الفيلسوف الالماني فريدريك نيتشة والإسلام

قراءة في كتاب روي جاكسون نيتشة والاسلام

صدر عن دار “جداول للنشر والترجمة”، في بيروت، وضمن مشروع النشر المشترك مع منظمة “مؤمنون بلا حدود” كتاب “نيتشه والإسلام” للمؤرخ الشهير روي جاكسون، وقد قام بترجمة الكتاب حمود حمود.
جاء على ظهر الغلاف: “تكتسي قضية الهوية الإسلامية أهمية حاسمة في ضوء الأحداث الجارية، وتحديدا: «ما بعد “جدالات” 11/ 9» المصحوبة بتركيز كبير على معالم أطروحة «صراع الحضارات».

وفي حين كان فريدريك نيتشه يتوجه إلى جمهور من ثقافة وعصر مختلفين، فإنّ رؤاه الأصيلة والإبداعية والنفسية والفلسفية والتاريخية تسمح بفهم جديد ومستنير للإسلام في سياق عصرنا الحديث.
يشرع روي جاكسون في كتابه الجديد، نيتشه والإسلام، ليحدّد قضايا: لماذا شعر نيتشه بميله لأن يكون سمحا تجاه التراث الإسلامي، رغم أنه كان نقديّا تجاه المسيحية الغربية؟
وكيف كان الدين مهمّا لرؤى نيتشه حول قضايا مثل الفلسفة الأخلاقية والسياسية، وكيف يمكن لهذا الأمر أن يساعدنا على فهم الردّ الإسلامي على الحداثة؟ وكيف يمكن لرؤية نيتشه المميزة ومنهجيته أنْ تساعدانا على فهم البارادايمات الإسلامية مثل: القرآن والنبي والخلفاء “الراشدين”؟
يقدّم كتاب “نيتشه والإسلام” نظرة أصيلة وجديدة في توجهات نيتشه الفكرية حول الدين، ويدلل على أنّ فلسفته يمكن أن تُقدّم مساهمةً مهمة لما اعتبر بارادايمات الإسلام الجوهرية. وعلى هذا النحو، فإنّ الكتاب سيكون ذا أهمية للقراءات المتنوعة وسيُقدّم مادة مفيدة للباحثين المهتمين بالتفكير في الدين والإسلام والمستقبل.
روي جاكسون، هو محاضر وكاتب وباحث مستقل في الفلسفة والدين. وهو مؤلف عدد من الكتب حول موضوعات مثل أفلاطون ونيتشه وفلسفة الدين، وهو مؤلف كتاب “خمسون شخصية مهمة في الإسلام”. من الشخصيات التي تناولها الباحث، الرسول عليه الصلاة والسلام وأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالي ومعاوية بن أبي سفيان.
هذا، بالإضافة إلى أئمة المذاهب الإسلامية الأربعة، والإمام الأشعري والماوردي والغزالي والسيوطي وابن تيمية والفيلسوف الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، وتحدث عن الطبري وابن خلدون، ومن أئمة التصوف تناول الباحث رابعة العدوية والسهروردي وابن عربي وجلال الدين الرومي وصدرالدين الشيرازي.
كما تحدّث عن الإسلاميين الإصلاحيين كمحمد عبده وجمال الدين الأفغاني ومحمد رشيد رضا ومحمد إقبال، كما تطرق إلى أبي الأعلى المودودي ومحمود أحمد طه، ومن المعاصرين تناول بالبحث حسن الترابي وحسن حنفي والمفكر الإيراني عبدالكريم سوروش

يشرع روي جاكسون في كتابه الجديد، نيتشه والإسلام، ليحدّد قضايا:

  • لماذا شعر نيتشه بميله لأنْ يكون سمحاً تجاه التراث الإسلامي، رغم أنه كان نقديّاً تجاه المسيحية الغربية؟
  • كيف كان الدين مهمًّا لرؤى نيتشه حول قضايا مثل الفلسفة الأخلاقية والسياسية، وكيف يمكن لهذا الأمر أن يساعدنا على فهم الرد الإسلامي على الحداثة ؟
  • كيف يمكن لرؤية نيتشه المميزة وميثودولوجيته أن تساعدنا على فهم البارادايمات الإسلامية مثل:القرآن والنبي والخلفاء “الراشدين ” ؟

يقدم كتاب نيتشه والإسلام نظرة أصيلة وجديدة في توجهات نيتشه الفكرية حول الدين، ويدلل على أن فلسفته يمكن أن تقدم مساهمة مهمة لما اعتبر بارادايمات الإسلام الجوهرية .

وعلى هذا النحو، فإن الكتاب سيكون ذا أهمية للقراءات المتنوعة وسيقدّم مادة مفيدة للباحثين المهتمين بالتفكير في الدين والإسلام والمستقبل .

روي جاكسون، هو محاضر وكاتب وباحث مستقل في الفلسفة والدين. وهو مؤلف عدد من الكتب حول موضوعات مثل أفلاطون ونيتشه وفلسفة الدين، وهو مؤلف كتاب “خمسون شخصية مهمة في الإسلام” .

ما الذي يجمع بين رجل متمرد مثل فريدريك نيتشه ودين سماوي عنوانه يدل على السلام والسكينة والهدوء؟! بل ما الذي يجمع بين رجل «قتل الإله»، وما بين دين موحى به من الإله؟!

الذي دفعني إلى طرح مثل هذه التساؤلات ليس هو كتاب «روي جاكسون» المعنون بنفس عنوان مقالتي هذه «نيتشه والإسلام»؛ فقد كفاني أستاذ الفلسفة الدكتور عادل حدجامي مؤونة السؤال، حينما أجاب عن عنوان الكتاب بقوله: لقاء لم يحصل؛ وهو بذلك يبعد أية علاقة لـ«نيتشه» بالإسلام، بكل بساطة لأن فيلسوف القوة والتمرد لا يمكن أن يحتويه أي إطار، بل هو مفجر الأطر، والثائر على كل القوالب والتصنيفات.

الحقيقة أن ما دفعني إلى طرح هذه التساؤلات هو محمد إقبال (1938) في كتابه تجديد التفكير الديني في الإسلام! لقد صدمني صاحب تجديد التفكير الديني وهو يُحلِّي «قاتل الإله» ببُرْدة الأنبياء!

كيف جاز لفيلسوف الإيمان، وشاعر الحضارة الإسلامية، ومؤسس باكستان الإسلامية أن يهدي هذا المديح لفيلسوف وشاعر آخر من حضارة مخالفة هو الألماني فريدريك نيتشه (1900)؟ وكيف يُمجد هذا الرجل الذي لا يمكن لأحد أن يستسيغ فلسفته لأسباب عديدة ربما كان أكثرها استفزازًا و«كفرًا» إعلانه موت الإله، وهو ما جعل الكنيسة -بكل طوائفها- تحاربه باعتباره عدوًا للرب والإله؟! ما الذي جذب رجلًا قضى حياته وهو يملأ هضاب نجد وصحراء الحجاز بدموعه اللاهبة، شوقًا إلى ضريح محمد وكعبة الله، إلى «عدو المسيح» و«قاتل الإله»؟!

لا شك أن صاحب «جناح جبريل» و«أسرار الذات» وجد عند صاحب «الإرادة الحرة والقدر» و«إرادة القوة» ما كان يبحث عنه؛ وأن ذلك الذي وجده عنده هو سبب احتفائه الكبير به في كتابه الأخير «تجديد التفكير الديني في الإسلام»، واصفًا إياه بالعبقرية، ومضفيًا عليه صفات الأنبياء.

لقد كان إقبال يتقاسم مع نيتشه غضبَه على الكهنوت، وكراهيته لأخلاق الخنوع والضعف التي يغرسها الكهنوت في صفوف المجتمع؛ وأكثر شيء وحَّد فيلسوف الشرق بفيلسوف الغرب هو غضبهما الشديد من فكرة «القدَر»؛ ففي حين يصيح الأول في وجه المسلم الذي كبَّلته عقيدة القضاء والقدر المحرفة: «ويلك!! أنت هو القضاء.. أنت هو القدر.. لا يستطيع القضاء ولا القدر أن يركب ظهرك، إلا إذا وجدك منحنيًا»، يعلن الثاني على لسان «زارا» العائد من الجبل: «الكون يتجدد كل يوم، والحقائق تعيد إنتاج ذاتها، إنه العود الأبدي.. الشعرى والعنكبوت وأفكارك التي تكررها بلا سأم، والسوبرمان نفسه.. حياتك كالساعة الرملية تمتلئ وتغور، ولن تنتهي إلى الأبد.. أنت حبة ستتلألأ إلى الأبد».

الواقع أن ما وحَّد الفيلسوفين الشاعرين هو المعاناة التي تعيشها الإنسانية عموما من مآسي مآلات الأديان، والتي انتهت إلى احتقار الإنسان وإذله، في الوقت الذي كان عليها أن تكرمه وترفع شأنه.

لقد عانى الشرق كما عانى الغرب من أخلاق الذلة والهوان التي تكرّسها المدارس الدينية المختلفة في كل شيء إلا في تركيع الناس للمترفين وأعوانهم من رجال الدين.

لذلك كان إقبال يرى في فيلسوف «السوبرمان» والإنسان الأعلى، مشروع ثورة حقيقية جارفة، تجتث في طريقها كل مظاهر الوهنٍ والضعفٍ؛ فتحرر النفوس من الأغلال التي كبَّلها بها الكهنوت، كي يتمكن الإنسان من السعي في الأرض والمشي في مناكبها إعمارًا و إصلاحًا كما أمره الله.

والحق أن نيتشه لم يقتل الإله؛ نيتشه بكى عليه فحسب، كما يقول الجبران؛ والذي «قتل الإله» هو الكنيسة كما يصرح بذلك الدكتور الطيب بوعزة؛ وبالتالي فنيتشه لم يقل شيئًا جديدًا بالمرة، وإنما الجديد هو أنه رفض ذلك الإله المصلوب العاجز عن حماية نفسه، قائلا: إن أمة هذه آلهتها لن تنهض أبدًا.

فالإله الحق هو من يحمي عِياله، لا من يستسلم أمام أعدائه؛ فإذا أصبح هو نفسه عاجزًا عن حماية نفسه، فعلى الأبناء أن يتحملوا مسؤولية أنفسهم، وأن ينسوا أمر أبيهم الذي صُلب، وأن يتخلَّوا فورًا عن وصايا الأب بالتواضع والسكينة والتسامح؛ فماذا عساها أن تفعل الحملان الصغيرة أمام الذئب الشديد، وهل يُطلب منها أن تكون متسامحة أو مسالمة تجاه عدوها!؟

والمخجل في القضية هو أن كل الحيوانات طورت أنفسها، وأنتجت شكلًا جديدًا من الحياة أكثر قوة وتلاؤمًا: الزرافة والحصان والأفعى والأسد، كلها تجاوزت مكانها الذي كانت فيه، حين حافظت على الأقوى من عناصرها وجيناتها، وداست بأرجلها على الواهن العاجز الضعيف، في حين بقي الإنسان أسير وهنه وعجزه، ولم ينجح قطّ في خلق نفسه من جديد.

متى يستفيق الإنسان من وهمه، ويركل في ربه كل تلك الأوهام السخيفة، ويستأنف انطلاقته العُلوية ومعراجه؛ فيسمو فوق سجَّانيه، ويعلو على مُكَبِّليه؟!

إنه لأمر مخجل حقًا، ألا تتمكن البشرية من الوثوب على تاريخها السيء، وتجاوز واقعها الأليم. والحق أنه ليس نحن من علينا أن نخجل من ماضينا كقرود، بل على القرود أن تخجل من مستقبلها كإنسان عاجز وضعيف، كما هو حالنا اليوم! ليس غريبًا أن يتأثر فيلسوف وشاعر شرقي مسلم بفيلسوف وشاعر غربي يوصم بكونه زنديقًا وكافرًا. وليس غريبًا أن يقتبس رجل مسلم فلسفة تبدو مناهضة لكل الأديان، وثائرة على كل المعتقدات.

ولكن العجيب في قصة الفيلسوفين الشاعرين، أن إقبال لم يكن راضيًا كفاية على تمرد نيتشه، ولم يقنع منه بأن يدمر كل الأطر والمرجعيات، ويمحو مِن على الأرض كل القوالب والتصنيفات، ثم «يقتل الإله» أخيرًا، ويدخل مستشفى المجانين.

ذلك أن إقبال -في كتاب تجديد الفكر الديني- لم يكن يرى غضبة نيتشه كافية لرسم ملامح الثورة الهادرة التي يريد، والتغيير الشامل الذي يطمح إليه! لقد كان يريد مزيدًا من غضبه، ولكن في الوقت نفسه لم يكن يريد جنونه وانتحاره!

وحسب إقبال فـ«نيتشه» عبقري عظيم لم يتمكن من إخراج كل طاقاته، ونبي من أنبياء العصر خانه حواريوه، ولم يكن له من سند يقوي ظهره، فكانت نهاية فيلسوف القوة في غاية الضعف ومنتهى الهوان. رحل وحيدًا غريبًا؛ كالتائه في غابة لم تطأها قدم حسب تعبيره؛ من دون أتباع ولا مريدين طائعين، ولا حتى أسياد وأئمة آمرين! حرموه ليس من نعمة الرفقة والصحبة في العلم، ونعمة الأتباع والمريدين، بل حرموه أيضًا حتى من أن يكون تابعًا مطيعًا! تركوه يصرخ سدى: أنا وحدي.. أنا في الحاجة إلى العون.. أنا في حاجة إلى أتباع ومريدين.. أنا في حاجة إلى سيد.. ما أحلى أن نطيع!

الاستاذ الجامعي والأجر الشهري…

معلومة
الاستاذ الجامعي عندما يلتحق بعمله كأستاذ جامعي مساعد يحصل على اجر شهري ما بين 12000 و12500 درهم. وبعد مرور اربع سنوات وبعد اجتياز مباراة التأهيل الجامعي ويتحول الى استاذ مؤهل يحصل ما بين 14 و 16 الف درهم، وبعد 6 سنوات يحصل على درجة استاذ التعليم العالي يحصل بموجبها على اجر يتراوح ما بين 18 و22 الف درهم بحسب الدرجات وبعد عمر مديد قد يصل الى 40 سنة داخل المدرجات والتأطير يصل اجره الى 30 الف درهم وهو اقل من تعويض برلماني شاب بالكوطة الذي يحصل على 35 الف درهم في دقيقة دون مجهود ودون مسار علمي او اكاديمي.

نظرية التأويل ومفهومها عند الفيلسوف ابن رشد

يهدف التأويل في معناه إلى فهم حقيقة النص وأن معانيه في الفلسفة تعددت وأصبحت تعني بما وراء منتج النص واختلطت مع التفسير في الفلسفة العربية خاصة في بحوث القرءان ومن بين فلاسفة الإسلام ابن رشد احتلت اشكالية التأويل عنده مكانة هامة اعتبرها من أهم المناهج الفلسفية، وأن التأويل لابد أن يعتمد على برهان عقلي ليكشف على معنى باطني اعتمادا على العقل والمنطق. من أهم النتائج التي توصلنا إليها هي : 1. الهدف من التأويل عند بن رشد هو بلوغ اليقين وعدم الشك أي المعنى الباطني مرتبط ارتباطا وطيدا بالكتاب والسنة . 2. اعتمد ابن رشد بفضل القياس البرهاني من شرح وتفسير نصوص أرسطية. 3. اكد ابن رشد انقسام الشرع إلى ضاهر وباطن وهو مراعات تفاوت مستويات الناس في قدراتهم على الفهم. 4. حدد ابن رشد قوانين للتأويل وذلك من أجل أن لا تتسرب الفوضى ومن أجل الحفاض على مقاصد الشرع.

    لقد كان الاهتمام بتحديد مفهوم التأويل في العديد من الحقول المعرفية. لذلك كان يجب علينا كباحثين في الحقل الفلسفي أن نستكشف حقيقته في هذا الحقل  من خلال فيلسوف بحث فيه في إطار الفكر الفلسفي الإسلامي، وهو ابن رشد، وهذا لا يعني أنه أول من تناول هذا المفهوم داخل العالم العربي الإسلامي حيث نجد أن  هناك العديد من المفكرين في مختلف الميادين الفكرية قد تداولوا هذا اللفظ، خاصة وأن لفظ التأويل موجود في القرآن الكريم: "ويؤكد حضور الدال تأويل في القرآن الكريم أقدم  نص عربي موثوق في صحته سبع عشر مرة٨ "[1]
   وابن رشد يعد من أشهر الفلاسفة المسلمين الذين عالجوا قضية التوفيق بين الشريعة والفلسفة، وقد بين أن الشريعة تدعو إلى النظر لذلك  فهو يقول: "وإذا كانت هذه الشريعة حقا وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا معشر المسلمين، نعلم على القطع أنه يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد فيه الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له"
   ثم يبين أن في الشرع المسكوت عنه يوازي المسكوت عنه من الأحكام إذ يقول:"  فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه في الشرع أو عرف به فإن كان مما قد سكت عنه من الأحكام، فاستنبطها بالقياس الشرعي". فالمسكوت عنه في الشرع هو عند ابن رشد المحفز للتأويل خاصة عندما يخالف ظاهر النطق ما توصل إليه البرهان وإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفا له، فإن كان موافقا، فلا قول هنالك، وإن كان مخالفا طلب هنالك تأويله".
   ونفهم من خلال هذا أن ابن رشد يعلن عن التأويل للفصل في قضية مخالفة  البرهان  بظاهر النطق في الشريعة، وهنا نتساءل هل غاية  ابن رشد كانت نصرة البرهان أم اكتشاف آلية التأويل والتي من شأنها أن لا تشوه الشريعة؟
    سنتقصى ذلك من خلال الكشف عن أسس التأويل عند ابن رشد انطلاقا من تعريفه للتأويل وهو يقول: "ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقة في الدلالة المجازة – من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز- من تسمية لشيء يشبهه أو سببه أو لاحقه أو مقارنة  أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي" 
   إذا كان التأويل عند ابن رشد هو فعل الإخراج الذي يتم على مستوى التعامل مع الألفاظ القرآنية فهو  يشترط أن لا يخرج ذلك على نطاق قوانين اللغة العربية، وليس هذا فحسب بل هو يصر على أن لا يتم  ذلك إلا بالالتزام بهذا الأساس، حيث يقول: "ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان خالفه ظاهر الشرع. أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي"
من هنا يتبين أن ابن رشد في تعريفه للتأويل قد أكد على خصوصيته انطلاقا من أن القرآن الكريم ألفاظه عربية بحيث لا يجب على المتأول أن يتعامل مع النص القرآني بقوانين تخرج عن نطاق اللغة العربية وهذا إدراكا منه بخصوصية اللغة العربية من جهة  وللإعجاز القرآني في ورود اللفظ، يقول الجابري: "هذا القيد اللغوي ضروري حتى لا يجنح التأويل إلى أمور  بعيدة كل البعد عن مجال الخطاب القرآني"      
 لذلك يرى الجابري أن "الضابط الأساسي في هذه عملية هي القواعد  التي تحكم أساليب التعبير في اللغة العربية التي هي لغة القرآن، وبذلك يكون التأويل صناعة لغوية في جزء منه".

التأويل والمنهج العقلي:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

   خصص ابن رشد فصل المقال والكشف عن مناهج الأدلة لفحص قضية التأويل وأصح تأويل في نظره هو ما ينتج عن القياس المنطقي، كما يبين أن التأمل في الوجود أساسه عقلي حيث يقول: "فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي".            وليس هذا فحسب بل نجد ابن رشد يصر على أن  العقل هو مطلب شرعي فيقول: "أن هذا النحو من النظر الذي دعا إليه الشرع وحث عليه هو أتم أنواع النظر بأتم القياس وهو المسمى برهانا".
   لذلك يجعل ابن رشد المنهج العقلي الذي يعتمد البرهان في الأساس هو المنهج الوحيد الذي بإمكانه أن يستخدم في التأويل "فالعلم البرهاني في الأساس هو الذي يجعل الشريعة منسجمة مع العقل ومتسقة فيما بينها فما خالفه من النصوص يسلط عليه التأويل".

   لكن إذا كان التأويل لا يستخدمه إلا أهل العلم الذي يشترط فيهم امتلاك البرهان فبالضرورة سيكون أحد التأويلات إن لم نقل أهمها، فالتأويل هو جوهره ربط النتائج بالمقدمات، داخل القول الديني نفسه، هو البحث عن المعنى، المقصود وراء التعابير المجازية والأمثلة الحسية وذلك بشكل يجعل مدلول القول الديني على وفاق ما يقرره البرهان العقلي " 
 وحسب ابن رشد البرهان هو كاشف للحقيقة "إن كان البرهان فلا يكون إلا مع العلم بالتأويل، لأن الله تعالى قد أخبر أن لها تأويلا هو الحقيقة والبرهان لا يكون إلا على الحقيقة." ولقد استفاد ابن رشد من المنطق الأرسطي في تأسيسه لنظرية التأويل وذلك باستخدام البرهان العقلي واعتباره أهم شرط للحصول على تأويل صحيح، وقد وظف في ذلك نظرية التوسط  ونظرية الطرف المحايد الكونيتان باعتبارهما مشتقتين من البرهان العقلي ولذلك، فهما عامتان شاملتان يمكن توظيفهما في حل مشاكل فلسفية وكلامية وسياسية وتأويلية قد تكون مصدر فرقة الناس "               
 نجد أن ابن رشد في إطار استثماره المنطق الأرسطي في التعامل مع النص القرآني، يوظف التوسط والحياد مكونا اثنان من مكونات المربع السيمائي أو المسدس السيميائي وسيلة تأويلية وتوليدية في الوقت نفسه"  لذلك نجد العقل الذي هو "أداة التفكير والتأمل والتدبر وبعبارة  أخرى هو أداة التأويل".

المجاز والحقيقة:

◇◇◇◇◇◇♧◇◇◇◇◇◇♧◇◇◇◇

 إن ابن رشد من خلال تعريفه للتأويل يشير إلى المجاز والحقيقة ذلك "أنه مهما كانت أجناس النصوص وأنواعها وأصنافها فقد ترجع إلى القسمة المعروفة من كون الكلام ينقسم إلى حقيقة ومجاز فإذا كان الكلام حقيقة صرفة خالصة فإنه لا يجوز تأويله، وأما إذا كان الكلام فإنه يجب تأويله حتى تتلاءم دلالة تعابيره مع المعقولية ." 
نجد أن ابن رشد يؤكد على ثنائية الحقيقة والمجاز في النصوص وهناك من يقر أن ابن رشد لم يخرج في تعريفه للمجاز عن تعريف المتكلمين حيث يقول أبو زيد نصر حامد :"إن تعريف المجاز الذي يقدمه ابن رشد هو نفسه التعريف المتداول في دائرة المتكلمين المعتزلة أو الأشاعرة"
في حين أن ابن رشد في الأساس نظر إلى التأويل لدحض أفكار وتأويلات المتكلمين، خاصة التي لها علاقة بصفات الخالق،" وينتهي تأويل الصفات  المعتمد على البرهان والمؤسس على ما بعد الطبيعة إلى أن الله سبحانه عقل خالص لا  يعقل إلا ذاته، وذاته عقل بالضرورة " وقد بين ابن رشد من خلال العديد من نصوصه عدم مصداقية تأويلات المتكلمين، فهو يقول مثلا: "فالمتكلمين ليسوا في قولهم أيضا في العالم معتمدين على ظاهر الشرع، بل متأولون. فإنه ليس في الشرع أن الله كان موجودا من العدم المحض، ولا يوجد هذا فيه نصا أبدا، فكيف يتصور في تأويل المتكلمين في هذا الآيات أن الإجماع انعقد عليه."
   وقد أقر ابن رشد أن هذا النوع من التأويل قد أضر بالشرع، وهو بطريقة أو بأخرى معني بإيقافها وإعطاء البديل في هذا الإطار. حيث عمل على تقديم نظرية متكاملة في التأويل وهذا على الأقل حسب ابن رشد، وهو يستند في ذلك إلى آيات قرآنية من بينها قوله تعالى: ﴿ فَأمَّا اْلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾

لذلك كان موقف ابن رشد من المتكلمين في مسألة التأويل موقف الناقد ” وأسند ما عرض الشريعة في هذا الصنف أنهم تأولوا كثيرا مما ظنوه ليس على ظاهره، قالوا إن هذا التأويل هو المقصود، وإنما أتى الله به”
هناك من ينتقد ابن رشد في هذا الإطار، فإنه إذا كان ابن رشد يؤسس لتأويل على البرهان وذلك إذا كان البرهان هو المعرفة اليقينية فمن الضروري أن يكون البرهان هو أساس التأويل ومعياره ” فإن هجوم ابن رشد على المتكلمين وعلى تأويلاتهم التي سببت الاضطراب والفساد وشوهت العقيدة، ليس مبررا ولا مفهوما إذا كان المجاز هو قانون التأويل لأن هذا بالضبط هو قانون التأويل، لأن هذا بالضبط هو القانون الذي حكم تأويلات علماء الكلام “
لكن هناك من يرى أن ابن رشد في نظريته للتأويل مازج بين البرهان والبيان فإننا نجد البيان عند ابن رشد ممتزجا بالبرهان، والبرهان مندمجا في البيان وهذا ما سوغ لنا أن ندعوه التأويل ” البرها – يان ” نحتا من كلمتي البرهان والبيان “
وإذا كان ابن رشد قد اهتم بالمجاز فلأنه لا يمكن لأي لغة أن تخلوا من المجاز خاصة اللغة العربية كما أن القرآن الكريم نص عربي “وللتأويل في خطاب ابن رشد جانبان: الأول ضرورة اعتماده على البرهان الذي يحدد مرجعية المعنى والدلالة، الثاني أن يوافق قوانين اللغة العربية ولا يتعارض معها” وبهذا المفهوم يكون التأويل عند ابن رشد قد استفاد من كل الأسس المعرفية التي من شأنها أن تقدم تأويل صحيح “فالتأويل هنا فك شفرة لنص من أجل فهم العالم الذي تمثل اللغة ظاهر النص القرآني تعبير المجازي “
ويتجلى الإبداع الرشدي في تأسيسه لنظرية التأويل في قدرته على استعانته على أسس برهانية وبيانية دون أن يخل بقواعد اللغة العربية ولا بالمبادئ العقلية.

