه مشروط بالطبيعة الإنسانية، ولأنه ينظر إلى هذه الطبيعة الإنسانية على أنها طبيعة انفعالية في الأساس ولا يحتل فيها العقل إلا دوراً ضعيفاً، فهو يذهب إلى أن كل سلوك إنساني صادر عن الانفعالات Passions. وهذه الانفعالات تشكل أسباباً ودوافع للفعل، تماماً مثلما أن كل حادثة في الطبيعة تسبقها حادثة أخرى تسببها. ولا يعطي هيوم شأناً كبيراً بالحرية أو الإرادة في مجال السلوك الإنساني، فهو عنده مقيد بما لدى الإنسان من انفعالات، وهي تضم السعي نحو اللذة وتجنب الألم والحصول على المنفعة. والأهداف الإنسانية كلها ليست أهدافاً عقلية أو صادرة عن مبادئ عقلية، ولا يسلك الإنسان سلوكه اليومي بناء على قواعد العقل، بل بناء على طبيعته الانفعالية. لكن صدور كل الأفعال الإنسانية عن العواطف والرغبات والأهواء لا يجعلها ثابتة تتبع خط سير واحد ومعروف، بل يجعلها متقلبة ومتغيرة. يقول هيوم في ذلك: «ليس هناك ما هو أكثر تقلباً من الأفعال الإنسانية. فما هو الأكثر تغيراً سوى أهواء البشر؟ إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يشذ بعيداً عن العقل السليم، بل وعن شخصيته واستعداده. إن ساعة واحدة، بل لحظة واحدة، كفيلة بأن تجعله يتغير من النقيض إلى النقيض.. إن الضرورة ثابتة ويقينية. لكن السلوك الإنساني غير ثابت وغير يقيني. وبالتالي فإن السلوك الإنساني لا يمكن أن ينشأ عن الضرورة»( 33). وهكذا ينكر هيوم أي انتظام أو ضرورة في السلوك الإنساني، وينكر خضوعه لأي قواعد عقلانية ثابتة. وإذا كان السلوك الإنساني يتبع أسساً ما، فإن هذه الأسس هي ذاتها تتغير. إنها الأهواء والرغبات والانفعالات، تلك التي تجعل السلوك الإنساني غير منتظم مثلها تماماً. ورغماً عن ذلك فإن الإنسان لا يستطيع أن يقوم بأي فعل إلا بناء على افتراض بأن الآخر سوف يقوم برد فعل معين إزاء أفعالنا، ولذلك فإن السببية هي اعتقاد يوجه السلوك، لكنها ليست سببية حقيقية بل مفترضة ومتوهمة، لأن الآخر يمكن أن يصدر عنه رد فعل مختلف عما كنا نتوقعه منه. فالسببية في الأفعال مثلها مثل السببية في الطبيعة، مجرد اعتقاد نتمكن به من التعامل مع المجتمع مثلما نتمكن من التعامل مع الطبيعة. أما عن حرية الفعل الإنساني فإن لهيوم رأي خاص فيها. يُعتقد دائماً أن الحرية الإنسانية تتمثل في القدرة على القيام بأفعال بناء على الإرادة الحرة، ويُنظر إلى هذه الإرادة الحرة على أنها الإرادة العقلانية التي تؤدي إلى سلوك عقلاني سليم متفق مع قواعد العقل. لكن هيوم ينظر إلى الحرية الإنسانية على أنها صادرة عن إمكانية تغيير الإنسان لسلوكه بناء على رغباته وأهدافه. ليست الحرية الإنسانية عند هيوم مفهومة في إطار العقل والمنطق، بل مفهومة في إطار الطبيعة الانفعالية المتغيرة للبشر. فهو ينظر إلى تقلب السلوك البشري على أنه هو هذه الحرية الإنسانية ذاتها. فليس العقل هو ما يجعل الإنسان حراً، بل طبيعته المتغيرة المتقلبة المشروطة بالانفعالات. فلا يمكن أن يكون العقل مصدراً للحرية، لأن اتباع العقل هو الضرورة وهو الحتمية بعينها، ويستطيع الإنسان الانفلات من الضرورة والحتمية بناء على طبيعته المضادة للعقل. ولا يعني خروج السلوك الإنساني عن العقل أن هذا السلوك غير منتظم وبدون أسباب، بل على العكس، إذ يعني أن السلوك الإنساني مبدأه الأساسي العاطفة والانفعال والرغبات والأهواء. هذه هي القواعد اللاعقلانية للسلوك الإنساني. ويجب أن نتنبه هنا إلى أن هيوم بعكس معظم الفلاسفة السابقين عليه لا يصف السلوك الإنساني كما يجب أن يكون، بل يصف السلوك الإنساني كما هو قائم بالفعل. لقد درج الفلاسفة دائماً على الربط بين السلوك الإنساني والعقل والحرية، هادفين بذلك إثبات أن الحرية الإنسانية لا يمكن أن تتحقق إلا في إطار العقل، لكنهم بذلك لم يكونوا يصفون ما هو قائم بل ما يجب أن يكون، ولقد آثر هيوم أن يصف السلوك الإنساني كما هو حادث بالفعل، كجزء من منهجه التجريبي الذي لا يقحم أي معيار خارجي يراد للسلوك الإنساني أن يتوافق معه، بل الذي يبحث في السلوك القائم بالفعل كما يوجهه. ومثلما أنكر هيوم أن يكون للعقل دور في السلوك الإنساني، فهو أيضاً ينكر دوره في مجال الأخلاق. ويثبت هيوم ذلك عن طريق توضيح أن ما يجعلنا نصدر أحكاماً أخلاقية حول ما إذا كان فعل ما فضيلة أو رذيلة، صح أو خطأ، مستحق الثناء والمديح أو اللوم والذم، لا يعتمد على فكرة مجردة أو قيمة عقلية نتوصل إليها باستدلال أو برهان، بل يعتمد على ما لدينا من رغبات وانفعالات وأهواء. فإصدار حكم أخلاقي يعتمد على انطباع ما، وهذا الانطباع يأخذ صورة إحساس أو انفعال. فالبشر يجدون أنفسهم مدفوعين نحو القيام بفعل ما لأنهم يعتقدون أنه خيِّر أو صحيح، أو لأنهم يعتقدون أنه لن يؤدي إلى الخطأ أو إلى نتائج سلبية وخيمة. وعلى الرغم من أن هذا الاعتقاد يبدو عليه العقلانية إلا أنه ليس كذلك، لأنه موجه عن طريق السليقة والتلقائية لا البرهان العقلي أو الاستدلال من قيم أخلاقية عليا. «العقل وحده عاجز في هذا المجال. إن قواعد الأخلاق ليست ناتج استدلالي عقلي»( 34). بل نتاج اعتياد الناس على جني المنافع وتجنب الضرر، والسعي نحو المنافع وتجنب الأضرار شئ خاص بالانفعال لا العقل. وما يجعل فعل ما فضيلة أو رذيلة ليس أي مبدأ عقلي أو قيمة أخلاقية بل الدوافع الانفعالية التي أدت إلى هذا الفعل والظروف المحيطة بالفعل. ولأن هذه الظروف المحيطة معطاة سلفاً ويجد الفاعل نفسه محاطاً بها، فإن أي سلوك إنساني يصدر وفقها لن يكون صادراً عن الاحتكام للعقل بل سيكون مجرد رد فعل عليها أو استجابة لها. ودائماً ما يكون الفعل الصادر عن الظروف المحيطة مجرد رد فعل، تنتفي فيه الإرادة العقلانية وتتحكم فيه الأهواء والمصالح الذاتية. ويميل هيوم إلى اعتبار أن الفضيلة والرذيلة ليستا إلا وجهة نظر إنسانية بحتة صادرة عن الطبيعة البشرية وليس لهما وجود موضوعي في العالم، ذلك لأنهما مؤسسان على فكرتي الخير والشر. والخير والشر عنده مجرد انطباع انفعالي. فالفيضانات والبراكين والزلازل ليست إلا ظواهر طبيعية، أما في نظر الإنسان فتصبح شراً أو عقاباً، وذلك لما لها من آثار سلبية على الحياة الإنسانية. وكذلك الحال بالنسبة للأفعال الإنسانية التي توصف بالفضيلة أو الرذيلة، أو الخير أو الشر، فهذه الأشياء ليست قيماً مطلقة وليس لها وجود واقعي مستقل عن انفعالات البشر، لكن يستخدمها الناس باعتبارها مبادئ أخلاقية بالنظر إلى ما يعود عليهم من نفع أو ضرر. وليست الفضيلة واحدة أو ثابتة، بل هي نسبية، لأن الفعل الفاضل في ظروف معينة يمكن أن ينقلب إلى رذيلة في ظروف أخرى، والحال كذلك مع