التعددية وثنائية الظاهر والباطن:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

   لقد قسم ابن رشد الناس  إلى ثلاثة أصناف حسب درجة الإدراك. هناك من يصفهم بأهل الخطاب، والصنف الثاني أهل الجدل أما الصنف الثالث، فهم أهل البرهان وحسب ابن رشد أن هذا التقييم  يظهر فيه اللطف الإلهي على البشرية.  كما أن هذا الاختلاف يعود في الأساس إلى الفطرة والاكتساب أو إليهما معا إذ يقول: "فقد تلطف الله فيها  لعباده الذين لا سبيل لهم إلى البرهان، إما من قبل فطرتهم، وإما من قبل عاداتهم، وإما من قبل عدمهم أسباب التعلم "
   وابن رشد  يقر بوجود التعددية، "فالتعددية، تلك القائمة في طباع البشر لاختلاف عاداتهم، ومرجعيا أمر حرصت الشرائع على التعامل معه وصفة حقيقة سابقة عليها، ولم تسعى الشرائع لإلغاء التعددية وللقضاء عليها بدليل أنها انطوت في بنية خطابها، الخطاب الإلهي على تعددية مماثلة تجعل الخطاب مفتوحا لأفاق التأويل والفهم".                              
   ولقد تضمن النص القرآني كل مستويات الخطاب  مراعيا في ذلك أصناف البشر الثلاثة، وحسب ابن رشد "بأن ضرب لهم أمثالها وأباحها ودعاهم إلى التصديق بتلك الأمثال، إذ كانت تلك الأمثال يمكن أن يقع التصديق بها بالأدلة المشتركة للجميع، أعنى الجدلية والخطابية "
   إن فكرة التعددية كانت سبب في انقسام الشرع إلى ظاهر وباطن فيقول "فإن الظاهر هو تلك الأمثال المضروبة لتلك المعاني التي لا تتجلى إلاَّ لأهل البرهان "               
   ولذلك فإن أهل البرهان هم المختصون بالباطن دون غيرهم، وعلى هذا النحو من التمييز بين الظاهر والباطن فإن الظاهر لا يحتاج إلى تأويل. بل ذهب ابن رشد في هذا الشأن إلى انه من اعتمد التأويل في الظاهر كفر، فيقول: " وكان على ظاهره لا يتطرق إليه تأويل، وهذا النحو من الظاهر إن كان في الأصول والمتأول له كافر".                              فابن رشد يحرص على أن هناك ظاهر من الشرع محظور التأويل :"فقد ظهر من قولنا أهمها ظاهر من الشرع لا يجوز تأويله، فان كان تأويله في المبادئ، فهو كفر وان كان فيما بعد المبادئ، فهو بدعة وهنا أيضا يجب على أهل البرهان تأويله، وحملهم إياه على ظاهره كفر وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم بدعة".
   كما بين ابن رشد أن هناك صنف ثالث بين الظاهر والباطن حيث يقول: "ههنا صنف ثالث في الشرع متردد بين هذين الصنفين فيه شك فيلحقه قوم ممن يتعاطى النظر بالبرهان الذي لا يجوز تأويله ويلحقه آخرون بالباطن الذي يجوز حمله على الظاهر،  وذلك لعواصة هذا الصنف واشتباهه والمخطئ في هذا معذور، أعني من العلماء.
   ويمكن أن نقول أن هذا الصنف لا هو باطن يحمل معناه على الظاهر، ولا هو ظاهر يجوز تأويله إذن هذا الصنف يبقي بين ثنائية الباطن والظاهر، "فهذه التعددية المنعكسة في تعدد مستويات الخطاب الإلهي من شأنها أن تفضي إلى تعددية التأويلات ".
   وإذا كان التعدد صفة  بشرية، فهذا لا يتعارض مع الوصول إلى فكرة التوحيد، والتي يتأسس عليها النص القرآني، "وهكذا تقضي التعددية إلى التأويل من حيث جذورها واحدة في الحكمة الإلهية". وهذا يعود في الأساس إلى خصوصية النص القرآني "فالنص القرآني الذي يقبل التأويل، وينبه أهله إلى  وجوب استعماله في الأقاويل التي ينبغي أن يستعمل فيها، ينطوي بحسب مفهوم ابن رشد له، على جميع طرق  الحقيقة، إذ الحقيقة تختلف طرق تصورها والتصديق بها كما أوضح ذلك هو نفسه."
   ولما كانت فكرة التوحيد غاية المؤمن مهما كان الصنف الذي ينتمي إليه من حيث درجة التصديق، "فيبدو أن ابن رشد كان حريصا أشد الحرص على الضوابط المعرفية التي لا تلغي التعددية
   وحسب أبو زيد نصر حامد " أن ابن رشد إذا كان محور فلسفته هو إبراز عدم الاختلاف بين الحكمة والشريعة، وهو يؤكد عدم الاختلاف كان يؤصل للتعددية والاختلاف بين البشر".
   وقد كان ابن رشد مؤيدا للتعددية والاختلاف باعتماده على العقل وهي الآلية نفسها التي اعتمدها في التأويل، " فهو يؤكد أن رفع الاختلاف لا يتم إلا بآليات العقل الإنساني لاكتساب المعرفة البرهانية اليقينية من جانب، ولتأويل ما يتعارض مع هذه المعرفة تأويلا صحيحا من جانب آخر".
   وهكذا عمل ابن رشد على تأسيس نظرية التأويل بشكل لا يتنافى  مع الأسس العامة للمعرفة." و بهذا المعنى وحده يمكن اعتبار ابن رشد ممن أعادوا البناء والتأسيس للعلوم الدينية الفقهية والكلامية، أي انطلاقا من رؤيته للنص القرآني كفضاء دلالي متعدد الاحتمالات والدلالات، وباستعمال المنهج "التأويلي" لا "الظاهري"،في فهمه والتعامل معه" إن التعددية التي شملت البشر قد تعدت إلى التأويل، فإذا كان تعدد التأويلات في فهم  النصوص الدينية أمر مشروعا، فإن الاختلاف في شؤون الحياة والمجتمع تكتسب تعدد التأويلات المشروعة أعمق أصناف إلى مشروعيته العقلية الخالصة "                       
   وعليه فإنه سيكون لكل صنف من الأصناف البشرية نوع من التأويل وهذا ما يصرح به ابن رشد، " فإذا  الناس في الشريعة على ثلاث أصناف: صنف ليس هو من أهل التأويل أصلا وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب، وذلك أنه ليس يوجد أحد سليم العقل يعرف هذا النوع من التصديق"
   ونفهم من هذا أن هناك من هو محروم من امتلاك التأويل، وهذا دائما حسب ابن رشد لأن هذا الصنف قدراته العقلية في التعامل مع النصوص محدودة . وهو الصنف الذي يقف عند حدود الظاهر في التصديق، " والصنف هو من أهل التأويل الجدلي وهؤلاء هم  الجدليون بالطبع فقط أو بالطبع والعادة"
   هذا الصنف حسب ابن رشد لا يرقى لأن يكون تأويل صحيح في حين أن النوع الأخير من التأويل عند ابن رشد هو المطلوب، " والصنف هو من أهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون بالطبع والصناعة. أعني صناعة الحكمة." 

التأويل المحظور:

ذ♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

   لقد حرص ابن رشد على عدم التصريح بالتأويل لعامة  الناس. حيث كان صارما في ذلك وهو يقصد التأويل اليقيني الذي يجب أن يبقى في دائرة خاصة، وهذا التأويل ليس ينبغي أن يصرح به لأهل الجدل فضلا عن الجمهور. متى صرح بشيء من هذه  التأويلات لمن هو غير أهلها وبخاصة تأويلات البرهانية  ليعدها عن المعارف المشتركة. افضي ذلك بالمصرح له والمصرح إلى الكفر"
   وقد اعتبر هذا التأويل محظور لما ينتج عن الإفصاح عنه، وهو انتشار الكفر بعدما كانت التأويل تحقيق التوحيد، وقد بلغ الإفصاح عن مفهوم الظاهر ولقد لحظنا فاعلية الظاهر، وليس لأي بشر الصلاحية لإلغاء ذلك. لأن النص القرآني خطاب إلهي وهو محفوظ بقوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلَنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾
   لذلك يقول ابن رشد: "والسبب في ذلك أن مقصوده إبطال الظاهر واثبات المؤول. فإذا بطل الظاهر عند من هو من أهل الظاهر، ولم يثبت المؤول عنده أداه ذلك إلى الكفر إذا كان في أصول الشريعة."
   ومن هذا المقام يستعين ابن رشد بما فعله الغزالي حيث يستدل بذلك حيث يقول: "بالتأويلات ليس ينبغي أن يصرح بها للجمهور، ولا أن تثبت في الكتب الخطابية أو الجدلية، أعني الكتب إلى الأقاويل الموضوعة فيها من هذين الصنفين كما صنع ذلك أبو حامد
   ولهذا لا بد أن يبقى مفهوم الظاهر ثابتا عند جميع البشر بمختلف أصنافهم "ولهذا يجب أن يصرح ويقال عن الظاهر بنفيه للجميع وكون معرفة  تأويله غير ممكن فهو ثابت لا يعلمه إلا الله [].....في قوله تعالى ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَهُ﴾
   وابن رشد لا يمنع التصريح بالتأويلات الفاسدة فحسب بل حتى الصحيحة منها وذلك لعدم  توفر هؤلاء على آلية  الفهم "هذا أن أصرح لهم بتأويلات صحيحة في ذلك الأشياء بكونهم لا يفهمون ذلك التأويل، فضلا إن أصرح لهم بتأويلات فاسدة لأنه يؤول بهم الأمر إلى أن يروي أن هنا صحة يجب أن تحفظ ولأمر هنا يجب أن يزال، فضلا من أن يروي أنهما أشياء تحفظ الصحة وتزيل المرض."
     وهكذا فإن ابن رشد يمنع التصريح بالتأويل للجمهور، وهو في الوقت نفسه يريد لهم المحافظة على الشريعة بل المحافظة على سلامة عقيدتهم الدينية ككل "لهذا ينتقد ابن رشد المتكلمين من المعتزلة والأشعرية الذين صرحوا بتأويلهم للجمهور، وفرقوا بين الناس وقد سبق الحنابلة ابن رشد في هذه المسألة  وذموا الكلام". وهناك ردود متشابهة  في تاريخ الفكر الإسلامي " فقد كان لابن عباس موقف من الخوارج ومن تأويلهم، وهو موقف انعكس في الروايات  المأثورة عنه في كتب التفسير والتي يرد فيها على تأويلاتهم، بل يؤول بعض  آيات القرآن التي تهاجم المؤولة على أساس أن المقصود بها الخوارج."
   في حين نجد أن علي حرب يرى أن ابن رشد يلغي ميزة العقل عند عامة الجمهور، فيقول: "وهكذا نقرأ دعوة ابن رشد إلى عدم التصريح بالتأويلات أمام العامة، فنتأولها على أنها تعني أن الجمهور لا يعقل."
   نلاحظ أن هذا القول مبالغ فيه لأن ابن رشد قد وضع هذه المسألة خاصة وأنه استند في هذا النص القرآني نفسه " فالنص القرآني الذي يقبل التأويل، وينبه أهله إلى وجوب استعماله في الأقاويل التي ينبغي أن يستعمل فيها، ينطوي بحسب مفهوم ابن رشد له، على جميع طرق الحقيقة، إذ الحقيقة تختلف طرق تصورها والتصديق بها كما أوضح ذلك هو نفسجوهذا قد صرح به أيضا علي حرب نفسه لذلك لا يمكن الحكم على الموقف الرشدي. خاصة و "أن التأويل الذي اعد لإرشاد العوام... هو تأويل يؤكد على شرعية الدعوة ويحميها." 

قانون التأويل:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

إن اهتمام ابن رشد الشديد بالتأويل جعله يضع له قانون، فهو يبين تصنيف المعاني في الشرع، فيقول: “إن المعاني الموجودة في الشرع توجد خمسة أصناف، وذلك أنها تنقسم أولا إلى صنفين وينقسم الآخر منهما إلى أربعة أصناف.”
وإذا اهتم ابن رشد بتصنيف المعاني في الشرع فلقد عنى ابن رشد بتحديد وظيفة اللفظ في النص وحدد الألفاظ ومصدرها في أربعة يقول: “وأصناف الألفاظ التي تتلقى منها الأحكام من السمع أربعة ثلاثة متفق عليها ورابع مختلف فيه.”
وذلك أن التأويل الرشدي غايته الكشف عن الحقيقة، وهذا من خلال اهتمام بالمعاني والعمل على تصنيفها، وفي الوقت نفسه الاهتمام بالألفاظ و تصنيفها هي الأخرى، “وللتأويل في خطاب ابن رشد جانبان الأول ضرورة اعتماده على البرهان الذي يحدد مرجعية المعنى والدلالة، والثاني وفق قوانين اللغة العربية ولا يتعارض معها.”
من هنا فإن ابن رشد قد استفاد من كل أنماط المعرفة التي درسها في حياته من معارف فلسفية ودينية، “وهو يؤسس مشروعية التأويل على أساس فقهي مكين كما يؤسس مشروعية النظر الفلسفي على الأوامر القرآنية بالنظر إلى التدبر والاعتبار في خلق السموات والأرض
وهكذا فإذا كانت غاية ابن رشد الوصول إلى حقيقة واحدة من خلال التوفيق بين الحكمة والشريعة، وينتج عن ذلك القرار بنظرية في التأويل، فإن هذا التأويل هو في حد ذاته يتأسس على أسس شرعية فلسفية. أما تأسيس التأويل على أساس شرعي، فيعتمد بدوره كذلك على مقارنته بقياس الفقهاء في الأمور التي سكت عنها الشرع.
حيث نجد ابن رشد يقول ويتساءل في نفس الوقت “وإذا كان الفقيه يفعل هذا في كثير من الأحكام الشرعية، فكم بالأحرى أن يفعل ذلك صاحب عمل البرهان ؟”
ومن هنا نتساءل نحن بدورنا عن حدود ممارسة ابن رشد للتأويل في نصوصه الخاصة، بمعنى هل استطاع أن يحافظ على ماهية صاحب علم البرهان؟

قائمة المصادر والمراجع:

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

1- ابن رشد ، أبو الوليد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ج1، دار الشريفة، دون ط، سنة 1989.
2- ابن رشد، أبو الوليد، فصل المقال في تقرير ما بين الحكمة والشريعة من اتصال، سيراس للنشر. دون ط، سنة 1994.
3- ابن رشد، أبو الوليد، فصل المقال في تقرير مابين الحكمة والشريعة من اتصال، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع. الجزائر دون ط. سنة 1982 .
4- ابن رشد، أبو الوليد، مناهج الأدلة في عقائد الملة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط 1،سنة 1998.
5- أبو زيد نصر حامد،النص الحقيقة السلطة، ط2 المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء، المغرب، ط2، سنة 1997.
6- أبو زيد، نصر حامد، التأويل والخطاب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب.ط 1، سنة 2000.
7- الجابري، محمد عابد. نحن والتراث، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء، المغرب، ط 6، سنة 1993.
8- حرب، علي، نقد النص، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط2، سنة 1995.
9- سالم عبد الجليل بن عبد الكريم، التأويل عند الغزالي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، مصر،ط1، سنة 2004
10- مفتاح، محمد. التلقي والتأويل، المركز الثقافي، العربي الدار البيضاء، المغرب، ط2، سنة 2001.

[1] نصر حامد، أبو زيد.النص الحقيقة السلطة، ط2 المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء، المغرب، ط2، سنة 1997، ص

التوفيق بين الفلسفة والدين عن الفيلسوف الكندي

يرى بعض الباحثين أن الحركة الفكرية لمدارس علم الكلام الأولى هي الأب الشرعي للفلسفة الإسلامية، التي استقت فيما بعد من ينابيع أخرى على رأسها فلسفة اليونان، بينما يرفض آخرون هذا الرأي لأن علم الكلام –بحسب رأيهم- قد يشحذ الذهن، ويطور مهارة الجدل، غير أنه لا يقود للتفكير العقلي المنظم، ويستشهد هذا الفريق بالصراع بين الفلسفة وعلم الكلام، بالرغم من تبني علم الكلام للكثير من المصطلحات والمفاهيم الفلسفية، حيث كان ذلك كنوع من تبادل الأسلحة بين المتعارضين.

وثمة رأي آخر يرى أن الفلسفة الإسلامية ماهي إلا فلسفة يونانية بلسان عربي، زينت بأفكار أخلاقية أملاها الإسلام، لكن هذه الإضافات لا تبدل جوهرها، ولعل هذا أقرب الآراء للاعتدال، فالفلسفة اليونانية استمرت في المحيط العربي، مع ملامح جديدة للفكر الإسلامي، بيد أن هذه الملامح غارقة وسط الاقتباسات الكثير لأفكار اليونانيين، على أنه لا بد من القول إن الفكر لا يمكن أن يحتفظ بطابعه الأصلي عند انتقاله إلى بيئة أخرى.

موقف المسلمين من الفلسفة اليونانية

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

لم يكن الفكر اليوناني الذي بدأ بالدخول في المجال الإسلامي في بدايته صريح التعارض مع الإسلام، فقد ترجمت في البداية العلوم الفلسفية الطبيعية، والمنطقية، والأخلاق، واستقبلت البيئة الإسلامية ذلك بالترحاب، ولم يشتد الصراع بين الفكر الإسلامي والفلسفة اليونانية إلا عند ترجمة الكتب التي تتعرض للمشاكل الميتافيزيقية كالألوهية، ولم يتقبل علماء الكلام أن يكون النبي في كفة، مقارنة مع الفيلسوف في الكفة الأخرى، وأكثر ما أثار ثائرة علماء الدين المحافظين، ما فهموه من إمكان الاستغناء عن الوحي للحصول على معرفة مؤسسة من العقل وحده، والحقيقة أن التدليل على أحقية ما جاء به الرسول، بالقول إنه يمكن الوصول إلى مثله من طريق العقل، يعد في ذاته عملاً محموداً في نظر عالم الدين المتفتح الذي يسره أن يجد مبادئ دينه لا تعارض العقل، ولا تقف في سبيل الفكر، لكن هذا العالم المتفتح يؤكد على خصوصية النبوة فهي منحة إلهية لمصطفًى مختار، أطلعه مباشرة على الحقيقية، بصورة لا تحتمل شكاً ولا ارتياباً، والرسول ناقل أمين للحقائق الإلهية، ولو أمكن الفيلسوف فعل ذلك، فما من حاجة لمبلغ عن الله، وهنا جوهر المشكلة، حيث تبرز الحاجة لمعرفة مصدر أساس المعرفة أهو الدين أم العقل، وهذا الإشكال يوهم أن الدين لا يساير العقل، بل يخالفه، وهذا قول باطل بشهادة الدين نفسه، إن المشكلة تكمن في:

1- مدى وثاقة ما يوحى إلى النبي.

2- مدى أحقية العقل في مناقشة التعاليم والأفكار الدينية، بعد فرض صحتها.

3- أيهما أولى بأن يكون له اليد الطولى؟ الدين؟ أم الفلسفة والفكر الحر؟

للبحث في النقطة الأولى يتطلب التعرض لحقيقة النبوة ووظيفتها وضرورتها، وطبيعة الوحي، وأدلة إمكانياته، وبراهين صدقه…

والبحث في النقطة الثانية يستوجب عرض الأفكار والمبادئ والتعاليم ومدى قدرة العقل على تعليلها أو نقدها أو شرحها شرحاً يرضي الفكر، ويريح النظر، وينتج عن ذلك مشكلة التأويل التي قد تنتج فرقاً كثيرة، ومشكلة التأويل هي التي مكنت الفلاسفة المسلمين من التفكير في التوفيق بين الدين والفلسفة.

وقد يبدو غريباً أن يعمل الفكر ضمن تعاليم أصبحت عقيدة، ويوصف مع ذلك فكرها بالحر، وهنا نقول إن الحرية الفكرية المطلقة وهم وخيال، فالفكر لا يأتي من لا شيء، وثورة الفكر على مذهب معين تنتهي بالوقوع ضحية لمذهب آخر، وأشد الملاحدة ثورة على مبدأ الألوهية يقع فريسة لإلهه هو الذي اتخذه من الطبيعة أو الإنسان أو الحيوان ويشمل ذلك ذاته نفسها، ولنا أن نتأمل أن شك ديكارت بكل ما سبقه من أفكار وعقائد جعلته حبيساً لفكر مذهبه، الذي هو خليط من مذاهب أخرى، وليس مبتكراً سبقه العدم.

حتى الموقف اللاأدري بالرغم من عدم تحيزه لفكرة معينة، لا يمكن وصفه بأنه ينم عن حركة فكرية طليقة، لأنه أحجم عن ممارسة إيجابية فعالة، وبالتالي فحرية الفكر نسبية، تكثر أو تقل، تبعاً لاستعداد الفكر لرؤية الحلول الممكنة لمشكلة ما، ووجود الحلول لا يمنع الفكر من مناقشتها وقبولها.

استيعاب ومقاومة الفكر اليوناني
وجدت الفلسفة اليونانية مقاومة في المحيط الإسلامي، لا باعتبارها تمثل فكراً حراً منزها، بل لأنها تباين الروح الإسلامية، ونجد هناك من تابعها وجعل لها اليد الطولى، ومن أعجب بها وسعى إلى التنسيق بينها وبين الدين، ولقد كتب أحدهم كتاباً جمع فيه أحاديث في مكانة العقل، ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن الأحاديث التي تتحدث عن العقل ليست دعوة للفلسفة اليونانية، فهذا من الخلط.

وفي القرآن آيات تدعو إلى التفكير والتبصر والتأمل في صنع الله، وهذه من مواضع اعتزاز المسلمين بتبني الإسلام وتشجيعه للفكر البناء الهادف غير المتحيز، وللأسف فقد أصيب الإسلام من بعض أنصاره المتزمتين، وليتهم أدركوا أن محاربة الفكر المنحرف لا تكون بإخفائه بقدر ما تكون بإظهار عواره وكشف تهافته.

لقد كانت قضية العلاقة بين العقل والوحي، وبالتالي بين الحكمة والنبوة، أو الدين والفلسفة، أو العقل والنقل، قضية حاضرة في المحيط الإسلامي، وقد حاول المفكرون أن يظهروا التوافق بين المصدرين، لكن معظمهم أخطأ حينما ظن التوفيق بين الدين والعقل، يعني التوفيق بين الإسلام والفلسفة اليونانية.

وبالرغم من اتفاق فلاسفة الإسلام على وحدة الحقيقة الدينية والفلسفية إلا أنهم تباينوا من حيث تقديمهم لأحد الجانبين على الآخر، فقد قدم الكندي الوحي على الفلسفة، بينما سوّى الفارابي وابن سينا بينهما تقريباً، وكان لابن رشد رأي باستقلالهما من دون تعارض.

من هو الكِنْدِيُّ؟

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

هو أبو يوسف يعقوب بن إسحق الكِندي، وُلِدَ بمدينة الكوفة في أوائل القرن التاسع الميلادي، وهو من قبيلة كِنْدة، أي أنَّ أصلَه عربيّ، ولذلك لُقِّبَ بفيلسوف العرب، وكان أبوه أميرًا على الكوفة. وقد حصَّلَ الكِنديُّ علومه -فيما يظهر- في البصرة ثم في بغداد، واشتغل بترجمة كتب اليونان إلى العربية، وبتهذيب ما كان يقوم غيره بترجمته من تلك الكتب، وعمل في قصر الخلافة ببغداد مُنَجِّمًا أو طبيبًا، غير أنه أُقْصِي آخر أيامه من القصر. وقد كان مُلِمًّا بعلوم عصره، ينزع في آرائه الكلاميَّة نزعةَ المُعْتَزِلَة، ومن المسائل التي كتب فيها بصفة خاصَّة قُدْرَةُ الإنسان على أداء فعل ما، هل هي تُوجَد قبل الفعل أو تكون معه؟ وكان يقول بالعدل والتوحيد اللذَيْنِ هما أميز ما يميِّزُ المعتزلة، وحاول التوفيق بين النُّبُوَّة والعقل، وقارن بين المِلَلِ المُختلفة مقارنةً انتهتْ به إلى أنَّها مُجْمِعَةٌ على الاعتقاد بأنَّ العالَم صادِر عن عِلَّة واحدة أزليَّة؛ هي الله

فلسفتُه

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

حدَّدَ الكندي -بجهده المُبَكِّر- مسارَ الفلسفة الإسلامية، ورسم لها الطريق، ووضع المنهج، وكوَّن له تلاميذ، بَثَّ فيهم من روحه وفكره؛ ما ساعدهم على نشر الفلسفة وإقبال الناس على دراستها. ولقد تمَّ له ذلك كلُّه تحت لواء الإسلام؛ فاستحقَّ أنْ يُطْلَقَ عليه اسمُ فيلسوف العرب والإسلام[3].
لقد كان على الكندي قبل كل شيء أن يضع تعريفًا واضحًا للفلسفة؛ ذلك أنَّ بعض الطوائف قد أساءتْ فهمَ هذا اللفظ؛ لاعتقادِهم أنَّ الفلسفة تعني -من جملة ما تعني- الكفر والإلحاد. ولهذا حرص الكندي على بيان ماهيَّة الفلسفة؛ حتى يُزيل هذا الفهم السيء لها. يرى الكندي أنَّ الفلسفة هي البحث؛ النظر العقلي الخالص الذي يهدف إلى كشف الحقيقة والوصول إليها. والفلسفة في هذا شأنها شأن الدين؛ لأنَّ الدين يؤدِّي بالإنسان إلى الوقوف على حقائق الأشياء؛ فالكنديُّ يجادل بداية؛ أنَّه لا يوجد ثمة تعارُض بين الفلسفة وبين الدين في الأصل. ويحاول أن يحدَّ الفلسفة؛ فيقول:

“إنَّ أعلى الصِّنَاعَاتِ الإنسانيَّةِ مَنْزِلَةً، وأَشْرَفَهَا مَرْتَبَةً صِنَاعَةُ الفلسفة التي حدُّها: عِلْمُ الأشياءِ بحقائقِها بِقَدْرِ طَاقَةِ الإنسان؛ لأنَّ غَرَضَ الفيلسوف في عِلْمِه إصابةُ الحَقِّ، وفي عَمَلِه العملُ بالحقِّ.