الرذيلة التي يمكن أن تتحول إلى فضيلة في ظروف مختلفة. ومعنى هذا أنه ليست هناك قيم أخلاقية واحدة وثابتة، بل هي دائماً نسبية ومتغيرة، والظروف المحيطة هي التي تحدد ما إذا كان فعل ما فضيلة أو رذيلة. والفضيلة والرذيلة لا يحددان السلوك قبل أن يقوم الإنسان بالفعل، بل هما نتيجة التأمل في توابع هذا الفعل بعد أن يحدث، ولذلك فهما لا يوجهان أي شئ بل هما مجرد انطباع أخلاقي عن الفعل الذي تحقق في السابق. ويضرب هيوم مثالاً توضيحياً على ذلك بالقتل المقصود. يُعتقد أن القتل المقصود رذيلة، إلا أن الحرب ليست إلا هذا القتل المقصود بعينه ويُنظر إليها على أنها فضيلة، بل على أنها أسمى درجات الشرف. ولا يدخل البشر في حروب بعد أن يحددوا ما إذا كانت فضيلة أم رذيلة، بل يدخلون في الحرب أولاً ثم يبررون سلوكهم هذا بأنه فضيلة، وآخرون ينظرون إلى نفس هذه الحرب على أنها رذيلة، ربما إذا كانوا الطرف المهزوم. بعد أن تضع الحرب أوزارها ينظر إليها فريق عل أنها كانت فضيلة وهم الطرف المنتصر وينظر إليها الطرف الآخرة المهزوم على أنها كانت رذيلة، أو اعتداء سافر على الرغم من أن هذا الطرف كان يمكن أن ينظر إليها على أنها فضيلة إذا كان هو المنتصر.

ينظر هيوم إلى السلوك الإنساني على أنه مشروط بالطبيعة الإنسانية، ولأنه ينظر إلى هذه الطبيعة الإنسانية على أنها طبيعة انفعالية في الأساس ولا يحتل فيها العقل إلا دوراً ضعيفاً، فهو يذهب إلى أن كل سلوك إنساني صادر عن الانفعالات Passions. وهذه الانفعالات تشكل أسباباً ودوافع للفعل، تماماً مثلما أن كل حادثة في الطبيعة تسبقها حادثة أخرى تسببها. ولا يعطي هيوم شأناً كبيراً بالحرية أو الإرادة في مجال السلوك الإنساني، فهو عنده مقيد بما لدى الإنسان من انفعالات، وهي تضم السعي نحو اللذة وتجنب الألم والحصول على المنفعة. والأهداف الإنسانية كلها ليست أهدافاً عقلية أو صادرة عن مبادئ عقلية، ولا يسلك الإنسان سلوكه اليومي بناء على قواعد العقل، بل بناء على طبيعته الانفعالية. لكن صدور كل الأفعال الإنسانية عن العواطف والرغبات والأهواء لا يجعلها ثابتة تتبع خط سير واحد ومعروف، بل يجعلها متقلبة ومتغيرة. يقول هيوم في ذلك: «ليس هناك ما هو أكثر تقلباً من الأفعال الإنسانية. فما هو الأكثر تغيراً سوى أهواء البشر؟ إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يشذ بعيداً عن العقل السليم، بل وعن شخصيته واستعداده. إن ساعة واحدة، بل لحظة واحدة، كفيلة بأن تجعله يتغير من النقيض إلى النقيض.. إن الضرورة ثابتة ويقينية. لكن السلوك الإنساني غير ثابت وغير يقيني. وبالتالي فإن السلوك الإنساني لا يمكن أن ينشأ عن الضرورة»( 33). وهكذا ينكر هيوم أي انتظام أو ضرورة في السلوك الإنساني، وينكر خضوعه لأي قواعد عقلانية ثابتة. وإذا كان السلوك الإنساني يتبع أسساً ما، فإن هذه الأسس هي ذاتها تتغير. إنها الأهواء والرغبات والانفعالات، تلك التي تجعل السلوك الإنساني غير منتظم مثلها تماماً. ورغماً عن ذلك فإن الإنسان لا يستطيع أن يقوم بأي فعل إلا بناء على افتراض بأن الآخر سوف يقوم برد فعل معين إزاء أفعالنا، ولذلك فإن السببية هي اعتقاد يوجه السلوك، لكنها ليست سببية حقيقية بل مفترضة ومتوهمة، لأن الآخر يمكن أن يصدر عنه رد فعل مختلف عما كنا نتوقعه منه. فالسببية في الأفعال مثلها مثل السببية في الطبيعة، مجرد اعتقاد نتمكن به من التعامل مع المجتمع مثلما نتمكن من التعامل مع الطبيعة. أما عن حرية الفعل الإنساني فإن لهيوم رأي خاص فيها. يُعتقد دائماً أن الحرية الإنسانية تتمثل في القدرة على القيام بأفعال بناء على الإرادة الحرة، ويُنظر إلى هذه الإرادة الحرة على أنها الإرادة العقلانية التي تؤدي إلى سلوك عقلاني سليم متفق مع قواعد العقل. لكن هيوم ينظر إلى الحرية الإنسانية على أنها صادرة عن إمكانية تغيير الإنسان لسلوكه بناء على رغباته وأهدافه. ليست الحرية الإنسانية عند هيوم مفهومة في إطار العقل والمنطق، بل مفهومة في إطار الطبيعة الانفعالية المتغيرة للبشر. فهو ينظر إلى تقلب السلوك البشري على أنه هو هذه الحرية الإنسانية ذاتها. فليس العقل هو ما يجعل الإنسان حراً، بل طبيعته المتغيرة المتقلبة المشروطة بالانفعالات. فلا يمكن أن يكون العقل مصدراً للحرية، لأن اتباع العقل هو الضرورة وهو الحتمية بعينها، ويستطيع الإنسان الانفلات من الضرورة والحتمية بناء على طبيعته المضادة للعقل. ولا يعني خروج السلوك الإنساني عن العقل أن هذا السلوك غير منتظم وبدون أسباب، بل على العكس، إذ يعني أن السلوك الإنساني مبدأه الأساسي العاطفة والانفعال والرغبات والأهواء. هذه هي القواعد اللاعقلانية للسلوك الإنساني. ويجب أن نتنبه هنا إلى أن هيوم بعكس معظم الفلاسفة السابقين عليه لا يصف السلوك الإنساني كما يجب أن يكون، بل يصف السلوك الإنساني كما هو قائم بالفعل. لقد درج الفلاسفة دائماً على الربط بين السلوك الإنساني والعقل والحرية، هادفين بذلك إثبات أن الحرية الإنسانية لا يمكن أن تتحقق إلا في إطار العقل، لكنهم بذلك لم يكونوا يصفون ما هو قائم بل ما يجب أن يكون، ولقد آثر هيوم أن يصف السلوك الإنساني كما هو حادث بالفعل، كجزء من منهجه التجريبي الذي لا يقحم أي معيار خارجي يراد للسلوك الإنساني أن يتوافق معه، بل الذي يبحث في السلوك القائم بالفعل كما يوجهه. ومثلما أنكر هيوم أن يكون للعقل دور في السلوك الإنساني، فهو أيضاً ينكر دوره في مجال الأخلاق. ويثبت هيوم ذلك عن طريق توضيح أن ما يجعلنا نصدر أحكاماً أخلاقية حول ما إذا كان فعل ما فضيلة أو رذيلة، صح أو خطأ، مستحق الثناء والمديح أو اللوم والذم، لا يعتمد على فكرة مجردة أو قيمة عقلية نتوصل إليها باستدلال أو برهان، بل يعتمد على ما لدينا من رغبات وانفعالات وأهواء. فإصدار حكم أخلاقي يعتمد على انطباع ما، وهذا الانطباع يأخذ صورة إحساس أو انفعال. فالبشر يجدون أنفسهم مدفوعين نحو القيام بفعل ما لأنهم يعتقدون أنه خيِّر أو صحيح، أو لأنهم يعتقدون أنه لن يؤدي إلى الخطأ أو إلى نتائج سلبية وخيمة. وعلى الرغم من أن هذا الاعتقاد يبدو عليه العقلانية إلا أنه ليس كذلك، لأنه موجه عن طريق السليقة والتلقائية لا البرهان العقلي أو الاستدلال من قيم أخلاقية عليا. «العقل وحده عاجز في هذا المجال. إن قواعد الأخلاق ليست ناتج استدلالي عقلي»( 34). بل نتاج اعتياد الناس على جني المنافع وتجنب الضرر، والسعي نحو المنافع وتجنب الأضرار شئ خاص بالانفعال لا العقل. وما يجعل فعل ما فضيلة أو رذيلة ليس أي مبدأ عقلي أو قيمة أخلاقية بل الدوافع الانفعالية التي أدت إلى هذا