ولنحاول الآن سريعا الوقوف على أصول فلسفتِه ورؤوس أفكاره. تدور فلسفة الكندي حول الرياضيَّات والفلسفة الطبيعية. وعنده أنَّ الإنسان لا يكون فيلسوفا حتى يدرس الرياضيات؛ وقد طبَّق الرياضيات في بحوثه الطِّبِّيَّة وفي دراسته للموسيقى؛ فالطِّبُّ والهندسة يقومانِ على التَّناسُب الهندسيِّ؛ فالأدوية قِوَامُها تَنَاسُب في الكيفيَّات الأربع: الحار والبارد والرطب واليابس

ذهب الكندي إلى أنَّ العالَم مخلوق لله، وفِعلُ الله في العالَم إنما يكون بوسائط كثيرة؛ فالأعلى يُؤثِّرُ فيما دونه، أمَّا المَعْلُول فلا يُؤَثِّرُ في العِلَّة؛ لأنَّها أرقَى منه في مرتبة الوجود، وكل ما يقع في الكون يرتبط بعضُه ببعضٍ ارتباط علَّةٍ بمَعلُول. ونستطيع من معرفتنا بالعلل أن نتنبَّأَ بالمُستَقْبل؛ هذا لأنَّ كلَّ موجود في الكون يعكس سائر الموجودات كأنه مرآة لها؛ فإذا عرفتَ موجودًا واحدًا عرفتَ بقيَّةَ العالَم. وهو ذو مذهب عقليٍّ؛ إذ يرى أنَّ وجودَ المادَّةِ مرهون بتصوُّرِها في العقل؛ فما لا يمكن تصوُّره عقليًّا يستحيل عليه الوجود الماديُّ. ويذهب إلى أنَّ النفس الإنسانية جوهر بسيط خالد، هبطَ من عالَم العقل مُزَوَّدًا بذكريات من حياته في ذلك العالَم؛ فالنَّفس الإنسانيَّة من حيث جوهرها مستقلَّة عن مادَّة الجسم، لكنها مقيدة بمادته من حيث أفعالها؛ لأنَّ الجسم هو وسيلة الأداء. واتصال النفس بالجسم مصدرُ ألم لا ينقضي؛ لأنه مصدر رغبات كثيرة لا سبيل إلى تحقيقها جميعًا؛ فمن شاء نعيما حقيقيًّا عليه أنْ يستغرق في تأملاته العقلية، وفي طلب العلم، وتقوى الله. أما عن نظرية المعرفة عنده، فهي ثنائية؛ فالجسم قادر على إدراك الجزئيات بالحواس، والعقل قادر على إدراك الكُلِّيَّات

التوفيق بين الفلسفة والدين

ذ♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

يملك الكندي أصالة الفيلسوف، وقد وجدتِ الفلسفة في كينونته الثقافية مكانها الراسخ الفاعل، ومن هنا كانت نزعتُه الفلسفية تضعه أحيانا على المُفْتَرَق الذي كانت ظروف مجتمعه تقتضي أن يتجاوزه بالفعل. إننا نكاد نُحِسُّ المعاناة العميقة الخفية عند الكندي؛ نعني معاناة الصراع بين انتمائه اللاهوتي ونزعته الفلسفية التي كان عليها أن تستجيب لظروف المجتمع العربي الإسلامي في القرن الثالث الهجري، ويبدو أنَّها كانتْ مؤهَّلةً فعلا، من حيث الإعداد الذاتي، أن تستجيب لهذه الظروف، لولا سيطرة الانتماء القويَّة[6]. ولعلَّ محاولتَه الجمع بين الفلسفة والدين إحدى تعبيراته عن هذا القلق وتلك المعاناة الكامنة.
عُنِي الكندي بالتوفيق بين إيمانه وتفلسفه لا لدافع شخصي فحسب، ولكن ليُسَوِّغَ وجود الفلسفة، ويُكْسِبها حقَّ المواطنة في مجتمع يميل إلى رفضها، وربما كان مسلكُه في هذا التوفيق أكثر سدادًا من مسلك كلٍّ من الفارابي وابن سينا. والسؤال الآن: ما هي الدوافع والأُسُس التي أقام عليها الكندي محاولتَه في الجمع و التوفيق بين الفلسفة والدين؟
1- إنَّ الدين يلتقي مع الفلسفة في الغاية. فالفلسفة تهدف إلى عِلْمِ الأشياء بحقائقِها بقدر طاقة الإنسان، وتلك هي نفسها غاية الدين التي يعمل عليها، وجاء بها الرُّسُل الصَّادِقون عن الله في مجال العقيدة والعمل؛ فالغاية واحدة، أو على الأقلِّ مُتَقَارِبَة، والموضوع أيضا كذلك متقارب. يقول الكندي: “ينبغي لِمَن أراد عِلْمَ الفلسفة أن يُقَدِّمَ استعمال كتب الرياضيات والمنطقيات على مراتبها… ثم الكتب على الأشياء الطبيعية… ثم ما فوق الطبيعيات، ثم كتب الأخلاق وسياسة النفس بالأخلاق المحمودة، ثم ما بقي مما لم نُحَدِّد من العلوم مُرَكَّب من الذي حدَّدنا”. وتلك المباحث بجانبيها النظري والعملي تقابل أحكام العقيدة والعمل في المباحث الشرعيَّة.

2- إذا كان منهج الفلسفة يقوم على العقل، بينما يستَنِدُ الدين (الإسلام) إلى الوحي؛ فإنَّ كلَّ ما جاء به الوحي (القرآن) يُمكِن في نظرِ الكندي أنْ يُفْهَمَ بالمقاييس العقليَّة، التي لا يدفعها إلا من حُرِمَ صورة العقل، واتَّحَد بصورة الجهل كما يقول. فالمنهجان مختلفان، ولكنهما لا يتناقضان على أي حال، بل يتضافران ويتكاملان.
3- والفلسفة كذلك لا تُعَدُّ بديلا عن الدين، تُغْنِي عنه، كما قد يذهب إلى ذلك بعض الملاحِدَة؛ فالفلسفة تُوصِلُ بعد الجهد إلى بعضِ الحَقِّ، وربما قصرت عن البعض الآخر. لذلك يؤلِّف الكندي رسالة في (تثبيت الرسل عليهم السلام)؛ لأنَّ النبوة فعل إلهي في نفوس الأنبياء، ولأنَّ علومها لدى من تأمَّلَها وأَحْسَنَ فهمَها تبدو موجَزة، بيِّنَة، محيطة بالمطلوب، قريبة المسلك إلى العقول والقلوب.
4- ولأنَّ الحكمة ضالة المؤمن، فلا ينبغي إهمال الفلسفة مهما كان حظُّها من تحقيق الغاية. والحضارة في نظر الكنديِّ لا وطن لها، وهي عمل تراكمي تسهم فيها جميع الأمم؛ لذا يقول: “وينبغي ألا نستحيَ من استحسان الحقِّ، واقتناء الحقِّ من أين أتى، وإنْ أتى من الأجناس القاصيَة عنا، والأمم المُبَاينة لنا”. ويقول:

“ينبغي أن يعظم شُكْرُنا للآتين بيسيرِ الحَقِّ فضلا عمَّن أتي بكثير عن الحقِّ؛ إذ أشركونا في ثمار فكرهم، وسَهَّلُوا لنا المَطالِبَ الخَفِيَّة؛ بما أفادونا من المُقَدِّمات المُسَهِّلَة لنا سبيلَ الحق”.

5- وأخيرا، يلجأ الكندي إلى فكرة تَتَرَدَّدُ كثيرا في مجال الدفاع عن الفلسفة؛ هي أنه من الضروري لمن يعارض دراسة الفلسفة أن يدرسها هو أولا. والمعارض إما أن يقول أن اقتناءها يجب أو لا يجب؛ “فإن قالوا: إنه يجب، وجب طلبُها عليهم، وإن قالو: إنها لا تجب، وجب عليهم أن يحصروا عِلَّة ذلك، وأن يُعطوا على ذلك برهانا[7]“.
إن الناظر في فكر الكندي، يرى أنه لم يُحاوِل التوفيق بين الدين والفلسفة بمعناهما العام، ولكنَّه حاول أن يوفق ويجمع بين الإسلام المُتأثِّر بالفكر الاعتزاليِّ، وما ارتآه من الفلسفة اليونانيَّة؛ فهو أول من تبنَّى أرسطو من فلاسفة الإسلام، بل يعد المؤسس الأوَّل للفلسفة المشَّائية وواضع أصولها الأولى في السياق الإسلامي. لذا لم يكن غريبا أن يحاولِ الاستدلال على وجود الله، ووحدانيَّته، وحدوث العالَم عن طريق النَّظر الفلسفي وحده؛ ليوضِّح فكرتَه تلك؛ أنَّ إيمانه الخاص، وعقيدته الدينيَّة، يمكن الوصول إليها عن طريق النظر العقلي الخالص، دون اعتمادٍ على النصِّ وحده.

ولة الكندي (185 – 256هـ / 801-870مكان الكندي فيلسوف العرب الأول الذي واجه لأول مرة الفلسفة اليونانية في المحيط الإسلامي، حيث خالف أرسطو في نقطة الخلق والرعاية واتصال الله بالعالم وإحاطته علماً بذلك، فقد كان أرسطو يرى أن لا علاقة بين الله والعالم إلا في جانب العلة الأولى التي بدأ بها الحركة والحياة في العالم، وبعد ذلك لا يليق بالمحرك أن يتصل بالعالم، وكأنه لم يبق للإله إلا التأمل في ذاته.

فحيث قال أرسطو بقدم العالم، قال الكندي بحدوثه، وحيث يقطع أرسطو الصلة بالله والعالم بعد ذلك، يحتفظ الكندي بتأكيد دوام الصلة والرعاية، ويستند الكندي في كثير من آرائه للقرآن للترجيح.

مؤلفاته
يلاحظ أن أغلب مؤلفات الكندي متصلة بالعالم الطبيعي وظواهره، ولم تظفر المسائل الميتافيزيقية برسائل كثيرة من إنتاجه، ولعل ذلك راجع لعدم قناعة الكندي بمعالجات الفلسفة اليونانية لهذه القضايا، لا سيما وأن الإسلام قد حسم هذه المشكلات الميتافيزيقية كأصل الكون، وحقيقة الخلق المباشر، والعناية الإلهية، وغيرها.

كما كان الكندي عالم كلام على مذهب المعتزلة، وهو بذلك مقتنع بالأدلة العقلية بشقيها المأثور الموجود في الوحي، وما أنتجته قرائح المتكلمين اهتداء بإرشاد القرآن، لذلك فكان للدين وللوحي والنبوة مكانة ترجح ما يأتي عبرها، على ما يأتي من سواها من فلسفات.

مهد الكندي للفلسفة في المحيط الإسلامي، وجعل الاشتغال بها ضرورة، لكنه لم يرجح آراء الفيلسوف على ما يأتي به النبي، ولم يفضل ما يأتي عن طريق الفلسفة على ما يأتي به الدين.

موقف الكندي من النبوة
لم يقصر الكندي وسائل المعرفة على الحس والعقل، بل أضاف إليهما الإشراق الذي تمثل قمته النبوة، ويؤكد أن هذا العلم خاص بهؤلاء الذين اصطفاهم الله، وهذا الاصطفاء ينأى أن يكون ما يأتي به هؤلاء مكتسباً بالبحث والدراسة، فلو أراد الفيلسوف الإجابة عن ذات الأسئلة التي طرحت على الرسل؛ فلن يتمكن من الإجابة عليها بمثل الوضوح الذي أجاب به الأنبياء، ويمثل لذلك برد الوحي على سؤال (من يحيي العظام وهي رميم؟) فكانت خلاصة الآيات تبين أن العظام قد وجدت بالفعل، بعد أن لم تكن، وعليه فمن الممكن إذا صارت رميماً أن توجد من جديد، فجمع المتفرق أسهل من صنعه من العدم، وإن تساوى الأمران بالنسبة لله تعالى، فالقوة التي ابتدعت، يمكن أن تعيد ما أبادت، إن هذا من أعظم الأجوبة برأي الكندي، وهو ما حجبت عنه العقول الجزئية، ويوضح الكندي لرواد الفلسفة أن النبوة ليست إلا مظهراً من مظاهر العناية الإلهية بهذا الكون.

ويظهر لنا أن الكندي أعلى من صوت الدين، وعليه فلم يفكر بالتوفيق بين الطرفين إلا بعد أن تيقن أن الفلسفة الحقة كما عرفها: “علم الأشياء بحقائقها” (علم الربوبية، وعلم الوحدانية، وعلم الفضيلة…) لذلك فصلتها قوية بالدين، فعلم الأشياء بحقائقها هي خلاصة المهمة التي جاء بها الرسل، وبالتالي فقد جمع الكندي بين الدين والفلسفة الحقة على أهداف وحقائق واحدة، ويرفض الكندي من وسم اقتناء الفلسفة بمعنى علم الأشياء بحقائقها بالكفر، ويرى أن دراستها واجبة على أن تسير في ركاب الدين، وأن تخدمه بإخلاص، عبر إثباتها بالأدلة العقلية ما جاء به الرسل، لتنتهي بعد كفاحها إلى ما انتهى إليه الدين، في الحقائق الكبرى المتصلة بالإله والعالم، وبقية الغيبيات.

،المصادر والمراجع

التيار المشائي في الفلسفة الإسلامية، حسن الشافعي، ص 128، دار البصائر، الطبعة الأولى 2014. [2] الموسوعة الفلسفية المختصرة، نقلها عن الإنجليزية: فؤاد كامل – جلال العشري – عبد الرشيد الصادق، ص 262:263، مكتبة الأنجلو المصرية. [3] الفلسفة الإسلامية في المشرق، فيصل بدير، ص 111، مكتبة الأسرة 2016. [4] الفلسفة الإسلامية في المشرق، فيصل بدير، ص 115:116، مكتبة الأسرة 2016. [5] الموسوعة الفلسفية المختصرة، نقلها عن الإنجليزية: فؤاد كامل – جلال العشري – عبد الرشيد الصادق، ص 263، مكتبة الأنجلو المصرية. [6] النزعات المادية في الفلسفة العربية والإسلامية – الكندي – الفارابي – ابن سينا، حسين مروة، ص 79:80، المجلد الرابع، دار الفارابي، الطبعة الأولى 2002. [7] التيار المشائي في الفلسفة الإسلامية، حسن الشافعي، ص 18:21، دار البصائر، الطبعة الأولى 2014.

1-تقديم عام لمجزوءة الفلسفة

1-مادة الفلسفة

2- المستوى جذع مشترك, جميع الشعب والمسالك

3- دروس الأسدس الأول

4- مجزوءة ما الفلسفة

5- الموضوع تقديم عام لمجزوءة الفلسفة

6- الأستاذ محمد بضاض

تقديم إشكالي

إن كلمة «الفلسفة» ليست غريبة عن مسامعنا، فهي متداولة بشكل واسع في لغتنا اليومية، إلا أن استعمالها كثيرا ما يتميز بنوع من الاستهزاء والتهكم، حيث أنها توصف بالثرثرة والكلام الفارغ وغير المفيد، وتنعت بالتعقيد والغموض، والغريب هو أن الفلسفة تتوخى الوضوح والدقة حتى في الأمور التي يعتقد الناس عادة بوضوحها، كما أنها تتهم بكونها أفكارا غير مألوفة، والحقيقة أن في هذه التهمة نصيب من الصحة لأن التفلسف في أحد معانيه هو خروج عن المعتقدات السائدة، والأفكار المألوفة، ونحن ننطق كلمة «فلسفة» ندرك فجأة أننا نصدر كلمة يونانية الاشتقاق اللغوي، حيث يمكن تجزئة اللفظ اليوناني «فيلوسوفيا» إلى مفردتين وهما: «فيليا» وتعني المحبة، و«سوفيا» وتعني الحكمة، ومن ثمة تكون الفلسفة هي محبة الحكمة، والذي يمارس هذا التعلق بالحكمة يسمى «فيلوسوفوس» أي الفيلسوف، ولمعرفة الفلسفة معرفة وافية لا بد من الإجابة عن الأسئلة التالية:

  • كيف نشأت الفلسفة؟
  • ما أهم المراحل في تاريخها؟
  • ما هي مظاهر التفلسف؟
  • ما هي أدوات التفكير الفلسفي؟

نشأة الفلسفة

تقديم

عندما وعى الإنسان ذاته في هذا العالم تساءل حول حقيقة وجوده، ووجود هذا العالم من حوله، وبما أن تفكيره كان في مرحلته البدائية، فقد اكتفى ببعض الإجابات البسيطة، دينية وأسطورية، ترجع أصل العالم إلى صراع بين قوى غيبية (الآلهة)، لكن ظهر بعد ذلك رجال لم يقتنعوا بهذه الإجابات، فأعادوا طرح نفس الأسئلة، لكنهم قدموا هذه المرة إجابات تعتمد على العقل، هذه الإجابات هي التي تسمى “الفلسفة”.

  • فأين ظهرت الفلسفة؟ ومتى؟
  • لماذا ظهرت في هذا البلد دون ذاك؟
  • ما هي الظروف التي أدت إلى ظهور الفلسفة؟

إطار النشأة

الإطار المكاني

لقد ظهرت الفلسفة لأول مرة في بلاد اليونان التي تحدها جنوبا جزيرة «كريت» التي شهدت بداية الحضارة والمدنية، وشرقا آسيا الصغرى التي كانت تعرف ازدهارا صناعيا وتجاريا وفكريا، أما غربا فتحدها إيطاليا، وأخيرا تحدها من جهة الشمال مقدونيا، تتميز بلاد اليونان من الناحية التضاريسية بالحواجز الطبيعية كالمرتفعات (الجبال والهضاب) مما جعلها عبارة عن مناطق منعزلة، ومع صعوبة المواصلات فقد تطورت كل مدينة في استقلال عن المدن الأخرى، حيث اعتمدت كل مدينة على الاكتفاء الذاتي اقتصاديا، كما كان لكل مدينة نظامها السياسي الخاص وحكومتها المستقلة سياسيا، ودينها وحضارتها المتيزة ثقافيا، وأشهر مدنها مدينتي إسبرطة وأثينا، حيث تقع مدينة أثينا في شرق بلاد اليونان، مما جعل منها البوابة التي يدخل من خلالها ترف وحضارة مدن آسيا الصغرى إلى المدن الإغريقية الناشئة، وكانت تملك ميناء وأسطولا تجاريا بحريا كبيرا، بعد أن حولت أسطولها العسكري الذي ساهمت به إلى جانب إسبارطة لصد أطماع الفرس الاستعمارية زمن داريوس، فأصبحت من أعظم المدن التجارية في العالم القديم.

الإطار الزماني

لقد ظهرت البوادر الأولى للتفكير الفلسفي في بداية القرن 6 ق.م في مدينة ملطية على ضفاف آسيا الصغرى، حيث أقام الأيونيون مستعمرات غنية ومزدهرة، وقد كان ظهورها على يد طاليس، وأنكسمندر، وأنكسمانس، الذين أرجعوا أصل الكون إلى قوى طبيعية: الماء، الهواء…، لكن الفلسفة بشكلها المكتمل لم تظهر إلا في القرن 4 ق.م بأثينا مع فلاسفة اليونان الكبار سقراط، أفلاطون، أرسطو.

فعل النشأة

لقد نشأت الفلسفة بفعل توفر سلسلة كاملة من الشروط في بلاد اليونان، ما بين القرنين 8 و4 ق.م وهي:

  • على المستوى الاقتصادي: نظرا لارتباط الإغريق بالبحر فقد ازدهرت لديهم الملاحة والتجارة والصناعة، مما أدى إلى بروز تقسيم العمل والمبادرة الفردية الحرة، كما ظهر النقد في المبادلات التجارية بدل المقايضة.
  • على المستوى الاجتماعي: ظهور الطبقات الاجتماعية نتيجة تقسيم العمل (الأحرار/العبيد) إضافة إلى ظهور المدينة – الدولة، التي سمحت ببزوغ عقلية جديدة، وقد اتسمت بالانسجام والتناغم، سواء على صعيد الفضاء الهندسي أو الجماعة البشرية التي تقطنها.
  • على المستوى السياسي: لقد تميزت المدينة اليونانية بسيادة الديمقراطية التي تمثلت في المساواة بين المجال الحضري والمجال القروي الذي كانت تشمله، فللقرويين والحضريين نفس الحقوق ونفس الواجبات، حيث يحتكمون إلى نفس المحاكم، ينتخبون نفس النواب، ويجتمعون تحت قبة نفس البرلمان.
  • على المستوى الثقافي: لقد كانت الثقافة مشتركة ومشاعة بين اليونانيين، ولم تعد امتيازا لبعض العائلات أو بعض الأدباء والمثقفين، نتيجة انتشار الكتابة الأبجدية التي أتاحت للمواطنين جميعا تعلم القراءة والكتابة، كما أن المجال كان مفتوحا أمامهم للمشاركة في الحفلات والحضور إلى المسارح للاستمتاع بجميع الإبداعات الفنية والأدبية.
  • على المستوى الفكري: لقد كان للديمقراطية السياسية، وإشاعة الثقافة تأثير على تطور الأفكار عند اليونان، فبعد أن كانت الحقيقة تعد سرا غيبيا يوحى، محروسا من قبل أسر معينة، صارت المعارف والتقنيات الذهنية معروضة أمام الجميع وفي واضحة النهار، وأصبحت قواعد العمل السياسي المتمثلة في الإشهار والنقاش الحر والحجاج، قواعد للفكر كذلك، تتجلى في نشر المذاهب والنظريات، وإخضاعها للنقد والمناظرة، وإعطاءها صورة استدلالية برهانية، وهذه هي مظاهر التفكير الفلسفي.

استنتاج

إن الفلسفة ليست معجزة إغريقية خص بها آلله اليونان دون غيرهم من الشعوب والأمم، وإنما هي ظاهرة تاريخية جاءت نتيجة تفاعل عدة شروط تاريخية: اقتصادية، اجتماعية، سياسية، ثقافية.

لحظات أساسية في تطور الفلسفة

إن الفلسفة ليست استثناء يونانيا، بل إن هذا الشكل من التفكير الإنساني قد ظهر في حضارات ومجتمعات أخرى بعد أفول الحضارة اليونانية، كالحضارة العربية الإسلامية، والحضارة الأوربية.

  • فما هي خصائص الفلسفة الإسلامية؟
  • وبما تتميز الفلسفة الغربية الحديثة؟
  • وما هي القضايا التي اهتمت بها الفلسفة المعاصرة؟

الفلسفة الإسلامية

تمهيد

لقد أنشأ الخليفة العباسي المأمون “بيت الحكمة”، وأمر بترجمة كل العلوم والمعارف اليونانية وعلى رأسها الفلسفة، مما أتاح للكثير من المفكرين العرب والمسلمين التعرف على التفكير الفلسفي، فاستوعبوه وأبدعوا فيه، فتمخض عن ذلك ظهور الفلسفة الإسلامية.

  • فما هي الفلسفة الإسلامية؟
  • وما علاقتها بالدين الإسلامي؟
  • وما موقف الشرع من التفكير الفلسفي؟

ماهية الفلسفة الإسلامية

تعتبر الفلسفة من أسمى الإبداعات الفكرية البشرية، ويعرفها الكندي بكونها معرفة حقائق الأشياء حسب قدرة الإنسان، لأن غاية الفيلسوف هي توخي الحقيقة على مستوى علمه وعمله، وأعلى درجة من درجات التفلسف هي الفلسفة الأولى (الميتافيزيقا)، التي تعنى بمعرفة الحقيقة الأولى (آلله)، التي هي سبب كل الحقائق الأخرى، لأن علم العلة أي السبب، أهم من علم المعلول أي النتيجة.

العلاقة بين الفلسفة والدين

إن الأفكار الواردة في الملة الفاضلة (الدين) كلها حقائق، والحقيقة في نظر أبو نصر الفارابي هي ما تيقن منه الإنسان إما عن طريق البداهة أو ببرهان، والملة الفاضلة شبيهة بالفلسفة، وبما أن الفلسفة فيها جزء عملي وآخر نظري، فإن الجزء العملي من الفلسفة هو الذي يعطي براهين (أسباب، وشروط، وغايات) الأفعال الواردة في الملة، كما أن الجزء النظري من الفلسفة هو الذي يعطي براهين الأفكار الواردة في الملة الفاضلة، إذن فالفلسفة حسب الفارابي، هي التي تعطي براهين ما تحتوي عليه الملة الفاضلة.

موقف الشرع من الفلسفة

مدخل

لقد تم القضاء على الفلسفة في المشرق بسبب الحملة المعادية التي تعرضت لها على يد الكثير من الفقهاء والعلماء، وعلى رأسهم أبو حامد الغزالي الذي ذهب إلى حد تكفير الفلاسفة في كتابه «تهافت الفلاسفة»، لكنها انبعثت من جديد في المغرب ووصلت أوجها على يد ابن رشد الذي دافع عن ممارسة التفلسف، ورد على الغزالي فلسفيا في كتابه “تهافت التهافت”، وفقهيا في كتابه “فصل المقال”.

الفلسفة عند ابن رشد

إن التفلسف في تصور أبو الوليد بن رشد هو نظر عقلي وتأمل في الموجودات، لغاية معرفة صانعها (آلله)، وذلك بواسطة الاعتبار، أي استخراج المجهول من المعلوم، وهو المسمى برهانا، لأنه كلما كانت معرفتنا بالصنعة أتم، كانت معرفتنا بالصانع أكمل.

فتوى ابن رشد

إن التعاطي للفلسفة حسب ابن رشد هو أمر مأمور به من جهة الندب (مستحب) بالنسبة لعامة الناس، ودليله في ذلك الآية التالية ﴿ أَولَم ينظُروا في ملَكُوت السّماوات والأَرضِ وما خلَق آللهُ من شيءٍ ﴾، ومن جهة الوجوب (فرض) بالنسبة للعلماء، ودليله في ذلك الآية التالية ﴿ فاعتبِروا يا أُولي الأَبصارِ ﴾.

استنتاج

إن العلاقة التي ربطت الفلسفة الإسلامية بالدين الإسلامي هي علاقة توافق وتكامل، على عكس الفلسفة اليونانية التي كانت متناقضة ومتصارعة مع الأساطير والمعتقدات الدينية لدى اليونان.

الفلسفة الغربية الحديثة

تمهيد

شهدت أوربا انطلاقا من عصر النهضة تطورا شاملا تمثل في تطور الرأسمالية اقتصاديا، وصعود البورجوازية اجتماعيا، وظهور الدولة الوطنية، وانتشار الحرية والديمقراطية سياسيا، وتشجيع الإبداع والعلوم، وانتشار المذاهب الفكرية ثقافيا، في خضم هذه التطورات ظهرت الفلسفة الغربية الحديثة انطلاقا من رافدين فلسفيين وهما رافد يوناني يتمثل في الرجوع إلى التراث الفلسفي اليوناني قصد غربلته، وإعادة إحياءه، ورافد إسلامي يتمثل في الاستفادة من إضافات وإبداعات الفلسفة الإسلامية، وخاصة الرشدية منها.

  • بماذا تتميز الفلسفة الغربية الحديثة؟
  • ما هي الخطوات التي ينبغي إتباعها للوصول إلى الحقيقة؟

الفلسفة العقلانية الديكارتية

إذا كان عامة الناس يصلون إلى الحقيقة بواسطة بحوث مضطربة تعتمد على الصدفة، فإن الفيلسوف في نظر رونيه ديكارت يصل إليها بواسطة منهج يعتمد قواعد يقينية، يبدأ بدراسة الأمور البسيطة والمنظمة، لينتهي إلى معرفة الأشياء المعقدة والصعبة.

الفلسفة النقدية الكانطية

إن العقل في تصور إيمانويل كانط عبارة عن مبادئ وتخطيطات خاصة تصدر أحكاما وفق قوانين ثابتة وضرورية، وينبغي عليه أن يتجه نحو الطبيعة ماسكا بإحدى يديه مبادئه، وباليد الأخرى التجربة، وأن يرغمها على الإجابة عن أسئلته لكي يبني الحقيقة.

الفلسفة الجدلية الهيغلية

لقد أحدث فريدريك هيغل منهجا ثلاثي الأبعاد في المعرفة أطلق عليه اسم الديالكتيك (الجدل)، يتكون من ثلاث لحظات وهي: القضية، نقيض القضية، التركيب، ينطلق من القضية التي تدخل في صراع مع نقيض القضية، فيصدر عنهما تركيب، هذا التركيب يتحول بدوره إلى قضية تدخل في صراع مع نقيض القضية، فيصدر عنهما تركيب، وهكذا دواليك.

استنتاج

إذا كان مركز الاهتمام في الفلسفة الإسلامية يتمثل في معرفة آلله، فإن الفلسفة الغربية الحديثة قد اهتمت أكثر بالإنسان، وقدرة الذات على الوصول إلى الحقيقة.

الفلسفة المعاصرة

تمهيد

إن التاريخ المعاصر الذي يعيشه العالم الآن قد بدأ انطلاقا من منتصف القرن 19م مع الثورة الصناعية بإنجلترا، وسيادة ظاهرة الاستعمار، وقد وصل حاليا إلى مرحلة تسمى العولمة، وقد تميزت هذه الفترة بسيادة العلم وسيطرة التكنولوجيا، والاهتمام أكثر بحقوق الإنسان، في هذا السياق الدولي ظهرت الفلسفة المعاصرة التي اتخذت بعدا كونيا.

  • فما هي القضايا التي اهتمت بها الفلسفة المعاصرة؟

الفلسفة والعلم

إن المعرفة العلمية في تصور إدغار موران ليست انعكاسا للواقع، بل ترجمة له، تحوله إلى نظريات متغيرة قابلة للتكذيب، لأن النظريات العلمية فانية، إن المعرفة العلمية تتطور على المستوى التجريبي بمراكمة «الحقائق»، وعلى المستوى النظري بإلغاء الأخطاء، إن العلم إذن هو معركة من أجل بلوغ الحقيقة من خلال الصراع مع الخطأ.

الفلسفة والإنسان

إن الإنسان في نظر جان بول سارتر كائن يتميز بخاصية أساسية هي الحرية التي تتمثل في قدرته على أن يخلق من ذاته ما يشاء في المستقبل، وإرادته في الاختيار بين كل الإمكانات المتاحة أمامه، كون هذه الحرية مرتبطة بالمسؤولية، وهي ليست مسؤولية اتجاه ذاته فقط، بل مسؤولية تجاه الإنسانية جمعاء، لأن الإنسان لا يختار الشر، بل ما يختاره دائما هو الخير لذاته ولجميع الناس.

الفلسفة والحقيقة

إن الحقيقة في تصور فريديريك نيتشه هي مجموعة حية من الاستعارات والمجازات والتشبيهات بالإنسان، لكن مع طول استعمالها غدت تتميز بالشرعية والسلطة والإكراه، إن الحقائق أوهام نسينا أنها كذلك، إن الحقيقة تقتل، بل إنها تقتل نفسها كذلك عندما تكتشف أنها عبارة عن أوهام.

استنتاج

إن الفلسفة عندما ظهرت كانت غايتها هي البحث عن الحقيقة، لكن هذه القضية ظلت محور اهتمامها إلى حدود الفترة المعاصرة.

استنتاج حول المحور

إن الفلسفة منذ ظهورها قد عالجت قضايا متنوعة، لكن كانت تركز في كل فترة على قضية معينة أكثر من غيرها من القضايا، فالفلسفة اليونانية اهتمت بحقيقة الوجود، في حين ركزت الفلسفة الإسلامية على الأمور الدينية، أما الفلسفة الحديثة فقد كرست جهدا كبيرا لوضع منهج يوصل إلى الحقيقة، وأخيرا نجد الفلسفة المعاصرة اهتمت أكثر بنقد المعرفة العلمية.

مظاهر فعل التفلسف

تمهيد

إن كنا نقصد بالتفلسف طرح أسئلة حول حقيقة الذات والوجود، فإننا سنجده عند كل الناس، لأن كل فرد يطرح مثل هذه الأسئلة على ذاته، بل سنجده حتى عند الأطفال، أما إن كنا نقصد به طريقة خاصة في التفكير تختلف عن الطرق أخرى كالتفكير الخرافي – الأسطوري – الديني، والتفكير العلمي…، فإن للفلسفة معالم ومظاهر تميزها عن باقي الأشكال الأخرى من التفكير.

  • فما هي المظاهر الأساسية التي تميز التفكير الفلسفي؟

العقلانية في التفكير

إن التفكير الفلسفي يقدم ذاته كتفكير عقلاني، أي تفكير مبني على العقل، والعقل في تصور أرسطو ينبني على أربعة مبادئ أساسية وهي:

مبدأ الهوية

أ هي هي أ، ويقضي بأن الشيء يكون دائما مطابقا لذاته، فالجبل هو هو الجبل وليس نهرا، والوجود هو هو الوجود وليس عدما.

مبدأ عدم التناقض

لا يمكن ل: أ أن تكون في نفس الوقت لا – أ ، ويقضي بأن النقيضين لا يجتمعان، وأن القضية ونقيضها لا يكونان معا صادقتين، بل إذا كانت أحدهما صادقة كانت الأخرى كاذبة بالضرورة، إذا كانت القضية أ = ب قضية صادقة، فإن نقيضها أ ≠ ب تكون قضية كاذبة بالضرورة.

مبدأ الثالث المرفوع

بين أ و لا – أ لا وجود لطرف ثالث، ويقضي بأنه لا وسط بين الصدق والكذب، فإما أن تكون قضية ما صادقة، وإما أن تكون كاذبة، ولا يمكن أن تكون صادقة وكاذبة في آن واحد، ومن جهة واحدة.

مبدأ السبب الكافي

لا شيء من لا شيءـ ويقضي بأنه لا يمكن لأي قضية أن تكون صادقة، ولا لواقعة أن تكون موجودة، دون سبب كافي يبرر لماذا تكونان على هذا النحو وليس على نحو آخر، وهو الذي يسمى بمبدأ العلية (السببية)، أي أن كل شيء موجود، الكرسي مثلا، لابد له من أربع علل وهي:

  • العلة المادية: المادة التي صنع منها الكرسي، أي الخشب.
  • العلة الصورية: صورة الكرسي، أي شكله وهيئته.
  • العلة الفاعلة: الصانع الذي صنع الكرسي، أي النجار.
  • العلة الغائية: الغاية التي من أجلها صنع الكرسي، أي الجلوس.

الدهشة الفلسفية

إذا كان الإنسان العادي يندهش من الظواهر الغريبة، فإن الفيلسوف يندهش من الأمور المألوفة والعادية، مثل الاندهاش من وجوده الخاص، ووجود العالم من حوله، إن الاندهاش من الظواهر العادية هو الذي يدفع الإنسان إلى التفكير الفلسفي، حسب شوبنهاور، إن الدهشة الفلسفية هي نتيجة لعدة شروط وهي:

  • درجة عالية من استعمال العقل.
  • الأمور المتعلقة بالموت.
  • التفكير في الألم.
  • التفكير في بؤس الحياة.

منهج الشك

لقد قدم لنا رونيه ديكارت منهجا إذا ما التزمنا بخطواته وشروطه سنصل حتما إلى الحقيقة، وهذا المنهج هو منهج الشك، أي الشك في كل الأحكام المسبقة، سواء التي ورثناها أو تلقيناها من العالم الخارجي، وخاصة تلك التي تبدو معقدة وغامضة، والتي تتشبث بنفوسنا تشبثا كبيرا، وأن لا نقبل إلا الأفكار البسيطة والبديهية، أي الواضحة بذاتها والتي لا تحتاج إلى برهان، فهذه الأفكار وحدها يمكن اعتبارها أفكارا حقيقية.

البحث عن الحقيقة

إن الفلسفة على حد تعبير اليونانيين نوع من المغامرة الاستكشافية التي نقوم بها لذاتها، إن جوهر الفلسفة هو البحث عن الحقيقة لا في امتلاكها، إن الاشتغال بالفلسفة حسب ياسبرز معناه المضي في الطريق، والأسئلة في الفلسفة أكثر أهمية من الأجوبة، فكل جواب يصبح بدوره سؤالا جديدا.

استنتاج

إن التفكير الفلسفي ينبني على أساس العقل، ويتخذ الشك منهجا له، وإذا كان دافعه الاندهاش من الأمور العادية، فإن غايته هي البحث عن الحقيقة.

أدوات التفكير الفلسفي

تقديم

إذا كانت الفلسفة طريقة خاصة في التفكير كما ذهب إلى ذلك فريدريك هيغل، فإن هذا الشكل من التفكير له معالمه التي تميزه عن باقي الأشكال الأخرى من التفكير، وله نمط اشتغاله الذي يرتكز على مجموعة من الآليات والتقنيات الخاصة بالفلسفة.

  • فما هي الأدوات التي يستعملها التفكير الفلسفي؟

1-طرح السؤال

إن أهم أداة يقوم عليها التفكير الفلسفي هي السؤال، ويختلف السؤال الفلسفي مثل «ما هو الوجود؟»، عن السؤال العادي مثل «أين توجد المحطة؟»، بكون الأول يتجه نحو الأسس العميقة للموضوعات التي يعالجها، إن الأسئلة الفلسفية في نظر راسل تعمل على إغناء تصورنا للممكن، وإثراء خيالنا العقلي، كما تحارب نظرتنا الدوغمائية (المتحجرة) التي تؤدي إلى انغلاق فكرنا، وتعمل في المقابل على توسيع هذا الفكر ليصبح بشساعة الكون الذي يتأمله.

2-بناء المفهوم

يكمن موضوع الفلسفة حسب جيل دولوز في بناء وإبداع مفاهيم جديدة بواسطة الحدس، وتكون قادرة على حمل تصورات الفيلسوف الخاصة، إن المفهوم هو الأداة التي تنقل اللغة من مستواها العادي والطبيعي، إلى مستواها الفلسفي المجرد.

3-البرهنة والحجاج

تعتبر البرهنة والحجاج حسب كوسيطا من الأدوات المهمة في التفكير الفلسفي.

  • البرهنة: إن البرهنة هي إقامة علاقة ضرورية بين المقدمات والنتائج، ونبحث فيها عما إذا كان الاستدلال يأخذ صورة القياس ويستجيب لمقتضيات المنطق.
  • الحجاج: يبحث الحجاج عما إذا كانت قضية ما صادقة أو خاطئة بالنسبة للمتحاور، كما يهتم بكيفية تسلسل القضايا داخل النص.

4-النسقية

إن النسق في نظر إيمانويل كانط عبارة عن وحدة معارف مختلفة، خاضعة لفكرة تتمثل في المفهوم العقلي لصورة الكل، إلا أنه داخل هذا الكل تتحدد كل عناصره المختلفة، كما تتحدد مكانة كل عنصر على حدة، إذن فالنسق شكل عضوي، وليس مجموعة مبعثرة.

5-استنتاج

للتفكير الفلسفي أدوات خاصة به وهي: السؤال، المفهوم، النسق، البرهنة والحجاج…، وتشكل كلها سلسلة متكاملة تسهم في معرفة واستكشاف حقيقة الإنسان والوجود.

استنتاجات عامة حول مجزوءة الفلسفة

إن الفلسفة ظاهرة تاريخية نتجت بفعل تضافر مجموعة من العوامل الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، الثقافية، وقد شهدت في تاريخها عدة مراحل، حيث اهتمت في المرحلة اليونانية بالقضايا الأنطولوجية (الوجودية)، في حين ركزت في المرحلة الإسلامية على العلاقة بين الفلسفة والدين، أما في الفترة الحديثة فقد كرست مجهودها لصياغة منهج يوصل إلى الحقيقة، لتنتهي في العصر الحالي إلى دراسة العلم والتقنية.

إن الفلسفة باعتبارها معرفة إنسانية، تتميز عن باقي الأشكال الأخرى من المعرفة بمجموعة من المظاهر، وعلى رأسها: العقلانية، أي ارتكاز التفكير الفلسفي على مبادئ المنطق، واعتمادها على منهج الشك، أي مراجعة كل قناعاتنا السابقة، ووضعها موضع تساؤل، إن الدافع الأساسي للتفلسف هو الاندهاش من الظواهر المألوفة والاعتيادية، أما غاية الفلسفة فهي البحث عن الحقيقة.

إن الفلسفة طريقة خاصة في التفكير تعتمد على مجموعة من الأدوات وعلى رأسها السؤال الفلسفي، والمفهوم، وهو الأداة التي تنقل لغة الفيلسوف من مستواها العادي والطبيعي إلى مستواها النظري المجرد، والبرهنة والحجاج، وهي آليات يوظفها الفيلسوف للدفاع عن مواقفه وتصوراته، وأخيرا النسقية التي تضفي على الأفكار الفلسفية نوع من الوحدة والتكامل.

إن الفلسفة تسعى إلى إنتاج قيم إنسانية نبيلة ومثل عليا باعتبارها غايات قصوى للوجود الإنساني، مثل: الإيمان بالاختلاف، والحوار، والتسامح والتعايش، ونبذ التعصب، واحترام حقوق الإنسان، والمرأة، والطفل، وذي الاحتياجات الخاصة… وهذا ما يوضح أن الفلسفة ليست مجرد ترف فكري لا علاقة له بالواقع الإنساني، بل هي معرفة مرتبطة بحياة الإنسان وسلوكاته.

الارادة ومفهومها عند الفيلسوف ارثر شوبنهاور

آرثر شوبنهاور فيلسوف ألماني، يشتهر عادة بتشاؤمه تجاه الحياة بوصفها “بندولًا يتأرجح بين الألم والملل”، وقد عاش شوبنهاور بالفعل وحيدًا ومغمورًا في الجزء الأكبر من حياته، لكن وحدته أو معاناته الشخصية لم تكن كما يظن البعض سببًا أساسيًا في صياغة آرائه التشاؤمية عن الحياة، بل على العكس من ذلك، لم تكن حياة شوبنهاور -على الأقل في بدايتها- بذلك السوء الذي قد نتصوره، ويمكن القول بأن كثيرًا من الفرص كانت مُتاحة أمامه ليعيش حياةً أكاديمية وبرجوازية هادئة تُرضي جمهور الناس، فقد تلقى شوبنهاور تعليمًا راقيًا منذ صغره، وأتقن العديد من اللغات الحديثة والقديمة، كما ذهب إلى حفلات الرقص والمسرح في شبابه، ومارس الجنس مع الممثلات والخادمات وحتى العاهرات.

وأقامت أمه جوانا أيضًا صالونًا حضره كثير من المثقفين ومن بينهم الشاعر الألماني الكبير گوته، لكن آرثر كان على خلاف دائم مع والدته خصوصًا بعد وفاة والده.

حصل شوبنهاور فيما بعد على الدكتوراه من جامعة برلين، وكان مُقدرًا له أن يحظى بمسيرة تدريس هادئة لولا أنه اختار -بعناد وشجاعة وربما سذاجة- إلقاء محاضراته بنفس التوقيت الذي كان يُلقي خلاله فيلسوف ألمانيا الأبرز في ذلك الوقت جورج هيـگـل محاضراته، فلم يستمع أحد إلى شوبنهاور الذي قرر اعتزال التدريس والتفرغ للكتابة.

طرح شوبنهاور آراءه الثاقبة للغاية في العديد من المسائل، بدءًا بنظرية المعرفة وفلسفة العلم وصولًا إلى فلسفة الأخلاق والفن، وقد كان مُتأنيًا في تفكيره، مُقتديًا بالفيلسوف الألماني كانْت “العظيم” كما كان يحلو له وصفه، تحديدًا في ممارسة النقد الذاتي الصارم على أفكاره

كل شيء هو إرادة

¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤

يُميّز شوبنهاور بين نوعين من الحركة في الطبيعة: الناشئة عن دوافع، والناشئة عن مثيرات. تُشير الأولى إلى الحركات الناتجة عن فعل الإرادة الباطنية في الطبيعة، في حين تُشير الثانية إلى الحركات الناتجة عن تعرض حواسنا لمُثير طبيعي ما (مثل الضوء الذي يُثير نشاط العين) وتخضع لقانون طبيعي (فيزيائي).

لكن وفقًا له، فإن الحركات من النوع الثاني تحمل في باطنها النوع الأول، أي إنها إحدى تجليات الإرادة. ويُقدم دليلًا عميقًا على ذلك، فهو يرى على سبيل المثال أن انقباض عين الإنسان عند تعرضها لضوء زائد عن الحد يتخطى عتبة إحساسها يحدث بناء على مُثير لا شك أنه الضوء في هذه الحالة.

ولكن ذلك الانقباض يُعبر كذلك عن حركة مبنية على دافع للإرادة التي تريد حماية شبكية العين من الأثر المُؤذي والمُؤلم للضوء الشديد. ومن هنا تكون حركات وأفعال الجسد لدى شوبنهاور تجليات للإرادة، فما ندعوه لذة أو راحة ليس سوى ما يتوافق مع الإرادة، أما الألم فهو إحساس مضاد ومُؤرِق لها.

ولذا يُمكن وصف اللذة والألم بأنهما التمثلات الحسية المُباشرة للإرادة، أي أنهما بعبارة أخرى: انعكاس الإرادة على الجسم، واللغة التي تعبر بها الإرادة عن رضاها أو سخطها تجاه ما تتعرض له، أو بالأصح ما يتعرض له تجسدها المادي (جسد الكائن). ومن هنا يمكن فهم لِمَ يبدو الجسد البشري مُوافقًا وصالحًا لمجموعة من الغايات، فهي غايات الإرادة ذاتها، وهذا الجسد الذي يصفه شوبنهاور بأنه التحقق الموضوعي للإرادة. بعبارة أخرى، يُناظِر تركيب الجسم تمامًا الحاجات والرغبات الأساسية التي من خلالها تكشف الإرادة عن ذاتها.

فنحن -من وجهة نظر شوبنهاور- لا نجوع لأن لدينا معدة، وإنما لدينا معدة فقط لأنها تخدم غاية إحدى تمثّلات الإرادة العمياء أي الجوع. وهكذا، فإن “الأسنان والبلعوم والأمعاء هي جوع مُتجسد” كما أن “أعضاء التناسل هي دافعية جنسية مُتجسدة” وقد تمثلت في صورة أعضاء مادية.
تنشأ هذه الدافعية بشكل مُسبق بفعل الإرادة الباطنية التي تتخلل كل أجزاء الطبيعة، ويظهر ذلك بشكل خاص في “الوظائف الحيوية لأجسامنا التي لا تكون مُوجَهة بالمعرفة، وفي كل ما تقوم به من عمليات حيوية وإنمائية: كالهضم، والدورة الدموية، والإفرازات، والنمو والتكاثر” التي تُمارس بوصفها انفعالًا غريزيًا توليديًا للخلايا الحية، وليس للمعرفة أي شأن به.

تُوجَد إذًا غايات (إرادية) تسعى إليها الحيوانات (بل والجمادات أيضًا) عبر سلوكها بطرق معينة دون أخرى، وهي طُرق لاواعية في الغالب، كما لو كانت (الغاية) دافعًا معروفًا بشكل مُسبَق لديها، لكنها تظل في الحقيقة على جهل بها.لذا فإن سلوكها لا يتوجه تبعًا للمثيرات الطبيعية فقط، وإنما بفعل تلك الإرادة الباطنية في الطبيعة التي هي اندفاع أعمى غير عاقل نحو الحياة. وهي التي تجعل “الطائر الذي يبلغ من العمر عامًا واحدًا يبني عشًا” بينما لا يملك أي فكرة عن البيض الذي يبني له ذلك العش، كما تجعل العنكبوت الصغير ينسج خيوط شبكته لأول مرة، في حين لا يملك أي فكرة عن أنها ستضمن له طعامه (الحشرات).

لكن ذلك لا يعني أن تلك الإرادة تُناظِر إلهًا، أو أنها إرادة واعية أقرها هذا الإله، فهي عفوية وعمياء تمامًا، كما أنها بلا معنى في ذاتها وهي “في ذاتها بلا سبب”، ولا علة أنشأتها وحددت لها غاياتها كما يُؤكد شوبنهاور، وذلك مصدر عبثية وخواء ولا-معنى العالم الذي أحدثته.

فلا يُمكننا أن نطابقها بإله ما أو نصفها بأنها إرادته الفاعلة في الطبيعة، وذلك لأن الإله لا يتجلى أو يتجسد في الطبيعة (إلا لدى المؤمنين بالحُلول وهنا سيصبح الإله هو الإرادة وقد سميناها إلهًا لا أكثر)، كما أن عشوائية الإرادة وتجلياتها التي بلا حصر تجعل من المستحيل أن يكون لها مُنظِم، أو أن يستوعبها عقل واحد مهما بلغت قدرته، فهي لا تختار رغباتها وفقًا لخطة مُنظمة وإنما تفعل بغرض الفعل، وتتحرك بغرض الحركة دون وجهة مُحددة، وتخلق أثناء حركتها رغبات عديدة مُتجددة بعفوية وفوضى تامة.

بالطبع، لم يُعارض شوبنهاور قوانين الطبيعة، ولم يرفض العلاقة بين الأسباب والمُسببَات (بل إنه شدد عليها شارحًا نظريته في العلة الكافية ببراعة شديدة في كتاب مُنفصل)، لكنه حاول البحث منذ البداية عن الطبيعة الميتافيزيقية للعالم، “الشيء في ذاته” الذي نفى أستاذه كانْت قدرتنا على سبر أغواره، والحقيقة التي تقف وراء الوجود، والتي تجعل سلوك قوة مُعينة بهذه الطريقة دون غيرها، وليس مُجرد تنظيم الظواهر في قوانين وهو ما يقوم به العلم.
فالعلم لدى شوبنهاور هو ما يبحث فقط في عمل/سلوك الظاهرة، وليس عن “الطبيعة الباطنية لها”. فهو يُعرفنا على “الترتيب المُنظَم الذي وفقًا له تظهر حالات وشروط المادة” وما يُمكّننا من تفسير التغيرات الحادثة لها.

وهكذا، عندما يدرس العلم ظاهرة كالحركة، فإن كل ما يفعله هو ترتيب حالات وشروط حركة وسكون الأجسام في صورة قوانين تُمكنه في النهاية من تصميم شيء مُعقد كالطائرة النفاثة مثلًا، فقط لأنه قام بمراعاة نفس قواعد فعل وتنظيم الحركة التي استخلصها من مشاهداته وتجاربه على الأجسام المُتحركة، فعرف أنه عند فعل “أ” تحدث “ب”، أو عند ظهور “ج” فذلك لأن “س” حدث في وجود “ص”…إلخ.
لكن ليس عند العلم الاهتمام ولا القدرة على أن يخبرنا بطبيعة الحركة في ذاتها، فهو يفترض على سبيل المثال “المادة، والوزن، وعدم القابلية للنفاذ، وقابلية توصيل الحركة بصورة مُسبقة، ويسميها قوى الطبيعة”، وهو قادر بالفعل على أن يُفسر بدقة كيف ومتى تفعل كل مُنها أو متى يظهر أثر كل قوة منها.

إذًا فقد مكننا العلم من معرفة سلوك وفعل القوة في الطبيعة، أما القوة الطبيعية نفسها التي يستعملها في التفسير فهي ما تزال سرًا يُقدِم العلم وصفًا وتصنيفًا لتمثّلها (عملها) في الطبيعة، لكنه غير قادر على أن يُخبرنا ما هي القوة بالضبط، فهو يتوقف عند “حدود الظاهرة ونظامها”، بحيث يُوضح كيف يستمر الإلكترون في الدوران حول النواة دون أن يسقط ويصطدم بها، وذلك بفعل التوازن الذي تُحدثه القوة الجاذبة للمجال الكهربي بينهما ضد قوة الطرد المركزي النافرة الناتجة من حركة الإلكترون، لكن لماذا نشأت منذ البداية مجالات كهربية بين الشحنات المختلفة وليست مجالات من نوع آخر لا نعرفه؟ أو لماذا تعمل دومًا سرعة دوران الأجسام على إبعادها عن مسار دورانها (الطرد المركزي)؟

بالتأكيد وضع العلماء معادلات دقيقة تصف حدوث ذلك وتردّه إلى عمل القوى الطبيعية المُختلفة، لكنها لا تصف الطبيعة الباطنية لتلك القوى التي تفرض عليها (بصورة مُسبقة) أن تخلق مجالًا دون غيره أو تُحدث تأثيرًا كالطرد دون غيره، تلك هي الطبيعة التي يسميها شوبنهاور إرادة، وهي تتخلل الكون بموجوداته الواعية واللاواعية على السواء.
فحتى النباتات تتوجه بطرق لاواعية مُحددة دون غيرها بفعل الإرادة، تتيح لها إمكانيات النمو والتكاثر، كما أن المغناطيس يجذب المعدن بفعل الإرادة.

عزاء الموسيقا أو المادة الخام للإرادة

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇♡♡♡♡♡♡

في رأي شوبنهاور، تظل الإرادة في ذاتها وكما هي، خفية وغامضة لا نستطيع إدراكها كما هي، وإنما نُدرك تجلياتها وآثارها الجزئية فقط حتى نستمع إلى الموسيقا، فالموسيقا حضورٌ نقي للإرادة يجعلنا نشعر بباطن العالم، بذلك الجوهر الخفي علينا الذي نفشل في التعبير عنه من خلال اللغة التي هي في النهاية أحد تجسدات الإرادة الجزئية. فالموسيقا هي ما يمكننا وصفه بالمادة الخام للإرادة.

إنها كلٌ لا يُمكن تفكيكه في أفضل الأحوال سوى إلى أعداد، هكذا كان العدد هو فقط ما يلائمها بصفته أكثر الموجودات تجريدًا. وقديمًا ربط فيثاگـورس الموسيقا بالأعداد، جاعلًا من الأخيرة جوهر الوجود.

وجاء شوبنهاور ليجعل من الموسيقى أقرب ما يكون إلى الإرادة كما هي، دون تعديل أو تجزيء أو تجسد، وهذا السبب في أنها تغزونا، إذ أنها تشابه الكل الذي جئنا منه والأصل الذي تُمثل أجسادنا وعقولنا أحد فروعه وتمثلاته. هكذا كان روكنتان بطل رواية سارتر “الغثيان” يجد راحة مؤقتة من شعوره الدائم بالغثيان والملل عندما يستمع إلى أغنية “بعض هذه الأيام”، فهي تتخطى الوجود الطبيعي (الفيزيائي).
وإذا عدنا إلى شوبنهاور فإنها تستبطنه وتزن أعماقه وتملأ فراغاته، فهي لا تشترط ذاتًا تُدركها، وإنما فقط تتحرك وتفعل وتدور بغرض الدوران وتسير بغرض السير، تمامًا كالإرادة.
إنها أحد الملاجىء التي يدعونا شوبنهاور إلى اتخاذها ضد المعاناة والانتحار، فعلى الرغم من إعادة اكتشافه الإرادة، إلا أن شوبنهاور كان أشبه بباندورا المرأة التي فتحت صندوق الإله زيوس الذي يختزن أصول معاناة البشر من أصناف الشرور.

فقد وجد شوبنهاور أن الإرادة دومًا نهمة وساخطة لا ترضى وتطلب المزيد، فكلما حققت غاية، ملّت منها سريعًا وتاقت إلى أخرى جديدة، ومن هنا تنبع معاناة الشوق والانتظار والتعلق. لذا امتدح شوبنهاور البوذية والرواقية، وبنى عليهما أساس فلسفته الأخلاقية التي عبر فيها عن احترام عميق لحالة النيرفانا أو الأباثيا، وهي حالة السلام الذي يتحقق عبر التحرر قدر الإمكان من الرغبات والعيش في الحاضر.
لقد كان شوبنهاور متشائمًا، لكن ليس بغرض الظهور أو ادّعاء الذكاء، وإنما لأنه أدرك أنه نادرًا ما تتحقق غايات الرغبة، وحتى إذا ما تحققت فإنها تبقى لأقل وقت ممكن وبعدها تزول، وما يبقى هو الروتين واللهث وراء الغايات دون طائل في معظم الأوقات.

من هنا وصف الحياة بأنها “بندول يتأرجح بين الألم والملل”، وقد اقترح الفن والزهد البوذي-الرواقي علاجًا لتلك المعاناة، وذلك لأن الإبداع الفني يشترط التحرر من الإرادة، أي التحرر من رغباتنا الجزئية أثناء تأمل العالم من حولنا دون غاية مادية نفعية، وإنما بغرض اكتشاف الجمال، وأيضًا لأن الزاهد البوذي-الرواقي يتحرر من عبودية الإرادة عبر تحرره من الرغبة وتكيفه مع تغير الأشياء والأشخاص وفقدانهم.
لقد كان شوبنهاور فيلسوفًا شجاعًا فجر في هدوء حقيقة الوجود فوق رؤوسنا، فتطايرت شظاياه كاشفة عن مُجرد إرادة عمياء بلا معنى أو هدف سوى الاستمرار في الحركة التي تُحرِك بها موجودات العالم، وفي حركتها تجلب الألم للكائنات الواعية ومنها البشر، وهو ألم الرغبة بغايات مُستقبلية ما إن تُدركها الإرادة حتى تملها وتبغضها، مستأنفة الحركة ومعها ألم الرغبة والشوق إلى غايات جديدة في دائرة مُغلقة لا يُنهيها سوى الموت.

فكانت لديه على حد تعبير عالم النفس كارل يونـگ “الشجاعة ليرى أنه لم يكن كل شيء في الكون قد أُسِسَ من أجل الأفضل”، وأن أفضل ما يُمكن التطلع إليه هو حياة الحكيم البوذي-الرواقي، أي حالة سكون الرغبة القادرة على تهدئة النفس التي قد نُعزّيها من حين لآخر بالفلسفة والفن، وخصوصًا الموسيقا، وذلك حتى نحقق السلام لذواتنا اللاهثة المُضطربة.

المراجع

العالم إرادة وتمثلًا، أرثر شوبنهاور، ترجمة د.سعيد توفيق، ص 38، و211

الوجود والعدم للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر

ملخص وقراءة لكتاب الوجود والعدم

جان بول سارتر جان بول سارتر فيلسوف فرنسيٌّ يعتبر من أعظم فلاسفة المذهب الوجوديِّ والجدليَّة ومن أبرز الشخصيَّات الفرنسيَّة في القرن العشرين، ولدَ سارتر في باريس عام 1905م، كان سارتر كاتبًا مسرحيًّا وفيلسوفًا وناشطًا سياسيًّا فرنسيًّا مشهورًا، أثَّر في بعض المَجالات المعرفيَّة مثل علمِ الاجتماع والدراساتِ الأدبيَّة، وكان شخصيَّة بارزة في كلِّ من الفلسفةِ الوجوديَّة والفلسفةِ الظواهريَّة، ومن أشهر كتبه “الوجود والعدم”، فازَ بجائزة نوبل في الأدب عام 1964م لكنَّه رفضَها، لأنَّ الكاتب في رأيه لا يجِب أن يصبحَ مؤسَّسة، توفي عام 1980م بعد أن أصبحَ شبه أعمى وتعرَّض لوذمة رئوية،

الإنسان في الفلسفة وعن كتاب الوجود والعدم

الإنسان في الفلسفة وفق الكثير من الآراء الفلسفيَّة التي بُنيت على آراء الفلاسفة القدماء مثل أرسطو وأفلاطون فإنَّ الإنسان حيوان ناطق أو عاقل، فما يميِّز الإنسان هو العقل الذي يجعلُه مباشرةً ضمنَ إطار المسؤوليات والتكاليف. وقد تغيَّرت هذه النظرة كثيرًا في العصر الحديث فقامت الفلسفة الحديثة بعمل انقلابٍ هائلٍ في تعريف الإنسان، وتضمَّن هذا الانقلاب تقييم الأبعاد المعرفية والقدرات العقلية للإنسان. فلم تؤكد هذه الفلسفة على ما جاء به الفلاسفة القدماء من تصورات فلسفيَّة عن الإنسان كما أنَّها لم تعطِ الأبعاد العقلية أيَّ اعتبار وقامت بإهمال هذا الجانب العقلي واعتبرته مجرَّد قوى غريزيَّة لا شعوريَّة،

ومن أشهر الفلاسفة الذين قاموا بإخراج العقل من التصوُّرات الفلسفيَّة هو الفيلسوف الألماني الشهير نيتشه، الذي اعتبر العقل غريزة كباقي الغرائز التي تُبقي الإنسان على قيد الحياة وهذه وظيفته فقط وبذلك انتهى نيتشه إلى الدعوةِ بتغيير وظيفة العقل وتحويلها من معرفيَّة إلى وسيلةٍ لخدمة الغرائز. أمَّا في المذهب الوجودي فيؤمنُ الوجوديون بالوجودِ الإنسانيِّ قبل كلِّ شيء، ويتَّخذونه منطلقًا لكلِّ أفكارهم، ويعتقدون أنَّ الإنسانَ هو أقدمُ شيءٍ في الوجود، وكلُّ ما قبلَه كانَ عدمًا، ويعتقدون أنَّ وجود الإنسان سابِق لمَاهيَّته، ويقولونَ: “إنَّهم يعملونَ لإعادةِ الاعتبارِ الكليِّ للإنسان، ومراعاةِ تفكيرِه الشخصيِّ، وحريَّته، وغرائِزه، ومشاعِره”.

ويرى سارتر في كتاب الوجود والعدم أنَّ على الإنسان أن يخلقَ القيمة بنفسه وأن يرفضَ القيمة القديمة القائمة، فحياة الإنسان كما يعتقد مصنوعةٌ من المستقبل كما الأجسام مصنوعةٌ من الفراغ وفق تعبيره، لأنَّ وضع الإنسان في العالم يحدُّ من حرِّيته وعليه أن يقابل ذلك بمشروع، ومن اللا أخلاقي أن يرفض الإنسان هذا الخلق المستمر وأن يسترخي في ماضيه، وليس هناك جوهر متجمِّد عليه أن يحترمَه إنَّما هناك وجود جديد عليه أن يسوِّغه من دون انقطاع.

كتاب الوجود والعدم كتاب الوجود والعدم من أشهر كتب الفلسفة للفيلسوف الفرنسيِّ جان بول سارتر كتبه عام 1943م في الفلسفة الوجودية، فبعد أن كان سارتر أسيرَ حربٍ قرأ كتاب الوجود والزمان للفيلسوف هايدجر وقد ألهمه هذا الكتاب مساره الفكري وقد كتب الوجود والعدم بنفس الروح تقريبًا، هدف سارتر الرئيسي في الكتاب أن يؤكد على المعتقد الأساسي في الوجودية وهو أنَّ وجود الفرد -كما كان- قبل جوهر الفرد، وبمعنى آخر: الوجود يسبقُ الجوهر أو الماهيَّة، وكان اهتمامه مُنْصَبًّا أيضًا على إثبات وجود الإرادة الحرة.

وكان سارتر في كتاب الوجود والعدم يشكِّك دائمًا في أي مقياس يمكِّن الإنسان من الوصول إلى الاكتفاء، والإنسان في رأيه كائنٌ مدفوع برؤية الكمال وهذا ما يسمِّيه سارتر العلاقة الزوجيَّة وحرفيًّا الكائن الذي يسبب نفسَه، وذلك عند الولادة في الحقيقة المادية التي هي وجود المرء نفسه، فعند ذلك يجد المرءُ نفسه تلقائيًّا موضوعًا في الوجود، لأن الوعي لديه القدرة على تصوُّر الاحتمالات والإمكانيات وإظهارها أو القضاء عليها على حد تعبيره، ويدَّعي سارتر أنَّ الوجود البشري ما هو إلا لغزٌ يوجَدُ فيه كلُّ واحدٍ منَّا، طالما أنَّنا نعيش في ظلِّ حالةٍ عامَّة من العدم، ولذلك يعتبرُ كتاب الوجود والعدم من الكتب التأسيسيَّة في الفلسفة الوجوديَّة

الكينونة والعدم: بحث في الأنطولوجيا الفنومينولوجية (بالفرنسية: L’Être et le néant: Essai d’ontologie phénoménologique)، هو كتاب فلسفي للفيلسوف جان بول سارتر كتبه في عام 1943. يعتبر الكتاب من الكتب التأسيسية في الفلسفة الوجودية، حتى إنه يعرف بـ”إنجيل الوجوديّة”. ولذلك فإن هدف سارتر الرئيسي في الكتاب هو تأكيد المعتقد الرئيسي في الوجودية، وهو أن وجود المرء يسبق ماهيته (“الوجود يسبق الماهية”). اهتمام سارتر الأساسي في الكتاب كان إثبات وجود حرية الإرادة. بينما كان سجين حرب في عامي 1940 و1941، قرأ سارتر الوجود والزمان لهايدغر، وهو دراسة أونتولوجيّة من خلال نهج الفينموينولوجيا الهوسرلية (كان هوسرل معلّم هايدجر). قراءة “الوجود والزمان” ألهمت سارتر واستهلّت مساره الفكري، وقد كتب كتابه هذا على نفس المنوال كما يوحي العنوان.

لكن رغم تأثره بهايدجر، كان سارتر يشكّ بشدة في أي مقياس يمكّن الإنسان من الوصول إلى الاكتفاء، كما يحصل مع هايدجر عند الالتقاء المزعوم مع الوجود. في سرديّة سارتر، الإنسان كائن مدفوع برؤية للكمال، يسميه سارتر “كائنًا يسبب نفسه”. عند الولادة في الحقيقة الماديّة التي هي جسد المرء، يجد المرء نفسه موضوعًا في الوجود. للوعي القدرة على تصوير الإمكانيات، وإيجادها، أو إبادتها

الوجود عند سارتر هو العالم المادي المحسوس الذي يتحرك فيه الإنسان.

ولكن هناك عالم آخر وعالم العدم le neant وهو يقصد به ضمير الإنسان.

وتقول سيمون دي بوفوار أنها سمعت بكلمة الوجودية عندما سألها أحد الصحفيين قائلا (وأنت يا سيدتي هل أنتي أيضا وجودية

يرى. الفيلسوف سارتر أن المفهوم الرئيسي للوجودية هو أن وجود الشخص يسبق جوهره. العبارة “الوجود يسبق الجوهر” أصبحت لاحقًا شعارًا من شعارات التيار الوجودي. ببساطة، يعني هذا أنه ما من شيء يحدد شخصية المرء أو أهدافه إلخ، إنما الفرد وحده هو الذي يعرّف جوهره. حسب سارتر، فإن المرء “أولًا يوجد، يلقى نفسه، يندفع في العالم، ومن ثم يعرّف نفسه.”

إذًا، يرفض الفيلسوف سارتر الأعذار الحتمية، ويدّعي أنه على الكل تحمّل مسؤولية أفعالهم. يعرّف سارتر الجزع بأنه الشعور الذي يشعر به الشخص حينما يكتشف أنه مسؤول ليس عن نفسه فقط بل عن كل الإنسانية. الجزع يجعل الشخص يكتشف أن أفعاله تقود الإنسانية وتمكّنه من الحكم على الآخرين بناء على موقفهم من الحرية. الجزع يتعلّق أيضًا بمفهوم سارتر للأسى، والذي يعرّفه بأنه الاعتماد المتقفائل على مجموعة من الإمكانيات التي تجعل الأفعال ممكنة. يدّعي سارتر أنه “في تكويني نفسي، أكون الإنسان”، يعني أن فعل الفرد يؤثّر في ويكوّن الإنسانية.

يقوم أيضًا سارتر بالرد على ما يعتقد أنها تهم ضد الوجودية. فيردّ على من ينعت الوجوديّة بأنها فلسفة تشاؤمية، قائلًا: إن الفلسفة الوجودية فلسفة متفائلة لأنها في صميمها فلسفة تضع الإنسان مواجها لذاته، حرًا، يختار لنفسه مايشاء، وهذا أمر مزعج لا يعجب الناس.”

خلاصة

يمكن تلخيص رؤية سارتر للعلاقة بين الهوية والحرية بالطريقة التالية: للبشر هوية ولكنهم يتجاوزونها. نُعرّف بأفكارنا ومشاعرنا وقيمنا، ونُعرّف بظروفنا و مجمل تجربتنا. ومع ذلك، نحن في الوقت نفسه نعي هذه التجربة، وبالتالي نكون على مسافة عنها. لدينا أسئلة، ومعضلات، ولحظات من القلق الوجودي والأخلاقي التي تجعلنا ندرك نقصنا وقصورنا. هناك نقص جوهري داخل الحاضر يشل أفكارنا وأفعالنا. لا شيء يمكن أن يحدد لنا تمامًا معنى العالم أو اتجاه حياتنا. ومع ذلك، نحن قادرون على تجاوز كل ما نحن عليه وتصور المستقبل الذي سيمنح معنى للحاضر. من خلال الفعل الحر من أجل غاية غير موجودة بعد، نوجه أنفسنا إلى هذا الهدف ونجعله حقيقيًا بالنسبة لنا. بهذه الطريقة نفهم العالم ونعطي معنى لحياتنا من خلال التزاماتنا النشطة.
الإنسان ليس هوية حاضرة جامدة ولا هدف مستقبلي غير ملموس. نحن نتشكّل من خلال علاقة قمنا باختيارها بحرية بين هوية حالية و غاية. تتضمن الشخصية بالضرورة كل من الحقائق التي تحددنا والحركة وراء هذه الحقائق إلى ما نسعى إلى أن نصبح عليه. فهي تنطوي على الجوهر والوجود، وحيازة الذات والتجرّد منها، والإستبطان والنشوة، الحاضر والمستقبل، الحقيقي والمثالي، الدلالي والشرطي. أنها تنطوي على ما هو حقيقي، وما يمكن أن يكون. في فهم سارتر، نحن نشكل هويتنا الشخصية من خلال قبول من نحن وحرية التحرك وراء هذا.

نظام العدالة بين الفيلسوف كانت والفيلسوف جون رولز

     شغلت فكرة العدالة اهتمام الفلاسفة منذ أقدم العصور؛ لأنها أسمى قيمة اجتماعية في الحياة. وقد ربط بعض المفكرين بين فكرة المجتمع المثالي والمجتمع الذي تسود فيه العدالة؛ إذ تشكل "العدالة" المدلول الحقيقي لجميع القيم والمثل التي تنظم علاقة الفرد بالمجتمع. والعدالة– بصفة عامة – تكمن في صميم فلسفة الأخلاق والسياسة، وهي الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية، على حد قول الفيلسوف الأمريكي جون رولز (1921 –2002) (1)، إن لم تكن هي الفضيلة الوحيدة؛ بمعنى أنها فضيلة أساسية للأفراد في تعاملهم مع الآخرين (2)؛ أي أنها فضيلة شخصية واجتماعية في آن واحد. وهذا هو ما جعل سقراط (470 – 399 B.C) يثور في وجه السوفسطائيين، ويرفض نسبية الفضيلة، مؤكداً أن الفضيلة واحدة رغم تعدد مسمياتها، وهي تكمن في الضمير الإنساني الحي الذي يرشدنا دائماً إلى الخير؛ أي في سلوك الصدق والابتعاد عن الكذب، وطريق الأمانة والعدل. وهكذا فرغم تعدد أسماء الفضائل إلا أنها في جوهرها فضيلة واحدة، هي الطريقة التي تكمن في تعاملنا مع الأفراد والمجتم.  
 ولقد حظي مفهوم "العدالة الاجتماعية" بقدر كبير من الأهمية على المستويات الثقافية والاجتماعية والسياسية، كما استحوذ على حيز كبير من الجدل على مستوى الفكر الاقتصادي، حتى أضحى من المفاهيم الشائعة الاستخدام في الأدبيات السياسية الحديثة، وفي الخطابات المعاصرة، وتقارير المؤسسات والمنظمات الدولية والوطني. ومن هذا المنطلق، تعدّ العدالة قاعدة اجتماعية أساسية لاستمرار حياة البشر بعضهم مع بعض؛ فهي محور مهم في الأخلاق وفي الحقوق وفي الفلسفة الاجتماعية؛ حيث تنطلق منها بحوث إيجاد المقاييس والمعايير الأخلاقية والقانونية. العدالة إذن فضيلة شخصية سامية، وهي موجودة دائماً في سياق اجتماعي معين.

والحقيقة أن الرؤية السياسية لمحاورة "الجمهورية" لأفلاطون (427 – 347 B.C) يمكن أن نراها تخطيطاً لذلك السياق الاجتماعي نفسه؛ فأفلاطون هو صاحب أول نظرية اجتماعية وتاريخية واضحة المعالم في تاريخ الفكر الغربي، وهو واحد من أوائل العلماء الاجتماعيين، وأقواهم تأثيراً، حيث طبق منهجه المثالي بنجاح على تحليل حياة الإنسان الاجتماعية وقوانين تطورها؛ فضلاً عن شروط استقرارها(5). وقد عبّر أفلاطون عن ذلك في الكتاب الرابع من "محاورة الجمهورية" بقوله: "إن أعظم أسباب كمال الدولة هو تلك الفضيلة التي تجعل كلاً من الأطفال والنساء والعبيد والأحرار والصناع والحاكمين والمحكومين يؤدي عمله دون أن يتدخل في عمل غيره". وفي الموضع ذاته يقول: "العدالة هي أن يمتلك المرء ما ينتمي فعلاً إليه، ويؤدي الوظيفة الخاصة به"(6).
 ولقد نشأ نزاع حول مفهوم "العدالة" الاجتماعية خاصة في التعامل مع قضايا مثل: توزيع الدخل، والسيطرة، واستخدام الموارد الطبيعية، وتوزيع الفرص التعليمية والوظيفية التي انتشرت على نطاق واسع في مجتمعاتنا، وقام عدد من الفلاسفة بتقديم رؤى مختلفة حول مفهوم العدالة، وارتباطها الوثيق بالأخلاق والقانون؛ وذلك من أجل الحفاظ على الحقوق والواجبات والالتزامات بما يتماشى مع روح كل عصر. ومن هؤلاء الفلاسفة جون رولز، حيث أكد في مواضع كثيرة من كتاباته على أن المفهومين الأساسيين في مبحث "الأخلاق" هما مفهوما "العدل" و"الخير"، يقول في كتابه "نظرية في العدالة

“أعتقد أن مفهوم “الشخص الأخلاقي” ذاته قد تم استنباطه من مفهومي “العدل” و”الخير”، وهكذا تتحدد البينة لنظرية أخلاقية من خلال الطريقة التي تنتظم بوساطتها الصلة بين هذين المفهومين

 من هذا المنطلق، بدأ تصور رولز للعدالة من معارضته لتصورات "الفلسفة النفعية" التي بلورها عدد من الفلاسفة النفعيين أمثال: "جيرمي بنتام". (1748 –1832)، و"جون ستيوارت مل" (1806 –1873) .... وآخرين، والتي سيطرت على الفكر السياسي والأخلاقي في العالم الغربي. وقد تبنت هذه الفلسفة مبدأ المنفعة بوصفه غاية لكل سلوك أخلاقي، وعلقت أخلاقية الأفعال الإنسانية على مدى ما تحقق من منافع أو تدفع أضرار (أعظم قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس)، وأقرت بأن الأفعال تكون صائبة إذا كانت تميل إلى تحقيق السعادة، وتكون خاطئة إذا مالت إلى الشقاء والتعاسة

أراد رولز أن يقدم بديلاً عن “المذهب النفعي”؛ لأنه لا يقدم تفسيراً مرضِياً للحقوق والحريات الأساسية للمواطنين كأفراد أحرار ومتساوين، وهو مطلب – على حد قوله – “ذو أهمية أولى مطلقة من أجل تفسير المؤسسات الديمقراطية

وعلى صعيد آخر، تناول كانط (1724 – 1804) مفهوم العدالة على خلاف "المذهب النفعي"؛ حيث تقوم الأخلاق عنده على العقل وحده، مادام هو مصدر الإلزام الخلقي، ومن هنا نسب كانط إلى الأخلاق صفة "الضرورة المطلقة"، ونادى بوجود قوانين أولية كلية وضرورية في مضمار السلوك الإنساني. وفي كتاب "تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق" يقدم أوجه الإختلاف بين المبادئ الأخلاقية وقوانين الطبيعة، ويذهب إلى أن الاختلاف بينهما يكمن في إحساسنا الذاتي بالإلزام بطاعة القوانين الأخلاقية. يقول: "إن كل إنسان لابد أن يسلم بالقانون الأخلاقي، أعني قاعدة الإلزام... هذه القاعدة لا ينبغي أن تلتمس في طبيعة الإنسان ولا في ظروف العالم الذي وُضع فيه، بل لابد من البحث عنها بطريقة قبلية في تصورات العقل الخالص وحدها

وترتبط القوانين الأخلاقية عند كانط بمفاهيم “الحرية” التي تفرض حدوداً على التصرفات الخارجية للناس، وعلى نواياهم الداخلية، ويعتمد أساس هذه النظرية على مبدأ “الحق”، وهو شامل لجميع البشر، ومستمد من الحتمية المطلقة من خلال مفهوم “الإرادة الخيرة” التي توجه الإنسان نحو غايات وأهداف عامة تصحح مبدأ السلوك كله. ومن هنا رأى كانط أن “القانون” يعُد أمراً واجباً، ومن الضروري فرضه وإجبار الآخرين على طاعته، لأنه مجموع الشروط التي تلائم بين حريتنا وحرية الغير، وفقاً لناموس شامل للحرية، أو على حد قوله: “القانون هو مجموع الشروط التي يمكن أن توحد حرية الفرد مع حرية الآخر وفقاً لقانون كلي للحرية

. كذلك رأى كانط أن السيادة لا يمكن تقسيمها، ولا يمكن حماية وضع الفرد كإنسان عاقل ومستقل إلا من خلال وجود دولة مدنية.
لذلك ومن كل ما سبق، نحاول في هذه الدراسة رصد محاولات الفيلسوف الأمريكي جون رولز فيما يخص تصوره لنظام العدالة ونظام حكم القانون، ومحاولته الفريدة لطرح تنظير سياسي اجتماعي أخلاقي يدعم استقرار المجتمعات على نحو متكافئ ومتساو، خاصة بعد إصدار كتابه: “نظرية في العدالة”؛ إذ أثار -هذا الكتاب -جملة من التساؤلات التي تميزت بكثافتها أكثر مما أثارته أية نظرية أخرى في العدالة الاجتماعية خلال القرن العشرين. وكذلك الدور الذي أداه التصور الكانطي لنظرية “الحق” و”استقلالية الذات”، و”مبدأ الأمر المطلق”، و”نظرية الواجب” التي تقوم على تأكيد أولوية الحق على الخير؛ بخلاف “الفلسفة النفعية” السائدة في المجتمعات الغربية الليبرالية. كما أراد رولز أن تنال الشعوب حقها من خلال عدم المساس بمصالحها وذلك باحترام القانون العادل، ويتحقق هذا عندما يُعامل المجتمع أفراده كشخصيات أخلاقية، وقد أطلق عليه “قانون الشعوب”، ومعناه أن تلتزم كل الشعوب بأهداف “قانون الشعوب” ومبادئه في علاقاتها المتبادلة. وفكرة مجتمع الشعوب – كما عبر عنها رولز – هي فكرة يوتوبية واقعية تصور نظاماً اجتماعياً قابلاً للتطبيق، يكفل الحقوق والعدالة السياسية لجميع الشعوب

، كذلك كما صرح “كانط”: “يجب أن يقوم قانون الشعوب على أساس اتحادي بين دول حرة”.

مبادئ العدالة

♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

 تُعد نظرية العدالة عند رولز أهم محاولة فلسفية لبناء قاعدة نظرية للممارسة الليبرالية، فقد أكد على أن هدفه هو "تقديم تصور للعدالة يمكن من خلاله رفع مستوى التجريد لنظرية العقد الاجتماعي الشهيرة، كما وجدت في أعمال لوك، وروسو، وكانط"

. معنى ذلك أن هدف رولز الذي يسترشد به هو التوصل إلى نظرية في العدالة قابلة للتطبيق وبديلة عن التصورات النفعية الكلاسيكية والحدسية للعدالة، والتي سادت التقليد الفلسفي فترة طويلة من الزمن. وقد بدأ بتعريف العدالة بأنها: “الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية، كما هي الحقيقة للأنظمة الفكرية. ومهما كانت النظرية متسقة ومقتصدة لابد من رفضها إذا كانت غير صادقة، كذلك الأمر بالنسبة إلى القوانين والمؤسسات، مهما كانت درجة كفاءتها وجديتها لابد من إصلاحها أو إبطالها إذا كانت غير عادلة”

. العدالة إذن هي أساس الهيكل الاجتماعي، لذا وجب أن تتفق سائر الإجراءات التشريعية والسياسية مع ما تقضي به مبادئ العدالة. ومن هنا يتعين – في نظر رولز – تحديد القواعد والمبادئ التي تسيٌر المؤسسات الاجتماعية للعدالة

وذلك من خلال وضع نظام للعدالة مُنصف يتم تطبيقه على البنية الأساسية للمجتمع؛ أي على “المؤسسات السياسية والاجتماعية الرئيسة وبطريقة تلاؤمهما مع بعضهما مع بعض في ترسيمة نظام تعاوني موحد”

إن المادة الأولية للعدالة عند رولز هي البنية الأساسية للمجتمع، بمعنى آخر: "هي الطريقة التي تُوزع من خلالها المؤسسات الاجتماعية الرئيسة الحقوق والواجبات الأساسية، وتحدد تقسيم المنافع الناتجة عن الشراكة الاجتماعية"

والمقصود بالمؤسسات الرئيسة الدستور السياسي والترتيبات الاقتصادية والاجتماعية، ومنها ما يدل على الحماية القانونية لحرية التفكير، والأسواق التنافسية، والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. ومن هنا يرى رولز أن “أحد الأهداف العملية للعدالة كإنصاف هو توفير أساس فلسفي وأخلاقي مقبول للمؤسسات الديمقراطية، ولتحقيق هذا الهدف يبحث – رولز – في الثقافة السياسية العامة لمجتمع ديمقراطي، وفي تقاليد التأويل الخاصة بدستوره وقوانينه الأساسية، طلباً لأفكار مألوفة معينة يمكن صياغتها في مفهوم للعدالة السياسية”

. ويعتقد رولز أن بعض هذه الأفكار أكثر أساسية؛ من بعضها الآخر، وأكثرها أساسية هي فكرة المجتمع بوصفه نظاماً منصفاً من التعاون الاجتماعي الزمني من جيل إلى الجيل الذي يليه؛ والتي يعدها رولز فكرة منظمة ومركزية لتطوير مفهوم سياسي لعدالة نظام ديمقراطي.
وفي هذا الشأن، يؤكد رولز أنه من غير الممكن أن يتفق المواطنون على سلطة أخلاقية مثل: نص مقدس، أو مؤسسة دينية، أو تقليد من التقاليد؛ أو حتى بالرجوع ما عدّه بعضهم (قانوناً طبيعياً) لذلك لا يوجد بديل – عنده – أفضل من الاتفاق على “فكرة منظمة للمجتمع”، أي نظامٍ منصفٍ من التعاون بين أشخاص أحرار ومتساوين”

. وهذا ما يسمى “بالوضع الأصلي” الذي يجتمع من خلاله أشخاص أحرار لاختيار القواعد والمبادئ التي ينبغي أن تقود المجتمع، لا سيما توزيع الخيرات الأساسية كالحقوق، والحريات، والثروات…الخ وإعادة هيكلة المكاسب والتكاليف التي تنجم عن التعاون الاجتماعي

.
من هذا المنطلق، يتساءل رولز: ما هي مبادئ العدالة التي تنطبق بشكل رئيس على البينة الأساسية للمجتمع، وتحكم التخصيص للحقوق والواجبات، وتنظم التوزيع للمنافع الاجتماعية والاقتصادية؟ يرى رولز أن مبادئ العدالة التي تحكم المجتمع هي “المبادئ التي سوف يقبلها أشخاص أحرار وعقلانيون يهتمون بتحقيق مصالحهم الذاتية في وضع مبدئي من المساواة، ويجب أن تنظم هذه المبادئ جميع الاتفاقيات الأخرى، وتعين أنماط الشراكة الاجتماعية وأشكال الحكومات التي يمكن تأسيسها”

. وقد صاغ مبدأين رئيسين للعدالة هما: المبدأ الأول: يجب أن يتمتع كل شخص بحق متساو لغيره ضمن أوسع نسق من الحريات؛ أي أن “لكل شخص الحق ذاته -والذي لا يمكن إلغاؤه- في ترسيمة من الحريات الأساسية المتساوية الكافية، وهذه الترسيمة متسقة مع نظام الحريات ذاته”. المبدأ الثاني، يجب أن تنظم أشكال التفاوت الاجتماعي والاقتصادي بطريقة تضمن في آن واحد أن نتوقع عقلياً أن تكون في مصلحة كل واحد، وأن تكون متعلقة بمواقع ووظائف مفتوحة للجميع، بمعنى آخر: “يجب أن تحقق ظواهر اللا مساواة الاجتماعية والاقتصادية شرطين: أولهما: يفيد أن اللا مساواة يجب أن تتعلق بالوظائف والمراكز التي تكون مفتوحة للجميع في شروط مساوية منصفة للفرص، وثانيهما: يقتضي أن يكون ظواهر اللا مساواة محققة أكبر مصلحة لأعضاء المجتمع الذين هم أقل مركزاً (وهذا هو مبدأ الفرق)

.
ويرى رولز ضرورة أن يعرض هذان المبدآن على وفق ترتيب ملزم؛ أي أنهما يعرضان بحسب معيار الأولوية؛ فيجب أن يستوفي مبدأ الحريات المتساوية قبل الركون إلى مبدأ مساواة الفرص المنصفة، ويجب تطبيق مبدأ مساواة الفرص المنصفة قبل اللجوء إلى مبدأ الفرق

. فيقول: “والمبدأ الأول سابق للمبدأ الثاني، وكذلك تسبق المساواة المنصفة بالفرص في المبدأ الثاني مبدأ الفرق”

وعلى ذلك، يجب أن نرتب هذه المبادئ في ترتيب تسلسلي، هذا الترتيب – كما عبر عنه رولز – “يعني أنه لا يمكن تبرير انتهاكات الحريات الأساسية المتساوية المصانة بواسطة المبدأ الأول أو التعويض عنها من خلال منافع اقتصادية واجتماعية أكبر

.
والواقع أن التركيز الشديد من جانب رولز على الأسس العقلانية في المفاضلة بين المبادئ المختلفة للتوصل إلى تلك المبادئ التي يقبلها الإنسان ويعدّها ملزمة له، إنما هو أمر يذكرنا بالمنهج الكانطي في التوصل إلى الأمر الأخلاقي المطلق، فالأمر المطلق عند كانط هو ذلك المبدأ الذي ينبع من طبيعة الإنسان بوصفه كائناً عاقلاً حر الإرادة، ومن ثم فهو ينطبق على البشر جميعاً بوصفهم كذلك؛ ويميزهم عما سواهم من الكائنات والموجودات. يقول كانط في هذا الشأن: “كل شيء في الطبيعة يخضع لقوانين، والكائن العاقل وحده هو الذي يملك المقدرة على السلوك بحسب تصور القوانين، أي بحسب مبادئ، أو بعبارة أخرى: هو الكائن الذي يملك الإرادة لذلك”. ويقول في الموضع ذاته: ” إن العلاقة التي تربط القوانين الموضوعية بإرادة لم يتمكن منها الخير تماماً يمكن التعبير عنها بأنها تعيين إرادة كائن عاقل بوساطة مبادئ عقلية حقاً، ولكن لا تستطيع هذه الإرادة بطبيعتها أن تطيعها بالضرورة. ولذلك فإن تمثل مبدأ موضوعي من حيث إنه ملزم للإرادة يدعى أمراً (عقلياً)، والصورة التي يصاغ فيها هذا الأمر يطلق عليه الأمر المطلق”

.
والجدير بالملاحظة أن من أهم الانتقادات التي وجُهت إلى كانط في هذا الخصوص، هو أن الأمر المطلق الذي يقول به ويُحدد خصائصه لا يوضح لنا – على وجه التحديد – ما المبادئ الفعلية التي تنطبق عليها هذه السمات والخصائص؛ أي أن الأمر الكانطي المطلق يحدد لنا ما الذي يتعين علينا فعله في الواقع. وهذا هو في الحقيقة ما استطاع أن ينجو منه رولز، فالوضع الأصلي هو في جوهره مفهوم يوضح لنا ما تلك المبادئ التي يختارها أشخاص أحرار يتسمون بالعقلانية وحرية الإرادة، في حين أن العقل الخالص عند كانط هو الذي يمدنا بالمبادئ الأخلاقية؛ هذه المبادئ ممثلة في مبادئ العدالة عند رولز، التي يتم اشتقاقها من مقدمات معينة تتمثل في شروط الوضع الأصلي، التي تمتزج فيها عوامل عدة منها: الحقائق السيكولوجية والتفاعل الاجتماعي في سياق من الندرة والمطالب التنافسية. وهكذا، ينأى رولز عن الطابع العقلاني الخالص الذي اتسم به كانط، في الوقت الذي تظل فيه نظريته تردد في أعماقها النغمة الكانطية المميزة نفسها

 القانون بين العام والخاص

يُعد كتاب كانط "المبادئ الميتافيزيقية لنظرية الحق" من أهم الكتب التي تناولت فلسفة القانون في مجال السياسة والأخلاق. وقد عالج موضوع "الحق"(30) في كثير من محاضراته، خاصة ما يتعلق بالحق الطبيعي أو القانون الطبيعي، فضلاً عن إشاراته إليه في ثنايا حديثه عن الفلسفة الأخلاقية بوجه عام. وفي مستهل حديثه عن نظرية القانون يتساءل كانط: ما القانون؟ (31) يجيب: القانون -بحسب العقل- لا يتعلق إلا بالعلاقة الخارجية العملية القائمة بين الأشخاص بعضهم ببعض، من حيث إنهم بأفعالهم يؤثر بعضهم في بعض تأثيراً مباشراً؛ إنه لا يحدد علاقة الحرية للواحد مع الرغبة أو الحاجة للآخر، بل علاقة حرية الفاعل مع حرية غيره. وفي هذه العلاقة المتبادلة بين الحريات لا يُنظر في مادة الإرادة؛ أي في الغاية التي ينحو إليها كل واحد، بل يُنظر فقط في الشكل الذي تتخذه هذه العلاقة. وعلى هذا فإن القانون هو مجموع الشروط التي يخضع لها ملكة الفعل الحرة لكل شخص إذا كانت قاعدته تُمكن من مثل هذا الاتفاق، ومن هنا جاءت القاعدة الأساسية: " افعل خارجياً بحيث يمكن للاستعمال الحر لإرادتك أن يتفق مع حرية الجميع وفقاً لقانون كلي"(32). إن المسألة الجوهرية في هذه القاعدة – كما يرى كانط – هي تبرير استعمال القسر لمنع الناس من التعدي على حرية الآخرين، وهذا القسر الذي يفرض بشكل قانوني لا يمكن تبريره إلا لضمان الحرية.
ويتألف كتاب "نظرية الحق" عند كانط من قسمين: الأول يتناول القانون الخاص، والثاني القانون العام. في القسم الأول يعالج العلاقة بين القانون الخاص أو الطبيعي، وبين القانون العام خاصة القانون السياسي. ويتناول القانون الخاص ما يتعلق بالملكية، أو -على حد تعبير كانط – "ما لي" و "ما لك"، ولهذا يبدأ بحثه في النظرية العامة للقانون الخاص بتعريف الملكية على النحو التالي: "ما لي بحسب القانون هو ما أنا مرتبط به إلى درجة أن استعمال الغير له دون موافقتي من شأنه أن يضر بي. والملكية هي الشرط الذاتي لإمكان الاستعمال بوجه عام"(33). ويُدرج ضمن موضوعات القانون الخاص: التعاملات والعقود التي أصبحت مألوفة في الوقت الحاضر.
ويتطرق كانط أيضاً إلى مناقشة الحقوق التي يتعين على الأشخاص القيام بها، وتتضمن الحقوق الواجبة على الأشخاص مثل: حقوق الزوج على زوجته، وحقوق الوالدين على أبنائهما، وحقوق صاحب المنزل على من يعمل في خدمته. وفي القسم الثاني يتناول القانون العام، أو القانون السياسي؛ أي العلاقة القانونية بين المواطن من ناحية والوطن من ناحية أخرى، أو الدولة. ولا يمكن أن يكون هناك حق خاص خارج نطاق الوضع المدني، بمعنى أدق خارج نطاق دولة ذات قدرة على فرض أساليب قسرية تستطيع بها ضمان الحقوق الخاصة للمواطنين. ويرى كانط أنه لا يمكن أن تتحقق العدالة في علاقات البشر بعضهم مع بعض إلا في ظل مجتمع يشكل دولة مدنية (34).
 أما رولز، فقد رأى أن الحقوق السياسية والمدنية للفرد حقوق لها حرمه لا تُنتزع، وأن أكثر سمة تميز الطبيعة البشرية هو قدرتنا على أن نختار بحرية الغايات التي نسعى إلى تحقيقها. لقد آمن رولز – مقتفياً خطى كانط – أن أكثر سمة تميز الطبيعة البشرية هو قدرتنا على أن نختار بحرية الغايات التي نسعى إلى تحقيقها.  ويترتب على ذلك أن الواجب الأول للدولة تجاه مواطنيها هو أن تحترم هذه القدرة على الاستقلال الذاتي، وأن تترك للمواطنين حرية العيش وفقاً لاختياراتهم الذاتية، وأن تعاملهم، وفقاً لعبارة كانط، كغايات وليس كوسائل. يقول كانط: "إن الكائنات العاقلة تخضع جميعاً للقانون الذي يقضي ألا يعامل كل منهم نفسه وغيره من البشر كوسيلة أبداً، بل أن تكون المعاملة لهم دائماً وفي الوقت نفسه كغايات في ذاتها"(35). الواجب الأول للدولة الليبرالية– عند رولز -هو أن تحمي الحريات المدنية الأساسية للفرد، والتي لا يوجد شيء يمكن أن يُعوض عنها(36). وعلى هذا الأساس عنى رولز بما يسمى "حق الشعوب"، عدَّه مفهوماً سياسياً يختص بمبادئ القانون الدولي ومعاييره. ويتوازى مع هذا المفهوم مفهوم آخر، وهو "مجتمع الشعوب" التي تتبنى مُثل ومبادئ حق الشعوب في علاقاتها المتبادلة.

قانون الشعوب
يسعى رولز في كتابه ” قانون الشعوب”(37) الصادر عام 1999، إلى أن يوسع نطاق أفكاره حول العدالة لتشمل الساحة الدولية، وقد حاول أن يبين موقف الليبرالية من إمكانية العلاقة مع الآخر غير الليبرالي؛ وحجة رولز هي أن” قانون الشعوب” لا يقضي بأن تكون جميع المجتمعات ليبرالية؛ بل يكفي أن تحترم الحد الأدنى من الليبراليات التقليدية فقط؛ مثل: حرية التعبير، وحرية العقيدة الدينية؛ يقول: “إن قانون الشعوب يؤمن بوجهة نظر سمحة وإن لم تكن ليبرالية، ومن القضايا الجوهرية في السياسة الخارجية للمجتمعات الليبرالية أن تقرر إلى أي حد يمكن قبول الشعوب غير الليبرالية”(38).
ويستعمل رولز كلمة “شعوب” بدل كلمة “دول”؛ لأنه وجد في الشعوب سمات تختلف عن سمات الدول منها: أن الشعوب لا تحركها منافعها الخاصة، بل تحدد مصالحها الأساسية بشكل معقول دون المساس بمصالح الشعوب الأخرى؛ أي أن الشعوب تمتلك جانباً أخلاقياً، بخلاف الدول، التي دأبت أن تكسب مصالحها، حتى وإن كانت على حساب مصالح دول أخرى؛ وأن الشعوب لا تمتلك السيادة حتى في التعامل مع مواطنيها، مما يعنى أن الدول الكبرى والمنظمات الدولية تمتلك كامل الحرية في التدخل في شؤونها (39). و”الدول هي الطرف الفاعل في العديد من نظريات السياسة الدولية حول أسباب الحرب والحفاظ على السلام. وكثيراً ما يُنظر إلى الدول على أنها عقلانية شديدة الحرص على قوتها – أي قدرتها (عسكرياً واقتصادياً ودبلوماسياً) على التأثير على الدول الأخرى – وتعمل دائماً على تحقيق مصالحها الأساسية”(40).
وهذا يذكرنا برأي كانط في كتابه “مشروع للسلام الدائم” الذي نشره عام 1795 ، والذي أعلن فيه أن إنشاء “حلف بين الشعوب” هو السبيل الوحيد للقضاء على شرور الحرب وويلاتها. ولابد من الاعتراف –على حد قوله –”بأن الدول ما زالت في علاقاتها الدولية على حال من الهمجية والانحطاط البهيمي، وأن الوسيلة الوحيدة للخلاص من هذا الوضع هو اقتلاع الداء من جذوره والاستعاضة في كافة العلاقات الدولية عن حالة الطبيعة بحالة الشريعة وتنظيم الأمم جميعاً عن طريق تعاقد حر بين الأفراد؛ أي جمع هذه الأمم في تحالف سلمي”(41).
ويقدم رولز مفهوم “قانون الشعوب” من خلال نظريتين هما: “النظرية المثالية” التي تشمل مجتمع الشعوب الديمقراطية الليبرالية والشعوب السمحة(42) التي تتمتع بسمات معينة تجعلها مقبولة لتصبح جزءاً من مجتمع الشعوب. والنظرية الأخرى هي “النظرية اللا مثالية” ويندرج تحت هذه النظرية نوعان من المجتمعات: النوع الأول: مجتمعات ترفض فيها الحكومات أن تحترم قانوناً معقولاً للشعوب، يطلق عليها تسمية الدول الخارجة على القانون، ويناقش رولز فيها الإجراءات التي يمكن للشعوب الليبرالية والشعوب السمحة أن تلجأ إليها في مواجهتها لمثل هذه الدول. النوع الثاني من المجتمعات التي يندرج تحت النظرية اللا مثالية هو المجتمعات المغلوبة على أمرها، مجتمعات مثقلة الكاهل بظروف غير مواتية؛ أي مجتمعات لها ظروف اقتصادية واجتماعية وتاريخية تجعل من الصعب – وربما من المستحيل – أن تصبح مجتمعات جيدة التنظيم سواء ليبرالية أو سمحة(43).
ويحدد رولز مبادئ المساواة بين الشعوب مؤكداً أن مثل هذه المبادئ سوف تفسح المجال لأشكال متعددة للروابط التعاونية والاتجاهات بين الشعوب، إلا أنها لم تصل إلى قيام ما يسمى “بالدولة العالمية”. وهنا يوافق رولز ما ذهب إليه كانط في الاعتقاد بأن الحكومة العالمية سوف تكون حكومة هشة ممزقة بحروب مدنية مستمرة، عندما تحاول الثقافات المنفصلة أن تكسب استقلالها السياسي(44). يقول كانط: “إن فكرة قانون الشعوب تقتضي الانفصال بين الكثير من الدول المجاورة المستقلة، وهي في نظر العقل أفضل من ضم تلك الدول تحت لواء دولة واحدة، تطغى على سائرها، وتصير ملوكية شاملة، فالواقع أنه كلما اتسعت رقعة الدولة ضعفت قوة القوانين”(45).
من هذا المنطلق يحدد رولز المبادئ المتعارف عليها للعدالة بين شعوب حرة وديمقراطية، وهي ثمانية مبادئ على النحو الآتي:
1- الشعوب حرة ومستقلة، كل شعب يحترم حريات الشعوب الأخرى واستقلالها.
2- يجب على الشعوب أن تحترم المعاهدات والتعهدات.
3- الشعوب على قدم المساواة، وهي أطراف في الاتفاقيات التي تلتزم بها.
4- تحترم الشعوب واجب عدم التدخل.
5- الشعوب لها الحق في الدفاع عن النفس، ولكن ليس لها الحق في شنِّ الحرب، أو التحريض عليه لأسباب غير الدفاع عن النفس.
6- تحترم الشعوب حقوق الإنسان.
7- تلتزم الشعوب بقيود محددة في ممارسة الحرب.
8- يجب على الشعوب مساعدة الشعوب المغلوبة على أمرها، التي تعيش تحت وطأة ظروف غير مواتية، تمنعها من أن يكون لها نظام اجتماعي وسياسي عادل أو سمح (46).
يرى رولز أن هذه المبادئ تتطلب الكثير من الشرح والتفسير، وبعضها غير ضروري في مجتمع شعوب جيدة التنظيم كالمبدأ السابع الخاص بالسلوك في الحرب، والمبدأ السادس حول حقوق الإنسان. أما المبدأ الرابع (مبدأ عدم التدخل) نجد أن رولز يعتقد بوجوب تقييده بضوابط وقيود في الحالة العامة للدول الخارجة على القانون، وعلى الرغم من أن هذا المبدأ مناسب لشعوب منظمة بصورة جيدة ؛ فإنه لا يصلح لمجتمعات شعوب غير منظمة، تكثر فيها الحروب والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان.

الانتقادات التي وُجهت إلى نظرية العدالة
يُعد مايكل ساندل (5 مارس – 1953) من أهم المفكرين المعاصرين الذين تحدثوا عن معنى المساواة والحرية والعدالة التوزيعية، ومن أبرز الذين تناولوا طرح رولز عن العدالة والليبرالية السياسية التي يمثلها بالدراسة والنقد في كتابه: “الليبرالية وحدود العدالة”؛ حيث ينطلق ساندل من النظر في مدى صحة المقولة التي ترى أن المجتمع الليبرالي مجتمع يحرص على عدم إملاء أي طريقة معينة في الحياة على أفراده، تاركاً لهم أكبر حرية ممكنة في تحديد القيم التي يتبنونها والغايات التي يسعون إليها في الحياة. وعلى الرغم من أن ساندل رأى أن ليبرالية رولز مدينة لكانط في معظم آرائها الفلسفية، كما أنها جاءت معارضة للتصورات النفعية من حيث قولها بأسبقية الحق على الخير؛ فإنه رأى عيب هذه الليبرالية المعاصرة في كونها لم تأخذ بعين الاهتمام مسألة الجماعة، بل اهتمت بتفرد الذات بشكل قبلي، بمعنى أن لا ذات عند رولز إلا الذات التي يفترض مسبقاً أنها منفردة بنفسها؛ لكن الذات – كما يراها ساندل – هي ذات مجسدة ضمن نسيج من العلاقات الاجتماعية والإنسانية(47).
وصف “ساندل” وصفاً دقيقاً – في معرض حديثه لنقد الليبرالية – غياب المساواة والعدالة في النظام الليبرالي الغربي، بالرغم من كل التطور الذي لحق به، فقد رأى أن ثمة جماعات تتعرض للظلم (كجماعة وليس كأفراد)، وأن الطبقة المهيمنة في النظام الجديد – لحظة التأسيس – تبقى مسيطرة في جميع اللحظات التي تليها، مادام النظام الليبرالي يقدم الحرية في تحقيق أعلى ربح على العدالة الاجتماعية؛ ولا يسعى إلى محاربة سوء توزيع الثروة أو توسيع المستفيدين من الخير العام.
أما أمارتيا صن (3 نوفمبر – 1933) فقد أقر- عند نقده لرولز – بأن مفاهيمه الأساسية ظلت تقدم له الكثير عند بحثه في مشكلة العدالة، وبأن أعمال رولز تُعد تحولاً مهماً في الفلسفة السياسية والأخلاقية المعاصرة، يقول “صن”: “لا يسعني البدء بانتقاد رولز دون الإقرار أولاً بعظيم أثره في فهمي الخاص للعدالة والفلسفة السياسية عموماً، وعظيم الدَّيْن الذي أدين له به. فقد أشعل في نفسي جذوة الاهتمام الفلسفي بموضوع العدالة”(48).
لقد رأى “صن” أن نظرية العدالة تشتمل على متطلبات إعمال العقل في تحليل مفهومي “العدل والظلم”، وقد حاول الذين كتبوا في مفهوم العدالة -على مدى مئات السنين في مختلف أرجاء العالم- تقديم أساس فكري للانتقال من الإحساس العام بالظلم إلى التحليل الفكري الدقيق له، ومن ثم تطرقوا إلى تحليل المعنى الخاص بإعلاء قيمة العدل. ومن هنا، يعتقد صن أن الاشتغال على مستوى المؤسسات، في التنظير للعدالة، الذي يطلق عليه “المقاربة المؤسسية الما-فوقية”، المرتبطة بنمط تفكير العقد الاجتماعي السائد بتأثير من رولز، ومن تأثر بهم، كروسو وكانط (في الفلسفة السياسية المعاصرة فيما يخص مفهوم العدالة)- يظل قاصراً من ناحية عدم اهتمامه بالسلوك الفعلي للناس. بمعنى آخر: إن المؤسسية الما فوقية -في بحثها عن الكمال، تركز – في المقام الأول – على الوصول إلى المؤسسات العادلة، ولا تهتم مباشرة بالمجتمعات الفعلية التي ستنبثق في النهاية من تلك المؤسسات؛ إذ لابد لطبيعة المجتمع الذي سينتج عن أي مجموعة معينة من المؤسسات أن تعتمد على سمات لا مؤسسية، كأنماط السلوك الفعلي للناس وتعاملاتهم الاجتماعية(49).
ولا شك أن القائلين بمذهب “المؤسسية الما فوقية” الباحثين عن مؤسسات عادلة تماماً -فيما يرى “صن”- قد قدموا تحليلات مضيئة للواجبات الأخلاقية والسياسية التي ينطوي عليها السلوك المناسب اجتماعياً؛ مثل: كانط، ورولز. فكلاهما شارك في البحث المؤسسي الما فوقي، لكنهما قدما تحليلات بعيدة الأثر لمتطلبات المعايير السلوكية. وبالرغم من أنهما ركزا على الخيارات المؤسسية؛ فإنهما أغفلا السلوك الفعلي للناس المرتبط بما هو واقع؛ أي ما يطلق عليه “المقاربة الما تحتية” التي تركز على الواقع الفعلي للمجتمعات

وتُعد الانتقادات والردود المتبادلة التي قامت بين رولز ويورجين هابرماس (18 يونيو – 1929) من أهم المناقشات المعاصرة التي أثارتها نظرية العدالة بوصفها إنصافاً، خاصٌة ما يتعلق بالمقاربة الليبرالية السياسية التي تقيدت بحدودها وتأسست على مقولاتها. وقد ارتكزت انتقادات هابرماس الرئيسة لنظرية رولز في العدالة على ثلاث مسائل هي: أولاً، التشكيك في قدرة الوضع الأصلي – كما جاء في العدالة بوصفها إنصافاً – عن التعبير عن حكم أخلاقي موضوعي حيادي واجبي بشأن مبادئ العدالة، ثانياً: الإخفاق في عدم توضيح الشروط والضوابط التي يتعين على الأطراف المشاركة في التفاوض التوصل من خلالها إلى مفهوم سياسي للعدالة يمكنه أن يقوم على أساس أخلاقي ملائم. ثالثاً: الإخفاق في تحقيق الهدف المتمثل في المواءمة بين الحريات والحقوق الليبرالية الجوهرية وفق المفهوم الليبرالي المعاصر وبين مفهومها عند القدماء

 يرى هابرماس أنه لا يمكن للمواطنين الذين يُفترض أنهم يتمتعون بالاستقلال الذاتي أن يمثلوا عبر الأطراف المفتقرين لهذا الاستقلال، فالمواطنون ذوو قوة أخلاقية بوصفهم أعضاء في مجتمع ديمقراطي مثالي حسن التنظيم، ولهم حس بقيمة العدالة والقيم السياسية الأخلاقية عموماً. إذن، فكيف لمبادئ العدالة – التي جرى التعاقد عليها – أن تتناسب مع شروط تفكير غير موافقة لعقل المواطنين العام؟ كيف لهذه المبادئ أن تعبر عن الشرعية السياسية الليبرالية؟

ولا شك – فيما يرى هابرماس – أن الحقوق والحريات الليبرالية السياسية -بوصفها رؤية مثالية -هي تنظيم للعلاقات بين مواطنين متفاعلين قادرين على اتخاذ قرارات وأحكام حقيقية. ومن ثم فإن رولز لا يقدم حلاً كافياً لمشكلات الاستقرار في ظل واقع التعددية، فالحريات والحقوق الأساسية مثل: الضمير والملكية -وغير ذلك، مما عده رولز أولوية دستورية لا تنازل عنها ولا مقايضة لها بغيرها -تبدو غير منسجمة مع المقاربة الجمهورية التي تقول بأولوية المشاركة السياسية بوصفها حقاً يجعل المواطن مستقلاً ومؤكداً ذاته كعضو في الجمهورية، ولخيره السياسي العام المتمثل في الاستقرار الاجتماعي السياسي. وبناء عليه، فإن ليبرالية رولز السياسية غير قادرة على التعامل مع واقع التعددية بشكل ملائم(53).
ورغم جميع هذه الانتقادات يمكن رؤية تأثير “جون رولز” ومن قبله “كانط” في أعمال معاصرة أخرى تخص مفهوم العدالة، منها أعمال: توماس ناجل (4 يوليو – 1937)، وتوماس سكانلون (1940)، وروبرت نوزيك (1938 – 2002)، وكثير غيرهم الذين تأثرت تحليلاتهم لمشكلات العدالة تأثراً قوياً بنظرية “كانط” و “جون رولز”.

المراجع والمصادر:
(1) يُعد “جون رولز” من أبرز فلاسفة الفكر الليبرالي السياسي المعاصر، فقد أثارت كتاباته كثيراً من القضايا المتداولة على الساحة الدولية اليوم، ويحتدم في الغرب حوار وجدل مستمران بشأن موضوعات مثل: العدالة والإنصاف، والليبرالية السياسية، وحقوق الإنسان، وقضايا المجتمع المدني، والديمقراطية، وغيرها من المفاهيم التي أصبحت متداولة في الفكر السياسي المعاصر. وقد حاول “رولز” عبر مؤلفاته ترسيخ الأسس التي بُنيَت عليها النظرية الليبرالية بأبعادها المختلفة، وأكَد الحرية الفردية وتنمية قدرات الإنسان الذاتية.
– يُنظر إلى: جان مارك فيري، فلسفة التواصل، ترجمة وتقديم د. عمر مهيبل، الدار العربية للعلوم – ناشرون، المركز الثقافي العربي، الجزائر، 2006، ص 111.
محمد العمراوي، العدالة الاجتماعية: مقاربة معرفية للمفهوم والأبعاد، مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، المغرب، 2015.
محاورة الجمهورية لأفلاطون، دراسة وترجمة د. فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1985، ص 83 من دراسة المترجم.

 الواقع أن "جون رولز" كان اسماً مجهولاً خارج الأوساط الأكاديمية ، أو على وجه الدقة : خارج دائرة قراء البحوث الفلسفية المتخصصة؛ لكنه بعد صدور كتابه: "نظرية في العدالة" أصبح من ألمع أعلام الفلسفة المعاصرة لدى جميع المثقفين في معظم أنحاء العالم. وقد وصف كتابه بعض المفكرين السياسيين بأنه "تحفة فريدة"، وإسهام لا نظير له في مجال الفلسفة السياسية؛ وربطوا بين هذا الكتاب وبين الأعمال العظيمة الخالدة "لأفلاطون" و"جون ستيوارت مل" و"كانط".
  - يُنظر إلى: أنطوني دي كرسبني، وكينيث مينوج، أعلام الفلسفة السياسية المعاصرة، ترجمة ودراسة د. نصار عبد الله، منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1996،  ص 132 -131 .               
 جون رولز، نظرية في العدالة، ترجمة ليلي الطويل، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الث، نظرية في العدالة، ص 12.
  إمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة د. عبد الغفار مكاوي، مراجعة د. عبد الرحمن بدوى،  الهيئة المصرية العامة للكتاب، 
   - يُنظر أيضاً إلى: د. عبد الرحمن بدوي، إمانويل كنت. فلسفة القانون والسياسة، وكالة المطبوعات، الكويت، 1979        ،  ص26.   
  جون رولز، قانون الشعوب وعود إلى فكرة العقل العام، ترجمة محمد خليل، المشروع القومي للترجمة،   عدد(1074)، 2007، ص 20.                                      
  كانت، مشروع للسلام الدائم، ترجمة د. عثمان أمين، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1952، ص 51.  
  جون رولز، نظرية في العدالة، ص 38.

 بومدين بوزيد، فلسفة العدالة في عصر العولمة، الدار العربية للعلوم ناشرون، الجزائر، 2009، ص 146.  
   - أيضاً: عادل صابر راضي، الفكر الليبرالي السياسي المعاصر (جون رولز أنموذجاً)، مجلة الفلسفة، العدد                          العاشر، 2013، ص 95.      
  جون رولز، العدالة كإنصاف: إعادة صياغة، ترجمة د. حيدر حاج إسماعيل، مراجعة ربيع شلهوب، المنظمة       العربية للترجمة، بيروت - لبنان، 2009، ص 90.

الوجود واشكالياته ومفهومة عند الفيلسوف مارتن هايدغر

مارتن هايدغر (بالألمانية: Martin Heidegger)‏ (20 سبتمبر – 26 مايو 1976) فيلسُوف أَلَمَّانِي. ولد جنوب ألمانيا، درس في جامعة فرايبورغ تحت إشراف إدموند هوسرل مؤسس الظاهريات، ثم أصبح أستاذاً فيها عام 1928.وجه اهتمامه الفلسفي إلى مشكلات الوجود والتقنية والحرية والحقيقة وغيرها من المسائل. ومن أبرز مؤلفاته: الوجود والزمان (1927) ؛ دروب مُوصَدة (1950) ؛ ما الذي يُسَمَّى فكراً (1954) ؛ المفاهيم الأساسية في الميتافيزيقا (1961)؛ نداء الحقيقة؛ في ماهية الحرية الإنسانية (1982) ؛ نيتشه (1983)

هايدغر بتأثيره الكبير على المدارس الفلسفية في القرن العشرين ومن أهمها الوجودية، التأويليات، فلسفة النقض أو التفكيكية، ما بعد الحداثة. ومن أهم إنجازاته أنه أعاد توجيه الفلسفة الغربية بعيداً عن الأسئلة الميتافيزيقية واللاهوتية والأسئلة الإبستمولوجية، ليطرح عوضاً عنها أسئلة نظرية الوجود (الأنطولوجيا)، وهي أسئلة تتركز أساساً على معنى الكينونة (Dasein). ويتهمه كثير من الفلاسفة والمفكرين والمؤرخين بمعاداة السامية أو على الأقل يلومونه على انتمائه خلال فترة معينة للحزب النازي الألماني.

في مؤلفه – الوجود والزمن – يسعى مارتن هيدجر، المؤسس الحقيقي للوجودية بعد هسرل، إلى البحث عن مفهوم الوجود من خلال إعادة تأسيس الميتافيزيقيا، لكشف فلسفة الوجود وليس لأنشاء فلسفة للوجود، لذلك بحث عن الأنطولوجيا الكامنة المستترة أو التي كما هي أو التي من المفروض أن تكون على شاكلة معينة حسب التصور الهيدجري الفلسفي العام – الوجودية -، ولم يبحث عن إنشاء أنطولوجية تأليفية تركيبية.

في هذا الكتاب، أكترث هيدجر بمسألة غير واضحة لأول وهلة، وأرتبك في التمايز ما بين الوجود لذاته، والوجود في ذاته. لكن نحن نعتقد، لدى الدراسة المتمعنة في مجمل مؤلفاته، إنه أقرب فلسفياُ إلى الوجود لذاته الذي يتناسب أكثر أيضاُ مع الفلسفة المتعالية الترانسندنتالية. فدعونا نأخذ المعطيات بروية:

أولاُ :

هيدجر يدرك، تمام الأدراك، نقطة الأنطلاق لديه ويضعها ويرستقها بالضبط في الموقع الذي تستحقه. وحينما يتسائل ويصوغ الحيثيات على صيغة أسئلة محددة، فأنه على دراية أكيدة بالمسوغات الجوهرية المحركة لخلفيتها، ويسترسل في فرضياتها لتبدو في النهاية أكثر أنسجاماُ مع المشروع العام.

ثانياُ :

هيدجر يدرك إن معظم الفلاسفة الذين سبقوه – سيما أرسطو – قد عالجوا مفهوم الوجود من خلال محتوى الموجود، فحينما تحدثوا عن الميتافيزيقيا – الوجود – قصدوا الفيزيقيا – الموجود – فأختلف لديهم مستوى المحمول والموضوع، وأرتبكت، حسب هيدجر، مصادر ومخططات موضوعات الطبيعة. فالفيزيقيا التي هي الموجود الحاصل بالفعل – لأنه الموجود وليس لأنه موجود – لايمكن أن تكون موضوعة للميتافيزيقيا التي من المفروض أن تعالج مفهوم ماورائي لأساس المشكلة برمتها، أي تحديداُ مفهوم، محتوى، وطبيعة الوجود.

هنا، نحن ندرك إننا إزاء ورطة لغوية تعبيرية، لأن الموجود الهيدجري هو موجودي وليس وجودي، كما أن وجوده هو وجودي وليس موجودي، وهذه هي النقطة الأستراتيجية الرائعة التي تحتضن تصوره. ولتبيان ذلك نقول إن الميتافيزيقيا لدى أرسطو هي الفيزيقيا لدى هيدجر، والوجود لدى هيدجر هو – الميتاوجود – المفترض لدى أرسطو.
ثالثاُ : وعندما يتساءل هيدجر عن الشيء الذي يجعل الموجود موجوداُ، فيؤكد مضطراُ إنه الوجود الذي يمنح الموجود موجوديته دون أن يمنح نفسه – موجوديته – وكأن الميتافيزيقيا تخلق الفيزيقيا دون أن تسمح لنفسها بالقفز إلى الوجود الأرسطوي أو الميتاوجود الهيدجري، رغم أنه تارة يؤكد إن الفيزيقيا هي الموجود الذي مازال موجوداُ بما هو كذلك من ذاته ويجعل وجوده حاضراُ. وكأن اللاحضور – الغياب – يدفع بالحضور إلى الحضور دون أن يتمكن هو بالقفز إلى الحضور..

رابعاُ :

وحينما يقيم هيدجر هذه القطعية الأبدية، يحتسبها من جانب واحد منسجم مع نقطة الأنطلاق، ومتوازي مع جوهر تصوره العام، فالقطيعة التي لايمكن أن تكون من جانب – الموجود – الذي هو حضور عيني وليس حضوراُ فلسفياُ، كما توهم الكثيرون، هي من جانب – الوجود – الذي هو قبل كل شيء حضور فلسفي، لذلك يفارق هيدجر عن قصد وبدراية كاملة ما بين الأنطولوجيا والأونطيقي ( الفرق الأنطولوجي )، وكأنه يفارق ما بين رؤيا هيجل – تصور محض – ورؤيا توماس الأكويني – فعل صرف -، فالأنطولوجيا هي الوجود وما ورائيته ولاحضوره، والأونطيقي هو الموجود وأمتلاؤه وحضوره وهمومه وآلامه وكبده وربما أغترابه..

خامساٌ :

وإن ما يعزز مضمون الفقرة الرابعة، هو أن هيدجر يوضح حالة، في الحقيقة أفتراضية، ويزعم أن الوجود إذا ما أصبح – موجوداُ – لسبب ما، أصبح موجوداُ بالفعل، وأنتفى أن يكون – وجوداُ -، وهذه الحالة وأن كانت أفتراضية إلا أنها تدلل على ذهنية هيدجر، التي هي بالأساس متهمة بالغموض والأرتباك، وتشير إلى مرجعية تصوره الفلسفي، سيما وإن الحالة العكسية مرفوضة بالأساس، أي الأنتقال من الموجود إلى الوجود. وربما لهذا السبب تحديداُ، يستمر هيدجر في التأكيد ( لماذا كان ثمة موجود، ولم يكن بالأحرى لاشيء؟ وهذا ما يجبرنا على تصويغ السؤال الأول، ماذا عن الوجود؟ ).

سادساُ :

الوجود الهيدجري هو ما هو كائن وليس ما هو يكون، فالصيرورة كميكانيزم للتحول والتطور أو التفاعل أو الغثيان الرأسمالي تخص الموجود ولاتتعرف أبداُ إلى الوجود، بل هي لاتعرفه أصلاُ، وكأننا إزاء معادلة، الوجود هو الوجود، والموجود هو الموجود، مع مراعاة إن الثاني هو ما قبل الأول، والأول هو ماوراء ذاته. لذلك يحق لنا التأكيد إن الصيرورة ليست عملية أو رؤيا فلسفية في فلسفة هيدجر. وهذا ما يفضي بنا إلى النقطة السابعة والثامنة والتاسعة.

سابعاُ :

فيما يتعلق بالسلب والإيجاب، يغدوان مفهومان خاصان بالموجود والوجود والعلاقة فيما بينهما، فالموجود الذي يحجب الوجود يمثل عامل السلب في التصور الهيدجري، والوجود الذي بفضله ينكشف الموجود يمثل عامل الإيجاب فيه.

ثامناُ :

إن التقويض أو التحطيم الهيدجري، هو في الحقيقة بناء يجسد عاملاُ إيجابياُ هدفه إعادة الحياة إلى الميتافيزيقيا، أي مصالحة الوجود مع الوجود، وإعادة الأول إلى الثاني الذي ليس إلا الأول نفسه، وكأن الميتافيزيقيا ألغت الوجودية من الوجود ومنحتها للموجود، وحان آوان أن يسترد الوجود ميتافيزياقيته، ليترك الفيزيقيا للموجود..

السؤال عن الوجود

◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇◇

الوجود عند هايدغر لا ينفصل عن الحقيقة (أو الأليثين- ) التي بمفهومها اليوناني تعني اللاتحجب. لأن كل تعامل أو حكم على الموجود لا يتم الا إذا ظهر عن تحجبه. فهل قصد هايدجر باللاتحجب، الأنا المتعالي ؟. هايدجر يجد في تفسير الفلسفة اليونانية ان الإنسان ليس مركز التجربة ومحورها بل هو الموجود اللامتححب.
لقد صرح هيدجر ان السؤال عن الوجود هو الذي حرك فكره

السؤال عن الوجود في أفق الزمان

◇◇◇◇◇◇♧♧◇♧♧♧◇♧♧♧♧◇

في كتاب الوجود والزمان يتحدث هيدجر عن الوجود (أو الدازين- ) و يعني به الوجود الإنسي الذي يبقى دائما على علاقة بالموجودات ويتميز عن سائر المخلوقات بفهم هذا الوجود والسؤال عنه.
هيدجر سلط ضوء جديد على تاريخ الميتافيزيقا من افلاطون حتى مناقشي القرن العشرين لموضوع الوجود و أكسى الفينومنولوجيا ثوبا انثروبولوجيا جديد، تعذر على رائدها هوسرل التعرف عليها.
كتاب الوجود والزمان كان بداية انقلاب جديد في الفكر الفلسفي و من المهم في هذا الكتاب معرفة الهدف الأساسي و هو السؤال عن الوجود، و ارتباطه بمشكلة الزمان لأن الزمان هو الأفق الذي نطل منه على مسألة الوجود.
الكتاب مقسم إلى قسمين: الأول يتناول تفسير الآنية الوجودية من جهة زمانية بحتة و تفسير الزمان بوصفه الأفق الترانسندنتالي للوجود. أما القسم الثاني فيشرح المعالم الرئيسية “للتحطيم الفينومينولوجي” لتاريخ الانطولوجيا على المستوى الزماني.
بدأ هيدجر من محاورة السفسطاني للإجابة على سؤال قديم قدم الميتافيزيقا. وهو لا يعني أن يصلنا بالتاريخ، بل يريد تصفيته مما يشوبه من غموض و التباس.
هل يمكننا أن نسأل عن الوجود ومعناه، إن لم نسأل أولا عمن يطرح السؤال ونحلل مقومات وجوده ؟. السائل يتفرد عن غيره من الكائنات إلى أنه الموجود الذي يهتم بوجوده. وتحليل الآنية لا يتم من خلال تأملات انثروبولوجية أو نفسية أو اجتماعية، بل الهدف هو التعرف على ماهية السائل.
ويصف هيدجر هذا السؤال بالأنطولوجيا الأساسية التي تريد تحليل اسلوب وجود السائل وتبين مقومات موجوداته. من حيث هو الوحيد الذي له علاقة دائمة مع ذاته و كينونته، أي أن له خاصية التواجد. التي لم تفطن لها الانطولوجيا التقليدية.
المهمة الرئيسية للسؤال عن الوجود تقوم على تحليل الآنية من جهة وتحطيم تاريخ الأنطولوجيا من ناحية أخرى.
ومن الصعوبة أن نقول شيئا عن الآنية، لأن العالم يغرينا بما نعرفه ونكرره في حياتنا اليومية.
هايدجر يقترح طريق دائري يبدأ بالموجود وينتهي بالوجود، ومن ثم يبدأ مرة أخرى بتحليل الآنية بعد أن حدد الوجود.
ماذا يقصد هايدجر من تحطيم تاريخ الانطولوجيا ؟. يقصد ان الآنية محتضنة في التراث والعادات والتاريخ بشكل عام، ولهذا نراها تترك مام امرها للتاريخ لاجتياز قراراتها الحاسمة، دون أن تكلف نفسها مشقة استشراف هذا التراث لاستشفاف وجودها التاريخي الخاص. فلا بد ازالة الحجب التي تراكمت على التراث والرجوع إلى المنابع الاصلية للمفاهيم والمقولات التي شوهتها المذاهب المتوالية التي اهملت السؤال الرئيسي عن الوجود.
يؤكد هيدجر ان منهجه فينومنولوجي، ولكن ليس بالتصور الهوسرلي الذي يرد كل شيء إلى الأنا الخالص (الذي يبقى حتى لو فني العالم). ويقول انالنطولوجيا ممكنة إذا أصبحت فينومنولوجيا. لأن الفلسفة هي انطولوجيا فينومنولوجية تبدأ من تفسير الآنية بوصفها مسار كل سؤال فلسفي.

وقبل أن أبدي أعتراضاتنا على مجمل هكذا تصور، أحبذ أن أسجل طبيعة الأمور الآتية :

الأمر الأول :

إن الوجود الهيدجري لايراهن على خاصيته كوجود، إنما ثمت عامل يوشك ألا ينفصل عنه، وهو الزمن، أو ما سمي بالزمن الوجودي، وربما من الأنسب تسميته بالزمن الأنطولوجي. وهذا بدوره سيكون موضوع حلقة خاصة، لأن هيدجر أستخدم مفهوماُ له خصوصيته – الزمن الزماني – الذي ينم عن جملة معطيات في العلاقة ما بين الموجود والوجود، ولا يتوقف الأمر عند هذه النقطة لأننا سنرى إن ما يسمى بالزمن التزمني يناسب طبيعة الموجود دون الوجود..

الأمر الثاني :

لن نذكر كافة الأعتراضات، لأننا سنؤجل قسماُ منها لدى الحديث عن الوجود لدى الآخرين، سيما هيجل، وسندخر قسماُ آخراُ عند الحديث عن مفهوم الزمان لدى صدر الدين الشيرازي..

الأمر الثالث :

لقد تعرض الكثير من السادة للمدلولات المختلفة لدى هيدجر، دون أن ينتبهوا إلى أمر في غاية الخطورة والأهمية، وهو أن بعض آرائه لاتمثل حالة عامة، ولاتتعلق بكل تصوراته الفلسفية، إنما هي حالة خاصة بل جزئية تتعاشق فقط مع إحدى مكونات تصوره العام، الوجود، الموجود، وجود الموجود الأنساني، مثل الغياب، العدم..

والآن، أسمحوا أن أسجل الأعتراضات التالية:

الأعتراض الأول :

في المفاصلة ما بين الوجود الميتافيزيقي، والموجود الفيزيقي، عبر مفهوم الفرق الأنطولوجي، يدرك هيدجر جيداُ إن أحدهما بات غائباُ عن الآخر، فلا الوجود يستطيع أن يدنو من الموجود دون أن يحترق، ولا الموجود مؤهل أن يرتقي إلى مجال الوجود، لذا وجد نفسه مضطراُ اضطراراُ يدعو إلى الشفقة، أن يجد جسراُ ما بينهما لكي يتسنى له أن يمنح الوجود دفقه المفترض، وأن يوهب الموجود طاقة موجوديته. وما كان هذا الجسر إلا وجود الموجود الأنساني. وهذا ما سندحضه من زاويتين أثنتين، الزاوية الأولى : ياترى ما هي المفارقة مابين الأنسان والنمور والأسود والأشجار والزيزفون والنفل البري من الزاوية الأنطولوجية. أليس الأنسان في النهاية، زيد وعبيد وفاطمة وخديجة وجورج وميشيل تماماُ مثل النمور والأسود والنباتات لو سميناها بأسماء خاصة. الزاوية الثانية : ثم لو أستطاع الأنسان، عن طريق المنفتح الهيدجري، أن يتمتع بخصائص الموجود كموجود، وبعض خصائص الوجود كوجود، فما أدرانا ألا يتمتع بها بعض الاخرين من الموجودات، بل جميع الموجودات، عندئذ يهوى ويذوي الفارق الأنطولوجي ما بينهما.

الأعتراض الثاني :

بصدد المنفتح الهيدجري يرتكب هيدجر مغالطة لاتغتفر، فهو يعتقد إن وجود الوجود نفسه يرتهن بنا، وكأنه يفكر فينا وبنا، وكأننا نفكر فيه وبه. وإذا كان الأمر على هكذا صيغة، فالحري بنا أن نستنبط الأستنتاج المنطقي الموازي، وهو أن الوجود في النهاية ليس إلا وجود الموجود الأنساني، وهذا ما يرفضه هيدجر رفضاُ مطلقاُ لأنه يؤكد إن الفارق الأنطولوجي هو مابين الحضور وماهو حاضر، وما بين الوجود وما هو موجود.

الأعتراض الثالث :

في المفاضلة ما بين الوجود والموجود والمحتوى الأنساني، نستشف أمراُ غريباُ في جدلية التصور الهيدجري، فهو يخشى أن ينزلق الوجود إلى النسيان كميتافيزيقي، وهو في الحقيقة ينزلق بالضرورة إلى النسيان المطلق، ليس لنفس السبب وإنما لسبب آخر واضح هو أن هيدجر قد أستبدل الوجود المفترض بالموجود الأنساني الذي حل محل الأول في شروط وجوده، وليس في شروط كينونته التي لادور لها في هذا المقام..

الأعتراض الرابع:

في حيثية الأدراك الفلسفي، لدى هيدجر منطوق الموجود الذي كان من المفروض أن يكون صفة ل( الوجود ) تحول إلى موصوف بحاجة إلى صفة، ومنطوق الوجود الذي لايمكن، ومن شدة الحرص،أن نستخدم صفته، ومنطوق – الموجود الأنساني – الذي نحتار في توصيفه. لكن من المؤكد إن الموجود الأنساني لايمكن إلا أن ينتمي إما إلى الأول، وإما إلى الثاني، ولايجوز أن ينتمي إلى أي ثالث حسب محتوى الفارق الأنطولوجي الهيدجري. وطبقاٌ لهذه الرؤية لابد أن ينتمي إلى الأول – الموجود – لأنه لو أنتمى إلى الثاني لكنا إزاء كارثة حقيقية. وبما أنه ينتمي بالضرورة إلى الأول فإن الثاني يصبح غائباُ إلى الأبد.

الأعتراض الخامس :

يؤكد هيدجر إن الوجود هو الذي يجعل الموجود موجوداُ، ويرتكب مغالطتين، الأولى : إن – موجوداُ – هنا هو صفة للوجود وليس صفة للموجود، أي بمعنى أن الموجود موجود كوجود وليس كموجود، وبالتالي، لا الميتافيزيقيا تلبث كما هي هيدجرية، ولا الفارق الأنطولوجي يصمد كما هو هيدجري، لأن الموجود هو وجود حقيقي وفعلي طبقاُ لمنطوق هكذا تصور. الثانية : إذا كان الوجود هو الذي يجعل الموجود – موجوداُ – فلا مندوحة أن نعي كيف يتم ذلك، هيدجرياُ الوجود لايخلق الموجود، كما لايستطيع أن يكشف عنه لأن هيدجر نفسه من الموجودات، فلم يبق أمامنا إلا القول على مضض، وبالصيغة السلبية حصرياٌ، إن لولا الوجود ما كانت الموجودات، هذه هي الصيغة الوحيدة القابلة للنقاش، وهي صيغة مرفوضة، لأن الموجودات، أما أن تدل على ذواتها، أو على ذاتيتها، في الحالة الأولى، نصبح إزاء مستويين غير متوافقين فيما يخص منطوق الوجودية، وفي الحالة الثانية، نمسي في خصام قاتل مع هيدجر نفسه..

الأعتراض السادس :

لكي ندرك فلسفة هيدجر بصورة أجمل وأوضح، ينبغي أن نميز ما بين سؤالين مختلفين أساسيين. الأول : ماهي حقيقة الأنسان ووجوده، والثاني : ماهو الوجود وحقيقته. في أساس فلسفته، ينطلق هيدجر من تصور الوجود وحقيقته، لذلك قلنا إنه يدرك تماماُ نقطة الأنطلاق لديه، لكن تصور الوجود وحقيقته شيء، والإجابة الفعلية عن وقائعية هذا الوجود وحقيقته شيء مستقل آخر. وبما أنه لايدرك الوجود ولم يدركه حتى مماته، أنبرى في الشرح لمسألة حقيقة الأنسان ووجوده، وأنغرق في تداعياتها التي أستغرقته. لذلك عندما يتحدث عن الزمن، سيما عن الزمن التزمني، لايستطيع إلا أن يؤكد إن الأنسان لايعيش في الزمن، لأنه لو قالها لأكد أن الوجود الأنساني هو الوجود نفسه وهذا ما لا يرضاه، ومن هنا يزعم إن وجوده له زمنه وهذا أساس وجوهر ما عرف فيما بعد بمفهوم الدازاين الهيدجري. وأعتراضنا هنا إن الدازاين الهيدجري غير خليق أن يؤصل أساس الوجود الهيدجري، وإن كان من الممكن، وفي أحسن الأحوال، أن ينبهنا إلى موقعه المفترض..

الأعتراض السابع :

حينما نتحدث عن الموجود لدى هيدجر فأننا نتجاوز حدود المسموح به أنطولوجياُ، لأن أي من – الموجود – لايملك إلا أمتلائه وحضوره، أي جسم وشكل وهيئة وهيكل مثل الحيوانات، الطيور، الناس، الورود، الأشجار، وهذه الأشكال أو الأجسام ليست لها إلا الصفة الفردية، بمعنى تلك الشجرة، وهذه الزهرة، أو ذاك الذئب، تماماُ مثلما نقول هذا زيد وذاك عبيد. لذلك نؤكد إن فلسفة هيدجر، بعد أن راهنت على مفهوم الوجود الميتافيزيقي وأنغرقت في الموجود الأنساني، تعاملت مع تلك الهيئات الفيزيقية كالموجودات، وليس كالموجود. وأعتراضنا واضح وبديهي، من يسلب عن الموجودات قوة الوجود، يسلب عن الوجود قوة الموجودات، وبالتالي قوة الموجود، وبالتالي قوة صفة الموجود في الوجود، وبالتالي قوة الوجود في الوجود، وهذا أخطر ما يمكن أن تقترفه أي فلسفة كمغالطة..

الأعتراض الثامن :

نحن لو فارقنا ما بين فعل الكون وفعل الوجود لأدركنا، بطبيعة القضية، إن هيدجر الذي أنطلق بكل جدارة ومعرفة ووعي من فعل الكون، أنغمس كلياُ، وأختنق في غياهب فعل الوجود، وأستسلم للقلق والذعر والعوامل المرضية في المجتمعات الرأسمالية، دون أن ينتبه كمحصلة أن عليه الإجابة على السؤال التقليدي الهيدجري، ما هو الوجود، السؤال الوحيد الذي لم يجب عليه هيدجر، لأنه لو أجاب عليه لأنتفى الوجود، ولأنتهى إلى الأبد.

مصادر

♧♧♧♧♧◇◇◇♧♧♧♧♧♧♧♧♧♧

^ هايدغر الفيلسوف الوجودي/ بقلم: بولس الخوري/ثلاثون عاماً على رحيل هايدغر..

الموسوعة الفلسفية /، عبدالرحمن بدوي
الفلسفة الوجودية / عبدالرحمن بدوي

خطف، فإغتصاب،ثم قتل.. انها قصةالطفل عدنان بوشوف

بعد أيام من البحث، الطفل عدنان بوشوف،ذو إحدى عشرة سنة، القاطن بالجماعة الترابية بني مكادة

بمدينة طنجة، وُجد هذا اليوم السبت 12 شتنبر 2020م،مدفونا أمام منزل الجاني، فبعد ما خطفه المغتصب وإعتدى عليه جنسيا، وهتك عرضه، تمادى في جرمه وقتله، بل ودفنه في حديقة حي النصر بالشارع العام بالقرب من شقته التي يكتريها بمعية ثلاثة أشخاص آخرين..

الجاني المغتصب ينحدر من مدينة القصر الكبير، عازب، يبلغ من العمر 24 سنة، مستخدم بإحدى الشركات بالمنطقة الصناعية كزناية، يقطن بحي بني مكادة بمدينة طنجة..

بماذا يفسر هذا الفعل الشنيع من وجهة علم النفس؟

هذا الفعل بيدوفيلي، هو نوع من الإضراب يعاني منه الجاني، بحيث جسد الطفل يشكل له موضوع إغراء، عبر مجموعة من الأفكار والإستيهامات الجنسية المنحرفة، علميا المرتكبون لهذا الفعل يتميزون بالعدوانية، والعنف، يتصيدون فرصة إصطياد جسد الطفل.

الدراسات تقول ان المعتدي والغاصب المرتكب لهذا الجرم، 80٪ يكونون من محيط الاسرة، سواء من العائلة أو من الجيران والذين يعرفون محيط أسرة الضحية.

الفاعل لهذا الجرم، 70٪ يكونون تعرضوا للإعتداء الجنسي، وبالتالي يعيدون إنتاج هذا السلوك الذي مُورِس عليهم..

ويعيدون إنتاج هذا السيناريو، بمرارته وبشاعته، من التلذذ بجسد طفل بريئ، ونهش جسده، وقضاء شهوة حيوانية منحرفة، و إنتهاء بقتل الضحية، ودفنه من أجل طمس معالم الجريمة..

هل هناك علاج لمثل هاته السلوكيات المنحرفة؟

من خلال تجربتنا المتواضعة في الحقل السيكولوجي:

1-نوصي بتربية جنسية لفلذات أكبادنا، الأطفال، إبتداء من السن الثالثة من العمر.

2-يجب على المجتمع تحمل مسؤوليته، بالتحسييس والتتبع، والمراقبة، والعمل على سبل الوقاية..

3-تنبيه الأطفال بالإبتعاد عن كل شخص يشكل تهديد للسلامته الجسدية ولو من داخل الأسرة..

4-يؤكد الخبراء الدوليين في مجال حماية الطفولة أن المتحرش والمغتصب لأي طفل يتربص به بمعدل شهر تقريبا قبل ارتكاب فعلته ، حيث يمر من مراقبته ومراقبة تحركاته ، إلى القاء التحية عليه ، ثم كسب ثقته بهدايا كالحلوى وماجاورها ، الى لمسه وتقبيله قبل عادية ، وأخيرا استدراجه بسهولة تامة الى مكان خال للإنفراد به وارتكاب جريمته.

نصيحتي كأب أوجهها للآباء وللمربين بصفة عامة . خصصوا هامشا ولو ضيقا يوميا للحوار مع ابنائكم ومتعلميكم. وخاصة الآباء. عند طاولة العشاء مثلا أو اجعلوا أبناءكم يحكون لكم عن يومهم بشكل عام . وحللوا خطابهم واستنتجوا . مثلا اذا أخبرك ابنك او تلميذك ان شخص ما القى عليه التحية ، أو اشترى له حلوى ، فهي بداية المصيبة . تدخل قبل فوات الأوان. راقب إبنك من بعيد ولاحظ . أعود وأكرر ، تواصلوا مع أبنائكم ، استمعوا إليهم ،وابتعدوا عن الهاتف قليلا .

إن جريمة إغتصاب طفل بريئ لايمكن تصور آثارها النفسية والسيكولوجية، لأنها ببساطة جروحها لاتندم ولو بعد حين، ولو بعد التدخل النفسي السيكولوجي..

الوحش ليس هو ذلك الذي يشاهدونه أطفالكم في الرسوم المتحركة، و لا هو ذلك الذئب الذي يتربص من هو أضعف منه في الغابة، الوحش قريب من البيت من المخبزة، الوحش ليس في الغابة، هو بيننا يأكل و يمشي و يكتري بيتا فيه يغتصب و يقتل و بجانبه يدفن جثة طفل كان يلعب و يدرس و يحلم. طفل كان يسكن بالغابة الكبيرة الموحشة و المتوحشة التي ظنناها المدينة.
ما أبشع الحياة حين تنتهي فيها حياة طفل بهذا الشكل و ما أبشع الموت حين يأتي به القدر على يد وحش .

يقول البروفيسور المصطفى الحدية،

الاعتداء الجنسي على الأطفال!!
إن الاعتداء الجنسي يدخل في إطار الانحرافات والاضطرابات النفسية المرضية الناتجة عن نمو نفسجتماعي غير سوي تبعا لنوعية وخصوصيات البنيات الاسرية والتربوية التي تواجد فيها المنحرف
في طفولته وحتى في مراهقته.ان هذه البنية الأسرية التنشيءية بحكم ما يسود فيها من مناخ نفسي عموما وعلاقات خاصة بين أفرادها ،لاسيما إذا كانت هذه الأخيرة تتصف بالتوتر والقلق والضيق واللامبالاة والحرمان والتسلط في المعاملة، وفي حالات كذلك مطبوعة بالدلال والفشوش…إزاء الأطفال مما يؤدي ويسهل استدراجهم بسهولة من قبل المعتدين جنسيا.فعلى العموم تعتبر البنية الأسرية المتوازنة ،مجالا خصبا لنمو سليم.
مناسبة هذا الحديث هو تفشي ظاهرة الإعتداء الجنسي في المجتمع ، فحسب اطلاعنا على بعض الإحصاءات.تبين لنا بالفعل أن الظاهرة مقلقة وتتطلب منا كلنا العناية الدقيقة في سبيل بناء مجتمع متوازن خال نسبيا من الاضطرابات والانحرافات المرضية .2800 اعتداء جنسي على الأطفال، ضمنها536اغتصابا و1756هتك عرض بالعنف ومع الأسف من المتابعين أباء واشقاء ،هذه المعطيات حسب آخر تقرير لرئاسة النيابة العامة.
إن الظاهرة لها ما يفسرها وتستدعي منا في مجال العلوم النفسية والاجتماعية والقانونية والتربوية كل الاهتمام. والمطلوب استعجالا هو الحيطة والحذر فيما يتعلق بالأطفال من قبل الآباء وكل إنسان سوي يقدر مخاطر الاعتداء الجنسي على نفسية وحياة الشخص في الكبر.

ماهو رأي الدين في هذا الفعل الشنيع؟

ما فعله هذا المجرم يسمى حرابة، وحكمه في الإسلام أنه يقتل ويصلب، قال تعالى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
الله الرحيم الذي خلقه يأمرك يا ولي الأمر أن تقتله أو تصلبه أو تقطع يديه ورجليه من خلاف، فهل نحن أعلم أم الله؟ أم أننا أرحم بالخلق من الله؟
إن ما حصل لعدنان قد يحصل لولدي وولدك، ولا حل في قوانين البشر يمكنه أن يردع هؤلاء، فالله الذي خلقهم يقول لك هذا هو الحل معهم، ويقول لك {ولكم في القصاص حياة} فلماذا كل هذا التمرد على شريعة الله؟ ولماذا يزعم الجاهل أنه أرحم بالخلق من الخالق؟
أنا لا أطالب بإعدام هذا القاتل وإنما بإقامة حد الحرابة عليه، كي يكون عبرة لغيره، فشهوة عابرة قضاها هذا الحيوان، أصبحت سببا لشقاء أسرة بل مجتمع بكامله، فكم من الرعب بث في الأسر، وكم من الأسى والحزن وزعه على الشعب المغربي بأكمله.
من حق كل مواطن أن يطالب بحقه العام في هذه الجريمة، فقد طعننا هذا المجرم في أكبادنا هذا الصباح، ونحمل المسؤولية للدولة بكل مؤسساتها ونطالبها أن تطبق في هؤلاء وفينا شرع الله، فنحن قابلون بحكم الله، وراضون بعقوباته، ومستعدون للتحاكم إليها جميعا، لا أحد منا فوق الشريعة، بل هذا هو أصل التعاقد بين الحاكم والمحكوم، قال ملك الملوك {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} وقال {أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} فهل نظن أن هناك حكما أحسن من حكم الله؟ وهل يعرف أحد حقوق الإنسان مثل خالقه الذي خلقه وكرمه وجعله خليفة؟
وأنت يا والد عدنان، نقول لك اصبر واحتسب، فولدك ولدنا ومصابك مصابنا، وليجعل الله ولدك شهيدا يتقلب الان في الجنة إن شاء الله…
وأنتم أيها الآباء، لا تغفوا عن تحصين أبنائكم بالأذكار التي كان يحصن بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسن والحسين، وكان يحصن بها إبراهيم عليه السلام ولده إسماعيل، فالله هو خير حافظا وهو أرحم الراحمين.

✍هامش سريع على حادث مؤلم:
لا ألفاظ في اللغة يمكن أن تحيط بقبح وبشاعة الجرم الذي ارتكبه الوحش الحقير في حق الطفل البريء عدنان رحمه الله.. ولا سلوى يمكن أن تطفئ لهيب الحزن في قلبَي والديه وقلوب المغاربة عامة جراء الأفعال الشنيعة التي تعرض لها الطفل الصغير..
غير أن القصاص من المجرمين بما هو حق لأسرته ولمجتمعه يعني الضرب بقوة لا تردد فيها على أيدي السفلة الذين يعتدون على صغارنا الأبرياء إرضاء لنزواتهم البشعة..
ان هذه الجريمة بفداحة ثمنها وشدة ألمها يمكن أن تتحول إلى نقطة نهاية لهذه المآسي إذا تمت معاقبة هؤلاء المجرمين بعقوبات تردع كل النوايا الإجرامية المماثلة في النفوس المريضة.. بما يشيع الأمن النفسي لدى الأسر وأطفالها..
قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179].. أي أن تنفيذ الحكم الشرعي في مستحقه يضمن حياة الأمان المجتمعي لعموم الناس.. ويذهب وساوس الخوف والريبة التي تعصف بالحياة..!.

رحم الله الطفل عدنان وألهم ذويه الصبر والسلوان ،

وإنا لله وإنا إليه راجعون . وأقصى العقوبة للجاني ليكون عبرة لغيره. ولكم في الحياة قصاص يا أولي الألباب..

ماهو رأي القانون في هاته النازلة؟

تحليل هاديء للمحاميةسعاد الرغيوي

بداية ندين جميعا الجريمة التي تعرض لها الطفل عدنان، وبالتأكيد نتعاطف مع أهله.
ولا بد من حفظ مركز الضحية وذويها في مثل هذه الحالة وإيلاءها العناية الكاملة.
وطبعا يجب ان تتحقق العدالة.
لكن ما معنى العدالة؟
الجريمة/ الحدث أصبحت الآن واقعا، لا شيء سيعيدنا إلى ماقبلها.
العقاب لا يوقف الجريمة ولا يحد منها، المجتمعات التي تنتهج مقاربة دراسة الجريمة ودراسة طبيعة المجرم ثم تعالج وتتصدى عبر الدراسة والعلم أصبحت تغلق السجون، والمجتمعات التي تحكم عاطفتها قبل عقلها، وتنجرف في تيار الانتقام والعقاب تتزايد فيها الجريمة وتتطور وسائل الإفلات من العقاب لدى المجرم وتكثر فيها بنايات السجون.
لماذا الطفل عدنان حظي بكل هذا التعاطف؟ غيره كثير يتعرض لما تعرض له ولأبشع، طفلات وأطفال، صغار وكبار.
لأنه واحد “منا”، طفل جميل، أنيق، قد يكون ابن أي منا او أخا صغيرا لأي منا. ليس “ابن الشارع”، ليس من “الهامش”. وصلت الجريمة إلى باب المستنكر إذن، لم تعد بعيدة، لم يعد تعاطفا إذن، بل خوف.
نمر يوميا على أطفال الشوارع، نراهم بأعيننا ولا نريد أن نرى أنهم محرومون من كل أسس الحياة الكريمة لأي إنسان فبالأحرى للأطفال، لا نسألهم كم مرة يتم اغتصابهم في اليوم، لأنهم ليسوا “منا”، لا نفعل شيئا، لا نستنكر، لا نرى الجريمة ولا نطالب بإنزال العقاب.
نحن مطبعون مع كل انواع الجرائم التي لا تمسنا، اغتصاب “أطفال الشوارع”، أغتصاب النساء، اغتصاب سنوات من حياة الشباب العاطل المنتظر لفرصة الإرتماء في البحر.
ردود الفعل العاطفية والمنفعلة لن تعيد عدنان ولن تحمي غيره، لأن من ارتكب الجرم هو نحن جميعا، هو مجتمعنا، مرتكب الفعل ليس إلا اليد التي نفذت، هو واحد منا، وغدا، وإن قتلنا هذا “المنفذ”، سيخرج آخر، فنحن مجتمعا ونظاما أنتجنا منه الكثير.
محاربة الجريمة لا يتم بارتكاب جريمة أخرى، بل هو أعمق من ذلك بكثير، وأكثر تكلفة وجهدا.
السياسة الجنائية التي تعتمد على العقاب سياسة فاشلة.
الدول التي تطبق عقوبة الإعدام تزداد فيها الجريمة وتتطور.
الدول التي تطبق عقوبة الإعدام تستغلها أيضا ضد المعارضين السياسيين.
عقوبة الإعدام حل محدود جدا في مفعوله إذ ينصرف للجاني وحده، حل جبان وسهل لمشكل اجتماعي يتطلب معالجة علمية مبنية على علم النفس والاجتماع والطب وغيرها.
عقوبة الإعدام ” أن تقتل من قتل لأنه قتل”.