الفعل والظروف المحيطة بالفعل. ولأن هذه الظروف المحيطة معطاة سلفاً ويجد الفاعل نفسه محاطاً بها، فإن أي سلوك إنساني يصدر وفقها لن يكون صادراً عن الاحتكام للعقل بل سيكون مجرد رد فعل عليها أو استجابة لها. ودائماً ما يكون الفعل الصادر عن الظروف المحيطة مجرد رد فعل، تنتفي فيه الإرادة العقلانية وتتحكم فيه الأهواء والمصالح الذاتية. ويميل هيوم إلى اعتبار أن الفضيلة والرذيلة ليستا إلا وجهة نظر إنسانية بحتة صادرة عن الطبيعة البشرية وليس لهما وجود موضوعي في العالم، ذلك لأنهما مؤسسان على فكرتي الخير والشر. والخير والشر عنده مجرد انطباع انفعالي. فالفيضانات والبراكين والزلازل ليست إلا ظواهر طبيعية، أما في نظر الإنسان فتصبح شراً أو عقاباً، وذلك لما لها من آثار سلبية على الحياة الإنسانية. وكذلك الحال بالنسبة للأفعال الإنسانية التي توصف بالفضيلة أو الرذيلة، أو الخير أو الشر، فهذه الأشياء ليست قيماً مطلقة وليس لها وجود واقعي مستقل عن انفعالات البشر، لكن يستخدمها الناس باعتبارها مبادئ أخلاقية بالنظر إلى ما يعود عليهم من نفع أو ضرر. وليست الفضيلة واحدة أو ثابتة، بل هي نسبية، لأن الفعل الفاضل في ظروف معينة يمكن أن ينقلب إلى رذيلة في ظروف أخرى، والحال كذلك مع الرذيلة التي يمكن أن تتحول إلى فضيلة في ظروف مختلفة. ومعنى هذا أنه ليست هناك قيم أخلاقية واحدة وثابتة، بل هي دائماً نسبية ومتغيرة، والظروف المحيطة هي التي تحدد ما إذا كان فعل ما فضيلة أو رذيلة. والفضيلة والرذيلة لا يحددان السلوك قبل أن يقوم الإنسان بالفعل، بل هما نتيجة التأمل في توابع هذا الفعل بعد أن يحدث، ولذلك فهما لا يوجهان أي شئ بل هما مجرد انطباع أخلاقي عن الفعل الذي تحقق في السابق. ويضرب هيوم مثالاً توضيحياً على ذلك بالقتل المقصود. يُعتقد أن القتل المقصود رذيلة، إلا أن الحرب ليست إلا هذا القتل المقصود بعينه ويُنظر إليها على أنها فضيلة، بل على أنها أسمى درجات الشرف. ولا يدخل البشر في حروب بعد أن يحددوا ما إذا كانت فضيلة أم رذيلة، بل يدخلون في الحرب أولاً ثم يبررون سلوكهم هذا بأنه فضيلة، وآخرون ينظرون إلى نفس هذه الحرب على أنها رذيلة، ربما إذا كانوا الطرف المهزوم. بعد أن تضع الحرب أوزارها ينظر إليها فريق عل أنها كانت فضيلة وهم الطرف المنتصر وينظر إليها الطرف الآخرة المهزوم على أنها كانت رذيلة، أو اعتداء سافر على الرغم من أن هذا الطرف كان يمكن أن ينظر إليها على أنها فضيلة إذا كان هو المنتصر.

المراجع

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇
الموسوعة الفلسفية /عبدالرحمن بدوي ج٢

الرسالة / هيوم
الخلاصة / هيوم
المنطق الرمزي / د نازلي اسماعيل
العقل في لفلسفة الحديثة والقديمة / ديفيد هيوم

رسالة في العقل البشري / هيوم

رسالة في الطبيعة البشرية / ديفيد هيوم
تاريخ الفلسفة الحديثة / يوسف كرم
الموسوعة الفلسفية المختصرة / ترجمة فؤاد كامل

الكاتب: admin

ذ. بضاض محمد Pr. BADADE Med باحث في:علم النفس،علوم التربية،والعلوم الشرعية. خريج جامعة سيدي محمد بن عبد الله-كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز-فاس خريج جامعة مولاي اسماعيل-كلية الآداب والعلوم الإنسانية-مكناس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *